في الحديث دليل على أخلاقه الكريمة ﷺ في مرحلة ما قبلَ الوحيِ، وهي دليلٌ على نبوَّته ﷺ، وقد استدلَّت بها خديجة - رضي الله عنها – على أن ما حدث في غار حراء هو خير.
قال تعالى للنبيِّ ﷺ:
وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ
[القلم : 4]
، فجعل الله تعالى أخلاقه ﷺ من دلائل نبوَّته؛ فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب؟!
من آمن برسالة النبيِّ ﷺ قبل نزول القرآن، أو رؤية معجزات له؛ كأمِّ المؤمنين خديجةَ وأبي بكر الصدِّيق، كان دليلهم الوحيد لصدق النبيِّ، واستحالة أن يفتريَ الكذب، هو مكارمَه ﷺ، وأخلاقه العظيمة، وكماله البشريَّ.
قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:
إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ
[الصافات: 102][1].
في الحديث تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فالخَلْوة هي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين، فحُبِّبت الخَلوة والعُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغَ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه، وذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له[2].
تَزوُّدُه ﷺ في تحنُّثه ردٌّ على قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد[3].
في الحديث دليل على أن السيدة خديجة – رضي الله عنها – زوجه ﷺ كانت أولَ المؤمنين به من البشر على الإطلاق.
في الحديث دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء.
في الحديث – من كلام خديجة - دليل على جواز مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة، وفيه تأنيسُ مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيرُه، وذِكْرُ أسباب السّلامة له[4].
في الحديث أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها[5].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
[آل عمران: ٩٧]
1. في الحديث بيان كيف كان النبيُّ ﷺ يعلِّم أصحابه، ويتلطَّف معهم، ويَعرِف لهم قَدرَهم، وكيف يطرح عليهم المسألة ليفقِّهَهم في دينهم.
2. ذكر العلماء أن سبب اختلاف جواب أُبيٍّ على سؤال النبيِّ ﷺ في المرَّتين: هو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، وقيل: إن سبب اختلاف إجابته في المرتين: أنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله عزّ وجلَّ، وإلى رسوله ﷺ، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»؟[1]، وقيل أيضًا: إن السبب أنه فوَّض الجواب أولًا، وأجاب ثانيًا؛ لأنه جوَّز أن يكون حَدَثَ أَفضليَّة شيءٍ من الآيات غير التي كان يَعلَمها، فلمَّا كَرَّر عليه السؤال وأعاده، ظنَّ أن مُراده ﷺ طلب الإخبار عمَّا عنده، فأخبرَه بقوله:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[2].
3. في قول أُبيٍّ: (اللهُ ورسولُه أعلم) دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم، وقد كانوا في زمنه ﷺ، إذا سألهم ولا يعلمون فيقولون: الله ورسوله أعلم، فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الذي يُضاف إليه العلم على الإطلاق
هو الله سبحانه وتعالي القائل:
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
[النمل:65]
وأما الرسول ﷺ فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ أن يقول:
{ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
[الأنعام:50]
فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه[3].
4. آية الكرسيِّ أعظمُ آية؛ لأنها مشتملة على أمَّهات المسائل الإلهية؛ فإنها دالَّة على أنه تعالى واحدٌ في الإلهية، متَّصِف بالحياة، قائمٌ بنفسه، مقوِّم لغيره، منزَّه عن التحيُّز والحلول، مبرَّأ عن التغيُّر والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالكُ الْمُلك والملكوت، مبدِع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يَشفَع عنده إلا من أَذِن له، العالِمُ وحدَه بالأشياء كلِّها، جَلِيِّها وخَفِيِّها، كُلِّيِّها وجُزئيِّها، واسعُ الْمُلك والقدرة، ولا يؤودُه شاقٌّ، ولا يَشغَله شأن، مُتعالٍ عمَّا يُدركه وَهم، عظيمٌ لا يحيط به فَهم[4].
5. الحديث فيه مَنقَبةٌ عظيمة لأبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمِه، وفيه تبجيلٌ للعالم، وتَكرِمة بالتَّكْنِيَة، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحةٌ، ولم يُخَفْ عليه الإعجاب ونحوه؛ لرسوخه في التقوى[5].
6. في الحديث حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل، والمعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا[6].
7. القولُ بأنّ كلام اللّه بعضُه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السَّلف، وهو الّذي عليه أئمَّةُ الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة[7].
8. قيل: إنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية؛ لاحتوائها واشتمالها على بيان توحيد اللّه وتمجيده وتعظيمه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، وكلُّ ما كان من الأذكار في تلك المعاني أبلغ، كان في باب التّدبُّر والتّقرُّب به إلى اللّه أجلَّ وأعظم[8].
9. قيل: إنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية؛ لأن هذه الآية مشتملة على عشر صفات من صفات الله عزّ وجلّ؛ يقول عزّ وجلّ:
{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
ففي هذا إخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ، ومعنى (لا إله إلا هو)؛ أي: لا معبود بحقّ إلا هو جلّ وعلا؛ فجميع المعبودات من دون الله معبودة بغير حقٍّ، حتى وإن سُمِّيت آلهةً؛ فإنما هي أسماء سمَّوها ما أنزل الله بها من سلطان[9].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للإتيوبيِّ (16/ 395).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (8/ 9).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 13).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1462).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 684، 685).
1. اختصَّ الله تعالى بعض سور القرآن بمَزيَّة خاصَّة، وفضَّل بعض القرآن على بعضه، ومن بين هذه السور سورة الإخلاص.
2. قيل في معنى قوله ﷺ عن سورة الإخلاص: «تعدل ثلث القرآن»: هي ثُلثٌ باعتبار معاني القرآن؛ لأن مقاصد القرآن الكريم تنحصر في ثلاثة: ما يتعلَّق بذاته تعالى من التوحيد والصفات، وما يتعلَّق بأفعال العباد من الأحكام، وما يتعلَّق بالقصص وأحوال الأمم، والسورة قد استوَفَتِ القِسم الأول على أبلغ وجه[1]. وقيل: إن ثواب قراءتها يَحصُل للقارئ مثلُ ثواب من قَرَأ ثُلث القرآن. وقيل: إن من عَمِل بما تضمَّنته من الإقرار بالتوحيد، والإذعان للخالق، كمن قرأ ثُلث القرآن.
3. هناك من العلماء من توقَّف عن الكلام في معنى «تعدل ثلث القرآن»؛ كابن عبد البرِّ والسيوطيِّ والشوكانيِّ والزرقانيِّ، قالوا: السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم[2].
4. هناك فرقٌ بين المعادلة في الثواب، والمعادلة في الإجزاء؛ فلو قال الإنسانُ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، عشْرَ مرَّات، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفس من ولد إسماعيلَ، يعني يعادل عِتْقَ أربع رقاب؛ لكن لو كان عليه عتقُ رقبة وقال ذلك، ما نفعه ذلك[3].
5. سورة الإخلاص تعدل ثُلث القرآن في الثواب؛ ولكنها لا تعدل في الإجزاء؛ ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة، لم تُجزئه عن الفاتحة[4].
6. الاسم (الصَّمَد) فيه للسّلف أقوال متعدِّدة، قد يُظنُّ أنّها مختلفة، وليس كذلك؛ بل كلُّها صواب، والمشهور منها قولان؛ أحدهما: أنّ الصّمد هو الّذي لا جوف له، والثّاني: أنّه السّيّد الّذي يُصمَد إليه في الحوائج[5].
7. إن القرآن الكريم هو أصلُ العلم، ومَنبَع العلم، وكلُّ العلم
وقد قال الله تعالى:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}
[المجادلة: ١١]
أما في الآخرة فيَرفَع الله به أقوامًا في جنات النعيم، ويُقال للقارئ: اقرأ ورتِّل واصعد، وله إلى منتهى قراءته صعود في الجنة إن شاء الله[6].
8. القولُ بأنّ كلام اللّه بعضُه أفضلُ من بعض هو القول المأثور عن السَّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة [7].
9. في الحديث سَعَةُ عظيم فضل الله تعالى على عباده، بأن جعل قراءة سورة قصيرة تعدل ثلث القرآن.
المراجع
- ينظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (24/ 82)، "فتح الباري" لابن حجر (9/ 61) بتصرُّف.
- "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 676).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 676).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 214).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 646، 647).
- "مجموع الفتاوى" (17/ 13).
في الحديث بيان السِّيرة العامَّة والمراحل التي مرَّ بها رسول الله ﷺ منذ بعثته حتى وفاته، بما فيها من ابتلاءات، ما بين العُسر واليُسر، والشدَّة والرخاء، والحرب والسِّلم، والدعوة السِّرِّية ثم الجهرية، والاستضعاف والتمكين.
قال ﷺ: «إن اللهَ اصطفى كِنانةَ من ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قُريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[1]، فكان النبيُّ ﷺ من أشرف العرب نسَبًا.
وُلِد ﷺ يتيمًا، ونشأ في كَنَف أمِّه، وجَدِّه عبد المطلب، يحوطه اللهُ بهما بحفظه ورعايته إلى أن تُوفِّيت أمُّه وهو ابنُ ستِّ سنين، ثم تُوفِّي جدُّه عبد المطَّلب وهو ﷺ في الثامنة من عمره، فكفَله عمُّه أبو طالب[2].
أقام ﷺ بمكة قبل البعثة طيلةَ هذه السنوات الأربعين يربِّيه الله تعالى ويُعِدُّه إعدادًا يَليق بمَهمَّة الرسالة التي اصطفاه الله لها، فآواه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وحفظه من الغَواية، وهداه، وأغناه، فعاش مع قومه طيِّب المعشر حَسَن الخُلق، مشاركًا لهم في كل نافع؛ كحلف الفضول[3]، وبناء الكعبة[4]، ومبتعدًا عن كل قبيح.
تزوَّج النبيُّ ﷺ من أمِّ المؤمنين خديجةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ ڤ وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ورزَقه الله منها كلَّ أبنائه - سوى إبراهيم كان من ماريةَ القِبطية - وهم: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورُقَيَّة، وأمُّ كلثوم، وفاطمة[5].
مرَّتْ الدعوة بمكَّة بمراحلَ متعدِّدةٍ، بدأها ﷺ بالدعوة السِّرية، ثم أُمر بعد ذلك بالجهر بالدعوة، فصدَع ﷺ بدعوة الحقِّ في أرجاء مكَّة، فلَقِيَ العناد والتكذيب والإيذاء من قومه ﷺ ومَن آمن معه[6].
