فقه:
1- يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الله تعالى قد أحاط الجنَّة بالمكاره التي تثقل على الإنسان، فالإنسان لا يرى الطريق إلى الجنة إلا بشيءٍ من المكاره، كأداء الفرائض التي قد تثقل على النفس لوجوب أدائها، والابتعاد عن المناهي التي قد تثقل على النفس لمخالفتها لشهوات النفس.
2- وأُحيطت النَّارُ بالشهوات التي يحبها الإنسان؛ فالإنسان لا يرى الطريق إلى النار إلا بشيءٍ من الشهوات التي يحبها الإنسان؛ سواء كان شهوات في الرأي، أو شهوات الغضب والقوة، أو في الشهوات بين الرجال والنساء، أو شهوات المال وغيرها، فلولا الشهوات وتسويل الشيطان وغواية النفس بتلك الشهوات لَمَا رغب أحدٌ في سلوك طريق النار.
والمقصود هو الشهوات الَّتي حرَّمها اللهُ تعالى على خلقه، لا ما أباح لهم من الاستمتاع به، كالأكل والشراب الطَّيِّب المباح، والاستمتاع بالزوجة ومِلْكِ اليمين، وملاعبة الأولاد والأهل والتحدث إليهم.
اتباع:
1- تذكر هذه الصورة التي صورها لك رسول الله ﷺ ليسهل عليك سلوك طريق الجنة، وتجنب طريق النار، فكلما استثقلت طاعة أو ترك شهوة فتذكر أن وراءها الجنة، وكلما استحليت شهوة محرمة فتذكر أن وراءها النار.
2- وطِّن نفسك على أن للجنة ثمناً، فهي تطلب فعل الفرائض ولو ثقلت، وترك المحرّمات ولو اشتهيت ..، فالعاقل يوطن نفسه أن يقطع وقتَه كلَّ حينٍ لأداء صلاةٍ من الصلوات، ولو مع اشتداد البرد أو الحر، أو لذة النوم لصلاة الفجر، أو غيرها، قال تعالى:
﴿وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخاشِعِينَ﴾
[البقرة: 45]
وكذلك يبذل المال المحبوب عن طيب نفسٍ للفقراء والمحتاجين، وكذلك الصيام والحج، وبر الوالدين، وسائر الفرائض، ويترك التسلط على دماء الناس وأموالهم، والزنا ومقدماته، وشُرب المُسكرات، وسائر المنهيات..
ويدخل في المكاره: الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، وجميع أعمال الخير[1].
3- من صبر على شيء في الدنيا لأمر الله تعالى عوضه الله من جنسه ما هو خير منه يوم القيامة، فيجنبه الله تعالى مكاره النار، ويرزقه ما تشتهيه الأنفس في الجنة.
4- الفائز من باع دنياه بآخرته، والخاسر من باع آخرته بدنياه.
5- لا تنال مكارم الدنيا والآخرة إلا بالمكاره، فالنعيم لا يدرك بالنعيم، وفي الحديث بيان أن العبد يحتاج في الحياة الدنيا إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلا مَن لا نَفْسَ له [2].
6- قال ابن القيم - رحمه الله-: " ادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيَّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه"[3].
7- لمَّا انطلقت شرارة الحربِ يوم بدر، حفَّز النبيُّ ﷺ أصحابَه إلى القتال، وقال:
«قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، فقال عُمَيْرُ بنُ الحُمَام الأنصاري : بَخٍ بَخٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟» قَالَ: لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا، قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنَ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ.
فانظر وتأسَّ: كيف اشترى الجنَّة بالجهاد في سبيلِ الله، وهو كما قال الله تعالى:
﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾
[البقرة: 216]
وآثر نعيمَ الجَنَّةِ الخالدةِ على متاع الحياة الدنيا الزائل الزائف.
8- قال الشاعر:
وَإِنَّ جِنَانَ الخُلْدِ تَبْقَى وَمَنْ بِهَا = مُقِيْمًا عَلَى طُوْلِ الْمَدَى لَيْسَ يَرْحَلُ
أُعِدَّتْ لِمَنْ يَخْشَى الإِلَهَ وَيَتَّقِي = وَمَاتَ عَلَى التَّوحِيدِ فَهْوَ مُهَلَّلُ
9- وقال غيره:
إِذَا أَذْكَرَتْكَ النَّفْسُ دُنْيَا دَنِيَّةً = فَلا تَنْسَ رَوْضَاتِ الْجِنَانِ وَخُلْدَهَا
أَلَسْتَ تَرَى الدُّنْيَا وَتَنْغَيِصَ عَيْشِهَا = وَإِتْعَابَها لِلمُكْثِرِين وَكَدَّهَا
وَأَدْنَى بَنِي الدُّنْيَا إِلَى الغَيِّ وَالعَمَى = لَمَنْ يَبْتَغِي مِنْهَا سَنَاهَا وَمَجْدَهَا
هَوَى النَّفْسِ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَنْ تَغُولَهَا = كَمَا غَالَتِ الدُّنْيَا أَبَاهَا وَجَدَّهَا
المراجع
- شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
فقه:
1- يسأل الصحابيُّ النبيَّ ﷺ عن قولٍ جامعٍ لمعاني الإسلام، بحيث يكون واضحًا في نفسه، فلا يحتاج إلى الاستفسار، بل يأخذه فيعمل به ويعكف عليه.
2- فأجابه النبيُّ ﷺ إلى ذلك، وأرشده إلى أن يقول: آمنتُ باللهِ، يقول ذلك بلسانه مؤمنًا بقلبه عاملًا بمقتضاها بجوارحه، فلا يأتي بما يخالف قولَه ذلك من القول أو الفعل أو الاعتقاد. ثم أمره بأن يستقيم على ذلك، فلا يفعل معصيةً ولا يترك طاعةً.
وهذه النصيحةُ نظير قوله سبحانه:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ}
[فصلت: 30، 31]
والاستقامة في ذاتها أمرٌ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن كافَّة النواهي؛ فإن العبد لو تَرَك أمرًا، أو اقترف مَنهيًّا عنه، لم يَكُ مستقيمًا[1].
وقد كثُرت عبارات الصحابة في تعريف الاستقامة، وهي تحومُ جميعًا حولَ معنًى واحد؛ قال أبو بكر الصديق: "الاستقامة: ألَّا تُشركَ بالله شيئًا". يريد الاستقامة على محضِ التوحيد. وقال عمرُ بنُ الخطَّاب : "الاستقامة: أن تستقيمَ على الأمر والنهيِ، ولا تَرُوغَ رَوَغان الثعالب". وقال عثمانُ بنُ عفَّانَ: "استقاموا: أخلَصوا العمل لله". وقال عليُّ بنُ أبي طالب ، وابن عبَّاس : "استقاموا: أدَّوُا الفرائضَ". وقال الحسن رحمه الله: «استقاموا على أمر الله، فعَمِلوا بطاعته، واجتنبوا معصيته»[2].
اتباع:
1- (1) ينبغي على العاقل أن يسأل ما يشمل الدين ويَعمُّه، ولا تكون أسئلته فيما لا طائلَ من ورائه[3].
2- (1) إياك أن تستحي من السؤال أو تتكبر عليه؛ فإن العلمَ يضيع بين الكِبر والحياء، وإن أصحاب النبيِّ ﷺ لم يمنعهم شيءٌ عن السؤال.
3- (1) السؤال مفتاحُ العلم، وعلى كلِّ عاقل أن يُبادر بالسؤال عما يجهله من أمور الدين والدنيا، مما يُحقِّق له السعادة والنجاة في العاجل والآجل.
4- (2) من المؤهِّلات الواجب توافرها في الداعية والمربِّي: امتلاكُ القدرة البيانية على صياغة المعاني الكثيرة في كلمات سهلة وقليلة؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ؛ حتى لا يَكثُر الكلام على المدعوِّين فينسوا أو يسيئوا فهمه.
5- (2) الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن؛ فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميِّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضًا وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل، ولا صحَّة للحال بدونها[4].
6- (2) من اللائق التعبير بالاستقامة، فيقال: فلانٌ مستقيمٌ، ولا يقال: ملتزمٌ؛ لأن الاستقامة هي اللفظ القرآنيُّ، ولأن الالتزام يعني لزومَ أمرٍ معيَّن، سواءٌ كان صالحًا، أم فاسدًا[5].
7- (2) لا ينافي الاستقامة الوقوع في الخطأ والزلل واتباع خطوات الشيطان ثم التوبة إلى اللهِ تعالى؛ فإن الاستقامة أمرُها عسيرٌ، ولهذا قال تعالى:
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}
[فصلت: 6]
أي استقيموا واستغفروا عمَّا خالف الاستقامة.
8- (2) الاستقامة شاملةٌ لكل جوانب الحياة: في الاعتقاد والعبادات والمعاملات والأخلاق وغيرها؛ ففي الاعتقاد أن يستقيم العبدُ على الإيمان بالله تعالى وتوحيده، ونبذ الشرك والبدع والضلالات، وفي العبادات لزوم المأمور والبعد عن المحظور، وفي الأخلاق تحري الصفات الطيبة ومعاملة الناس بالأخلاق الحسنة المحمودة والبعد عن الأخلاق السيئة المذمومة، وفي المعاملات تحري الكسب الطيب، وعدم الغش والظلم والخيانة.
9- قال الشاعر:
اسْتَقِمْ فالحياةُ لا تَسْتَقِيمُ = طالما أنتَ في الضلال مُقِيمُ
استقِمْ لا تُقِمْ على الشَّرِّ إن كنْـ = ـتَ حكيمًا فالشَّرُّ رأيٌ سَقِيمُ
استقِمْ إن تُرِدْ مَقامًا رفيعًا = كيف يُعطي الثِّمارَ فكرٌ عَقِيمُ؟!
استقِمْ يَسْتَقِمْ لك الدِّينُ والدُّنْـ = ـيَا وتَظْفَرْ بالْمَجْدِ وهْوَ عَظِيمُ
استقِمْ فَاسِتَقَامَةُ الْمَرْءِ عُنْوَا = نٌ على أنه حَصِيفٌ حَكِيمُ
المراجع
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 457).
- انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 508).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 213).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 106).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 214).
