فقه

أرسل النبيُّ ﷺ معاذًا إلى اليمن داعيًا وحاكمًا، قرابة سنة 10 هـ:

1-وأخبره أنه سيأتي جماعة ً من اليهود أو النصارى ممن كان لهم كتاب التوراة أو الإنجيل، ليستعدَّ لهم لأنهم أهلُ عِلم في الجُملة[1].

2- ثم أوصاه أن يبدأ بدعوتهم إلى الشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولنبيِّه ﷺ بالرسالة؛ لأنهما أصلُ الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا بهما، فهم مطالَبون أوَّلًا بالجمع بينهما [2]، فاليهود والنصارى لم يحققوا ما ينجِّيهم من شهادة التوحيد والإقرار بالرسالة، فهم أشركوا مع الله بعزير أو بعيسى، وكذبوا بدعوة الرسول ﷺ [3].


   3- ثم أخبره ﷺ بأنهم إن انقادوا بما أمرتَهم بأن تلفَّظوا بالشهادتين، وأقرُّوا بتوحيد الله ورسالة النبيِّ ﷺ، فأَعلِمْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كلِّ يوم وليلة، وعرِّفهم كيفيَّتها.

وقد دلَّ قوله ﷺ: «فإن هم أطاعوا لك بذلك» على الانقياد والفعل لا مجرد الإقرار بالوجوب والفرضية، فلا بد أن يُقِرُّوا ويؤدوا الصلاة في أوقاتها[4].

   4-ثم تدرَّج بعد الإقرار بوجوب الصلاة وأدائها إلى الزكاة، فأمره أن يُعْلِمَهم أن الله فَرَضَ على أغنيائهم زكاةً، وهو قدرٌ يسير معلوم يُجمَع من أموالهم، ويفرَّق على فقرائهم.

5- ثم أمر ﷺ معاذًا إذا أطاعه القوم وبذلوا له المال ليأخذ منه قدرَ الزكاة بأن يتوقى إخراج نفائس الأموال التي يُحبها أصحابها وتتعلق نفوسهم بها؛ كأن تكون له شاةٌ يحبها ويهتم بها لغزارة لبنها أو غير ذلك، فلا يجوز أخذها في الصدقة؛ رفقًا بأصحاب الأموال، فلم يجعل اللهُ مواساة الفقراء على حساب الإجحاف بالأغنياء، فلو طابت نفسُ ربِّ المال بشيء من كرائم أمواله، جاز أخذها منه.

وقد قال عمر بن الخطَّاب لرجلٍ أرسله لجمع الصدقات: «ولا تأخُذِ الأكولةَ، ولا الرُّبَّى – التي تُربى في البيت ولا تُترك تَطلب رزقها في الأرض لنفاستها عند أصحابها - ، ولا الماخِضَ – الحامل على وشك الولادة - ، ولا فحْلَ الغَنَمِ»[5].

6-ثم حذَّره ﷺ من عاقبة الظلم ، في أخذ الصدقات أو في سائر أمور الولاية والحكم، ومراده بتجنُّب دعوة المظلوم: تَجَنُّب سببه؛ لأن الظلم باعثٌ إلى الدعاء على الظالم.
وقد دلَّ قوله ﷺ: «فإن هم أطاعوا لك بذلك» على الانقياد والفعل لا مجرد الإقرار بالوجوب والفرضية، فلا بد أن يُقِرُّوا ويؤدوا الصلاة في أوقاتها.

ودعوة المظلوم مسموعةٌ مستجابة لا تُرَدُّ، تُفتح لها أبواب السموات السبع، وليس بينها وبين إجابتها حجابٌ[6]، وفي الحديث:

«ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ العَادِلُ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ»

[7].

اتِّباع:

1-بعث النبيُّ ﷺ معاذَ بن جبل إلى اليمن وهو في العشرينات من عمره، فتحمَّل المسؤولية والغربة عن أهلِه وديارِه في سبيل الله تعالى وطاعة لرسوله ﷺ، فكم نتحمل نحن لأجل ذلك؟


2-كان رسولُ الله ﷺ يحمِّل أصحابه المسؤوليات الكبار وهو في أوائل شبابهم، وهم لم يكونوا يتهربون منها، فعلى الأب والمعلم والمربي ونحوهم أن يعوّدوا من تحتهم على تحت أيديهم على المسؤولية، وألا يستصغروهم، وعلى أولئك أن يكونوا أهلًا لذلك.

3-خذ ما صحَّ من حديث رسول الله ﷺ ولو كان ناقله واحداً، فقد أرسل النبي ﷺ معاذًا بالأمور العظام من العقائد والفقه، ومن السلطة حتى في أموال الناس، وكل ذلك دالٌّ على اعتبار خبر الآحاد.

4-تعرَّف على طبيعة من تقابلهم، فقد أخبر النبيُّ ﷺ معاذًا بأنه سيأتي أهل الكتاب، ليراعي ما يجب في دعوتهم[8]، من الأولويات الأدلة والأساليب وغيرها، ولوكنهم أهل علم وجدل، فاحرص على جمع المعلومات المؤثرة قبل أي مشروع تقوم به.


5-اهتم النبيُّ ﷺ بإرشاد عُمَّاله ووعظهم، فهو لم يرسل معاذًا حتى بين له الواقع، ورتّب له الأعمال، وأمره بالعدل، وحذَّره من الظلم، مع كمال معاذ رضي الله عنه في دينه وعلمِه، فلا تقصِّر في وصية من معك، وعلى الموصَّى ألا يتكبر عن ذلك.


6-اهتم النبيُّ ﷺ بالأولويات، وتدرج بها، فلم يأمر معاذًا بالبدء بذنوب لا يخلو منها الناس في سلوكياتهم، مع أهمية معالجتها، بل بدأ بأصل الدين ومفتاح الإيمان وهو الشهادتان، ثم الصلاة، ثم الزكاة، وهكذا علينا في تربيتنا ودعوتنا وتعليمنا، بل في عامة مشاريعنا: أن نبدأ بالأهمِّ فالمهم، قالت عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصَّل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناسُ إلى الإسلام نزل الحلالُ والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا»[9].

7-الإيمان والصلاة والزكاة: هي أصول الإيمان العظام التي تكرر اقترانها في القرآن والسنة كثيرًا، وفيها من الأجر والتأثير الإيماني ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فحتى لو كنتَ ومن معك قائمًا بأصلها: فاحرص على كمالها.

8-حذَّر النبي ﷺ معاذًا أن يأخذ الصدقة مما تعلقت به النفوس من كرائم المال، بل أمره بالعدل، وفي ذلك من العدل ومراعاة الشعور وفهم الناس ما على كل داعية وأب ومربٍّ ومسؤول أن يعمل بمثله، فيراعيه في أمره ونهيه .

9-احرص أن تنام وليس هناك مظلوم لم ينم حزنًا مما قلته أو فعلته، سواء كان زوجًا أو ابنًا أو طالبًا أو عاملًا أو بائعًا أو قائد مركبة في الطريق، ولا تستسهل الظلم مع من تراه دونك، ولو كان من أهل المعاصي، وقد خوَّف النبيُّ ﷺ معاذًا من الظلم غاية التخويف، حتى وهو يرسله إلى كفَّار من أهل الكتاب، وقد يؤمن بعضهم وقد لا يؤمن.

قال الشاعر:

وتنبّه إلى أن الظلم كما يكون في الدماء والأموال، فقد يكون بالكلمة التي لا تلقي لها بالاً؛ فتجرح قلبًا، أو تهدم بيتًا، أو تفسد صداقة، أو تعيق نجاحًا..

لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرًا = فالظُّلْمُ آخِرُه يَأْتِيكَ بالنَّدَمِ

نامَتْ عُيُونُكَ والمظلومُ مُنْتَبِهٌ = يَدْعو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لم تَنَمِ

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358).
  2. "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" للسفارينيِّ (3/ 400).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض" (1/ 239).
  4. انظر: " العدة في شرح العمدة لابن العطار" (2/ 798).
  5. مالك (2/372)، والطبراني في المعجم الكبير (6395). وصحَّحه النووي في "المجموع" (5/427)، وجوَّد إسناده ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/248).
  6. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم لموسى شاهين لاشين" (1/ 70).
  7. الترمذي (3598)، وابن ماجه (1752)، عن أبي هريرة، وصححه ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ 152)
  8. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358).
  9. البخاريُّ (4993).

فقه: 

1-  كان معاذٌ راكبًا خلفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ:

2- ، فأراد ﷺ أن يثير تعلمه فسأله: هل تَعرِف ما الذي يستحقُّه على عباده مما جَعَله واجبًا عليهم ؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله على نفسه؟

3-  فأجاب معاذٌ رضي الله عنه بـ"الله ورسوله أعلم"؛ أي: أنا لا أدري..

وهذه العبارة تقال في أمور الشرع، أما إذا سُئل الإنسان في أمرٍ من أمور الدنيا أو أمور الغيب ونحوها مما لا يعلمه رسول الله ﷺ فيقول: "الله أعلم".

4- فبيَّن النبيُّ ﷺ الجوابَ؛ فذكر أنَّ حقَّ اللهِ -جلَّ وعلا- على عباده أن يتوجَّهوا بالعبادة إليه، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة[1]، وهي حالة من الذل والطاعة وتوجه القلب للمعبود، ولا بد مع عبادة الله[2]: ألا يُشـركوا معه في العبادة أيَّ أحد -ولو كان نبيًا أو ملكًا أو صالحاً-، ولا بأيِّ شرك -ولو قل، ولو بمجرد اللفظ-،فهذا حق الله:

﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾

[الإسراء: 23]

وقال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾

[الذاريات: 56 - 58].

5- وحقُّ العباد على الله -وهو حقٌ أوجبه الله تعالى كرمًا منه على نفسه ولم يكن واجبًا عليه [3]-؛ أنهم إن عبدوه ولم يشركوا به : ألا يُدخِلهم النار فـ«مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْـرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشـْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»[4]:

﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾

[المائدة: 72].

ومعنى ذلك أنَّ المسلم المُوَحِّدَ لا يُخلُّد في النار أبدًا؛ فإن كانت حسناته أغلب دخل الجنة وحَرُم على النار، وإن كان من أهل المعاصي وسيئاته أغلب فأمره إلى الله؛ إن شاء عذَّبه ما شاء ثم صرفه إلى الجنة، وإن شاء غفر له وأدخله الجنة. وأما من مات على الشـرك، فإنه لا يدخل الجنَّة، بل يُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾

[النساء: 48][5].

6- فلمَّا سمع معاذٌ تلك البشرى من النبيِّ ﷺ أحبَّ أن يُبَشِّر الناس بذلك، فاستشار رسول الله ﷺ، فأشار عليه ﷺ ألا يفعل ذلك؛ لأنَّ بعضهم ربما إذا علِمَ ذلك اعتمد بقلبه على توحيده، وتكاسل عن الطاعات وتركها.

وجاء في الروايات الأخرى ما يشير إلى أن معاذًا فهم أن النهيَ وصية نبوية لمصلحة عدم الاتكال، وأن ذلك لا يمنع من التحديث لمصلحة العلم ونحوه، ولهذا أخبر معاذٌ بها عند موته تأثمًا أن يكتم العلم.

اتِّباع:

  1. لا تتكبر عن المركب غير الفاخر، وراقب نفسك حين تنفر من الجلوس بجانب طبقات الناس، أو الأكل معهم، مما قد يشير لكبر ظاهر أو خفي، فقد ركب النبيُّ ﷺ على حمارٍ، وركب معاذٌ خلفه، وهو أسوتنا في التواضع، والانبساط مع الناس.

  2. لا تمتنع من الانتفاع بما سخره الله تعالى من الدواب، واستعمل ذلك باعتدال، فقد ركب النبي ﷺ هو ومعاذ على دابة واحدة، وانتفع من وقتك عليها في التعلم والإفادة في الفرص المناسبة، كمن يعلم ولده وهو خارج لنزهة برية، أو في طريقه لمدرسته أو جامعته؛ لاسيما هذا الزمان الذي قد يطول فيه الطريق بالزحام فتهدر فيه أوقات كثيرة. 

  3. اتبع النبيُّ ﷺ في تعليم معاذٍ أسلوب السؤال؛ ليستحثه على إعمال العقل، وليثبت في قلبه الجوابَ بعد أن عجز عنه، فينبغي على الداعية أن يختار من الوسائل ما يستثير الهِمَم، وينشط العقول، ويجذب الأسماع والأفهام.

  4. ليس عيبًا أن يجهل الإنسان شيئًا من أمر الدنيا أو الدين، فما ضرَّ معاذٌ – وهو أعلم الناس بالحلال والحرام - أن يقول لما لا يعلم: «الله أعلم». فتجنب أن تفتي في الدين بغير علم لكبر أو حياء:

    ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾

    [البقرة: 168، 169]،

    ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

    [النحل: 116، 117].

  5. كلُّ حق تطلبه من الناس أو يطلبه الناس منك: فهناك حقٌ أعظم منه، وهو حق ربك عليك، وهو حقٌ أزيد من عددِ كلِّ نعمة منه عليك، فتذكره دائماً، ولتكن حياتك دائرة عليه:

    ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾

    [الأنعام: 162، 163].

  6. الله يريد منك ألا تشرك به شيئاً، أي شيء، فكما تجتنب الشرك الأكبر من عبادة الأصنام، والاستغاثة بالنجوم، والتوسل بكلمات للقوى الخفية، فتجنب الشرك الأصغر، كالحلف بالمخلوقين ولو كان النبي ﷺ ، ووضع الخرز التي تدفع العين -زعموا-، أو الشرك بإرادة الناس بتحسين الصلاة ونحوها، وفي الحديث القدسي:

    «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

    [6].

  7. راقب قلبك، وقاوم كلَّ شرك يغزوه، وأبشر بالخير، وفي الحديث:

« إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُؤُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا [أي من الذنوب]، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ! فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ»، قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»

[7].

  1. أحاديث الرُّخَص لا تُشاع في عُموم الناس؛ لئلَّا يَقصُـر فَهْمُهم عن المراد بها، وقد سَمِعها معاذٌ فلم يَزدَد إلا اجتهادًا في العمل وخشية لله عزَّ وجلَّ، فأما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمَن أن يُقصِّر اتِّكالًا على ما يفهمه من الخبر[8]. وقريبٌ من هذا قولُ ابن مسعود رضي الله عنه:

    «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً»

    [9]،

    وعليه فبعض العلوم تناسب بعض الناس دون بعض كما قال علي رضي الله عنه: «حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟» [10].

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).
  2.  "فتح الباري لابن حجر" (11/339).
  3. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للكورانيّ (5/438).
  4. مسلم (93)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم للقرطبيِّ" (1/290)
  6.  مسلم (2985) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
  7.  الترمذي (2639) وابن ماجه (4300).
  8.  "فتح الباري لابن حجر" (11/340).
  9. انظر مسلم بعد حديث رقم (5).
  10.  البخاري (127) .

فقه

  1. أخبرَ النبيُّ ﷺ أنَّ جميع أمَّته يدخلون الجنة إلا من رفض ذلك.  والمراد بالأمة هنا أُمَّةُ الدعوة، ممن بلغته دعوته من الإنس والجِنِّ، فكُلُّ من سَمِع بالنبيِّ ﷺ ووصلته آياتُ الله وشرعُه فهو من أُمَّتِه التي أُرْسِل ﷺ إليها.

  2. فتعَجَّب الصحابةُ لذلك: كيف يرفض عاقلٌ دخول الجنة التي فيها من أنواع النعيم ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر؟، فسؤالهم استنكاريٌّ تعجبيٌّ.

  3. ففَصَّل لهم النبيُّ ﷺ حقيقة ذلك، وهو أنَّ من اتبعه ﷺ وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه، فقد فاز بدخول الجنة والابتعاد عن النار. أما من عصاه وخالف أمره وضادَّ سُنَّته وصدَّ عنها، فقد امتنع بسوء فعله واعتقاده عن دخول الجنة.

وهذا الموصوف بالإباء عن دخول الجنة إما أن يكون من الكُفَّار الذين أعرضوا عن الإسلام أصلًا، فهذا لا يدخل الجنة أبدًا

لقوله تعالى:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[آل عمران: 85]،

وقال جل وعلا:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ﴾

[الأعراف: 40].

 وإما أن يكون من المسلمين الذين اتبعوا الشهوات، وتركوا المأمورات، فسلكوا مسالك الفاسقين، أو ابتدعوا دينًا لم يأذن به الله: فهؤلاء لا يُخَلَّدون في النار؛ إذ لا يُخَلَّد في النار مسلمٌ، فيكون المرادُ أنهم لا يدخلون الجنَّة مع السابقين الأولين، وإنما بعدَ سبق عذاب أو مناقشة وعتاب.

اتباع: 

  1. روى أبو هريرة رضي الله عنه من الأحاديث ما لم يروه غيره؛ لحرصه على حديث رسول الله ﷺ وتفرُّغه له، حتى إنَّه كان يبيت مع أهل الصُفَّة في المسجد، يأكل من طعامهم ويشرب من شرابهم، لا يشغله عن رسول الله ﷺ شاغل. وهو من عظيم اجتهاده وعلوِّ هِمَّته، فينبغي على من أراد الهِمَّة في طلب العلم أو الاجتهاد في أمرٍ من الأمور أن يتمثَّل بفعل أبي هريرة وصبره وملازمته لرسول الله ﷺ.

  2. صدَّر النبيُّ ﷺ كلامَه بعبارةٍ مجملة تحتاج إلى توضيح وتفصيل، وذلك لتتعلق النفوس إلى استماعه وحفظه، ولهذا بادر الصحابة إلى السؤال عن توضيح ذلك الإبهام. فينبغي على كلِّ مُعَلِّمٍ أو مُرَبٍّ أو داعيةٍ أن يحرص على استعمال الأساليب التي تجلب الانتباه وتساعد على التركيز والحفظ.

  3. دخول الجنَّةِ فوزٌ عظيمٌ، يحتاج إلى أمرٍ هين، وهو اتباع النبيِّ ﷺ وطاعته، فمَن فرَّط في تلك الغنيمة وأدركه الخسران المبين، فهو المُضَيِّع الرافض.