أمَرَ ﷺ أصحابه بالهجرة إلى الحبشة بدايةَ العام الخامس من البَعثة، بعدما اشتدَّ إيذاء كفّار قريش، فهاجروا الهجرة الأُولى، ثم الثانية إلى الحبشة[7].
بعد مرحلة الدعوة بمكة ثلاث عشرة سنةً، اختار الله تعالى لنبيِّه ﷺ المدينة دارًا لهجرته، ومنطلَقًا لدولة الحقِّ، فهاجر ﷺ إلى المدينة يُرافقه أبو بكر رضى الله عنه ، بعد أن سبقه أصحابه تباعًا إلى هناك، ولحقه الباقون - ممن استطاع الهجرة - فيما بعدُ، فأقام مهاجرًا بالمدينة عشْرَ سنين.
اختلف أهلُ المغازي في عدد غزواته ﷺ وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددهنَّ مُفصَّلات على ترتيبهنَّ، فبلغت سبعًا وعشرين غزاةً وستًّا وخمسين سريةً، قالوا: قاتل في تسع من غزواته، وهي: بدر، وأُحد، والمريسيع، والخندق، وقُرَيظة، وخيبر، والفتح، وحُنين، والطائف[8].
في الحديث دليل أن رسولَ الله ﷺ قد مات وهو ابنُ ثلاث وستين سنةً. وكانت وفاته ﷺ بالمدينة، يومَ الاثنين الثانيَ عشَرَ من ربيع الأول، من السنةِ الحاديةَ عشْرةَ من الهجرة[9].
وُلِدَ ﷺ عَامَ الْفِيلِ على الصّحيح المشهور، وقيل: بعد الفيل بثلاثِ سنين، وقيل: بأربع سنين. وادَّعى القاضي عياض الإجماعَ على عام الفيل، وليس كما ادَّعى[10].
اتَّفَقوا أنّه وُلِد يومَ الاثنين في شهر ربيع الأول، وتوفِّي يومَ الاثنين من شهر ربيع الأوّل، واختلفوا في يوم الولادة: هل هو ثاني الشّهر أم ثامنه أم عاشره أم ثاني عشره؟ ويوم الوفاة ثاني عشر ضحًى[11].
ذُكر في وفاته ﷺ ثلاث روايات؛ إحداها: أنه ﷺ توفِّي وهو ابن ستِّين سنةً، والثانية: ابن خمس وستين سنة، والثالثة: ثلاث وستين سنةً، وهي أصحُّها وأشهرها، رواه مسلم من رواية: أنس وعائشة وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. فرواية (ستين) مقتصرةٌ على العقود، ورواية (الخمس) متأوَّلة بأن اعتَبَر الراوي الكسور[12].
المراجع
- رواه مسلم (2276).
- انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 168: 179).
- انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 133: 135).
- كما رواه البخاري (3829)، ومسلم (340).
- انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 187).
- انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 191).
- انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 191).
- "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (12/ 195).
- انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 871).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 100).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 100).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (12/ 3713).
هذا الحديثُ قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الإسلام، وهي إثباتُ حُجِّيَّة السُّنَّة، وأن أقوالَ النبيِّ ﷺ وأفعاله وتقريراتِه حُجَّةٌ بذاتها، وإن لم يكنْ لها أصلٌ في الكتاب.
هذا الحديث من معجِزات النبيِّ ﷺ؛ فإنه أخبر عن أمرٍ وقد كان، فظهر من المبتدِعة والضُّلَّال مَن يقول بتلك المقالة بحروفها.
السُّنَّة حجَّة في نفْسها، سواءٌ وافقت أصلًا من أصول القرآن، أم أتت بجديدٍ لم يذكُره القرآن.
السُّنة وحيٌ أوحاه الله إلى نبيِّه ﷺ، وإن كان النبيُّ ﷺ يؤدِّيه بألفاظٍ من عنده.
لا يجب طاعة أحدٍ مطلَقًا إلا الله تعالى ورسوله ﷺ، أما غيرهما كأُولي الأمر من الأمراء والعلماء فطاعتُهم إنما تكون في طاعة الله ورسوله.
المراد بقوله: «على أريكته» أصحابُ الترَّف والغِنى، الذين آثروا الدَّعةَ، وتركوا العلم وطلبه، ثم افتأتوا على الدين بآرائهم الجاهلة؛ كحال الخوارج وغيرهم الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن، ورفضوا الاحتكام إلى سُنّة النبيِّ ﷺ، وربما كان المقصود التكبُّرَ والسَّلْطنة الذي يُعمي القلوب والبصائر، فيرغب أصحاب السلطان في تحريف الدين برغباتهم وميولهم[1].
قوله: «فيقولُ: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه» هذه مقالة المبتدِعة من الخوارج وغيرهم، فيرُدُّون السُّنَّةَ التي هي بيانُ القرآن، وتفصيلُ مُجمَلِه، وتَقْييد مُطلَقه، وتَفْريع أصوله، ويتعلَّقون بظواهر القرآن، فتَحيَّروا، وضَلُّوا، كما فعلت الرافضة والخوارج[2].
هناك من يردُّ الأحاديث مطلَقًا، وهذا المراد من الحديث، وهو كفرٌ صريحٌ، وتكذيبٌ لله تعالى
قال تعالى:
﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾
[النساء: 59]
وقال تعالى:
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾
[النساء: 80]
وقوله تعالى:
﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
[الحشر: 7].
فمَن ردَّ السُّنة فقد كَفَر[3].
هناك من يردُّ أحاديث الآحاد، وهذا فسوقٌ ومعصيةٌ وضلالٌ، إن لم يكن كُفرًا؛ فإن مَن أنكر خبر الواحد، فقد أنكر معظم الشريعة، ولم يعلم مقصدَها، ولا اطَّلَع على بابها الذي يدخل منه إليها[4].
هناك من يردُّ الحديث لمخالفة القرآن أو السُّنَّة الصحيحة، وهذا على أنواع؛ فإما أن يخالف عمومه أو خصوصه، أو يكون التعارض بينهما ظاهريًّا يمكِن الجمعُ بينهما، أو لا سبيلَ إلى الجمع، وهذا يفعله أهل العلم؛ لا ردًّا للسُّنة؛ وإنما توفيقًا بين نصوصها[5].
في الحديث أنه لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرض عن أحاديثه ﷺ، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قوله ﷺ، فكأنه لم يَقبَل القرآن
لأن الله تعالى قال:
﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
[الحشر: 7]
وقال:
﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾
[النساء: 59]
فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله ﷺ في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن[6].
في الحديث بيان أن النبيَّ ﷺ أُوتي الكتاب وهو القرآن، المنزَّل على النبيِّ ﷺ المتعبَّد بتلاوته، المتواتِر، المنقول بنصِّه، وأوتي معه السُّنة التي هي بيان الكتاب، وتفسيره، وتشريع أحكامه وحدوده، وفيها الزيادة على ما في القرآن من التحليل والتحريم وسائر الأحكام، فهي وحيٌ بالمعنى
كما قال الله عزَّ وجلَّ:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾
[النجم: 3، 4][7].
يمتاز الكتاب عن السنَّة في أحكام التلاوة، ومسِّ المكتوب منه؛ لكنهما في حقِّ العمل والحكم به سواء؛ لأن الكلَّ من عند الله، وقد نزَّه نُطْقَ نبيِّه عن الهوى، وأمر باتِّباعه فيما يأمُر ويَنهي[8].
في الحديث دليلٌ على أن الحديث الشريف إذا صحَّ لم يَحْتَجْ إلى العرض على الكتاب؛ بل متى ثبتَت صحَّة الحديث وعدم نسخه، كان حُجَّةً بنفْسه[9].
أجمعت أمة الإسلام قاطبة طوال تاريخها، من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين والأئمة المجتهدين، وسائر علماء المسلمين، على حجية السُّنة ووجوبِ العمل بها، والتحاكم إليها، والسَّير على هديها في كل جوانب حياة المسلمين.
السُّنة النبوية خير بيانٍ للقرآن الكريم؛ لأنها وحي من الله تعالى كالقرآن؛ بل إن علاقة السُّنة بالقرآن علاقة البيان، وهذا البيان له صور متعدِّدة.
السُّنة مع القرآن على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن توافقه من كلِّ وجهٍ، فيكون من باب توارد الأدلة. ثانيها: أن تكون بيانًا لِمَا أُريد بالقرآن وتفسيرًا له. ثالثها: أن تكون دالَّةً على حُكم سكت عنه القرآن، وهذا الثالث يكون حُكْمًا مُبتدَأً من النبيِّ ﷺ فتجب طاعته فيه[10].
لا تُعارِض السُّنَّة القرآن بوجه من الوجوه؛ فما كان منها زائدًا على القرآن، فهو تشريع مبتدَأٌ من النّبيِّ ﷺ تجب طاعته فيه، ولا تَحِلُّ معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللّه؛ بل امتثال لما أمر اللّه به من طاعة رسوله[11].
لو كان رسول اللّه ﷺ لا يُطاع فيما كان زائدًا على القرآن، لم يكن لطاعته معنًى، وسَقَطت طاعته المختصَّة به، وإنّه إذا لم تَجِب طاعته إلّا فيما وافَقَ القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصَّة تختصُّ به
وقد قال اللّه تعالى:
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾
[النساء: 80][12].
كيف يمكِن لأحد من أهل العلم أن لا يَقبَل حديثًا زائدًا على كتاب اللّه؛ فلا يَقبَل حديث تحريم المرأة على عمَّتها ولا على خالتها، ولا حديثَ التّحريم بالرَّضاعة لكلِّ ما يَحرُم من النَّسَب، ولا حديثَ خيار الشَّرط، ولا أحاديث الشُّفعة، ولا حديث الرَّهْن في الحَضَر، مع أنّه زائد على ما في القرآن، ولا حديثَ ميراث الجَدَّة، ولا حديث تخيير الأمَةِ إذا أُعتِقت تحتَ زَوجها، ولا حديثَ منع الحائض من الصَّوم والصّلاة، ولا حديثَ وجوب الكفَّارة على من جامَع في نهار رمضانَ، ولا أحاديثَ إحداد المتوفَّى عنها زوجها، مع زيادتها على ما في القرآن من العِدَّة[13].
