1. في الحديث عناية الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم – بكلام النبيِّ ﷺ أخذًا وحفظًا وتبليغًا، وهذا يدلُّ على فضلهم ونُبلهم ، وأنهم اجتهدوا في معرفة ما جاء عن رسول الله ﷺ وحفظه وتبليغه للناس. 

  2. في الحديث بيان عِظَم ومنزلة الذكر؛ لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى اللَّه تعالى، والمنع، والإعطاء، وتمام القدرة.

  3. «اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»: ذلك نظيرُ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

    «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الاقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»

    [1].

  4. في الحديث بيان أنه لا ينفع الإنسانَ إلا عملُه الصالح، «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ»؛ فلا ينفع صاحبَ الحظِّ حظُّه، ولا صاحبَ الغنى غِناه

    وهذا كقوله تعالى:

    { وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}

    [سبأ:37]

    وقوله:

    {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}

    [الشعراء:88][2].

  5. في الحديث النهي عن القيل والقال، وعن الإكثار من الكلام والإرجاف؛ نحو قول الناس: أَعطَى فلانٌ كذا ومَنَع كذا، والخوض فيما لا يَعني[3]، وعن فضول ما يتحدَّث بِهِ المتجالِسون، من قَوْلهم: قيل كَذَا، وَقَالَ فلَان كَذَا[4].

  6. في الحديث النهيُ عن «كَثْرَة السُّؤَالِ»: قيل: هي مسألةُ الناس أموالَهم، وقيل: كثرة البحث عن أخبار الناس وما لا يَعني، وقيل: يُحتمَل كثرة سؤال النبيِّ ﷺ عما لم يَأذَن فيه

    قال الله تعالى:

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}

    [المائدة: 101]

    وقيل: يُحتمَل النهيُ عن التنطُّع والسؤال عمَّا لم ينزل من المسائل، ويُحتمَل كثرة السؤال للناس عن أحوالهم حتى يدخل الحرج عليهم فيما يريدون سَتْرَه منها[5]. 

  7. قال مالك: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؛ فقد كَرِه رسول الله المسائل وعابَها، أو هو مسألة الناس أموالهم؟[6].

  8. قال ﷺ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[7]؛ فإذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا

    وقد قال الله تعالى:

     مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ

    [ق: 18][8].

  9. السكوت غنيمةٌ إذا كان الكلام مُفْضِيًا إلى معصية أو إثم محقَّق، فلربما كلمة ارتقت بصاحبها في درجات الجنة، وأخرى أَوْدَت بصاحبها إلى دركات النار؛

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

    «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»

    [9].

  10. الصمتُ نجاةٌ للعبد من المهالك؛

    عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ ﷺ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا»

    [10].

  11. في الحديث التحرِّي عن صرف المال في الطريق الحلال، والحثُّ على إنفاق المال في وجوه الخير، وذمُّ المبذِّرين والمضيِّعين والمسرِفين أموالهم في غير مصارفها المستحقَّة.

  12. «إِضَاعَة المَالِ»: حَمَله الأكثر على الإسراف في الإنفاق، وقيَّده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أُنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءٌ كانت دينيةً أو دنيوية، فمُنِع منه؛ لأنَّ الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتٌ تلك المصالح، إما في حقِّ مضيِّعها، وإما في حقِّ غيره، ويُستثنى من ذلك كثرةُ إنفاقه في وجوه البرِّ؛ لتحصيل ثواب الآخرة، ما لَمْ يفوِّت حقًّا أُخرويًا أهمَّ منه[11].

  13. في الحديث النهيُ عن الإساءة إلى الأمَّهات، وعدم الإحسان إليهن، وإيذائهن؛ وذلك لعظم حقَّهن على الأبناء.

  14. «وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ» قيل: خصَّ الأمَّهاتِ بالذكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، وليُنَبِّه على أن بِرَّ الأمِّ مقدَّم على بِرِّ الأب في التلطُّف والحُنوِّ، ونحوِ ذلك[12].

  15. «وَوَأْدِ البَنَاتِ»؛ أي: دفَنْهن أحياءً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهةً فيهن

    قال تعالى:

    { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ }

    [النحل: 58].

  16. «وَمَنْعٍ وَهَاتِ»؛ أي: حرَّم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وطَلَب ما ليس لكم أخذه، وقيل: نهيٌ عن منع الواجب من ماله، وأقواله، وأفعاله، وأخلاقه، من الحقوق اللازمة فيها، ونهيٌ عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق، وتكليفه إيَّاهم بالقيام بما لا يجب عليهم، وهذا من أسمج الخلال[13].

المراجع

  1. رواه الترمذيُّ (2516)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه عبد الحقِّ في "الأحكام الوسطى" (4/ 285)، والألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1317).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (7/ 417).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 531).
  4. "الفائق في غريب الحديث والأثر" للزمخشريِّ (3/ 231).
  5. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 201).
  6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 531).
  7. رواه البخاريُّ (6019)، ومسلم (48).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
  9. رواه البخاريُّ (6478)، ومسلم (2988).
  10. رواه أحمد (6481) والترمذيُّ (2501)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2874).
  11. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 408).
  12. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (5/ 68).
  13. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3157).

1. في الحديث يمثِّل النبيُّ ﷺ الذِّكْرَ بالرُّوح حيثما حلَّت تهب الحياة، حتى إنها تُحيي الجمادَ كالبيت، لا الأبدان فقط؛ فالذِّكْرُ حياةُ القلب كما أن الروحَ حياة الجسد.

2. شبَّه ﷺ حالة البيت الذي يُذكر الله فيه بالإنسان الحيِّ، الذي يتمتَّع بروحه، ويبتهج ويَسعَد، ويَضِجُّ بالحياة والحركة، والسعادة والبهجة، وشبَّه حالة البيت الذي لا يُذكَر الله تعالى فيه بحالة الميِّت، ساكنِ الحركة، لا رُوح فيه، ولا يَقترِب أحد منه؛ بل يستوحشون منه، ويَهرُبون من دخوله.

3. كلَّما غَفَل الإنسان عن ذِكر اللهِ - عزَّ وجلَّ - فإنه يقسو قلبه، وربما يموت قلبه[1].

4. الذي يوصَف بالحياة والموت حقيقةً هو السَّاكنُ لا السَّكَنُ، وأن إطلاق الحَيِّ والمَيِّت في وصف البيت إِنَّما يُراد به ساكنُ البيت، فشَبَّه الذاكرَ بِالْحَيِّ الذي ظاهرُه مُتزيِّنٌ بنور الحياة، وباطنُه بنور المعرفة، وغيرَ الذاكر بالبيت الذي ظاهرُه عاطلٌ، وباطنُه باطلٌ[2].

5. مَوقعُ التشبيه بِالْحَيِّ والميِّت لِما في الْحَيِّ من النفع لمن يُواليه، والضُّرِّ لمن يُعاديه، وليس ذلك في المَيِّت[3].

6. الذكرُ هو استحضار القلب لعظمة الله، وللخوف من اليوم الآخر، وجَرَيان اللسان بالثناء على الله تعالى بما ثبت شرعًا من أسمائه أو صفاته، أو بطَلَب غُفرانه وفضله.

7. للذكر معنًى أشمل وأعمُّ؛ حيث يَشمَل كلَّ عمل صالح؛ من صلاة وزكاة وسُنن وطَلَب عِلم وذِكر أحوال، وذِكر مُطلَق وذكر مقيَّد.

8. أمر الله تعالى في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه بالذكر

مثل قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً}

[الأحزاب: 41]

وقوله:

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}

[البقرة: 152]

9. مدح الله تعالى الذاكرين في قوله:

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

وأمر به نبيَّه ﷺ في قوله:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} 

[الأعراف: ٢٠٥]

10. المراد بالذكر: الإتيانُ بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثارُ منها؛ مثل: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وما يَلتحِق بها من الْحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة.

11. قد يُطْلَق ذكرُ اللَّه، ويراد به المواظبَةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومُدارسة العلم، والتنفُّل بالصلاة[4].

12. يقع الذكرُ تارةً باللسان، ويؤجَر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترَط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب، فهو أكملُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفيِ النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأخلص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال[5].

13. الذِّكْرُ لَذَّةُ قلوب العارفين

قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

[الرعد: 28]

14.

قال رسول الله ﷺ:

«ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم، ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذكرُ اللهِ»[6].

15.

قال الله تعالى في الحديث القدسيِّ:

«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[7]. 

16.

قال رجل: يا رسولَ الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: «لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»[8].

17. الذكر عبادةٌ سهلةٌ يسيرة، لا تحتاج إلى تهيئة كحاجة الصلاة للتهيئة بالوضوء، ولا تحتاج إلى هيئة معيَّنة مثل حركات الصلاة، فالذكر يكون على كلِّ حال، قيامًا أو قعودًا أو على جَنْب

كما في قوله تعالى:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}

[آل عمران: 190، 191]

18. فوائدُ الذكر دنيويًّا وأُخرويًّا كثيرة جدًّا، يجمعها أنه - على اختصاص كلِّ ذكرٍ بفضلٍ - يُشعِر بالصلة القويَّة بالله تعالى وبمعيَّته، ومقرِّبٌ من الله، ومريحٌ للنَّفْس، ونافعٌ للبدن، وجالبٌ لكلِّ خيرٍ، وحافظٌ من كلِّ شرٍّ، ورافعٌ للدرجات، وماحٍ للسيِّئات.

19. من فوائد الذكر أنه: يَطرُد الشيطان ويقمعه ويكسره، ويُرضي الرحمن عزَّ وجلَّ، ويُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب، ويَجلِب للقلب الفرح والسرور، ويقوِّي القلب والبدن، وينوِّر الوجه والقلب، ويَجلِب الرزق، ويكسو الذاكرَ الْمَهابةَ والحلاوة والنَّضرة، وينال الذاكرُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ، ويُورِث الذاكرَ المراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، وغير ذلك كثير[9].

20. ذِكْرُ الله متنوِّعٌ؛ فقد يكون مُطلَقًا يَجُوز في كلِّ وقت؛ مثل: قراءة القرآن، وهو أفضلُ الذِّكر، وفيه بكلِّ حرف حسنةٌ، والحسنةُ بعشْرِ أمثالها، ومثل التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، والثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته.

21. هناك أذكار مقيَّدة بأحوال خاصة؛ مثل: ذِكْرِ دخول المسجد والخروج منه، والذِّكْرِ بعد الصلاة، وذِكر دخول البيت والخروجِ منه، وذكر النوم، وذكر الاستيقاظ من النوم، وذكر النَّظَر في الْمِرآة، وذكر لُبس الثوب، وذكر بَدء الطعام، وذكر الفراغ من الطعام، وذكر شُرب الماء، وذكر رؤية الهلال، وذكر طلوع الأماكن المرتفعة، وذكر النُّزول من الأماكن المرتفعة، وذكر دخول الخلاء، وذكر الخروج منه، وغيرها من أذكار الأحوال.