  4. ما أوضح هذا الطريق وما أيسره، وما أبعده عن التكلف والتعنت في العبادة، فهي الطاعة لله تعالى بطاعة رسوله ﷺ، قال عبد اللّه بنُ مسعود: "إنّا نقتدي ولا نَبتَدي، ونتَّبِع ولا نَبتَدع، ولن نَضِلَّ ما تمسَّكْنا بالأثر"[1]

  5. قال الشاعر:

إِنْ لَمْ  تَكُنْ  لِمُحَمَّدٍ = تَبَعًا  فَقُلْ  لَمْ  أَرْشُدِ

دُنْيَاكَ  مَاذَا   بَعْدَهَا = مَا دُمْتَ غَيْرَ مُخَلَّدِ؟

هَلْ  هَذِهِ  دَارُ  البَقَا = ءِ أَوِ النَّعِيمِ؟ أَلا ازْهَدِ

اصْبِرْ  عَلَى  أَهْوَالِهَا = وَاجْهَدْ لِتَنْعَمَ فِي الغَدِ

المراجع

  1. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).


فقه

هذا الحديث من أعظم ما يبن مراتب الدين، ويجمع أصولها ولهذا قال القاضي عياض: "هذا حديث عظيم قد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه"[1].

يروي عمر رضى الله عنه أنهم:

  1. بينما هم جالسون عند رسول الله ﷺ إذ طلع عليهم رجلٌ عجيب الهيئة؛ فهو شابٌّ شديد سواد الشعر، وليس من أصحاب النبيِّ ﷺ المعروفين، ولا يبدو أنه مسافرٌ إذ لا تبدو عليه أمارات السفر من شعث الرأس وغبرة الوجه والثياب.

  2. ثم إن هذا الرجل اقتحم الحلقة حتى جلس أمام النبيِّ ﷺ وألصق ركبتيه بركبتي النبيِّ ﷺ ووضع كفَّيه على فخذي نفسه، متهيئًا مستعدًا لطلب العلم، متواضعًا للنبيِّ ﷺ في جلسته تلك.

  3. ثم قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام. وإنما قال: يا محمد؛ ليشتبه عليهم أنه من الأعراب؛ فإنَّهم من كانوا ينادون النبيَّ ﷺ باسمه المجرد؛ إذ لم يكن لديهم من العلم والأدب ما عند الصحابة من المهاجرين والأنصار الذين سمعوا أمر الله تعالى وامتثلوه:

    ﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ﴾

    [النور: 63]

     أي: لا تنادوه كما ينادي بعضكم على صاحبه وأخيه؛ فلا تقولوا: يا محمد، وإنما قولوا: يا رسول الله[2].

  4. فأجابه النبيُّ ﷺ عن الإسلام، وذكر له أنَّه يقوم على الخمسة أركان المعروفة، وأولها: شهادة أن لا إله إلا الله؛ كلمة التوحيد التي أرسل الله بها جميع الأنبياء والمرسلين، يجب فيها النطقُ باللسان، والاعتقاد بالقلب، والعمل بمقتضاها بالجوارح؛ فلا يعبد إلا الله، ولا يخاف إلا منه، ولا يتوسل إلا له، ولا يدعو غيره، ولا يخاف سواه خوفَ السِّرِّ، ولا يشرك به في المحبة والرجاء والنذر وسائر العبادات، وأن يُوقن أنه الضارُّ النافعُ، لا يملك أحدٌ غيره نفعَ عبدٍ أو ضرَّه إلا بإذنه، فهو المعبود الحقُّ وما سواه باطل.

  5. ومن مقتضى كلمة التوحيد تصديق رسوله ﷺ فيما أتى به، والإيمان أنَّه مُرسلٌ من ربه، مُصَدَّقٌ فيما جاء به من عند الله، ويستلزم ذلك الإيمان بما شرع والامتثال بما أمر واجتناب ما نهى، وتعظيمه وتوقيره ونصرته والدفاع عنه والجهاد معه. 

  6. الركن الثاني من أركان الإسلام: إقامةُ الصلاة، وهو إقامتها على الوجه اللائق بها، كما ينبغي أن تُؤدى، بعد استيفاء الشروط وأداء الأركان، فيخشع في صلاته ويستحضر عظمة الله سبحانه فيها، ولهذا لم يقل: "وتؤدوا الصلاة".

  7. والركن الثالث: أداء الزكاة، وهي ما يجب على الإنسان في ماله الذي رزقه الله، على التفصيل المشروع الذي بيَّنه الشرع الحنيف. فيُخرج الإنسانَ زكاتَه طيبة بها نفسه، مؤمنًا بوجوبها عليه، محتسبًا الأجر والثواب عند الله، لا ينتقي أردأ ماله ليخرجه للزكاة، بل يؤثر رضا الله وثوابه.

  8. والركن الرابع من أركان الإسلام هو الصيام، بالإمساك عن المفطرات من الطعام والشراب والجماع في شهر رمضان، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، كما ورد تفصيل ذلك في كتب الفقه، فيصوم الإنسان مؤمنًا محتسبًا طائعًا غير مُكْرَهٍ ولا متأفف.

  9. ثم الركن الخامس: حجُّ بيتِ الله الحرام في مكة، وما يتبعها من مناسك وعبادات، بأحكم مخصوصة، وهي تجب مرة في العمر بشرط الاستطاعة البدنية والمالية.

والملحوظ أنَّه جمع في تعريف الإسلام بين أركانه الخمسة التي بُني عليها، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ» [3].

وليس معنى هذا أن الإسلام ينحصر في تلك العبادات فحسب، بل هي أركانه التي لا يقوم بدونها، وسائر العبادات من تتمات ذلك البناء التي يؤثر فقدها في تشويه البناء مع بقائه، بخلاف الأركان التي إن فُقدت انهدم البناءُ أصلًا.

10. فلمَّا انتهى النبيُّ ﷺ من جوابه قال له الرجل: صدقتَ، فتعجَّب الصحابة كيف يسأله عن شيء مستفهمًا عنه ثم يُصَدِّقه عليه؛ فإن المُصَدِّق من شأنه أن يكون عالمًا بما قيل، لا جاهلاً يسأل عنه.

11. ثم سأله عن الإيمان، وهي المرتبة الثانية من مراتب الدين بعد الإسلام، فقال ﷺ: الإيمان أن تؤمن بالله؛ أي: تؤمن به ربًّا خالقًا رازقًا مالكًا مدبِّرًا، وتؤمن به إلهًا معبودًا مُطاعًا، وتؤمن بأنَّ له الأسماء الحسنى والصفات العُليا.

12. والإيمان بالملائكة: أن تؤمن بوجودهم، وأنَّهم مخلوقون من النور، وأنَّهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وتؤمن بما ذكر الله منهم بأسمائهم وأعمالهم؛ فجبريل أمين الوحي وهو سيِّد الملائكة، وميكائيل الموكل بالمطر والنبات، وإسرافيل المُوَكَّل بالنفخ في الصور، ومالك خازن النار، ونحو ذلك.

13. والإيمان بالكتب: الإيمان بأنها منزلة من عند الله تعالى، وذلك يقتضي تصديق ما فيها والعمل بما ثبت من أحكامها، إلا أنَّ القرآن جاء ناسخًا لسائر الشرائع قبله، كما أنَّ تلك الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل قد تعرضت للتحريف والتبديل.

14. والإيمان بالرسل: تصديقُهم بما أَتَوا به، وأنَّ الله قد أوحى إليهم أَمْرَه، وأنهم خير خلق الله تعالى، نؤمن بهم جميعًا، مَن جاء ذكره في الكتاب والسُّنة وعَلِمنا خبره ومَن لم نعلم عنه شيئًا، ولا نُفَرِّق بين أحدٍ منهم 

﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾

[لقمان: 34].


﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾

[النساء: 150 - 152].

15. والإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالبعث والحساب، والجنة والنار، والصراط والميزان، والشفاعة وحوض الكوثر، وسائر ما صحَّت الأخبار به.

16. والإيمان بالقَدَر: أن نؤمن بأن الله عزَّ وجل عَلِم أفعال العباد وما يجري لهم، وأنه سبحانه كتب ذلك عنده في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم، وأن أعمال العباد تجري وفق ما سبق في علم الله تعالى وكتابته، وأنَّ أفعال العبادِ جميعًا مخلوقةٌ لله تعالى؛ الكفر والإيمان، والطاعة والعصيان[4].

17. ثم سأله عن الإحسان، وهي المرتبة الثالثة من مراتب الدين، فأخبره أنَّ الإحسانَ أن يعبدَ الإنسانُ ربَّه على أتمِّ صورةٍ كأنَّه يرى ربَّه أمامه، فإذا لم يستطع الإنسانُ أن يصل لتلك المرتبة من المراقبة والخشية، فدونها أن يستحضر مراقبة الله تعالى، ويعلم أنه يراه.

قال تعالى:

﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾

[الشعراء: 217 - 220].

ومراتب الدين كلها متداخلة؛ فالإسلامُ أعمُّ من الإيمان والإحسان، وهما داخلان فيه، والإيمان أعمُّ من الإحسان، فمن خرج عن دائرة الإيمان لم يزل مسلمًا، ومن خرج عن مرتبة الإحسان لم يزل في مرتبة الإيمان.

قال تعالى:

﴿ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾

[الحجرات: 14]

18.ثم سأله السائلُ عن الساعة؛ متى تقوم؟ فقال ﷺ: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل» أي: ليس علمي فيها أكثر من علمك؛ فإنَّه لا يعلم ميعادها إلا الله جل شأنه

﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ﴾

[لقمان: 34].

19. فاستعاض عن هذا السؤال بأن يسأله عن علاماتها، فأجابه ﷺ بأن من علاماتها أن تَلِد الجاريةُ سيدتَها، وهو أن يكثر الرقيق حتى تلد الأمةُ لسيِّدها بنتًا، فتكون البنتُ حُرَّةً سيِّدَةً، وأُمُّها أَمَة. وقيل: بل معناه أن الإماء تلد الملوك، وقيل: تلد العجمُ العربَ، والعربُ سادةُ الناس وأشرافهم[5] .

20. ومن علاماتها أيضًا أن يصير الفقراء الذين كانوا يمشون حُفاةً لا نعال لهم، عُرَاةً لا يجدون ما يستر ثيابهم، فقراء لا يجدون من يعولهم، من رُعاة الأغنام من الأعراب والبدو أغنياءَ مُوسرين، حتى إنَّهم يتطاولون في البنيان. ولعلَّ ذلك يشير إلى حديث: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»[6]، فقد أُسندت الأمور إلى غير أهلها حتى صار الأعراب الجهلة الجفاة رؤوسًا في أقوامهم، من أصحاب الثروة والجاه[7].

21. ثم انطلق الرجل، فمكث عمر فترةً يسيرةً، ثم قال له ﷺ: أتدري من هذا الرجل؟ فقال عمر: الله ورسوله أعلم، فقال ﷺ: هذا جبريل، جاءكم يعلمكم دينكم.

وقد أعطى اللهُ سبحانه الملائكةَ القدرةَ على التشكُّل في صورة الآدميين وغيرهم، وقد كان جبريل عليه السلام يأتي النبيَّ ﷺ مرارًا في صورة دحية الكلبي الصحابيِّ رضى الله عنهم.

اتباع

  1. لمَّا دخل جبريل عليه السلام على النبيِّ ﷺ جلس إليه مجلس طالب العلم المُنصت المستعدِّ لقبول ما يقال من العلم، دون غرورٍ بمنزلته وفضله، وهو أمين الوحي وروح القدس. وهو أدب لكل من يسأل عالماً أن يحسب الأدب في الجلوس إليه، ولا يسأله بهيئة المتكبر المستغني، كالمتكئ بطريقة لا تليق، أو نبرة لا تليق.

  2. أركان الإسلام من أولى المسائل التي ينبغي أن يعتني بها المسلم في خططه السنوية واليومية، وأن يحاسب نفسه عليها، وأن يكمل كل واحدة منها بإحسان أدائها والزيادة بالمستحبات من جنسها: فينظر في قوة شهادته لله تعالى، ويكملها بكثرة الذكر، ويحسن فرائض صلاته، ويكملها بالنوافل كالوتر والسنن الرواتب وأذكار الصلاة، ويؤدي الزكاة كاملة بطيب نفس، ويزيد بصدقات متفرقة، ويصوم رمضان ولا يخرمه بذنوب، ويزيد ما تيسر من التطوعات، ويحج لبيت الله تعالى ولو مرة، ويزيد ما تيسر له ذلك من حج وعمرة.

  3. قف مع كل ركن من أركان الإيمان، وماذا قام بقلبك في كل ركن منها، كيف إيمانك بالله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؟، ما منزلة استحضارك لأثر الملائكة وتوقيرك لهم؟، ما مدى فرحك بكتب الله تعالى لخلقه، وتعظيمك لها، وخصوصا لخاتمها الناسخ لها وهو القرآن؟، ما مدى توقيرك لرسله، ومحبتك لهم محبة تدعوك لتطلّب تفاصيل حياتهم، واهتمامك بهديهم؟، ما تعظيمك لليوم الآخر وتذكرك الدائم له؟، ما قوة إيمانك بقدر الله تعالى والرضا بما يجري عليك منه؟ 

  4. أعلى مراتب الدين مرتبة الإحسان، فهل جربت أن تحمِلَ نفسك على أن تعبد الله وكأنك تراه؟، أو إن لم تكن تراه فاستحضر أن تعبد الله وتعلم أنه يراك، أعظم مما لو نُصبت عليك العيون والمصوِّرات، ولا يكون اللهُ أهونَ الناظرين إليك.

  5. إذا أيقن الإنسانُ واستشعر معيَّة الله ورؤيته إياه ومراقبته له، استحى أن يراه متكاسًلا عن الطاعات، فضلًا عن أن يراه على معصية.

    قال تعالى:

    ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾

    [الشعراء: 217 - 220].

  6. الإسلام عظَّم شأن اليوم الآخر، وهو إن لم يخبر بوقته فقد أخبر بعلامات له، وهي وغيرها تحفز على الاستذكار الدائم له، فمتى جلسنا مع أنفسنا وتخيلنا اليوم القادم لا محالة؟

المراجع

  1. "إكمال المُعلم" للقاضي عياض (1/ 204).
  2.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
  3. رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
  5. ينظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 136 - 137).
  6. رواه البخاري، برقم: (59)، عن أبي هريرة
  7.  ينظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).

فقه

1- أخبر النبيُّ ﷺ أن الدينَ هو النصيحة، وهي كلمةٌ عامةٌ دالة على أن الإنسان يبذل صافي الجهد بالخير تجاه غيره، كما ينصح أي يصفو العسلُ مما يشوبه[1].

وجعل الدينَ كلَّه في النصيحة؛ من باب التعظيم، مع أن في الدين خصالًا أخرى غير النصيحة، كما تقول العرب: المالُ الإبلُ[2]

2- فاستفسر الصحابةُ: لِمن تجب تلك النصيحة؟ فأجابهم ﷺ ببيان أهلها، فقال:

3- لله، ومعنى النصيحة لله -عزَّ وجلَّ– عام في الاجتهاد وتصفية العمل له فيما يطلبه، من الاعتقادات والأعمال.

4- والنصيحةُ لكتابه سبحانه معنى عام في الاجتهاد، وتصفية العمل: فيما فيه توقيره، واتباعه، ومحبته.

5- والنصيحةُ لرسوله ﷺ معنى عام في الاجتهاد، وتصفية العمل: فيما فيه توقيره، واتباعه، ومحبته أيضًا.

ومن النصيحة للنبيِّ ﷺ تقديم ذلك لمن يتصل به من أهله وصحابته..

6- أما أئمة المسلمين فهم الأمراءُ والعلماء؛ فالنصيحة لهم هي في بذل صافي الجهد في فعل ما أمر الله تعالى به تجاههم، ومنها الطاعة في المعروف، والإعانة على الخير، والصلاةُ خلفهم، والجهادُ معهم، وتركُ الخروج عليهم، وألَّا يتتبَّع الإنسان زلَّاتهم وما يُخطئون فيه، ويدافع بالحق عنهم[3].

7- وأما عامَّة المسلمين، فالنصيحة لهم هي في بذل صافي الجهد في فعل ما أمر الله تعالى به تجاههم من تحصيل مصالح الدين والدنيا لهم. 

وهو معنى جامع، ولهذا بايع النبيُّ ﷺ أصحابه على النصح؛

فعن جَريرِ بنِ عبدِ الله البَجَليِّ رضى الله عنه  قَالَ:

«بَايَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي: فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»

[4].

وحقيقةُ النصيحة كلها راجعةٌ للعبد نفسه؛ فإنه المأجورُ على ذلك، والله سبحانه غنيٌّ عن نُصح كلِّ ناصح [5].

اتباع: 

1- كان تميمٌ رضى الله عنه نصرانيًا، فأسلم في آخر حياة النبي ﷺ، وغزا معه، وأصبح عابدًا، قوَّامًا، تلَّاءً للقرآن، فإذا أمكن هذا لمن كان نصرانيًا فلا تيأس من صلاحك أو صلاح غيرك، واجتهد.

2- تحمل المسؤولية، والصدق في أدائها، هي من معاني النصيحة، بأن يقوم بمسؤوليته أمام الله تعالى، وكتابه، ورسوله ﷺ ، وأئمة المسلمين ، وعامّتهم، بإخلاص واجتهاد.

3- هل بذلت صافي اجتهادك لله تعالى؟ حاسب نفسك وتذكر حقوقه عليك، ومنها: الإيمان به، وترك الشِّرك معه، وبَذْل الطاعة له، وإجابة داعيه بالصلاة وغيرها، وإخلاص العمل فيما أَمر به ونَهى عنه، وتعظيم المحبة والخضوع له.

4- هل بذلت صافي اجتهادك لكتاب الله تعالى؟ حاسب نفسك وتذكر حقوقه عليك، ومنها: تعظيم الإيمان به، وكثرة تلاوته، وتدبر معانيه، ودعوة الناس إلى الإيمان به وتلاوته، وأن يدافع الإنسان عنه ضدَّ من حرَّف ألفاظه أو معانيه، ومن ذلك أيضًا احترامُ قُدسيته، فلا يُمَسُّ إلا من طاهرٍ من الحدَثَين الأصغرِ والأكبر، إلا أن يمسَّه من وراء حائل، وألَّا يوضَع في مكان يُمتهَن[6].

