فقه
يخبر النبيُّ ﷺ عقبةَ بن عامرٍ رضي الله عنه بأنه قد أُنزل عليه من الوحي سورتان، لم ينزل مثلهما قط خصوصاً في باب الاستعاذة؛ فإنَّ جميع آيات السورتين تعويذٌ للقارئ، وفيهما من دفع الحسد وكفاية شرِّ الحاسد ما ليس في غيرهما [1]
هاتان السورتان هما الفلق والناس، أخبر النبيُّ ﷺ بهما بذكر أولهما لاشتهارهما ذلك، كما يشتهران أيضًا بالمُعَوِّذتين؛ لابتدائهما بـ "قل أعوذ". ومعنى الفلق: كلُّ ما انفلق عن شيء؛ كالصُّبح والحبِّ والنَّوى.
والاستعاذة: الالتجاء إلى الله تعالى والاعتصام به طلبًا لحمايته من شرِّ الشيطان وكيده ووسوسته، ولأجل وقايته من شرِّ كل ذي شرٍّ [2].
وقد ورد في الاستعاذة والرقية بالمُعَوِّذتين أحاديث منها ما رواه أبو سعيد الخدري قال: «كان رسول الله ﷺ يتعوَّذ من الجانِّ، وعَين الإنسان، حتى نزلت المعوِّذتان، فلمَّا نزلتا، أخذ بهما، وترك ما سواهما» [3]. وإنما أخذَ النبيُّ ﷺ بتلك السورتين وترك ما سواهما من الرُّقى والأدعية لأنهما من جوامع باب الاستعاذة، فكان فيهما كفاية [4].
اتباع:
استخدم النبيُّ ﷺ أسلوب من أساليب العرب في التعجب وهو قوله: "ألم تر"، وقد أتى في القرآن ذلك كثيرًا، وهو أسلوب يجذب الأفهام وتتعلق به النفوس، فتعظم الاستجابة والتحصيل للعلم المُلْقَى. ولهذا فإنَّ من اللائق بالعلماء والدعاة والمُرَبِّين أن يُكثروا من استخدام الأساليب البلاغية التي يُصَدَّرُ بها الكلامُ لحصول التركيز وجلب الأفهام والأسماع.
دلَّ الحديث على أنَّ المُعَوِّذتين أفضلُ ما يستعمله المسلم في الاستعاذة والرُّقى، وإن كان ذلك لا يمنع من الاستعاذة بأدعية وأذكار مشروعة، كما لا يمنع من بذل الأسباب الدنيوية التي تحفظ الإنسان من الشرور، لكن هاتين السورتين هما الأعظم، والأقرب لحصول المراد.
في سورة الناسِ وصفُ الشيطان بأنه خنَّاس؛ أي: يتأخر ويهرب إذا ذكر العبدُ ربَّه، فكلما كان العبدُ ملازمًا للأذكار والأدعية كان عن الشيطان أبعد، فينبغي أن نحرص على ذكر اللهِ تعالى في كل وقتٍ، وأن نُبادر بالاستعاذة بالله منه متى حصلت لنا وسوسةٌ أو همَمْنا بذنبٍ.
اعتن بما عظَّمه الله تعالى من السور، بحفظها، وتعلمها، وتدبر آياتها، وتعليمها؛ سواء في البيوت، أو المدارس، أو في بحوث أهل العلم، فهي مقدمة على غيرها.
دلَّ الحديثُ والآيات على أنَّه لا يمكن صرف أذى الحاسدين وإبطال أعمال السحرة المفسدين إلا بالاستعانة به سبحانه، فهو وحده ربُّ الناس وخالقُهم ومالك أمرهم، الذي لا يحدث أمرٌ في ملكه إلا بإذنه.
المراجع
- ينظر: "التنوير شرح الجامع الصغير " للصنعانيِّ [4/ 280]، "البحر المحيط الثجاج" للإتيوبيِّ [16/426].
- ينظر: "تفسير ابن كثير" [1/114].
- النسائيُّ (7804)، والترمذيُّ [2058]
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ [5/ 1650]
فقه
يذكر الصحابيُّ الجليلُ عامر بن واثلة رضي الله عنه أنَّ نافعَ بن عبد الحارث كان قد جعله عمر بن الخطاب رضي الله عنه أميرًا على مكة، فخرج من مكة في إحدى مصالحه، فقابله عمر رضي الله عنه في عُسْفان، وهي بلدة بينها وبين مكة حوالي 80 كيلو مترًا، فسأله عمر عمَّن استخلفه على مكة، يلي أمرَ الناس ويؤمهم في الصلوات ونحو ذلك؟
فأخبره نافعٌ أنه استخلف عليهم رجلًا اسمه ابن أبزى [1]، فلم يعرفه عمر رضي الله عنه، فسأله عن حاله، فقال له: إنَّه كان هو أو أحد آبائه عبدًا لنا فأعتقناه.
فأنكر عمر رضي الله عنه عليه أن يستخلف على النَّاسِ مولًى، وفيهم من الأحرار والأشراف من أصحاب النبيِّ ﷺ وتابعيهم مَن يصلح لذلك.وليس معنى ذلك أنَّه لا يجوز تولية الموالي، ولا أنَّ عمر رضي الله عنه يحتقر الموالي والعبيد ويراهم دونَ الأحرار، وإنما مراعاةً لمصالح الناس واجتنابًا للفتن؛ إذ إنَّ الغرض من الولايات ضبطُ أمور الناس وتحقيق مصالحهم، وذلك يحتاج رجلًا عاقلًا حازمًا مُهابًا لا يتجرأ عليه أحد، ويقتضي ذلك أن يكون العاملُ حُرًّا شريفًا نسيبًا وجيهًا، وإلَّا استخفَّ به الناسَ ولم يطيعوه.
- فأخبره نافعٌ رضي الله عنه أنَّه إنما استعمله لأنه حافظٌ لكتاب الله تعالى، عالمٌ بالفقه وأحكام المواريث، وأنَّ هذا المولى رفعه اللَّه تعالى على الناسِ بهذه الأمور، وهم يَعرِفون منه ذلك، فيَحترمونه، ويُعظِّمونه، ويُطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرُّ أحوالهم [2]
- فلما أخبره بذلك رَضِيَ عمر رضي الله عنه فِعْلَه، وأقرَّ صُنْعَه، ودَلَّل على صحته بأنَّ النبيَّ ﷺ أخبر أنَّ هذا القرآن يُكرم أناسًا ويرفع منزلتهم في الدنيا والآخرة، ولولاه لكانوا أذلَّاء، كما أنَّه يُهِين مَن كفر به وتَرَكَ العمل بِما فيه، ولو كان من أصحاب العزِّ والسؤدد.
اتباع
على صاحب المسؤولية أن يكون منتبهًا لمسؤوليته، حسّاسًا لكل موقف، فعمر لما رأى عامله سأله: من ترك خلفه؟ ومن هو؟ ولم فعل كذا ولم ترك كذا؟
على الإنسان إذا استخلف مكانه من يقوم بعمله أن يراعي في اختياره شروط المهمة المُوَكَّل بها ومقتضياتها. فإذا أراد الأب أو صاحبُ شركة أو مُقاولٌ أو عاملٌ أن يرسل أحد عُمَّاله لعمل شيءٍ فإنه ينبغي أن يراعي فيه الأمانة وإتقان العمل ونحو ذلك، وإذا أراد أميرٌ أو وزيرٌ أن يستنيب أحدًا أو يُوكِّل عاملًا معه فإنه يشترط فيه حسن السياسة والقدرة على تلبية مصالح الناس.
دلَّ الحديث على أنَّ العارفَ بأحكام كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله ﷺ، مقدّمٌ لولاية أمور المسلمين متى كان صالحًا للولاية، وإن كان فقيرًا من الموالي، على أن يراعى في ذلك مصلحة المسلمين، وتجنب ما يثير الفتن، فقد عزل عمر رضي الله عنه كبار الصحابة عن بعض الولايات للمصلحة العامة؛ كما فعل مع سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد وغيرهما.
ليسأل كل امرؤ نفسه: كيف يجدها بكتاب الله تعالى: هل آمنت به وصدَّقته وأدمنت تلاوته فرفعك اللهُ تعالى به، أم ضيَّعتَه فوضعها الله به؟؛ فهما أمران لا ثالث لهما، قال قتادة رحمه الله: «لم يُجالس هذا القرآنَ أحدٌ إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان» [3].
قيمة الإنسان بقيمة ما يحمله من علم، فعلى طالب العلم أن يصرف همه للعلم النافع فهو شرف له في الدنيا والآخرة.
إذا كان القرآنُ يرفع قدر صاحبه في الدنيا بأن يجعله رأسًا في الناس وإمامًا بهم، فإنَّ الرفعة الكبرى إنما تكون في الآخرة؛
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»
[4].
قال الشاعر:
هكَذا يا روحُ كُونِي نَحْلَةً = لَمْ تَمِلْ للنَّوْمِ أو إغْرائِهِ
دونَكِ القرآنَ رَوْضًا ناضِرًا = فارشُفِي ما شئتِ مِن أندائِهِ
قدِّمِي للكَوْنِ مِن أزهارِهِ = شَهْدَهُ الْمَشْهُودَ باستحْلائِهِ
لا تَرومِي غيرَهُ رَوْضًا؛ فَكَمْ = عِفْتُ طِيبًا شَذَّ عن أشذائِهِ
فالهُدَى في هَدْيِهِ، والفوزُ في = نهجِهِ، والْمَجْدُ في إعْلائِهِ
المراجع
- هو عبد الرحمن بن أبزى الخُزاعي، مختلف في صحبته، وأكثر المؤرخين على أنه صحابيٌّ لقي النبيَّ ﷺ وصلَّى خلفه وروى عنه. ينظر: "تهذيب الكمال" للمزي [16/ 501]، " سير أعلام النبلاء" للذهبي [3/ 201].
- "البحر المحيط الثجاج" لمحمد بن عليٍّ الإثيوبيِّ (16/ 458).
- "أخلاق حملة القرآن" للآجرِّيِّ (ص: 73).
- أبو داود (1464)، والترمذيُّ (2914)
فقه
يخبر ربُّنا جلَّ جلاله أنَّه يدافع عن عبادِه المؤمنين، فمن خاصَم وآذى وليًّا من أولياء الله – وهم عبادُه الصالحون الذين حقَّقوا إيمانهم بالطاعات فتولَّى ربُّهم أمورَهم – فقد أنذرَه اللهُ تعالى بالحرب انتقامًا لأوليائه ودفاعًا عنهم. ومَن يقدر على حربِ اللهِ سبحانه؟!
ثم بيَّن سبحانه أنَّ أفضلَ ما تقرَّب به العبدُ إلى مولاه أداءُ الفرائض التي افترضها عليه؛ فإنَّه جلَّ جلالُه ما افترض عليه الطاعات وحرَّم عليه المعاصي إلا ليُقرِّبه منه.
فإذا حرص العبدُ على الفرائض ثم تقرَّب إلى ربِّه سبحانه بالعبادات التي لم يفرضها عليه وندبه إليها - كسُنَنِ الصلاة والصيام والصدقات والمداومة على الأذكار وقراءة القرآن وقضاء حوائج النَّاس ونحو ذلك - أحبَّه اللهُ تعالى.
فإذا أحبَّه سبحانه حَفِظَ عليه حواسَّه؛ فلا يسمع إلَّا ما يُرضي اللهَ تعالى، ولا يمُدُّ بصرَه إلى حرامٍ، ولا أطلق يدَه في ما لم يأذن به الشرع، فلا تأخذ ما ليس لها، ولا يضربُ بها إلا في حقٍّ، ولا تمشي رِجلُه إلى معصيةٍ من المعاصي. وهذا
كقوله ﷺ:
«احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ»
[1].
كما أنَّ من عظيم جزاءِ أولياء الله الذين يحبهم ويحبونه، أنَّهم إن دَعَوْهُ أجاب دعاءهم وأعطاهم سؤالهم أيًّا كان، وإن لجؤوا إليه خائفين من شرٍّ أو أذًى أذهبَ عنهم ما يخافون وأجارهم.
قال ﷺ:
«إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
[2].
ثم أخبر سبحانه أنُّه يحبُّ ما أحبَّ المؤمنُ، ويكره أن يُصيبَه بشيءٍ يؤذيه، حتى الموت الذي كتبه اللهُ تعالى على جميع خلقه وأراده لهم يكره أن يصيبَ به عبدَه المؤمن لكراهيته له وخوفه منه، فصار الموتُ مرادًا لله تعالى من وجهٍ مكروهًا من آخر، وهذه حقيقة التَّردُّدِ، فإنه سبحانه يقضي على عبدِه المؤمن بالموت مع حبِّه له وكراهية مساءتِه، بخلاف الكافر؛ حيث يُبغضه اللهُ تعالى ويريد مساءته[3].
وكراهيةُ العبدِ الصالح للموتِ إنَّما هي الجِبِلِّيَّة التي خلقَ اللهُ سبحانه النَّاس عليها؛ فهم يخافون من الموت ولا يحبونه، إلَّا أنَّه إذا حضره أجلُه بشَّرَه اللهُ تعالى بما له من النعيم في الآخرة، فلا يكون شيءٌ أحبَّ إليه من الموتِ حينئذ،
قال ﷺ:
«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»
[4].
اتباع:
- (1) مَن سرَّه أن يلجأ إلى ركنٍ حصينٍ لا يضرُّه معه شيءٌ فليعتصم بحبلِ اللهِ؛ فإنَّ الجبَّارَ هو الذي يتولى الدفاع عن أوليائه.
(1) إذا كان اللهُ تعالى معك، فمن ضدُّك؟ ومَن يقوى على حربِ اللهِ تعالى؟!
(1) الولاية ليست بالادِّعاء، وإنَّما بالإيمان والتقوى وحسن التوكل على الله تعالى، وإلَّا فكم من شقيٍّ ادعى أنَّه وليٌّ من أولياء الله تعالى!
(1) الطريق الوحيد للولاية إنما هو باتباع شرعه الذي أتى به رسوله ﷺ، وإلا فاليهود والنَّصارى زعموا أنَّهم أولياء اللهِ وأحباؤه، وهم مُكَذِّبون برسوله مُعرضون عن شرعه.
(1) إياك ومحاربةَ أولياءِ اللهِ تعالى؛ فإنَّك لا طاقة لك على حربِ اللهِ تعالى.
(2) إذا أردتَ القربَ من اللهِ تعالى ونَيلَ محبَّته فائتمر بما أمرك، وانتهِ عمَّا نهاك عنه؛ فإنَّ حقيقة المحبة موافقة المحبوب والخضوع لأمره.
(2) إياك أن تدَّعي المحبةَ وأنت لاهٍ في لهوك منصرفٌ عن طاعة حبيبك؛ فالمُحِبُّ لا يطمئنُّ إلَّا إلى ما يحبُّ حبيبُه ويرضاه.
(2) قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله في خُطبته: "أفضلُ العبادة أداء الفرائض، واجتنابُ المحارم؛ وذلك لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما افترض على عباده هذه الفرائض ليقرِّبَهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته" [5].
(3) تقرَّب إلى الله تعالى بأنواع النوافل والسُّنَن المستحبات؛ فمن أدَّى الفرائضَ واجتنب المعاصي ثم سارع في أداءِ ما يُحبُّه اللهُ تعالى مما لم يكتبه عليه، استوجبَ محبَّةَ اللهِ تعالى له.
(3) لا تُفَرِّط في أداء النوافل؛ فإن الله تعالى أثنى على أنبيائه وأوليائه بقوله:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
[الأنبياء: 90].
(3) اختر لنفسك منزلةً بين منزلتين؛ فإما أن تكون من المقتصدين الذين اكتفوا بأداء الفرائض واجتناب النواهي، وإما أن تكون من السَّابقين الأوَّلين الذين بلغوا درجة الولاية والمحبة بالاجتهاد في أداء النوافل، والورع عن المكروهات وما يشغل عن طاعة اللهِ تعالى.
(3) إياك أن تظنَّ أنَّ النوافلَ وحدها دون أداء الفرائض تنفعك وتُدنيك من ربِّك؛ بل لا بد من أداء الفرائض، وقد قال أبو بكر لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إن اللهَ تعالى لا يقبل نافلةً حتى تُؤدى الفريضة" [6].
(4) محبَّةُ اللهِ تعالى أعظم شيءٍ يمكن أن يناله العبدُ، كان داود عليه السَّلام يقول في دعائه: "اللَّهمِّ إنِّي أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ العمل الَّذي يبلِّغني حبَّك، اللَّهمَّ اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومالي، ومن الماء البارد" [7].
(4) إذا غلبتك نفسُك على ارتكاب بعض المعاصي، فازدد للهِ تعالى قربًا بأداء الفرائض والنَّوافل يحفظْ عليك نفسَك وأعضاءك، فلا تميلُ إلى ذنبٍ ولا تُسَوُّلُ لك معصية.
(4) الجزاءُ من جنس العمل؛ فإن حفظتَ حدودَ اللهِ تعالى وائتمرتَ بما أمرك به حفِظَ عليك حواسَّك، وإن ضيَّعتَ شرعَه أهملَك وتركك لنفسك وهواك.
(4) من أعظم نتائج محبةِ اللهِ سبحانه للعبدِ أنَّه يأمر جميعَ الخلقِ بحبِّه؛
قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأرضِ»
[8]
(5) إذا أردتَ أن تكون مُجابَ الدَّعوة، فعليك بأعظم أسبابها، وهي استحقاق محبة الله تعالى بالتقرب إليه بالطاعات.