في الحديث تحذير لمخالفة السُّنن التي سنَّها رسول الله ﷺ مما ليس له في القرآن ذِكْرٌ، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السُّنن التي قد ضُمِّنت بيان الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا[14].
قوله: «ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه»: يَحتمِل وجهين من التأويل؛ أحدهما: أنه أُوتي من الوحيِ الباطن غير الْمَتْلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر، والثاني: أنه أُوتي الكتابَ وحيًا، وأُوتي من التأويل مثلَه؛ أي: أُذِن له أن يبيِّن ما في الكتاب، فيعمِّم ويخصِّص، ويَزيد ويَنقص، فيكون ذلك في وجوب العمل به، ولزوم قبوله، كالظاهر المتلوِّ من القرآن[15].
في هذا الحديث توبيخ وتقريع نشأ من تعظيمِ عظيم على ترك السُّنّة والعمل بالحديث استغناءً عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب؛ فكيف بمن رجَّح الرّأيَ على الحديث، وإذا سَمِع حديثًا من الأحاديث الصّحيحة قال: لا عليَّ بأن أعمل بها؛ فإنّ لي مذهبًا أتَّبِعه[16].
إن أحكام السُّنّة الّتي ليست في القرآن، إن لم تكن أكثرَ منها، لم تَنقُص عنها؛ فلو ساغ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّة زائدة كانت على نصِّ القرآن، لبَطَلت سُنن رسول اللّه ﷺ كلُّها، إلّا سنّةً دلَّ عليها القرآن، وهذا هو الّذي أخبر النّبيُّ ﷺ بأنّه سيقع، ولا بدَّ من وقوع خبره[17].
أَجمَع المسلمون على أنّ من استبانت له سُنَّة رسول اللّه ﷺ لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد من النّاس[18].
الحاصل أنّ ثُبوت حُجِّيّة السُّنّة المطهَّرة واستقلالَها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيّة، ولا يُخالف في ذلك إلّا من لا حظَّ له في دين الإسلام[19].
ليُعلَم أنّه ليس أحدٌ من الأئمَّة المقبولين عند الأمَّة قَبولًا عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول اللّه ﷺ في شيء من سُنَّته؛ دقيقٍ ولا جَليلٍ؛ فإنّهم متَّفِقون اتِّفاقًا يقينيًّا على وجوب اتِّباع الرّسول، وعلى أنّ كلَّ أحد من النّاس يؤخذ من قوله ويُترك إلّا رسولَ اللّه ﷺ[20].
إذا وُجِد لأحد العلماء قولٌ قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بدَّ له من عُذر في تركه[21].
جميع الأعذار لمخالفة حديث صحيح ثلاثةُ أصناف؛ أحدها: عدم اعتقاده أنّ النّبيَّ ﷺ قاله. والثّاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول. والثّالث: اعتقاده أنّ ذلك الحكم منسوخ[22].
كان السَّلَف يشتدُّ نَكِيرهم وغَضَبهم على من عارض حديث رسول اللّه ﷺ برأيٍ أو قياس أو استحسان، أو قول أحد من النّاس، كائنًا من كان، ويَهجُرون فاعل ذلك، ويُنكرون على من يَضرِب له الأمثال، ولا يسوِّغون غير الانقياد له والتّسليم والتّلقِّي بالسّمع والطّاعة، ولا يَخطُر بقلوبهم التّوقُّف في قَبوله حتّى يَشهَد له عمل أو قياس، أو يوافق قولَ فُلان وفلان؛ بل كانوا عاملين بقوله:
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ
[الأحزاب: 36][23].
المراجع
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 131)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 266).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 630).
- انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (10/ 131).
- انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (10/ 131).
- انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (10/ 131).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
- "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 86).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 299)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 133).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
- "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 629).
- "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 4).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 221).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 6).
- "إرشاد الفحول" للشوكانيّ (1/ 97).
- "مجموع الفتاوى" (20/ 232).
- "مجموع الفتاوى" (20/ 232).
- "مجموع الفتاوى" (20/ 232).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 188).
في الحديث بيان أنه مَن أحدثَ في الدِّين ما ليس منه فعمَلُه مردودٌ عليه، وأنه لا تُقبَلُ الأعمالُ إلَّا إذا كانت على هَدْي رسول الله ﷺ.
في الحديث بيان أن لإزالة المنكر درجاتٍ متفاوتةً؛ أعْلاها إزالتُه باليد، وأدْناها إنكارُه بالقلب؛ فالواجبُ في الأمر والنهي يختلف باختلاف القُدرة.
أعْلى مراتب تغيير المنكَر هي تغييره باليد، وذلك إذا اقتضى عملًا كإتلاف آلة المنكر، والعين المحرَّمة، وعقوبة فاعله، ومن ذلك إقامة الحدود والتعزيرات مما هو إلى السلطان[1].
المرتبة الثانية من مراتب تغيير المنكر هي تغييره باللسان، وذلك ببيان حكم المنكَر والزجر عنه، ولوم فاعله، ودعوته إلى التوبة[2].
المرتبة الثالثة من مراتب تغيير المنكَر هي تغييره بالقلب، وذلك ببُغض المنكَر، والرغبة الصادقة في زواله، والعزم على تغييره بالقول والفعل لو أمكنَ ذلك[3].
إنَّ من أهمِّ تكاليف هذا الدِّين العظيم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر؛ فقد أمر الله تعالى به وذكره في مواضع عديدة من كتابه الكريم
مثل قوله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 104].
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صفة المؤمنين
قال تعالى:
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.
إن هذه الأمة لم تنل أن تكون خيرَ أمة أُخرجت للناس عن محاباة أو مجاملة؛ بل بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرطه الله تعالى لتكون هذه الأمةُ خيرَ الأمم
قال تعالى:
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾
[آل عمران: 110].
متى أدَّت الأمَّة شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نالت الخيرية على الأمم، والنصر والتمكين
كما قال تعالى:
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَ}
[الحج: 41]
ومتى أخلَّت بهذا الشرط، سُلبت هذه الخيرية، ونالت العقاب.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أعظم مهامِّ الأنبياء والرسل
قال تعالى:
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ }
[الأعراف: 157].
قال تعالى مُثْنيًا على الأمم السابقة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جماعاتٍ وأفرادًا:
{لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ }
[آل عمران: 113، 114].
كما استحقَّت الأمة الإسلامية الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استحقَّت الأمم السابقة لعنة الله وغضبه ونِقمته بترك ذلك الفرض العظيم
قال تعالى:
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ۚ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
[المائدة: 78، 79]
وهذا تحذير للأمة الإسلامية أنهم لو اتَّبعوا نهج الأمم السابقة سيحلُّ بهم اللعنة والغضب بدلاً من الخيرية.
تَرْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في حلول الدمار، ووقوع الهلاك على المجتمع بأسره
كما قال الله:
﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[الأنفال: 25].
إنه لا يوجد حرية مطلَقة في أيِّ شريعة دينية أو دنيوية، وإلا فهي الفوضى وتركُ الفاسدين لينشروا الفساد؛ فالنهيُ عن المنكَر لا يُعَدُّ تعدِّيًا على الحريات؛ بل هو حماية للمجتمع من المجاهرين بالمعاصي والفجور.
لا يظنَّنَّ أهل الصلاح أنهم لا يَعنيهم المجاهرة بالمنكر ما داموا مهتدين؛ فقد حذَّر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من هذا الفَهم في خُطبته: "أيُّها الناس، إنّكم تقرؤون هذه الآية:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ}
[المائدة: 105]
وإنَّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعت النبيَّ ﷺ يقول:
«إنّ النّاس إذا رَأَوُا المنكَر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»
[4].
قوله ﷺ: «فبقلبه» معناه: فليَكرَهْه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر؛ ولكنّه هو الّذي في وُسعه،
وقوله ﷺ:
«وذلك أضعف الإيمان» معناه: أقلُّه ثمرةً
[5].
المراجع
1. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 77).
2. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 77).
3. انظر: "الفوائد المستنبطة من الأربعين النووية وتتمتها الرجبية"، عبد الرحمن بن ناصر البراق (ص: 77).
4. رواه أحمد (1)، وابن ماجه (4005)، وأبو داود (4338)، والترمذيُّ (3057)، وقال: حديث حسن صحيح.
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 25).
القَسَمُ لا يكون إلا على أمر عظيم، يريد الْمُقسِم تأكيده، وتثبيته في النفوس، وفي الحديث الْمُقْسَم عليه أمرٌ عَقَديٌّ عظيم.
الأمَّة في الحديث هي أمَّةُ الدعوة، وهي من بُعِث إليهم ﷺ، وقد أُرسل للعالَمين من الجنِّ والإنس، فالجنُّ مكلَّفون مثلُ البَشَر، والحُجَّة قائمة عليهم. أما أمَّة الإجابة، فهي مَن صدَّقه وآمن به ﷺ، وهم المسلمون.
أَوْجَب الله تعالى على عباده المؤمنين محبَّة الله ورسوله، وجعل مرتبتَها فوق كلِّ محبوب في الدنيا
قال تعالى:
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ
[التوبة: 24].
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»[1].
في سؤاله ﷺ للرجل: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟» صَرْفٌ إلى ما يَجِب أن يُنتَبه له؛ فليس مطلوبًا منه أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز لها بالطاعات والقُربات.
محبَّة الله تعالى ورسوله ﷺ إنما تكون باتِّباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما، وتعظيمهما، وتوقيرهما، والوقوفِ عند حدودهما؛ فإنما تتمُّ المحبَّة بالطاعة
كما قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
[آل عمران: 31]
وتستلزم محبَّة الله تعالى ورسوله ﷺ أن لا يقدِّم العبدُ شيئًا على أمرهما
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ
[الحجرات: 1].
لا يجوز تقديم محبة النفس على حبِّ النبيِّﷺ؛ قال عَبْد اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ رضى الله عنه: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآنَ يَا عُمَرُ»[2].
حبُّ الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسُّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حبَّ الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلب الطِّباع وتغييرها عمَّا جُبِلت عليه؛ فعلى هذا، فجَوَابُ عمرَ أوَّلاً كان بحَسْبِ الطَّبع، ثم تأمَّل فعَرَف بالاستدلال أن النبيَّ ﷺ أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نَجَاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حَصَل الجواب بقوله: الآن يا عمرُ؛ أي: الآنَ عرَفْتَ فنطقتَ بما يَجِبُ[3].