22. للذكر آداب، منها: إخلاصُ النيَّة الذي هو شرطُ قَبول كلِّ عمل، والحرصُ على حضور القلب، ويُستحبُّ الوضوء ونظافة المكان، واستقبال القِبلة إن تهيَّأ.

23. يمكِن للذاكر أن يَقطَع الذكرَ لترديد الأذان، أو لإرشاد الضالِّ عن الطريق، أو لردِّ السلام، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ثم يعود إلى ذكره.

24. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنّعماء والإحسان والأيادي[10].

25. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة[11].

26. في الحديث النَّدْبُ إلى ذكر اللَّه تعالى في البيت، وأنه لا يُخْلَى من الذِّكر[12].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 517).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
  4. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  5. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  6. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
  7. رواه مسلم (2675).
  8. رواه أحمد (18167)، وابن ماجه (3793)، والترمذيُّ (3375)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1491).
  9. جمع الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه "الوابل الصيِّب" أكثرَ من سبعين فائدةً للذِّكر، فارجع إليه.
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
  11. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
  12. "شرح النوويِّ على مسلم" (6/ 68).


1. هذا الحديث فيه حرصُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير، وسؤالهم عن أمور الدين، وعن الأمور الجامعة التي يحصِّلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقَّة فيها؛ بل عَمَلها يسير، وفضلها كبير، وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى.

2. لم يَترُكِ النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا ودلَّ أمَّته عليه، ورغَّبها فيه، ولم يَترُك بابًا من أبواب الشرِّ إلا وحذَّر منه.

3. الذكرُ هو استحضار القلب لعظمة الله، وللخوف من اليوم الآخر، وجَرَيان اللسان بالثناء على الله تعالى بما ثبت شرعًا من أسمائه أو صفاته، أو بطَلَب غُفرانه وفضله.

4. إن ذِكْرَ الله عزَّ وجلَّ من أجلِّ القربات، وأحبِّ العبادات إلى ربِّ البريَّات، فيه حياةُ القلب، وطُمأنينة النفس، وراحة البال، هو جنَّة المؤمنين، ونور الصادقين، وطريق السالكين، لم يَزَلِ الله يَأمُر به عباده تَزْكيةً لقلوبهم، وتثبيتًا لإيمانهم، ورِفعةً في درجاتهم.

5. الظاهر أن المراد بشرائع الإسلام في الحديث النوافل؛ إذ لا يُتصوَّر أن يكون الكلام على الفرائض؛ أي: يا رسول الله، إن النوافل قد كَثُرَت عليَّ، حتى عَجَزْتُ عن القيام بها كلِّها.

6. في الحديث إرشاد النبيِّ ﷺ إلى المداومة على ذكر الله عزَّ وجلَّ بالليل والنهار؛ لسهولة الذكر، ومنافعه العظيمة، وثوابه الكبير.

7. رطوبة اللسان عبارةٌ عن سهولة جَرَيانه، كما أن يَبَسه عبارةٌ عن ضدِّه، ثم إنَّ جريان اللِّسان حينئذٍ عبارةٌ عن مُداومة الذكر قبل ذلك، فكأنَّه قيل: دَاوِمْ الذِّكر[1].

8. أمر الله تعالى المؤمنين بالإكثار من ذكره

فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}

[الأحزاب:41]

9. ذِكْرُ الله تعالى سببٌ لغُفران الذنوب، والأجرِ الكبير

قال تعالى:

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

10. ذِكْرُ الله عزَّ وجلَّ من أحبِّ الأعمال إليه، وأرفعها في الدرجات، وأفضلُ من صَدَقة الذهب والفضة؛ فعن أبي الدرداء قال:

قال رسول الله ﷺ:

«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُم؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»[2].

11. كثرة ذكر الله تعالى سببٌ من أسباب التيسير والتوفيق، والفلاح في الدنيا والآخرة

قال تعالى:

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

[الأنفال: 45]

12. ذِكْرُ الله عزَّ وجلَّ هو الغنيمة الباردة، التي تُدخِل صاحبها الجنَّة بلا تعب أو مشقَّة، يَقدِر كلُّ إنسان على الإتيان بها في أيِّ وقت، وعلى كلِّ حال

قال تعالى:

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}

[آل عمران: 191]

13. ذِكْرُ الله تعالى مِنحةٌ للفقراء الصالحين

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَا، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ»، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ»[3].

14. ذِكْرُ الله طمأنينة للقلب، وسكينة للنفس

قال تعالى:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

[الرعد: 28]

15. ذكر الله تعالى فرق بين القلب الحيِّ والقلب الميِّت؛ ففيه حياة القلب، وراحة البال؛ فعن أبي موسى الأشعريِّ، قال:

قال رسول الله ﷺ:

«مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»[4].

16. لذكرِ الله لذَّةٌ لا يُدانيها لذَّةٌ؛ فما تلذَّذ المتلذِّذون بمثلِ ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مُؤْنةً منه، ولا أعظمَ لذَّةً، ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب.

17. البُعْدُ عن ذكر الله عزَّ وجلَّ من أسباب قسوة القلب، وما أُذِيبت القلوب القاسية بمثل ذكر الله تعالى؛ قال رجل للحسن البصريِّ رحمه الله: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أَذِبْه بالذِّكْر.

18. حذَّرَ الله تبارك وتعالى من ترك الذكر

فقال تعالى:

{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}

[الزمر: 22]

أي: فالعذابُ الشديد لمن جَفَت قلوبهم، وأَعرَضت عن ذكر الله عزَّ وجلَّ.

19. أفضلُ الذكر على الإطلاق قراءة القرآن الكريم؛ قال سفيان الثَّوريُّ رحمه الله: سمعنا أنَّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به.

20. خيرُ ما ينبغي للعبد أن يَذكُر به ربَّه، مُدَاومة النظر في كتابه، وتعاهده، وفَهم معانيه، ولا شيء أرغبُ في ذكر الله على الدوام من ذكر الله للعبد إذا ذكره

قال تعالى:

{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}

[البقرة: 152]

فإن لم يكن لهؤلاء الذاكرين شرفٌ إلا أن الله يَذكُرهم، لكَفَاهم.

21. عن أبي هريرة، قال:

قال رسول الله ﷺ:

«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[5].

22. للذكر معنًى أشمل وأعمُّ؛ حيث يَشمَل كلَّ عمل صالح؛ من صلاة وزكاة وسُنن وطَلَب عِلم وذِكر أحوال، وذِكر مُطلَق وذكر مقيَّد.

23. مَدَح الله تعالى الذاكرين في قوله:

{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

وأمر به نبيَّه ﷺ في قوله:

{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}

[الأعراف: 205]

24. المراد بالذكر: الإتيانُ بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثارُ منها؛ كالْحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة.

25. قد يُطْلَق ذكرُ اللَّه، ويُراد به المواظبَةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومُدارسة العلم، والتنفُّل بالصلاة[6].

26. يقع الذكرُ تارةً باللسان، ويؤجَر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترَط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب، فهو أكملُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفيِ النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأخلص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال[7].

27. الذكر عبادةٌ سهلةٌ يسيرة، لا تحتاج إلى تهيئة كحاجة الصلاة للتهيئة بالوضوء، ولا تحتاج إلى هيئة معيَّنة مثل حركات الصلاة، فالذكر يكون على كلِّ حال، قيامًا أو قعودًا أو على جَنْب

كما في قوله تعالى:

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}

[آل عمران: 190، 191]

28. فوائدُ الذكر دنيويًّا وأُخرويًّا كثيرة جدًّا، يجمعها أنه - على اختصاص كلِّ ذكرٍ بفضلٍ - يُشعِر بالصلة القويَّة بالله تعالى وبمعيَّته، ومقرِّبٌ من الله، ومريحٌ للنَّفْس، ونافعٌ للبدن، وجالبٌ لكلِّ خيرٍ، وحافظٌ من كلِّ شرٍّ، ورافعٌ للدرجات، وماحٍ للسيِّئات.

29. من فوائد الذكر: يَطرُد الشيطان ويقمعه ويكسره، يُرضي الرحمن عزَّ وجلَّ، يُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب، يَجلِب للقلب الفرح والسرور، يقوِّي القلب والبدن، ينوِّر الوجه والقلب، يَجلِب الرزق، يكسو الذاكرَ الْمَهابةَ والحلاوة والنَّضرة، ينال الذاكرُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ، يُورِث الذاكرَ المراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، وغير ذلك كثير[8].

30. ذِكْرُ الله متنوِّعٌ؛ فقد يكون مُطلَقًا يَجُوز في كلِّ وقت؛ مثل: قراءة القرآن، وهو أفضلُ الذِّكر، وفيه بكلِّ حرف حسنةٌ، والحسنةُ بعشْرِ أمثالها، ومثل التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، والثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته.

31. هناك أذكار مقيَّدة بأحوال خاصة؛ مثل: ذِكْرِ دخول المسجد والخروج منه، والذِّكْرِ بعد الصلاة، وذِكر دخول البيت والخروجِ منه، وذكر النوم، وذكر الاستيقاظ من النوم، وذكر النَّظَر في الْمِرآة، وذكر لُبس الثوب، وذكر بَدء الطعام، وذكر الفراغ من الطعام، وذكر شُرب الماء، وذكر رؤية الهلال، وذكر طلوع الأماكن المرتفعة، وذكر النُّزول من الأماكن المرتفعة، وذكر دخول الخلاء، وذكر الخروج منه، وغيرها من أذكار الأحوال.

32. للذكر آداب، منها: إخلاصُ النيَّة الذي هو شرطُ قَبول كلِّ عمل، والحرصُ على حضور القلب، ويُستحبُّ الوضوء ونظافة المكان، واستقبال القِبلة إن تهيَّأ.

33. يمكِن للذاكر أن يَقطَع الذكرَ لترديد الأذان، أو لإرشاد الضالِّ عن الطريق، أو لردِّ السلام، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ثم يعود إلى ذكره.

34. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنّعماء والإحسان والأيادي[9].

35. الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة[10].

36. من أوضح صفات الإيمان وشُعبه وأفضلِها: ذكرُ الله تعالى؛ فهو حياة قلب المؤمن؛ بل إن الله تعالى حَصَر الإيمان وقَصَره على بعض الصفات، أوَّلُها الذين تَجِل قلوبهم عند ذكر الله وآياته

قال تعالى:

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

[الأنفال: ٢]

37. أَحَدُ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»

38. رغم أن الذكر سهلٌ يسير، فإنه لا يتأتَّى إلا لمن كان قلبُه عامرًا بالإيمان، ولا يوفَّق لذكر الله تعالى إلَّا قلبٌ عامر بالإيمان.