(5) إن رأيتَ أنَّ دعاءك ما زال مُعلَّقًا لم يُقبل مع إلحاحِك على ربِّك، فادفعه بمزيد التقرُّب إليه، وأعلم أنك لم تصر بعدُ إلى منزلة الأولياء.
(5) مَن لجأ إلى الله تعالى وتحصَّن بحصنِ طاعتِه والقربِ منه أجاره من كل سوءٍ وأذهب عنه كلَّ شرٍّ.
(5) قال تعالى:
{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
[يونس: 62]
فمن كان اللهُ تعالى معه فما الذي يُحزنه ويخيفه؟! ألم تسمع قول النبيِّ ﷺ لصاحبه أبي بكر:
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
[التوبة: 40].
(6) اللهُ عزَّ وجلَّ يكرهُ أن يسوءَ عبدَه المؤمن، فكيف له أن يُرِي ربَّه ما يكره من المعاصي؟!
(6) التردد صفةُ نقصٍ لا يوصف بها اللهُ سبحانه، وإنما مراده أن يكون الشيءُ عنده مُرادًا من وجهٍ مكروهًا من آخر، من غير أن يصحب ذلك تحيُّرًا كما في الإنسان المتردد. فنَزِّه اللهَ تعالى عمَّا لا يليق به من صفات النَّقص.
في الحديث إثبات صفتي المحبة والبُغض لله عزَّ وجلَّ، فنُثبتهما له تعالى من غير تكييفٍ أو تأويلٍ أو تعطيل.
قال الشاعر:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ = هَذا مُحَالٌ في القِياسِ بَدِيعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأَطَعتَهُ = إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
في كُلِّ يَومٍ يَبْتَديكَ بِنِعمَةٍ = مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضِيعُ
المراجع
- رواه وأحمد (2669)، والترمذيُّ (2516).
- رواه البخاريُّ (2703)، ومسلم (1675).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 130).
- رواه البخاريُّ (6507)، ومسلم (2683).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 336).
- "الزهد" لهناد بن السري (1/ 284)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 340)
- رواه البخاريُّ (7485)، ومسلم (2637).
فقه:
1. يسألُ ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى، ليُكثر من فعله، وليقدمَه على سائر الأعمال والقُرَب، فأخبره ﷺ أنَّ أفضلَ ذلك أداءُ الصلاةِ في وقتها.
والصلاةُ عمود الإسلامِ، وهي أساسُ العلاقةِ بين العبدِ وربِّه، وهي الركنُ الثاني من أركان الدين، ولهذا كان أداؤها في وقتها الذي افترضه اللهُ تعالى أحبَّ عملٍ إليه سبحانه.
وقد امتدح اللهُ سبحانه عبادَه المؤمنين بأنهم يحافظون على الصلاة ويؤدونها كما ينبغي،
فقال سبحانه:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ[1] الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ [2] وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [3] وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ [4] وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ[5] إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [6] فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [7] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [8] وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [9] أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [10] الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[المؤمنون: 1 - 11]؛
فوصفهم بالخشوع في الصلاة، وبالمحافظة عليها.
وتوعَّد سبحانَه مَن ضيَّع الصلاةَ وأخَّرَها عن وقتها بقوله:
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
[مريم: 59]،
قال المفسرون: إنَّما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركًا كان كفرًا [1].
2. ثم سأل ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه عن أفضل الأعمال بعد أداء الصلاة على وقتها، فدلَّه ﷺ إلى برِّ الوالدين.
وقد أعطى اللهُ سبحانه مزيدَ اهتمامٍ بالوالدين، فقَرَنَ الإحسانَ إليهما بعبادته وتوحيده في أكثر من موضع، كقوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
[النساء: 36]،
وقوله سبحانه:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
[الأنعام: 151].
وبرُّ الوالدين يكون بالإحسان إليهما، ومصاحبتِهما بالمعروف، والنُّصح لهما، والقيام بخدمتهما، وترك عقوقهما
قال سبحانه:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [23] وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}
[الإسراء: 23، 24].
وأخبر ﷺ أنَّ عقوقَ الوالدين من أكبر الكبائر
قال ﷺ:
«أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الكَبَائِرِ؟» ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ»، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ
[2].
3. ثم سأل ابنَ مسعودٍ رضي الله عنه عن أحبِّ الأعمالِ إلى الله تعالى بعد الصلاة على وقتها ثم بر الوالدين، فأرشده ﷺ إلى الجهاد في سبيل اللهِ تعالى.
والجهادُ: محاربةُ الكُفَّارِ لإعلاء كلمة الله تعالى وإظهار شعائر الإسلامِ بالنفسِ والمال. وهو ذِروةُ سنام الإسلام؛ به تُرفَع رايةُ الدِّين، وتعلو كلمة الحقِّ إلى قيام الساعة، وبه يُعِزُّ الله المؤمنين، ويُذِلُّ أعداءه.
وقد امتدح اللهُ سبحانه المجاهدين في سبيل اللهِ تعالى بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
[التوبة: 111].
وأخبر ﷺ أنَّه لا عملَ يساوي في الأجرِ الجهادَ في سبيل الله تعالى
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الجِهَادَ؟ قَالَ: «لاَ أَجِدُهُ» قَالَ: «هَلْ تَسْتَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجَاهِدُ أَنْ تَدْخُلَ مَسْجِدَكَ فَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ، وَتَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ؟»، قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟
[3].
4. ثُمَّ بيَّن عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه اكتفى من رسولِ الله ﷺ بهذه الأعمال، ولو ظلَّ يستزيده ويسأله لزاده ﷺ، وإنَّما توقَّف شفقةً منه بالنبيِّ ﷺ.
اتباع:
(1) حرص الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم على اغتنام أوقاتهم في الطَّاعات، وسؤال النبيِّ ﷺ عن أقربِ العبادات وأحبِّها إلى اللهِ تعالى وأكثرها أجرًا وثوابًا. وحَرِيٌّ بكل مسلمٍ أن يقتدي بهم.
(1) سأل غيرُ واحدٍ من الصحابة النبيَّ ﷺ عن أحبِّ الأعمال إلى الله، وكان في كلِّ مرةٍ يذكر شيئًا مختلفًا لاختلاف أحوال السائلين، فيُجيب كلَّ واحدٍ بما هو إليه أحوج وبه أليق. فعلى الدُّعاةِ والعُلماء والمُرَبِّين أن يُراعوا أحوالَ النَّاسِ وطباعَهم في الفتاوى والوعظِ.
(2) حرص النبيُّ ﷺ على الصلاةِ في أوقاتها، حتى إنَّه ﷺ لمَّا حاصره المشركون يوم الخندق قال:
«مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا، شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ»
[4]،
مع أنَّه ﷺ كان معذورًا في تأخيرها. فكيف بمن يُضيِّع الصلاةَ من غير عذرٍ شرعيٍّ؟!
- (1) سأل ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عدة أسئلة في مجلس واحد، ولم يتأفف منه النبيُّ ﷺ أو يضق به ذرعًا. فينبغي على الدُّعاة والعُلماء أن يتجمَّلوا بالصبر والحلم أمام النَّاس.
- (2) برُّ الوالدين من أعظم القُرُباتِ عند الله تعالى. فمن كان أبواه أو أحدهما حيًّا فليغتنم ذلك، وليتقرب إلى الله تعالى ببرهما.
- (2) برُّ الوالدين مُكَفِّرٌ للذنوب؛
فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَهَلْ لِي تَوْبَةٌ؟ قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟» قَالَ: لَا، قَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ خَالَةٍ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَبِرَّهَا»
[5].
- (3) الجهادُ في سبيلِ اللهِ تعالى أعظمُ الأعمال والقُرَب، لا يعدله شيءٌ من الأعمال، سُئل ﷺ: أيُّ النَّاس أفضل؟ فقال: «مُؤْمِنٌ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ» [6].
- (3) من الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى بذلُ الجَهدِ والمالِ في نشرِ دينِ اللهِ تعالى وتبليغ الدعوةِ إلى النَّاس، والأمرِ بالمعروفِ والنَّهي عن المنكرِ.
- (4) ينبغي لكلِّ أحدٍ أن يترفق بالفقهاءِ وأهلِ العلم، فلا يُكثر عليهم من السؤال، ولا يشقُّ عليهم بالاستفسارات. بل يختصرُ ويُراعي أوقات تعبهم وفتورهم ونحو ذلك
المراجع
- " تفسير ابن كثير" (5/ 243).
- رواه البخاري (2654)، ومسلم (87).
- رواه البخاري (2785)، ومسلم (1878).
- رواه البخاري (2931)، ومسلم (627).
- رواه الترمذي (1904).
- رواه البخاري (2786)، ومسلم (1888).
فقه
1. يَذكر النبيُّ ﷺ جزاءَ معاونةِ النَّاس في قضاءِ حاجاتهم والتخفيف من أعبائهم، فيَذكر أنَّ مَن خَفَّفَ وفَرَّجَ عن مؤمنٍ شِدَّةً عظيمةً من الشدائد، فَرَّجَ اللهُ عنه شدَّةً من أهوال يومِ القيامة الذي أخبَر سبحانه وتعالى عنه بقوله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [1] يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}
[الحج: 1، 2].
2. ومَن يسَّر على مَدِينٍ عاجزٍ عن السَّداد، بإنظارِه إلى مَيسرةٍ، أو بإبرائِه منه أو من بعضِه، أو بإعطائه ما يَزول به إعسارُه؛ كان جَزاؤه أن يُيَسِّر اللهُ تعالى عليه، فلا يمُرُّبضائقةٍ ولا تَنزلُ به نائبةٌ في الدُّنيا إلَّا يسَّرَها عليه، وفي الآخرة يسَّرَ اللهُ تعالى حسابَه فيَرحمه ويَغفِر له
قال تعالى:
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[البقرة: 280]
وقال ﷺ:
«كان تاجرٌ يُدَايِنُ النّاس، فإذا رأى معسِرًا قال لصِبيانه: تجاوَزُوا عنه؛ لعلَّ الله أن يتجاوز عنَّا، فتجاوَز اللهُ عنه»
[1].
3. ومَن سَتر مسلمًا ستَره اللهُ تعالى في الدُّنيا؛ فلا يَفضحه ولا يَهتِك عَورتَه أمام النَّاس ولا يُطلِع أحدًا على سوآته ومَعاصيه، وفي الآخرة يَضَع كَنَفَه عليه [أي سِترَه ورحمتَه] فلا يُسمِع أحدًا من الخلائق شيئًا مِن حسابه
قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأَشْهَادُ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}
[هود: 18]»[2].
وسَترُ المسلمِ لأخيه المسلمِ نوعانِ: سَترُ عورتِه الحِسِّية؛ بحيث يُعطِيه ما يَلبَسُه ويَستُر به بدَنَه، وسَترُ عورتِه المعنويةِ، وهي المعاصي، فإذا رأى المسلمُ أخاه على مَعصيةٍ وجَب عليه أن يُنكِر عليه ويَنصَحه للهِ تعالى، ثم بعد ذلك لا يجوزُ له أن يَفضَحه أو يُشَهِّرَ به، بل يَستُره ويَدعو له بالهداية
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
[النور: 19].
وقال ﷺ:
«يا مَعْشَرَ مَن آمَن بلسانِه ولم يَدخُلِ الإيمانُ في قلبِه، لا تَغتابُوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْرَاتِهم؛ فإنه مَن اتَّبَع عَوْراتِهم، تتبَّع اللهُ عورتَه، ومَن تتبَّع اللهُ عَورتَه، يَفْضَحْهُ في بيته»
[3].
وأصحابُ المعاصي نوعانِ: مَستورٌ لا يُعرَفُ بمعصيةٍ ولا يُجاهِرُ بذلك، فهذا الذي يجِبُ السَّتْرُ عليه، ولذلك أعرضَ النبيُّ ﷺ عن إقامة الحدِّ عن الرَّجل الذي قال:
«إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ عَلَيَّ»، فلم يَستفسِرْ عنه، بل قال له: «أَلَيْسَ قَدْ صَلَّيْتَ مَعَنَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ، أَوْ قَالَ: حَدَّكَ»
[4].
والآخرُ: مُجاهِرٌ بالمعصيةِ، لا يُبالي بما ارتكَب منها، فهذا لا يُستَر، بل يجِب رفعُ أمرُه إلى الإمام ليَنكَفَّ شرُّه، ويَرتدِع أمثاله [5].
4. ثم أخبَر ﷺ أنَّ اللهَ تعالى يُعِين المسلمَ ما دام المسلمُ يسعى في عَونِ أخيه
قال ﷺ:
«ومَن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتِه»
[6]
وقال أيضًا:
« أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفَعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سُرورٌ تُدخِلُه على مُسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُرْبةً، أو تَقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جُوعًا، ولأَنْ أمْشِيَ مع أخٍ في حاجةٍ أَحَبُّ إليَّ مِن أن أعتَكِفَ في هذا المسجدِ - يعني مسجدَ المدينةِ - شَهرًا... ومَن مَشى مع أخيهِ في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له ثبَّتَ اللهُ قَدَمَيه يومَ تَزولُ الأقدامُ»
[7].
5.ثم انتقَل ﷺ لبيان فضلِ طالِب العلم، فأخبَر أنَّ العبدَ إذا سَلَك طريقًا يَطلُب فيه علمًا، سهَّل اللهُ سبحانه له بذلك طريقًا إلى الجَنَّة؛ فإنَّ العلمَ يُورِث في قلبِ العبدِ عظَمةَ اللهِ تعالى وقُدرتَه، ويُبَصِّرُه بأحكامِ الشرعِ مِن الحلال والحرام، فيَعمَل بذلك راجيًا مَغفرةَ اللهِ تعالى ورِضوانه.
وقد أتى ﷺ بلفظِ الطريقِ نَكِرةً ليَشمَل جميعَ الطُّرُق الحِسِّية بالانتقالِ من المنزِلِ إلى المسجدِ أو المدرسةِ أو الجامعةِ أو المركَزِ أو نحو ذلك، كما يَشملُ الرحلةَ في طلبِ العلم للأخذِ عن العلماءِ، كما يَشمَل الطُّرُقَ المعنوية الحاصلةَ بالأخذِ من بُطون الكتب، ومُطالَعة مواقعِ العلماء وصَفحاتهم، ومُدارَسة العلم ومُذاكَرته من مَصادرِه المختلفة، فكلُّ تلك السُّبُلِ من سلوكِ طريقِ العلم [8].
كما أتى كذلك بلفظ العلمِ نَكِرةً ليَشمَل فروعَ العلمِ كافَّة، دون أن يكونَ ذلك مقصورًا على طلبِ العلمِ الشرعيِّ، وإنْ كان أرفعَها مقامًا وأعلاها أجْرًا، وليَندرِج فيه القليلُ والكثيرُ منه، فمَن سلَك طريقًا يَلتمِس فيه حكمَ مسألةٍ واحدةٍ كان له الأجرُ المذكورُ[9].
6. ثم أخبَر ﷺ عن فضل الاجتماع في المساجدِ لتِلاوة القرآن ومُذاكَرته؛ فإنَّ الطُّمأنينةَ تَتنزَّل على الجالسِين، وتَشملهم الرَّحمةُ، وتُحيط الملائكةُ بهم من كلِّ مكانٍ حفظًا لمجلسِهم من الشياطينِ، ويَذكُرهم الرحمنُ في الملأِ الأعلى مع الملائكةِ
قال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ [36] رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ [37] لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
[النور: 36- 38].
7. ثم بيَّن ﷺ أن العِبرةَ بالأعمال، فلا عِبرةَ بالأنسابِ يومَ القيامةِ، فمَن قَصُرَ به عملُه عن النجاةِ من النَّار ودخولِ الجنة، لم يَنفَعْه نسبُه وإنْ كان ابنَ نبيٍّ من الأنبياءِ، وإلا لأغنى ذلك أبا الخليلِ إبراهيمَ ﷺ، وابنَ شيخِ المرسَلِين نوحٍ ﷺ وامرأتَه، وامرأةَ لُوطٍ ﷺ، وأبوَي النبيِّ ﷺ وعمَّه أبا طالب، وغيرهم
قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [101] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [102] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [103] تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}
[المؤمنون: 101 - 104].
اتباع
1. الجزاءُ من جِنس العمل، فمَن نفَّس كُربةً عن أخيه نفَّس اللهُ عنه، ومَن رَحِم الخَلْقَ رَحِمه الله، ومَن شدَّد على النَّاس شدَّد اللهُ عليه، ومن سَتَرَ سُتِر. فاختَرْ لنفسك.
2. ما أكثرَ الكُرُباتِ يومَ القيامة! الصراطُ والحسابُ وتطايرُ الصُّحُفِ والورودُ على النَّارِ وغير ذلك، فما أحوَجَنا إلى تفريجِ الكُرَب عن النَّاس؛ لعلَّ اللهَ أن يُنَفِّس عنَّا تلك الشَّدائد العِظام!
3. التيسير على المَدينِين من أفضلِ أنواع القُرَب التي تُنجي يومَ القيامة
قال ﷺ:
«مَن سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِن كُرَبِ يَومِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ»
[10].
4. قضاءُ الدَّين عن المُعسِرِين وإبراؤهم منه سببٌ في مَغفرة الذنوب
قال ﷺ:
«حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ، وَكَانَ مُوسِرًا، فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ»
[11].