في الحديث أن محبَّة العبد للصالحين تُلحِقه بهم، وإن لم يَعمَل بعملهم؛ ولذلك قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»[4].
عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضى الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»[5]، وبذلك تَحصُل الْمَعيَّة وإن تفاوتت الدرجات في الجنة
قال تعالى:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا
[النساء: 69].
هذا الحديث بشارة عظيمة للمسلمين، فقد فَرِحوا به فَرَحًا شديدًا؛ قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ مَا فَرِحُوا بِهِ»[6].
من علامات محبَّة الله تعالى: طاعة الرسول ﷺ، وتقديم محبَّته على من سواه
قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
[آل عمران: 31].
11. من علامات محبَّة الله تعالى: التقرُّب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات من فرائضَ ونوافلَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»[7].
12. من علامات محبَّة الله تعالى: محبَّة القرآن، وكثرة تلاوته، وتدبُّر معانيه؛ قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان يحبُّ أن يَعلَم أنه يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ - فليَعرِضْ نفسه على القرآن، فمن أحبَّ القرآن، فهو يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ"[8].
13. قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُأي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول[9].
14.
قال تعالى:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، ثم قال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أي: باتِّباعكم للرسول ﷺ يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته[10].
15. محبَّةُ الله عزَّ وجلَّ على قسمين: الأول: محبةٌ تَحمِل على أداء الفرائض واجتناب النواهي. والثاني: محبةٌ تَحمِل على أداء المندوبات، وتجنُّب الوقوع في الشبهات، ومحبَّةُ الرسول ﷺ تابعةٌ لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وهي أيضًا على قسمين، كما تقدَّم في محبة الله عزَّ وجلَّ، ويُزاد على ذلك: ألَّا يتلقَّى المحبُّ لرسول الله ﷺ شيئًا من المأمورات والمنهيَّات إلا مِن مِشكاته ﷺ، ولا يسلك إلا طريقتَه، ويرضى بما شرعه، ويتخلَّق بأخلاقه ﷺ[11].
16. محبةُ الله عزَّ وجلَّ تحصُل في قلب العبد من معرفته بالله عزَّ وجلَّ: معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، ومصنوعاته البالغةِ الغايةَ في التمام والكمال والإتقان، ومن التفكُّر في نِعَم الله عزَّ وجلَّ على العبد، سواءٌ أكانت نِعمًا تتعلَّق بالخلق والإيجاد، أم بتيسير المعاش، والإمداد بالنِّعَم المتوالية التي لا تنقطع، أم كانت النِّعَم متعلِّقةً بالتشريع والهداية لنور الإيمان، والوقاية من تخبُّط الشرك والجهل. فلو استقرَّت هذه المعاني في القلب، امتلأ حبًّا لله عزَّ وجل[12].
17. تُنال محبتُه ﷺ بمعرفته ﷺ، والوقوف على جميل خصاله، وعظيم جهاده ﷺ، وكذلك بالتفكُّر في كونه ﷺ كان سببًا في هدايتنا لطريق الله عزَّ وجلَّ، والأخذ بأيدينا إليه سبحانه.
18.الحبُّ في الله مِن أجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ لله خالقه، وهو امتداد للأخوَّة الإيمانية التي أرسى الإسلام قواعدها
كما قال الله تعالى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾
[الحجرات: 10]
وقال سبحانه:
﴿ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾
[آل عمران: 103].
19. ليس معنى تقديم محبَّة الله ورسوله أن ينقطع المؤمن عن الدنيا؛ عن أهله وأزواجه وأولاده وعشيرته وأمواله وعمله، ولا أن يهجر طيِّباتِ الحياة ومتاعَ الدنيا ولذَّاتها المباحة، ولا أن يَتَرَهْبَن ويزهد فيها؛ إنما المقصود أن يُخلص العبد لله قلبه، ويخلص محبَّته، فتكون هي المسيطرةَ والحاكمة، والمحرِّكة والدافعة، ولا حرج بعد ذلك أن يستمتع العبد المؤمن بكل طيبات الحياة المباحة، على أن يكون راضيًا أن تُسلب منه، مستعدًّا أن يَنبِذها كلَّها إذا تعارضت مع عقيدته وما تتطلَّبه المحبة الخالصة لله ورسوله.
20. في الحديث إشارة إلى أنه يجب أن يكون الحبُّ والبُغض في الله ولله، لا للهوى وحظِّ النفس، ولا من أجل الدنيا، فيحبُّ الاستقامة والصلاح والطاعة وأهلها؛ لأن الله يحبُّ ذلك، ويُبغض الفسق والعصيان والفجور والانحراف وأهلها؛ لأن الله يُبغض ذلك، يحبُّ الشخص لطاعته، لا لِذَاته، فيكون هواه تبعًا لما جاء به النبيُّ؛ حيث قال ﷺ: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكون هواه تَبَعًا لِما جئتُ به» [13].
المراجع
- رواه البخاريُّ (16)، ومسلم (43).
- رواه البخاريُّ (6632).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 528).
- رواه البخاريُّ (3688)، ومسلم (2639).
- رواه البخاريُّ (6169)، ومسلم (2640).
- رواه أحمد (12032)، قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاريُّ (6502).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (3/ 329).
- "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
- "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلانيِّ (1/ 61).
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 51).
- أخرجه الخطيب البغدادي في "التاريخ" (4/369)، والبغويُّ في "شرح السنة" (104)، وابن أبي عاصم في "السنة" (15)، وابن بطة في "الإبانة" (1/387)، وقال النوويُّ في "الأربعين": "حديث صحيح، وفيه نعيم بن حماد مختلف فيه".
الصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[1].
إن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
[الجمعة: ٤] [2].
إن الفضلَ المذكورَ في الحديث لكلِّ الصحابة، ممَّن لَقِيَ النبيَّ ﷺ ولو مرَّةً؛ كما يدلُّ على ذلك تكاثُر الأدلَّة من الكتاب والسنَّة، وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى قول مرجوحٍ؛ أن هذا الفضل كلَّه لخاصَّة أصحاب النبيِّ ﷺ، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لِمَن زارَه مرَّةً، ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخَرُ مرَّةً، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين[3].
أصحاب النبيِّ ﷺ أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق.
قال تعالى:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ
[النمل: 59]
قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[4].
اختار الله عزَّ وجلَّ الصحابة لصُحبة نبيِّه، اختارهم ليحملوا راية هذا الدين، ليَزْرَعوا بِذْرَته، ويحملوا لواءه.
"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[5].
أخبر النبيُّ ﷺ أن الصحابة أَمَانٌ لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[6].
تفضيل الصحابة على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها.
قال الله تعالى في التفاضل بين الصحابة:
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ
[الحديد: 10]
فكيف لمن يأتي بعدَهم؟!
سبُّ أصحاب النبيِّ ﷺ وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ ﷺ فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل[7].
"أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[8].
"أصحاب رسول الله ﷺ هم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعَوْه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز"[9].
سمَّى الله تعالى الصحابة عُدول الأمَّة
قال تعالى:
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
ﱡﱠ [البقرة: 143]
ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطًا، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة[10].
نَدَب الله تعالى إلى التمسُّك بهَدْيِ الصحب الكرام، والجَرْيِ على مناهجهم، واتِّباع سبيلهم، والاقتداء بهم فقال:
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ
[النساء: 115].
أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه
قال تعالى:
لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[التوبة: 88].
أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم
قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ
[الفتح: 29].
18. رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛
فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»
[11].
19. قد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة
قال تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[التوبة: ١٠٠].
20. رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين
فقال تعالى:
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
[الحشر: 8 – 10].
المراجع
- "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
- "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
- رواه مسلم (2531).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
- رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
هذا الحديث من دلائل النبوَّة، ومعجزة ظاهرة لرسول الله ﷺ؛ فإن كل الأمور التي أخبر بها وقعت كما أخبر.
إن أصحاب النبيِّ ﷺ أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق.
قال تعالى:
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ
[النمل: 59]
قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[1].
"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[2].
أخبر النبيُّ ﷺ أن الصحابة أَمَانٌ لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[3].
الصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[4].
تفضيل الصحابة على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها.
قال الله تعالى في التفاضل بين الصحابة
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ
[الحديد: 10]
فكيف بمن يأتي بعدَهم؟!
إن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
[الجمعة: ٤][5].
إن الفضلَ المذكورَ في الحديث لكلِّ الصحابة، ممَّن لَقِيَ النبيَّ ﷺ ولو مرَّةً؛ كما يدلُّ على ذلك تكاثُر الأدلَّة من الكتاب والسنَّة، وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى قول مرجوحٍ؛ أن هذا الفضل كلَّه لخاصَّة أصحاب النبيِّ ﷺ، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لِمَن زارَه مرَّةً، ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخَرُ مرَّةً، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين[6].
"أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[7].
"أصحاب رسول الله ﷺ هم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعَوْه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز"[8].
سمَّى الله تعالى الصحابة عُدول الأمَّة
قال تعالى:
وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
[البقرة: 143]
ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطًا، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة[9].
نَدَب الله تعالى إلى التمسُّك بهَدْيِ الصحب الكرام، والجَرْيِ على مناهجهم، واتِّباع سبيلهم، والاقتداء بهم؛ فقال:
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ
ﱠ [النساء: 115].
أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه؛
قال تعالى:
لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
[التوبة: 88].
16. أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم
قال تعالى:
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ
[الفتح: 29].
17. رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛
فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»
[10].
18. قد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة
قال تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُﱠ
[التوبة: ١٠٠] .
19. رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين
فقال تعالى:
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
ﱠ[الحشر: 8 – 10].
20. اختُلف في معنى قوله ﷺ: (قرني)، فقيل: قرنُه: أصحابُه، والذى يليه: أبناؤهم، والثالث: أبناء أبنائهم، وقيل: قرنُه: ما بَقِيَت نفسٌ رأته، والثاني: ما بَقِيت نفسٌ رأت من رآه، ثم كذلك، وقال غير واحد: القرن: كلُّ طبقتين مقترنتين في وقت.