39. لابدَّ أن يناجيَ القلبُ ربَّه، ما بين تضرُّع لله، وثناءٍ، وتملُّق، واستعظام، وغيرها من أنواع المناجاة بالقلب الحيِّ، وهذا شأن كلِّ محبٍّ وحبيبه.

40. هذه هي القلوب الحيَّة التي وصفها الله تعالى بقوله:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

 [الرعد: ٢٨]

قلوب تطمئنُّ بذكر الله وتَأنَس به، وبصِلَتها بالله تعالى، والأُنس بجواره، والأمن في جَنَابِه وفي حِماه، لا تَسْتَوْحِش الطريق، ولا يُصيبها الحَيرة والوَحْدةُ والقَلق.

41. إذا كانت الروح في البَدَن حياةً، وغِيابُها موتًا، فكذلك الذكر، يُحيي ما يَحُلُّ به، جمادًا كان أو إنسانًا، بيتًا كان أو قلبًا؛ فيا لقساوة القلب الغافل! إنه لَقلبٌ ميت.

42. قلوب الذاكرين تَأنَس وتطمئنُّ بالله، وبمعرفته، وبحكمتِه، ورحمتِه، لا تخشى ما يصيبها من ضُرٍّ أو شَرٍّ لا تُدرك حكمته؛ بل هي مطمئنَّة بذكر الله، وبحمايته، فتصبر على البلاء؛ بل ترضى بما يُصيبها، وتدرك أنه الخير؛

{اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}

43. شَرَع النبيُّ ﷺ لأمَّته من الأذكار ما يملأ وقتهم، ويحصِّنهم بها من سوء القضاء، ويَرفَع بها الدرجات، ويهيِّئُهم للعبادات، فلا تكاد تَجِدُ وقتًا من الأوقات، ولا حالاً من الأحوال، إلا وفيه ذكر مأثور عن النبيِّ ﷺ، ففي الصباح أذكار معلومة، وفي المساء أوراد مخصوصة، وعند الدخول إلى المنزل والخروج منه، وعند لُبس الثياب، وعند النظر في المرآة، وعند صعود مكان مرتفع أو النزول منه، وغير ذلك من الأوقات والأحوال.

المراجع

  1. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 829).
  2. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
  3. رواه البخاريُّ (843)، ومسلم (595).
  4. رواه البخاريُّ (6407)، ومسلم (779).
  5. رواه مسلم (2675).
  6. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  7. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
  8. جمع الإمام ابن القيم في كتابه "الوابل الصيِّب" أكثرَ من سبعين فائدةً للذِّكر، فارجع إليه.
  9. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).



1- إن الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات.

2- الطهارة سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ﴾ 

[البقرة: 222].

3- هذا الحديث عظيمٌ، وهو أصلٌ من أصول الطّهارة، ومشتمِل على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّةٍ .[1] قال الشّافعيُّ: "هذا الحديث نصف علم الطَّهارة[2]"

4- لَمْ يُجِبْهُمْ ﷺ بنعم حين قالوا: (أفنتوضَّأ به؟)؛ لأنّه يَصِير مقيَّدًا بحال الضَّرورة، وليس كذلك، وأيضًا فإنّه يُفهَم من الاقتصار على الجواب بنعم أنّه إنّما يُتوضَّأ به فقط، ولا يُتطهَّر به لبقيَّة الأحداث والأنجاس[3]

5- من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثرَ ممَّا سُئل عنه؛ تَتْمِيمًا للفائدة، وإفادةً لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكَّد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحُكم؛ كما في هذا الحديث، لَمَّا عَرَف ﷺ اشتباه الأمر على السَّائل في ماء البحر، أَشفَق أن يَشتبِه عليه حُكم مَيْتَته، وقد يُبتلى بها راكب البحر، فعقَّب الجوابَ عن سؤاله ببيان حُكم الْمَيتة؛ وذلك لأنَّ من توقَّف في طُهوريَّة ماء البحر، فهو عن العِلم بحِلِّ مَيْتَته مع تقدُّم تحريم الْمَيتة أشدُّ توقُّفًا[4]

المراجع

  1.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
  3.  "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
  4.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20، 21).

  1. في الحديث جوازُ السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده.

  2. في الحديث أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن[1].

  3. في الحديث الحثُّ والتّرغيب في مجالس العلم.

  4. في الحديث فضلُ العلم وسماعه.

  5. في الحديث تقديم طلب العلم على طلب المال.

  6. المراد بالبشارة في الحديث أنّ مَن أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه؛ فقد بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما[2].

  7. في الحديث كراهة تعليق الآمال بعاجل الدّنيا الفانية، وتقديم ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل ثواب الآخرة الباقية.

  8. للعلماء قولان في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ[3].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).

1- في الحديث: بيان فضل الوضوء والصّلاة مع الإخلاص والخشوع.

2- جاء الأمر بالوضوء في الكتاب والسنَّة؛

قال تعالى:

  يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚﱠ

[المائدة: 6]

3- في الحديث فضل عثمان - رضي الله عنه - وحرصه على تبليغ الشرع، وتعليم أمور الدّين للناس، حتى وهو خليفة.

4- في الحديث وصف للوضوء الكامل بسُنَنه وتعليمه للناس بالفعل وهو أبلغ من القول.

  1. ي الحديث بيان أن الهدى والضلال بيده سبحانه، وليس للعبد إلا أن يسألَ اللهَ الهدى، ويسير في طريق رِضاه سبحانه حتى يُوفَّق للهدى.

  2. في الحديث إشارة بندائه تعالى: «يَا عِبَادِي» إلى أن جميع الخَلْق عبادُ الله، إما شرعًا وإما قهْرًا، فالمؤمنون عِباد الله الذين استجابوا لأمره، والنداءُ لهم فيه نوعٌ من اللُّطف والإيناس، وأما الكفار فهم مخاطَبون أيضًا بهذا الحديث؛ لدخولهم تحت العبودية لله قهْرًا

    قال تعالى:

    ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾

    [مريم: 93]. 

  3. الظلم نوعانِ؛ أحدهما: ظُلم النفْس، وأَعظَمُه الشِّرك، ثم يَليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائر. والثاني: ظُلم العبد لغيره[1].

  4. في الحديث بيان أنَّ الـعِباد لو تُركوا مع الـعادات، وما تقْتَضيه الطِّباع من الْمَيل إلى الراحات، وإهمال النَّظر الــمؤدِّي إلى الــمعرفة، لغلَبَت عليهم الـعاداتُ والطِّباعُ، فضلُّوا عن الـحقِّ؛ فهذا هو الضلال الــمقصود في الـحديث[2].

  5. في الحديث الأمر بسؤال الـهدى، وهو أن مَن أراد الله تعالى توفيقَه، ألْهمَه إعمالَ الـفِكر الــمؤدِّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول ﷺ، وأعانه على الـوصول إلى ذلك، وعلى الـعمل بمقتضاه[3].

  6. في الحديث قيل: إن الــمقصود بالضلال الـحالُ التي كان الناسُ عليها قبلَ إرسال الرُّسل، من الشِّرك، والـكفر، والـجهالات، وغير ذلك، فأرسل اللهُ إليهم الرُّسلَ ليُزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضَّلال، ويبيِّن لهم مرادَ الـحقِّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم؛ فمَن نبَّهه الـحقُّ  وبصَّره وأعانه، فهو الــمهتدي، ومَن لم يفعل اللهُ به ذلك، بَقِيَ على ذلك الضَّلال[4].

  7. الهدايةُ نوعانِ: هدايةٌ مُجمَلةٌ، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلةٌ للمؤمن. وهدايةٌ مفصَّلةٌ، وهي هدايةٌ إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليْلًا ونهارًا؛ ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كلِّ ركعة من صلاتهم قولَه:

    ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

    [الفاتحة: 6][5].


  8. الهداية نوعان: هداية التوفيق، وهذه لا تُطلَب إلا من الله؛ إذ لا يستطيع أحد أن يهديَك هداية التوفيق إلا الله عزَّ وجلَّ. وهداية الدلالة، وهذه تصحُّ أن تطلبها من غير الله، ممن عنده علم بأن تقول: يا فلانُ، أفتني في كذا؛ أي: اهدني إلى الحقِّ فيه، وقوله: «فَاستَهدُونِي» يشمل الهدايتين: التوفيق والدلالة، فهداية الدلالة تكون باتِّباع الوسائل التي جعلها الله عزّ وجل سببًا للعلم[6].

  9. في الحديث تنبيهٌ على فَقْرنا وعَجْزنا عن جَلْب منافعنا، ودَفْع مَضارِّنا بأنفُسنا إلَّا أن ييسِّرَ الله ذلك لنا، بأن يخلُقَ ذلك لنا، ويُعينَنا عليه، ويصرِف عنَّا ما يضرُّنا[7].

  10. في الحديث إشارة إلى أنه على المسلم أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، قال سبحانه: «وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، فذكَر الذنوبَ بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا»، وإنما قال ذلك قبل أمرِه بالاستغفار في قوله:

    «فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»

     لئلا يَقنطَ أحدٌ من رحمة الله لعِظَم ذنْب ارتكبه[8].

  11. إنَّ توفيةَ جزاء الأعمال يكون في الدنيا والآخرة؛ فالمؤمنُ قد يُؤخَّر له الثوابُ في الآخرة، وقد يُجازى به في الدنيا وفي الآخرة، أو في الآخرة فقطْ. وقد يكونُ الجزاء في الدنيا فقطْ؛ فإن الكافر يُجازى على عملِه الحَسَن في الدنيا لا في الآخرة

    قال الله تعالى:

    ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾

    [الشورى: 20][9].


  12. في قوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار» من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل والنهار في الطاعة؟! فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة[10].

  13. في الحديث تنبيهُ الخلق على أن يعظِّموا المسألة في الدعاء، ويوسِّعوا الطلب؛ فإن ما عند الله لا يَنقُص، وخزائنه لا تَنفَد، فلا يظنَّ ظانٌّ أن ما عند الله يَغِيضه الإنفاق؛ كما قال ﷺ في الحديث الآخر: «يَدُ الله ملأى لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ؛ أرأيتُم ما أنفق منذ خلق السمواتِ والأرضَ؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه»[11].

  14. في قوله: «إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم ثم أوفِّيكم إيَّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله» تنبيهٌ على المؤمن ألا يَسنِد طاعته وعبادته من عمله لنفسه؛ بل يَسنِدها إلى التوفيق، ويَحمَد الله على ذلك.

  15. إن لله عزّ وجل أن يحرِّم على نفسه ما شاء؛ لأن الحُكم إليه، فنحن لا نستطيع أن نحرِّم على الله؛ لكن الله يحرِّم على نفسه ما شاء، كما أنه يوجب على نفسه ما شاء؛ كما

    قال تعالى

    :قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُلْ لِلَّهِ ۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

    [الأنعام: 12][12]. 