5. احفَظْ لسانَك وعينَك عن عيوب النَّاس وعَوراتهم، يَحفظ اللهُ تعالى عَوراتك، فلا يَنتهِكها أحدٌ.
6. قال بعض السَّلَف: أدركتُ قومًا لم يكُن لهم عُيوب، فذكَروا عيوب النَّاس، فذكَر النَّاس لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوبِ النَّاس، فنُسِيت عيوبُهم.
7. يجِب السَّترُ على المسلمين الذين لا يُعرَف عنهم المعصية، وذلك بعد نُصحِهم والإنكار عليهم بالمعروف. قال بعضُ الوزراء الصَّالحين لبعضِ مَن يَأمُر بالمعروف: اجتهِدْ أن تَستُر العصاةَ؛ فإن ظهور معاصِيهم عَيْبٌ في أهل الإسلام، وأَوْلى الأمور سَتْرُ العُيوب[12].
8. إذا تمادى مسلمٌ في المعاصي حتى صار لا يُبالِي بذلك، لم يَجُز التستُّر عليه، بل وجَب رفعُ أمرِه إلى الإمام لإقامة الحدِّ عليه، فيُخلِّص النَّاسَ من شرِّه ويَرتدِع أمثاله.
9. إذا احتاج النَّاسُ إلى فضحِ بعض العصاة ممن لم يَجهَرْ بالمعصية جاز ذلك، كأن يكون صاحبُ تلك المعصية شاهدًا في قضيَّة أو أمينًا على وَقفٍ أو نحو ذلك.
10. قال الشاعر:
إذا شِئْتَ أنْ تَحْيا ودِينُكَ سالـمٌ = وَحَظُّكَ مَوْفُورٌ وعِرْضُكَ صَيِّنُ
لِسَانُكَ لا تَذْكُرْ به عَوْرةَ امْرئٍ = فعِنْدَكَ عَوْرَاتٌ وللنَّاسِ أَلْسُنُ
وَعَيْنُكَ إنْ أَبْدَتْ إليكَ مَعَايبًا = لِقَوْمٍ فَقُلْ: يا عَيْنُ للنَّاسِ أَعْيُنُ
وصَاحِبْ بمَعْرُوفٍ وجانِبْ مَن اعتدَى = وفَارِقْ وَلَكِنْ بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
11. كان النبيُّ ﷺ يُحِبُّ قضاءَ حوائجِ النَّاس، وكان يقول:
«مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل»
[13]
وكانت الجاريةُ الصغيرةُ تأخذُ بيَدِه فتَنطلقُ به حيث شاءت [14]. وكان أصحابُه رضوان الله عليهم يَسيرون على نهْجِه، فأبو بكرٍ رضي الله عنه أنفَق ماله في سبيلِ الله سبحانه، وكان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يتعهَّد الأرامل ليلًا، واشترى عُثمان بن عفَّان رضي الله عنه بِئر رُومة وجعَلها وقفًا على المسلمين. فمَن أراد الاقتداء فبالنبيِّ ﷺ وأصحابِه.
12. بعَث الحسن البصريُّ رحمه الله قومًا من أصحابه في قضاءِ حاجةٍ لرجُلٍ، وقال لهم: مُرُّوا بثابت البُنانيِّ، فخُذوه معكم، فأَتَوا ثابتًا، فقال: أنا معتكِفٌ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قُولوا له: يا أعمشُ، أما تَعلَم أنَّ مَشْيَكَ في حاجة أخيك المسلمِ خيرٌ لك مِن حَجَّة بعد حَجَّة؟! فرجَعوا إلى ثابت، فترَك اعتكافه، وذهَب معهم.
13. تعهَّد النبيُّ ﷺ بتسهيل دخول الجنة لطالبِ العلم. فمَن أراد دخولَ الجنَّة فلْيَسلُك سبيل العلماء.
14. جعَل اللهُ سبحانه للمجتمعِين في بيته لذِكره مِن الجزاء أن تَتنزَّل السكينةُ عليهم، وتحُفُّهم الملائكة، وتَغْشاهم الرحمة، ويَذكُرهم اللهُ تعالى عنده. أيُّ ثوابٍ أعظمُ من هذا!
15. تخيَّل أن يَذكُرك ربُّك باسمك وصِفتك، ويباهي بك ملائكته، فيقول: عبدي فلانٌ يَذكرني. فضلٌ عظيمٌ وَمنزلةٌ عاليةٌ مقابل عملٍ يَسيرٍ يَقدِر عليه كلُّ مسلم.
16. قال الشاعر:
إِذا ما لَم يُفِدكَ العِلمُ خَيرًا = فَخَيرٌ مِنهُ أَن لَو قَد جَهِلتَا
وَإِن أَلقاكَ فَهمُكَ في مَهاوٍ = فَلَيتَكَ ثُمَّ لَيتَكَ ما فَهِمتا
سَتَجني مِن ثِمارِ العَجزِ جَهلًا = وَتَصغُرُ في العُيونِ إِذا كَبُرتا
17. إياك أن تظنَّ أنَّ شرفَ نسَبِك يَنفعك في الآخرة، فإما أن تُحسِن العملَ فتنجو، أو تُسِيء فتَهلِك. لمَّا أنزَل اللهُ تعالى قولَه:
{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}
[الشعراء: 214]
قام النبيُّ ﷺ فَقَالَ:
«يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»
[15].
18. قال الشاعر:
لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ = فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ
لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ = وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبْ
المراجع
- (رواه البخاريُّ (2078)، ومسلم (1562).
- رواه البخاري (2441)، ومسلم (2768).
- رواه أحمد (20014)، وأبو داود (4880).
- رواه البخاري (6823)، ومسلم (2764).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
- رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
- رواه الطبراني في المعجم الأوسط (6026).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (5/ 433- 434).
- انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160)
- رواه مسلم (1563).
- رواه مسلم (1561).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
- رواه مسلم (2199).
- رواه البخاري (6072).
- رواه البخاري (2753)، ومسلم (204).
فقه
1. يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الطُّهور الذي هو التَّنَظُّف عمومًا ومنه الوضوءُ للصلاة وأداء العبادات يساوي نصفَ الإيمان؛ فإذا كان المؤمنُ مأمورًا بنظافة الظاهر والباطن، فنظافة الظاهر نصفُ ذلك، ويمكن أن يُراد بالإيمانِ الصَّلاة
كقوله تعالى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
[البقرة: 143]
أي: صلاتكم، ويكون الطُّهورُ شطرَها لأنَّه شرطٌ فيها لا تصحُّ إلا به.
والطهارة من أعظم العبادات وأجلِّ القُرُبات التي يتقرَّبُ بها العبدُ إلى ربه
قال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
[البقرة: 222].
ويُستدلُّ بهذا على أنَّ الأعمالَ داخلةٌ في الإيمانِ، وأنَّه يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
2. وأخبر ﷺ أنَّ قولَ العبدِ: "الحمدُ لله" تملأ ميزانَ العبدِ يومَ القيامة لعظيم ثوابِها، والحمدُ: الثَّناءُ على اللهِ تعالى.
والميزانُ شيءٌ أعدَّه اللهُ تعالى تُوزن عليه أعمالُ العبادِ يوم القيامة، وله كفتان، تُوضع حسنات العبدِ في كفَّة وسيئاته في كفَّة؛ فإن رجحت كفَّة الحسنات كان من الفائزين، وإلا خاب وخسر
قال سبحانه:
{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [8] وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ}
[الأعراف: 8، 9].
3. وقولُ العبدِ: "سبحان الله والحمد لله" - والتسبيح: تنزيه الله تعالى عن كل نقص وعيب – له من الثوابِ العظيم لدرجة أنَّ ذلك الثواب لو كان جسمًا لملأ ما بين السماء والأرض. فإذا كان "الحمد لله" يملأ ثوابُها الميزانَ، فإنَّ العبدَ إن أتبعها بـ"سبحان الله" طغى ثوابُهما حتى يملأ ما بين السماء والأرض، وذلك أنَّه أثنى على ربِّه بما هو أهلُه ونزَّهَه عن كل عيبٍ ونقص [1].
4. ثم أخبر ﷺ أنَّ الصلاةَ نورٌ، يهدي العبدَ إلى الحقِّ، فيمتلئ قلبُ المحافظِ على الصلاة بأنوار الحكمة والهداية والمعرفة، فلا تجتمع الصلاةُ والفواحشُ أبدًا
قال سبحانه:
{إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}
[العنكبوت: 45].
5. والصدقة دليلٌ على صدقِ إيمانِ العبد؛ فإنَّ الإنسانَ مفطورٌ على حُبِّ المالِ، فإذا جادت نفسُه بإخراجه، كان ذلك آية على إيمانِه وتصديقه.
وهي أيضًا دليلٌ وحُجَّةٌ له أمام ربِّه يومَ القيامة حين يُسأل عن مالِه فيم أنفقه؟[2].
6. والصَّبرُ - بجميع أنواعه: على طاعةِ اللهِ تعالى، وعن معصيتِه سبحانه، وعلى أقداره – ضياءٌ يتبصَّرُ به العبدُ سبيلَ الرَّشاد.
7. والقرآنُ إما أن يكون حُجَّةً لك تنفعك يوم القيامة أمام اللهِ تعالى؛ حيث قرأتَه وآمنتَ به وانتفعت بما فيه، وإما عليك حين أعرضتَ عنه وتركتَ العمل به.
8. ثم ختم النبيُّ ﷺ كلامَه بأنَّ جميع النَّاس ساعُون على قضاء مصالحهم - وذكر الغُدُوَّ وهو السيرُ أوَّل النَّهار حيث يُبَادر النَّاسُ إلى أرزاقهم – فإما أن يكون سعيُ المرء موافقًا للشَّرعِ، فهذا باع نفسَه للهِ تعالى، وهو الذي يُحَرِّرها وينجيها من عذاب الله تعالى
قال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}
[التوبة: 111]
وإما أن يكون سعى في هواه مخالفًا لأمرِ اللهِ سبحانه، فهذا بائعٌ نفسَه للشيطان، فأهلكها وأوجب لها العذاب.
اتباع
1. احرص على طهارة ظاهرك وثيابك وبدنك كما تحرص على طهارة باطنك من النِّفاق والمعاصي؛ فإنَّهما شطرا الإيمان.
2. الطَّهارة من أهم أبواب محبة الله تعالى للعبد، فاغتنم ذلك السبيل إلى مرضاته.
3. "الحمدُ لله" كلمةٌ خفيفةٌ على اللسان، لا يجدُ المسلمُ جهدًا في تكرارها، ولها ثوابٌ عظيمٌ لا يحصر كُنهَه إلا اللهُ تعالى. فلا تُفَرِّط في المداومة على هذا الذكر.
4. جعل اللهُ سبحانه الثوابَ العظيمَ على العمل اليسير؛ تسهيلًا على عباده وتَوَدُّدًا إليهم. فهو سبحانه ربٌّ رحيمٌ رؤوفٌ لطيف.
5. الميزانُ حقٌّ، جاء ذكره في القرآن والسُّنَّة، ولا يَسَعُ المؤمنَ إلا الإيمانُ به.
6. اجعل لسانك رطبًا بقول: "سبحان الله والحمد لله"؛ فإنَّ ثوابهما عظيمٌ.
7. داوم على الصلاة؛ فإنها نورٌ للمؤمنِ في قلبه، يهديه إلى الحقِّ ويكشف له الضَّلالَ.
8. حافظ على الصلاة في وقتها؛ فإنها نورٌ يضيء قبرَ العبدِ فيأنسُ بذلك يومَ الوحشة.
9. لا تترك الصلاةَ فإنَّ بها يعرفك النبيُّ ﷺ يوم الحساب؛ حيث يبدو النورُ من جسدك، فيناديك إلى حوضِه ويشفعُ لك
قال ﷺ:
«إن أمتي يُدْعَوْن يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء»
[3].
10. أكثرُ النَّاسِ نورًا أكثرُهم محافظةً على الصلاة بشروطها وأركانها وواجباتها وسُنَنها.
11. انظر في نفسك؛ فإن رأيتَكَ طيبَ النَّفسِ بالإنفاق في سبيل اللهِ تعالى فاطمئن، واعلم أنَّ ذاك دليلٌ على إيمانك، وإلا فجاهِد هواك وشيطانَك.
12. اعلم أنك مسؤولٌ يوم الحساب عن مالِك من أين اكتسبتَه وفيم أنفقتَه؟ فإن كنت تنفق ما آتاك اللهُ في مرضاته كان ذلك حُجَّةً لك عند السؤال.
13.للصبرِ مشقةٌ وعناءٌ، إلَّا أنَّه يتولد عنه ضياءٌ يهدي الحائر ويُؤنس المستوحِش ويُريح المكلوم.
14. قال الشاعر:
والصَّبرُ مثلُ اسمِهِ مرٌّ مذاقتُهُ ... لكنْ عواقبُه أحلى من العَسَلِ
15. اجعل القرآن حُجَّةً لك، فبادِر إلى قراءته وتدبُّرِ معانيه والعمل بأحكامه؛ فإنَّه يشفع للعبدِ يومَ القيامة
يقول ﷺ:
«مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ»
[4].
16. ما أحدٌ أحقَّ بالخزي والعذاب ممَّن آتاه اللهُ القرآنَ وفقَّهَهُ فيه، ثم نكص على عقبيه وأعرض عن العمل بما فيه.
17. أيُّ الفريقين تريد: المعتق نفسه باتباع الشرع، أم الذي يهلكها باتباع الهوى؟!
18. يا بائعًا نفسك لا محالة، تخيَّر أحسن الأثمان؛ فإما أن تبيعها للهلاك والعذاب، وإما أن تبيعها للجنة ورضوان الله تعالى.
19. قال الشاعر:
اقْرَأْ كِتَابَ اللهِ وَافْهَمْ حُكْمَهُ = تُدْرِكْ عَطَاءَ اللهِ فِي إِحْسَانِ
فَهُوَ الخِطَابُ لِكُلِّ عَقْلٍ نَابِهٍ = وَهُوَ الضِّيَاءُ بِنُورِهِ الرَّبَّانِي
يَهْدِي إِلَى الخَيْرِ العَمِيمِ وَإِنَّهُ = أَمْنُ القُلُوبِ وَرَاحَةُ الأَبْدَانِ
قَدْ أَنْزَلَ القُرْآنَ رَبٌّ حَافِظٌ = لِيُعَلِّمَ الإِنْسَانَ خَيْرَ بَيَانِ
المراجع
- ينظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (3/ 102).
- ينظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 150).
- رواه البخاريُّ (136)، ومسلم (246).
- رواه أحمد (6626).
فقهٌ:
1. يُخبر النبيُّ ﷺ عن سبعة أصنافٍ من المؤمنين، استحقُّوا أن يُظلَّهم اللهُ تعالى في ظلِّه يوم القيامة، حين لا يكون ظلٌّ أو شيءٌ يدفع عن العبدِ حرَّ الشمس التي تدنو من رؤوس الخلائق.
وليس المراد أنَّهم يكونون في ظلِّ الرحمن حقيقةً؛ إذ يقتضي ذلك أن تكون الشمسُ فوقَ ربِّ العالمين، وذلك باطلٌ، وإنما المرادُ أنَّ اللهَ تعالى يخلق لهم شيئًا يستظلُّون به، أو أن المراد أنهم في رحمته وأمنه وكَنَفِه سبحانه، وإضافةُ الظِّل حينئذٍ إليه سبحانه أو إلى عرشِه إضافةُ تشريفٍ وتكريمٍ وتقريب [1].
وليس المقصود حصرَ المستظلِّين في هؤلاء؛ إذ قد وردت أحاديث كثيرة تفيد دخول غير السبعة في ظلِّ الرحمن،
كقوله ﷺ:
«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ»
[2].
فالمرادُ هنا ذكرُ بعضِهم لا حصرُهم.
2. فأوَّلُ هؤلاء: الإمامُ العادل، وهو الذي يُقسط في أمور الرعية الذين يليهم، ويدخل في ذلك ولي الأمر ونُوَّابُه في الولايات والإمارات صغيرها وكبيرها، بل ويشمل ذلك أيضًا القاضي الذي يقضي بين الخصوم بالعدل، وربُّ الأسرةِ الذي يحسن رعاية أهلِه ويُعدل بينهم.
وبدأ بالإمام لأنه أحقُّ أن يُبدَأ به؛ إذ هو أقربُ النَّاس إلى اللهِ يوم القيامة،
قال ﷺ:
«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»
[3]
وذلك جزاءٌ لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ مَا تدعوه إليه شهواته وطمعه وغضبه، مع قدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دعته الدنيا كلها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله رب العالمين. وهذا أنفع الخلق لعباد الله، فإنه إذا صلح صلحت الرعية كلها [4].
3. ثم شابٌّ نشأ في طاعةِ اللهِ تعالى، وخصَّ الشَّابَّ بذلك لأنَّ الشبابَ مَظِنَّةُ الشهوة والوقوع في المعاصي؛ حيث القوة والاغترار بالصحة والبُنيان، فهو داعٍ للنفس إلى استيفاء الغرض من شهوات الدنيا ولذَّاتها المحظورة [5]. بخلاف الشيخ؛ فإنَّه رأى من علامات الشَّيْبِ والضَّعف ودُنُوِّ الموتِ ما يُقَرِّبه للعبادة ويُبعده عن المعاصي. فإذا انصرف الشَّابُّ مع تلك المُغْرِيات إلى طاعةِ اللهِ تعالى خوفًا منه نال تلك الدرجة.