21. اختُلف في مدَّة القرن، فقيل: ثمانون سنةً، وقيل: سبعون، وقيل: مِائة، وقيل: مائة وعشرون. والأصحُّ أن القرنَ لا ينضبط بمدَّة، فقرنُه ﷺ هم الصحابة، وكانت مدَّتُهم من الْمَبعث إلى آخِرِ مَن مات من الصحابة مِائةً وعشرين سنةً، وقرنُ التابعين من مِائة سنةٍ إلى نحو سبعينَ، وقرنُ أتباع التابعين من ثَمَّ إلى نحو العشرين ومِائتينِ، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأَطلَقت المعتزلة ألسنَتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهلُ العِلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيَّرت الأحوال تغيُّرًا شديدًا، ولم يَزَلِ الأمر في نقص إلى الآن[11].
22. الأفضلية لمن تحقَّقت لهم صُحبة رسول ﷺ، وهذا التفضيل باعتبار الجُملة، فلا يُنافي أن يكون في المتأخِّرين بعض الأفراد خيرًا، كما في رواية الترمذيِّ: «إن من ورائكم أيامًا الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر، وللعامل فيهن أجر خمسين منكم»[12].[13].
23. ذهب الجمهور إلى أن فضيلة الصحبة لا يَعدِلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله ﷺ، وأما من اتَّفَق له الذَّبُّ عنه، والسَّبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة، إلا وللذي سبق بها مِثْلُ أجر من عمل بها من بعده؛ فظَهَر فضلهم[14].
24. ذهب ابنُ عبد البرِّ إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وأن قوله : «خير الناس قرني»، ليس على عمومه؛ بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنُه ﷺ جماعةً من المنافِقين المظهِرين للإيمان، وأهلَ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود[15].
25. لا تَعارُضَ بين هذا الحديث، وحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضى الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»[16]، فهو محمول على شاهد الزور، وهذا الحديث على شهادة الحقِّ، أو أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة[17].
26. "اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ﷺ، والمرادُ أصحابُه، والصَّحيحُ الّذي عليه الجمهورُ أنّ كلَّ مسلم رأى النّبيَّ ﷺ ولو ساعةً، فهو من أصحابه، ورواية (خير النّاس) على عمومها، والمراد منه: جُملة القرن، ولا يلزم منه تفضيلُ الصّحابيِّ على الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، ولا أفراد النّساء على مريمَ وآسِيَةَ وغيرهما؛ بل المرادُ جُملة القرن بالنّسبة إلى كلِّ قرن بجُملته"[18].
27. عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّدٍ ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه"[19].
28. قوله ﷺ: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي»: إضافةُ القرن إلى نفسه ﷺ إضافةُ تشريف وتمييز؛ للدلالة على أنه قرن مميَّز، فالجيلُ الذي هو فيه جيلٌ فَريد وعبقريٌّ، ألا وهو جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - الذين مَدَحهم الله تعالى في كتابه
قال تعالى:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[التوبة: 100]
وقال تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا
[الفتح: 18].
29. جعل الله تعالى الإيفاء بالنَّذْرِ من صفات عباد الله المتَّقِين
قال تعالى:
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا 6 يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
[الإنسان: 6- 7].
30. لا يلزم أن يكون كلُّ واحد من هؤلاء المترَفين سمينًا، فهو وصفٌ للغالب عليهم؛ ففيهم السَّمين وغيرُ السَّمين.
31. هذا الحديثُ يُوجِب الذمَّ والنقص لمن لم يَفِ بالنذر، وهذا من أشراط الساعة[20]. وقد قَرَن النبيُّ ﷺ ذمَّ من لم يَفِ بالنذر بخيانة الأمانة، شَهِد به كتاب الله العزيز، وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يَفِ لله بما عاهَدَه، فقد خان أمانته في نقضه ما جَعَل لربِّه - عزَّ وجلَّ - على نفسه، فأَشبَه ذلك من خان غيرَه فيما ائتَمَنه عليه، والأول أعظمُ خيانةً وأشدُّ إثمًا[21].
المراجع
- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
- "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
- رواه مسلم (2531).
- "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
- رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (9/ 3878).
- رواه الترمذيُّ (2260) من حديث أنس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (8002).
- "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (5/ 264).
- "فتح الباري" لابن حجر (7/ 7).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 80).
- رواه مسلم (1719).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 84).
- رواه أحمدُ (3600)، وحسَّنه الألبانيُّ في "تخريج الطحاوية" (ص:530).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 156).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 156).
في الحديث دليل على أن القبر أوَّلُ منازل الآخرة، في السؤال والحساب، وفي الثواب أو العقاب، فهو حَدٌّ فاصل بين الدنيا بانقطاعها، والآخرة بالإقبال عليها.
في الحديث تصوير لنعيم القبر بالنسبة للمؤمن، ولعذاب القبر بالنسبة للكافر والمنافق في عالم الغيب.
في الحديث إظهارُ فضل الله تعالى على عباده المؤمنين الصالحين في تنعيمهم في الحياة البرزخِيَّة، وإذلالُ وتعذيب الْمُكذِّبين العاصين.
قَوْله: «ملكان»، وهما الْمُنكَر والنكير، كَمَا فسِّر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، وَإِنَّمَا سُمِّيا بِهَذَا الاسم لِأَن خَلقَهما لَا يُشبه خَلق الْآدَمِيّين، وَلَا خَلق الْمَلَائِكَة، وَلَا خلق الْبَهَائِم، وَلَا خلق الْهَوَام؛ بل لَهما خَلْقٌ بديع، وَلَيْسَ فِي خِلْقَتيهما أُنْسٌ للناظرين إِلَيْهِمَا، جَعلهمَا الله تَكرِمةً لِلْمُؤمنِ لتثبِّتَه وتبصِّره، وهتكًا لسِتر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قَبْلِ أَن يُبْعَث حَتَّى يحلَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب، وسُمِّيَا أَيْضًا: فتَّانا الْقَبْر؛ لِأَن فِي سؤالهما انتهارًا، أَو فِي خُلقهما صعوبة[1].
«فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟» ولم يقولا: ما تقول في هذا النبيِّ؟ أو غيره من ألفاظ التعظيم؛ لقصد الامتحان للمسؤول، إذ ربما تلقَّن تعظيمه من ذلك؛ ولكن
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
[إبراهيم: 27][2].
الحِكمةُ في منع الثَّقلَيْن من سَماع صَيحة ذاك المعذَّب بِمِطْرَقَة الْحَدِيد أنهما لَو سمعا لارتفع الابتلاء، وصار الإيمان ضروريًّا، ولأعرضوا عَن التدابير والصنائع ونحومَا مِمَّا يتَوَقَّف عليه بقاؤهما[3].
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 144).
- "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاري" (2/ 434).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).
1- الصلاة هي أعظمُ عِبادةٍ بَدَنيَّة، وهيَ أَحَبُّ الأَعمالِ إلى الله تعالى؛
فَعَنْ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»
[1]
2- لا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بأَدَاء الصلاة؛ فهي عَمُودُ الإسلام الذي يقوم عليه، والخَيْمةُ تَسقُطُ بسقوط عَمُودِها؛ فهكذا يَذهَب الإسلام بذَهَاب الصلاة؛
قال النبيُّ ﷺ:
«رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»
[2]
3- الصَّلاةُ هِيَ الرُّكنُ الثاني من أركانِ الإسلامِ الخمسة التي بُنِيَ الإسلامُ عَلَيها؛
فعن عبد الله بن عمرَ قال:
قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»
[3]
4 -أَمَرَنا اللهُ تعالى بالمحافَظَة على الصلاة؛
فقال:
﴿حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ﴾
[البقرة: 238]
وبإقامتها؛
قال تعالى:
( أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ )
[الأنعام: 72]،
ومَعْنى إقامِ الصَّلاةِ: هو أداءُ الصَّلوات الخَمْسِ المفروضة في اليومِ واللَّيلة، في الأوقات الْمُحَدَّدة لها، وبالصِّفة الصَّحيحة التي بَيَّنَها نبيُّنا الكَريمُ ﷺ؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى.
5- إضاعة الصلاة تَسْتَوْجِبُ عذاب الجحيم؛
قال تعالى:
{ﱠكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}
[الْمُدَّثِّر: 38 - 43].
6- وَصفَ النبيُّ ﷺ الصلاة بالنور في قَولهِ: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»[4]
7- في الحديث بيان أن الّذي يَمنَع من كُفر المسلم كونُه لم يَترُك الصّلاة، فإذا تركها، لم يَبقَ بينه وبين الشّرك حائلٌ؛ بل دخل فيه[5]
8- عن بُرَيْدَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»
[6]
9- قال ابنُ مسعود: ترَكْهُا كفر، وقال عبد اللّه بن شقيق: كان أصحاب محمَّدٍ - عليه الصّلاة والسّلام - لا يَرَون شيئًا من الأعمال تَرْكُه كفرٌ غيرَ الصّلاة[7]
10- الصلاة أوَّلُ ما يُحاسَبُ عليه الإنسانُ يومَ القيامة؛ فقد قال ﷺ:
«أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ»
[8]
11- عن عبد الله بن عمرِو بنِ العاص،
عن النبيِّ ﷺ:
أنه ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ، وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ»
[9]
12- من فضائل الصلاة ما رواه عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لوقتهن وَأتمَّ ركوعَهنَّ وخُشُوعَهنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»
[10]
13- من فضائل الصلاة أنها تكفِّر الخطايا دومًا وتطهِّر المؤمن؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعة، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتَنَب الكبائر»
[11]
14-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
[12]
15-
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺقَالَ: «مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ المحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ المعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّين»
[13]
16-
عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»
[14]
17-
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه،
قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ؛ فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ r سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ"
[15]
18-قال ﷺ:
«قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ، فإذا قال العبدُ: ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: (ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿ مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ ﴾، قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿ ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ 6 صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ ﴾، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»
[16]
19- قال ﷺ في فضل صلاة الجماعة: «
صلاةُ الجماعةِ أفضَلُ من صلاةِ الفَذِّ بسَبعٍ وعشرينَ دَرجةً»
[17]
20-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاح»
[18]
21-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ»
[19]
22-
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،
أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»
[20]
23-
عن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه،
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ الليْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الليْلَ كُلَّهُ»
[21]
24-
عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَشِّرِ المشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
[22]
المراجع
- رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).
- رواه أحمد (22366)، والنسائيُّ (11330)، والترمذيُّ (2616) وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2866)
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- رواه مسلم (223).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 71).
- رواه أحمد (23325)، والنسائيُّ (463)، وابن ماجه (1079)، والترمذيُّ (2621)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (564).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (2/ 510).
- رواه الطبرانيُّ (1859)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (376).