5- هل بذلت صافي اجتهادك لرسول الله تعالى؟ حاسب نفسك وتذكر حقوقه عليك، ومنها: تصديقه، وطاعته فيما شَرَع، وترك التقديم بين يديه، وتعظيم حقِّه، وتعزيره، وتوقيره، ومؤازرته، ونُصرته، وإحياء طريقته في بثِّ الدعوة، وإشاعة السُّنة، ونفي التُّهمة في جميع ما قاله، ونَطَق به[7]، ومنها: احترامُ أصحابه، وتعظيمُهم، ومحبَّتهم؛ لأن أصحاب الإنسان هم خاصَّتُه من الناس.

6-هل بذلت صافي اجتهادك لأئمة المسلمين من أمراء وعلماء، وما في حكمهم من مسئولين عليك..؟ ومنها: طاعتُهم في الحقِّ، ومعونتُهم على مصالح الدين والدنيا، وتذكيرُهم بما غفلوا عنه، أو جهِلوه، وأن يُدعى بالصلاح لهم، ولا يكون من نصيحتهم الكذبُ عليهم، والمدح المفرِط لهم، وتسهيل الباطل في أعينهم [8].

7- هل بذلت صافي اجتهادك لعامة المسلمين؟ ومنها: إرشادُهم لمصالحهم، ومعونتُهم في أمر دينهم ودنياهم بالقول والعمل، وتنبيهُ غافلهم، وتعليمُ جاهلهم، ورِفْدُ محتاجهم، وسَتر عَوْراتهم، ودَفْع المضارِّ عنهم، وجَلْب المنافع في الدين والدنيا إليهم، وأن يريد الخيرَ لهم في الدنيا والآخرة، وكفَّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ لهم من الخير ما يحبُّ لنفْسه[9].

8- أحد معاني النصيحة تنبيه غيره على خطأ وقعوا فيه، فإن كان منكراً أنكر عليهم بحسب مراتب الإنكار، وبحسب المصلحة، وحتى ولو رفع أمره لوليِّ الأمر أو غيره؛ فإن هذا من النصيحة لله عزَّ وجلَّ[10]، ومن هَدْي النبيِّ ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم في النصيحة: أن يُنصح الرجلُ سرًّا؛ فإنَّ الرجل إذا نُصح على رؤوس الناس فقد وُبِّخ. ولهذا قال الفضيل بن عياض: المؤمنُ يَسْتُرُ ويَنصَح، والفاجرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ[11]

9- نصيحة أصحاب السلطة والقوة هي على قَدْر الاستطاعة؛ فإذا أَمِن مِن ضُرِّهم فعليه أن ينصحَهم، فإذا خَشيَ على نفْسه، فحسبُه أن يُغَيِّر بقلبه، وإن علِم أنه لا يقدر على نُصحهم فلا يفعَل ما يظنون به تأييده، فإنه يغشُّهم ويَزيدهم فتنةً، ويُذهب دينَه معهم.

10- من حكمة الناصح للناس أن يُعَرِّض بالنصيحة ولا يُصَرِّح بها إلا لمن لا يفهم التعريض، وأن ينصح الإنسانُ من غير اشتراط أن يُقبل منه، بل ينصح ويؤدي ما عليه، فإن عمل المنصوح بقوله فهو المطلوب، وإلا فهو مأجورٌ على نُصحه وإخلاص القول لأخيه.

11- من سُبُل النُّصح: أن ينصح ببيان صحيح الحديث من سقيمه، وأن يُبين للناس -على بصيرة- أحوال الرجال، ومَن يصلح للأخذ عنه ومن لا يصلح لذلك. قيل لأحمدَ بنِ حنبلٍ: الرجُلُ يصوم، ويُصلِّي، ويَعتكف، أحبُّ إليك، أو يتكلَّم في أهل البِدَع؟ فقال: إذا قام، وصلَّى، واعتكف، فإنما هو لنفْسه، وإذا تكلَّمَ في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضلُ[12]. فينبغي على الداعية والفقيه أن يتكلم في تلك الأمور مخلصَ النية لله تعالى محتسبًا ذلك في النُّصح لله ورسوله.

12- كان جرير بن عبد الله رضى الله عنه إذا عَرَضَ سلعةً بصَّر المشتريَ عيوبَها، ثم خيَّره، فقال: إن شئتَ فاشترِ، وإن شئتَ فاتركْ، فقيل له: إذا فعلتَ هذا لم ينفذ لك بيعٌ، فقال: إنا بايَعْنا رسولَ الله على النُّصح لكل مسلم[13]. فالنصيحةُ لا تقتصر على مجرد إبداء الرأي والمشورة ونصرة الدين، بل هي شائعة في كل أمور الحياة؛ فالعامل ينصح في عمله بأدائه على أكمل وجه، والتاجرُ يُبَصِّر الناس بعيوب سلعته، والطبيبُ ينصحُ بإتقان عمله واعتماد الأدوية الفعَّالة ولو قلَّ ثمنها، والطالبُ بالحرص على طلب العلم ومساعدة إخوانه فيه لنفع نفسه وأمته، وهكذا.

13- قال الشاعر:

تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي = وجنِّبني النصيحة َ في الجماعهْ

فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ = من التوبيخِ لا أرضى استماعه

وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي = فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه

المراجع

  1. ينظر: "أعلام الحديث" للخطابي (1/189)، "المعلم بفوائد مسلم" للمازري (1/293).
  2. انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 219)، و"رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (1/ 346).
  3. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 393).
  4. رواه مسلم برقم: (56).
  5. ينظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (1/ 191).
  6. انظر: "المفهم" للقرطبيِّ (1/ 243)، "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 388).
  7. "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 192).
  8. انظر: "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 193)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 244).
  9. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياضٍ (1/ 307)، "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (1/ 218).
  10. ينظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 384).
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 225).
  12. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 231).
  13. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 131).


فقه

يخبر العباس رضي الله عنه بهذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:

1. أن للإيمان طعمًا ولذَّةً وحلاوةً، وقد استخدم النبيُّ ﷺ لفظة: "ذاق" مع الإيمان مع أنه ليس بشيء ماديٌّ لإيصال المعنى؛ فإذا كان الإنسان يتذوق الأكل والشرب ويحسُّ لهما طعمًا لذيذًا، فكذلك يحسُّ للإيمان أثرًا في نفسِه يعرفُه من جرَّبه [1]

ومن معنى هذه اللذة انشراح الصدر وراحة البال والأنس بالله، وبذلك تهون المعاصي في عين الإنسان فيجتنبها، وتسهل عليه الفرائض فيتحمل مشاقَّها، ولا يقنط من رحمة ربه ويرضى بقضائه، وهذه اللذة لا تنال إلا بشروط.

2. الشرط الأول الرضا بالله ربًّا، والرضا: الاقتناع بالشيء والاكتفاء به عن غيره، ومن الرضا بالله تعالى تصديقه في أخباره، والتسليم له في أحكامه الشرعية، والصبر وتطمين النفس في أحكامه القدرية .

وليس المراد من الرضا الإقرار بوجود الله تعالى أو ربوبيته؛ فهذا شرطٌ في الإسلام أصلًا ويقول به أكثر من الكفار، وإنما المقصود هو الرضا الخاص، وهو أن يرضى به مُدَبِّرًا خالقًا مُشرعًا، فيرضى حكمه ويرتضي تشريعه، فيعبده ويحبه ويرضاه ويتوكل عليه ويخلص الإنابة إليه، ولا يخاف غيره خوف السِّرِّ، ويرضى بقضائه وقدره، فلا يصدر عنه ما يُغضبه سبحانه عليه[2].

3.الشرط الثاني: الرضا بالإسلام دينًا، ومعنى ذلك أن يرضى به شرعًا؛ فيتبع أمره ويجتنب نهيه، ويختاره على سائر الأديان، ويجعله ركنه الركين الذي يأوي إليه، فيوالي ويعادي عليه، ويُضَحِّي من أجله بكل غالٍ ونفيس.

4.والشرط الثالث: الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، ويتضمن ذلك الإقرار والتصديق بأنه رسولٌ من الله، والرضا بما جاء به من عند الله من الأمر والنهي، وقبول ذلك الشرع والتصديق له والانقياد والعمل والخضوع. وهو رضا المحبِّين المتَّبِعين، المهتدين بهَدْيِه، المقتدِين به، الممتثلين لطاعته، الباذلين النفسَ والنفيس في الدفاع عن سنَّته، المتشوِّقين للقائه.

ويتبين بهذا أنه لا يأتي أحدٌ بمفهوم الإيمان إلا إذا اجتمعت لديه أصول الدين الثلاثة؛ الإيمان بالله ونبيه ودينه.

اتباع

  1. آمن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بابن أخيه، مع أنه أكبر سناً منه، وقد تحمَّل في سبيل ذلك عداوة قومه وأهله، وهي صفة تدفع العاقل أن يتقبل الحقَّ ممَّن كان؛ صغيرًا أو كبيرًا، قويًّا أو ضعيفًا، غنيًّا أو فقيرًا.

  2. ثبت العباسُ رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين فرَّ أكثر أصحابه من حوله يوم حنين. وهذا يدل على صدق إسلامه وذوقه لطعم الإيمان رغم قرب إسلامه، فكيف بمن وُلد على الإسلام أو له فيه أعوامٌ عديدة ولم يزل يعبد الله على حرفٍ؟! لا بد أن يتحقق فينا الإيمان، فنكون كما

قال تعالى:

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾

[الأحزاب: 23].

3. للإيمان لذة قد لا يدركها من عاش في الإيمان زمنًا لعدم تحقيقه لحقائقها، أو عدم استشعاره المقارنة بسواها، فكلما رأيت نفسك تؤثر لذائذ الدنيا على لذائذ الإيمان فذكرها وحثها على طلب لذة الإيمان. 

4. تطلَّب الرضا بالله ربًا بتذكرك أنه الرحمن الرحيم، العزيز الحكيم، وبكل شيءٍ عليم، وغير ذلك من صفاته التي تطمئن فيها النفس إلى تصديقه في خبره، وتسليمه لأمره ونهيه، والطمأنينة لقدره، وبتذكر نعمه الظاهرة والباطنة، وأن ما لم نعلم من نعمه أعظم مما علمناه، وما لم نعلم من خلقه وحكمته في تدبيره أعظم مما علمناه. 

5. تطلَّب الرضا بالإسلام دينًا بتذكرك أنه شرعٌ الله تعالى، الذي لا أعلمَ منه، ولا أحكمَ منه، ولا أرحمَ منه، وأن العاقل يعلم من الكمال الذي في بعض تفاصيل هذا الدين ما يقنعه بكمال ما لم يعلم.

6.تطلَّب الرضا بالنبيِّ ﷺ رسولًا، بتذكَّر كماله في كل صفة بشرية، ومنها كمال علمه، وعقله، وتأييد الله تعالى له وعصمته له، وتذكر عظيم بذله لأمته، وشفقته عليهم، وأنه لو قارن من قارن من الخلق به لظهر قصور جميع الخلق أمامه ﷺ .

7. هذه الدنيا على ما فيها من بلاء ومشقة وتعب وإيذاء، تصير جنةً للمؤمن بالرضا والتسليم والإيمان، ولهذا قيل: "الرضا جنة الدنيا، ومستراحُ العارفين". فهلَّا غرسنا جنتنا في الدنيا بأيدي الرضا! فإذا أصابت المسلم مصيبةٌ أو فاته بابٌ من أبواب الرزق والخير سلَّم أمره لله، وآمن بأنه لن يصيبنا إلا ما كتب اللهُ لنا، فحينئذ تدخل السكينةُ قلبه، ويرتاح من اليأس والقنوط والتحسر على ما فات.

8. كان أميرُ المؤمنين عمرُ بنُ عبدِ العزيز يدعو بهذا الدعاء: "اللهم رضِّني بقضائك، وبارك لي في قَدَرك؛ حتى لا أحبَّ تعجيل ما أخَّرتَ، ولا تأخير ما عجَّلتَ"[3]

9.سُئل يحيى بن معاذ: متى يَبلُغ العبدُ مَقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نَفْسَه على أربعة أصول في ما يُعامِل به رَبَّه، يقول: إن أعطَيْتَني قَبِلْتُ، وإن مَنعْتَني رَضِيتُ، وإن تركتني عبدتُ، وإن دعوتَني أجبتُ[4]. فعلينا أن نفتش في أنفسنا؛ هل توافرت فينا تلك الصفات؟ وبقدر ما تتوافر فينا صفة فقد بلغنا من الرضا شيئًا.

10. قال الشاعر: 

رِضَاكَ خيرٌ من الدنيا وما فيها

يا مالكَ النَّفْسِ قاصِيها ودانِيها

فليس للروح آمالٌ تُحقِّقها

سوى رضاك فذا أقصى أمانيها

فنظرةٌ منك يا سُؤلي ويا أَمَلي

خيرٌ إليَّ من الدنيا وما فيها

المراجع

  1. نظر: شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن (2/ 446).
  2. ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبيِّ (1/ 210)، الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/ 393).
  3. نظر: "أدب المرتعى في علم الدُّعا" لابن عبد الهادي (ص: 164).
  4. "لوامع الأنوار البهية" للسفارينيِّ (1/ 359).

فقه

  1. جاء أحدُ علماءِ اليهود - وهو كعب الأحبار الذي أسلم بعد ذلك[1] – إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه يخبره بأنَّه يغبط المسلمين على آيةٍ نزلت في القرآن الكريم، وأنَّ معشر يهودٍ يتمنون لو كان نزل عليهم مثلها، فإنهم كانوا سيُعَظِّمون ذلك اليوم الذي نزلت فيه ويتَّخذونه عيدًا لهم.

  2. فسأله عمر  عن تلك الآية، فأخبره الرجل أنها

    قوله تعالى:

    ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

    [المائدة: 3].

وإنما احتفى اليهودُ بتلك الآية لأنَّ فيها إخبارًا بإكمال الدين، وهو حاصلٌ بأمورٍ؛ منها: اكتمال الشرائع والحدود والفرائض، ونفي المشركين عن المسجد الحرام وعدم دخوله، وعزُّ الإسلام وظهوره، وذلُّ الشركِ وأهلِه، وزوال الخوف من العدو، ورفع النسخ عن الدِّين، فلا ينزل ما ينسخه من الأحكام أو الديانات التالية، فهو الدين الخاتم، وفتح مكة[2]. ومن كماله كذلك أنَّه لا تعارض بين نصوصه، ولا بينها وبين العقل الصريح، وأنه دينٌ صالحٌ للثَّقلين في كلِّ زمانٍ ومكان، وأنَّ تشريعاته تراعي حاجة الإنسان وتُلَبِّي مطالبه وتحقق الأمنَ والنظامَ بين أفرادِه.

وفيه إتمامُ النعمة بظهور الشرع وتحقيق الأمن ونشر الدين في ربوع الأرض، وإعلانُ الرِّضا الإلهي عن دين الإسلام، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم[3].

3. فأخبره عمر بأنَّ المسلمين أكثر اهتمامًا بالوحي منكم، فإننا نعلم زمان نزول تلك الآية ومكانها، ونُعَظِّمهما؛ فقد نزلت على النبيِّ وهو واقفٌ بعرفة، وكان يومَ جمعة، فذلك عندنا عيدان لا عيدٌ واحد؛ العيد الأسبوعي يوم الجمعة، ويوم عرفة وهو عيدٌ للمسلمين كذلك، قال : «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»[4].

اتباع: 

  1. (1) أعداء الإسلامِ يدرسونه جيِّدًا بحثًا عن شُبهاته التي يُثيرونها، فعلى كلِّ طالبِ علمٍ أن يتجهَّز للدفاع عن الإسلام ويرد شبهات المشككين.

  2. (1) لا تغترَّ بمسالمة الكافرين؛ فإنهم أكثر النَّاس حسدًا للمسلمين على ما أوتوا.

  3. (1) غير المسلمين يحسدوننا على ما أنعم اللهُ تعالى علينا من الوحي، وأنت غافلٌ عن قراءته وفهم معانيه!

  4. (2) اعلم أنَّ الإسلامَ دينٌ كاملٌ لا نقصَ فيه، ولا تعارض بين نصوصه وبعضها، ولا بينها وبين العقل الصريح. فإن رأيتَ تعارضًا أو إيهامًا بالنقص فارجع إلى أهل العلم يحِلُّون لك المشكل ويوضحون لك الغامض المبهم ويزيلون التعارضَ المتوهَّم.

  5. (3) ليست الأعيادُ بالرأي والاجتهاد، وإنَّما بالنَّصِّ عليها. فلا تحتفل بما لم ينصَّ عليه الشرع من أعياد الأمم السابقة.

  6. (3) على المسلم أن يعتزَّ بدينه، ويتعلَّم العلم الشرعيَّ، ويَربَأ بنفسه أن يُظهره أحد من الكفَّار في مظهر من لا يعرف دينه، أو أنه جاهل بدينه.

  7. قال الشاعر:

وَتَنَزَّلَ الْقُرْآنُ يَبْنِي أُمَّةً = حَتَّى أُتِمَّ الدِّينُ وَالْإِنْعَامُ

يَا سَيِّدَ الْأَحْرَارِ يَا رَأْسَ الْإِبَا = يَا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ تُدَامُ

أَدَّيْتَ أَمْرَ اللهِ وَحْدَكَ حَامِلًا = أَمْرًا تَنُوءُ بِحِمْلِهِ الْأَعْلَامُ

8. 

 وقال غيره:

جـاءَ النَّبِيُّـون بالآيـاتِ فـانصرمت = وجئتَنــا بحــكيمٍ غــيرِ مُنصَـرمِ

آيَاتُــه كلَّمَــا طَـالَ المـدَى جُـدُدٌ = يَــزِينُهنَّ جَــلالُ العِتــق والقِـدمِ

يَكَــادُ فــي لفظــةٍ منـه مشـرَّفةٍ = يـوصِيك بـالحقِّ والتقـوى وبالرَّحِمِ

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 270).
  2. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزيِّ (1/ 513)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339)، "تفسير ابن رجب الحنبليِّ" (1/ 384).
  3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339).
  4. أخرجه أبو داود (2419)، والترمذيُّ (773) والنسائيُّ (4186).


فقه:


  1. يخبر النبيُّ ﷺ أن الإيمان كالشجرة ذات الفروع، وبعضها أعلى مقامًا وأرفع من بعض، وقد ذكر ﷺ أنه بضعٌ وسبعون قِطْعة وخصلة، والبضع ما بين الثلاثة إلى التسعة، فكأنه قال: الإيمان ما بين ثلاث وسبعين إلى تسع وسبعين خصلة.