ولهذا قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ لَيَعْجَبُ مِنَ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ»
[6].
4. الصِّنف الثَّالث: رجلٌ تعلَّق قلبُه ببيوت اللهِ تعالى، فلا يخرج منها إلا على مضضٍ، وإذا خرج منها كان شوقُه إليها أحرَّ من الجمر، وهذا إنما يحصل لمن ملك نفسه وقادها إلى طاعة الله فانقادت لَهُ؛ فإن الهوى إنما يدعو إلى محبة مواضع الهوى واللعب، إما المباح أو المحظور، ومواضع التجارة واكتساب الأموال، فلا يقصُر نفسَه على محبة بقاع العبادة إلا مَن خالف هواه، وقدَّم عليه محبةَ مولاه [7].
5. الرَّابع: المتحابُّون في اللهِ تعالى، لم تجمعهم مصلحةٌ أو اتفاقٌ على معصيةٍ أو مجرد النَّسب والمصاهرة والعصبية، بل اجتمعوا في طاعةِ اللهِ تعالى، وتآلفوا وتحابُّوا وترابطوا برباط الأخوةِ في اللهِ سبحانه. فلا يُحرِّكهم للمحبة والبُغض إلا الولاء والبراء؛ فمن أحبَّ اللهَ تعالى أحبُّوه ووالَوه، ومن أبغضَ اللهَ تعالى وعادى دينَه أبغضوه وتبرَّؤوا منه وإن كان أقربَ قريبٍ.
قال سبحانه:
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}
[المجادلة: 22].
6. ثُمَّ رجلٌ دعته امرأةٌ جميلةٌ ذات نسبٍ وحسبٍ ومالٍ إلى الزِّنا بها، فذكرَ ربَّه وقال: إني أخاف اللهَ، وانصرف عنها. وإنما خصَّ النبيُّ ﷺ المرأة بكونها جميلةً ذات حسبٍ وشرف لأنه إذا اجتمع الجمال مع الشَّرف والرِّفعة فقد كمل الأمر وقَوِيَ، فإن كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ هِيَ الطالبة الداعية إلى نفسها، كَانَ أعظم وأعظم؛ إذ أغنتْهُ عن مُراودتها. فإن الامتناع بعد ذلك كله دليلٌ على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}
[النازعات: 40]،
وهذا كما جرى ليوسف عَلِيهِ السلام[8].
7. ثمَّ رجلٌ أنفق نفقةً في سبيل اللهِ تعالى فأخفاها عن جميعِ النَّاس - القريبِ والغريب – وصوَّر بذلك ﷺ مبالغتَه في الإخفاء بأنه يُخفي عن يده اليسرى ما أنفقت اليُمنى. وإنما كان إخفاءُ الصَّدقةِ مستحبًّا لما فيه من الإخلاص ونفي الرِّياء،
ولهذا قال سبحانه:
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
[البقرة: 271].
وأكثرُ أهلِ العلم على أنَّ المقصودَ بذلك صدقاتُ التَّطوع، أما الزكوات وغيرها من الفرائض فينبغي إظهارُها لإظهار أحكام الشرع ويجتمع النَّاس على العمل بها[9].
8. والصِّنف السابع: رجلٌ ذكر اللهَ تعالى في خلوته بعيدًا عن أعينِ النَّاسِ وأسماعهم، فتذكَّر مراقبته وعذابَه وما أعدَّه للمتقين من النَّعيم، فذرفت عيناه بالدُّموعِ خشيةً ومحبةً لله سبحانه. وإنَّما خصَّ الخلوة لأنها أبعد عن الرياء والسُّمعة وأقرب للإخلاص وصدق المحبة والخوف.
اتباع:
1. احرص على أن تتصف بكلِّ تلك الصفات أو أكثرها، حتى تكون أكثر أمنًا من عذابِ اللهِ تعالى.
2. تأمَّل صفات تلك الفئات كلها؛ ترى أنَّهم "اختلفت أعمالهم فِي الصورة وجمعها معنى واحد، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى مجاهدة شديدة للنفس وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشم ذلك مشقةٌ شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّمٌ عظيمٌ؛ فإن القلب يكاد يحترق من حر نار الشهوة أو الغضب عند هيجانها إذا لَمْ يُطْفَأ ببلوغ الغرض من ذلك، فلا جرم كان ثواب الصبر على ذلك أَنَّهُ إذا اشتد الحر في الموقف، ولم يكن للناس ظلٌّ يظلهم ويقيهم حر الشمس يومئذ، كان هؤلاء السبعة فِي ظل الله - عز وجل -، فلم يجدوا لحَرِّ الموقف ألمًا جزاءً لصبرهم على حَرِّ نارِ الشهوةِ أو الغضب في الدنيا" [10].
3. على كلِّ داعيةٍ ومُرَبٍّ وعالمٍ أن يستخدم العدد في حصر المعاني التي يريد أن يذكرها للناس؛ فإن السَّامع إذا ابتدأته بذكر عددٍ كان حريصًا على معرفة المعدود وحفظه.
4. لا يغرَّنَّك سلطانُك ومنصبُك ولا يحملنَّك على ظُلْمِ العباد؛ فإن الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يوم القيامة.
5.إذا كنتَ صاحبَ منصبٍ فاعدل بين النَّاس ولا تظلمهم؛ فإنَّ أوَّل النَّاس أمنًا من حرِّ الشَّمس وعذاب النَّار يوم القيامة الإمام العادل.
6. أيُّها الشَّابُّ، هذه فرصتك لتستظلَّ بظلِّ اللهِ تعالى يوم الفزع الأكبر، فداوِم على الطَّاعات وإياك والمعاصي.
7. إنَّما أثنى اللهُ تعالى على أهل الكهف لأنهم كانوا شبابًا، ومع ذلك انقطعوا عن الدنيا وشهواتها وملذاتها إلى عبادة اللهِ تعالى وحده،
فقال سبحانه:
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
[الكهف: 13].
8. المؤمن في المسجد كالسمك في الماء والمنافق في المسجد كالطير في القفص [11]. فانظر في نفسك أيهما أنت!
9. كما أن الآلاف من أهل الدنيا يشتاقون الديار التي اجتمعوا فيها بآلافهم، ويحنون إلى المنازل التي صاحبوا فيها إخوانهم؛ فكذلك المؤمنون تتعلق قلوبهم بالمساجد؛ من حيث إنهم فيها عرفوا الإخوان في الله عز وجل، وهي الأماكن المنسوبة من بين الأرض كلها إلى الله؛ لكونها بيوتًا له [12]. فكن من المؤمنين الذين يحنُّون إلى بيوت اللهِ تعالى ويتعلقون بها.
10. المحبةُ في اللهِ والبُغضِ في اللهِ من خصال الإيمان. فاحرص أن تكون متصفًا بها.
11.
أخبر النبيُّ ﷺ أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ
[13].
12. قال بعض السلف: إذا كان لك أخٌ تحبه في اللهِ، فأحدث حدثًا فَلَمْ تبغضه في الله: لَمْ تكن محبتُك لله [14].
13. إذا امتنعتَ عن الشَّهوات ابتغاء مرضاتِ اللهِ تعالى وخوفًا من غضبه وعقابًا أبدلك اللهُ تعالى بتلك اللذة الفائتة نعيمًا في الجنة وأمنًا من عذاب النَّار.
14. احرص على صدقة السِّر؛ فإنها تُطفئ غضبَ الرَّبِّ تبارك وتعالى.
15. إذا رأيتَ أنَّ بإظهارك الصدقة يقتدي النَّاسُ بك، فأظهِرهَا واستحضر الإخلاصَ للهِ تعالى وإن كانت صدقةً من النوافل. أما إن خِفْتَ على إخلاصِك فالإخفاءُ أفضل.
16. في اشتراط الخلوةِ في الذِّكر حضٌّ وندبٌ على أن يجعل المرءُ وقتًا من خلوته للندم على ذنوبه، ويفزع إلى الله تعالى بإخلاصٍ من قلبه، ويتضرع إليه في غفرانها؛ فإنه يجيب المضطر إذا دعاه، وألا يجعل خلوته كلها في لَذَّاته كفعل البهائم التي قد أمنت الحساب في المساءلة عن الفتيل والقطمير على رؤوس الخلائق، فينبغي لمن لم يأمن ذلك أن يَطُولَ في الخلوة بكاؤه ويتبرم بجنانه، وتصير الدنيا سجنه لما سلف من ذنوبه [15].
17. الخُلوة الصحيحة إنما تكون بذكر اللهِ تعالى والتَّفكُّر في عظمته وجلاله وبطشه وعقابه، ومحاسبة النفس على ما قصَّرت في حقِّ ربِّها، لا كما يفعله المبتدعةُ الذين ينفردون بأورادٍ وأذكارٍ باطلةٍ بهيئاتٍ مبتدَعَةٍ، ثم يدَّعون بعد ذلك المكاشفة!
18. كان يزيد الرقاشي رحمه الله يقول: "يا لهفاه! سبقني العابدون وقُطِعَ بي، نوحٌ يبكي على خطيئته، ويزيد لا يبكي على خطيئته" [16].
المراجع
- "شرح النووي على مسلم" (7/ 121).
- رواه مسلم (3006).
- رواه مسلم (1827).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- رواه أحمد (17371).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 47).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 49)، "الكواكب الدراري" للكرماني (5/ 46).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 76).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
- "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (7/ 58).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 236).
- رواه مسلم (2567).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (6/ 454).
- "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (10/ 187).
فقه:
1. ذهب فقراءُ الصحابة إلى النبيِّ ﷺ يشكون إليه استئثار الأغنياء أصحاب الأموال بالأجور والدرجات العالية في الجنة؛ فإنهم يشاركونهم في العبادات البدنية كالصلاة والصيام والجهاد، واختصوا بالعبادات المالية من الصدقات والإنفاق في أوجه البر.
وهذا ليس حسدًا للأغنياء، ولا اعتراضًا على قَدَرِ اللهِ تعالى، وإنما ذهبوا للنبيِّ ﷺ ليجد لهم ما يساوي أجر الصدقات، فيستطيعوا منافسةَ الأغنياءِ في الأعمال الصالحة [1].
2. فأرشدهم النبيُّ ﷺ إلى ما يقوم مقامَ الصَّدَقاتِ ويستحقُّ أجرَها من القُرَبِ والأعمال الصالحة.
3. فأخبرهم أنَّ الأذكارَ تنزل منزلة الصدقة؛ فالتكبيرُ والتحميد والتسبيح والتهليل – وهو قول: لا إله إلا الله – صدقاتٌ يُؤجر العبدُ عليها، بل هي أحبُّ إلى اللهِ تعالى من الصَّدَقات؛
لقوله ﷺ:
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
[2].
4. كما أنَّ أمرَ النَّاسِ بالمعروف وإرشادَهم إلى الحقِّ صدقةٌ، وكذا نهيهم عن المُنكر صدقة، بل من أرفع القُرُبات؛ إذ قد ميَّز اللهُ تعالى تلك الأُمَّةَ بذلك؛
قال سبحانه:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
[آل عمران: 110].
كما أنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكر فرض كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، والتَّسبيحُ والتَّحميد والتَّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنَّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:
«وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»
[3]"[4].
والصَّدقة بغير المال نوعان: قُربَةٌ قاصرةٌ على فاعلها؛ كالذكر وأداء النوافل، وقُرْبَةٌ متعدِّية؛ كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيها نشر العلم وإيصال النفع إلى المسلمين ودفع الأذى عنهم. وهي أفضلُ من النوع الأول لعموم فضلها.
ولا يقتصرُ ذلك على ما ذُكر من الأعمال الصالحة، بل كل ما يفعله المسلم من الطاعات صدقةٌ، وفي الحديث: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» [5].
5. بل إنَّ الرجل إذا جامع امرأتَه كان له بذلك صدقة؛ وذلك إذا نوى بذلك إعفافَ نفسه، أو إعفاف زوجته ومعاشرتها بالمعروف، أو طَلَبَ ولدٍ صالحٍ، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة [6].
6. فتعجَّب الصحابةُ رضي الله عنهم ؛ إذ كيف يأتي المرءُ شهوتَه ويكون له مع ذلك أجرٌ؟! فأخبرهم ﷺ أنَّه كما يكسب الإنسانُ وزرًا إذا وضع شهوته في الحرام، فكذلك يكون له أجرٌ إذا وضعها في حلالٍ.
اتباع:
1. حرص الصحابة رضي الله عنهم على المنافسة في الخيرات، وغبطة إخوانهم بما أصابوا من الطاعات. وهذا هو التنافس الحقيقيُّ الذي لا بد أن يطمح إليه كلُّ مسلمٍ.
2. الغبطةُ أن يتمنى المسلمُ مثل ما عند أخيه من الخير، وأن يبارك لأخيه فيما عنده، وهي مستحبةٌ في فعل الطاعات،
لقوله ﷺ:
«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».
3. من رحمة الله تعالى وعدله أن جعل للفقراء ما يصلون به إلى مرتبة الأغنياء. فليسارعْ كلُّ مسلمٍ في طاعةِ اللهِ سبحانه بحسب ما تيسَّر له.
4. المداومة على ذكر الله تعالى من أفضل أبواب الخير؛ قال رجل: يا رسولَ الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: «لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ» [7].
5. ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله عزَّ وجلَّ؛ فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مُؤنةً ولا أعظمَ لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب من ذكر الله سبحانه [8].
6. احرص على الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي مزيَّةٌ اختصَّ اللهُ تعالى بها صفوةَ خَلْقِه، وأثنى على تلك الأُمَّة وجعلها خير الأمم بذلك.
7. يدخل في الأمر بالمعروف سائر الطاعات المتعدية من تعليم القرآن والعلوم النافعة، وبذل الخير للنَّاس، وكفُّ الأذى عنهم.
8. بالنية الصالحة يُثاب المرءُ على الطَّاعات، فاغتنم ذلك في جميع أمور حياتك؛ فانوِ عند الأكل التَّقَوِّي على الطاعات، وعند النَّوْم: أخذَ قسطٍ من الراحة لمواصلة العبادات، وعند ملاطفة الأهل والأولاد: إيفاءَ حقوقهم ومعاشرتهم بالمعروف، وعند المذاكرة: طلبَ العلم لنفع المسلمين، وفي العمل: إعلاء شأن المسلمين. وهكذا في كل شيءٍ من المباحات تتحول إلى طاعات تُثابُ عليها. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي» [9].
9. من عظيم كرم الله تعالى أنَّه يجازي المسلمَ خيرًا على جميع أفعاله المباحة إذا امتنع عن المعاصي؛ فيُجازى على الطعام من الحلال لأنه ترك الحرام، وعلى إتيانِ شهوته في الحلال وتركها في الحرام، وعلى كسب المال من حلالِه دون حرامِه.
10. في الحديث جَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنَّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ [10].
11. قال الشاعر:
عَلَيْكَ بذِكْرِ اللهِ يا طالبَ الأَجْرِ = وَيا راغِبًا في الخَيْرِ والفَضْلِ والبِرِّ
عليكَ بِهِ تُعطى الرغائبَ كلَّها = وتُكفى به كلَّ الْمُهِمَّات والضُّرِّ
فمَنْ يَذْكُرِ الرحمنَ فهْوَ جَلِيسُهُ = ومَنْ يَذْكُرِ اللهَ يُكافِئْهُ بالذِّكْرِ
ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الإلهِ فإنه = قَرِينٌ له الشَّيْطَانُ في داخِلِ الصَّدْرِ
ومَن يَنْسَ مَوْلاهُ الكَرِيمَ فَرَبُّهُ = له ناسيًا، أَعْظِمْ بذلك من خُسْرِ!
له استحوَذَ الشَّيْطَانُ نسَّاهُ ذِكْرَ مَنْ = تفضَّلَ بالإيجادِ في أوَّلِ الأمرِ
المراجع
- ينظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161).
- رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377).
- رواه البخاريُّ (6502).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
- رواه البخاريُّ (6021)، ومسلم (1005).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).
- رواه أحمد (18167)، وابن ماجه (3793)، والترمذيُّ (3375).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
- رواه البخاري (4341)، ومسلم (1733).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).
فقه
يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تعالى فضَّلَ الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة على غيرها من أيام العام، فالأعمالُ الصالحةُ يتضاعفُ أجرُها في تلك الأيام، فلا يساويها شيءٌ من الأعمال في غيرها.
فقال الصحابةُ: ولا الجهادُ في سبيل الله يكافئ الأعمالَ الصالحةَ في أيام العشر؟ فالجهادُ له أجرٌ كبيرٌ، فهل تبلغُ تلك الأعمالُ الصالحةُ أن تكون أعظمَ فضلًا من الجهاد؟
3. فأجابهم ﷺ أنَّ الجهادَ في سبيل اللهِ تعالى لا يصل إلى فضل الأعمال الصالحة في تلك الأيام العشر، اللهم إلا أن يخرج الرجل بمالِه ونفسه في سبيل اللهِ، فيُنفق مالَه في تجهيز الجيش، ويقاتِل في سبيل الله حتى يُقتل.
اتباعٌ
على المسلم أن يغتنم أيام العشرِ في طاعةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ لها أجرًا عظيمًا.