فقه:
1- يُنَبِّهُ النبيُّ ﷺ أُمَّتَه إلى أنَّ العبد لا بدَّ أن يُسأل عن أربعة أمور بين يدي الله تعالى، فعليه أن يَستعدَّ لتلك الأسئلة، وأن يُعِدَّ للسؤال جوابًا. ومِن رَحمته سبحانه أنَّه لم يجعل تلك الأسئلة مُبهَمةً لا يعلمها أحدٌ، بل بيَّنَها وأخبر بها النبيُّ ﷺ.
2- وأوَّلُ تلك الأسئلة أن يُسأل عن عُمُره الذي عمَّره اللهَ تعالى في الأرضِ، كيف قضاه وفِيم ضيَّعه؟ أفي طاعةِ اللهِ تعالى أم في معاصِيه؟ ولهذا حرَص النبيُّ ﷺ على توجيهِ أُمتِه إلى اغتنام عُمرها بقولِه لابنِ عباسٍ رضي الله عنهما:
«اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[1].
3- ثُمَّ يَسأله جلَّ وعلا عن عِلمه – إن كان من أهل العلم -؛ هل تعلَّم ذلك العلمَ مخلِصًا لله تعالى أم رياءً وسُمعةً فيكون مَن أوَّل مَن يُقضى فيه يوم القيامة؛ ففي الحديث:
«وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[2].
وهل نشَر ذلك العلم وصَدَق فيه أم كَتَمَه ودلَّس في إبلاغه وكذَب على النَّاس يَبتغي رِضا بعضِهم به؟ وهل عَمِلَ بما عَلِم أم خالَفه بفِعله فدخَل في قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[البقرة: 44]
وقوله عزَّ وجلَّ:
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
[الصف: 3]
4- وثالث الأسئلة أن يُسأل العبدُ عن ماله؛ مِن أين اكتسَبه وأتى به، أمِن حلالٍ أم حرام، وفِيم أنفقه؟ هل سخَّرها في الطاعة وخِدمة الإسلام أم ضيَّعها على المعاصي والشهواتِ والذُّنوب؟
5- وآخِرُ تلك الأسئلة أن يُسأل المرءُ عن جِسمه وقوته وصحَّته وشَبابه؛ كيف أبلاها وفي أيِّ الأبواب استعمَلها.
وليس معنى الحديث أنَّ العبدَ لا يُسأل عن غير تلك الأمور، بل إنَّه سبحانه سيُحاسِب كلَّ عبدٍ على ما قدَّم من الأعمال والأقوال، إلَّا أنَّ تلك الأسئلة أهمُّ ما يُسأل عنه العبدُ، وتَنتظِمُ تحتها جميعُ الأسئلة الأُخرى.
اتباع:
1- (1) على العبد أن يسارِع في الاستعداد لتلك الأسئلة التي يُسأل عنها بين يدَي الله تعالى؛ فالشقيُّ مَن عرَف السؤال ولم يَستعِد له بالجواب.
2- (1) يَدخل بعضُ المؤمنين الجنَّة بغير حسابٍ، فلا يُسألون ولا يَقِفون بين يدَي ربهم للسؤال؛
قال ﷺ:
«يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَسْتَرْقُونَ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»[3].
فما أعظمَ دخول الجنة، وأعظم منه دخولها بغير حسابٍ! فالحرصَ الحرصَ على أن نكون من هؤلاء.
3- (1) قال الفُضَيل بن عِياضٍ رحمه الله لرجلٍ: كمْ أتتْ عليك؟ قال: سِتون سنةً، قال: فأنت منذ سِتين سنةً تَسير إلى ربك، يُوشِك أن تَبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون! فقال الفُضيل: أتعرِف تفسيرَه؟ تقول: أنا لله عبدٌ وإليه راجعٌ، فمَن عَلم أنه لله عبدٌ، وأنه إليه راجعٌ، فلْيَعلَم أنه موقوفٌ، ومَن عَلم أنه موقوفٌ، فلْيَعلم أنه مسؤولٌ، ومَن عَلم أنه مسؤول، فلْيُعِد للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحِيلة؟ قال: يسيرةٌ، قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مَضَى؛ فإنك إن أسأتَ فيما بَقِي، أُخِذْتَ بما مَضَى وبما بَقِي[4].
4- (2) عُمر الإنسان أهمُّ شيءٍ يملِكه؛ فإنَّما هو أيامٌ معدودةٌ وساعاتٌ محسوبةٌ. فينبغي على العبد أن يعرِف قيمةَ وقته، وأن يَغتنم ساعاتِه في طاعة الله تعالى؛ فإن الله سائلُه يوم القيامة عن حياتِه كلِّها، فإنْ أدَّى ما عليه من الفرائض والطاعات، نَجا وسَلِم، وإنْ لم يفعل ذلك، هَلَك وخَسِر.
5- (2) احرِص على اغتنام وقتِك في الطاعات وتحصيلِ أعلى الدرجات؛ قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ترحَّلت مُدبِرةً، وإن الآخرةَ قد ترحَّلت مقبِلةً، ولكلٍّ منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تَكونوا مِن أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عملٌ ولا حسابَ، وغدًا حسابٌ ولا عملَ"[5].
6- (3) العلم حُجَّةٌ على صاحبه؛ فربما اعتذَر الجاهل بالجهْل، ولا عُذرَ لعالِمٍ عرَف حُكمَ اللهِ تعالى وخالَفه متبِعًا هواه.
7- (3) زكاةُ العلمِ نشرُه وتعليمُه للنَّاس، وكَتمُ العلمِ كبيرةٌ من الكبائر توعَّد اللهُ تعالى عليها بأقصى العقوبات؛ قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}
[البقرة: 159]
وقال ﷺ:
«مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[6].
8- (4) أمرُ المال عند اللهِ سبحانه عظيمٌ، ولهذا سَأل عن العُمر والعلم والجسم سؤالًا سؤالًا، وسأل عن المالِ سؤالين؛ مِن أين أتى به، وكيف أنفَقه؟ فعلى العبد أن يَتحرَّى في ماله؛ فلا يَأخذ المال إلا مِن حلال، ولا يُنفِقه إلا في حلال.
9- (4) اشتدَّ حِرصُ الصحابة رضوان الله عليهم على تحرِّي الأكل من الحلال وترْكِ الحرام وما فيه شُبهة، فأبو بكرٍ الصدِّيقُ أكل يومًا من طعامٍ جاء به غلامُه، فلما أكل أخبره الغلام أنَّ هذا الطعام جاء به رجلٌ كان قد تَكهَّن له الغلامُ في الجاهلية، وهو لا يُحسِن الكهانةَ، غير أنَّه خدَعه، فصادف ذلك قضاءَ اللهِ تعالى، فجاء الرجل بالطعامِ جائزةً للغلام، فأدخَل أبو بكر يده في فَمِه حتى قاء ما في بطنِه[7].
10- (5) جسدُك أمانةٌ استَودَعها اللهُ تعالى عندك، فاحفَظْها بطاعة الله تعالى والتَّقَرُّب إليه، وامنَعْها عن مَوارد الهَلَكة والعصيان.
11- قال الشاعر:
نَلْهُو ونَأْمُل آمَالًا نُسَرُّ بها = شَرِيعةُ الموتِ تَطْوِينا وتَطْوِيها
فاغْرِسْ أُصُولَ التُّقَى ما دُمْتَ مُقْتَدِرًا = واعلَمْ بأنَّكَ بعدَ الموتِ لاقِيها
تَجْنِي الثِّمَارَ غَدًا في دارِ مَكْرُمةٍ = لا مَنَّ فيها ولا التَّكْدِيرُ يأتِيها
المراجع
- رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846).
- رواه مسلم (1905).
- رواه البخاري (6472)، ومسلم (220)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
- " جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 383).
- "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 71).
- رواه أبو داود (3658)، والترمذي (2649)، وابن ماجه (264).
- رواه البخاري (3842).
فقه:
هذا الحديث من أهم أحاديث الدِّين ؛ حتى قال جماعة من أهل العلم: هذا الحديث ثُلُثُ الإسلام، وإن الإسلام يَدُور عليه وعلى حديث «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»، وحديثِ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه ما لا يَعْنِيه». وقال أبو داود: يَدور الإسلام على أربعة أحاديثَ: أولها حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»[1].
1- يذكر النبيُّ ﷺ في الحديث أنَّ أحكامَ الشريعة ظاهرةٌ واضحةٌ؛ فالحلالُ الذي أحلَّه اللهُ تعالى وأباحه واضحٌ لا اشتباه فيه، وكذا الحرامُ الذي نهى الله تعالى عنه وحظَره ظاهرٌ واضحٌ، لا يخفى على أحدٍ ممن بلغته دعوة الإسلام ودخل فيها.
فمِن الحلال الواضح الأكلُ من الطيِّبات التي أحلَّها الله في كتابه، والاستمتاع بزينة الحياة الدنيا من الزوجات، ولُبْس أنواع الثياب الطاهرة التي أحلَّها اللهُ.
ومن الحرام البَيِّن: الشِّرك بالله وأسبابه ووسائله الموصلة إليه، وأكل النجاسات والميتة والخنزير، وشُرب المسكرات، وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، ونحو ذلك.
2- وبيْن تلك المرتبتينِ من الحلال الواضح والحرام الواضح أمورٌ تشتبه على كثيرٍ من النَّاس، فلا يَدْرون أهي من الحلال أم من الحرام. وليس ذلك لأنَّ الشرع لم يبينها ؛ فإنَّ الله تعالى قد أرسلَ نبيَّه ﷺ ليُبَيِّنَ أحكام الشرع بيانًا تامًّا
قال تعالى:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
[المائدة: 3]
وإنما قد يغيب حُكمُها عن كثيرٍ من النَّاسِ؛ لنقص علمهم، وقد تغيب عن بعض أهل العلم لأمر عارضٍ عليهم، لكن يبقى من أهل العلم من اتَّضح لديهم حكمُها بدليلها من الكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ[2].
3- فمَن اجتنب تلك الأمور المشتَبِه في حُكمها وتورَّع عنها، حصلت له البراءة لدِينه، فسَلِم من الذَّمِّ والعقوبة، ولعِرْضِه فكفَّ ألسنةَ الناس عن الطعن فيه.
والورع هو من هذا، فالورع اتِّقاء الشُّبهات وترك ما يُخشى ضررُه في الآخرة ، وأما الزُّهد فهو تركُ التعلق بما ينقص الدرجة في الآخرة وإن كان مباحًا [3]؛ فالزُّهد مرتبةٌ لا تجب وهي مرتبة أعلى، والورعُ حَقٌّ على كل مسلِم.