وقوله: «أو: بضعٌ وستون» شكٌّ من الراوي، واختلاف الروايات في تحديد العدد لا يضر، لأن المقصود بيان تعدد شُعَب الإيمان..، وقد حاول بعض العلماء تحديد تلك الشُّعب بذكر الأعمال الفاضلة في كتاب الله وسُنَّةِ نبيِّه ﷺ، وهي اجتهاداتٌ تقريبية.

2.   ثم بيَّن ﷺ أنَّ أفضلَ تلك الشُّعَب تحقيقُ التوحيد، وهو قول لا إله إلا الله، وليس المقصود بالقول مجرد لفظ اللسان، بل هو تبنّي القول، بما يتضمنه من علمٍ، ويقينٍ، وصدقٍ، وإخلاصٍ، ومحبةٍ، وانقيادٍ، وقبول لمقتضياتها، وكفرانه بما سوى الله تعالى، واجتناب مضاداتها من الشرك الأكبر والأصغر والخَفِيِّ.

وهذه الشُّعبة أصل الإيمان؛ إذ لا يُقبل سائر خصاله بدونها

قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[آل عمران: 85].

3. وأقلُّ تلك الشعب فضلًا: إبعادُ أي شيء يؤذي الناس في طرقهم؛ كالشُّوكِ، والأحجارِ، والقاذورات، والمسامير، والعجلات الساقطة، وغيرها.

وإذا كان مأموراً بإبعاد الأذى في الطريق ولو لم يفعله هو، فتجنب الأذى نفسه أولى.

4.  من ضمن شعب الإيمان: الحياء، وهو خُلُقٌ في النفس، يدعوها لإتيان الفضائل واجتناب الرذائل، سواء كان هذا الخلق في الإنسان وحافظ عليه، أو لم يكن فيه ابتداءً وجاهد نفسه عليه، والحياء شعور يعرفه الإنسان من نفسه ولو في بعض الأحوال، وثمرة الحياء التي تجمع معناه: ألا يراكَ الله حيث نهاك، ولا يَفقِدُك حيث أمرَكَ..

ودل ما سبق على أن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقادٌ؛ فقول "لا إله إلا الله" قول باللسان والقلب، ويتبعه عمل الجوارح، وإماطة الأذى من أعمال الجوارح، والحياء من أعمال القلوب وإن ظهر أثره على اللسان والجوارح.

اتباع

  1. 2- كان أبو هريرة رضي الله عنه صاحباً لرسول الله ﷺ، وعالماً كبيراً ، وتولى إمارة بعض المدن الكبيرة، ومع ذلك كان من أهل التواضع والرقة والعبادة، فما مقدار تواضعنا في مقابل ما يسره الله لنا من علم أو منصب أو مال؟

  2. الإيمان أعظم شيء وهو ما يريده الله تعالى من خلقه، وهو مع ذلك واسع وله شُعَب كثيرة، فما مقدار تعلمنا لذلك، وما مقدار سعينا لتكميل أنفسنا بما أراده الله تعالى منا في تلك الشُّعب؟، أو نحن مقتصرون على بعضها مهملون لبعضها؟

  3. ينتقد بعض الناس أناساً آخرين على إهمالهم لبعض الشُّعب، ويغفل أنه هو قد يهمل شُعَباً أخرى، كمن يحرص على عبادات صوم وصلاة، ويهمل عبادة الخُلُق الحسن والقيام بمصالح الأهل، أو يعنى بالخُلُق وينسى واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل ذلك يدفعنا إلى الترفق بالآخرين، وعلى محاسبة أنفسنا بميزان الشريعة لا بما تعودنا.

  4. الإيمان درجاتٌ، فله أعلى وأدنى، وكلها من الإيمان الذي يحبه الله تعالى، ولكن لا ينبغي أن يُشغل بالأدنى عن الأعلى، فبين بعضها أزيد من سبعين درجة، فجهدنا وإنفاقنا في الدرجة الأعلى أولى وأعظم، فلنعرف حاجتنا إلى العلماء، ولنزدد من العلم الشرعي بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ ؛ لنعرف أولويات الشريعة.

  5. أفضل شعب الإيمان: (قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ) فما أحوجنا إلى أن نتعلم معانيها، وكيفية تكميل مقتضاها، وأن ننطقها ونحن نملأ قلوبنا بها بحبٍّ وانقياد وقبول لما تقتضيه من اعتقادات وأقوال وأعمال.

  6. يدخل في إماطة الأذى عن الطريق ألوانٌ من أفعال الناس في حياتهم اليومية، منها: إزالة كل ما يؤذي المارة والسيارات من أحجار ومسامير وبقايا إطارات، وسواء أزاله بنفسه أو كلَّم أهل الشأن ليزيلوه، 

  7. إذا كانت إماطة الأذى عن الطريق وغيره من الإيمان، فالامتناع عنها ابتداء من محاسن الأعمال، وأذى المسلمين بها من مساوئ الأعمال، والأذى كلمة عامة، تشمل الحسي والمعنوي، كرمي بقايا العلب، وكالأصوات المزعجة، والروائح الكريهة، والأذى بأسلوب قيادة أو طريقة إيقاف سيارة، وإذا نهي عن الأذى في الطريق فمن المشروع في مقابله: التسهيل على الناس، بوضع أدوات الراحة، والترفيه في الطريق، كالمظلَّات وأماكن الاستراحة، ويجمع ذلك قوله ﷺ: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ»، فَقَالُوا: مَا لَنَا بُدٌّ، إِنَّمَا هِيَ مَجَالِسُنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: «فَإِذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجَالِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهَا»، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: «غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيٌ عَنِ المُنْكَرِ» [1].

  8. هناك أجرٌ في إزالة الأذى عن الطريق، مع أن الناس لا يسكنون الطريق، وقد لا يمر عليه المرء إلا قليلاً بعبورٍ سريع، فمن باب أولى إزالة الأذى عن مجتمعات الناس، وأمكنة استقرارهم، كأمكنة العمل، والتعلم، وكذلك البيوت؛ ولتنظيف بيت الأهل مزيد فضل لما فيها من صلتهم وقضاء حقهم، وللمساجد مزيد فضل فهي بيوت الله التي أذن الله أن ترفع، فلنستحضر هذه العبادة في تفاصيل حياتنا.

  9. إذا كان إزالة الأذى من الطريق من الإيمان، فإزالة الأذى من قلوب الناس أولى، برفع الجهالة عنهم، ودفع الشبهات، والوساوس، ومعاني القلق، والكآبة.

  10. الحياء شعبة من الإيمان يُخصَّ بالذكر لما فيه من مَيزة التأثير، فهو خلق يقوم في النفس فيدعو لكثير من الخصال الحسنة، ويمنع كثيراً من الخصال السيئة، وقد يكون في الإنسان ولا يشعر به، أو يموت فيه فلا يشعر به أيضاً، خصوصًا إذا مات بالتدريج لكثرة ما يضعفه من مظاهر الفحش، والجفاء، فهل نراقب هذا الشعور في نفوسنا؟ وهل نتعاهده بالتنمية؟

  11. الحياء ليس فعلاً سلبياً يكون بالخَجَل من العَمَل، بل هو خلق إيجابي يدفع لترك القبيح ولفعل الحسن أيضاً، كمن يستحي من الله أن يراه أنعم عليه بعلم ولا ينشره، وبمال ولا يبذل منه، وبصوت أو بيان ولا يدعو بهما، ويستحي من كشف عورة، أو ظهور بذنب، أو تلبس بخلق ناقص؛ كالجبن والبخل والكسل.

  12. أعظم الحياء الحياء من الله، وإذا أردت تقريبًا لمعناه في حياتك فتذكَّر الأثر: " أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك"[2]. 

المراجع

  1. رواه البخاري (2465)، ومسلم (2121)، عن أبي سعيد الخدري .
  2. رواه أحمد في الزهد (46)، والبيهقي في شعب الإيمان (6/145) مرفوعاً، من حديث سعيد بن يزيد .

فقه

  1. دخل عمران بن الحصين  على النبيِّ ﷺ وربط ذراع ناقته برِجْلها حتى لا تتفلت أو تهرب.

  2. فبينما هو جالسٌ عند النبيِّ ﷺ إذ دخل عليه وفدٌ من قبيلة تميم، فقال ﷺ: أبشروا، وكان المستحسن منهم أن يقبلوا البشرى الصادرة من رسول الله ﷺ  أيًا كانت، خصوصًا أنه يبشرهم بأن من أسلم نجا من الخلود في النار..[1].

  3. فلمَّا سمع بنو تميم البشرى جنحوا إلى طلب الدنيا، فقالوا: «قد بشَّرتنا فأعطنا»، فغضب منهم ﷺ إذ لم يهتموا بالبشرى، وعلَّقوا آمالهم بالدنيا الفانية، ولم يفهموا من البشرى إلا العطاء المادي فقط.

  4. ثم بعد ذلك دخل عليه ناسٌ من اليمن، وهم الأشعريون، قوم أبي موسى الأشعري، فقال لهم: «اقبلوا البشرى إذ لم يقبلها بنو تميم» مع أنَّ بني تميم أسلمت ولكن لحداثة إسلامهم وقتها لم تقبل البشرى القبول المطلوب حيث قرنت القبول بطلب المال، فكأنها لم تقبلها[2].

  5. وكان أهل اليمن أفقه من بني تميم، فقَبِلوا البشرى دون قيودٍ أو مطالب، ولهذا قال ﷺ: «الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ»[3].

  6. ثمَّ إنهم بعد أن قبلوا البشرى سألوا رسولَ اللهِ ﷺ عن هذا الكون أو الخلق المشاهد الذي يشهدونه، ولم يظهر في السؤال ما سألوا عنه، غير أنَّه ظهر من إجابته ﷺ.

  7. فأجاب ﷺ عن سؤالهم بأنَّه تعالى كانَ ولم يكن شيءٌ معه من هذا العالم المشاهد، لا السموات ولا الأرض، ولا يمنع أن يكون خلق قبل ذلك أشياء، فالعرش مخلوق قبل ذلك وموجود كما دل عليه الحديث، والله يخلق ما شاء [4]

  8. ثم أخبرهم بأنَّه تعالى كان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض

    قال تعالى:

    ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾

    [هود: 7]

    ولمَّا خلق السموات والأرض استوى على العرش فوق السموات،

    قال سبحانه:

    ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾

    [الأعراف: 54].

وعرش الرحمن أعلى المخلوقات وأعظمها وأكبرها، والعرشُ يقصد به سرير المُلْك.

9.  ثمَّ بيَّن ﷺ أن الله تعالى كتب مقادير العباد وما يجري للعالم كلِّه في اللوح المحفوظ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ» [5]

10. ثم أخبر ﷺ أنه تعالى خلق السماوات والأرض بعد أن خلق الماء والعرش وكتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ. وقد بيَّن اللهُ سبحانه شيئًا من خلق السموات والأرض فقال:

﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾

[فصلت: 9-12].

11. ثمَّ إنَّ أحدًا أخبر عمرانًا  أنَّ ناقته قد تفلَّتت من عقالها وهربت، فخرج يراها، فإذا هي قد غابت عن الأنظار، وحال بينه وبينها السَّراب، وهو ما يُرى في الصحراء في شدة الحرِّ كأنَّه ماءٌ.

12. فتحسَّر عمرانٌ  على خروجه من عند رسول الله ﷺ؛ حيث قام ولم يسمع باقي حديث النبيِّ ﷺ.

اتباع: 

  1. ربط عمران بن حصين ناقته على باب مسجد النبيِّ ﷺ، وهذا مقتضى التوكل على الله تعالى، من حيث الأخذ بالأسباب ثم تسليم الأمر إلى الله تعالى، فلم يقل: أتركها دون قيدٍ وأتوكل.

  2. كان النبيُّ ﷺ يحبُّ أن يُبَشِّر أصحابَه بالمبشرات الطيبة، فزيِّن حديثك مع الآخرين بكل أنواع البشرى، كالبشرى بما أعده الله تعالى  لأهل الإيمان والصبر من الجنة العاجلة والآجلة، ومن البشرى بزوال الهموم وتبدد المخاوف، وعلى المعلمين ألا يقتصروا على بيان أحكام الفقه والعقيدة وغيرها دون حديث النفوس.

  3. الفوز في الآخرة لا يعادله فوزٌ، ولهذا غضب النبيُّ ﷺ من بني تميم حين لم يكتفوا بالبشرى وطلبوا العطاء، فكم نخسر حين نتطلع لأجر الدنيا وندعو لأجل الدنيا ونغفل عن عالم الآخرة الأعظم. 

  4. لا تستحيِ أن تسألَ عن شيءٍ من أمور الدين، سواءً من أحكام الشريعة وما يحل ويحرم، أو عن أحوال القيامة وأخبار الأمم السابقة.

  5. أَحْسِن الظنَّ بربِّك؛ فهو قادرٌ على تحقيقِ ما تتمنى؛ أوليس الذي لا يعجزه خلقُ مثل هذا الكون الفسيح وإمساكُه بيده قادرًا على إجابة دعوتك؟!

  6. إذا كان اللهُ عزَّ وجلَّ قد كتب مقادير الخلق قبل خلق السموات والأرض، فلا ينبغي لعبدٍ أن يتحسر على ما فاته مما كان يرجو من الخير، ولا يجزع لما أصابه مما كان يحذر من الشرِّ، فإنَّ العبدَ إذا فعل ذلك كان ساخطًا على قدر الله تعالى.

  7. ندم عمران بن حصين حين خرج ينظر ناقته وترك حديثَ رسول الله ﷺ، وفيه دلالة على فضل العلم الشرعي، وأنَّ تحصيلَه وفهمَه خيرٌ من الانشغال بالدنيا وما فيها. فلا يليق بعاقلٍ أن يغفل عن تلك الفضيلة.

المراجع

  1. ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  2. ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
  3. البخاري (3499)، ومسلم (52).
  4. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية وقارن: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
  5. مسلم (2653).

فقه:

يروي النبيُّ ﷺ عن ربِّه تبارك وتعالى حديثًا قدسيًّا، والحديث القدسي هو كلامُ اللهِ تعالى غير القرآن الكريم، ألفاظُه من النبيِّ ﷺ ومعانيه من الله تعالى، بخلاف القرآن الذي هو كلامُ الله لفظًا ومعنًى.

  1. ينادي الله تعالى عباده رحمة بهم: يا عبادي، ويخبرهم أنَّه منع الظلم عن نفسه مع أنه قادر عليه،

    قال تعالى:

    ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾

    [النساء: 40]

     والله تعالى له الملك، وله الخلق والأمر، ومع ذلك امتنع عن الظلم، وهذا تمهيدٌ ليخبر أنه جعل الظلمَ محرمًا بين الناس، ونهاهم عن أن يظلم بعضهم بعضًا.

والظلم هو ترك الحق بوضع الشيء في غير موضعه، والله حرم الشرك وجعله ظلمًا عظيمًا؛ وكل ظلم بين العباد في نفسٍ أو مالٍ أو عرضٍ فهو محرم شديد التحريم، ولو كان شبراً من الأرض، والله هدد صاحب الظلم:

﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾

[إبراهيم: 42]

 وأمر بالعدلِ حتى مع ذوي العداوة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾

[المائدة: 8].

2.  ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أن جميع الخلق في ضلالٍ تامٍّ إِلَّا مَن بيّن الله له الحق، ووفَّقه إليه، لأنهم خرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئًا، والإنسان بقدرته المحدود لا يستطيع الجزم بصواب رأيه في كل مسألة، ولا يحيط بها علما ولا قدرة، وقد تفرق الناس في المذاهب، وكثرت الشبه، وغلبت الشهوات، وليس الأمر بالذكاء، فكم زل من أذكياء الناس، فالمهتدي من هداه الله تعالى وثبَّت على الحقِّ قدمه، ولهذا أمرهم سبحانه بأن يسألوه الهداية[1].

وليست الهداية مقتصرةً على التوفيق لقبول الإسلام والدخول فيه، بل شاملة لمعرفة أحكامه وشرائعه، والانقياد لما جاء به النبيُّ ﷺ من الأوامر والنواهي، ولهذا أمر الله عباده المؤمنين أن يُرَدِّدوا في الصلوات:

﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾

[الفاتحة: 6][2].

3. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أنَّ جميع الخلق جائعٌ إلا من أطعمه الله تعالى، فهم بحاجة أن يطلبوا طعامهم منه، لأنه لو شاء سبحانه لأفسد أطعمة الأرض، أو أفقر الإنسان، أو منعه الطعام بسبب مرض أو حبس أو غيره، فلا يطعم إنسان إلا بفضل الله.

4. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أنَّ جميع الخلق عارٍ عن اللباس، إلا من كساه الله تعالى فهم بحاجة أن يطلبوا لبساهم منه ،  ، ولو شاء لمنعهم بما شاء.

والطعام واللباس نموذجا من الرزق، فالخلق مفتقرون إليه في الرزقِ كما هم مفتقرون إليه في الهداية:

﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾

[الذاريات: 58]

5. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويذكرهم بنقصهم المستمر بارتكابهم الذنب والخطأ في الليل والنهار، وأنَّه مع ذلك يغفر الذنوبَ جميعًا مهما كثرت ومهما كبرت، وأنَّهم محتاجون إلى طلب مغفرته:

﴿قُلْ يا عبادي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[الزمر: 53]

وقد أخبر ﷺ أنَّ الله تعالى يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا [3].

6. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أنَّ ليسوا بشيء أمام الله تعالى، فلا يضرونه لا بكفر ولا بحرب ولا غيره، لعجزهم وكونهم في ملكه، ولا ينفعونه لا بإيمان ولا بنصرة ولا غيرها، لاستغنائه عنهم وعما يقدمونه، ثم ذكر أمثلة لبيان استغنائه عنهم.

7. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أنَّ طاعةَ العباد جميعًا لا تنفعه، فلو كان إيمانُ الإنسِ والجِنِّ جميعًا كإيمانِ النبيِّ ﷺ ما زاد ذلك في مُلك الله شيئًا

قال تعالى:

﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾

[العنكبوت: 6].