  16. إن الله تعالى حرّم الظلم بيننا فقال: «وَجَعَلتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّمًا»، وهذا يشمل ظلم الإنسان نفسَه، وظلم غيره؛ لكن هو في المعنى الثاني أظهر؛ لقوله: «فَلا تَظَالَمُوا»؛ أي: فلا يظلم بعضكم بعضًا، وإلا فمن المعلوم أن الظلم يكون للنفس، ويكون للغير؛

    قال الله تعالى:  

    وَلَٰكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

    [هود: 101][13].


  17. مَدَارُ الظُّلم على النقص

    كما قال الله تعالى:

    كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا

    [الكهف: 33].

    ويدور على أمرين: إما منع واجب للغير؛ كأن تمنع شخصًا من دَين عليك فلا توفِّيه، أو تماطل به، وإما تحميله ما لا يجب عليه؛ كأن تدَّعي عليه دَينًا وتأتي بشهادة زور فيُحكم لك به، فهذا ظلم[14].

  18. في الحديث الحثُّ على طلب العلم؛ لقوله: «كُلُّكُم ضَالٌّ»، ولا شكَّ أن طلب العلم من أفضل الأعمال؛ بل قد قال الإمام أحمدُ - رحمه الله -: العلم لا يَعدِله شيءٌ لمن صحَّت نيَّته، لا سيَّما في هذا الزمن الذي كَثُر فيه الجهل، وكثُر فيه الظنُّ، وأفتى من لا يستحقُّ أن يُفتيَ، فطلبُ العلم في هذا الزمان متأكَّد[15].

  19. قوله: «اسْتَطْعِمُونِي» يشمل سؤال الله عزَّ وجلَّ الطعام، ويشمل السعيَ في الرزق، وابتغاء فضل الله عزَّ وجل؛ كما قال تعالى في سورة الجمعة: 

    فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

    [الجمعة: 10]


    وقال تعالى:

    هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ 

    [الملك: 15]

     وإلا فمن المعلوم أن السماء لا تُمطر ذَهبًا ولا درهمًا ولا خبزًا؛ بل لابدَّ من السعيِ[16].

  20. الأصل في الإنسان العُرْيُ الحسي ُّحتى يَكسوَه الله عزَّ وجلَّ، وقد يُراد به المعنويُّ أيضًا؛ وذلك لأن الإنسان خرج من بطن أمِّه عاريًا، ولا يكسوه إلا الله عزَّ وجلَّ بما قدَّره من الأسباب[17].

  21. من كَرَم الله عزَّ وجلَّ، أنه يَعرِض على عباده بيان حالهم وافتقارهم إليه، ثم يدعوهم إلى دعائه تبارك وتعالى حتى يُزيل عنهم ما فيهم من الفقر والحاجة[18].

  22. الاستغفار يكون على وجهين؛ الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله. والثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سببًا لذلك؛ كقوله ﷺ: «مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةٍ، غُفِرَت خَطَايَاه وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر»[19].

  23. إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، وهذا لمن استغفر؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «فَاسْتَغْفِرُونِي»، أما من لم يستغفر، فإن الصغائر تكون مكفِّرةً بالأعمال الصالحة؛ لقول النبيِّ ﷺ: «الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»[20]، وأما الكبائر، فلابدَّ لها من توبة خاصة، فلا تكفِّرها الأعمال الصالحة، أما الكفر، فلابدَّ له من توبة بالإجماع[21].

  24. الذنوب على ثلاثة أقسام: قسم لابدَّ فيه من توبة بالإجماع، وهو الكفر، والثاني: ما تكفِّره الأعمال الصالحة، وهو الصغائر، والثالث: ما لابدَّ له من توبة، على خلاف في ذلك؛ لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابدَّ لها من توبة[22].

  25. محلُّ التقوى والفجور القلب؛ لقوله: «عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ»، «عَلَى أَفجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحدٍ مِنكُمْ»، ويشهد لهذا قول النبيِّ ﷺ: «أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَة، إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَد كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ»[23]، ويتفرَّع على هذا: أنه يجب علينا أن نعتنيَ بالقلب، وننظر أين ذهب، وأين حلَّ؛ حتى نُطَهِّرهُ ونُصفِّيَه[24].

  26. يَظهَر أن اجتماع الناس في مكان واحد أقربُ إلى الإجابة من تفرُّقهم؛ ولهذا أُمِروا أن يجتمعوا في مسجد واحد في الجمعة، وأن يجتمعوا في مصلَّى العيد، وفي الاستسقاء، وأن يجتمعوا في عرفات في مكان واحد؛ لأن ذلك أقربُ إلى الإجابة[25].

  27. وجوب الحمد لله عزَّ وجلَّ على من وجد خيرًا، وذلك من وجهين؛ الأول: أن الله تعالى يسَّره حتى عَمِله. الثاني: أن الله تعالى أثابه[26].

  28. من تخلَّف عن العمل الصالح ولم يجد الخير، فاللَّوْمُ على نفسه. فإن قال قائل: كيف يكون اللوم على نفسي وأنا لم يقدَّر لي هذا؟ فالجواب: أنك حين فعلتَ المعصية أو تركتَ الواجب، لم تكن تعلم أنه قُدِّر لك هذا، فالعاصي يُقدِم على المعصية وهو لا يعلم أنها كُتبت عليه، إلا إذا عَمِلها، وكذلك تارك الواجب، لا يعلم أنه كُتب عليه ترك الواجب إلا إذا تركه، وإلا فلا يعلم، فاللَّوْمُ عليك، فالرسل بلَّغت، والقرآن حجَّة، ومع ذلك تركتَ هذا كلَّه، فاللَّوْمُ عليك أنت[27].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 36).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 552- 553).
  3. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 552- 553).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 552- 553).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 40).
  6. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 247).
  7. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 554).
  8. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 89).
  9. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص: 242).
  10. "شرح الأربعين النووية" لابنِ دقيقِ العيد (ص: 89).
  11. رواه البخاريُّ (7419)، ومسلم (993).
  12. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 244).
  13. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 245).
  14. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 245).
  15. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 246).
  16. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 247).
  17. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
  18. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
  19. رواه مسلم (2691).
  20. رواه مسلم (233).
  21. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
  22. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
  23. رواه البخاريُّ (52)، ومسلم (1599).
  24. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
  25. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).
  26. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 250).
  27. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 250).

  1. في الحديث أن الله تعالى «يُحبُّ الوِتْر»؛ أَيْ: يُثيب عليه، ويقبله من عامله، وفيه تفضيلُ الوتر في الأعمال وكثيرٍ من الطاعات؛ فجعَلَ – مثلاً - الصلوات خمسًا، والطهارةَ أثلاثًا، والطوافَ سبعًا، والسعيَ سبعًا، وجعَلَ كثيرًا من عظيمِ مخلوقاته وترًا؛ كالسموات والأَرضين وأيَّام الأسبوع وغير ذلك.

  2. الهَدَف من خلق البَشَر وتَسخيرِ كلِّ المخلوقات لهم، هو أن يَعرِفوه ويعبدوه، فاشتغال الإنسان بإحصاء أسماء الله الحسنى والعلم بها اشتغالٌ بما خُلِق له.

  3. إذا عُرفت أسماؤه الحسنى سبحانه وصفاته العُليا تبيَّن مَوطنُ الحكمة في تشريعاته وتحليله وتحريمه، وأن ذلك لا يكون إلَّا وَفْقَ أسمائه وصفاته.

  4. معرفة أسماء الله الحسنى وصفاته العليا تَجعَل الإنسان صابرًا على قضاء الله وقَدَره، وما ساقه للعبد؛ لعلمه بصفات الله تعالى، التي منها العدلُ والرحمة والحِكمة.

  5. السَّيرُ إلى الله تعالى من طريق الأسماء والصفات شأنُه عَجَبٌ، وفتحه عجبٌ! صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مُستلقٍ على فِراشه غيرُ تَعِبٍ ولا مكدودٍ، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه[1]

المراجع

  1. انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص393-394).

{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ} 

[الأعراف: 172]

1. في الحديث إشارةٌ إلى أن الاستغفار له صيغ متنوِّعة، وألفاظ كثيرة، فإذا اقترف العبد ذنبًا، أو وقع في معصية، وأراد الاستغفار، فله أن يستغفر ربَّه بأيِّ لفظ شاء، فيقول: اللهم اغفر لي، أو يقول: أستغفر الله، أو غيرهما. 

2. في الحديث بيان أفضل صيغ الاستغفار على الإطلاق، وأشرفها، وأكثرها نفعًا وثوابًا.

3. جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو[1].

4. في الحديث توجيه وإرشاد إلى أن تُقِرَّ لله عزَّ وجلَّ بلسانك وبقلبك أن الله هو ربُّك المالك لك، المدبِّر لأمرك، المعتني بحالك، وأنت عبده كَوْنًا وشَرْعًا، عبدُه كونًا يفعل بك ما يشاء، إن شاء أمرضك، وإن شاء أصحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّكَ، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته عزَّ وجلَّ، وكذلك أنت عبده شرعًا تتعبَّد له بما أَمَر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه[2].

5. «سيد الاستغفار» لأن السَّيِّد في الأصل: الرئيس الّذي يُقصَد في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، ولَمّا كان هذا الدّعاء جامعًا لمعاني التّوبة كلِّها، استُعير له هذا الاسم، ولا شكَّ أن سيّد القوم أفضلهم، وهذا الدّعاء أيضًا سيد الأدعية، وهو الاستغفار[3].

6. مَا الْحِكْمَة فِي كَونه سيد الاسْتِغْفَار؟ أُجيب بأنه وأمثاله من التعبُّديات، وَالله تعالى أعلم بذلك؛ لَكِن لَا شكَّ أن فِيه ذكرَ الله تعالى بأكمل الأوصاف، وذكر نَفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غايةِ التضرُّع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقُّها إلَّا هو[4].

7. في الحديث بيان أنه ينبغي لكلِّ مؤمن أن يدعوَ الله تعالى أن يُمِيتَه على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى مَن وَفَى بذلك؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ في دعائه بذلك[5].

8. في الحديث توجيه وإرشاد إلى أن تُقِرَّ بأن الله خلقك، هو الذي أَوْجَدك من العَدَم، وأنك على عهده ووعده ما استطعتَ على عهده؛ لأن كل إنسان قد عاهد الله أن يَعمَل بما عَلِم، فمتى أعطاك الله علمًا، فإنه قد عَهِد إليك أن تعمل به.

9. قوله: «وعلى وعدك»؛ أي: تطبيق وعدك، ما وعدتَ أهل الخير من الخير، وما وعدت أهل الشرِّ من الشرِّ؛ ولكن أنا على وعدك في الخير؛ لأنك في هذه الكلمات تتوسَّل إلى الله عزَّ وجلَّ[6].