4- ومَن اقترف تلك الأمور وخاض فيها، ولم يتورَّع عنها، أفضى به استخفافُه ذلك إلى ارتكاب المُحَرَّمات؛ فإنه يَعتاد التساهل ويَألْفَه حتى يتجاسَر على الشُّبهات، ثم يقع في الحرام، عمدًا أو جهلًا[4]. كما أنَّ الراعي إذا رعى ماشيته وأغنامه حول الحِمَى - وهو ما يحميه الملِكُ من الأرض فيمنع الناسَ من دخوله بغير إذن، ومَن اقتحمه عاقبه – يوشِك أن تَنزِله بهائمُه وتأكل فيه؛ لأنه قد تَنفرِد الفاذَّة وتَشِذُّ الشاذَّة، ولا ينضبط، وربما استَهْوته نفسه وسوَّل له الشيطانُ دخولَه، فكما أن الراعيَ إذا جرَّه رعيُه حول الحِمى إلى وقوعه، استحقَّ العقاب لذلك؛ فكذا مَن أكثَرَ من الشُّبهات وتعرَّض لمقدِّماتها، وقعَ في الحرام؛ فاستحقَّ العقاب[5].
5- فكما أنَّ لكل مَلِكٍ حِمًى يحميه ويحظر على النَّاس دخوله، ويعاقِب من خالَف أمره؛ فلله تعالى المثل الأعلى، وحِمَاهُ التي حرَّمها على خلْقه محارِمُه، وهي الكفر والمعاصي، مَن دخلَه بارتكابه شيئًا من المعاصي استحقَّ العقوبة، ومَن قاربَه يوشكُ أن يَقع فيه، ومَن احتاط لنفْسه ولم يقاربْه فلا يتعلَّق بشيء يقرِّبه من المعصية، ولا يَدخل في شيء من الشُّبهات[6].
6- ثُمَّ أخبر ﷺ أنَّ في الجسد قطعةً صغيرةً من اللحم بقدْر ما يَمضُغه الإنسان في فمِه، وهي القلب، وهذا القلب الحسي له علاقة وارتباط بالقلب المعنوي الذي يكون فيه الإيمان، ويحصل فيه الصلاح أو الفساد.
7- إذا صلَحت واستقامت أحوال القلب صلَح حال الإنسان وسائر جسده، وإذا فسَدت فسَد؛ فإنَّ الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإذا طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده [7].
والقلبُ الصالح هو الذي امتلأ بحُبِّ اللهِ تعالى وتوحيده، وسَلِم عن جميع ما يَكرهه اللهُ تعالى، فيُحِبُّ ما يرضاه الله تعالى ويحبه، ويَكرهُ ما يَكرهُ سبحانه ويأباه. والقلب الفاسد على الضِّدِّ من ذلك[8].
وقد جعلَ اللهُ سبحانه في القلب مُستقرًّا للإيمان والكفر
فقال سبحانه:
{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}
[الحجرات: 7]
وقال عز وجل:
{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}
[الكهف: 28]
اتباع:
1- (1) بيَّن اللهُ لعباده جميع الأحكام الشرعية؛ فعلى العبدِ أن يتعلَّم تلك الأحكام من أهل العلم، ويستفتيهم فيما غاب عنه، وليس له عُذرٌ في ارتكاب المحرَّمات دون أن يسأل أهل العلم ويستشيرهم.
2- (1) أتمَّ اللهُ على عباده نِعمته بإكمال الدِّين وبيان الحلالِ والحرامِ، فلا يَتنطَّع متنطِّعٌ ويزعم أنَّ أحكام الشرع لا تَستوفي الدينَ كُلَّه.
3- (1) على العُلماء والدُّعاة أن يحققوا بيان الحلال والحرام، بأن يُعلِّموا الناسَ أحكامَ الشريعةِ، ويُفتونهم فيما يطرأ عليهم ويَستجِد من الأحكام والمعاملات.
4- (2) في الحديث بيان فضل العُلماء، فهُم الذين يعلمون مُشتبِهات الأمور دون سائر الناس، فمن أراد أن يلتحق بذاك الصِّنف فلْيَحرِص على طلب العلم والجدِّ في تحصيله.
5- (2) اشتباه تلك الأمور هو بسبب جهل أكثر النَّاس بأحكامها وأدلتها؛ فبعض الأحكام تشتهر عند كثيرٍ من الناس، وبعضها الآخر يخفى إلا على خواصِّ النَّاس من أهل العلم والدِّين؛ فلا يظنَّنَّ أحدٌ قُصورًا في إيصال دِين الله تعالى إلى البشر.
6- (2) الواجب على المسلم إذا بادره أمرٌ يَجهل حُكمَه أن يسارع بسؤال أهل العلم؛ فهم الذين عَلِموا الأحكام الشرعية وأدلتها التفصيلية.
7- (3) يجب على المسلم أن يَبتعد عن الشُّبهات حفاظًا على دِينه وعِرضه.
8- (3) على المسلم أن يحفظ عِرضَه من خَوض النَّاس فيه وإن كان تقيًّا نقيًّا.
9- (3) اتِّقاء الشبهات امتثالٌ كذلك لقول النبيِّ ﷺ:
«دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ»[9].
10- (4) مَن لم يتَّقِ الله وتجرَّأ على الشُّبهات، أفضَت به إلى المحرَّمات، ويَحمِله التساهل في أمرها على الجُرأة على الحرام؛ كما قال بعضهم: الصغيرة تجرُّ الكبيرة، والكبيرةُ تجرُّ الكُفْرَ، وكما رُوِي: المعاصي بَرِيد الكُفر[10]؛ فالورعَ الورعَ عن الشُّبُهات حتى لا ننجرفَ في تيار المعاصي والكبائر.
11- (4) إدمان المباحات والعُكوف عليها يبعث الإنسان على اقتراف المُحَرَّمات شيئًا فشيئًا؛ فعلى العبدِ أن يهتمَّ بالعبادةِ، ويحرِص على الإكثار من النوافل والعبادات ولا ينخرِط في سلك المباحات ووسائل اللهو.
12- (4) الشيطان لا يُوَسوِس للعبدِ أن يأتي الكبائرَ أو الكفرَ دفعةً واحدةً، بل يُزَيِّنُ له ذلك شيئًا فشيئًا، فيُسَوِّل له الغفلة بالمباحات، ثم يُلجئه إلى الشُّبُهات والمكروهات، حتى إذا أدْمَن ذلك لم يَصعُب عليه أن يَجرُؤ على حدود الله ومحارمه. فالحذرَ من وساوس الشيطان ومَكْره، وتراجع من أول الطريق.
13- (4)، (5) استخدم النبيُّ ﷺ التصويرات والتشبيهات التي تبيِّن المعاني وتؤكدها وتقربها، وذلك بتشبيه الذي وقع في الشبهات بالذي يرعى حول الحمى، وبضرب المثل على عقوبة الواقع في الحُرُمات بعقوبة المنتهك لِحمى الملوك في الدنيا؛ فعلَى الداعية والمُرَبِّي أن يقرب المعاني إلى الأفهام بضرب الأمثال واستخدام الوسائل البلاغية.
14- (6) الاهتمام بتصحيح القلب والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون؛ فإن القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، وتَكتسِب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يريد؛ فهو مَلِكُها وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به[11].
15- (6) لا تحسن الظن بباطنك وقد ساء ظاهرك، فقد دلَّ الحديث على أنَّ صلاح الباطن يستلزم صلاح الظاهر، فإذا صلح القلب وجب أن تعمل بذلك الجوارح؛ فليس صالحَ القلبِ مَن أساء العمل وأطلق جوارحه للحرام وانتهك حدودَ الله تعالى.
المراجع
- "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 27).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق (44)، و"شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
- ينظر بسياق آخر: "الفوائد" لابن القيم (ص: 181).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/194)، و"إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (4/7).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 229).
- رواه الترمذي (2518)، والنسائي (5711)، عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1/ 44).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
فقه:
1- أخذ النبيُّ ﷺ بمَنْكِبِ -وهو ما بين الكتف والعَضُد- ابنِ عمر رضي الله عنهما، موصيًا له بالزُّهد في الدُّنيا، وأن يكون فيها كالذي عاش في غير أهله وبلده، ولا يعبأُ بصُحبةِ أحدٍ، ولا يتَّخِذَ سكنًا ولا يبني قصرًا، ولا يحمل لأحدٍ حقدًا أو غِلًّا؛ فإنَّ هَمَّه الوحيد هو التزوُّد للرجوع إلى الوطن، فكذلك ينبغي أن يكون المسلمُ في الدُّنيا؛ فهي دارُ غُربته التي لا يهتمُّ فيها إلا بالتزوُّدِ للآخرة حيث وطنُه الأوَّل، وهي الجنَّة.
2- ولمَّا كان الغريبُ يقيمُ مُدَّةً في ديار الغُربة ويسكنها، ويَلتمِس العلاقات مع أهلها، ارتقى النبيُّ ﷺ إلى مرتبةٍ أعلى في الزُّهد في الدُّنيا، وهي أن يكون كالمسافر المار بطريق ؛ فعابرُ السَّبيلِ لا يَتوقفُ عن سَيْرِه إلا للتزوُّد والراحة، لا يأنسُ بحبيبٍ ولا يَميل لصاحبٍ ولا يطمع في إقامة، فكذا المسلم، ينبغي ألَّا تَشغله الدُّنيا وما فيها عن رحلته إلى وطنه.
3- وكان ابنُ عمر رضي الله عنهما يَعِظ النَّاس ويُحذِّرهم من طول الأمل وعدم الاستعداد للموت، فينبغي على الإنسان أن يَضِع الموت نُصب عينيه كأنَّه لن تمر عليه ساعاتٌ معدودةٌ، فإذا أمسى عَمِل للآخرة كأنه يموت قبل أن يطلع الصبح، وإذا أصبح أيقنَ أنَّه لن يأتي عليه الليل، فمَن تهيَّأ لهذا عَمِل لآخرته وترك شهوات الدُّنيا وزيناتها، كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله حين سُئل: أيُّ شيءٍ الزُّهْدُ في الدنيا؟ قال: قِصَرُ الأمل، مَن إذا أصبح قال: لا أُمسي[1].