8. ثم يكرر الله النداء لعباده، ويخبرهم أنَّ معصيتهم جميعًا لا تضرُّه، فلو كان كُفرُهم وفجورهم على مثل كُفر إبليس ما نقص ذلك من ملك الله شيئًا

قال تعالى:

﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

[آل عمران: 176، 177].

9. ثم يصف سبحانه عظيم فضله ونعمه التي لا تُعد ولا تحصى، فيذكر أن جميع الخلائق منذُ خَلَق اللهُ السماواتِ والأرضَ إلى أن تقوم الساعةُ لو قاموا جميعًا في أرضٍ واحدة، فدعا كلُّ واحدٍ منهم ربَّه بما يريده من العطاء والرزق، فأعطاه الله تعالى ما يريد، ما أثَّر ذلك في مُلك الله شيئًا، وما نقص ذلك من فضله وخيره، وضرب لذلك مثلًا فصوَّره بالإبرة إذا أُدخلت في البحر، أفتراها تنقص من مائه شيئًا؟! فكذا فضلُ اللهِ تعالى لا آخِرَ له.

10. ثم أخبر سبحانه وتعالى أنَّ عاقبةَ الإنسانِ متوقفةٌ على عمله، فإنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يكتب علينا أعمالنا ثم يجازينا عليها، فمن وجد يومَ القيامةِ خيرًا أعدَّه الله تعالى له، فليحمد الله أنْ هداه للإيمان ووفَّقه لفعل الخير، وإن وجد شرًّا فإنما هو حصادُ عملِه، فهو الملوم المؤاخذ فلا يلومن إلا نفسه.

اتباع: 

  1. احذر من الظلم، فهو شر الذنوب، وتفكر في معناه لئلا تقع فيه، فمن الظلم الشرك الذي هو جعل شريك مع الله فيما ينبغي ألا يكون إلا لله، ولو كان شركا أصغر بالرياء للمخلوقين في صلاة أو علم أو غيره، ومن الظلم الاعتداء على حق العباد ولو كان بخصم راتب عامل بغير حق، أو في موقف سيارة، أو بكلمة سخرية، ومن قبيح الظلم أن يظلم الإنسانُ نفسَه فيورِدَها النار للذة تزول أسرع ما يكون.

  2. تفكر في كثرة الاحتمالات لكل عمل تسلكه، وتذكر دائما أن تسأل ربَّه من ربك الهدايةَ والرزقَ؛ فذلك بيد الله وحده، وهو يُحبُّ أن يسمع دعاء عبده.

  3. لا تقصر سؤالك لله تعالى على حاجات الآخرة، فنحن محتاجون لله تعالى في كل لحظة،  وعراةٌ جياعٌ ضالُّون إلا بفضله.

  4. الله خلقنا لنطيعه، وسخر لنا الليل والنَّهار لنعبده فيهما، ومع ذلك فكم نزلُّ بالذنوب في وضح النهار أو ستر الليل، ، فلنرقع ذلك باستغفار دائم وعبادة، وخصوصًا في طرفي النهار.

  5. إذا عملت طاعة فلا تمنَّ على الله تعالى بها، ولا تظنَّ أن لك حقًا بإجابة دعوتك أو رفعتك بسببها، فالله غني عنك، وأنت محتاج إليه.

  6. لا تحزن ولا تهن إن رأيت معصية أو كفرًا بالله تعالى، فذلك لن يضرَّ الله شيئًا، ولو شاء ربك ما فعلوه، فافعل ما تؤمر به من العبادة والنصح، ولا تحزن عليهم.

  7. لا تستكثر دعاءك لله، ولا تظنَّ أن الله تعالى يتعاظمه شيءٌ أعطاه

    قال تعالى:

    ﴿يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾

    [الرحمن: 29]

     قال ﷺ: «يَدُ الله ملأى لا يَغِيضُها نفقةٌ، سحَّاءُ الليلَ والنهارَ؛ أرأيتُم ما أنفق منذ خلق السمواتِ والأرضَ؟؛ فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه» [4].

  8. ضرْبُ الأمثال من الأساليب الفاعلة في التعليم والتأثير فانظر كيف تستقر هذه الصورة وتتضح: (كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)؛ فاحرص أن تقرب المعانيَ المعقولةَ لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة القريبة إلى أفهامهم[5].

  9. قال الشاعر: 

أمَا واللَّهِ إنَّ الظُّلمَ لُؤْمٌ = ولكنَّ المسيءَ هو الظَّلُومُ

إلى ديَّانِ يومِ الدِّينِ نمضي = وعندَ اللهِ تَجتَمِعُ الخُصومُ

10. وقال غيره: 

لا تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً = وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابُهُ لَا تُحْجَبُ

اللَّهُ يَغْضَبُ إنْ تَرَكْتَ سُؤَالَهُ = وَبُنيُّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغْضَبُ

المراجع

  1. ينظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (6/ 552- 553).
  2. ينظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 40).
  3. مسلم (2759)، عن أبي موسى الأشعري.
  4. البخاري (7419)، ومسلم (993).
  5. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (2/ 433).


فقه

هذا الحديثُ من أصول الأحاديث في أسماء الله تعالى الحُسنى:

  1. يذكر النبيُّ ﷺ أن لله تعالى من الأسماء تسعةً وتسعين اسمًا. 

واتَّفَق العلماءُ على أنَّه ليس في الحديث حصرٌ لأسمائه سبحانه وتعالى، وإنما مقصودُ الحديث الإخبار بأن هذه التسعة والتسعين مَن أحصاها دخَل الجنة، لا الإخبارُ بحصر الأسماء [1]، فلله تعالى ما لا يُحصى من الأسماء الحسنى والصفات العُلى، كما في الدعاء النبوي: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»[2]..

2.  وهذه الأسماء التي يريد الكلام عنها هنا: «مائةً إلا واحدًا» وهو تأكيدٌ على أن الرقم مقصود، لئلا يلتبسَ ذلك على مستمعٍ أو قارئٍ.

3.  وقد تفضَّل الله عزَّ وجلَّ على خلقه بأن جعل جزاء إحصاء تلك الأسماء دخول الجنة، وكفى بذلك فضلًا وثوابًا، والإحصاءُ الذي به يَدخُل العبدُ الجنةَ، له معانٍ كثيرة، دل عليها القرآن وكلام العرب، ومنها الحفظُ، والعَدُّ، وبذلك الإطاقة للعمل بها، والإحاطة بتلاوة القرآن كله؛ لأنه مُستَوفٍ لهذه الأسماء[3].

وعليه فالمرادُ: مَن آمن بها، وأحْصاها عدًّا، وحَفِظها وعمِل بها دخَل الجنة[4]، ولم يحدد النبيُّ ﷺ تلك الأسماء الحسنى، وذلك ليترُكَ العقولَ تتدبَّر القرآن والسنة، ويعيش حياة البحث عنها، فيُدركوا مطلبَهم، ويزيدوا معرفة بكتاب الله ومعانيه، كما أخفى ساعةَ الإجابة يوم الجمعة، وأبهم ليلةَ القدر.

4.  ثم أخبر ﷺ عن اسمٍ عظيمٍ من أسماء الله تعالى، وهو اسم الوتر، ومعناه: الفرد، فالله سبحانه وتعالى لا شريكَ له ولا نظيرَ؛ ولذلك يحبُّ الوِترَ؛ فلذلك جعلَ الأعمالَ وِترًا؛ جعل الصلواتِ خمسًا، والطهارةَ أثلاثًا، والطوافَ سبعًا، وأيامَ التشريق ثلاثًا، والسمواتِ والأرَضين سبعًا[5].

اتباع: 

  1. امتنَّ الله على عباده وأظهر لهم ما يحبُّ أن يُدعى به

    فقال تعالى:

    ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ﴾

    [الأعراف: 180]

     وذكر ﷺ أنَّ من دعا الله بهذه الأسماء دخل الجنة. فلا يليقُ بمسلمٍ عاقلٍ يعلم أن الله يحب أن يُدعى بتلك الأسماء، وأنه جعل الجنة لمن دعاه بها ثم يفرط فيها!

  2. فالسعيدُ من أعمل عقله وتأمل كتابَ اللهِ وسنَّةَ نبيِّه ﷺ واستنبط أسماءه الحسنى، وفهم معانيها، وعمل بمقتضاها، ودعاه بها، ليضمن الفوز بدخول الجنة.

  3. من إحصاء أسماء الله تعالى أن يُحصيَها في الدعاء بها، فيكثرَ الابتهال باسم الله، ويدعوَ بأسماء الله تعالى بما ناسَب حالَه، فيقول: يا رحمن ارحمني، يا غفورُ اغفرْ لي، يا رزَّاقُ ارزُقْني، وهكذا. 

  4. من إحصاء أسماء الله تعالى: أن يُطيق العبدُ القيامَ بحقِّ هذه الأسماء، والعمل بمقتضاها؛ فإذا علِم أن الله تعالى هو الرزاقُ، كان على ثقة ويقين من أنه سيرزقُه، وإحصاءُ اسم الله تعالى الرحيم أن يرجوَ رحمتَه ويرحم خلقه ليرحمه خالقهم، وإحصاء اسمه الرزاق يقتضي محبته على فضله، وعدم طلب الرزق فيما حرَّمه؛ لأن الرزق منه وهو واسع العطاء..، وهكذا. 

  5. إذا نزلت بك نازلة؛ من نعمةٍ، أو مصيبةٍ، أو أمرٍ يحتاج لتفكير؛ فاستحضر أسماء الله تعالى، وتعرّف ما يقتضيه كل اسم منها مما يناسب حالك، وادعُ الله بها، ستجد عندها برد اليقين، وراحة القلب.

  6. تدبر أسماء الله تعالى، فما كان منها يحسنُ بالإنسانِ العملُ بمثلها - كالرحيم، والكريم، والعفوِّ، والغفور، والشكور- فاعمله؛. وما كان منها لا يصلح إلا لله العظيم -كالمتكبر..- فاتركها الذي يستحقها وتذلّل لها، وأشفق منها.

  7. ليكن لك وِردٌ مع نفسك وأهلك وأصحابك ، تتذاكرون فيه كل حين اسماً من أسماء الله تعالى، تعيشون معه، وتتعرفون معانيه، والآثار الإيمانية المترتبة على معرفته ، وتستعينون على ذلك بالكتب الموثوقة في بيان معاني أسماء الله تعالى، التي تعتمد ما بينه رسول الله ﷺ  والأئمة الأولون، لا التي تتوهم بمجرد الظن.

  8. قال الشاعر:

أَدْعُوكَ بِالْحُسْنَى مِنَ الأَسْمَا اسْتَجِبْ = أَحْصَيْتُهَا لَأَنَالُ مِنْ نَعْمَاهُ

تِسْعُونَ زَادَتْ تِسْعَةً نُقِشَتْ عَلَى = قَلْبِي وَلَفْظُ اللهِ رُوحِي فِدَاهُ

وَبِهَا أُدَنْدِنُ باحِثاً متعلِّماً = كَالطَّيْرِ يَرْجُو الْقَطْرَ بُلَّ صَدَاهُ

أَيَردُّ جُودُكَ رَاجِيًا مُتَوَسِّلًا = أَحْيَا الدُّجَى يَرْجُوكَ يَا أللهُ؟!

المراجع

  1. ينظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 5).
  2. أخرجه أحمد (4318)، وابن حبان (972) عن ابن مسعود ، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد" (10/ 136).
  3. ينظر: "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاري) للخطَّابيِّ (2/ 1342)، "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 420)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (3/ 493).
  4. ينظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (33/ 230).
  5. ينظر: "إكمال الْمُعلِم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 177)، "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 6).

فقه:

قام النبي  ﷺ خطيبًا أمام الناس، فذكر منها خمسَ جُمَلٍ عن الله تعالى، وهي: 

  1. الأولى: أنه سبحانه لا ينام؛ فإنَّ النومَ نقصٌ، والله سبحانه لا يُنسب إليه النقصُ ولا يعتريه، فالمخلوقُ يحتاج إلى النومِ لما أصابه من التعب والإرهاق، والله سبحانه غنيٌّ عن ذلك، خلق السموات والأرض جميعًا وما أصابه تعبٌ أو إرهاق. ولهذا

قال سبحانه:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾

[البقرة: 255].

2. والثانية: أكَّد فيها ﷺ تلك الصفة، فأخبر أنه يستحيل عليه النوم، فأفادت الجملة الأولى عدم حدوث النوم عليه، وأفادت الثانية أنه يستحيل عليه ذلك أصلًا [1].

وإنما يستحيل عليه النومُ لأنَّ النومَ غفلةٌ تتنافى مع معيته وإحاطته بجميع المخلوقات وإمساكه السموات بيده، فلو نامَ لسقطت السماءُ على الأرض ولاختلَّ نظام الكون.

3. والثالثة: صفة أخرى، وهي أنه سبحانه يدبِّر الأمور بالعدل، فقد يقلل نصيب قوم من الرزق ويزيد آخرين، ويذل قوماً ويعز آخرين، لحكمة وعدل، وكذلك يزن الأعمال المرتفعة إليه بعدل، فيرفعُ الأعمال الصالحةَ ويردُّ غيرها،

قال سبحانه:

﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾

[فاطر: 10].

4. والرابعة: أنه سبحانه يُرفع إليه أعمالُ العباد جميعًا كلَّ يومٍ، فترفع الملائكةُ الموكَّلون بكتابة الأعمالِ أعمالَ العبادِ في النهار إلى الله عز وجل قبل أن يأتي الليل، وترفعُ إليه عملَ الليل قبل أن يأتي النهار، دون تأخيرٍ أو توانٍ، قَالَ ﷺ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» [2].

5. والخامسة: أنَّ الله تعالى مستترٌ عن خلقه بحاجز من النور، وفي رواية: من النار؛ فإنه سبحانه:

﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾

[الأنعام: 103].

ولا تعارض بين روايتي النور والنار؛ لأن النار تتضمن صفتين: الإشراق والإحراق، فمن الممكن أن يكون الله تعالى سلبها صفة الإحراق وأبقى فيها صفة الإشراق، بخلاف نار جهنم؛ فإنها نارٌ مُحرقة ولا نور فيها، وبخلاف سائر أنوار الدنيا من الشمس والمصابيح؛ فإنها نورٌ وإحراقٌ معًا [3].

6. ولو كشف اللهُ ذلك الحجاب لأحرقَ جمالُ وجهه وبهاؤه وضياؤه كلَّ شيء يراه اللهُ تعالى أو يرى اللهَ تعالى، ومقتضى ذلك أن يحرق به جميع الخلق؛ فإنه سبحانه لمَّا تجلَّى للجبل لم يستطع الجبل -وهو الجماد الصُّلب- أن يحتمل ذلك:

﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا﴾

[الأعراف: 143]

 فكيف إذا تجلى للإنسان؟

اتباع: 

  1. أعظم ما قام به المتكلمون: هو عن الكلام عن الله تعالى، فليكن حديثك معطَّرًا بذكره، فحينًا في الإخبار عن أسمائه وصفاته، وحينًا عن أوامره ونواهيه، وحينًا عن مواعظه وما أخبر به من قصص الأولين، وعاقبة الآخرين..

  2. صفات الله تعالى من الأمور الغيبية، فخذها من قول الله تعالى وقول نبيه ﷺ، وقفْ على ما جاء عنهما ولو كان كلاماً قليلاً في نظرك، وآمن بها من غير تعطيل لها عن معناها، ولا تمثيل لها بصفات المخلوقين:

﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾

[الشورى: 11].

3. إذا أويت إلى فراشك، ففوّض أمرك إلى الله ثم نم مطمئنًا، فالله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، والله خير حافظًا، وهو أرحم الراحمين، ولهذا جاء في الذكر قبل النوم: «اللَّهُمَّ أسْلَمْتُ وجْهِي إلَيْكَ، وفَوَّضْتُ أمْرِي إلَيْكَ، وأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ، رَغْبَةً ورَهْبَةً إلَيْكَ، لا مَلْجَأَ ولَا مَنْجَا مِنْكَ إلَّا إلَيْكَ»[4].

4. تذكر دائمًا قرب الله تعالى وشهوده ، فالله لا ينام إذا نامت عين الظالم، ولا ينام حين ينام الرقيب فتميل بعض النفوس إلى معصية، ولا ينام حين يراك تقوم وتتقلب في الساجدين، تدعو الله أن يرحمك ويعطيك.

5. كن راضيًا بقضاء الله تعالى فيما يدبره الله تعالى فيرفعه أو يخفضه، من رزق وحرمان، وعزٍّ وذلّ، سواء كان ذلك في دارسة، أو مال، أو ثناء من الناس، أو منصب وظيفي، فهو سبحانه يوزع لكل أحد قسطه ونصيبه بحكمة وعدل، واجتهد فيما يرضي الله تعالى.

6. على العبد أن يُسارع في التوبة، ويبادر إلى الاستغفار مما وقع منه من الزلَّات قبل أن تُرفع الأعمالُ إلى الله سبحانه، فإن الله «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ».

7. بادر بالصالحاتِ كلَّ ليل ونهار، قال داودُ الطَّائِيُّ –رحمه الله-: "إنّما اللّيل والنّهار مراحلُ ينزلها النّاس مرحلةً مرحلةً حتّى ينتهيَ ذلك بهم إلى آخِر سَفَرهم، فإن استطعتَ أن تقدِّم في كلِّ مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإنّ انقطاع السَّفَر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزوَّدْ لسفرك، واقض ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأنّك بالأمر قد بَغتُّكَ" [5].

8. النفوس متعلقة بالجمال من كل شيء، من جمال الذات والصفات، ولا أجمل من الله تعالى، وحجابه النور فتعلق 

9. سلِّم لله تعالى في أخباره وأحكامه، فهناك أمور قد لا نعلم سببها ولكن الله تعالى قضاها بحكمة، فقد يتساءل أحدنا: لماذا لا نرى الله في الدنيا؟، ولا يعلم أن هذا لضعفنا وعدم قدرتنا ؛ فإن الله تعالى حجابه النور، ولو كشف اللهُ ذلك الحجاب لأحرقَ جمالُ وجهه وضياؤه كلَّ شيء يراه اللهُ تعالى أو يرى اللهَ تعالى.