10. «مَا اسْتَطَعْتُ»: اشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والتقصير عن القيام بحقوق الله، وواجباته عليَّ [7]. فلا أحد يستطيع أن يؤدِّيَ حقَّ الله عليه، ولا شكر نِعَمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى

قال تعالى:

{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}

[النحل: 18]

ولذلك لم يكلِّف الله العباد فوق استطاعتهم

قال تعالى:

{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

[البقرة: 286]

11. إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النِّعَم؛ إذ إن نِعَمَه تعالى كثيرةٌ ولا يُحاط بها

ألا ترى قوله تعالى:

{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}

[لقمان: 20]

فمن يَقدِر مع هذا أن يؤدِّيَ شكر النِّعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟! لكن قد رَفَق الله بعباده، فلم يكلِّفهم من ذلك إلا وُسْعهم، وتجاوز عمَّا فوق ذلك[8].

12. في الحديث إرشاد إلى أن تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ؛ لأن الإنسان يصنع خيرًا فيُثاب، ويَصنَع شرًّا فيُعاقَب، ويَصنَع الشرَّ فيكون سببًا لضلاله

كما قال الله تعالى:

{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}

[المائدة: ٤٩]

فأنت تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ[9].

13. من أراد الله به خيرًا، فَتَح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده[10].

14. على المؤمن أن يَحرِص على حفظ هذا الدعاء، وأن يحافظ عليه صباحًا ومساءً، حتى إذا أدركه الأجل في يومه أو ليلته، كان من أهل الجنَّة.

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717).
  3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
  4. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
  5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 76).
  6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717، 718).
  7. "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (3/ 2237).
  8. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 76).
  9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 718).
  10. "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).



  1. في الحديث أن كلَّ مُشرِك أَسلَم، أنه يُكتَب له أجرُ كلِّ خير عَمِله قبل إسلامه، ولا يُكتَب عليه بشيء من سيِّئاته؛ لأن الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك؛ وإنما كُتِب له الخير؛ لأنه إنما أراد به وجهَ الله؛ لأنهم كانوا مقرِّين بالله، إلَّا أن عِلْمَهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شِركهم، فلمَّا أَسلَموا، تفضَّل الله عليهم، فكَتَب لهم الحسناتِ، ومحا عنهم السيِّئات؛

    كما قال ﷺ:

    «ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمَن بنبيِّه، وآمَن بمحمَّد»

    [1][2]

  2. كان الصحابةُ - رضوان الله عليهم - أحرصَ الناس على مُلازمة النبيِّ ﷺ، والاستفادة من عِلمه، وسؤاله عن الأمور التي تُشكِل عليهم، ولا يَعرِفون لها جوابًا.

  3. مِن رحمةِ الله وإحسانِه إلى عِبادِه: أنَّه إذا عاشَ الإنسانُ في ظُلمات الكُفرِ والضَّلالِ، ثُمَّ امتنَّ اللهُ عليهِ بالهداية وأنارَ بصيرتَه، وآمَن بالله ورسوله، وتاب وأناب وندِم على ما فرَّط - غَفَر الله له ما كان منه قبلَ ذلك، وقَبِله في عباده الصالحين. 

  4. في الحديث بيان فضل هذا الصحابيِّ الجليل، حكيم بن حزام رضي الله عنه، حيث جَبَله الله تعالى على طباع جميلة، وأخلاق حميدة، دعته أخيرًا إلى اعتناق الإسلام، وفي الحديث

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَالَ:

    «النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ، إِذَا فَقُهُوا»

    [2].

  5. كان الصحابيُّ الجليل حكيمُ بنُ حزامٍ رضي الله عنه قبل أن يُسلِم كثيرَ الصَّدقة على الفقراء والمساكين، وكثيرًا ما كان يحرِّر العبيد من مواليهم، ويُعتِقهم لوجه الله تعالى، وكان يَصِل الأرحام، ويَزُور الأقارب ويتفقَّدُهم ويتعاهَدُهم بالسؤال عن أحوالهم، وهذه الأعمال من جملة الأعمال الصالحة التي دعا إليها الإسلام، ورغَّب بها، وجعل عليها الثوابَ الكبير، والأجرَ العظيم

  6. في بعض روايات الحديث: "أنّ حكيمَ بنَ حِزام، أعتق في الجاهليّة مِائةَ رقبةٍ، وحَمَل على مِائة بَعِير، ثمّ أَعتَق في الإسلام مِائة رقبة، وحمل على مِائة بعير".

  7. قال حكيمُ بنُ حِزام رضي الله عنه: "فوالله، لا أَدَعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليّة، إلّا فعلتُ في الإسلام مِثْلَه[3]

  8. إذا أَسلَم الكافرُ، فإنه يُمحى عنه كلُّ سيِّئة؛

    قال تعالى:

    قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ 

    [الأنفال: 38].

  9. عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ ﷺ قال:

    «إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»

    [4].

  10. عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وهو في سَكَرات الموت، قال:

    "فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»

    [5]

  11. ظاهرُ الحديث أن الخير الذي أَسلَفه من أَسلَم كُتِب له؛ إذ تضافرت نصوص الكتاب والسنَّة على تبديل سيِّئات من تاب من العصاة إلى حسنات؛

    قال تعالى:

    إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا

    [الفرقان: 70]

     فمن باب أولى قَبولُ أعمال الكفَّار الذين قَصَدوا بها وجه الله تعالى إذا أَسلَموا.

  12. اتَّفَق العلماء أن الإسلام يهدِم ما كان قبلَه مطلَقًا، يَسْتوي في ذلك الْمَظالِمُ وغيرُها من الذنوب، وكذا الكبيرة والصغيرة[6].

  13. إن فضل الله سبحانه وتعالى على عباده عظيم؛ حيث إنه لا يُضيع أجر من أحسن عملًا، ولو في حال كفره، إذا وفَّقه الله تعالى أخيرًا للإسلام.

  14. من بركات إسلام الكافر: أنه ينال ثمرة الخيرات التي كان يفعلها وهو كافر، فتُحسَب له في حسناته.

  15. هل تُغفَر للكافر الذي أسلم الذّنوبُ الّتي فعلها في حال الكفر ولم يَتُب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان: أحدُهما: يُغفَر له الجميع؛ لإطلاق قوله ﷺ: «الإسلام يهدم ما كان قبله»، مع

    قوله تعالى:

    قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ

    [الأنفال: ٣٨].

    والقول الثّاني: أنّه لا يَستحقُّ أن يُغفر له بالإسلام إلّا ما تاب منه[7]

  16. عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ؛

    أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

    «مَنْ أحْسَن فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، أُخذ بالأول والآخر»

    [8]

المراجع

  1. رواه مسلم (154) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 437).
  3.  رواه البخاريُّ (3383)، ومسلم (2378).
  4. رواه مسلم (123)
  5.  رواه البخاريُّ (41).
  6. رواه مسلم (121).
  7. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 282).
  8. مجموع الفتاوى" (10/ 323).



  1. في الحديث بيانُ أن ما يُرى من أثَر الرحمة من تراحم وتعاطف وخير في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعةٍ وتسعين؟!

  2. في الحديث حثٌّ على الإيمان بالله تعالى واسع الرحمة وواهبها، واتساع الرجاء في رَحَمَاته سبحانه المدَّخَرة[1]

  3. العدد في الحديث قيل فيه: إن المراد بالعدد التكثيرُ، لا النصُّ على العدد بعَينه؛ فرحمة الله لا نهاية لها.

  4. يُحتمَل أن المراد بالأجزاء المِائة أنواعُ الرحمة، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة[2] 

  5. في الحديث بِشارة للمسلمين؛ لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلامُ، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟![3] 

  6. في الحديث ضرَبَ رسولُ اللهِ ﷺ المثلَ بالفرسِ؛ "لأنَّها كانَت أكثرَ الحيوَانات المألُوفةِ التِي يُشاهدُ الناسُ حركتَها معَ ولدِها، ولِما في الفرَسِ مِنَ الِخفَّةِ والسُّرعةِ في التنقُّلِ، ومعَ ذلكَ تَتجنَّبُ أَنْ يصِلَ الضرَرُ مِنهَا إِلى ولدِهَا[4]

المراجع

  1. نظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 433).
  2. فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432)
  3. شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68)
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432) بتصرف يسير.




1- التيمُّم في الشرع: هو القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها[1]

2- التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع[2]

3- التيمُّم خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة؛

فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»

[3]

4- روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ:

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ

[4]

المراجع

  1.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  3.  رواه البخاريُّ (335)، ومسلم (521).
  4.  رواه البخاري (334)، مسلم (367).

5- الحديث دليلٌ على أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء، وعلى أنه تكفي الضربةُ الواحدة للوجه والكفَّينِ جميعًا، وعلى أن محلَّ المسح في التيمُّم هو الوجه والكفَّانِ.

6- التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها مِن العِبادات.

7- التيمُّم رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛ عن ابن عُمَرَ، قال: قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»[1] "واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"[2]

8- اختُلف في (الصَّعِيد)، فقيل: هو التُّرَاب. وقيل: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ. وقيل: الصَّعِيد ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، فيجوز بجميع أجزاء الأرض كالنُّورة والجصِّ والزَّرنيخ والحَشِيش والشَّجر وغيره. ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه[3]

9- في الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ ﷺ عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمل عمَّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له ﷺ الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة.

10- اختلفوا في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار قاضٍ بأنّه لا يَجِب، ومن قال بالضَّربتين قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى[4]

11- أجمع العلماء على ما دلَّ عليه الحديث من مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك[5]

12- إذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره ﷺ للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء[6]

13- التيمُّم الصحيح مثلما

قال الله عزَّ وجلَّ:

  وأن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم ﱠ

[المائدة: ٦]

فالمشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه[7]

14- في الحديث يُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين[8]

15- يقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ ﷺ طهورًا[9]

16- اختُلف في عدد الضّربات في التّيمُّم، فذهب جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم إلى أنّه لا تكفي الضّربة الواحدة وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، وذهب جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث إلى أنّه تكفي الضَّربة الواحدة؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته[10]

17- اختُلف في قدر التيمُّم؛ فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ ﷺ. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم[11]

18- اختُلف في نفخ التّراب، فقيل: هو مندوب. وقيل: لا يُندَب[12]

19- في الحديث من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ ﷺ لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه[13]

المراجع

  1.  رواه أحمد (5866) وغيره، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1059): حسن صحيح.
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  3. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 344).
  4.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140، 141).
  5. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 320).
  6.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 320).
  7.  "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (6/22).
  8.  "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (6/22).
  9. "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (6/22).
  10.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140، 141).
  11.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140، 141).
  12.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 141).
  13.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 223).


  1. في الحديث بيان مَظهَر من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، وفضله على أمَّة محمَّدٍ ، وهو عدم مؤاخذته لعباده بما حدَّثوا به أنفسهم، ما لم تنطق به ألسنتهم، أو تَعمَله جوارحهم.