- رواه أحمد (6576)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
- رواه أحمد (23080)، وابن ماجه (1401)، وأبو داود (425) وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب (370).
- رواه مسلم (233).
- رواه مسلم (251).
- رواه أحمد (22304)، وأبو داود (558)، وحسَّنه الألبانيُّ.
- رواه البخاريُّ (528)، ومسلم (667).
- أخرجه مسلم (654).
- رواه مسلم (395).
- رواه البخاريُّ (645)، ومسلم (650).
- رواه البخاريُّ (662)، ومسلم (669)..
- رواه البخاريُّ (660)، ومسلم (1031).
- رواه البخاريُّ (555)، ومسلم (632).
- رواه مسلم (656).
- رواه أبو داود (561)، والترمذيُّ (223)، وابن ماجهْ (781)، وصحَّحه الألبانيُّ.
في الحديث علامةٌ من علامات نبوَّته ﷺ؛ إذ أخبر بأمورٍ ستقع في المستقبل ووقَعت، وتقعُ كما أخبر ﷺ.
للسَّاعةِ علاماتٌ صُغرى وكُبرى، وعلى الإنسان أن يتحرَّى هذه العلامات ويتَّعِظ بوقوعها، ويُحسِن العمل.
كثرةُ موت العلماء في هذا الزَّمان، وانتشارُ الجَهْل الـمترتِّب على موتهم من أعظمِ علامات الساعة الصُّغرى.
كثرةُ الزَّلازل والخَسْف والْمَسْخ من آيات الله سبحانه الدالَّة على قُرب وقوع الساعة.
في الحديث إخبارٌ بما سيكون في آخر الزمان من أحداث وعلامات تدُلُّ على قُرب قيام الساعة؛ ليأخذَ المسلم حِذْره، فيتَّخِذَ من الوسائل ما يُعينه على النجاة من هذه الفتن إنْ هو أدركَها.
قسَّم العلماء علاماتِ الساعة التي أخبرَ بها النبيُّ ﷺ إلى علاماتٍ صُغرى وعلاماتٍ كُبرى.
علاماتُ الساعة الصُّغْرى كَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ بعضَها، أما العَلاماتُ الكُبرى التي أخبَر بها فلم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ نهاية الزمان، وقيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك.
أخبَر النبيُّ في حديث آخَرَ عن كيفية قبض العلم، وفيه: «إنَّ اللهَ لا يقبِض العلمَ انتزاعًا ينتزِعه؛ ولكن يَقبِض العلماءَ، فإذا لم يبْقَ عالمٌ، اتَّخذ الناسُ رُؤساءَ جهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير عِلم، فضلُّوا وأضلُّوا»[1].
ليس الـمقصود في الحديث موتَ كل العلماء؛ بل أكثرهم؛ لحديث النبيِّ ﷺ: «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الـحقِّ حتى يأتي أمرُ اللهِ»[2].
ظُهور الزَّلازل والآياتِ وعيدٌ من الله تعالى لأهل الأرض، والله تعالى لا يُرسل بالآياتِ إلَّا تخويفًا
قال تعالى:
وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا
[الإسراء: 59].
والتَّخويف والوعيدُ بهذه الآيات إنَّما يكون عند الـمجاهَرة والإعلان بالمعاصي؛ كما قيل لرسول الله ﷺ: «أنَهْلِك وفينا الصالِحون؟ قال: نَعم؛ إذا كثُر الخبثُ»[3]، ويَبعث اللهُ الصَّالحين على نِيَّاتهم[4].
في الحديث أن من العلامات الصغرى: أن يَتَقارَب الزَّمانُ؛ أي: قِصَر مدَّة الأزمنة عمَّا جرَت به العادة؛ كما جاء في الحديث: «حتَّى تكون السَّنةُ كالشَّهر، والشهرُ كالجُمُعة، والجُمُعة كاليوم، قيل: واليومُ كالسَّاعة، والسَّاعة كالضَّرمة بالنَّار»[5]، وقيل: تقارب الزمان؛ أي: قِصَر الأعمار بقِلَّة البركة فيها[6]، وقيل: تتقاربُ صفاتُه الناس في القبائح؛ ولهذا ذكَر على إثْره الهرْجَ والشُّحَّ[7].
في آخِر الزَّمان تكون فِتنٌ كثيرةٌ - كما أخبر النَّبيُّ ﷺ - كقِطَع اللَّيل الـمُظلِم؛ «يُصبح الرَّجُل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، حتَّى يَصير النَّاس إلى فُسْطاطين؛ فُسطاط إيمانٍ لا نِفاقَ فيه، وفُسطاط نفاقٍ لا إيمانَ فيه؛ فإذا كان ذاكم فانتظِروا الدَّجَّال من يومه، أو غَدِه»[8].
القتلُ مِن أعظم الكبائر ومن السبع الموبقات، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعُدوانًا
قال تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ﱠ
[المائدة: ٣٢].
توعَّد الله عز وجل القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الـمُقيم في نار جهنَّم يوم القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه
كما قال تعالى:
﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
[النساء: 93].
عن الأحنف بن قَيس رضى الله عنه، عن النَّبيِّ ﷺ:
«إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»
[9].
المراجع
- رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).
- رواه البخاريُّ (3640)، ومسلم (156).
- رواه البخاريُّ (3598)، ومسلم (2880).
- أصله حديثٌ متَّفق عليه، رواه البخاريُّ (2118)، ولفظه: عن أمِّ المؤمنين عائشة ڤ، قالت: قال رسول الله ﷺ: «يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيْداءَ من الأرض، يُخسَف بأولهم وآخرهم». قالت: قلتُ: يا رسول الله، كيف يُخسَف بأوَّلهم وآخِرهم وفيهم أسواقهم ومَن ليس منهم؟ قال: «يُخسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُبْعثون على نياتهم». ورواه مسلم (2884).
- انظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (2/ 256)، وأصله حديث الترمذيِّ في السنن (2332)، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السَّنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضَّرَمة بالنار» وقال: غريب من هذا الوجه، وقال الألبانيُّ: صحيح.
- انظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (2/ 256).
- انظر: "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (8/ 286).
- رواه أبو داود في سننه (4242). وقال الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (4242): صحيح.
- رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
في الحديث الأمر بالمبادرة والمسارعة إلى الأعمال الصالحة، قبل الموت، وقبل ظُهورِ علامات الساعة الكبرى؛ لأن ظهورَها يُوجِبُ عدمَ قبول توبة التائبين.
استعداد المرء للقاء الله تعالى إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك جعل الله تعالى المسارعة والمسابقة إلى فعل الصالحات صفةً من صفات المؤمنين
قال تعالى:
أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
[المؤمنون: 61].
في الحديث توجيه من النبيِّ ﷺ إلى استغلال الأوقات فيما ينفع العباد، وبَذْلِها في مواطن الخير والصلاح، قبلَ أن لا يَقدِر عليها المرء، أو يُحال بينه وبينها بمرض أو موت، أو ظهور هذه العلامات، وحينها:
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ
[الأنعام: 158].
الإيمان بعد ظهور العلامات إنما وقع بعد المشاهدة، لذا؛ لا ينفع الكافرَ إيمانُه إذا رأى هذه الآيات، وكذلك لا تُقبَل توبة المسلم العاصي؛ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب، أما الإيمان بعد المشاهَدة، فلا ينفع.
لا يعلم متى الساعة إلا الله تعالى، وقد أخبر النبيُّ ﷺ ببعض علاماتها
قال تعالى:
إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
[لقمان: ٣٤].
عدم قبول التوبة، أو الانتفاع بالأعمال الصالحة لا يكون إلا بعد تمام هذه الآيات؛ فالمراد هذه الثلاث بأسرها
لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ
[الأنعام: 158]
طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابَّة الأرض، وقدَّم الطلوع وإن كان متأخِّرًا في الوقوع؛ لأن مَدَار عدم قبول التوبة عليه، وإن ضُمَّ خروج غيره إليه[1].
في الحديث ذكر خروج المسيح الدجَّال، وهي أعظم فتنةٍ منذ خَلَق الله الأرض، وقد حذَّر النبيُّ ﷺ أمَّته من المسيح الدجَّال، وذكر لهم بعضًا من صفاته؛
عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ "كَافِرٌ"»
[2].
أحاديث خروج الدجَّال حُجَّة لمذهب أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنه شخصٌ بعَينِه، ابتلى اللهُ تعالى به عبادَه، وأَقدَره على أشياءَ من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميِّت الذي يَقتُله، وظهور زهرة الدنيا والخِصب معه، وابتاع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرضَ أن تُنبِت فتُنبِت، فيقع كلُّ ذلك بقُدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يَقدِر على قتل ذلك الرجل ولا غيرِه، ويَقتُله عيسى عليه السلام، ويثبِّت الله الذين آمنوا[3].
إن فتنة الدجَّال عظيمة جدًّا، تُدهِش العقول، وتحيِّر الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يَمكُث بحيث يتأمَّل الضعفاءُ دلائلَ الحدوث والنقص، فيصدِّقه من يصدِّقه في هذه الحالة؛ ولهذا حذَّر الأنبياءُ - صلوات الله عليهم - من فتنته، ونبَّهوا على نقصه ودلائل إبطاله[4].
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما،
قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا»
[5].
المراجع
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3451).
- رواه البخاريُّ (7131)، ومسلم (2933).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3451).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3451).
- رواه مسلم (2941).
في الحديث حرص النبيِّ ﷺ على إعداد الدعاة الذين يبلِّغون رسالة الإسلام علميًّا ونفسيًّا وتربويًّا، ويأمرهم بتبليغ ما تعلَّموه إلى غيرهم، ويخصُّون أهلَهم.
في هذا الحديث فضل الرحلة في طلب العلم، ولطالما كانت هذه سُنَّةَ المحدِّثين في رحلتهم في أقطار الأرض؛ طلبًا للعلم وعلوِّ السَّند في الحديث.
كان الصحابة – رضوان الله عليهم – خيرَ خلق الله بعد النبيِّين والمرسَلين؛ فقد اصطفاهم الله تعالى واختارهم لصُحبة رسوله ﷺ؛ إذ كانوا أصفى الناس فِطرةً، وأزكاهم قلبًا، وأطيبَهم نفسًا، وأصدقَهم قولاً، وأحدَّهم ذهنًا، وأثقبهم فَهمًا، وأفصحهم لسانًا، وأوعاهم عقلًا.