وطول الأمل رأسُ كُلِّ بَلِيَّة؛ فإبليس حين وَسْوَس لآدم وحواء الأكل من الشجرة أغواهما بالمُلك والخلود
قال تعالى:
{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}
[طه: 120]
كذلك فالإنسانُ لا يظلِم أخاه ولا يأكل حقَّه إلا بدافعِ الاغتراف مِن كنوز الدنيا والتنعُّم فيها.
4- وكان يَعِظهم أيضًا بأن يغتنموا أوقات العافية قبل أن يمنعهم المرضُ والشُّغل عن العمل الصالح؛ فإنَّ الصِّحَّةَ من أعظم النِّعَم التي يغفُل الإنسانُ عن استغلالها
ولهذا قال ﷺ:
«نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالفَرَاغُ»[2].
5- وبأن يعملوا للآخرة قبل أن يَفجأَهم الموتُ فينقطع العملُ وتعظُم الحسرات، ويصرخُ العبدُ:
{رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}
[المؤمنون: 99، 100]
ونصيحة ابن عمر رضي الله عنهما معتمِدةٌ على كلام النبيِّ ﷺ السَّابِق، ومُستنبَطة من قوله ﷺ لِرَجُلٍ وهو يَعِظُه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[3].
اتباع:
1- (1) في الحديث بيان اهتمام النبيِّ ﷺ بتربيةِ الصِّغار وتعليمهم أحكام الدين ووعظهم بالزهد في الدُّنيا. فلا يغفُل الدعاةُ والمُرَبُّون ذلك.
2- (1) ينبغي على الدُّعاة تربيةُ النَّشْء على إيثار الآخرة والعمل لها، وعدم الالتفات إلى زينة الدنيا ومتاعها.
3- (1) أمسك النبيُّ ﷺ بمَنكِب ابن عمر رضي الله عنهما ليجذب انتباهه وحواسَّه؛ فعلى العلماء والدعاة استعمال أمثال تلك الأساليب المُشَوِّقة في استمالة القلوب والأسماع.
4- (1) كان عطاءٌ السُّلَيْميُّ يقول في دعائه: "اللَّهمَّ ارحم في الدُّنيا غُربتي، وارحم في القبر وَحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يَدَيك"[4].
5- (1)، (2) ضرب النبيُّ ﷺ مثلاً لحالِ المسلم بالغريب وعابر السبيل، وضرب الأمثال واستعمال الأساليب البيانية والتشبيهات مما يُقرِّب المعاني ويوضِّحها للأفهام. فلا ينبغي لمن يُعَلِّم ويُوَجِّه ترك استعمال مثل هذه الأساليب.
6- (1)، (2) في الحديث بيان أن الله تعالى كتب على الدنيا الفناءَ والزوال، فلا يحياها المؤمنُ إلا ليتزوَّد منها لدار البقاء في الآخرة، فمَن ركن إلى الدنيا، واطمأنَّ إليها، خَسِر آخرتَه.
7- (1)، (2) كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: "ارتحلت الدنيا مدبِرةً، وارتحلت الآخرةُ مُقبِلةً، ولكلِّ واحدة منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل[5].
8- ليس معنى الحديث تَرْكَ السعي للرزق، وتحريم ملذَّات الدنيا؛ لأن أفعالَ النبيِّ ﷺ وصحابته الكرام تَنفي هذا.
9- (3) سِر دائمًا، ولا تَفتُر عن السَّير ساعةً؛ فإنك إن قصَّرت في السَّير، انقطعتَ عن المقصود، وهَلَكْتَ في تلك الأودية[6].
10- (3) كان السَّلفُ أكثر النَّاس استعدادًا للآخرة؛ قيل لمحمَّدِ بنِ واسع -رحمه الله-: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنُّكَ برجل يَرتحل كلَّ يوم مرحلةً إلى الآخرة؟![7] وقال الحسن البصري -رحمه الله-:: إنَّما أنت أيَّام مجموعة، كلَّما مضى يومٌ، مضى بعضك[8].
11- (4) ينبغي للمسلم أن يبادر إلى فعل الخيرات ما استطاع، وأن يستثمر فرصة صحته وفراغه وحياته، يعمل حسابَ النوائب والأمراض والشواغل التي قد تشغله لاحقًا عن الطاعات.
12- كتب الأوزاعيُّ -رحمه الله- إلى أخ له: أمّا بعدُ، فقد أُحيط بك من كلِّ جانب، واعلم أنَّه يُسار بك في كلِّ يوم وليلة، فاحذر اللهَ والمَقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسَّلام"[9].
13- قال الفُضيل بن عياض -رحمه الله-: لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستُّون سنةً، قال: فأنت منذ ستّين سنةً تسير إلى ربِّك يوشِك أن تبلغ، فقال الرَّجل: إنَّا لله وإنَّا إليه راجِعون، فقال الفضيل: أتعرِف تفسيره؟ تقول: أنا لله عبد وإليه راجع، فمَن علم أنَّه لله عبد، وأنَّه إليه راجع، فلْيَعلم أنَّه موقوف، ومَن عَلم أنَّه موقوف، فليعلم أنَّه مسؤول، ومن عَلم أنَّه مسؤول، فليُعِدَّ للسُّؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يَسيرة، قال: ما هي؟ قال: تُحسِن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مَضَى، فإنَّك إنْ أسأتَ فيما بَقِيَ، أُخذت بما مَضَى وبما بَقِيَ[10].
14- كان رواي الحديث: ابن عمر رضي الله عنهما ممن يطبق هذا الحديث، قال طاووس: ما رأيت رجلاً أورع من ابن عمر[11]، وعن نافع أن ابن عمر اشتهى عنبًا وهو مريض، قال: فاشتريتُ له عنقودًا بدرهم، فجئتُ به فوضعتُه في يده، فجاء سائل فقام على الباب فسأل، فقال ابن عمر: ادفعه إليه. قال: قلت: كُل منه، ذقه. قال: لا، ادفعه إليه. قال: فدفعتُه إليه، ثم اشتريتُه منه بدرهم، فجئتُ به إليه فوضعتُه في يده، فعاد السائل، فقال ابن عمر: ادفعه إليه. قلتُ: ذقه، كُل منه. قال: ادفعه إليه. قال: فدفعتُه إليه ثم اشتريتُه منه بدرهم، فجئتُ به إليه فوضعتُه في يده، فعاد السائل، فقال لي: ادفعه إليه. قال: قلتُ: كُل منه، ذقه. قال: ادفعه إليه، قال: فدفعتُه إليه وقلت: ويحك ما تستحيي؟ فاشتريته منه بدرهم، فذهبت فجئت به إليه فأكله[12].
15- أكرهم إقبالاً على الله تعالى ىأعلمه قال إلَّا في الرابعة، شك يزيد- قال: فاشتريته منه بدرهم، فذهبت فجئت به إليه فأكله
16- قال الشاعر:
نَسِيرُ إِلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ = وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ = إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا = فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ؟!
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى = فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 386).
- رواه البخاري (6412).
- رواه ابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (111)، والحاكم في المستدرك (7846).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
- رواه البخاريُّ (8/89).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (4/ 1364).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382- 384).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 383).
- "الزهد" لأحمد (240).
- "الزهد" لأحمد (237).
فقه:
1- من أراد الله له تعالى الخير العظيم في الدنيا والآخرة؛ يسر له حسن الفهم لأحكام الإسلام، وأوامره، ونواهيه، ومقاصده، ويزداد ذلك بما يعلمه من معرفة المسائل بأدلتها، والنظر في الآيات والأحاديث والآثار، وتعلُّم أصول العلوم المساعدة على فهمها، والاجتهاد لمعرفة الصواب.
ومفهومُ الحديث أن مَن لم يتفقَّهْ في الدين فقد حُرِم الخيرَ[1]، وإنما خصَّ عِلمَ الدين بالذِّكر دونَ سائر العلوم؛ لأنه أشرفُها، فهو الموصِّلُ إلى الله، وبه تكون عبادتُه وطاعته واجتنابُ نواهيه، ومِن ثَمَّ مصالح الدنيا والآخرة، والنجاة من مهالكهما، وسائر العلوم هي تبعٌ وخدَمٌ لعلوم الدِّين، وقاصرةٌ دونها[2].
2- ثمَّ بيَّن ﷺ أنَّه خازنٌ يتولى قسمة ما أعطاه الله تعالى، سواءً كان عطاءَ المال والرزق أو عطاءَ العلم.
فمعنى أنه ﷺ قاسمٌ في العلم أنه يُبلِّغ ما أُمر ببلاغه، دون أن يبخس أحدًا منه، وأن الفَهْم والفقه إنما هو هِبةٌ وعطاء من الله عزَّ وجلَّ على ما أراد بحكمته.
3- ثم بشَّر ﷺ أُمَّته أن الله تعالى سيجعلها مستمرةً في كل زمنٍ على دينها، وناصرة له، محفوظة من هلكتها بأيدي أعدائها، لا ينقص درجتها عند الله تعالى، مهما خالفها العدو بحرب فكرية أو عسكرية.
ويكفي في تحقق ذلك بقاء طائفة من الأمة على ذلك، وأما بعض الأمة فقد يتخلى عن القيام عن بعض أمر الله تعالى.
4- ويستمر قيام هذه الأمة إلى آخر الزمان، ولعل المراد به ما في حديث أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ قال:
«إن اللهَ يبعثُ ريحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[3].
فالساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق.
اتباع:
1- إذا أردت الخير فاطلبه في مظانه، وذلك فيما أرشدك إليه رسول الله ﷺ ، فاللهُ هو الذي يعلم أين الخيرُ وييسره لمن أراد، وهو الفقه في دين الله تعالى.
2- ليكن له بحث دائمٌ عن طرق الفقه في الدين، فالباحث عنها باحثٌ عن الخير في الدنيا والآخرة.
3- اطلب كمال الفقه عند أصحاب رسول الله ﷺ، فهذا ابن عباس رضي الله عنهما -وهو دون الخلفاء الراشدين- كان ممن دعا النبيُّ ﷺ له حين وضع له ماءً لوضوئه، فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [4].
4- تقويم الناسِ يكون بمقدار ما ظهر عليهم من الخير، والفقهُ في الدين وظهورُ آثاره هو من أعظم ما يوزن به الناس: عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، فقال: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ فقال: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [5].
5- التفقُّه فعل مستمر، وفي كل تفقُّهٍ جديد خيرٌ مزيد، ولم يأَمَر اللهُ نبيَّه ﷺ أن يطلب الزيادة إلا في العلم فقال:
﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾
[طه: 114]
فلا تقف في العلم على حدٍّ معين، أو عُمُر معين.