من فضلِ اللهِ سبحانه علينا أن جعل لنا في أيام العام أيام فاضلة يضاعف فيها الأجر؛ فصيام يوم عرفة يُكَفِّر ذنوب سنتين، وصيام يوم عاشوراء يُكَفِّرُ سنةً، وفي يوم الجمعة ساعة إجابة، وليلة القدر خيرٌ من ألف شهر، والعبادة في أيام عشر ذي الحجة مضاعفة، فلا ينبغي لعاقلٍ أن تمرَّ عليه تلك الأوقات من غير ازديادٍ في الطاعات.
من حسن اغتنام تلك الأيام أن يبادر العبدُ فيها إلى اللهِ تعالى بالتوبة والإنابة إليه، والبراءة من الشرك والمعاصي.
من أفضل العبادات التي ينبغي على المسلم أن يفعلها في أيام العشر الصِّيَام، خاصة صيام يوم عرفة الذي قال عنه ﷺ:
«أَحْتَسِبْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ»
[1].
ينبغي على المسلم أن يتعاهد أيامَ العشر بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل؛
قال سبحانه:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}
[الحج: 28]،
والأيام المعلومات: أيامُ العشر،
وقال ﷺ:
«ما مِن أيَّامٍ أعظمُ عِندَ اللهِ، ولا أحَبُّ إليه، مِن العَملِ فيهنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشْرِ؛ فأَكْثِروا فيهِنَّ مِن التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحْمِيد»
[2].
لا تستحِ من السؤالِ عن دينِك؛ فإنَّ الصحابة رضوان اللهِ عليهم لم يستحوا أن يسألوه ﷺ عن المقارنة بين الجهاد وأعمال العشر.
دلَّ الحديث على فضيلة الجهاد، حتى إن الصحابة قاسوا به سائر الأعمال. فعلى كلِّ مسلم أن يُحَدِّثَ نفسَه بالجهاد، وأن ينوي الجهادَ متى تيسَّر، وأن يتمنى الشهادة في سبيل الله سبحانه.
لا يغفل عن العبادة والطاعة في تلك الأيام المباركة إلا شخص محروم؛ فالأعمال تتضاعف إلى أن لا يكون لها شبيهٌ في الأجر من الأعمال في غير تلك الأيام؛ فصدقةٌ بمالٍ يسيرٍ أو ركعتان خفيفتان أو صيامُ يومٍ أو ذكر اللهِ تعالى باللسان من غير جهد ومشقة: هذه الأمور على بساطتها لا يساويها شيءٌ من الأعمال إلا أن يخرج الرجل مجاهدًا بنفسه وماله ثم يستشهد.
المراجع
- رواه مسلم (1162).
- رواه أحمد (5446).
فقه
كان النبيُّ ﷺ يحب استعمال اليمين والبداءةِ بها في كل فعلٍ من الأفعال التي فيها تشريفٌ وتكريمٌ؛ ففي لبس النعل والخُفِّ يبدأ برِجله اليمنى، وفي تسريح شعره يبدأ بالشِّق الأيمن من رأسه كذلك، وفي الوُضوءِ والغُسلِ يبدأ بميامنه؛ فيغسل يده اليمنى قبل اليسرى، ورِجله اليمنى كذلك، ويغسل شِقَّه الأيمن في الغُسل قبل الأيسر.
وهكذا في جميع أموره؛ فكلُّ ما كان فيه تشريفٌ وتكريمٌ بدأ فيه باليمين؛ فيأكلُ ويشربُ ويُسَلِّمُ ويأخذُ ويُعطِي ويستلم الحَجَرَ بيمينه، ويدخلُ البيتَ والمسجدَ برجله اليمنى، ويبدأ في قصِّ شاربه بالجزء الأيمن، وإذا صافح قومًا أو أعطاهم شيئًا بدأ بمن على يمينه. وما كان بخلاف ذلك استعمل فيه الشِّمال؛ فيأتي الخلاءَ بشمالِه، ويخرج من المسجد بشماله، ويستنجي ويخلع الثوبَ ويمتخط بشماله، ويبدأ في خلع الثوب والنَّعل والخُفِّ بالشِّمال ثم اليمين [1].
اتباع
احرص على اتِّباع سُنَّةِ النبيِّ ﷺ في التيامنِ ما استطعت.
إياك واستعمال الشِّمالِ في أمورِ حياتِك؛ فإنَّه طبع الشيطان وخُلُقه، قال ﷺ:
«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطانَ يأكل بشماله، ويَشرَب بشماله»
[2].
التيامنُ بركةٌ تحصل للعبدِ باتباعِ نبيِّه ﷺ.
أَكْرِم اليمينَ فلا تستعملها في إزالة النجاسات وخسائس الأعمال.
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/160)
- رواه مسلم (2020)
فقه
اهتمَّ النبيُّ ﷺ بتعليم أُمَّته كيفية الاستخارة إذا احتاروا في أمرٍ من أمور الدنيا، فلم يَدْرِ الإنسانُ أيفعله أم لا، أو يفعل هذا أم ذاك. وقد كان ﷺ حريصًا على أن يحفظوا ذلك الدعاء كما يُعلمهم السورةَ من القرآن؛ فإن المسلم في أمسِّ الحاجة إلى استخارة ربِّه، كما أنَّه في حاجة إلى القرآن في الصلاة والذكر والمعاملات.
فإذا أراد العبدُ استخارةَ ربِّه فعليه أن يصلي ركعتين نافلةً تقرُّبًا إلى الله تعالى تمهيدًا لدعائه وأرجى لقبوله.
وهذا في حقِّ غير الحائض والنفساء؛ إذ تقتصر استخارتهما على الدعاء فقط.
3. ثم يدعو بدعاء الاستخارة، وفيه يطلب من ربِّه تعالى أن يختارَ له؛ فهو العليم الخبير، ويسأل ربَّه القدرةَ على فعل الأصلحِ له؛ فهو سبحانه القدير الذي لا يُعجزه شيءٌ، ويطمع أن يتفضل عليه الكريمُ بواسع فضله، ويُعَلِّلُ ذلك بأنَّ الرَّبَّ سبحانه قديرٌ عليمٌ، لا تخفى عليه خافية، ولا يخرج عن ملكه شيء.
4. ثم يناجي ربَّه تعالى فيقول: اللهم إن كنتَ تعلم أنَّ هذا الأمر – ويُسَمِّي حاجته؛ فيقول: زواجي من فلانة، أو عملي في شركة كذا، أو غير ذلك- " خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي ودُنياي وآخرتي "فقدره لي، ويسره لي، وبارك فيه" أي: فاجعله مقدورًا لي، ويسِّر لي حُصولَه، وبارك لي فيه.
5. " وإنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هذا الأمْرَ شَرٌّ لي في دِينِي ومعاشِي وعَاقِبَةِ أمْرِي فَاصْرِفْهُ عَنِّي واصْرِفْنِي عنْه" أي: إذا كان شرٌّ له في دينه وحياته ومستقبله وآخرته، فيصرفه الله عنه ولا يقدره له، ويصرف قلبه عنه، فلا يتعلق به ويتطلع إليه.
6. ثم اكتب لي الخيرَ في جميع أموري حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما كتبتَ عليَّ؛ فقد يكون الخيرُ ولا يرضى المرءُ به فيعيش مكتئبًا مُنَكَّدَ العيش.
7. وعلى المستخير أن يُسَمِّي حاجته في دعائه؛ فيقول: اللهم إن كنت تعلم أنَّ زواجي أو عملي أو شرائي أو بيعي أو غير ذلك.
اتباع
(1) على الداعية والمُرَبِّي أن يهتمَّ بتعليم المسلمين ما يحتاجونه في حياتهم اليومية؛ من أحكام الطهارة والصلاة والصيام ونحوها، وما يطلبونه من الأدعية والأذكار؛ كأذكار الصباح والمساء وآداب الأكل والشرب واللبس ودعاء الاستخارة وقضاء الحاجة ونحو ذلك.
(1) احرص على استخارةِ ربِّك في كل أمرك؛ فالمسلم في أمسِّ الحاجة لسؤال ربِّه أن يختار له.
(1) لا تستهِن بأمرٍ دقيقٍ أو حقيرٍ، استخِر في كل ما يطرأ لك من الأمور التي لا تدري ما عاقبتها ونتيجتها؛ فرُبَّ أمرٍ صغيرٍ أسأتَ فيه الاختيار، أصابك بالهمِّ وضيق العيش، وقد كان ﷺ يُعَلِّم أصحابَه الاستخارة لكلِّ أمرٍ من الأمور.
(1) دَأَب الصحابةُ رضوان الله عليهم على استخارةِ اللهِ تعالى في كلِّ أمورِ حياتهم؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ؛ فهذا أبو أيوب الأنصاري يريد الخطبة، فيقول له ﷺ:
«اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّدْهُ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ لِي فِي فُلاَنَةَ، تُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا، خَيْرًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَاقْضِ لِي بِهَا، أَوْ قَالَ: فَاقْدُرْهَا لِي»
[1].
بل لمَّا أراد النبيُّ ﷺ أن يتزوج زينب بنت جحش رضي الله عنها، قالت: «ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ ربِّي»[2].
(2) إذا أراد المسلمُ أن يستخيرَ ربَّه، فإنه يتقرب إلى ربِّه بصلاة ركعتين، نافلة من النوافل؛ توطئةً للاستخارة وأقرب لقبول الدعاء.
(2) نتعلَّم من الحديث أنَّ المسلمَ ينبغي عليه أن يُقَدِّم بين يدي دعائه من القُربات ما يُرجى معه استجابة الدعاء؛ كالصلاة والصدقة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(2) من آداب صلاة الاستخارة أن يتخير الإنسانُ وقتَ الصلاة والدعاء؛ فيختار أقرب الأوقات لإجابة الدعاء؛ كثلث الليل الآخِر وعصر يوم الجمعة، وأن يبتعد عن أوقات النهي، إلا أن يكون الأمرُ الذي يستخير عليه لا يقبل التأخير ويخاف فواته، فيصلي ولو في وقتِ النَّهي.
(3) لا تكن عجولًا في الدعاء، بل ابدأ دعاءك بتمجيد الله تعالى والثناء عليه؛
سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»
[3].
(3) الجأ إلى الله تعالى بالاستخارة والدعاء؛ فهو وحده القدير العليم، الذي يعلم السِّرَّ وأخفى، وما ندم من استخار.
(4) احرص على أن يكون الأمر الذي تستخير لفعله نافعًا لدينك كما ينفع دُنياك؛ فالأصلُ موافقةُ الشَّرعِ.
(4) اسأل ربَّك تعالى أن يكونَ الخيرُ ميسورًا لك؛ فقد يُقَدَّرُ لك وتناله مع مشقةٍ وكَبَد.
(4) ادعُ اللهَ أن يبارك لك فيما تطلب؛ فإذا نُزعت البركةُ نُزع الخير.
(5) إذا استخرتَ اللَّهَ تعالى فاتَّبع ما رضيه لك ويسَّر لك أسبابَه، ولا تتَّبع هواك فتضيع استخارتك سُدًى.
(5) قَدَرُ اللهِ تعالى نافذٌ لا محالة؛ فإما أن تكون مأجورًا عليه مباركًا لك فيه مُيَسَّرًا لك فعله، أو تُجبر عليه جبرًا؛
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
"إنَّ الرجل ليَسْتَخيرُ الله، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له"
[4].
(5) لا تنسَ في دعائك أن تقول في الأمر إن كان شرًّا: «اصرفه عني واصرفني عنه»؛ فقد يصرف اللهُ عزَّ وجلَّ عنك الأمر وما زال قلبك متشوفًا إليه، فتهتمَّ لعدم حدوثه.
(6) أهمُّ ما في الاستخارة أن تسأل اللهَ أن يقدر لك الخيرَ حيث كان؛ فقد يغيب عنك أمرٌ فيه صلاحُ دينك ودُنياك، فيقدره لك اللهُ تعالى من غير استخارةٍ أو طلبٍ.
(6) اسأل ربَّك سبحانه أن يُرضيَك بما قسم لك؛ فالرضا سعادةُ القلبِ وهناؤه، وكم من مُتَقَلِّبٍ في نعم الله جلَّ جلالُه وهو ساخطٌ عليها مُتَأَفِّفٌ منها!
(7) لا تستحِ من ربِّك تبارك اسمه أن تذكر له الأمرَ الذي تستخيرُ فيه، حقيرًا كان أم عظيمًا؛ فهو سبحانه يُحبُّ أن يستخيرَه عبدُه ويلجأ إليه في الدقيق والعظيم.
قال الشاعر:
رُبَّ أَمْرٍ تَتَّقِيهِ = جَرَّ أَمْرًا تَرْتَضِيهِ
خَفِيَ الْمَحْبُوبُ مِنْهُ = وَبَدَا الْمَكْرُوهُ فِيهِ
المراجع
- رواه أحمد (23994)، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير" (3901).
- رواه مسلم (1428).
- رواه أحمد (23937) وأبو داود (1481) والترمذي (3476).
- "شفاء العليل" لابن القيم (ص: 94).
فقه:
سألَ النَّوَّاس بن سمعان رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن البِرِّ – وهو اسمٌ جامع لكلِّ أنواع الخير وخصال المعروف – وعن الإِثمِ – وهو جميعُ أفعالِ الشرورِ والقبائح، كبيرها وصغيرها – ؛ عن ماهيتهما وعلاماتهما التي يُعرفان بها.
فأخبره ﷺ أنَّ البِرَّ حُسنُ الخُلُق، وهو شاملٌ: "حُسن الخُلق مع الله؛ بأن تتلقَّى أحكامَه الشرعيةَ بالرضا والتسليم، وألَّا يكونَ في نفْسك حرجٌ منها، ولا تَضِيقَ بها ذَرْعًا، فإذا أمرك الله بالصلاة، والزكاة، والصيام وغيرها، فإنكَ تُقابل هذا بصَدرٍ مُنشرِحٍ، ثم تأتمر بما أمرك وتنتهي بما نهاك عنه. وحُسن الخُلق مع الناس، وهو بَذْلُ النَّدى، وكفُّ الأذى، والصبرُ على الأذى، وطَلاقة الوجه"[1].
وقد أخبر ﷺ عن فضل حُسْن الخلق، فذكر أنَّ أكثرَ ما يُدخل الناسَ الجنةَ حُسنُ الخلق[2]، وذكر أنَّ المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسن خُلقه درجةَ الصائم القائم»[3].
3. ثُمَّ أخبر ﷺ عن الإثم، فأخبر أنَّ الإنسانَ يجدُ فيه شكًّا وارتيابًا في قلبه، فلا يحصل له انشراحٌ في صدره بفعله، بل يحصل في قلبه شكٌّ منه، يخاف أن يكون ذنبًا، ويخشى فاعلُه أن يراه النَّاسُ على فِعلته تلك.
وهذا كقوله ﷺ:
«دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ»
[4].
وهذا أمرٌ فَطَرَ اللهُ قلوبَ عبادِهِ عليه، ينشرح صدرُهم بالطَّاعات والقُرُبات، ويضيق صدرُهم وتَشْمَئِزُّ قلوبُهم عند ارتكاب المعاصي. وهو خاصٌّ بمَن كانت قلوبُهم صافيةٌ سليمة، لم تَنتَكس بكثرة المعاصي والذُّنوب، حتى طَبَع اللهُ على قلوبهم، فلا يَعرِفون معروفًا ولا يُنكرون منكرًا، بل يتبجَّحون بفعل المعاصي والذُّنوب ويجاهرون بها أمام النّاس.
وهذا يدُلُّ على أن الحقَّ والباطل لا يَلتبس أمرُهما على المؤمن البصير؛ بل يَعرِف الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيَقبَله قلبُه، ويَنفِر عن الباطل، فيُنكِره ولا يَعرفه. ومن هذا المعنى
قولُ النبيِّ ﷺ:
«سيكون في آخِرِ أمتي أُناس يحدِّثونكم ما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم»
[5]؛
يعني: أنهم يأتون بما تَستَنكِره قلوبُ المؤمنين، ولا تَعرِفه.
اتباع:
(1) احرص على السؤال؛ فإنَّ فيه نصف العلم، ولم يكن أصحابُ النبيِّ ﷺ يستحيون من سؤاله.
(2) مَن أراد رفعة الدرجات في الجنة فعليه بحسن الخلق؛
قال رسول الله ﷺ:
«أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلْقُهُ»
[6]،
وقال أيضًا:
«إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقًا»
[7].
(2) الدين كلُّه خُلُقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين[8].
(2) ثَقِّلُوا موازينكم بحُسنِ الخُلُق؛
قال ﷺ:
«ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلق، وإن الله تعالى ليُبغِضُ الفاحشَ البذيء»
[9].
(3) الطُّمأنينة وانشراحُ الصَّدرِ ليس قاعدةً في معرفة الحلالِ من الحرام، بل مرجع ذلك إلى الكتاب والسُّنةِ، وإنَّما يأنس العبدُ بذلك حين تختلف الأقوالُ أو لا توجد.
(3) اطمئنان الصَّدر من عدمه يكون فيه حق من كان قلبه سليماً وفطرته سوية؛ فهو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ويكره أن يطلع عليه الناس؛ أما من فسد قلبه وضعف فهمه وإدراكه، فهؤلاء يجب إرشادُهم إلى الأحكام الشرعية وتفصيلُها لهم، لا أن يُترك النَّاسُ كما يشاؤون.