عاش الصحابة - رضوان الله عليهم - لدين الله، ونشر رسالته، وإعلاء كلمته، يحرصون على كل كلمة أو لفتة من رسول الله ﷺ ليبلِّغوها إلى العالمين، فأدَّوِا الأمانة، ونشروا دين الله تعالى؛ فهم الواسطة بين رسول الله ﷺ وبين أمَّته، ومنهم تلقَّت الأمةُ عنه الشريعة، وقد مدحهم الله كثيرًا في القرآن، وذكر فضائلهم، وأخبر أنه يحبُّهم ورَضِيَ عنهم.
اقتصار الصحابيِّ على ذِكر سبب الأمر برجوعهم بأنه الشَّوق إلى أهليهم دونَ قصد التعليم، هو لِما قام عنده من القرينة الدالَّة على ذلك، ويمكِن أن يكون عرَفَ ذلك بتصريح القول منه ﷺ، وإن كان سببُ تعليمهم قومَهم أشرفَ في حقِّهم؛ لكنه أخبر بالواقع [1].
ينبغي للإنسان أن يُقيم في أهله ما أمكنه، ولا ينبغي أن يغترب عنهم، ولا أن يبتعد عنهم، حتى إن الرسول ﷺ أمر المسافر إذا سافر، وقضى حاجته، أن يرجِع إلى أهله [2].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 171).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 147).
فتنة الدجَّال لا مَثِيلَ لها؛ فهو أعظمُ فتنةٍ من خَلْقِ آدَمَ إلى قيام الساعة؛ فعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»[1].
السبب في أن فتنة الدجَّال هي أعظم فتنة: أن الله تعالى يَخلُق معه من الخَوارِق العظيمة التي تَبهَر العقول، وتُحيِّر الألباب؛ فقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن معه جنَّةً ونارًا، جنَّتُه نارٌ، ونارُه جنَّة، وأن معه أنهارَ الماء، وجبالَ الخبز، ويأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرضَ أن تُنبِت فتُنبِت، وتَتبَعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة كسرعة الغَيث استدبرته الريح، إلى غير ذلك من الخوارق.
أَرشَد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى ما يَعصِمها من فتنة المسيح الدجَّال؛ فقد ترك أمَّته على الْمَحَجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يَزِيغ عنها إلا هالك، وإن النبيَّ ﷺ لم يَدَع خيرًا إلَّا دلَّ أمَّته عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه.
كان كلُّ نبيٍّ يُنذِر أمَّتَه الدجَّالَ وفتنته، وقد زاد النبيُّ ﷺ من التحذير منه وذكر كثيرًا من صفاته؛ لأنه خارجٌ في أمَّته – التي هي آخِرُ الأمم - لا محالة، ولأن النبيَّ ﷺ خاتم النبيِّين.
الأحاديث في وصف الدجَّال متكاثرة، للتحذير من شرِّه، وتعريف الناس به، فإذا خرج في آخر الزمان، عَرَفه المؤمنون بصفاته التي أخبر بها النبيُّ ﷺ، فلم يُفتنوا به.
خروجُ الدجَّال هو من علامات الساعة الكبرى، وقد أرشد النبيُّ ﷺ المؤمنين أن يبادروا بالأعمال الصالحة قبل ظهور هذه الفتن؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ»[2].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكُمْ»[3].
الذي يترجَّح من مجموع الأخبار أن خروج الدجَّال أوَّلُ الآيات العظام المؤذِنة بتغيير الأحوال العامَّة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى - عليه السلام - وأن طلوع الشمس من مغربها هو أوَّل الآيات العظام المؤذِنة بتغيير أحوال العالم العُلويِّ، وينتهي ذلك بقيام الساعة[4].
ورد في الأحاديث الصحيحة اختلاف وصف عينيه بالعَوَر؛ ففي بعضها وصفُ عينه اليُمنى بالعَوَر، وفي بعضها وصف عينه اليُسرى بالعَور، وقد جمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات، "وعلى هذا تجتمع رواية أعور العين اليُمنى مع أعور العين اليُسرى؛ إذ كلُّ واحدة منهما بالحقيقة عوراء؛ إذ الأعور من كلِّ شيء الْمَعيب، ولا سيَّما بما يختصُّ بالعين، وكلا عينَيِ الدجَّال معيبةٌ عوراءُ، فالممسوحة والمطموسة والطافئة بالهمز عوراء حقيقةً، والجاحظة التي كأنها كوكب وهى الطافية - بغير همز - معيبة عوراء لعَيبها، فكلُّ واحدة منهما عوراء، إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها"[5].
هناك إشكالٌ: أنه كيف مكتوب بين عينيه كافر، ويقرؤها المؤمن ولو كان أُمِّيًّا، ولا يقرؤها الكافر، ولو كان قارئًا؟ والجواب أن هذه الكتابة حقيقية على ظاهرها، ولا يُشكِل رؤيةُ بعض الناس لهذه الكتابة دون بعض، وقراءةُ الأمِّي لها؛ "وذلك أن الإدراك في البَصَر يَخلُقه الله للعبد كيف شاء، ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بعَين بَصَره، وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافرُ، ولو كان يَعرِف الكتابةَ، كما يرى المؤمنُ الأدلَّة بعَين بصيرته، ولا يراها الكافرُ، فيَخلُق الله للمؤمن الإدراك دون تعلُّم؛ لأن ذلك الزمانَ تَنخرِق فيه العاداتُ في ذلك"[6].
الصحيحُ الذي عليه المحقِّقون أن كتابة "كافر" بين عينَيِ الدجَّال كتابةٌ حقيقية، جعلها الله آيةً وعلامةً من جُملة العلامات القاطعة بكُفره وكَذِبه وإبطالِه، يُظهِرُها الله لكلِّ مسلم، كاتبٍ وغيرِ كاتب، ويُخفيها عمَّن أراد شَقاوتَه وفِتنتَه، ولا امتناع في ذلك[7]؛ فإنّ الله على كلِّ شيء قدير؛ فهو قادرٌ على أن يُريَ هذه الكتابة بعض الناس دون بعض، وقادر على أن يجعل الأمِّيَّ يقرؤها.
من أوصاف الدجَّال: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: لا وَاللَّهِ، مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعِيسَى أَحْمَرُ؛ وَلَكِنْ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ، سَبْطُ الشَّعَرِ، يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ، شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ[8].
من أوصاف الدجال ما قاله النبيُّ ﷺ: «إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا»[9]. (قَطَط)؛ أي: شديد جعودة الشعر، مباعد للجعودة المحبوبة.
من أوصاف الدجَّال في حديث النوَّاس: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ، أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ، فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ، لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ»[10].
أتى في حديث النواس كيف يقتل سيدنا عيسى عليه السلام الدجَّال: «ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ، يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ»[11].
من أوصاف الدجَّال: عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ، وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»[12]. والأفحج: المتباعد ما بين الفَخِذين، الذي إذا مشى باعَد بين رجليه. والحجراء: الغائرة.
عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَر، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ»[13]. وجُفَالُ الشَّعر؛ أي: كثيره.
في آخِر الزَّمان تكون فِتنٌ كثيرةٌ - كما أخبر النَّبيُّ ﷺ - كقِطَع اللَّيل الـمُظلِم؛ «يُصبح الرَّجُل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، حتَّى يَصير النَّاس إلى فُسْطاطين؛ فُسطاط إيمانٍ لا نِفاقَ فيه، وفُسطاط نفاقٍ لا إيمانَ فيه؛ فإذا كان ذاكم فانتظِروا الدَّجَّال من يومه، أو غَدِه»[14].
المراجع
- رواه أحمد (16373)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
- رواه مسلم (158).
- رواه مسلم (2947).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 294).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 522).
- "فتح الباري" لابن حجر (13 / 100).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (18 /60).
- رواه البخاريُّ (3441).
- رواه مسلم (2937).
- رواه مسلم (2937).
- رواه مسلم (2937).
- رواه أحمد (23144)، وأبو داود (4320)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود".
- رواه مسلم (2934).
- رواه أبو داود في سننه (4242). وقال الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (4242): صحيح.
1- ثَمَّةَ أحاديثُ تَشتهِر عند الفقهاء؛ لكونها أصلاً في باب من أبواب الفقه، أو لجمعها أمَّهاتِ المسائل وأعيانَها، فيجري عليها العمل من أهل العلم كافَّةً، وتتوارد عليها أفهام العلماء واجتهاداتهم، فيتحصَّل منها أحكام كثيرة، وقد كَثُرت إطلاقات العلماء على بعض الأحاديث أنها من أصول التشريع، وأعمدة الدين، ومنها حديث المسيءِ صلاتَه.
2- اشتُهِر هذا الحديث عند العلماء بلقب "حديث المسيءِ صلاتَه"، وقد تناوله الفقهاء بالدراسة الفقهية استدلالاً واستنباطًا، فصار أصلاً لكثير من أحكام الصلاة، وعُمدةَ استنباطاتهم لكثير من أحكامها؛ لاشتماله على وصف كامل لأهم أعمال الصلاة وأركانها؛ فكلُّ عبارة فيه تدلُّ على ركن من أركان الصلاة.
3- تكرَّر من الفقهاء الاستدلالُ على وجوب ما ذُكر في الحديث، وعدم وجوب ما لم يُذكَر فيه، فأما وجوب ما ذُكر فيه، فلتعلُّق الأمر به، وأما عدم وجوب غيره، فليس ذلك لمجرَّد كونِ الأصل عدمَ الوجوب؛ بل لأمر زائد على ذلك، وهو أن الموضع موضعُ تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذُكر [1]
4- ذكَر النبيُّ ﷺفي هذا الحديث الواجباتِ دون السُّنن، فذكر تكبيرة الإحرام، وقراءة القرآن، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والاعتدال فيه، والسجود...، وقد ترك الحديث ذِكْر كثير من الواجبات كذلك؛ كالنيَّة، والتشهُّد، والتسليم، وغير ذلك؛ وهذا لأن الرجُل قد عَلِم تلك الأمور، وإنما غابت عنه أشياءُ أخرى، فدلَّه النبيُّ ﷺعلى فِعلها [2]
5- لم يقتصر النبيُّ ﷺفي حديث المسيء صلاته على بيان ما أساء فيه من الصلاة؛ بل ذَكَره وغيره، وهذا يؤكِّد أن الحديث بيان للواجبات دون سواها، وانحصارها في المذكورات، ولأجل هذا يتمسَّك بعض الفقهاء بهذا الحديث في أيِّ موضع اختُلف في وجوبه، فإن كان مذكورًا في الحديث قال بوجوبه، وإلا فلا؛ كالقول بعدم وجوب الإقامة، ودعاء الاستفتاح في الصلاة مثلاً؛ لعدم ذكرهما في الحديث.