6- كان النبيُّ ﷺ قائمًا على الناس بمصالحهم في العلم والمال ونحوهما، فكلُّ من ولّاه تعالى إرثًا من إرثِ النبي ﷺ بالمسؤولية على علم أو مال فليعلم أنه مجرد قاسم لما أعطاه الله تعالى، فلا يغترَّ، ولا يقصِّر، وليقسم على ما أراده الله تعالى.
7- لا تخف على دين الله تعالى، ولا تحزن لما يصيب هذه الأمة مما قدره الله تعالى من العوارض في أمر دينها ودنياها، فلا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على دين الله ونصرته، لا يضرها المخالف وهو استعمل يده وفكره في حربها، فكن من تلك الفئة الخاصة عند ربها.
8- قال الشاعر:
العلمُ مُبلِغُ قومٍ ذِرْوَةَ الشَّرَفِ = وصاحبُ العِلْمِ محفوظٌ من التَّلَفِ
يا صاحبَ العِلْمِ مَهْلًا لا تُدَنِّسُه = بالْمُوبقاتِ فما للعلمِ من خَلَفِ
العلمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمَادَ لهُ = والجهلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العزِّ والشَّرَفِ
المراجع
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 163- 164).
- انظر: "شرح صحيح البخاريِّ لابن بطَّال" (1/ 154).
- مسلم (117).
- البخاريُّ (143)، ومسلم (2477).
- مسلم (817)، وعُسفان منطقة شمال مكة بقرابة 85 كلم، قرب شمال شرق جدة، و"مولى" أي كان أو كان آباؤه عبيداً فأعتقوا، وهو نقص عند العرب.
فقه:
يخبر النبيُّ ﷺ عن فضلِ من طلب العلم:
1- فيذكر أنَّ من سعى إلى طريق يطلب فيه العلم النافع، كان جزاؤه أن يسهِّل الله عليه الأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة، ويوفقه لها.
والحديث ذكر طريق العلم بألفاظ عامة (طريقا.. علما)؛ ليشمل جميع الطُّرق الحِسِّية والمعنوية الموصِّلة للعلم، وليشمل جميع فروع عِلم الدين ومسائله، وليندرجَ فيه القليل والكثير[1].

وطالب العلم محتاجٌ في طريقه لهذه الأمور [2].
2- وأخبر ﷺ بأن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم، إما تواضعًا له، وتعظيمًا لحقِّه، أو تضع أجنحتها فتكفُّ عن الطيران وتنزل عند طالب العلم تظلله وتحفُّه، كما قال ﷺ: «لا يقعد قومٌ يذكُرون الله عز وجل إلا حفَّتهم الملائكة..» [3].
3- ثم ذكر ﷺ فضيلةً أخرى لطالب العلم، وهو أنَّ الله تعالى يُسَخِّر جميع الكائنات لتستغفرَ له وتدعو؛ لأن آثار عِلمه وعمَله سببٌ لنزول الرحمة للعالَمين بسبب كثرة الطاعات[4]، ولأنَّ من علامات الساعة رفعَ العلم وانتشار الجهل، وهي علامة على لقرب الهلاك.
وهذا الفضل كقوله ﷺ: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلُّون على معلم الناس الخير»[5].
4- وذكر أنَّ العالمَ الذي أدى حقَّ العلمِ بالعمل والتعليم خيرٌ من العابد الذي تفرَّغ للعبادات، كفضل القمر مع الكواكب؛ فإن القمر يضيء الآفاق، ويهتدي بنوره المسافرون في الصحراء، وينتفع به البلاد والعباد، بينما يقتصر نور الكوكب على نفسه، ولا يتعدى إلى إضاءة ما حوله، فكذلك العالِم والعابد؛ فنفع العالِم متعدٍّ، وعبادة العابد يقتصر ثوابها عليه فحسب.
ولعل النبي ﷺ شبَّه العالِمَ بالقمر دون الشمس مثلاً؛ لأن نور القمر لَمَّا كان مستفادًا من غيره -وهو الشمس-، فقد أشبهه العالِم ُالذي استفاد نورَه من شمس الرسالة: من وحي الله تعالى وسنة رسوله ﷺ .
5- ثم يَسُوق ﷺ فضيلةً أُخرى للعلماء، فيَذكر أنهم ورَثةُ الأنبياء، فالعلماء بمنزلة الأبناء والأقارب بالنسبة للأنبياء، وكما أن أبناء الرجُل يَرِثون ماله بعد وفاته، فإن العلماء هم مَن يرثون عِلم الأنبياء، وينقُلونه عنهم، وينشرونه بين الناس؛ ولأن الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا من ذهبٍ، أو درهمًا من الفضة، أو أيَّ لون من ألوان المال؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذه فقد أخذ الحظ العظيم، الذي هو فوق المال، وقد أخذ من ميراث النبوَّة بنصيب كامل[6].
اتباع:
1- كلما اشتاقت نفسُك للجنة، أو عسر عليك مطلبها فعليك بالعلم ، فالعلمُ نفسه عبادة، وهو يبين لك أي العبادات أعظم أجراً، وهو يبعثُ في النفس الحماسَ والرضا والصبرَ على العبادات.
2- من أراد الرفعة والبركة وتيسير الأمر فعليه بالعلم، فإن الملائكة -وهم من أشرف خلق الله تعالى- يكرمون طلاب العلم ، ويحفّونهم، وينفذون ما أمر الله تعالى به من تيسير أمورهم.
3- على طالب العلم أن يوقِّر العلم، فإن لله تعالى ملائكة موكلة بمجالس أهل العلم، وعليه أن يوقِّر الملائكة، فيجتنب في مجلسه أن يكون فيه كلب أو صورة، وليعلم أن الله تعالى وكّل به ملائكة كراماً، حافظين كاتبين.
4- ما أكثر ذنوبنا!، وإذا كنا نحتاج أن نستغفر كثيرًا كما أذنبنا كثيرًا فإن في العلم ونشره سببًا لاستغفار من في السماء والأرض لنا، بمن فيهم من الصالحين.
5- هذا الكون الذي تظنه جامدًا يعيش مع الله تعالى، فحتى الحيتان التي تظنها عجماء هي تستغفر لطالب العلم بأمر ربها الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
6- فضل الله تعالى العالم على العابد لأن له نورًا كالقمر ينشره بين الناس، وأما إذا احتجب العالم عن الناس، وبخِل بعلمه، أو تثاقل عنه، ورضي بأن تغطيه الآفات: فما فضلُه على غيره؟
7- دلَّ الحديث على أنَّ أعظم الناس منزلةً العلماءُ؛ إذ هم ورثة خير الناس وصفوتهم، ولم يوجَد بعد الأنبياء من يحمل رسالتهم إلى الدنيا أحقُّ منهم، ولهذا فهم أفضل الناس بعد الأنبياء. وهذه منزلةٌ لو عرفها الإنسان لجاهد ملذات الدنيا وعوائقها لأجلها.
8- في قوله ﷺ: «إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا» إشارة إلى زُهد أنبياء الله -عليهم السلام- في مُتَع الدنيا الزائلة[7].
9- العلماء ورثة الأنبياء ، وقد ورّثوهم كذلك الصبرَ على العلم ونشره، فقد سافر موسى عليه السلام، وتحمّل الجوع لأجل طلب العلم عند من هو دونه وهو الخضر، وتحمل ﷺ الأذى في نشر العلم، فكذلك ورثة الأنبياء، ومن لطيف ذلك أنَّ ابن أبي حاتم الرازي قال: «كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يومًا أنا ورفيق لي شيخًا، فقالوا: هو عليل؛ فرأيت سمكًا أعجبنا فاشتريناه، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم يزل السمك ثلاثة أيام، وكاد أن ينضى فأكلناه نيًّا لم نتفرغ نشويه»؛ ثم قال: «لا يستطاع العلم براحة الجسد»[8].
10- إذا أراد الإنسان أن يخشى الله حق خشيته فعليه أن يتعلم العلم؛ فإنَّ من تعلم العلم عرف قدرَ الله، فخافه وهابه وأحبَّه، وأنزله منزلته وقَدَرَه حقَّ قدره
ولهذا قال تعالى:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
[فاطر: 28]
استخدم الحصر بـ"إنما" كأنه يقول: إنَّه لا يخشى اللهَ أحدٌ غير العلماء؛ لأن خشيتهم له هي الخشية الحقيقية الناتجة عن علمٍ ومعرفة به.
11- قال الشاعر:
إِذا ما لَم يُفِدكَ العِلمُ خَيرًا = فَخَيرٌ مِنهُ أَن لَو قَد جَهِلتَا
وَإِن أَلقاكَ فَهمُكَ في مَهاوٍ = فَلَيْتَكَ ثُمَّ لَيْتَكَ ما فَهِمتا
سَتَجني مِن ثِمارِ العَجزِ جَهلاً = وَتَصغُرُ في العُيونِ إِذا كَبِرْتا
المراجع
- انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160).
- انظر: "شرح رياض الصالحين لابن عثيمين" (5/ 433- 434).
- مسلم (2700)، عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.
- "شرح الطِّيبيِّ على مشكاة المصابيح" (2/ 673).
- الترمذي (2685)، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح للمظهري" (1/ 313) "إرشاد الساري للقسطلاني" (1/ 167).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 687).
- "تذكرة الحفاظ للذهبي" (3/ 35).
فقه:
1- يصوّر النبيُّ ﷺ حالَ الناس في قبولهم العلمَ الذي أتى به ﷺ، فجعل ذلك كالمطر الكثير الذي فيه نفع للناس، وذكر النبيُّ ﷺ الغيثَ لأنَّ حاجة الناس إليه عظيمةٌ، فكما أنَّ المطر تحيا به الأرضُ، فكذلك العلم يحيي اللهُ به القلوب.
وقد تفاوتت آثار المطر باختلاف طبائع الأراضي التي نزل عليها، كما صوَّر ذلك الحديث الشريف:
2- فأول نوعٍ من تلك الأرضِ: نقيَّةٌ طيبة خصبةٌ، خالية من الآفات، صالحة للزراعة، نزل عليها الماء فتشربته الأرض، وأنبتت الكَلَأ -وهو عموم نبت الأرض-، والعُشبَ -وهو النبت الرطب-، فانتفعت الأرضُ حين أحياها الماءُ، ونفعت غيرها حين أنبتت ما يأكله الإنسان والحيوان.