7. (3) الفتوى لا تُزيل الشُّبهة إذا كان المستفتي ممَّن شرَح الله صدره، وكان المفتي إنما أفتى بمجرَّد ظنٍّ أو مَيل إلى الهوى من غير دليل شرعيٍّ، فأما ما كان له مع الْمُفْتَى به دليلٌ شرعيٌّ، فيجب على المستفتي قَبوله، وإن لم ينشرح صدرُه؛ كقصر الصلاة في السفر والمطر، والجمع بين الصلاتين للمرض، وكالمسح على الخُفَّين، مما لا يطمئنُّ به صدرُ كثيرٍ من الجهلة[10].
المراجع
- "شرح الأربعين النووية" لابن عُثيمين (ص: 268).
- رواه الترمذي (2004).
- رواه أبو داود (4798).
- رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)
- رواه مسلم (6).
- رواه أبو داود (4800)، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير" (7488).
- رواه الترمذيُّ (2018).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
- رواه الترمذي (2002).
- "التحفة الربانية في شرح الأربعين حديثًا النووية" لإسماعيل بن محمد الأنصاريِّ (ص: 63).
فقه:
بيَّن النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تعالى قدَّر الحسنات والسيئات قديمًا، وفق علمه سبحانه، ثم أخبر الملائكة الكَتَبَة بكيفية كتابتها، أو أنَّه سبحانه أمر الكَتَبَة بكتابة الحسنات والسيئات على العباد، ثم أخبرنا بطريقة احتسابها وكتابتها.
فإذا نوى العبدُ فعلَ طاعةٍ من الطاعات وعقد العزمَ على فعلها ثم لم يفعلها، فإنَّها تُحسب له حسنةً كاملةً.
والمرادُ هنا انعقادُ العزمِ والتصميمُ على الفعل، لا مجرد الخَطرة التي تخطر ببالِ العبدِ ثم تتلاشى من غير نية فعلٍ؛
لقوله ﷺ:
«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»
[1].
3. وإذا فَعَلَ الطَّاعةَ جازاه عليها أضعافًا؛ فتكون الحسنةُ بعشرِ أمثالها لا تقل عن ذلك؛
لقوله تعالى:
{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
[الأنعام: 160]
وتُضاعَفُ لمن يشاءُ اللهُ تعالى، فتكون بسبعمائة ضعفٍ أو أكثر؛
قال سبحانه:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
[البقرة: 261].
4. أما إن نوى العبدُ ارتكابَ معصيةٍ من المعاصي وعقد العزمَ على ذلك، ثُمَّ تذكَّر ربَّه وأناب إليه وامتنع عن تلك المعصية، فإنَّ اللهَ سبحانه يجازيه على امتناعه بأن يكتبها له حسنةً كاملةً.
وإنما جُوزي بذلك لأنَّه خالفَ هواه وعصى شيطانه ونوى الخيرَ بالامتناع عن الشرِّ، وهو عملٌ قلبيٌّ يستحقُّ عليه الجزاءَ؛ يشهد له
قولُه ﷺ:
«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»
[2].
ولهذا فإنَّ مَن نوى المعصيةَ ففاتته أو حيل بينه وبينها لم يكن داخلًا في مفهوم الحديث ولا استحقَّ الثوابَ المذكور؛
لقوله جلَّ جلالُه في الحديث القدسي:
«إنّما تركها من جرَّاي»
[3]
أي: من أجلي.
5. فإن ارتكبَ العبدُ المعصيةَ أثبتها اللهُ تعالى عنده سيئةً واحدةً من غير مُضاعفة،
قال سبحانه:
{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا}
[غافر: 40]
بل يقبل توبةَ من تاب ويمحوها، ويغفرها لمن يشاء من غير توبة.
على أنَّ السيئة قد تتضاعفُ لشرف المكان؛
كقوله تعالى:
{وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الحج: 25]
فرتَّب سبحانه العذابَ الأليم على الهمِّ بالمعصيةِ فيه. كما تُضاعف بشرف الزمان؛ كالمعصية في الأشهر الحُرُم، وتُضاعفُ كذلك بشرف فاعلها، فالمعصيةُ من الأنبياء والأولياء أشدُّ إثمًا من غيرهم،
كما قال سبحانه:
{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [74] إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}
[الإسراء: 74، 75]،
وقال جلَّ وعلا:
{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
[الأحزاب: 30].
اتباع:
إذا تأمل العبدُ كيف يحاسب اللهُ سبحانَه عبادَه على أفعالهم ورأى لُطفه ورحمته بهم لازداد حبًّا وخضوعًا لربِّه جلَّ وعلا؛ فلولا فضلُه ورحمته ما دخل الجنةَ أحدٌ من خلقه.
على المسلم أن يعزم على الطاعات وإن لم تتيسر له، فإنه مجازى بها وإن لم يفعلها.
يستطيع المسلمُ أن يحصد الكثير من الحسنات من غير تعبٍ أو مشقةٍ؛ فما عليه إلا أن ينويَ الخيرَ ما تيسر له فعلُه؛ فينوي التصدَّق إن حصل له مالٌ، وينوي الجهادَ إن تيسَّر، ويعزمُ على النوافل وقراءة القرآن.
قال ﷺ :
«مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ»
[4].
بادر إلى الطاعات والقُرَب؛ فإنَّ الله سبحانه يجازي على الحسنة أضعافًا كثيرةً.
انظر كيف هيَّأ اللهُ تعالى لعباده الطاعات، ثم جازاهم عليها أعظمَ الجزاء؟ سبحانَه مِن ربٍّ رحيمٍ ودودٍ يتقرب إلى عباده بالنِّعم، ويحبُّ أن يتقربوا إليه بالطاعة فيزيدهم عليها جزاءً عظيمًا.
جعل اللهُ تعالى للملائكةِ الكَتَبَةِ الاطَّلاع على ما ينويه العبد ويفكر فيه، أفلا يورثنا ذلك حياءً أن يعلموا منَّا حرصًا على معصيةِ اللهِ تعالى؟!
لا تظنَّنَّ أنَّ ما حِيل بينك وبينه من المعاصي تُثاب عليه؛ بل لا تُثابُ إلا إن امتنعتَ مختارًا نادمًا تائبًا.
إياك أن تحمل ذنب المعصية التي لم ترتكبها؛ فمَن عزم على فعل شيءٍ من المعاصي ثم لم تُتَح له الفرصةُ لها عُوقبَ كمن فعلها؛
قال ﷺ:
«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنِّه كان حريصًا على قتل صاحبه»
[5].
من رحمة الله تعالى أنَّه جعل السيئة واحدةً من غير مضاعفة كما جعل الحسنات مضاعفة. فلا ييأس عاصٍ من رحمته، ولا يقنط مسرفٌ على نفسه من معاصيه.
قال الشاعر:
وَإِنَّ عَلَيْنَا حَافِظِينَ مَلائِكًا = كِرَامًا بِسُكَّانِ البَسِيطةِ وُكِّلُوا
فَيُحْصُونَ أَقْوالَ ابْنِ آدَمَ كُلَّهَا = وَأَفْعَالَهُ طُرًّا فَلا شَيءَ يُهْمَلُ
المراجع
- رواه أحمد (19244).
- رواه البخاريُّ (1445)، ومسلم (1008).
- رواه مسلم (129).
- رواه النسائي (1787)، وابن ماجه (1344).
- رواه البخاريّ (31)، ومسلم (2888).
فقه
يُحَذِّرُ النبيُّ ﷺ أُمَّتَه من المُهلكات السبع، التي تُهلك فاعلها وتُودِي به إلى نارِ جهنَّم والعياذ بالله.
وهذه السبعُ من الكبائرِ التي قُرنت في القرآن والسُّنَّة بالنَّار أو اللعنِ أو غضبِ اللهِ تعالى أو عذابه. وليست مقتصرةً على تلك السبع التي ذكرها النبيُّ ﷺ في هذا الحديث، وإنما هي كثيرةٌ، منها الزنا والسَّرِقَة وعقوق الوالدين وغيرها، وإنما ذكر ﷺ تلك السبع لأنها أفحشُها وأعظمُها جرمًا، مع كثرة وقوعِها في زمانه ﷺ.
2. أوَّلُ تلك الموبقات: الإشراكُ باللهِ تعالى، وهو أكبرُ الكبائرِ وأعظمُ الذُّنوب،
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
[1]،
وهو الذَّنبُ الذي لا يغفره اللهُ تعالى إلا أن يرجعَ العبدُ ويُنيبُ إلى اللهِ تعالى ويُحْسِنُ توحيدَه وعبادتَه،
قال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا}
[النساء: 116].
3. وثانيها: السِّحر: وأصلُه صرفُ الشيءِ عن حقيقته، سواءً كان ذلك باستعمال الجِنِّ وتسخيرهم، أو بالأدوية والعقاقير، أو نحو ذلك، وهو إثم كبير، ووِزر عظيم؛ لأن فيه تلبيسًا وتَعْمِيةً وسَتْرًا للحقائق، ووَضْعَ غشاءٍ على الأبصار، وإضلالًا للعامَّة، وزلزالًا لعقيدتهم في ترتُّب المسبِّبات على أسبابها، فضلًا عن إيصال الضررِ إلى المسحورِ من مرضٍ أو ذهابِ عقلٍ، وربما أفضى ذلك إلى القتل. ولذلك كان من الكبائر فِعْلُه وتعلُّمه وتعليمه.
وأكثرُ السِّحر يكون بتسخير الشياطين واستعمالهم، وهذا لا يكون إلا بالكفرِ باللهِ تعالى؛ فإنَّ الشياطين لا تقبلُ ذلك حتى يكفرَ السَّاحرُ بالله تعالى[2]،
قال سبحانه:
{وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}
[البقرة: 102].
ولهذا ذهب أكثرُ أهلِ العلمِ إلى قتلِ السَّاحرِ حدًّا لكُفْرِه ورِدَّته، سواءً حصل بسحره قتلٌ أم لا.
4. الثَّالثُ: قتلُ النَّفسِ التي حرَّم اللهُ قتلَها إلا بالحق؛ فدماءُ المسلمين جميعًا حرامٌ،
لقوله ﷺ:
«فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»
[3].
وقد توعَّد اللهُ تعالى قاتلَ المؤمنِ بالعذاب الأليم،
قال سبحانه:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93].
كما حرَّم اللهُ تعالى دِماءَ أهلِ الذِّمَّةِ والمُسْتَأْمَنِينَ والمُعَاهَدين من غير المسلمين،
قال تعالى:
{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}
[الممتحنة: 8]،
وقال ﷺ:
«مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»
[4].
5. الرابعُ: أكلُ الرِّبا، وهي الزيادةُ الحاصلة من مبادلة الشيءِ الرِّبَوي بجنسه أو بتأخير القبضِ فيما يجب فيه التقابض من الرِّبويات[5]. وتفسير ذلك أنْ يبيعَ الرجلُ مثلًا جرامًا من ذهبٍ قديمٍ مقابلَ جرامين من الذهب الجديد، أو يعطي أخاه صاعًا من تمرٍ جيد مقابل صاعين من تمرٍ رديء. وهذا يُسَمَّى ربا الفضل، وهو أن يبيع الرجلُ شيئًا من الرِّبويات -الذهب والفضة والتمر والقمح والشعير والملح- بمثلها مع تفاضلٍ في الثمن؛ إذ يشترط في هذا النوع أن يبيع صاعًا بصاعٍ، وجرامًا بجرامٍ، ودرهمًا بدرهم من غير تفاضل. والنوع الثاني هو ربا النَّسيئة، وهو أشهر الأنواع وأكثرها، وهو أن يُقرِض الرجلُ أخاه قرضًا بزيادةٍ مشروطةٍ عند السَّداد، فيُعطيه مائة دينارٍ مثلًا على أن يردَّها بعد شهرٍ مائةً وعشرًا.
وقد حرَّم اللهُ تعالى الرِّبا وشدَّد العقوبةَ على آكلِه،
فقال تعالى:
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}
[البقرة: 276]،
وقال جلَّ جلالُه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 278 فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
[البقرة: 278، 279].
وقال جابرٌ رضي الله عنه:
«لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ»، وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»
[6].
6. الخامسُ: أكلُ مال اليتيم، خصَّه النبيُّ ﷺ بالذكر دون سائر النَّاس وإن كان أكلُ أموالِ النَّاسِ بالباطل عمومًا كبيرةٌ من الكبائر لأنَّ اليتيمَ صغيرٌ لا يستطيع الإنفاقَ على نفسِه، ولا يملك ردَّ يدِ الظالمِ عن مالِه، بخلاف الكبير،
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}
[النساء: 10].
وليس المنهيُّ عنه مجرد أكلِ مالِه بحيث يجوز أخذُ مالِه وإنفاقُه في غير الأكل، بل المراد الاستيلاء، وذكر الأكلَ لأنَّه الأغلب.
7. السَّادسُ: الفرارُ من الحربِ، فإنَّه لا يجوز لمسلمٍ أن يفرَّ هاربًا من الحرب عند قتال الكفار؛ لأنَّ ذلك جُبنٌ يؤدي إلى انهزام المسلمين وضعف عزيمتهم، وقد أوجب اللهُ تعالى على المؤمنين الثَّبات في الحرب وعدم الهرب،
فقال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45]،
وقيَّد ذلك بما إذا كان المشركون ضِعْفَي عدد المسلمين أو أقل، فإذا كان المشركون أقلَّ من المسلمين أو يساوونهم أو ضِعْفيهم أو أقلَّ وجب على المسلمين الثبات وصار الفرارُ كبيرةً من الكبائر، إلا أن يكون فرارُه رجوعًا إلى فئةِ المسلمين يعاونهم ويعاونوه لا هربًا أو كان المشركون أكثرَ من ضِعفي المسلمين، فيجوز حينئذ الفرارُ.
قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ 15 وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
[الأنفال: 15، 16]،
وقال سبحانه:
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}
[الأنفال: 66].
8. السَّابعُ: قذفُ المُحصنات، وهو رَمْيُهُنَّ بالفاحشةِ زورًا وبهتانًا، والمُحصنات: المؤمنات العفيفات، فقذفُ الكافرةِ والزانية التي استبان زناها خارجٌ من ذلك.
قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[النور: 23].
ولا يقتصر ذلك على قذفِ النساءِ فحسب، بل يشملُ الرجالَ كذلك، فقاذفُ المؤمنِ المُحْصَن كقاذفِ المؤمنةِ الْمُحْصَنَةِ في وجوب الحدِّ واستحقاق العقاب الأُخْرَوِي بلا خلافٍ بين أهل العلم[7].
ووَصفُ المُحْصَنات بالغافلات لا يعني أنَّ غير الغافلة يجوز قذفُها، أو أنَّ قذفَها ليس من الكبائر، بل قيَّده بذلك تغليظًا للذنب، حيث قَذَف مؤمنةً بريئةً عمَّا يُنسبُ إليها، بل إنها لا تدري شيئًا عنه[8].
اتباع
على الدَّاعية والمُرَبِّي أن يكون حريصًا على تحذير النَّاسِ من الكبائرِ وأسبابِ غضب اللهِ تعالى وعقابه.
ذنوبُ العِباد تُكَفِّرها الأعمالُ الصالحة؛ كالجُمعة إلى الجُمعة، والمتابعة بين الحج والعمرة، وغير ذلك، إلا الكبائر، ولهذا قال ﷺ:
«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ»
[9].
فإياكَ ومَا يُحبط الأجرَ ولا تغسلُه الأعمال الصالحة.
إياك أن تستهينَ بذنبٍ لأنَّه ليس من الكبائر؛ فإنَّ الصغيرةَ إذا استصغرها العبدُ واستهان به صارتْ كبيرةً، والمؤمنُ يرى سيئاته جبالًا. قال الفُضَيل بن عياضٍ رحمه الله: "بقدرِ ما يصغُرُ الذنبُ عندك يعظُمُ عند الله، وبقدر ما يعظُمُ عندك يصغُرُ عند الله"[10]. وقال ابنُ مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمنَ يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا"[11].
احذرْ الشركَ وأسبابَه ووسائلَه؛ فإنها مُوجِبةٌ لسخطِ اللهِ تعالى وعقابه، مُحبطةٌ للأعمالِ الصالحة، والشركُ أخفى من دبيب النَّمل.
إذا أردتَ الأمانَ يومَ القيامةِ فعليك بتوحيده، واحذر مَغَبَّةَ الشركِ.
قال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: لَمَّا نَزَلَتْ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] بِشِرْكٍ، أَوَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]
[12].
احذر أن تذهب إلى ساحرٍ أو عرَّافٍ؛ فإنَّ ذلك كُفرٌ باللهِ العظيم،
قال ﷺ:
«مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
[13].
تَعَلُّمُ السِّحْرِ وتعليمُه كفرٌ باللهِ تعالى، فإياكم والسِّحر.
يجب على أولي الأمر أن يُقيموا الحدودَ على السَّحَرةِ والكَهَنَةِ والعَرَّافين، فيرتدعُ أمثالُهم وتنتهي شرورُهم.
قَتْلُ النَّفسِ بغيرِ وجهِ حقٍّ كبيرةٌ من الكبائر، توعَّد اللهُ تعالى عليها بالعذاب الأليم، بل أخبر ﷺ أنَّ كلَّ الذُّنوبِ داخلةٌ في المشيئة إلا الشرك والقتل؛ تهويلًا وردعًا،
قال ﷺ:
«كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»
[14].
اشتدَّ غضبُ اللهِ تعالى على الرجل يقتل المؤمن عمدًا بغير وجه حق، ولهذا جعل له من العقوبة ما لم يجعل مثلها لأحد،
قال تعالى:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93].