6- شرطا قبول العمل هما النِّيَّة وموافقة السنَّة، أما حسن النية والاجتهاد في العمل فلا يجعله صحيحًا ما لم يكن موافقًا لسنَّة النبيِّ r، مهما كان اجتهاد صاحبه وحرصه على الخير.
7- في الحديث الحرص على دعوة وتعليم الناس الذين لا يؤدُّون صلاتهم صحيحة، حيث يُخشى عليهم ألَّا يكون لهم منها إلا التَّعَب والقيام والجلوس.
8- من التواصي بالحقِّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبيهُ الجاهلين وتعليمهم؛ عن زيد بن وهب قال: رَأَى حُذَيْفَةُ رَجُلًا لَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، قَالَ: (مَا صَلَّيْتَ، وَلَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ الفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ عَلَيْهَا) [3]
9- في الحديث جلوسُ الإمام في المسجد، وجُلوسُ أصحابه معه، وفيه التّسليم للعالِم، والانقيادُ له، والاعتراف بالتّقصير، والتّصريحُ بحُكم البشريّة في جواز الخطأ [4]
المراجع
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (ص 166).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107).
- رواه البخاريُّ (791).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 280، 281).
28- حديث المسيءِ صلاتَه حديث عظيم عُنِي به العلماء، أخرجه البخاريُّ ومسلم في صحيحيهما، والإمام أحمد في مسنده، وأصحاب السنن الأربعة، وغيرهم من أصحاب الصحاح، والمسانيد، والمصنَّفات، والمعاجم، والآثار، وقد رُوي من حديث صحابيَّين جليلين، هما أبو هريرة، ورفاعة بن رافع الأنصاريُّ رضي الله عنهما.
229- روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه - أكثرُ من ثمانمائةٍ، ما بين صحابيٍّ وتابعيٍّ، وله خمسةُ آلافِ حديث وثلاثُمِائةٍ وأربعةٌ وسبعونَ حديثًا، اتَّفَق البخاريُّ ومسلم منها على ثَلاثمِائة، وانفرد البخاريُّ بثلاثةٍ وسبعين[1]
المراجع
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 72).
في الحديث بيان أنه ما من أحدٍ، إلا سيُلاقي ربَّه يوم القيامة وحدَه
قال تعالى:
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا
[مريم: 95]
ويَقِف بين يدي ربِّه فيُخاطبه ويكلِّمه بدون واسطةٍ، ولا حجابٍ يَحجِزه.
كل إنسان مرهونٌ بعمله
قال تعالى:
كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ
[الطور: 21]
وقال:
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ
[الانشقاق: 6]
فسيُجازيه الله على عمله يومَ القيامة، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ.
في الحديث الحثُّ على الصدقة ولو بالقليل.
في الحديث عدم احتقار القليل من المعروف، أو الصدقة، أو القول الطيِّب.
في الحديث أن الصدقة وإن قَلَّت فهي سبب للنجاة من النار.
في الحديث أن الكلمة الطيّبة سبب للنجاة من النار.
في الحديث أن الكلمة الطيبة صدقة كصدقة المال.
عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،
قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأشْهَادُ: هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]»
[1].
عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضى الله عنه،
قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ:
«لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»
[2]
جَاءَ سَائِلٌ إِلَى بَابِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: "أَطْعِمِيهِ"، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ لَهَا: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا أُطْعِمُهُ، قَالَتْ: "ارْجِعِي فَابْتَغِي لَهُ"، فَرَجَعَتْ فَوَجَدتْ تَمْرَةً فَأَتَتْ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَعْطِيهِ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ إِنْ تُقُبِّلَتْ"[3].
إذا كانت الكلمة الطيبة يُتَّقى بها النار، فالكلمة الخبيثة تُستوجَب بها النار.
الكلام الطيِّب مندوبٌ إليه، وهو من جليل أفعال البِرِّ؛ لأن النبيَّ ﷺ جعله كالصدقة بالمال.
الكلمة الطيِّبة تُذهب الشحناء، وتُجلِي السخيمة
كما قال تعالى:
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ
[فصلت: ٣٤]
والدفع بالتي هي أحسنُ قد يكون بالقَوْلِ كما يكون بالفعل[4].
نَظَرُ اليمين والشمال في الحديث كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالاً يطلب الغَوث[5]. وقد يكون سببُ الالتفات أنه يترجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها للنجاة من النار[6].
الكلمةُ الطيِّبة تَشمَل: التسبيحَ، والتهليلَ، والتكبيرَ، وذِكْرَ الله عمومًا، وأفضلُ الذكر: قراءةُ القرآن، وتَشمَل كذلك: الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن الْمُنكَر، وتعلُّم العلم وتعليمه، وتَشمَل كذلك: كلَّ ما يتقرَّب به الإنسان إلى ربِّه من القول؛ كنصيحة، أو كلمة حقٍّ، أو جبر خاطر، أو غير ذلك من طيِّب الأقوال.
المراجع
- رواه البخاريُّ (2441)، ومسلم (2768).
- رواه مسلم (2626).
- رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3190).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 225).
- "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (9/ 314).
- "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (9/ 314).
جعل الله النار من نصيب الكفَّار والعصاة من خلقه
قال تعالى:
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
[آل عمران: 131].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا»
[1].
في الحديث بيان صفة من صفات جهنم، وهي أن نار الدنيا «جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»؛ أي: شدَّة حرارة النار التي يُشعِلها الإنسان في الدنيا، ما هي إلا جزءٌ صغير من سبعين جزءًا من نار الآخرة. وقيل: يعني: أنه لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكانت جزءًا من أجزاء جهنَّم المذكورة[2].
كان النبيُّ ﷺ يستعيذ من حرِّ جهنَّمَ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ رضى الله عنه يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[3].
تخصيص العدد بسبعين غيرُ مراد؛ وإنما المراد المبالغة في الكثرة وشدَّة الحرِّ، ففي رواية لأحمد في مسنده: «هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ»[4]، "والجمع بين الروايتين بأن المراد المبالغةُ في الكثرةِ، لا العدد الخاصُّ، أو الحكم للزائد"[5].
قال مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْذر: لَمَّا خُلقت النَّار، فَزِعت الْمَلَائِكَة وطارت أفئدتهم، وَلَمَّا خُلق آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - سَكَن ذَلِك عَنْهُم[6].
قَالَ مَيْمُونُ بنُ مهْرَان: لَمَّا خلق الله جَهَنَّم، أمرهَا فزفرت زفرَة، فَلم يبْقَ فِي السَّمَوَات السَّبع مَلَكٌ إلَّا خَرَّ على وَجهه، فَقَالَ لَهُم الربُّ: ارفعوا رؤوسكم، أما علمْتُم أَنِّي خلقتكم للطاعة، وَهَذِه خلقتها لأهل الْمعْصِيَة؟ قَالُوا: رَبَّنا لَا نأمنها حَتَّى نرى أَهلهَا؛ فَذَلِك
قَوْله تَعَالَى:
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
[الأنبياء: ٢٨][7].
قد تكاثرت الأحاديث في أن البكاء من خشية الله مقتضٍ للنجاة من النار، والبكاء من نار جهنَّم هو البكاء من خشية الله؛ لأنّه بكاءٌ من خشية عقاب الله وسَخَطه، والبُعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته[8].
المراجع
- رواه مسلم (2844).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 187).
- رواه النسائيُّ (5520)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
- رواه أحمد (8921)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (7006).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (6/ 334).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (4/ 143).
1- سورة الفاتحة فيها للّه الحمدُ، فله الحمد في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤالُ، وفيها العبادة للّه وحده، وللعبد الاستعانة، فحقُّ الرّبِّ حمدُه وعبادته وحدَه، وهذان حمد الرّبِّ وتوحيده، يدور عليهما جميع الدّين [1]
2- يمكن أن نستخرجَ من هذه السورة علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة [2]
3- أمُّ القرآن اسم الفاتحة، وسمِّيت أمَّ القرآن لأنّها فاتحته، كما سمِّيت مكَّةُ أمَّ القرى؛ لأنّها أصلها [3]
4- الفاتحة هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السّبع المثاني والقرآنُ العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي عن غيرها، ولا يكفي غيرها عنها [4]
5- المراد بالصلاة في قوله تعالى: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ»: الْفَاتِحَةُ، سمّيِت بذلك لأنّها لا تصحُّ إلّا بها؛ كقوله ﷺ: «الحجُّ عَرَفةُ»، ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصّلاة [5]
6- معنى القسمة هنا: من جهة المعاني؛ لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده، والثناء عليه وتوحيده، والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه، وسؤاله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك [6]
7. «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» قيل: إنها تجمع سرَّ الكتب المنزَّلة من السماء كلِّها؛ لأن الخلق إنما خُلقوا ليؤمروا بالعبادة؛
كما قالَ:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: ٥٦]،
وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده" [7]
8. «صراط الذين أنعمت عليهم»: وهم الأنبياء وأتباعهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين، فمن استقام على هذا الصراط، حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سَيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتَّبِعه كاليهود، أو ضالٌّ عن طريق الهدى؛ كالنصارى، ونحوِهم من المشركين [8]
9- إذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»، وحينئذ تؤمِّن الملائكة على دعاء المصلِّي، فيُشرَع للمصلِّين موافقتهم في التأمين معهم؛ فالتأمين مما يستجاب به الدعاء [9]
10- الرّبُّ سبحانه له نصف الثّناء والخير، والعبد له نصف الدّعاء والطّلب، وهاتان جامعتان ما للرّبِّ سبحانه وما للعبد، فإيّاك نعبد للرّبِّ، وإيّاك نستعين للعبد [10]. العبادةُ هي الغاية التي خَلَق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه؛
كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]،
وبها أَرسَل الرّسل، وأَنزَل الكُتب، وهي اسم يجمع كمال الحبِّ للّه ونهايته، وكمال الذّلِّ للّه ونهايته؛ فالحبُّ الخليُّ عن ذُلٍّ، والذّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادةُ ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلّا للّه، وهي
11- وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 101).
- "مجموع الفتاوى" (14/5).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 112).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 19).