3- النوع الثاني: أرضٌ صلبةٌ غير صالحة للزراعة، لا تتشرب الماء سريعًا، وإنما تحتفظ به، فلا تنتفع بالماء في الزراعة وإنما ينتفع بها الناس حين تجمع لهم مياه الأمطار، فيشربون منها ويسقون دوابَّهم وزروعهم.
4- والنوع الثالث: قيعان؛ أي: أرضٌ مستويةٌ ملساءُ، لا تصلح للزراعة ولا تُمسك الماء، فلا هي انتفعت بالماء فأخصبت وأنبتت، ولا انتفع بها الناس في سُقيا أو زراعة.
5- ثم فسَّر النبيُّ ﷺ ذلك التصوير: فذكر أن النوع الأول هم العلماء، الذين فهموا -والفِقْهُ: الفَهْم- مراد الله ومراد رسوله، فعملوا به وعلَّموه للناس، والنوع الثاني: هم من يكون وسيلة لتوصيل العلم، وإن لم يكن من أهله الخبراء فيه، والنوع الثالث هم الذين لم يقبلوا ما جاء به ﷺ، فلا هم حفظوا وبلَّغوا، ولا فهموا وعملوا. وهؤلاء هم الكُفَّار والفُسَّاق الذين رغبوا عن شرع الله تعالى.
اتباع:
1- كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناس تعليمًا، وقُدرةً على البيان، وحرصًا على هداية الخَلْق، فسلك جميع السُّبل لتبليغ دعوة ربه، وهو هنا: يضرب الأمثال الحسية؛ لأن ذلك يقرِّب المعانيَ العقلية ويساعد في الفهم والتحصيل، فعلى كل داعية أن يستخدم الوسائلَ التي تُيَسِّر فهمه واتباعه.
2- حاجةُ الناس إلى العلم كحاجةِ الأرض إلى المطر بل أشد، فليكن أول ما تغيث به الناس، وتنفعهم به، وتنفق عليهم منه: هو تعليم دين الله تعالى.
وأنت محتاج للعلم كذلك أبد الدهر، فتزود بالعلم وزوِّد غيرك، واصبر على العلم واستعن بالله:
﴿ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾
[طه: 114]
3- العلمُ ينبُت في القلوب الطيبة، كما ينبتُ العشبُ في الأرض الطيبة، فمن أراد العلم فليطهِّر قلبه من آفات الشرك والحسد والخساسة، وليلجأ إلى الله في ذلك، قال ابن تيمية: « إنّ القلب إذا كان رقيقًا ليّنًا، كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورَسَخ العلم فيه، وثَبَت وأثَّر، وإن كان قاسيًا غليظًا، كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا. ولا بدَّ مع ذلك أن يكون زكيًّا صافيًا سليمًا حتّى يزكوَ فيه العلم ويُثمر ثمرًا طيّبًا، وإلّا فلو قَبِل العلم وكان فيه كَدَر وخَبَث، أفسد ذلك العلم، وكان كالدَّغَل في الزّرع، إن لم يَمنَع الحَبَّ من أن يَنبُت، منعه من أن يزكوَ ويَطِيب، وهذا بيِّن لأولي الأبصار»[1].
4- أعلى المراتب هي لمن جمع العلم والعمل والتعليم، كالأرض الطيبة قبلت الماء وأنبتت العشب لغيرها، وهم على درجات بقدر جهدهم، فاجتهد في تكميل كل ذلك.
واعرف فضل العلماء الذين يحيون القلوب، وتجنب الخوض في أعراضهم.
ولا تستصغر شيئًا من العلم تُعلِّمه الناس، ولا تنتظر حتى تكون عالمًا، فلو علَّمتَ إنساناً ذكرًا نبويًا، فكان يردده حتى مات فكم لك من الأجور؟، وحتى لو كان يعلمه فربما ذكَّرته، ولو لم ينتفع هو فقد انتفعت أنت بتثبيت العلم والأجر..
5- من لم يستطع أن يكون عالمًا فلينقل العلم عن أهله
وقد قال ﷺ:
«بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً» [2]
وربما كان ذلك أنفع من فهمهم وتعليمهم الخاص
كقول النبي ﷺ:
«فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» [3]
وهو شريك في الأجر لمن ينقل عنه.
6- متى رأيت في نفسك استثقالًا لهدى الله تعالى وهدى رسوله ﷺ ومدافعة له بالجدل: فراجع نفسك، وطهرها من الكِبر والهوى، واحذر أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم:
﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾
[الأعراف: 146]
7- قال الشاعر:
ما الفضلُ إِلا لأهلِ العلمِ إِنهمُ = على الهُدى لمن استهدى أَدِلَّاءُ
وقيمةُ المرءِ ما قد كان يُحْسِنُهُ = والجاهِلونَ لأهل العلمِ أعداءُ
فقمْ بعلمٍ ولا تَطلُبْ به بدلاً = فالناسُ مَوْتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
8- وقال غيره:
كن عالِمًا في الناسِ أو متعلِّمًا = أو سامعًا فالعلمُ ثَوْبُ فَخَارِ
من كلِّ فنٍّ خُذْ ولا تجهلْ به = فالحُرُّ مطَّلِعٌ على الأسرارِ
المراجع
- "مجموع الفتاوى" (9/ 315، 316).
- البخاريُّ (3461)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
- البخاريُّ (1741)، عن أبي بكرة رضي الله عنه.
فقه:
1- يأمرُ النبيُّ ﷺ أُمَّةَ الإسلام بتبليغ رسالته وشرعه، كلٌّ حسب مقدرته وطاقته، فإذا لم يجد المسلمُ ما يُبَلِّغُه غير آيةٍ يحفظها ويفهم معناها أو حديثٍ صحيحٍ ينشره فهو كافٍ في حقِّه، مُسْقِطٌ للوجوبِ عنه.
وفي قوله ﷺ: «ولو آية» دليلٌ على أنَّه لا يُشترط في الداعية أن يكون عالمًا فقيهًا، بل يدعو إلى اللهِ تعالى بما تيسَّر له، بشرط أن يكون فاهمًا لِما يدعو به، وأن يتيقن من صحة الحديث الذي ينقله للنَّاس.
وليس معنى ذلك أن يُبَلَّغَ أيُّ شيءٍ لأيِّ أحد؛ فالدعوةُ تحتاج إلى حكمة وبصيرةٍ
كما قال سبحانه:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}
[يوسف: 108]
فيجب في الدعوة مراعاة حال المَدْعُو؛ فلا يُخاطب بما لا يفهمه عقلُه، وإلا كان له فتنةٌ، قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّون أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟!"[1].
2- ثم أخبر ﷺ بإباحة الإخبارِ وذكر قصص بني إسرائيل، فبيَّن ﷺ أنَّه لا إِثْمَ في نقل أحاديثهم وأخبارهم.وهذا مُقيَّدٌ بما لم نتيقَّن كذبَه من أخبارهم، أما ما تيقَّنَّا صدقَه أو جوَّزناه فالأمرُ فيه على الإباحة[2].
3- ثم شدَّد ﷺ في تحريم الكذب عليه ﷺ والتَّقَوُّل عليه ما لم يقل؛ فإنَّ مَن نسب إليه ﷺ ما لم يقله عمدًا فجزاؤه جهنم والعياذ بالله.
وإنما كان الكذبُ عليه ﷺ أشدَّ حرمةً من الكذب على غيره؛ لأنَّ الكاذبَ عليه يكذبُ على اللهِ تعالى وعلى شَرْعِه؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ لا ينطقُ عن الهوى، فإذا كذب عليه أفَّاكٌ فقد أحلَّ وحرَّم بهواه
وقد قال سبحانه:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [3].
[النحل: 116]
اتباع:
1- (1) احرص على أن تكون من الدعاة إلى الله تعالى؛ فهم أشرف النَّاس
قال سبحانه في حقِّهم:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
[فصلت: 33]
2- (1) الدعوة إلى الله سبحانه فرضٌ على جميع المسلمين؛ كلٌّ بحسب مقدرته؛ فإن كنت تقدرُ على نشر العلم وتبليغ الشرع، وإلَّا فادعُ إلى اللهِ تعالى بحسن خُلُقك وبيانِ ما يجب أن يكون عليه المسلم في الظاهر والباطن.
3- (1) الدعوة إلى الله سبحانه يسيرةٌ سهلةٌ على كل أحدٍ، فلا يُشترط أن تكون عالمًا فقيهًا حتى تدعوَ إلى اللهِ تعالى. عليك بالمتاح ولا يكلف اللهُ نفسًا إلا وسعَها.
4- (1) أصبحت الدعوة أكثر سهولةً وسلاسةً وانتشارًا مع وسائل التقنية الحديثة؛ فالمسلمُ صار قادرًا على البحث عن معنى الآية التي يريدها من أكثر من كتاب، وعن صحة حديثٍ أو أثرٍ أو قصة، وبضغطة زِرٍّ واحدة يتيسر له نشر الآيات والأحاديث ومقاطع العلماء الصوتية والمرئية والدعوة إلى اللهِ تعالى لملايين النَّاس.
5- (1) ألا يكفيك أن يكون لك أجرُ جميع من اتَّبعك من النَّاس
وقد قال ﷺ:
«مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[4].
وقال أيضًا:
«فواللهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[5].
6- (1) يجب على العلماء والدعاة القائمين على أمر الدعوة، أصحاب الخبرة والبذل والعطاء، الذين وهبوا حياتهم للدعوة إلى الله، أن يوجِّهوا الناس إلى القيام بواجبهم تُجاهَ الدعوة إلى الله، ودعوتهم للانخراط في مجالات العمل الدعويِّ المختلفة، ويحفِّزوهم ويحضُّوهم على ذلك، ويوجِّهوا كلًّا منهم إلى ما يُحسنه، مستغلِّين المواهب والإمكانياتِ المختلفة لديهم، فيفتحوا لهم آفاق الدعوة التي يمكِنهم العمل من خلالها.
7- (1) السَّعيد مَن كان إمامًا في الخير، وقائدًا إليه، والشقيُّ مَن كان عونًا على الشرِّ، وطريقًا إليه.
8- (2) لا بأس أن تروي من أخبار بني إسرائيل وقصصهم ما لا تتأكد من كذبه؛ شريطةَ أن تُبيِّن للنَّاس أن ذلك من الإسرائليات؛ لئلا يغترَّ السامع ويقطع بصحةِ ذلك.