  2. في الحديث أن الله تعالى رفع الحساب والعقاب عن وساوس الصدر، وخواطر النفس من الشرِّ ما لم يتعدَّ ذلك إلى الفعل.

  3. بُنِيَت الشريعة الإسلامية على رفع الحرج، والتيسير على المؤمنين في العبادات والمعاملات

    قال تعالى:

    { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ }

    [الحج: 78]

    وقال تعالى:

    { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

    [البقرة: 185]

    وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،

    أن النبيَّ ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»

    [1].

  4. راعت الشريعة الإسلامية ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه وأشغاله بالتيسير والتخفيف

    قال تعالى:

    { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}

    [النساء: 28].

  5. تجاوزت الشريعة عن الأخطاء التي قد يقع فيها المسلم دون تعمُّد أو قصد

    قال تعالى:

    {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

    [الأحزاب: 5]. 

  6. عدم المؤاخذة بالخواطر وحديث النفس خَصِيصَةٌ لهذه الأمة، لا يُشاركها فيه غيرها من الأمم.

  7. في الحديث دليلٌ على أن لفظة [حديث] ليست خاصَّةً بحديث اللسان فقط؛ فحديث النفس أيضًا يسمَّى حديثًا.

  8. من لُطف الله بعباده أن ضاعَفَ لهم الحسنات، ولم يضاعف عليهم السيِّئات.

  9. إذا مرَّت الفكرة على خاطر الإنسان دون استقرار، لم يَأثَم، أما لو عَزَم على فعل معصية، وعَقَد النيَّة على ذلك، فيأَثم على نيَّته وعَزْمِه؛

    فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»

    [2].

  10. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ:

    لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: { لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ  ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ  ﷺ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ  رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}  [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ}  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ»  {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ }  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ»  {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] قَالَ:  «نَعَمْ»  

    [3].

  11. الاسترسال مع النّفس في باطل أحاديثها يُصيِّر العبد عازمًا على الفعل، فيُخاف منه الوقوع فيما يَحرُم، فهو الّذي ينبغي أن يُسارِع بقطعه إذا خَطَر[4].

  12. لَمَّا قيل: إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يُوَسْوَسون، قال: وما يصنع الشيطان بقلب خَرِب؟! فاليهود كفَّار، قلوبُهم خَرِبة، فالشيطانُ لا يُوَسْوِس لهم عند صلاتهم؛ لأنها باطلة من أساسها[5].

  13. إذا أحسَّ الإنسان بشي من الوساوس الشيطانية، فإنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولْيَنْتَهِ ويُعرِض عنها ولا يَلتفِت إليها، ويمضي فيما هو عليه، فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى فساد هذا القلب المؤمن الخالص، نَكَص على عَقِبَيْهِ ورجع[6].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (220).
  2. رواه البخاريُّ (6491)، ومسلم (131).
  3. رواه مسلم (125).
  4. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 258، 259).
  5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 324، 325).
  6. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 325).

1. في الحديث الحثُّ على تعلُّم القرآن وتعليمه.

2. في الحديث بيان أن خيرَ الناس، وأفضلَهم، وأعلاهم درجةً عند الله تعالى، مَن أَقبَل على القرآن الكريم، فتَعلَّمه تلاوةً وحِفظًا وعَملاً، فأصبح عالِمًا بمعانيه وأحكامه، ثم أقبل على تعليمه للناس، فيَنال بتعلُّمه درجةَ المتعلِّمين، وبتلقينه درجة العالِمين، فيكون حجَّةً له، لا عليه.

3. الخيرية لصاحب القرآن أن يجمع بين التعلُّم والتعليم، وهذا من أفضل أعمال البِرِّ والخير عند الله تعالى؛ فالجامع بين تعلُّم القرآن وتعليمه جامعٌ بين النفع القاصر على النفس والنفع المتعدِّي للغير، وبذلك ينال صاحب القرآن العاملُ به الدرجةَ العالية عند الله تعالى.

4.

قال تعالى:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

[فصلت: 33]

والدُّعاءُ إلى اللَّه يَقَعُ بأمور شتَّى، مِن جُمْلتها تعليمُ القرآن، وهو أَشْرَفُ الجميع[1].

5. في الحديث دليل على أن قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ حيث إن مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه أفضل الناس وخيرهم، وقد وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا للقرآن[2].

6. لا يتمكَّن من تعلُّم القرآن حقَّ تعلُّمه وتعليمه إلّا بالإحاطة بالعلوم الشّرعيَّة، أصولِها وفروعها، مع المعارف والعلوم القرآنيّة وفوائدها، ومثلُ هذا الشّخص يُعَدُّ كاملًا لنفسه، مكمِّلًا لغيره؛ فهو أفضل المؤمنين مطلَقًا[3].

7. القرآن يُطلَق على كلِّه وبعضِه، ويُصبح إرادةُ المعنى الثّاني (بعضه) هنا باعتبار أنّ من وُجد منه التّعلُّم والتّعليم، ولو في آية، كان خيرًا ممّن لم يكن كذلك، ووجه خيريَّته يُعلَم من الحديث الصّحيح: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ»[4].

8. تعلُّم قدر الواجب من القرآن والفقه سواءٌ في الفضل، وأمّا الزّيادةُ على الواجب فالفقهُ أفضل؛ فتعلُّمُ قدر الواجب من القرآن علم يقينيٌّ، ومن الفقه ظنّيٌّ، فكيف يكونان في الفضل سواءً، والفقه إنّما يكون أفضلَ لكونه معنى القرآن، فلا يُقابَل به، ولا شكَّ أنّ معرفة معنى القرآن أفضل من معرفة لفظه، وأنّ المراد بالقدر الواجب من القرآن تعلُّم سورة الفاتحة مثلًا[5].

9. تعلُّم القرآن وتعليمُه يتناول تعلُّم حروفه وتعليمها، وتعلُّم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمَيْ علمِه وتعليمه؛ فإن المعنى هو المقصود، واللّفظ وسيلة إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمه، تعلُّم الغاية وتعليمها، وتعلُّم اللّفظ المجرَّد وتعليمه، تعلُّم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل[6].

10. هل يَلزَم من الحديث أن يكون المقرئ أفضلَ من الفقيه؟ لا؛ لأنّ المخاطَبين بذلك كانوا فقهاءَ النّفوس؛ لأنّهم كانوا أهلَ اللّسان، فكانوا يدرون معانيَ القرآن بالسّليقة أكثر ممّا يدريها مَن بعدَهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجيّةً، فمن كان في مثل شأنهم، شاركهم في ذلك، لا من كان قارئًا أو مُقرِئًا محضًا لا يَفهَم شيئًا من معاني ما يَقْرَؤه أو يُقرِئه[7].

11. هل يَلزَم من الحديث أن يكون المقرئ أفضلَ ممَّن هو أعظمُ غِناءً في الإسلام بالمجاهَدة والرِّباط والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مثلًا؟ المسألةُ تَدُور على النَّفع المتعدِّي، فمن كان حصوله عنده أكثرَ، كان أفضلَ؛ فلعلّ (مِنْ) مُضمَرة في الخبر؛ أي: المعنى: (مِنْ خَيْرِكم)، ولا بدَّ مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كلِّ صنف منهم[8].

12. يُحتمَل في الحديث أن تكون الخَيريّة، وإن أُطلِقت؛ لكنَّها مقيَّدة بناس مخصوصين خُوطِبوا بذلك، كان اللّائق بحالهم ذلك، أو المرادُ خَيْرُ المتعلّمين من يعلِّم غيره، لا من يَقتصر على نفسه، أو المرادُ مُراعاةُ الحيثيّة؛ لأنّ القرآن خيرُ الكلام، فمتعلِّمُه خير من متعلِّم غيرِه بالنّسبة إلى خيريّة القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علَّم وتعلَّم، بحيث يكون قد عَلِم ما يَجِب عليه عَينًا[9].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  3. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1452).
  4. رواه أحمد (12279)، والنسائيُّ (7977) بلفظ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ خَلْقِهِ» قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1432).
  5. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1453).
  6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 74).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).


1. في الحديث بيانُ أن سورة الفاتحة هي أعظمُ السُّور في القرآن؛ أي: في أجرها، وثواب قراءتها، ولِما فيها من معاني الثناء، والسؤال، والدعاء.

2. في الحديث تصريح بأن المراد بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}

[الحجر: ٨٧]

هي الفاتحة [1].

3. الفاتحة هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها[2].

4. أمُّ القرآن اسم الفاتحة، وسمِّيَت أمُّ القرآن لأنّها فاتحته، كما سمِّيَت مكَّةُ أمَّ القرى؛ لأنّها أصلها[3].

5. من سنن الله تعالى في خلقه أنه فضَّل بعض الأماكن على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، وفضَّل بعض الناس على بعض، وفضَّل النبيين على سائر الناس، وفضَّل بعض النبيِّين على بعض، وفضَّل بعض الكتب المنزَّلة على بعض، وفضَّل القرآن وجعله مصدِّقًا لِمَا أَنزل من التوراة والإنجيل، وشاهدًا عليهما.

6. في الحديث دليل على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض؛ فالقرآن كلام الله، أَنزَله على خير خلقِه محمَّدٍ ﷺ، له قُدُسية خاصَّة، ولسُوَره جميعِها إجلالٌ وتعظيم؛ إلا أنه فضَّل بعضها على بعض، وبعضَ آياتها على بعض

قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106]

و"إن دلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[4].

7.

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[5].

8.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:

بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»[6]

9.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ»[7].

10.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ – ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ»، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}[الفاتحة: 4] ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6- 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[8].

11.

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:

كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً - أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ - قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»[9].

12. من فضائل سورة الفاتحة: اشتمالها على أفضل الدعاء، وهو الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وآداب الدعاء، وهي البَدْءُ بالحمد أولاً، ثم الثناء، ثم التمجيد، ثم إفراد العبودية له، ثم الاستعانة به دون سواه

عَنْ فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَال:

سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[10].

13. سورة الفاتحة فيها للّهِ الحمدُ، فله الحمدُ في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤال، وفيها العبادة للّه وحدَه، وللعبدِ الاستعانة، فحَقُّ الرّبِّ حمدُه وعبادته وحده، وهذان حمدُ الرّبِّ وتوحيدُه، يدور عليهما جميع الدّين[11].

14. يمكن أن نستخرجَ من سورة الفاتحة علومَ الدُّنيا والآخرة كلَّها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة[12].

المراجع

  1. "فتح الباري مع هدي الساري" لابن حجر (8/ 158).
  2. "مجموع الفتاوى" (14/5).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 101).
  4. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  5. رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  6. رواه مسلم (254).
  7. رواه مسلم (806).
  8. رواه مسلم (395).
  9. رواه البخاريُّ (5007)، ومسلم (2201).
  10. رواه أبو داود (1481)، والترمذيُّ (3477)، والنسائي (1284) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
  11. "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
  12. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).