حذَّر اللهُ تعالى آكلَ الرِّبا إن لم يُقلِع عمَّا هو فيه بحربٍ من اللهِ تعالى ورسوله ﷺ. فهل تقدر على حربهما؟
قال ﷺ:
«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبَا»
[15].
إياك وأكل أموالِ النَّاس بالباطل، فإنَّ ذلك كبيرةٌ من الكبائر، خاصَّةً إذا كان صاحبُ المالِ ضعيفًا أو يتيمًا لا يقدر على حفظِ مالِه.
احذر مَغَبَّةَ أكلِ مال اليتيم؛ فإنها من المُوبِقات.
إذا دخلتَ حربًا مع المسلمين لقتال الكفار فثِقْ باللهِ وتوكَّل عليه، واعلم أنَّك على ثَغْرٍ من ثُغورِ الإسلام، وقُل في نفسك: لن يُؤتى الإسلامُ من قِبَلِي، واثْبُت مستعينًا بالله تعالى.
لا تكن سببًا في خسارة المسلمين بإظهار الضعف والانهزام، فيُؤثر ذلك على سائر الجنود.
احفظ لسانك عمَّا يؤذي النَّاسَ؛ فإنَّ اللسانَ أكثرُ ما يُدخل النَّاسَ النَّارَ.
احتاط اللهُ تعالى لحفظ الأعراضِ بأنْ أوجب على مَن رأى قومًا على الفاحشة أن يأتي بأربعة شهداء، وإلا فهو كاذبٌ قاذفٌ يجب جلدُه ثمانين جلدة. فلا تجعل لسانك يُوردك الموارد.
يدخل في القذفِ سبابُ المسلمين اليومَ بعضهم بعضًا على سبيل المُزاح. فإياكَ وذلك النوع من الهزل؛ فما من كلمة تنطقها إلا وأنت مُحاسبٌ عليها.
قال الشاعر:
خلِّ الذنوبَ صغيرَها = وكبيرَها فهُوَ التُّقى
كن مثلَ ماشٍ فوق أرْ = ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ ما يرى
لا تحقِرَنَّ صغيرةً = إنَّ الجبالَ مِن الحصى
21. وقال غيره:
وَفِي النَّاسِ مَن ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ = وَيَنْشُرُ أَعَذارًا بها يَتَأوَّلُ
جَرِيءٌ على أَكْلِ الحرامِ ويدَّعِي = بأنَّ له في حِلِّ ذلك مَحْمَلُ
فَيَا آكِلَ الْمَالِ الحرامِ أَبِنْ لَنَا = بأيِّ كتابٍ حِلُّ مَا أَنْتَ تَأكُلُ؟
ألمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بما جَرَى = وبينَ البَرايَا في القِيامةِ يَفْصِلُ
المراجع
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- ينظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 760).
- رواه البخاري (67)، ومسلم (1679)، عن أبي بكرة رضي الله عنه
- رواه البخاري (3166).
- ينظر: "منتهى الإرادات" لابن النجار (2/347).
- رواه مسلم (1598).
- ينظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (31/ 284).
- ينظر: "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 291).
- رواه مسلم (233).
- "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (8/ 427).
- رواه البخاريُّ (6308).
- رواه البخاري (3360)، ومسلم (124).
- رواه أبو داود (3904)، والترمذيُّ (135)، والنسائيُّ (9017)، وابن ماجه (639).
- رواه النسائي (3984).
- رواه البخاري (2085).
فقه
حرص معاويةُ رضي الله عنه على أن تبلغه أحاديثُ رسولِ الله ﷺ، فكتب إلى عامله المغيرة رضي الله عنه يسأله أن يُرسل إليه بعضَ ما سمعه من رسولِ الله ﷺ من جوامع الكَلِم.
فكتب إليه المغيرةُ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ كان حريصًا على أن يقول عقب كل صلاة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير".
ومعنى ذلك الدُّعاء أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فالملك المُطلق بيده سبحانه، له مُلك الدنيا والآخرة، وله جميع أصناف الثناء كلها، فهو المستحقُّ لذلك وحده، وهو القدير الذي لا يُعجزه شيءٌ، له القدرة الظاهرة والباطنة في السماوات والأرض.
3. ثم يقول: "اللهم لا مانع لما أعطيتَ ولا مُعطي لما منعتَ" فلا يُعارِضُ فعلَك أحدٌ، ولا يقدر أحدٌ أن يمنع ما قدَّرتَ، أو يدفع ما منعت
قال سبحانه:
{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
[فاطر: 2].
4. واختتم ﷺ دعاءَه بقوله: "ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ"، وفي العبارة تقديمٌ وتأخير، وحقُّها: "ولا ينفعُ الجدُّ منكَ ذا الجدِّ"؛ أي: لا ينفع الغِنَى صاحبَه منك، ولا ينفع الحظُّ المحظوظَ فيردَّ عنه قضاءك وقدرك، أو يُنجيه من عذاب الله تعالى. فلا ينفعُ الإنسانَ إلا عملُه وإيمانه وأن يتغمده اللهُ تعالى برحمته، وهذا قريبٌ من
قوله تعالى:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ [88] إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
[الشعراء: 88، 89].
5. ثم كتب المغيرةُ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ كان ينهى عن كثرة الكلام بما لا يفيد، فإنَّ إطلاقَ اللسانِ سبيلٌ للخوضِ في أعراضِ النَّاسِ،
ولهذا قال ﷺ:
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»
[1].
6. ونهى أيضًا عن كثرة السؤال، وهو أن يسأل الإنسانُ أسئلةً لا فائدةَ منها؛ كالسؤال عن مسائل لم تقع. ويدخل في كثرة السؤال كذلك كثرةُ سؤالِ النَّاس عن أحوالهم حتى يُوقعهم في الحَرج فيما يريدون ستره، ويحتمل أن يكون المرادُ سؤالَ النَّاس المالَ[2].
7. ونهاهم عن إضاعة المال؛ بإنفاقه في المُحَرَّمات، أو الإسراف في المُباحات من المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك
قال سبحانه:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}
[الأعراف: 31].
8. ونهى كذلك عن معصية الآباء والأمهات والإساءة إليهم والتفريط في حقوقهم وإيذائهم، وخصَّ الأُمَّهات لعظيم حقِّهنَّ؛ فبرُّ الأمِّ مقدمٌ على برِّ الأب، ولأنَّ النساءَ أضعفُ من الرجال، فعقوقهن أسرع من عقوق الآباء.
9. ونهى كذلك عن وَأْدِ البنات، وهو دفنهنَّ أحياءً، كما كانت عادة الجاهليين، كراهةً للبنات وتشاؤمًا منهن؛ حيث يظنون أنَّ البنت تجلبُ العارَ
قال سبحانه:
{وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [58] يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
[النحل: 58، 59].
10. ونهى عن أن يمنع الإنسانُ ما وجب عليه من المال أو القول أو الفعل أو الأخلاق، وأن يطلبَ ما لا يجوز له أخذُه[3]. وهذا من أبشع صور الجشع؛ حيث يحرص المرءُ على أخذ ما ليس من حقِّه، ويمنع أن يعطي غيره ما يجب لهم.
اتباع
انظر كيف حرص الصحابةُ رضوان الله عليهم على طلب العلم وحفظ الحديث، فهذا معاوية رضي الله عنه على انشغاله بالخلافة وأمور الحكم، لم ينسَ حظَّه من أمورِ الدين ومعرفة الأحكام. فإياك والفتورَ عن طلب العلم.
اجتهد الصحابةُ رضوان الله عليهم في حفظِ وتبليغِ أحاديث النبيِّ ﷺ، فهم أهلُ فضلٍ وعلمٍ. ينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يُوَقِّرهم ويحترمهم، ويغضَّ طرفه عمَّا جرى بينهم من أمور الدنيا.
احرص على أن تختم صلاتَك بأذكار الصلاةِ المعروفة، ومنها هذا الذِّكر: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا مُعطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجدُّ".
ثِق باللهِ تعالى وتوكَّل عليه، فلا يقدر أحدٌ أن يمنع ما قدَّره، ولا أن يفعل ما لم يكتبه.
إياك والقنوط واليأس من رحمة الله، ولا تجزع لما أصابك بقَدَرِ الله، فما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك.
لن ينفعك إلا عملك، فلا الأنساب ولا الأموال ولا القوة ولا الحظ يغني عنك من الله شيئًا.
لا تتكلم فيما لا ينفع؛ فإنَّ اللسان موردُ الهلاك، كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يُمسك بلسانه ويقول: "إنَّ هذا أوردني الموارد"[4].
تفكَّر في ما تقول قبل أن يتحرك به لسانك؛ قال شُميط بن عجلان رحمه الله: "يا بنَ آدمَ، إنّك ما سكتَّ، فأنت سالم، فإذا تكلَّمت، فخذ حذرك، إمّا لك وإمّا عليك"[5].
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "من كَثُر كلامه، كَثُر سَقْطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبُه، ومن كَثُرت ذنوبه، كانت النّار أولى به"[6].
لا تسأل فيما لا يعنيك؛ فإن كان السؤال عن شيءٍ من أمور الدِّين فلا تسأل عمَّا لا فائدةَ من معرفته، من السؤال عن الأشياء التي لم تحدث، أو الأمور التي لا تنفع صاحبها أو تضره، واحرص على سؤال ما ينفعك في دنياك وآخرتك.
لا تشقَّ على أحدٍ في السؤال عن أحوالِه وأخبار أهله بما لا يجدُ به بُدًّا من إفشاءِ أسرارِ بيته.
ليس من إضاعة المال إنفاقُه في أوجه البرِّ والطاعة؛ فأبو بكر رضي الله عنه أنفق جميعَ ماله في سبيل اللهِ تعالى، وأنفق عمر رضي الله عنه نصف مالِه، ولم يكن ذلك من إضاعته.
لا يحرم على المسلم أن يُنفق المالَ في المَلَذَّات والطيِّبات، وإنما يحرم عليه الإسرافُ ومجاوزةُ الحدِّ في ذلك.
إياك والعقوقَ؛ فإنَّ عقوبته تُعجَّلُ في الدُّنيا قبل الآخرة.
إذا كان العقوقُ حرامًا، فعقوقُ الأمِّ أكثر حرمةً، فلا تحملك رقَّتُها وضعفُها على عقوقها.
حرَّم اللهُ سبحانه قتلَ البنتِ ووأدَها خوف الفقرِ أو العار، وأوجب على الأب أن يُربِّيها تربيةً سليمةً، وحرَّم انتقاصَ حقِّها أو ظلمها في ميراثها.
أدِّ ما عليك من الواجبات، ولا تبخل.
إياك والطَّمع فيما عند غيرك، ارضَ بما قسم اللهُ لك تكن أغنى النَّاس.
المراجع
- رواه البخاريُّ (6019)، ومسلم (48).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 201).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3157).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
فقه:
يذكر النبيُّ ﷺ في الحديثِ مظهرًا من مظاهرِ رحمته سبحانه بعباده المؤمنين، حيث رَفَع عنهم المؤاخذة بما يدور في نفوسهم من الخواطر وأحاديث النَّفس ما لم يتحول ذلك إلى فعلٍ يظهر على اللسانِ أو الجوارحِ.
وسواءً دَعَت تلك الخطَرَات إلى معصيةٍ أو غيبةٍ أو شِركٍ، من غير تعمُّدٍ لتحصيله فلا شيءَ عليه إذا صَرَفَه عن نفسه ولم يستمرَّ عليه؛ جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلُوهُ: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: «وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ صَرِيحُ الْإِيمَانِ»[1]، ومعناه: أنَّ سببَ الوسوسةِ تلك محضُ الإيمانِ وصريحُه؛ فإنَّ أهلَ الباطلِ لا يُوَسْوَسُ لهم.
إِلَّا أنَّ الإنسانَ إذا خطرت له فكرةٌ فعَقَد العزمَ على فعلها متى تهيَّأت له أسبابُها فإنه يأثم بذلك، ويكونُ كمَن فَعَلَها؛ فإنَّه حينئذ خرج عن حديث النَّفْسِ إلى نيَّة القلب.
قال ﷺ:
«مثلُ هذه الأُمَّةِ كمثلِ أربعةِ نفرٍ؛ رجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وعلمًا فهو يعملُ بعلمِه في مالِه يُنفقُه في حقِّهِ، ورجلٌ آتاه اللهُ علمًا ولم يُؤْتِه مالًا فهو يقولُ: لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ. قال ﷺ: «فهما في الأجرِ سواءٌ»
ورجلٌ آتاه اللهُ مالًا ولم يُؤْتِه علمًا فهو يخبطُ في مالِه يُنفقُه في غيرِ حقِّهِ، ورجلٌ لم يُؤْتِه اللهُ علمًا ولا مالًا فهو يقولُ: لو كان لي مثلَ هذا عملتُ فيه مثلَ الذي يعملُ. قال ﷺ: «فهما في الوِزْرِ سواءٌ»[2].
وقد كان الأمرُ في أولِ الإسلام أنَّ العبدَ يحاسبُ على ما يُخفيه في نفسه من شوارد الأفكار والخواطر، ثم رَحِمَ اللهُ تعالى عبادَه ولطف بهم.
اتباع:
لا ينبغي على المؤمن أن يحزن لما يصيبه من الوساوسِ التي تُشَكِّكُه في دينه وعبادته؛ فإنَّ ذلك دليلٌ على إيمانِه وحرص إبليسَ على إغوائه.
إذا وجد العبدُ وسوسةً في نفسِه تتعلق بصفات الله تعالى ووجوده ونحو ذلك مما يُلَبِّسُ العبدَ فإنه يستعيذُ باللهِ تعالى ولا يُطلق فكرَه معها.
قال ﷺ:
«يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ»
[3]، وعند مسلم: «فليقل: آمنتُ بالله».
إياك أن تستهينَ بالنِّيَّات؛ فقد تُعَذَّب لمجرد نيتك الشرَّ وإن لم تفعله، فتخيَّل أن تُعَذَّب عذابَ قارون وفرعون وهامان لأنك نويت أن تفعل مثل فعلهم إن أُوتيتَ سلطةً ومالًا، وأنت فقيرٌ ضعيفٌ لا حيلة لك.
جاهِد نيَّتَك ما استطعت، فاحرص على أن تنويَ الخيرَ دائمًا وأبدًا، حتى تُؤجر على ذلك وإن لم تُيَسَّرْ لك الأسباب.
قال ﷺ:
«مَن سَأَلَ اللَّهَ الشَّهادَةَ بصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنازِلَ الشُّهَداءِ، وإنْ ماتَ علَى فِراشِهِ»
[4].
إذا وجدتَ في نفسِك شيئًا فيه معصيةٌ للهِ تعالى، فاقطع فكرَك عنه ولا تنشغل به، ولا تحزن فإنها لا تضرُّك
المراجع
- رواه مسلم (132).
- رواه ابن ماجه (4228)، وأحمد (18024).
- رواه البخاري (3276)، ومسلم (134).
- رواه مسلم (1909).
فقه
يحضُّ النبيُّ ﷺ على الدعوةِ إلى اللهِ تعالى ونشر أحكام الدين بين النَّاس ويُرَغِّبهم إلى ذلك ببيانِ أجرِ الدعاة وفضلهم؛ فمن دعا إلى أي بابٍ من أبواب الخير – عظيمًا كان العملُ أو يسيرًا - كان له مثلُ أجرِ من اتَّبعه واقتدى به، من غير أن ينقص من أجورهم شيءٌ.
والدعوةُ لا تقتصرُ على القول فحسب، بل يدخل فيها الفعلُ كذلك؛ فإذا فعلَ المسلمُ شيئًا من السُّنَنِ واقتدى به غيرُه، كان له ثوابُ فعلِه ومثلُ ثوابِ من اتَّبَعه.
2. ويُحذِّر ﷺ من إضلالِ النَّاس وإغوائهم، فمن دعا إلى الكفر والشرك أو إلى بدعةٍ من البدع أو إلى معصية من المعاصي، سواءً كانت دعوته بالقول أو بالفعل، كان له إثمُ ضلالته ومثلُ إثم من اتَّبعه على ضلاله، ولا يَنقُص هذا الإثمُ الواقعُ عليه من إثم المتَّبِع شيئًا، فلكلٍّ منهما وِزرٌ كاملٌ.
قال تعالى:
﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾
[النحل: 25]
وقال ﷺ:
«لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ»
[1].
ويشهد لهذا الحديث قولُه ﷺ:
«مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»
[2]
اتباع:
(1) إذا أردتَ أن تزيد حسناتُك، فادعُ إلى اللهِ تعالى؛ فإنك تكسب أجورًا مثل أجور مَن اتبعك.
(1) الدُّعاةُ إلى الله تعالى من أهل الصدقات الجارية التي تزيد بعد موتهم ولا تتوقف، فاحرص أن تكون حسناتُك جاريةً وسيئاتك متوقفة.
(1) بادِر بإحياء السُّنَنِ التي غفل عنها كثيرٌ من المسلمين؛ فبإحيائك لها تنل رضا اللهِ سبحانه ومحبَّةَ نبيِّه ﷺ وأجورَ المتبعين.
(1) نشرُ العلمِ الشرعي من أهمِّ طرق الدعوةِ إلى اللهِ سبحانه؛ فبه يعرف النَّاس أحكامَ دينهم، فيأتمروا بالأوامر وينتهوا عن النواهي.