9- (3) إياك والكذب على النبيِّ ﷺ، عامدًا أو جاهلًا، فلا تُحَدِّث إلا بما استبان لك أنَّه صحيحٌ ثابتٌ عنه ﷺ، وإلَّا كنتَ أحد الكاذبين على رسول اللهِ ﷺ.
10- (3) يدخل في الكذب عليه ﷺ القولُ بالجهل في دين اللهِ تعالى، فتُحَلِّل ما حرَّم اللهُ وتُحَرِّم ما أحلَّ.
11- (3) من الكذب على رسولِ اللهِ ﷺ الكذبُ على العلماء وأهل العلم؛ فإنَّ الرجلَ إذا قيل له: إن العالمَ الفلاني يقول بجواز كذا، أيقن أنَّه قاله عن علمٍ، فاعتقده دِينًا، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس[6].
12- قال الشاعر:
دَعَوْتُ إلى اللهِ بين الورى = فهذا استَجَابَ وذا اسْتَكْبَرَا
وظَلْتُ على دعوتي مُؤْجَرًا = فَمَنْ يَدْعُ للهِ لن يَخْسَرا
أيا قَوْمِ توبوا إلى ربِّكِمْ = فرِضوانُه لم يَزَلْ أَكْبَرا
المراجع
- رواه البخاريُّ (127).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498، 499).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).
- رواه مسلم (2674).
- رواه البخاريُّ (2942)، ومسلم (2406).
- ينظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).
فقه
1- النضارة: حُسن الوجه والبريق فيه، والنبي ﷺ يحث أصحابَه والأمةَ من بعدهم إلى حفظ سُنَّته ونشرها في الناس، ويشجِّعهم على ذلك: بأن يدعو اللهَ تعالى أن يُنَضِّر وجهَ من يفعل ذلك -جزاء لتجديدهم السنة-، وتمامُ ذلك بحفظ حروفه، الدال على حسن الاستماع والحرص والأمانة في النقل، حتى يوصله لغيره كما هو.
ويجوز نقل الحديث بمعناه عند الحاجة لمن كان عالماً بمعناه، ويحرم الكذبُ عليه ﷺ ولو زعم أن ذلك لمصلحة.
2- ثمَّ علَّل النبيُّ ﷺ ذلك بأنَّه ربَّما كان المبلِّغ بالحديث أقل فهمًا من المُبَلَّغُ به، فلو أن كل من سمع أحاديثَ النبيِّ ﷺ اكتفى بأن ينقل ما فهمه من السُّنَّة دون نصوصها لضاع علينا فضلٌ كثيرٌ؛ وكلمة "رُبَّ" هنا تدل على كون ذلك أكثر من المتوقع.
3- ثم أخبر ﷺ أنه لا يُشترط في المُبَلِّغ أن يكون فقيهًا عالمًا؛ وإنما شرطه الحفظُ وسلامةُ النقل، وكثيرًا ما يكون الناقل للخبر ليس عالِمًا؛ لكنه كسب الأجر بنقله لغيره [1].
اتباع
1- قرَّب النبيُّ ﷺ زيدَ بنَ ثابت إليه مع صغر سنِّه لعلمه ونبوغ عقله، فجعله كاتبًا للوحي بين يديه، كما استعمله أبو بكر الصديق ثم عثمان رضي الله عنهما في جمع القرآن وفي كتابة المصحف الجامع، وكان زيدٌ من أعلم الصحابة بالفرائض، فلا تحقر نفسك ولا غيرك لصغر السن.
2- دعا النبيُّ ﷺ لمن بلَّغ سُنَّته بالجمالِ ونَضارةِ الوجه والحسنِ والبهاء، فمن أراد ذلك فليحرص على تبليغ سُنَّته، والدخول في سلك حفظة الحديث، رجلًا كان أو امرأة. قالَ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَة: لا تَجِدُ أحدًا من أهل الحديث إلَّا وفي وجهه نَضْرَةٌ؛ لدعوة النَّبِيِّ ﷺ[2].
3- عوّد نفسك على ملكة الحفظ، خصوصًا للألفاظ المنقولة عن الله تعالى ورسوله ﷺ، ففي حروفها من الفقه ما قد يغيب عنك مؤقتًا أو دائماً، فيكفي أن تنتفع بما قدرتَ عليه منها، وربما استذكرت تلك الألفاظ في ذهنك مرة أخرى فزاد فهمك، أو ربما نقلتها لغيرك فانتفعوا بها بما لم تنتفع به.
4- لا تغترَّ بدعوات المزهدين في الحفظ، فإن الحفظ لا يعارض الفهم، بل هو معين عليه، وهو مفيد لصاحبه ولغيره، وقلَّ علمٌ إلا وفيه قواعد علمية ينبغي حفظها وضبطها بحروفها.
5- احرص أن تبلغ كما سمعت، فالتثبت في التلقي والرواية دليلُ كمال عقل الإنسان.
6- لا يشترط فيمن يبلّغ السُّنَّة كمالُ الفقه أو فهم جميع ما ينقله، بل متى سمع آيةً، أو حديثًا صحيحاً، أو علمًا مأخوذًا من عالم ثقة: فلا يتحرج من تبليغ السُّنَّة، وأداء العلم.
7- العاقل ينتفع بالحكمة المنقولة عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ وأصحابه، ولو كان من نقله إليه دونه في العلم، فينتفع بالنقل، ولو حصل النقص في الناقل.
8- أفاد الحديث بيان عظيم منزلة أهل الحديث الذين يبلغون أقوال النبيِّ ﷺ، قال الشافعي: « إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث فكأنّي رأيتُ رجلًا من أصحاب النّبيِّ ﷺ[3]». وإنّما قال الشّافعيُّ هذا؛ لأنّهم في مقام الصّحابة من تبليغ حديث النّبيِّ ﷺ. فينبغي أن نُجِلَّ أصحاب الحديث ونوقِّرهم، كما فعل أهل العلم.
9- قال الشاعر:
رَأَيتُ العِلمَ صاحِبُهُ كَريمٌ = وَلَو وَلَدَتْهُ آباءٌ لِئامُ
فلَيسَ يزالُ يَرفَعُهُ إِلى أَن = يُعَظِّمَ أَمرَهُ القَومُ الكِرامُ
وَيَتَّبِعونَهُ في كُلِّ حالٍ = كَراعي الضَّأنِ تَتبَعُهُ السَّوامُ
فَلَولا العِلمُ ما سَعِدَت رِجالٌ = وَلا عُرِفَ الحَلالُ وَلا الحَرامُ
المراجع
- انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 348).
- "مجموع الفتاوى" (1/ 11).
- "مجموع الفتاوى" (1/ 11).
فقه:
1- يرغَّب النبيُّ ﷺ في الاجتهاد بذل الوسع في النظر في الأدلة وتحري الحقِّ بقَدْر ما عنده من جُهد[1]، لكل حاكم، أي صاحبِ سلطة علمية -كالمفتي والمعلم-، أو عمليّة -كالقاضي والأمير والأب-، فإذا امتلك الأدوات التي تساعده على الوصول للحق [2] وسعى في ذلك؛ فوُفِّق في إدراك الصواب، بأن وافق حكمُه حكمَ الله - عزَّ وجلَّ - في المسألة التي يفصِّل فيها؛ فله على ذلك من الله تعالى أجرانِ: أجرُ الاجتهاد، وأجرُ الإصابة[3].
2- أما إذا اجتهد وبذل وسعه في تحري الحق والوصول إلى حُكم الله تعالى في مسألةٍ ثم أخطأ فيها، فهو معذورٌ لا إثم عليه، بل له أجرُ الاجتهاد. والخطأ معفوٌّ عنه بعد ذلك[4].
وخيرُ مثالٍ لهذا ما ورد في القرآن في شأن داود وسليمان عليهما السلام، إذ احتكم صاحبُ زرعٍ إلى داود عليه السلام، حيث اعتدت غنمٌ على الزرع فأفسدته، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الزرعِ الغنمَ جزاءَ ما أفسدته. فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله! بل يأخذ صاحب الغنمِ الزرعَ فيقوم عليها حتى يصلحها، ويأخذ صاحب الزرع الغنمَ فيستفيد منها حتى يَصْلُح الزرع ويعود كما كان[5].
قال تعالى:
﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾
[الأنبياء: 78، 79]
فصوّب فعل سليمان وأثنى عليهما جميعًا[6].
وهذا الفضلُ مخصوصٌ بالحاكم المؤهَّل للحكم، أما إذا اجترأ الجاهلُ على الحكم بدون مؤهلاتٍ، فهو عاصٍ غيرُ مأجور، حتى وإنْ أصاب، لأن إصابته ليست صادرةً عن أصل شرعيٍّ، فمن قضى على جهلٍ فهو آثمٌ. سواءً أصاب الحق أم لا[7]، وفي الحديث:
«القضاةُ ثلاثة: قاضٍ في الجنة، واثنانِ في النار؛ قاضٍ عرَف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاضٍ عرَف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، وقاضٍ قضى على جَهْل فهو في النار»[8].
اتباع:
1- ابذل جهدك في امتلاك أدوات الاجتهاد -من العلم والتأني ونحوها- قبل أن تحكم، بل عليك أن تمتلكها قبل أن تجتهد في الحكم، لأن من اجتهد في الحكم، ولم يجتهد في امتلاك أدوات الاجتهاد فليس بمجتهد حقيقة.
2- من اجتهادك أن تسأل المجتهدين في العلم، فإن لم تكن تملك كامل أدوات الاجتهاد فاسأل أهل العلم والشورى في كل تخصص.
3- اجتهد في كل حكم تتولاه، وأبشر بالأجر، واحذر من التفريط في المسؤولية لكسل أو غضب، ولا يخلو الإنسان من أن يكون حاكمًا على شيء، كالأب يحكم بين أولاده، والمعلم بين طلابه، والمفتي مع سائله، والقاضي، والأمير، ومدير العمال، والمستأمن على الأموال، وغيرهم.
4- لا تقف متهيبًا من خوض الحياة بمهماتها خوفًا من الخطأ، فالإسلام يهبك القوة والشجاعة على خوض التجارب والمسؤوليات، ويرفع عنك لوم نفسك متى كنت مجتهداً.
5- الصواب واحدٌ فابحث عنه، واطلبه بصدق، ولا تقع في فخ النسبية التي تميّع وجود الحقيقة.