10. قال الشاعر:

سُبْحَانَ مَن ملأَ الوجودَ أدلَّةً = ليلُوحَ ما أخفَى بما أَبْدَاهُ

سُبحانَ مَنْ أحْيَا قلوبَ عبادِهِ = بلوائحٍ من فَيْضِ نورِ هُداهُ

هَلْ بعدَ معرفةِ الإِلَهِ زيادةٌ = إلَّا استدامةُ ما يُديمُ رِضَاهُ

واللهِ لا آوي لغَيْرِك إنَّه = حُرِمَ الُهدَى مَنْ لم تكنْ مأْوَاه

المراجع

  1. كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه" للسنديِّ (1/ 85).
  2. البخاريُّ (555)، ومسلم (632).
  3. مجموع الفتاوى" لابن تيمية (6/ 387).
  4. البخاريُّ (247)، ومسلم (2710).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).


فقه

  1. ذكر النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تعالى قد خلق الملائكةَ من النور.

والملائكةُ خلقٌ من خلقِ الله تعالى، لهم أجسامٌ نورانية لطيفة، قادرةٌ على التشكُّل والتمثُّل والتصوُّر بالصور الكريمة، ولهم قوًى عظيمةٌ وقدرةٌ كبيرة على التنقُّل، وهم خلقٌ كثير لا يَعلَم عددَهم إلا الله سبحانه، اختارهم لعبادته والقيام بأمره، فلا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون[1].

2. ثم أخبر ﷺ أن الله سبحانه خلق الجِنَّ -وهم خلق غيبي لا يراه الناس-، من اللهب المختلط بسواد النار.

3. ثم ذكر ﷺ أن الله خلق آدمَ أبا البشر مما وصف لنا في القرآن وأخبر به ﷺ في السُّنَّة. وهذا من الاختصار والإيجاز، وقد أُوتي ﷺ جوامع الكلم، وقد جاء وصفُ خلقِ آدم في كتاب الله تعالى مرارًا، فالله تعالى خلقه من تراب؛ أضاف إليه ماءً فصار طينًا لازبًا أي يمتزج ببعضه ويلتصق، ثم تُرك حتى اسودَّ وأنتن وذلك الحمأ المسنون، ثم طُبخ في النار حتى يبس وصار كالفخار [2].

وقد أخبر ﷺ أنَّ الله عزَّ وجلَّ أخذ قبضاتٍ مختلفة من تراب الأرض لخلق آدم، ولذلك اختلفت أجناس الناس وطبائعهم، فَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ» [3]، كما أنَّ خلق الإنسان اختلف أنواعًا؛ فخلقُ آدم لا يشبه خَلْقَ حوَّاء، وخَلْقُ عيسى مخالفٌ لهما، وخَلْقُ الثلاثة غير خَلْقِ سائر البشر.

اتباع: 

  1. الإيمان بالملائكة والجنِّ من الأمور الغيبية، ومقتضى الإيمان بالله تعالى ورسوله ﷺ تصديقهما فيما أخبرا به عن ذلك، وقد امتدح اللهُ تعالى المؤمنين فقال:

    ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾

    [البقرة: 3]

    ، ولا يلزم المسلم أن يستدل بعد ذلك على وجود الملائكة أو الجن بمختبرات ودراسات، فهو يصدق بإخبار الله تعالى الذي دلت أعظم الأدلة على صدقه وصدق رسوله ﷺ .

  2. هذا الحديث دليل على عظم قدرة الله تعالى، حيث خلق ثلاث مخلوقات من ثلاثة مواد مختلفة الجنس، وكل منها له صفاته الخاصة به، والتفكُّر في صُنع الله تعالى يُورث القلبَ إيمانًا وتقوى ومهابةً لله تعالى، ولذلك أَمَر سبحانه في كثيرٍ من آياته بالتفكر في خلق الله تعالى.

  3. الله تعالى أظهر تكريم الملائكة بكونه خلقهم من نور، وهو يستدعي تكريمهم، ومحبتهم، فيتجنب المسلم ما ينافي ذلك، كإبقاء الكلب والتماثيل في المنزل -لكونها تمنع الملائكة-، أو الإصرار على المعاصي وهو يعلم أن الملائكة يكتبون.

  4. ينبغي على المُعَلِّم والداعية أن يُفصِّل ما يغيب عن عِلْم الناس، ويختصر ما عَلِمُوه وشاهدوه واستفاض فيهم أمره، وإلا كان الكلام حشوًا وثرثرةً بلا فائدة.

  5. قال الشاعر: 

للهِ فـي الآفَـاِق آيَـاتٌ لَعَلْ = لَ أَقَلَّهَـا هُـَو مَـا إِلَيْهِ هَدَاكَ

وَلَعَلَّ مَا في النَّفْسِ مِـْن آيَاتِهِ = عَجَبٌ عُجَابٌ لَـْو تَـَرى عَيْنَـاكَ

وَالْكَـوْنُ مَشْحُـونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا = حَاوَلْـتَ تَفْسِيـرًا لَهَـا أَعْيَـاكَ

المراجع

  1. ينظر: "عالم الملائكة" للأشقر مواضع متفرقة، "فتح الباري" لابن حجر (6/450).
  2. ينظر: "التفسير الوسيط" للواحدي (3/44)، "تفسير النسفي" (3/411).
  3. أحمد (19582) وأبو داود (4693)، والترمذيُّ (2955).


فقه:

  1. تُخبر عائشة رضي الله عنها أنَّ أول ما وقع من النبوة على رسول الله ﷺ كان في صورة الرؤيا الصادقة، فكان يرى الشيء في منامه ثم يتحقق في اليقظة بتمامه، واضحًا جليًّا كوضوح الصبح ونوره، ولم يكن في تلك الرؤى ما في رؤى الناس وأحلامهم من أضغاث الأحلام ونحوها، بل كانت كلُّها صادقةً، كأنَّها تُمَهِّدُ لأمرٍ عظيم.وإنما بدأ الوحيُ بتلك المُبَشِّرات -مثل: الرؤى الصالحة، وسماعه تسبيح الحصى بمكة قبل دعوته، وسلام الحجر عليه بالنبوة وغير ذلك-؛ ليتمهَّد له الأمر، فيستشعر عظيمَ ما يُرادُ به، ويستعدَّ لما ينتظره، فلا يفجَأُه المَلَك بما لا تحتمله قوى البشرية، بل يأتيه وعنده من المقدمات ما يُثَبِّتُ قلبَه[1].

  2. ثم وقع في نفسه ﷺ بعد ذلك محبة الخُلْوَة بالنفس والانفراد بها، بعيدًا عن مخالطة الناس، وللخلوة أحياناً أثرٌ في استفراغ القلبِ من شواغل الدنيا، فيستقيم فكرُ الإنسان ويُهَذَّبُ خُلُقُه.

  3. فكان ﷺ يخلو في غارٍ في جبلِ حِرَاء بمكة، لياليَ كثيرة، يتعبَّدُ فيها لله تعالى، فيخرج إلى الجبل إذا أراد الخلوة ومعه ما يكفيه من الزاد، فإذا انتهى ما معه عاد إلى أهله فتزوَّد لمثل تلك الأيام التي مضت.

  4. وبينما رسول الله ﷺ يتعبدُ مرَّةً من المرات إذ جاءه الوحيُ صراحةً، فنزل عليه المَلَك، وهو جبريل عليه السلام أمين الوحي، فقال له: «اقرأ»، فردَّ عليه ﷺ: «ما أنا بقارئٍ»؛ أي: لا أعرف القِراءةَ؛ فقد كان ﷺ أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب

    كما قال تعالى:

    ﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ﴾

    [الأعراف: 158].

  5. فلمَّا قال له النبيُّ ﷺ ذلك أخذه فضمَّه وعصَره حتى أتعبه ونالته المشقة، ثم تركه وقال له: «اقرأ»، فردَّ عليه ﷺ بالردِّ السابق نفْسِه، فأخذه فضمَّه كذلك، ثم أرسله من جديدٍ وقال ما قال، وردَّ عليه ﷺ بما ردَّ، فأخذه الثالثة وضمَّه إليه، ثم أرسله، ثم قال:

    ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾

    [العلق: 1 - 5]

     فكان ذلك أوَّل ما نزل من القرآن.

  6. بعد ذلك رجع النبيُّ ﷺ إلى زوجه خديجة؛ خائفًا يخفِق قلبُه وينبض بشدة مما أصابه من الخوف، فدخل عليها يطلب منها أن تُغَطِّيَه؛ فإن الخائفَ يشعر ببرودة شديدة في مفاصله وأعضائه، فغَطَّته ولفَّته حتى ذهب عنه ما به من شدة الخوف

  7. ثم أخبرها الخبر وقصَّ عليها ما جرى له في الغار، وقال لها: لقد خشيت على نفسي؛ أي: خاف أن ينخلع قلبه من شدة خوفه مما رأى من صورة المَلك[2].

  8. فقالت خديجة رضي الله عنها مُطَمْئِنَةً له: والله لا يَسُوؤُك الله أبدًا، ولا يكون الذي أصابَكَ مكروهًا بتسليط شيطانٍ ونحوه؛ فإنَّ صنائع المعروف تقي مصارع السوء، ثم أخذت تُعدِّد مكارم أخلاقه:

  9. من صلة أرحامه، بزيارتهم والسؤال عنهم،

  10. ومِنْ قيامِه بأمر مَن لا يستطيع القيام بأمر نفسه، كالضعيف واليتيم وغيرهما،

  11. ومِن إعطاء المال لمن لا يجد مالًا،

  12. ومِن إكرام الضيف وتقديم الطعام والشراب له،

  13. ومن إعانته الناسَ فيما ينزل عليهم من المصائب التي نزلت عليهم بحق -لا إعانة الذين مصيبتهم بسبب معاصيهم، واجترائهم على الله تعالى-.

  14. ثم أخذته خديجةُ رضي الله عنها إلى ابن عمِّها ورقةَ بن نوفل، وقد كان ترك عبادة الأصنام واعتنق النصرانية، وكان يعرف التوراة والإنجيل، ويُتقن الكتابةَ واللغة العبرية وهي لغة اليهود، حتى بلغ من إجادته أنه كان يكتب ما يشاء من الإنجيل باللغة العبرية، وكان ورقة قد كبرت سِنُّه جدًّا حتى كُفَّ بصره.

  15. فلمَّا قصَّ النبيُّ ﷺ على ورقةَ ما رآه، أخبره ورقة أنَّ الذي رآه هو صاحب السِّر الذي أنزله الله على موسى، يريد به جبريل عليه السلام، وإنَّما سمَّاه بذلك لاختصاصه بالوحي من بين سائر الملائكة؛ فكان مقتضى كلام ورقة أنَّه ﷺ صار نبيًّا أرسله الله إلى قومه كما أرسل موسى ﷺ إلى بني إسرائيل.

  16. ثم ذكر ورقةُ أنَّ قومه سيُكذبونه ويُحاربونه حتى يخرجوه من بلده، ويتحسَّر ورقة على شبابه المنصرم، ويتمنى أن يكون حينئذ شابًّا قويًّا يستطيع أن يدافع عن النبيِّ ويجاهد معه، ويرجو أن يكون حيًّا وقتئذ.

  17. فتعجب النبيُّ ﷺ من كلام ورقة، واستنكر أن يُخرجه قومه من مكة حين يدعوهم إلى النجاة وإلى توحيد الله تعالى، وقد عرفت قريشٌ صدقَه وأمانته قبل ذلك. فأخبره ورقة بأن ذلك شأن جميع الأنبياء وديدنهم، لم يأتِ نبيٌّ من الأنبياء إلا عُودي وحُورب.

  18. ثمَّ أخبره ورقة أنَّه إن كان حيًّا حين ظهور نبوتك وانتشار دينك، وربما أراد: حين إخراج قومك لك وتكذيبهم إياك، لينصرنَّه بكل ما أُوتي من قوة، نصرًا بيِّنًا واضحًا بالبيِّنات والحجج الواضحة على صدقه ونبوَّته.

  19. ثم لم تمضِ مدةٌ حتى مات ورقة، وتأخر نزول الوحي مُدَّةً.

اتِّباع:

  1. تزوج النبيُّ ﷺ عائشة وهي صغيرة، ولمَّا نزل عليه:

    ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾

    [الأحزاب: 28، 29]

    أمرها أن تستشيرَ أبويها فأبَتْ وقالت: «فَفِي أَيِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ»[3]، وهي وقتها في سن المراهقة، فهي قدوةٌ لنا في إيثار الله تعالى ورسوله ﷺ.

  2. تروي عائشة رضي الله عنها هذا الحديث، وفيه بيان فضائل خديجة التي قالت في حقها: «مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ، مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ»[4]، ولم تمنعها الغيرة التي فطر اللهُ النساءَ عليها من أن تُحَدِّث بهذا الحديث؛ فلا يجدر بإنسانٍ أن يكتم فضلَ امرئٍ أو يجحده حقَّه لمنافسته أو خصومته، سواءً كان في عمله أم في الحياة اليومية.

  3. دلَّ غَطُّ جبريل عليه السلام النبيَّ ﷺ، وقوله: «اقرأ» مرارًا، على استحباب تكرار الكلام حتى يُفهم عن صاحبه، والتمهيد بما يقطع السامعِ عن المُلهيات والشواغل، حتى يكون حاضر الذهن لما يسمع، وهي فائدة حسنة للدعاة والمعلمين والمربِّين؛ بتجنيب الناس ما يشغلهم عن العلم والموعظة من المؤثرات البصرية والسمعية.

  4. لمَّا رجع النبيُّ ﷺ إلى خديجة خائفًا ممَّا أصابه وقصَّ عليها الأمر: لم تجزع أو يذهب رأيها، ولم تشغله بسؤال عما جرى بل سارعت لضمّه بالثياب حتى سكن روعه، ولم تُكذِّبه ولم تتَّهم عقله، بل صدَّقته، وبشَّرته بأنَّ المتصف بمثل خصاله الحسنة لا يُخزيه الله أبدًا، وأكدت ذلك بمؤكدات (كلا، والله، أبدًا..)، وطمأنته بما فيه من صفات جميلة، ولم تكتفِ بذلك بل أخذته إلى ابن عمِّها الذي يُحسن تأويلَ ما حدث، وكانت بعدَ ذلك أول مَن آمن به. وهي رضي الله عنها مثال الزوجة الصالحة التي تعين زوجها وتخفف عنه عناءَ ما يجده من قسوة الحياة وأعبائها.

  5. أدركت خديجةُ العاقلة سنة الله تعالى الكونية بأن الله يعين من يعين الناس، فلا يخزيه، فلا تستخسر جهد بدنك أو مالك أو وقتك أو فكرتك، وقدم المعروف للناس بنفس قوية منشرحة، واحتساب لله، وابذل في وقت رخائك لشدتك.

  6. استلهم تلك الصفات التي تحلى بها خير البشر، وهي ليست شيئاً يفعل مرة، بل خُلُق يكرر حتى تكون صفة لصاحبها: صلة الرحم بزيارات واتصالات وإعانةٍ وكل صلة جميلة، والشهامة بالقيام مع مَن لا يستطيع القيام بأمر نفسه من ضعفاء الجسد أو الخبرة، وتيسير المال أو سبيله كالعمل والوظيفة للمعدوم، ومِن إكرام الضيف المارّ به في منزل أو مكان عمل، ومن الوقوف مع كل مصاب.

  7. الأصل تجنب مدح الإنسان في وجهه، لما يخشى في ذلك من الغرور ومن تغير النية إلى الدنيا، لكن دلَّ فعلُ خديجة رضي الله عنها على أنه يجوز للإنسان أن يمدح أخاه في وجهه لمصلحة، كأن يبادر إلى تثبيته في فتنةٍ، أو تبشيره بعاقبة صبره ونحو ذلك، خاصةً إذا أَمِنَ المادحُ أن يغترَّ الممدوح بكلامه[5].

  8. في قول ورقة بن نوفل: «لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ» دليلٌ على أنَّ معاداة الناسِ للصالحين والدعاة إلى الحقِّ ليس أمرًا مُستحدَثًا، بل هذا شأن الأنبياء ومَن سار على منهجهم في الدعوة؛ فلا ينبغي لداعيةٍ أن ينصرف عن دعوته لتكالب الفاسدين عليه.

  9. كان النبيُّ ﷺ يحب الخلوة بنفسه ليتعبد لله تعالى، منقطعًا عن البشر ورغبات الدنيا وأحاديثها، والخلوة أحياناً نافعاً، من غير أن يكون فيها إخلالٌ بمصالح الناس؛ كأن يترك الإنسان عملَه وقضاءَ مصالحه بدافع الخلوة كما يفعله أصحاب الديانات المنحرفة، أو أن يتعبد بخلوة ليست بعبادة.

المراجع

  1. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197، 198).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 484، 485).
  3. رواه البخاري (4785)، ومسلم (1475).
  4. رواه البخاري (3816)، ومسلم (2435).
  5. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).

فقه:

  1. يذكر ﷺ أنه أقرب الناس وأحقُّهم بعيسى ابن مريم ﷺ في الدنيا والآخرة، وإنما ذكرَ ﷺ عيسى دون غيره من الأنبياء لأسبابٍ، منها: أنَّه ليس بينهما نبيٌّ؛ فقد بشَّر عيسى ﷺ بنبوة محمد ﷺ ومهَّد لرسالته

    ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾

    [الصف: 6].

كما أنه ينزل في آخر الزمان متبعًا للنبي ﷺ حاكمًا بشريعته، يقاتلُ الدجالَ بجيش المسلمين [1]. 

2. ثمَّ مثَّلَ النبيُّ ﷺ العلاقة بين الأنبياء بالإخوة من الضرائر الذين لهم أبٌ واحدٌ وأمهات مختلفة، فالدِّين الواحد الذي جمعهم أشبه ما يكون بالأب الواحد؛ وإن اختلفت الشرائع الفقهية التي هي كالأمهات.

وهذا الدين الذي قرَّبهم جميعًا هو الإسلام الذي هو التوحيد وطاعة الله تعالى

قال تعالى:

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

[آل عمران: 19]

 والأنبياء كانوا يأمرون بالإسلام وينتسبون إليه، لأن حقيقته الاستسلام لله في أخباره وأوامره، وأما فروع الأحكام فقد اختلفت فيه شرائع الأنبياء

قال تعالى:

﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾

[المائدة: 48][2].

3. وفي رواية لمسلم أنَّ النبيَّ ﷺ علَّل سبب أولويته بعيسى ابن مريم ﷺ دون سائر الأنبياء، وهو أنَّه ليس بينه وبينه نبيٌّ، فهو المُبَشِّر به الذي هيَّأ الناسَ لاستقباله.