  1. في هذا الحديث بِشارةٌ عظيمة، وحِلْمٌ وكَرَم عظيم، وما لا يُحصى من أنواع الفضل، والإحسان، والرأفة، والرحمة، والامتنان[1]

  2. هذا الحديث من أرجى الأحاديث في السنَّة، وأعظمِها، ففيه بيانُ سَعةِ عَفْوِ الله تعالى، ومغفرته لذنوب عباده، ورحمته بهم، وهو يدلُّ على عِظَم شأن التوحيد، والأجر الذي أَعَدَّه الله للموحِّدين.

  3. في الحديث الحثُّ والترغيب على الاستغفار، والتوبة، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

  4. الدعاء من أعظم وأجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه؛

    فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

    «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»

     ثُمَّ قَرَأَ

    ﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ

    [غافر: 60][2]

  5. دَلَّ الله تعالى الإنسان على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَرك له حرية الاختيار بينهما؛

    قال تعالى

    ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ 

    [البلد: 10]


    وقال تعالى

    ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ( 7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا

    [الشمس: 7-8]

    أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.

  6. إن الإنسان وهو سائر في طريقه إلى الله، معرَّض للوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء؛ إذ النقصُ من جملة صفاته؛

    قال تعالى:

    ﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا

    [النساء: 28].

  7. إذا كان الإنسان بطبعه كثيرَ المعاصي، فإن ذلك ليس مبرِّرًا له في الاسترسال في الذنوب والمعاصي، فهو مأمورٌ بتصحيح ذنبه؛ قال ﷺ: «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[3]؛ أي: والخيرية والأفضلية إنما تكون للرّجَّاعين والتائبين والمستغفرين، إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة.

  8. قال تعالى:

    ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ

     [آل عمران: 135]

    أثنى على المستغفِرين، وفي ضِمْنِ ثنائه بالاستغفار لوَّح بالأمر به، كما قيل: إن كلَّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمِرٌ به، وكلَّ شيء ذَمَّ فاعلَه، فهو ناهٍ عنه[4].

  9. على المسلم إذا ما أَذنَب أن يُسارع إلى التوبة، ولا يَيْئَس من رحمة الله عزَّ وجلَّ، فاليأس من رحمة الله صفة من صفات الكافرين وأهل الضلال؛

    قال تعالى:

    ﴿وَلَا تَاْيْـَٔسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ ۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيْـَٔسُ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلْقَوْمُ ٱلْكَٰفِرُونَ

    [يوسف: 87]


    وقال تعالى:

    ﴿قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ

    [الحجر: 56].

  10. إن العبد الصالح كلَّما قارَف ذنبًا، عاد مسرِعًا تائبًا من ذنبه، منيبًا إلى ربِّه، لا أنه مُصِرٌّ على الذنوب، وذلك معنى

قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا ٱلتَّوْبَةُ عَلَى ٱللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسُّوٓءَ بِجَهَٰلَةٍۢ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍۢ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًۭ

 [النساء: 17].

11. إذا تاب المذنبون، وأنابوا إلى ربهم، قَبِل توبتهم، وفتح لهم أبواب رحمته

قال تعالى:

﴿وَهُوَ ٱلَّذِى يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِۦ وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّـَٔاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ

[الشورى: 25].

12. إن الإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي، فكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، إذا ما دعا الله، وأقبل إليه، مهما عظُمت ذنوبُه؛

عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»

[5]

قالﷺ:

«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»؛ فذنوبُ العبد وإن عَظُمت، فإنّ عفوَ اللّه ومغفرته أعظم منها وأعظمُ، فهي صغيرة في جنب عفوِ اللّه ومغفرته

[6]

13. الاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرةُ: هي وقاية شرِّ الذّنوب مع سَتْرها[7]

14. كثيرًا ما يُقرَن الاستغفار بذكر التّوبة، فيكون الاستغفارُ حينئذ عبارةً عن طلب المغفرة باللّسان، والتّوبةُ عبارةً عن الإقلاع من الذّنوب بالقلوب والجوارح[8].

15.تارةً يُفرَد الاستغفار، ويرتَّب عليه المغفرة، كما ذُكِر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنّه أُريد به الاستغفار المقترن بالتّوبة، وقيل: إنّ نصوص الاستغفار المفرَدة كلَّها مطلَقة تقيَّد بما ذُكر في الآية:

﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوْ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ

[آل عمران: ١٣٥]

16. من عدم الإصرار، فإنّ اللّه وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه، ولم يُصِرَّ على فعله، فتُحمَل النّصوص المطلَقة في الاستغفار كلُّها على هذا المقيَّد[9].

17.مجرَّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي. هو طلبٌ منه للمغفرة ودعاءٌ بها، فيكون حكمه حكمَ سائر الدّعاء، فإن شاء اللّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيَّما إذا خرج عن قلب منكسِر بالذّنب، أو صادَف ساعةً من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصّلوات[10]

18. إن استغفار اللّسان مع إصرار القلب على الذّنب، هو دعاء مجرَّد، إن شاء اللّه أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة[11]

19.قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيحَ توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير[12]

20. أفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نَصوح[13].

21. إن قال بلسانه: أستغفر اللّه، وهو غير مقلِع بقلبه، فهو داعٍ للّه بالمغفرة، كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين، فمُراده أنّه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حقٌّ؛ فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار[14].

22. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ،

فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عزَّ وجلَّ - قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»

[15]

23. من شروط قبول الدعاء: الإخلاص لله تعالى؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

 [16]

24. من شروط قبول الدعاء: ألَّا يدعوَ المرء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجَّل الإجابة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:

«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ

[17]

25. من شروط قبول الدعاء: أن يدعوَ بقلب حاضر، وهو موقِن بالإجابة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

[18]

26. من أعظم شروط الدعاء: حضورُ القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى؛ إذ الرجاءُ فيه حُسْنُ ظنٍّ بالله؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: يَقُولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي....»

[19]

27. على العبد أن لا يكون متردِّدًا في الدعاء، أو شاكًّا في الإجابة؛ بل يَجزِم في الدعاء، ولا يعلِّقه على المشيئة؛

عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»

[20]

28. على العبد أن يُلِحَّ في الدعاء، حتى وإن طالت المدَّة؛ فالله تعالى يحُّب الْمُلِحِّين في الدعاء، وما دام العبدُ يُلِحُّ في الدعاء، ولم يقطع الرجاء في الإجابة، وفيما عند الله؛ فإن الله يستجيب له، ويُبلِّغه مطلوبه ولو بعد حِين.

29. قال تعالى:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ

[البقرة: 186]

فالله تعالى أَمَرنا بالدعاء، ووَعَدنا بالإجابة، وفي الدعاء إظهارُ الذُّلِّ، والافتقار، والحاجة إلى الله تعالى.

30.  قال تعالى:

﴿قوَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭ

ا[النساء: 110]

وقد أمر الله المؤمنين بالاستغفار

فقال تعالى:

﴿وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ

[البقرة: 199]،


وقال تعالى:

﴿وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ

ۖ[هود: 3].


31. عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»

[21]

32. للاستغفار صِيَغٌ متعدِّدة يَطلُب بها العبد مغفرة ربِّه، فيقول: "أستغفر الله"، أو يقول: "اللهم اغفر لي" ، وأفضل هذه الصيغ "سيد الاستغفار"، كما في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه:

 أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ

[22]

33. من ثمار الاستغفار: توبة الله على المستغفِر، وإصابة رحمته؛

قال تعالى:

﴿وَمَن يَعْمَلْ سُوٓءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُۥ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ ٱللَّهَ يَجِدِ ٱللَّهَ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭا

[النساء: 110]،

34. من ثمار الاستغفار: أنه أمانٌ من العذاب؛

وقال تعالى:

﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

[النمل: 46].

35. من ثمار الاستغفار: إصابة السعادة والسرور، والتمتُّع في الحياة؛

قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

[الأنفال: 33]

قال تعالى:

﴿وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَٰعًا حَسَنًا إِلَىٰٓ أَجَلٍۢ مُّسَمًّۭى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِى فَضْلٍۢ فَضْلَهُۥ

[هود: 3].

36. من ثمار الاستغفار: نزول الغَيث، وزيادة المال، وكثرة الأولاد؛

قال تعالى:

﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا

[نوح: 10- 12].

37. من ثمار الاستغفار: زيادة القوَّة؛

قال تعالى:

﴿وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ

[هود: 52].

38 حذَّر النبيُّ ﷺ من المداوَمَة على فعل الصغائر؛ لأن فيها هلاكًا للعبد؛

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»

[23]

39. حذَّر النبيُّ  الْمُصِرِّين على الصغائر بالوَيْلِ والعذاب الشديد؛

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ

أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»

[24]

40. إن باب التوبة مفتوح لا يُغلِقه الله تعالى في وجوه عباده ما لم تَبلُغ الرُّوح الحُلْقوم؛

فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»

[25]

فالله عزَّ وجلَّ يَقبَل توبة عبده ما لم يَحضُره الموت، أو تَطلُع الشمس من مغربها؛

قال تعالى:

﴿وَلَيْسَتِ ٱلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّـَٔاتِ حَتَّىٰٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ ٱلْـَٰٔنَ

[النساء: 18].

41. إن الله يَفرَح بتوبة عبده، أكثرَ من فرح رجل وجد طعامه وشرابه في الصحراء بعدما فَقَدهما، وأَشرَف على الهلاك؛

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ:

«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

[26]

42. كان النبيُّ ﷺ يستغفر في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً؛

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

[27]

43. للتوبة شروطٌ لابدَّ منها حتى تُقبَل، هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.

44. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنَيل محبَّة الله تعالى؛

  1. قال تعالى:

    ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهِّرِينَ

    [البقرة: 222].

45. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنور القلب ومحوِ أثر الذنب؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ؛ ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]»

[28]

46. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لتكفير السيِّئات، وغفران الذنوب؛

قال تعالى:

﴿إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلًۭا صَٰلِحًۭا فَأُوْلَٰٓئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّـَٔاتِهِمْ حَسَنَٰتٍۢ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًۭا رَّحِيمًۭ

ا[الفرقان: 70].

47. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لدخول الجنة، والنجاة من النار؛

قالي تعالي

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِکَ یَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا یُظْلَمُونَ شَیْئًا﴾

[مريم: 60].

48. من فضائل التوبة: أنها سببٌ لنزول الغَيث، وزيادة القوَّة؛

قال تعالى:

﴿وَيَٰقَوْمِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوٓاْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًۭا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾

[هود: 52]

49.من فضائل التوبة: أنها سببٌ للتوفيق والفلاح؛

قال تعالى:

﴿وَتُوبُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[النور: 31].