(2) إياك والسيئات الجارية، فكم من أناسٍ ماتوا وما زالت الملائكة الموكلة بهم تكتب سيئاتهم! دَعَوا إلى الضلالِ والشِّرك والبدع والمعاصي فاتَّبعهم غيرهم.
(2) السَّعيدُ من كان إمامًا في الخير، والشَّقيُّ من كان إمامًا إلى جهنم،
كما قال اللهُ سبحانه:
{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
[القصص: 41].
المراجع
- رواه البخاري (3335)، ومسلم (1677).
- رواه مسلم (1017).
فقه:
يضرب النبيُّ ﷺ المَثَلَ لبيان أهمية الدعوةِ إلى اللهِ تعالى والنُّصحِ له، وأنَّه لولا إنكارُ المنكرِ لهلك جميعُ النَّاس، فيُصَوِّرُ المطيعَ الحافظَ لحدودِ اللهِ تعالى الممتثلَ لأمره ونهيه، والعاصي المُضَيِّعَ لأحكام الشرع الواقعَ في شهواته وملذَّاته، بقومٍ نزلوا سفينةً في ماءٍ عَذْبٍ، فصنعوا قُرعةً فيمن يكون في أعلى السفينة ومَن يكون في أسفلها، فتمَّ ذلك ونزل كلٌّ في مكانِه.
فكان الذين في الأسفل إذا أرادوا أن يشربوا أو يأتوا بالماءِ لأغراضهم صعدوا إلى أعلى السفينة فجلبوا الماء ثم نزلوا، فاقترحوا أن يخرقوا في أسفل السفينة – وهو نصيبهم – خرقًا يجلبون به الماء، بدلًا من الصعود والنزول، فبذلك يرتاحون ولا يؤذون جيرانهم الذين في الأعلى. فإن تركهم أصحاب العُلُوِّ يفعلون ما يحلو لهم بزعم أنَّ ذلك نصيبهم يصنعون به ما يشاؤون، هلك الجميعُ؛ إذ الخرقُ في السفينة يُغرقها ولا شك، وإن منعوهم من ذلك نجوا جميعًا.
فكذلك المؤمنون والعصاة؛ إن تركوا العصاةَ ومعاصيهم من غيرِ إنكارٍ عليهم استحقَّ الجميعُ عقابَ اللهِ تعالى؛ العُصاة بمعصيتهم، وغيرُهم بالسكوت عليهم وعدم الإنكار،
كما قال ﷺ:
«إنَّ النَّاس إذا رَأَوُا المنكَر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»
[1].
وقد لَعَنَ اللهُ بني إسرائيل حين تركوا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر،
فقال سبحانه:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ {78} كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[المائدة: 78، 79].
اتباع:
ضَربُ الأمثال من الأساليب الفاعلة في الدعوة إلى الله ، وتعليم العلم، ومِن ثَمَّ ينبغي للمعلِّم والمربِّي أن يقرِّب المعانيَ المعقولةَ لأذهان الناس بضرب الأمثال المحسوسة القريبة إلى أفهامهم[2].
المؤمنُ الحقُّ لا يَكتفي بإصلاح نفْسه فحسبُ؛ بل يَحمل همَّ المجتمع من حوله، ويعمل على بيان الأخطار التي تهدِّدهم في دينهم ودنياهم.
تَرْك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب في حلول الدمار، ووقوع الهلاك على المجتمع بأسره؛
كما قال الله تعالي :
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
[الأنفال: 25].
إياك أن تظنَّ أنَّ امتناعك عن المعاصي يكفيك في دفع عذابِ اللهِ تعالى؛ بل يجب عليك الإنكارُ ما استطعتَ.
لا يصدنَّك عن الإنكارِ علمُك أنَّ الذي تُنكِرُ عليه لن يستمعَ لك؛ فما عليك إلا النصح، واللهُ يهدي من يشاء.
لا يجوز لمسلمٍ أن يرى أمرًا منكرًا من المنكرات وهو قادرٌ على تغييرها من غير أن يُغَيِّرها،
وقد قال سبحانه:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[المائدة: 78، 79].
المراجع
- رواه أحمد (1)، وابن ماجه (4005)، وأبو داود (4338)، والترمذيُّ (3057).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (2/ 433).
فقه:
ذكر التابعيُّ طارقُ بن شهابٍ رحمه اللهُ تعالى، أنَّ مروانَ بن الحكم كان أوَّل من ابتدعَ تقديم الخطبة قبل صلاة العيد، ومن المعلوم في دين اللهِ تعالى أنَّ صلاةَ العيد تكون قبل الخطبة، إلَّا أنَّ مروانَ خافَ من انصراف الناس بعد الصلاةِ، فأراد أن يخطب فيهم قبل الانصراف[1]، فقام إليه رجلٌ ينصحه ويُبيُّن له السُّنَّة، وهي أنَّ الصلاةَ أولًا ثم الخطبة، فلم يستجب مروانُ للنَّاصح، وقال له: قد ترك النَّاسُ ما تقول.
فحينئذٍ قال أبو سعيدٍ الخدري : أما هذا الرجل الذي نصح مروان، فقد أدَّى ما عليه من النُّصْحِ والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وسقطَ الوجوبُ عنه؛ إذ لا يُكَلِّفُ اللهُ نفسًا إلَّا وُسْعَها،
وقد قال سبحانه:
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}
[المائدة: 99].
ثمَّ استدلَّ أبو سعيدٍ على ذلك بما سمعه من النبيِّ ﷺ حيث قال: «مَن رأى منكم منكرًا – وهو كلُّ ما قبَّحه الشرعُ وكرهه – فليغيِّره بيده».
والتغييرُ باليدِ لا يعني أن يُبادرَ المسلمُ إلى إتلاف الأموال والأشياء وإراقة الدِّماء، فيكون سببًا في الفتنةِ وعُرضَةً للأذى والضَّرَر. وإنما يُشترط في التغيير باليدِ القدرةُ عليه مع عدم الضرر، وذلك كوليِّ الأمرِ الذي يُغَيِّر بسلطته ما يُنكره، وكالوالد والزَّوج يُؤَدِّبُ أولادَه ويُنكر على أهله، فإن لم يستطع التغيير باليد استعان بالإمام ونُوَّابِه في تغييرِه، وإلا سقط عنه التغييرُ باليد.
4. فإن عجز المرءُ على تغيير المنكر بيده؛ بأن خافَ ضررًا عليه أو فتنةً يتسبب فيها، انتقل إلى التغيير باللسان، وهو أن يُنكرَ على صاحب المعصية معصيتَه، ويدعوه إلى اللهِ تعالى، ويحضَّه على التوبة وإزالة ذلك المنكر، مستعينًا بما يَصلح مع حال المخاطَب من اللين أو الشِّدَّة،بمقتضى قوله سبحانه:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}
[النحل: 125].
5.فإن خافَ وعجزَ عن الإنكار باليد، فعليه أن يُنكر بقلبه؛ بأن يبغض ذلك المنكَر، ويتبرَّأَ إلى اللهِ تعالى منه، ويعزم على أنَّه لو قدر على تغييره لفعل.
والإنكار بالقلبِ أضعفُ درجات الإيمان، فليس بعدَ الإنكار بالقلب إلا أن يستسيغَ المرءُ المعصيةَ ويرضى بها وإن لم يفعلها، ولهذا جاء في الرواية الأخرى: «لَيسَ وَراءَ ذلكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ»[2].
والأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكر من أوجب الفرائض؛ فبها صلاح المجتمع وإقامة شرع اللهِ تعالى. وهي فرضٌ على الكفاية، إن قام بها البعضُ سقطَ الإثمُ عن الباقي، إلا أنَّها قد تتعينُ على المرءِ إن لم يرَ المنكرَ غيرُه، أو كان المنكرُ في أهلِه ومن يَلِي أمرَهم[3].
والمنكَر إن كان من الأمور التي يظهر للعامةِ حكمُها كترك الصلاة والصيام وعقوق الوالدين وشرب الخمر والزنا ونحو ذلك، فلكلِّ واحدٍ من المسلمين الإنكارُ، أما إن كان من الأمور التي لا يبدو حكمُها لكلِّ أحدٍ، فالإنكارُ فيها لأهل العلم.
اتباع:
1. (1) في الحديث بيان أنه مَن أحدثَ في الدِّين ما ليس منه فعمَلُه مردودٌ عليه، وأنه لا تُقبَلُ الأعمالُ إلَّا إذا كانت على هَدْي رسول الله ﷺ.
2. (1)لم يخف الرجلُ الذي خرج ينصح مروان بن الحكم من بطشه وسطوته، وقدَّم النصيحةَ إليه. فينبغي ألَّا يخافَ المسلمُ من إنكارِ المنكَرِ ما لم يصل إلى ما لا يتحمله من الضرر.
3. (2)لا يصدنَّك عن الإنكارِ علمُك أنَّ الذي تُنكِرُ عليه لن يستمعَ لك؛ فما عليك إلا النصح، واللهُ يهدي من يشاء.
4. (2)إياك أن تظنَّ أنَّ ابتعادَك عن المعصية كافٍ في النَّجاة؛ فإنَّ عدمَ الإنكارِ يستوجبُ العقوبةَ؛ قال ﷺ: «إنَّ النَّاس إذا رَأَوُا المنكَر فلم يغيِّروه، أوشك أن يعمَّهم الله بعقابٍ منه»[4].
5. (3)لا يجوز لمسلمٍ أن يرى أمرًا منكرًا من المنكرات وهو قادرٌ على تغييرها من غير أن يُغَيِّرها،
وقد قال سبحانه:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[المائدة: 78، 79].
6. (3) إياك أن ينتجَ عن تغييرك المنكرَ منكرٌ أعظم منه، بل ينبغي أن تتحلَّى بالحكمة عند التغيير، فإن رأيت التغيير باللسان أنفع من التغيير باليد فافعل.
7. (3) التغيير باليد يشترط فيه القدرةُ على التغيير وأمن الضرر والفتنة، فإن استوفيتَ الشروطَ فافعل.
8. (3) من التغيير باليد ألَّا يرضى المسلمُ أن تخرج زوجتَه أو ابنته أو أخته متبرجةً، فلا يكفيه حينئذٍ أن ينصحها، بل يجب منعُها من ذلك.
9. (3) من التغيير باليد أن يأمرَ المسلمُ أهلَه بالصلاة والعبادة، وأن يعاقبه بما يظن معه هدايتُه.
10. (3) من التغيير باليد أن ينزع المسلمُ من بيته شعارات الشرك والمعاصي؛ كالصُّوَر والتماثيل والتمائم ونحوها.
11. (4) إذا عجزت عن التغيير باليد وأمكنك النُّصح وبيان الحقِّ بحكمةٍ من غير فتنةٍ أو ضررٍ فافعل.
12.(4) التغيير باللسان لا يكون بالسبِّ والقذف والتعيير والغيبة، بل بالنُّصْح والأمر بالمعروف بمعروف والنهي عن المنكر بغير منكر.
13.(4) على المسلم الصادق أن يُبادر للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمنعه من ذلك هيبةُ مَن علَت به الرُّتب في الدنيا؛
فإن اللهَ قال:
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾
[الحج: 40].
14.(4) لا يختصُّ الأمرُ بالمعروف والنهى عن المنكر بالوُلاة والحكَّام؛ بل ذلك واجبٌ على آحاد المسلمين؛ فواجبٌ على المسلم أن يأمر وينهى، ما دام عالِمًا بما يأمُر به ويَنْهى عنه.
15.(4) من الرحمة بالمسلم العاصي وبالمجتمع المسلم نُصحه والأخذ على يديه.
16.(4) المؤمنُ الحقُّ لا يَكتفي بإصلاح نفْسه فحسبُ؛ بل يَحمل همَّ المجتمع من حوله، ويعمل على بيان الأخطار التي تهدِّدهم في دينهم ودنياهم.
17.(4) مِن أعظم البلايا على المرء أن يتركَ الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر من أجْل كسْبِ مَودَّةِ حبيب، أو لقرابة قريب، أو صَداقة صديق، أو مُداهنة ذي سلطان؛ فإن اللعنةَ نزَلت على بني إسرائيل لَمَّا منَعهم مثلُ ذلك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر فيما بينَهم.
18.(5) إذا عجز المسلمُ عن الإنكار باللسان، توجَّب عليه أن يُنكر بقلبه، وأن يبغض تلك المعصية، وأن يتبرأ إلى الله منها، وأن يعزم على أنَّه لو أمكنه تغييرها بيده أو بلسانه لفعل.
19.(5) من الإنكار بالقلب البراءةُ من الشرك وأهله؛ فيبغض المسلمُ المشركين والكافرين، ولا يُواليهم ويُوادهم على ما هم عليه من بُغضهم للهِ تعالى وبغضِه إياهم.
20.(5) اختبر قلبَك وإيمانَك؛ فإن كنت ترى المُنكَر وتنكره بيدك أو لسانك أو قلبك ففيك من الإيمان بقدر ما تُنكر، وإن كنت لا تأبه بذلك ولا تهتم فاعلم أنَّك بعيدٌ عن رياض المؤمنين.
21.(5) الإنكارُ بالقلبِ مع الاستطاعة على الإنكار باليد أو اللسان ضعفٌ في إيمانِ العبد، فاحرص أن تكون من أهل الإيمان الكامل.
22.(5) جلوسُك في مجالس اللهو والغيبة والنميمة والمُحرَّمات يدلُّ على عدم إنكارِ القلب، فلو أنكرتَ لبغضتَ ذلك المجلس وقمت عنه.
المراجع
- انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوْزيِّ (2/ 173).
- رواه مسلم (50).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
- رواه أحمد (1)، وابن ماجه (4005)، وأبو داود (4338)، والترمذيُّ (3057).
فقه
1- يخبر ﷺ أن هذا الدين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء مَن يحملُ رايتَه ويدافع عنه ويدعو إليه، فلا تزال جماعةٌ من النَّاس يُظهرون الحقَّ وينتصرون به على أعدائهم، غير مستترين بدينهم؛ بل يجهرون به ويدعون إليه[1]، إلى أن تقوم الساعة ويأتي أمرُ اللهِ تعالى وهم على حالهم ذاك.
والمراد بأمر الله تعالى: الرِّيحُ الطَّيِّبةُ التي تكون قبْلَ قيام الساعة تَقبض أرواحَ المؤمنين؛
قال ﷺ:
«إن اللهَ يبعَثُ رِيحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»
[2][3].
2- وفي الرواية الأخرى بيَّن ﷺ صفاتِ تلك الطائفة؛ فهي قائمةٌ بأمر الله تعالى؛ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتقضي بشريعة اللهِ، وتنشر العلمَ بين النَّاسِ، وتنصح للمسلمين، وهم المَعْنِيُّون
بقوله سبحانه:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
[آل عمران: 104].
وهذه الطائفة لا يضرُّها التَّفرُّد ومخالفة النَّاس لهم، ولا يضيرهم مَن ترك عونَهم ونَصْرَهم. وفي الحديث إشارةٌ إلى أن وجْهَ الأرض لا يخلو من الصالحين الثابتين على أوامر الله، المتباعِدين عن نواهيه، الحافظين لأمور الشريعة، يستوي عندهم موافقةُ الناس ومخالفتُهم لهم[4]. وهذه الطائفة التي ذكرها النبيُّ ﷺ ليست محصورةً في فئة معينة؛ فمنها الفقهاءُ وأهلُ الحديثِ والزُّهَّاد والمجاهدون وأهلُ كلِّ أنواع الطاعات[5]
اتباع
(1) في الحديث دليلٌ من دلائل نبوته ﷺ؛ إذ أخبر ببقاء هذا الدين، وثبات الصادقين عليه إلى آخر الزمان، وقد وقع ما أخبر ﷺ به. وهذا مما يؤكد صدقَه ويزيدنا إيمانًا إلى إيماننا.
(1) لا تظنَّنَّ أن الإسلامَ يندثر ويضعف إلى أن يتلاشى؛ فدينُ اللهِ ظاهرٌ باقٍ إلى قيام الساعة، واللهُ مُتِمُّ نوره ولو كره الكافرون.
(1) ينبغي على الدُّعاة والمُرَبِّين أن يُبَشِّروا النَّاسَ بما يُثبتهم ويبثُّ الأمل في قلوبهم، كما يحذرونهم وينذرونهم، فيجمعوا بين الترغيب والترهيب والبشارة والنذارة.
(2) احرص على أن تكون من أهل تلك الطائفة المنصورة، فالزم طريق الهدى والدعوة، وإياك وأهل الضلال والبدع.
(2) سيما تلك الطائفة الموعودة التي امتدحها النبيُّ ﷺ أنَّها قائمةٌ بأمرِ اللهِ تعالى، فاعرض ذلك على نفسِك وعملِك؛ هل تكون منهم أم لا؟
(2) لا يضرك غُربة السائرين إلى اللهِ تعالى؛ فأتباع الحقِّ في كل زمانٍ ومكانٍ قلَّةٌ يَمُدُّهم اللهُ بمدده.
(2) المؤمنُ الحقُّ لا يضرُّه معاداة الناس ومخالفتهم له؛ فمقصدُه الأسمى مرضات اللهِ تعالى وإن سخط عليه الناس.
(2) على العاقل الفَطِن أن يلزمَ الصادقين الصالحين في كلِّ زمان ومكان، وأن يَسير على طريقتهم، ويكون لهم عونًا وسنَدًا.
المراجع
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (13/ 294).
- رواه مسلم (117)
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 66).
- مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (9/ 4047)
- شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 67).