اتباع: 

  1. إذا أردت أن تشرح شيئاً مهماً لأولادك أو طلابك أو للناس فاستعمل التشبيهات، كأن تستفيد من التشبيهات المشهورة، أو تبحث عن أقرب مثال لما تريد، لأنها تقرب المعنى وترسخه، كما شبَّه النبيُّ ﷺ العلاقة بين الأنبياء بالإخوة من أبٍ واحد وأمهات مختلفة.

  2. النبي ﷺ  بيَّن سبب ولايته بعيسى باتحاد أصل الدين وبتواليهم في النبوة، فلا تهمل عند الحاجة -كالأمور المستغربة- أن تُبيّن سببَ أحكامك التي تلقيها على أولادك أو طلابك أو موظفيك، فهم إذا عرفوا سبب ما تأمر به أو تنهى عنه أو تخبر به، فهموا المقصد، وخف عليهم الطلب.

  3. حين تنتمي إلى تاريخ وأمة؛ فتذكر أن تاريخك ممتد إلى كافة الأنبياء، كلهم إخوة لنبيك الذي تؤمن به، وتنبعث مشاعرك بتقديرهم وحبهم:

    ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾

    [البقرة: 285]

     فاقتدِ بهداهم، وتداول مع أهلك وصحبك سيرتهم.

  4. التوحيدُ من أولى ما يعتني بتكميله الوالدان، والداعية، والمعلّم، ومقدِّمُ المشاريع المجتمعية..، فهو الأصلُ الذي اتفقت عليه الأنبياءُ، فتعلَّم معاني الإيمان، وانتبه  لتفاصيلها، وقرِّب لها الخطوات، واضرب لها الأمثلة.

  5. ما أجمل الموالاة بين الأنبياء، فهم إخوة، فكن موالياً لمن أنت أخٌ لهم من المؤمنين، وخصوصًا أولئك الذين لك ليس بينك وبينهم بُعد، من ذوي القربى في النسب، أو العمل.

  6. من لطيف الدعوة؛ خصوصًا مع النصارى: تذكيرهم بإخوة الأنبياء، وأن أولى الناس بعيسى عليه السلام هو محمد ﷺ فكلاهما جاء بالهدايات العلمية والعملية من الله تعالى.

المراجع

  1. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 184)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (6/ 243).
  2. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (15/ 159).


فقه: 

الإسلام قائمٌ على شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، والتعرُّف على الرسول ﷺ معينٌ على حسن الإيمان به، كيف لا وهو أكمل الناس وأكثرهم فضلًا علينا..، وفي هذا الحديث يُخبر ابنُ عبَّاس رضي الله عنهما بأهم المراحل التي مرَّ بها رسولُ الله ﷺ في حياته، فيَذكر:

  1. أن رسولَ الله ﷺ نزل عليه جبريلُ عليه السلامُ بالوحي، وأمرَه بالبلاغ بعد بلوغه ﷺ سِنَّ الأربعين، أي أنه ولد في سنة 53 قبل الهجرة، وكان يسمى عام الفيل، وبعث سنة 13 قبل الهجرة. 

وقد اختار الله مكةَ لتكون مولدَ رسوله ﷺ ومكانَ نشأته، بها وُلِد ﷺ من نسَبٍ شريفٍ؛ فأبوه عبد الله بن عبد المطَّلب الهاشميُّ القرشيُّ، وأمَّه آمنةُ بنتُ عبد منافِ بنِ زُهْرةَ القرشية[1]، فكان أشرف العرب نسَبًا، قال ﷺ: «إن اللهَ اصطفى كِنانةَ من ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قُريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[2]، ومات والدُه وهو حملٌ في بطن أمِّه، فوُلِد ﷺ يتيمًا، ونشأ في كَنَف أمِّه، ثم تُوفِّيت أمُّه وهو ابنُ ستِّ سنين، فاستمر في كفالة جدُّه، ثم توفي وهو ﷺ في الثامنة من عمره، فكفَله عمُّه أبو طالب[3]

وظلَّ ﷺ بمكة طيلةَ هذه السنوات الأربعين يربِّيه الله - عزَّ وجلَّ - ويُعِدُّه إعدادًا يَليق بمَهمَّته التي اصطفاه الله لها؛

قال تعالى:

﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾

[الضحى: 6 - 8]

، فعاش مع قومه طيِّب المعشر حَسَن الخُلق، مشاركًا لهم في كل نافع، ومبتعدًا عن كل قبيح. 

وقد تزوَّج النبيُّ ﷺ من خديجةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ ورزَقه الله منها كلَّ أبنائه وهم: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورُقَيَّة، وأمُّ كلثوم، وفاطمة -سوى إبراهيم؛ الذي جاءه في المدينة من مارية القبطية - [4]، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام وهو في غار حراء، وأنزل عليه:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾

[العلق: 1 - 5]

 فقام بأعباء النبوة.

2. وبعد أن نزل الوحيُ على رسول الله ﷺ أقام بمكة ثلاثَ عشْرةَ سنةً يُوحى إليه، ويدعو الناس بالوحي، ولاقى فيها من الإيذاء والتكذيب ما لا يتحمَّله أحدٌ، وأوذي مَن آمن معه، ولما اشتدَّ الإيذاء أمَرَهم بالهجرة إلى الحبشة في العام الخامس من البَعثة فاهجروا أكثر من مرة[5]. وظلَّ ﷺ بمكةَ يدعو، وقيَّض الله له عمَّه أبا طالب وزوجَه أمَّ المؤمنين خديجةَ يساندانه، حتى كان العام العاشر من البعثة، فماتا، وبحث عمن ينصر دينه في الطائف وفي مواسم الحجِّ وغيرها فكان يُؤذى[6].

3. وبعد أن أكمل ﷺ بمكة ثلاثَ عشْرةَ سنةً، اختار له المدينة دارًا لهجرته، فهاجر ﷺ إلى المدينة يُرافقه أبو بكر رضى الله عنه ، بعد أن سبقه بعض أصحابه إلى هناك، ولحقه الباقون -ممن استطاع الهجرة- فيما بعدُ، فاستمر في المدينة يقوم بالدعوة والجهاد ومصالح الناس عشر سنين، حتى أتمَّ اللهُ النعمةَ، ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا.

4. ثم أخبر ابنُ عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ ﷺ مات وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من الدعوة، ثلاثة عشر منها في مكة، وعشرة في المدينة. وكانت وفاته في حجرة عائشة رضي الله عنها، يومَ الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول في السنة الحادية عشرة من الهجرة على صاحبها الصلاة والسلام.

اتِّباع:

  1. ثق بربوبية الله تعالى ورحمته، واطلب عونه، فقد وُلد ﷺ يتيم الأب، ثم ماتت أمه وجده وهو طفل، فكفله عمه على فقره وكثرة أولاده، والعادة في مثل هذا اليتيم أن ينشأ محطمًا ناقص الرعاية، لكنَّ الله سبحانه بيده مقادير الأمور، فجعل من هذا اليتيم بعد سنين وسنين سيدًا للعالمين. فلا يقنط الإنسان من رحمة الله مهما ضاقت الظروف، وليثق أنَّ له ربًّا يدبر الأمر، يقول للشيء: كن، فيكون.

  2. ظلَّ النبيُّ ﷺ ثلاثة عشر سنة يدعو الناس في مكة، يخرج إلى الأسواق واجتماعات الناس ليدعوَهم، لا يكلُّ، ولا يمَلُّ، ولا ييأس من إيمان قومه، ولا يعبأ بتكذيبهم واتهامهم له، رفيقًا في قوله ولسانه، رحيمًا بقومه، يدعو الله لهم بالهداية، ويعين على مصالح الناس من حفظ الأمانات وغيرها، ولم يجزع لموت عمه الذي كان يحميه من أذى قومه، ولا انكسر بموت زوجه وحبيبته خديجة التي ناصرته وأيَّدته في دين الله بنفسها ومالها، أفلا يكون ﷺ أسوةً للدعاة وطلبة العلم والوُعَّاظ في سبيل الصبر على الدعوة واحتمال أذى الناس وهم لم يلاقوا بعض ما لاقى؟!

  3. لمَّا جاء أمرُ الله لنبيه ﷺ بالهجرة لم يحزن لترك الأهل والمال والدار والوطن، وإنما امتثل أمرَ الله تعالى مع مشقته على نفسه. وهذا حال المؤمن؛ يهون عليه ما يلقى لأجل مرضاة الله تعالى.

  4. في الهجرة سعة ، ولا يلزم من الهجرة أن تكون من بلد إلى بلد، فقد تكون من بيئة وعمل إلى بيئة وعمل آخر أكثر رضا لله تعالى.

  5. مرَّت حياةُ رسول الله ﷺ بمراحلَ متنوِّعةٍ، وظروفٍ مختلفة، ما بين اليُسر والعُسر، والشدَّة والرخاء، والحرب والسِّلم، والسِّرِّ والجهر، والاستضعاف والتمكين، فشَمِلت الحياةَ الإنسانيةَ بكلِّ حالاتها ومراحلها، وقدَّمت في ذلك النَّمُوذجَ الكامل في التأسِّي والاقتداء، وتقبل قدر الله تعالى على كل حال.

فلا تيأس إن تأخرت النتائج المبشرة، فكم بين تكذيب أبي لهب لرسول الله ﷺ بمكة، وبين عودته فاتحًا لمكة بجموع الصحابة؟ ليست أياما ولا شهورا ولا بضع سنين، بل سنين طويلة..؛ ولربك فاصبر.

6. لا بد من الموت ولو كان لأشرف الخلق، وأكملهم قوة، وعقلاً، وحماية لصحته مما يفسدها، ودعوة لربه بالعفو والعافية، ونفعًا للناس، ﷺ، فلا ينبغي أن يغفل العاقل عن الموت، أو يتناساه من حسابه، أو يجزع لموت قريب أو حبيب، أو عالم، أو مصلح.

7.قال الشاعر:

وُلِدَ الْيَتِيمُ فَعَزَّ وَصْفًا فِي الْوَرَى = فَلْيَفْخَرِ الْمِسْكِينُ وَالْأَيْتَامُ

كَالْفَجْرِ يَخْرُجُ مِنْ ظَلَامٍ دَامِسٍ = كَالرُّوحِ تُحْيِي الْمَيْتَ وَهْوَ رِمَامُ

مَا أَسْعَدَ الدُّنْيَا تَعَاظَمَ فَرْحُهَا! = سَيَظَلُّ يَغْشَى وَجْهَهَا الْإِسْلَامُ

8. قال حسان بن ثابت[7]

قَومي الَّذينَ هُمُ آوَوا نَبِيَّهُمُ = وَصَدَّقوهُ وَأَهلُ الأَرضِ كُفّارُ

إِلّا خَصائِصَ أَقوامٍ هُمُ سَلَفٌ = لِلصالِحينَ مَعَ الأَنصارِ أَنصارُ

مُستَبشِرينَ بِقَسمِ اللَهِ قَولُهُمُ = لَمّا أَتاهُم كَريمُ الأَصلِ مُختارُ

أَهلًا وَسَهلًا فَفي أَمنٍ وَفي سِعَةٍ = نِعمَ النَبيُّ وَنِعمَ القَسمُ وَالجارُ

فَأَنزَلوهُ بِدارٍ لا يَخافُ بِها = مَن كانَ جارَهُمُ دارًا هِيَ الدارُ

المراجع

  1. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 110).
  2. مسلمٌ (2276)، عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.
  3. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 168: 179).
  4. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 187).
  5. انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" (ص 191).
  6. انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" (ص 207).
  7. سيرة ابن هشام (1/664).


فقه:

  1. يُحذِّر النبيُّ أُمَّته من أن تقول في الدين برأيها مُتَّبِعةً الهَوى، حتى يأتي الرجلُ منهم وهو جاهلٌ مُعْرِضٌ عن العلمِ وأهلِه، ترك مجالس العلم وآثر الراحة والكسل، فيقول وهو متكئٌ على سريره أو وسادته: علينا أن نكتفيَ بما في القرآن من الأوامر والنواهي، فالحلالُ ما أحلَّه القرآنُ، والحرامُ ما حرَّمه القرآن.

وقد تحقق ذلك فعلًا في أُمَّته ، فظهر الخوارجُ والروافضُ والقرآنيون والعلمانيون وغيرهم، الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن، وأعرضوا عن الاحتكام إلى سُنَّةِ النبيِّ ، ورفضوا العملَ بالأحاديث الصحيحة، جهلًا واستكبارًا أعمى قلوبَهم وبصائرَهم[1].

2. وقد أنكر النبيُّ فعلَهم ذلك، وعلَّله بأنَّ أوامرَ النبيِّ ونواهيه في وجوب الامتثال والطاعة كأوامرِ اللهِ سبحانه ونواهيه؛ فإنَّه لا ينطق عن الهوى، وإنَّ سُنَّتَه شرعٌ يجب اتباعُه

قال سبحانه:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

[الحشر: 7].

3. وأخبر النبي أنَّ اللهَ سبحانه آتاه القرآنَ، وهو الكتاب المُنَزَّل عليه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام، المتعبَّدُ بتلاوته، المتحدَّى بكل سورةٍ فيه، المنقول بنصِّه تواترًا، وآتاه كذلك السُّنَّة، التي فيها تفسير القرآن وبيان أحكامه وحدوده، ولهذا

قال سبحانه:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}

[النحل: 44]

فسمَّى السُّنَّةَ ذكرًا، وأخبر سبحانه أنَّه نزَّلها على نبيِّه. 

وقد تميزت السُّنَّةُ أنَّها أتت بأحكامٍ زائدةٍ عمَّا في القرآن؛ كتحريم الذهب على الذكور، ومشروعية الخيار بأنواعه بين البائع والمشتري، والنهي عن الجمع بين المرأة وعمَّتها وبين المرأة وخالتها في النكاح، وتحريم لحوم الحُمُرِ الأهلية، وإباحة ميتة السمك والجراد، وغير ذلك.

وليس شيءٌ من هذا جاء به النبيُّ من عنده، وإنما هو وحيٌ أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه ، وإن كان الفارق بين السُّنَّة والقرآن أنَّ السُّنَّةَ وحيٌ بالمعنى، يخبر النبيُّ عن ذلك المعنى بما شاء من الألفاظ

قال سبحانه:

{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}

[النجم: 3، 4].

اتباع: 

  1. (1) إياك والجهلَ والإعراضَ عن طلب العلم والاستكبار عن الجلوس بين يدي العلماء؛ فإنَّ ذلك سببُ البدع واتباعها.

  2. (1) حذَّر النبيُّ من الإعراض عن سُنَّته، فإياك أن تكون من هؤلاء المعرضين.

  3. (1) في هذا الحديث توبيخ وتقريع لمن ردَّ السُّنَّة استغناءً عنها بالكتاب، فكيف بمن رجَّح الرّأيَ على الحديث، وإذا سَمِع حديثًا من الأحاديث الصحيحة قال: لا عليَّ بأن أعمل بها؛ فإنَّ لي مذهبًا أتَّبِعه[2].

  4. (2) إياك والاستهانة بما حرَّمه النبيُّ أو أوجبه؛ فإنَّه في العقوبة وما حرَّمه اللهُ تعالى سواء، فضلًا عن عاقبة إنكار ما شرعه النبيُّ .

  5. (2) مَن ردَّ قولَ النبيِّ فقد ردَّ قولَ اللهِ تعالى وترك الانقياد لأوامره ونواهيه، فإياك وذلك.

  6. (3) السُّنَّةُ وحيٌ مثل القرآن، فما جاء منها من طريقٍ صحيحٍ وجب اتِّباعُه وتصديقه والإيمان به.

  7. (3) كيف يجوز لمؤمنٍ أن يزعم الإيمانَ بالنبيِّ ثم يُعرض عن اتِّباعه؟!

  8. (3) لا يُشترط في الحديث الصحيح أن يوافق القرآن حتى يُقبل؛ فكثيرٌ من الأخبار النبوية جاء فيها زيادةٌ على ما في القرآن، فإذا جاءك حديثٌ صحيحٌ مُسندٌ إلى النبيِّ فاعمل به.

  9. (3) لو كان رسولُ اللهِ لا يُطاع فيما كان زائدًا على القرآن، لم يكن لطاعته معنًى، وسَقَطت طاعته المختصَّة به، وإنّه إذا لم تَجِب طاعته إلَّا فيما وافَقَ القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصَّة تختصُّ به

    وقد قال سبحانه:

    {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}

    [النساء: 80][3].

  10. قال الشاعر:وكُنْ لسُنَّةِ خَيْرِ الخَلْقِ مُتَبِعًا = فإنَّها لنَجَاةِ الْعَبْدِ عُنْوَانُ

فَهْوَ الَّذِي شَمِلَتْ لِلْخَلْقِ أُنْعُمُهُ = وَعَمَّهُمْ مِنْهُ فِي الدَّارَيْنِ إِحْسَانُ

وَمُذْ أَتَى أَبْصَرَتْ عُمْيُ الْقُلُوبِ بِهِ = سُبْلَ الهُدَى وَوَعَتْ لِلْحَقِّ آذَانُ

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ مَا هَمَى مَطَرٌ = فَأَيْنَعَتْ مِنْهُ أَوْرَاقٌ وَأَغْصَانُ

وَابْعَثْ إِلَيْهِ سَلَامًا زَاكِيًا عَطِرًا = وَالْآلِ وَالصَّحْبِ لَا تُفْنِيهِ أَزْمَانُ

المراجع

  1. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 630).
  2. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 4).
  3. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).


فقه:

  1. يُقسم النبيُّ ﷺ على أمرٍ عظيمٍ، يريد توكيده بالحَلِف بالله. فيقول: واللهِ الذي أمري وحياتي بيده؛ إن شاء أماتها وإن شاء أحياها. 

  2. ومضمون القسم يتحدث عن وجوب الإيمان لجميع من بلغته دعوة النبيِّ ﷺ؛ من الأمم التي بُعث النبيُّ ﷺ إليها، وهم الإنس والجن، من العرب والعجم، من وقته إلى يوم القيامة.