50. الاستغفار يكون على وجهين؛ الأول: طلب المغفرة باللفظ بأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله. والثاني: طلب المغفرة بالأعمال الصالحة التي تكون سببًا لذلك؛

كقوله ﷺ:

«مَنْ قَالَ: سُبحَانَ اَلله وَبِحَمْدِهِ في اليَوم مائَةَ مَرةٍ، غُفِرَت خَطَايَاه وَإِنْ كَانَت مِثْلَ زَبَدِ البَحْر»

[29]

51. إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعًا، وهذا لمن استغفر، أما من لم يستغفر، فإن الصغائر تكون مكفَّرةً بالأعمال الصالحة؛

لقول النبيِّ ﷺ:

«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»

[30]

وأما الكبائر، فلابدَّ لها من توبة خاصَّة، فلا تكفِّرها الأعمال الصالحة، أما الكفر، فلابدَّ له من توبة بالإجماع[31].

52. الذنوب على ثلاثة أقسام: قسم لابدَّ فيه من توبة بالإجماع، وهو الكفر، والثاني: ما تكفِّره الأعمال الصالحة، وهو الصغائر، والثالث: ما لابدَّ له من توبة، على خلاف في ذلك؛ لكن الجمهور يقولون: إن الكبائر لابدَّ لها من توبة[32]

53. اللهُ سبحانه لا تنفعُه طاعةُ المطيعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين، مع كمال غناه عن خَلقه، فلم يخلقهم ليتقوَّى بهم من ضعف، ولا يتكثَّر بهم من قلَّة؛ بل خَلَقَهم ليعبدوه؛

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ (56) مَآ أُرِيدُ مِنۡهُم مِّن رِّزۡقٖ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطۡعِمُونِ (57) إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلۡقُوَّةِ ٱلۡمَتِينُ﴾

[الذاريات:56-58].


المراجع

  1. شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 137).
  2.  رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ (3828)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247). 
  3. رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
  4. فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).
  5. رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 406).
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).
  15.  رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
  16.  رواه مسلم (2985)
  17. رواه مسلم (2735).
  18.  رواه الترمذيُّ (3479)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1653).
  19. رواه البخاريُّ (7405)، ومسلم (2675).
  20. رواه البخاريُّ (6338)، ومسلم (2678).
  21. رواه مسلم (2702).
  22. واه البخاريُّ (6306).
  23. رواه أحمدُ (22808)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
  24. رواه أحمدُ (6541)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 151).
  25. رواه أحمد (6160)، والترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3143).
  26. رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
  27. رواه البخاريُّ (6307).
  28. رواه الترمذيُّ (3334)، وابن ماجه (4244)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
  29. رواه مسلم (2691).
  30. رواه مسلم (233).
  31. شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 248).
  32. شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 249).




  1. الحديث دليل على أنه سبحانه محتجب عن خلقه بالنور، فلا يَرَونه في الدنيا.

  2. الحديث دليل على أن الله تعالى يعزُّ من يشاء، ويُذلُّ من يشاء، يَحكُم بالعدل، يَخفِض ويَرفَع، من عَمِل عملاً يستحقُّ الرفع رفعه، ومن عمل عملاً يستحقُّ الخفض خفضه.

  3. قوله: «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ»: القسط هو العدل، والذي ينخفض ويرتفع هو الموزون، وسُمِّي الميزان قسطًا لأنه بالميزان يقع العدل، فمن عَمِل ما يستحقُّ الرفع رَفَعَه، ومن عَمِل ما يستحقُّ الخفض خَفَضه، وقيل: القسط الميزان، وسمّي قسطًا لأنّ القسط العدل، وبالميزان يقع العدل، والمراد أنّ اللّه تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النّازلة، وهذا تمثيل لما يقدّر تنزيله، فشبّه بوزن الميزان، وقيل: المراد بالقسط الرّزق الّذي هو قسط كلّ مخلوق يَخفِضه فيقتِّره، ويرفعه فيوسّعه[1].

المراجع

  1. "شرح النوويّ على مسلم" (3/ 13).


  1. في هذا الحديث حثٌّ للمسلم على بذل ما استطاع من جُهْد في الأخذ بيَدِ الناس إلى الحقِّ والخير، وأن يكون مفتاحًا لذلك، وقدوةً يَقتدي الناسُ به، ووُعِد على ذلك بأعظم الجزاء، وهو أن لهذا الداعي من الأجر مثلَ أجور مَن تبِعه على دعوته، دون أن يَنقُص هذا الأجرُ الذي حصل عليه الداعي من أجر العامل شيئًا.

  2. في الحديث تحذير المسلم من أن يكون مِفتاحًا للباطل والشرِّ في المجتمع، وبيان سوء عاقبة مَن فعل هذا؛ فكما أن الداعيَ إلى الصالحات يأخُذ مثلَ أجر مَن استجاب لدعوته، فكذلك الدعوةُ إلى السيِّئات والمنكَرات؛ فإن الداعيَ إلى مُنكَر عليه وِزرُه ووِزرُ مَن عمِل بدعوته.

  3. في الحديث بيان أن الأفعال التي يتعدَّى نفعُها على الإنسان وغيره، ويَطُول أَمَدُها، فإن الإنسان يؤجَرُ بها ما بَقِيَتْ.

  4. في الحديث بيان أنه كما يترتَّب الثواب والعقاب على ما يباشره ويُزاوِله الإنسان، يترتَّب كلٌّ منهما على ما هو سببُ فعله؛ كالإرشاد إليه، والحثِّ عليه[1].

  5. إن الدعوة إلى الله تعالى فاتحةٌ لكلِّ خير، ومُغْلِقةٌ لكلِّ شرٍّ، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر من أخصِّ سمات المسلم، وطريقٌ لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة.

  6. قوله ﷺ: «فَعَمِلَ بِهَا بَعْدَه» معناه: إن سَنَّها، سواءٌ كان العمل في حياته، أو بعدَ موته[2].

  7. «هدى»، وهو إما الدلالة الموصِّلة إلى البُغْيَة، أو مطلَق الإرشاد، وهو في الحديث ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة [3].

8. وجه التّحذير أنّ الّذي يُحدِث البِدعة قد يتهاوَن بها؛ لخفَّة أمرها في أوَّل الأمر، ولا يَشعُر بما يترتَّب عليها من المفسدة، وهو أن يَلحَقه إثم مَن عَمِل بها من بعده، ولو لم يكن هو عَمِل بها؛ بل لكونه كان الأصلَ في إحداثها[4].

المراجع

  1. فيض القدير" للمناويِّ (6/ 125).
  2. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 226، 227).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 625).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 302).



  1. في الحديث بيان تعذيبِ العامَّة بذنوب الخاصَّة، إذا سَكَتوا عنهم، أو داهَنوهم[1].

  2. في هذا الحديث يَضرِب النبيُّ ﷺ  مثالًا رائعًا لبيان أهمِّية الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر في نَجاة المجتمع بأسْره؛ فيُمثِّل ﷺ القائم على حدود الله، الـمستقيم على أمره تعالى ونَهْيه، الآمر بالـمعروف، والناهي عن المنكر، والواقع في حدود الله  الذي يرتكب الذُّنوب والكبائر، ويتْرُك الـمعروف، ويأتي أبواب الـمنكَر[2].

  3. في الحديث بيان أن مَن ترَكَ الأمْرَ بالْمَعروفِ والنَّهيَ عن الْمُنكَرِ، استَحقَّ عِقابَ اللهِ مع الظالِمينَ الْمُعْتدِين حُدودَ الله [3].

  4. إن هذه الأمة لم تنل أن تكون خيرَ أمة أُخرجت للناس عن محاباة أو مجاملة؛ بل بشرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي شرطه الله تعالى لتكون هذه الأمةُ خيرَ الأمم

    قال تعالى:

    { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }

    [آل عمران: 110].

  5. متى أدَّت الأمَّة شرط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نالت الخيرية على الأمم، والنصر والتمكين

    كما قال تعالى:

    {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}

    [الحج: 41]

    ومتى أخلَّت بهذا الشرط، سُلبت هذه الخيرية، ونالت العقاب.

  6. إنَّ من أهمِّ تكاليف هذا الدِّين العظيم الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر؛ فقد أمر الله تعالى به وذكره في مواضع عديدة من كتابه الكريم

    مثل قوله تعالى:

     {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

    [آل عمران: 104].

  7. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صفة المؤمنين

     قال تعالى:

    وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

  8. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أعظم مهامِّ الأنبياء والرسل

    قال تعالى:

    {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر}ﱠ

    [الأعراف: 157].

  9. قال تعالى مُثْنيًا على الأمم السابقة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جماعاتٍ وأفرادًا:

    {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}

    [آل عمران: 113، 114].

  10. كما استحقَّت الأمَّةُ الإسلامية الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، استحقَّت الأمم السابقة لعنة الله وغضَبه ونِقمته بترك ذلك الفرض العظيم

    قال تعالى:

    { لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴿٧٨﴾ كَانُواْ لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴿٧٩﴾}

    [المائدة: 78، 79]

    وهذا تحذير للأمة الإسلامية أنهم لو اتَّبعوا نهج الأمم السابقة سيحلُّ بهم اللعنة والغضب بدلاً من الخيرية.

  11. إنه لا يوجد حرية مطلَقة في أيِّ شريعة دينية أو دنيوية، وإلا فهي الفوضى وتركُ الفاسدين لينشروا الفساد؛ فالنهيُ عن المنكَر لا يُعَدُّ تعدِّيًا على الحريات؛ بل هو حماية للمجتمع من المجاهرين بالمعاصي والفجور.

  12. لا يظنَّنَّ أهل الصلاح أنهم لا يَعنيهم المجاهرة بالمنكر ما داموا مهتدين؛ فقد حذَّر أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - من هذا الفَهم في خُطبته: "أيُّها الناس، إنّكم تقرؤون هذه الآية:

    { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ۚ}

    [المائدة: 105]

    وإنَّكم تضعونها على غير موضعها، وإنّي سمعت النبيَّ ﷺ يقول: «إنّ النّاس إذا رَأَوُا المنكَر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»[4].

  13. إذا أُقيمت الحدودُ، وأُمر بالـمعروف ونُهِي عن المنكَر، تَحصُل النَّجاةُ للـكلِّ، وإلَّا هلَك العاصي بالـمعصية، وغيرُه بتَرْك نهْيِه عن المعصية، وعدمِ أمْره بالمعروف[5].

14. في هذا الحديث تعذيب العامَّة بذنب الخاصَّة، وفيه نظر؛ لأنّ التّعذيب المذكور إذا وقع في الدّنيا على من لا يستحقُّه، فإنّه يكفِّر من ذنوب من وَقَع به، أو يَرفَع من درجته[6].

المراجع

  1. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (7/ 13).
  2. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَينيِّ (13/ 56).
  3. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (7/ 13).
  4. رواه أحمد (1)، وابن ماجه (4005)، وأبو داود (4338)، والترمذيُّ (3057)، وقال: حديث حسن صحيح.
  5. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلاني (5/ 296).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 296).