ويقصد ببلوغ الدعوة: فهم المكلّف لوجود رسولٍ يقول إنه من الله؛ يدعو إلى توحيده، وينهى الشرك به، ويبين ذلك، ونحوه..، وسواء اقتنع أو لم يقتنع، فيكفي في قيامِ الحجة عليه فهمُه الصحيح لوجود رسولٍ هذه صفته، وأما من لم تبلغه بصورة صحيحة لم نقل إن الحجّة قامت عليه

لقوله تعالى:

﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾

[الإسراء: 15].

3. وقد ذكر النبيُّ ﷺ اليهود والنصارى لأنهم أَعْرَفُ الناسِ بالنبيِّ ﷺ؛ فقد جاءتهم البشارات بنبوته، كما أنَّ تخصيصهم بالذكر يدلُّ على أنه لا يُغني عن الإيمان برسالة النبي ﷺ شيءٌ، ولو قال إنه يتبع دينًا سماويًّا، فغيرهم من الوثنيين والملحدين أولى. وهو دليلٌ على نسخ جميع الشرائع بشرعه ﷺ[1].

4. فكلُّ من بلغته الدعوةُ عاقلًا بالغًا ثم مات على الكُفر ولم يؤمن بالنبيِّ ﷺ ولم يتبع شرعه الذي أتى به، فهو من أصحاب النارِ، خالدًا فيها أبدًا، لا ينفعه عملٌ أو نسبٌ أو شرفٌ أو جاهٌ:

﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾

[آل عمران: 85].

اتِّباع:

  1. قطع أبو هريرة رضى الله عنه المسافة الطويلة من بلده، ورضي بالهجرة والغربة إلى الله تعالى وإلى رسوله، مع أنه يكفيه أن يسلم في بلده، بل صارَ أكثرَ الصحابة روايةً للحديث رغم حداثة إسلامه، فلينظر كل منا إلى نفسه: ما الذي بذله في سبيل الله تعالى؟، وما مقدار حرصه على القرب من السنة التي هي إرث محمد ﷺ ؟

  2. لنعظِّم أمر الإيمان، ولنسلِّمْ لرسول الله ﷺ ما قال، سواء وافق ذلك هوانا أو لا، ها هو ﷺ يقسم بالذي حياته وموته بيده، على مسألة من مسائل الإيمان.

  3. من كان له قرابة أو صلة بيهودي أو نصراني فليحسن إليه بحسنِ دعوتِه إلى الإسلام، فإن دينه لا يغني عنه شيئاً، وإن أسلم فله ولك بسببه أجران، قال ﷺ: «ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ ﷺ » [2]..

  4. على المسلم أن يعتزَّ بدينه؛ اعتزازاً يفوق اعتزاز كلِّ صاحبِ حضارةٍ بحضارته، فكلُّ أتباع الأديان الأخرى في خسارة عظمى ما لم يتبعوا دين الإسلام الذي يبلغهم، فلله الحمد أن جعلنا مسلمين، وهدانا لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنه.

  5. أعظم الرحمة أن يسعى الإنسان إلى تخليص نفسِه وأهلِه والناس من العذاب المقيم، فإنَّ أحدًا لا يدخل الجنة حتى يؤمن بالنبيِّ ﷺ ورسالته ويتبعه، والدعاةُ إلى الله تعالى أرحم الناسِ بالناس؛ فهم يجاهدون بلسانهم ومالهم وعلمهم ليصرفوهم عن عذاب الله، وهي منزلة عظيمة ينبغي على كل مسلم أن يحرص عليها، وينضم لسلك الدعاة إلى الله تعالى. 

  6. قال الشاعر: 

وكُنْ لسُنَّةِ خَيْرِ الخَلْقِ مُتَبِعًا = فإنَّها لنَجَاةِ الْعَبْدِ عُنْوَانُ

فَهْوَ الَّذِي شَمِلَتْ لِلْخَلْقِ أَنْعُمُهُ = وَعَمَّهُمْ مِنْهُ فِي الدَّارَيْنِ إِحْسَانُ

وَمُذْ أَتَى أَبْصَرَتْ عُمْيُ الْقُلُوبِ بِهِ = سُبْلَ الهُدَى وَوَعَتْ لِلْحَقِّ آذَانُ

يَا رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ مَا هَمَى مَطَرٌ = فَأَيْنَعَتْ مِنْهُ أَوْرَاقٌ وَأَغْصَانُ

وَابْعَثْ إِلَيْهِ سَلَامًا زَاكِيًا عَطِرًا = وَالْآلِ وَالصَّحْبِ لَا تُفْنِيهِ أَزْمَانُ

المراجع

  1. ينظر: " تحفة الأبرار" للبيضاوي (1/ 43)، " المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 72).
  2. رواه البخاري (97)، ومسلم (154)، عن أبي موسى الأشعري .


فقه:

  1. يخبر أنسُ بنُ مالكٍ رضى الله عنه أنَّه بينما كان خارجًا من المسجد مع النبيِّ ﷺ إذ قابلهم رجلٌ أمام المسجد عند الظِّلال والسُقُف التي تحيط بالمسجد، فسألَ النبيَّ ﷺ عن وقت قيام الساعة.

وقيل إن هذا الرجلَ هو الأعرابيُّ الذي بال في المسجد قبل ذلك، وهو ذُو الخُوَيْصِرة اليمانيُّ[1].

2. فصَرَفَه النبيُّ ﷺ عن سؤاله إلى سؤالٍ أهم، وهو: ماذا أعددتَ لقيام الساعة؟ وهل تأهَّبت لقدومها بالإكثار من الطاعات والعبادات؟

ومرادُ النبيِّ ﷺ تنبيهُ الرجل إلى ما هو واجبٌ عليه ومطلوبٌ منه، وهو الاستعداد للحساب والعمل لدخول الجنة، إذ ليس مطلوبًا منه معرفة وقت يوم القيامة، فضلًا عن أنَّه لا يعلم وقتها إلا الله سبحانه وتعالى.

3. فلمَّا سمع الرجلُ سؤالَ النبيِّ ﷺ خضع وسكن؛ احتقارًا لعمله، واعترافًا بتقصيره، واعتذارًا عن قُبح سؤاله.

4. ثم ذكر أنَّه لم يستعدَّ لها بكبيرِ عمل؛ فما أكثر من النوافل والقُرب والطاعات التي تُدنيه من الجنة وتُنجيه من النار، وإنما اكتفى بالفرائض التي يجب على المسلم فِعلها.

ويمكن أن يكون قولُه ذلك تواضعًا منه وهضمًا لحقِّ نفسه، أو أنَّه رآه لا يقوم بشيءٍ كثيرٍ في نظره، أو أن يكون أراد أن كل ذلك يتأخَّر أمام قوة محبته الصادقة لله والرسول، التي لا يضاهيها عملٌ[2].

5. إلَّا أنَّ أعظم ما رآه الرجلُ من أعماله التي تنفعه يوم القيامة: محبَّتُه لله ورسوله، وهي محبة صادقة تقتضي آثارها من الطاعة وغيرها.

6. ولهذا أخبره النبيُّ ﷺ أنه إن كان صادقًا في محبته تلك، مُطَبِّقًا شروطها، فإنَّه مُلْحَقٌ بِمَن أحبَّ، مصاحبٌ للنبيِّ ﷺ وأصحابه في الفردوس الأعلى من الجنَّة

قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾

[النساء: 69].

ولهذا قال أنسٌ رضى الله عنه «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ ﷺ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»[3].

اتباع: 

  1. لم يعبأ أهلُ أنس ولا أنسٌ رضى الله عنه أن يخدم النبيَّ ﷺ وهو حُرٌّ لا عبد، وقد كانت الخدمة حينئذ للعبيد لا لأبناء السادة، وقد أخذته أمه وذهبت به إلى النبيِّ ﷺ ليخدمه. فالمسلم قد يراعي العادات والأقاويل لكن لا تمنعه من تحصيل الخير في الدارَين.

  2. حَرِص أنسٌ رضى الله عنه على ملازمة النبيِّ ﷺ وخدمته مع صغر سنِّه، وقد جاءت أحاديث أنه ربما لعب ذلك الوقت مع الغلمان[4]، فلا يلزم أن من تربية الصغير على الأمور الفاضلة أن يمنع مما يقتضيه سنه من اللعب ونحوه.

  3. سأل الرجلُ عن وقت الساعة، والنبيُّ ﷺ لم يجبه بل صرفه إلى سؤالٍ آخر تتعلق به مصلحة السائل وغيره، وهو العمل لوقت الساعة، وهذا الأسلوب يُعرف عند البلاغيين بأسلوب الحكيم، وهو أن يُجيب المسؤول بأكثرَ أو أهمَّ مما يتضمنه السؤال لحكمةٍ غابت عن السائل؛ كجواب النبيِّ ﷺ لمَن سأله عن الوضوء بماء البحر بـ«هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»[5]؛ فأفتاهم بعموم طهارة ماء البحر، ثم زادهم بأن ميتة البحر حلالٌ[6]، فعلى الداعية والمعلم أن يكون فطناً لحاجة الناس، حكيمًا في كلامه وإجاباته، لا ينساق لضغط أسئلتهم، بل يُحَدِّث الناس بما يفيدهم من أمر دينهم ودنياهم، دون ما يثير الفتن، أو لا فائدة في علمه. 

  4. حوَّل النبي ﷺ تفكير السائل من الأسئلة التي لا تعنيه، أو لا يوصل لجوابها: (متى الساعة).. إلى الخطوة العملية: ( ماذا أعددتَ لها) ، ولهذا كان الإمام مالك يكره الكلام إلا فيما تحته عمل، وينقل عن العلماء من قبله أنهم كانوا كذلك[7]، وأكثر جدلِ الناس والمشتركين في مشروع هو في خصوماتٍ لا عملَ من ورائها، فحاول أن تنتقل إلى السؤال النافع: ماذا بعدُ؟

  5. ينبغي أن يجعل المسلمُ أمام عينه «ماذا أعددتَ لها؟» منهجًا لحياته، يسارع في محاسبة نفسه كلَّ يوم، ليرى كيف يلقاه اللهُ عزَّ وجلَّ؟ أيلقاه راضيًا عنه أم ساخطًا عليه؟

  6. محبةُ الله تعالى ورسوله ﷺ ليست مجردَ أقاويل وميولٍ نفسيَّة، ولكنه شعورٌ يملأ القلبَ، فيُتبع ذلك الحرصَ على رضا المحبوب، وطاعته، بحسب ما قام في القلب، حتى تؤول إلى التقديم على الأهل والمال والولد والناس أجمعين، فمن ادَّعى المحبة فلينظر في نفسه هل يجد دليلًا من ذلك على محبته؟ قال الحَسَنُ البصريُّ: زعم قومٌ أنهم يحبون اللهَ تعالى فابتلاهم بهذه الآية:

﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ[8] وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

[آل عمران: 31].

7.مهما أخذت المعاصي من قلبك ووقتك، فإياك أن تخدشَ تعظيمَك لله تعالى ومحبته، ولرسوله ﷺ، إننا جميعًا لا نبلغ مقامَ أنبياءِ الله صلوات الله وسلامه عليهم في الجنَّة؛ لعظيم فضلهم وكبيرِ عملهم وصدق إيمانهم واتباعهم، مع ما أدركهم من البلاء. إلَّا أننا نستطيع أن نكون معهم في الآخرة بحسن محبتهم، وتوقيرهم، واتباع سُنَّتهم، وتقديم محبتهم على محبة جميع الناس. فيالها من بشرى لمن جد، ولهذا قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ مَا فَرِحُوا بِهِ»[9].

8. حاول أن تزيد محبتك لله تعالى ولرسوله ﷺ بالبحث عن أسباب ذلك ومظاهره، ككثرة ذكر الله تعالى والصلاةِ على النبيِّ ﷺ ، وتحديثِ القلب بشعور المحبة لهما، وتذكُّر نعمهما، والعزم على تقديم طاعتهما، وكلما رأيت محبًا يطلب رضا محبوبه فليكن حبَّك لله تعالى ولرسوله ﷺ أعظم:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ۗ ﴾

[البقرة: 165].

المراجع

  1. ينظر: "فتح الباري" لابن حجر (10/ 555).
  2. ينظر: "المفهم" للقرطبيِّ (6/ 646).
  3. رواه البخاريُّ (3688)، ومسلم (2639).
  4. رواه مسلمٌ (2604).
  5. رواه الترمذي برقم (69).
  6. ينظر: "الكواكب الدراري" للكرمانيِّ (22/ 35).
  7. ينظر: "جامع بين العلم وفضله" لابن عبد البرِّ (2/ 95).
  8. "تفسير ابن كثير" (2/ 32)، وفيه ذكر الآية إلى هنا.
  9. رواه أحمد (12032).


فقه

  1. ينهى النبيُّ عن سبِّ أصحابِه الذين لَقُوه وآمنوا به وماتوا على الإسلام، فهم خيرُ النَّاس بعد الأنبياءِ صلوات الله عليهم؛ إذ هم الذين تحمَّلوا عناءَ نشر الإسلام في بقاع الأرض، ودافعوا عن النبيِّ وواجهوا في سبيله أقوامَهم وعادوا من عاداه من الغريب والقريب، وقد اختارهم اللهُ تعالى لصحبة نبيه كما اختاره لنبوته، قال ابن مسعود رضى الله عنه: «إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ»[1].

وقد أثنى اللهُ تعالى على صحابةِ نبيِّه في غير موضع من القرآن، وفضَّلهم على غيرهم وأخبر برضاه عنهم ومغفرته لهم. ولهذا كان سبُّهم والانتقاصُ منهم حرامًا وإثمًا عظيمًا، ودليلًا على النِّفاق والزندقة؛ إذ لا يبغض الصحابةَ إلا فاسقٌ معلوم النفاق أو كافرٌ يبطن الكفرَ ويظهر الإسلام. لذلك ذهب بعض الفقهاء إلى قتل من طعن في الصحابة[2].

2. ثم يعلل النبيُّ نهيَه عن سبِّهم بذكر فضلهم وعظيم درجتهم، فيقسم بالله الذي نفسُ النبيِّ بيده إن شاء قبضها أو تركها وإن شاء ابتلاها أو عافاها، إنَّ أجورَ أعمال الصحابة رضى الله عنهم لا يساويها شيءٌ من أعمال غيرهم؛ فلو أنفق واحدٌ من غيرهم مثل جبل أُحُدٍ ذهبًا ما كان أجرُه مثلَ أجرِ الصحابي إذا أنفق ملء كفيه من طعامٍ، بل ولا بلغ ذلك نصف ذلك وهو ملء كفٍّ واحدة.

وإنما كان ذلك لإنفاقهم مع ضيق حالهم وشدة احتياجهم، ولأنهم الرعيل الأول الذي نشر الإسلام وحمل عبءَ الدعوة على عاتقيه، وقاتلوا وقُتلوا، وعاينوا نزولَ الوحيِ، وصحبوا رسولَ اللهِ في حِلِّه وترحاله. فلهذا وغيره استحقوا أعظم الجزاء. وقد أثنى اللهُ تعالى عليهم ومدحهم فقال:

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

[الحشر: 8، 9].

اتباع: 

  1. (1) إياك وسبَّ أصحاب النبيِّ والطعن فيهم؛ فإن ذلك مخالفٌ لأمرِ اللهِ ورسوله.

  2. (1) كيف تسبُّ مَن أثنى اللهُ تعالى عليهم وامتدحهم واختارهم لصحبة نبيه ؟!

  3. (1) لا ينبغي للمسلمين أن يخوضوا فيما دار بين الصحابةِ رضى الله عنهم من الفتنة؛ فقد كانوا مُتَأوِّلين لا يقصدون إلا الخير، ومُحسِنُهم ومُسِيئُهم معفوٌّ مَرْضِيٌّ عنه.

  4. (1) ينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يُرَبِّي أهله ويعلمهم حبَّ الصحابة رضى الله عنهم وتوقيرهم.

  5. (2) إذا كان الصحابةُ رضى الله عنهم أفضلَ النَّاس بعد الأنبياء، وهم مَن عاينوا نزول الوحي، وعرفوا حلالَه من حرامِه، فحريٌّ بنا أن نقتدي بهم ونستنَّ بسنتهم، قال عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: "من كان مُسْتنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خيرَ هذه الأمَّة، أَبَرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ﷺ، ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمَّد ﷺ كانوا على الهُدى المستقيم"[3].

  6. (2) يجدر بكلِّ مسلمٍ أن يقرأ في سير الصحابة رضى الله عنهم، ويرى كيف كانوا وكيف كانت أخلاقُهم، ولماذا ارتفعت درجاتهم. قال بعض القوم للحسن البصريِّ رحمه الله: أَخبِرْنا صفةَ أصحاب رسول الله ﷺ، فبكى، وقال: "ظَهَرت منهم علاماتُ الخَير في السِّيما والسَّمْتِ والهُدى والصِّدق، وخشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، ومَمشاهم بالتواضُع، ومَنطِقهم بالعمل، ومَطعَمِهم ومَشرَبِهم بالطِّيب من الرزق، وخُضوعهم بالطاعة لربِّهم تعالى، واستقادتهم للحقِّ فيما أحبُّوا وكَرِهوا، وإعطائهم الحقَّ من أنفسهم، ظَمِئت هَوَاجِرُهم، ونَحَلَت أجسامهم، واستخفُّوا بسُخْط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غَضَب، ولم يَحِيفوا في جَور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شَغَلوا الأَلْسُن بالذِّكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبَذَلوا أموالهم حين استقرَضَهم، ولم يَمنَعْهم خوفُهم من المخلوقين، حَسُنت أخلاقُهم، وهانت مُؤْنتهم، وكفاهم اليسيرُ من دنياهم إلى آخرتهم"[4].

  7. (2) يجوز للرجل أن يقسم على أمرٍ من غير أن يطلب أحدٌ منه القَسَم؛ تأكيدًا لقوله.

  8. (2) ليست العبرةُ بالكَمِّ وإنما العبرةُ باليقين والإيمان، ورُبَّ درهم سبق ألف درهم. فلا تغتر بكثرة إنفاق النَّاس أو يثنيك ذلك عن إنفاق ما جادت به نفسك مما اقتطعته من قوتك.

  9. (2) قومٌ لو أنفقتَ كنوزَ الأرضِ كلِّها ما بلغتَ أجرَ أصغرِ عملٍ عملوه، فكيف لك أن تتكلم في حقِّهم أو تسيء إليهم؟!

المراجع

  1. رواه أحمد (3600).
  2. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  3. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/305-306).
  4. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 150).