6- لا تفترض أن كل من يخالفك فهو ضالٌّ ظالم، فقد يكون مجتهدًا فأخطأ في مسألةٍ، فهو مأجورٌ، معفوٌّ عن خطئه، وليكن لك سعة صدر للمسلمين، وتجنب اتهام العلماء والطعن فيهم لِمَا أدَّاه إليه اجتهادهم.
7- قال الشاعر:
مَا الْفَخْرُ إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إِنَّهُمُ = عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ
وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ مَا كَانَ يُحْسِنُهُ = وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ
فَفُزْ بِعِلْمٍ تَعِشْ حَيًّا بِهِ أَبَدًا = فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ
المراجع
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2594).
- انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (10/ 343).
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- ينظر: "تفسير ابن كثير" (5/ 355).
- انظر: "شرح صحيح البخاري لابن بطَّال" (10/ 381).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 13- 14).
- أبو داود (3573)، والترمذيُّ (1322) من حديث بريدة .
فقه:
1- وعظَ النبيُّ ﷺ أصحابَه يومًا موعظةً مؤثرة، خوَّفهم باللهِ تعالى وأنذرهم غضبه وعقابه، حتى فزعت القلوب ودَمَعت العيون خشيةً وخوفًا.
2- فقال أحد الصحابة: بالغتَ في الموعظةِ ووفَّيتَها حقَّها، وشملت موعظتك ما يهمُّ المسلم من أمور دينِه؛ كالمُوَدِّع إذا وعظ مَن يرحل عنهم لسفرٍ أو دُنُوِّ أجلٍ؛ فإنه لا يترك شيئًا يمسُّ حاجةَ المُوَدَّع إلا أورده واستقصى فيه[1]. فاعهد إلينا يا رسولَ اللهِ ﷺ بعهدٍ وأوصِنا بوصية جامعة.
3- فكان أول ما أوصى به ﷺ تقوى الله سبحانه، وهي أن يتخذ الإنسانُ بينه وبين ما يُغضب اللهُ تعالى وقايةً وسِترًا، ولا يكون ذلك إلا بطاعته سبحانه واتباع رسولِه ﷺ[2]. وقد عرَّفها طلق بن حبيبٍ رحمه الله فقال: "التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نور من الله، تخافُ عقابَ الله"[3].
4- ثم ثنَّى ﷺ بالسمع والطاعة لأولي الأمر، فتجب طاعتُهم في الطَّاعةِ والمعروف، فإن أمروا بمعصيةٍ لم يجز لأحدٍ أن يطيعهم في معصيتهم،
قال ﷺ:
«السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى المَرْءِ المُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»
[4].
وقوله ﷺ: "وإن عبدًا حبشيًا" أي: وإن كان وليُّ الأمرِ عبدًا حبشيًّا فاسمعوا له وأطيعوا. وقد اشترط النبيُّ ﷺ في الأميرِ أن يكون حُرًّا قُرَشِيًّا، لكنَّه ذكر ذلك هنا إما للمبالغة في وجوب اتباع الأمير حتى لو كان على صورةٍ لا تحدث، وإما أنَّه ﷺ عَلِم أن الحالَ سيختلُّ بعد ذلك حتى يلي أمورَ النَّاس مَن لا يجوز له ذلك، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبرُ على ولاية مَن لا تجوز ولايته؛ لئلَّا يُفضي إلى فتنة عظيمة. وإما أنَّه ﷺ أراد الولايات الصغيرة والعُمَّال. وعلى كلِّ تلك المعاني فقد أوجب ﷺ طاعةَ أولي الأمر وحرَّم مخالفتهم إلا إذا أمروا بالمعصيةِ أو ظهر منهم الكفر[5].
5- ثم أخبر ﷺ أننا سنرى بعده فتنًا وأمورًا عظيمة، فالنجاة منها حينئذ التمسُّك بسنته ﷺ، وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وأمر بالتمسك بها والحرص عليها كما يعضُّ الإنسانُ بأنيابِه على شيءٍ يتمسَّك به ويخشى تفلُّتَه.
وإنما خصَّ سُنَّة الخلفاءِ بالذِّكر لأنَّه أيقن أنهم لا يُخطئون سُنَّته، وأنَّ بعض سُنَنِه إن لم تشتهر في زمانه، اشتهرت في زمانهم وحرصوا على إحيائها فنُسبت إليهم، وهي في الأصل سُنَّتُه ﷺ[6].
وربما يكون المراد بالخلفاءِ العلماءَ وأئمةَ الإسلام؛ فإنهم خلفاؤه في إحياء الحقِّ، وإعلاء الدين، وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم[7].
6- ثمَّ حذَّر النبيُّ ﷺ من الأمور المستحدثة التي لم تكن على عهده ﷺ؛ فإنَّ كُلِّ أمرٍ مُستحدَثٍ في الدِّين ضلالةٌ وهلاك.
على أنَّ البدعَ مختصَّةٌ بأمرين:
- أن تكون في الدِّين، فما استُحدِثَ من الاختراعات والتطورات ونحوها في أمور الدنيا ليست من البِدَع.
- وأن تكون لا أصل لها في الشَّرع
قال ﷺ:
«مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[8]
فكلُّ مَن أحدث شيئًا ونَسَبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[9].
فإن كان لها أصلٌ في الشرع تُقاس عليه فليست ببدعةٍ ولا محظورة، وإن سُمِّيت بدعةً فالمرادُ الاصطلاح اللغوي، وهو كل أمر حديثٍ، ولهذا قال عمر بن الخطاب لمَّا جمع النَّاس في رمضان في صلاة القيام خلف أُبَيٍّ: «نِعمَ البدعةُ هذه»[10]؛ إذ كان النبيُّ ﷺ قد جمع النَّاس ثم خشي أن تُفرض عليهم فترك ذلك.
اتباع:
1- (1) على كلِّ داعيةٍ وواعظٍ وعالِمٍ ومُرَبٍّ أن يتخوَّل أصحابه بالموعظة، ولا يُكثر عليهم، كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُ الناس في كلِّ خميسٍ، فقال له رجُل: يا أبا عبد الرحمن، لوددِتُ أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ ﷺ يتخوَّلنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا"[11].
2- (1) من علامات المؤمنين أنهم إذا سمعوا كلامَ اللهِ تعالى أو قولَ النبيِّ ﷺ أصغوا إليه، وتاقت نفوسهم لمعناه، ووجلت قلوبهم وذرفت عيونهم من خشية اللهِ تعالى
قال سبحانه:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}
[الأنفال: 2]
فانظر في نفسك هل تتحقق فيك تلك العلامات.
3- (2) على الواعظ أن تشتمل موعظته القواعد العامَّة، والأمور الكلية.
4- (2) يُستحب للمسلم أن يطلب الموعظة والنصيحة من الحُكماء وأهل العلم والدين.
5- (3) احرص على تقوى اللهِ تعالى والحرص على مرضاته في السِّرِّ والعلن؛ فإنَّها النجاةُ من الفتن والكروب في الدنيا، ومن النار في الآخرة.
6- (3) قال الشاعر:
إذا المرءُ لم يلبسْ ثيابًا من التُّقى ... تجرَّد عريانًا ولو كان كاسيَا
وخيرُ لباس المرءِ طاعةُ ربِّه ... ولا خيرَ فيمن كان للهِ عاصيًا
7- (4) اسمع لوليِّ الأمرِ وأطع، ما لم يأمر بمعصيةٍ أو يحصل منه كفرٌ.
8- (4) الصبر على جور ولاة الأمور خيرٌ من الخوض في فتنة تسفك الدماء وتشقُّ وحدة المسلمين وتفرق جماعتهم.
9- (5) النَّجاةَ النجاةَ في اتباع السُّنَّة؛ فإنَّ صاحبها ﷺ ما ترك خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرنا منه.
10- (5) الاقتداءُ بأصحاب النبيِّ ﷺ خيرُ وسيلةٍ إلى بلوغ الحقِّ؛ فإنهم أبصر النَّاس بالوحي ومعانيه، وأعرفُ النَّاس بالنبيِّ ﷺ وطريقته.
قال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: "قِفْ حيث وقف القوم، وقل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؛ فإنّهم عن عِلْمٍ وقفوا، وببصر ناقد كفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى. أي: فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتُم: حَدَث بعدَهم، فما أحدثه إلّا من سلك غيرَ سبيلهم، ورَغِب بنفسه عنهم، وإنّهم لهم السّابقون، ولقد تكلَّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يَشفي، فما دونهم مقصِّر، ولا فوقهم مجسِّر، ولقد قصَّر عنهم قوم فجَفَوْا، وطَمَح آخرون عنهم فغَلَوْا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم"[12].
11- (5) كان التَّابعون رحمهم الله أحرصَ النَّاس على اقتفاءِ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ وأصحابه؛ قال إبراهيم النَّخَعِيُّ-رحمه الله-: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابةَ - أنّهم لم يجاوزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قوم وِزْرًا أن تُخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم ﷺ"[13].
12- (6) إياك والبدعَ والعمل بما لا أصل له من شرع اللهِ تعالى وسُنَّته؛ فالحقُّ في القرآن والسُّنَّة لا يخرج عنهما.
13- (6) ليس في الدين بدعة حسنة وبدعة سيئة؛ فكلُّ ما استُحدث في دينِ اللهِ تعالى ولم يكن على نهجِ النبيِّ ﷺ فهو باطلٌ وصاحبه مأزورٌ عليه.
المراجع
- انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 114).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276).
- انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن تيمية (1/ 9)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
- رواه البخاريُّ (7144).
- انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 97).
- انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 272).
- "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137).
- رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- رواه البخاريُّ (2010).
- رواه البخاريُّ (70)، ومسلم (2821).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).
فقه:
هذا الحديث من أهم أحاديث الدين كلِّه، حتى قال أهل العلم: إنَّ هذا الحديث يمثل ثُلُثَ الإسلام[1].
1- بالنية تكتسب الأعمال صفة معتبرة، والنية ما يتوجه له القلب ويقصده بعمله، فتتميز العبادات من العادات، وتتميز أنواع العبادات عن بعضها، وتُقبل الأعمال إن كانت لله تعالى أو تُردُّ.
2- وقد تتشابه الأعمال والنيات مختلفة، وإنما يؤجر الإنسانُ بحسب ما نواه من العمل، فإن نوى خيرًا أُجر عليه، وإن نوى شرًّا عُوقب عليه، وإن لم ينوِ شيئًا فلا له ولا عليه، بل تتفاوت درجات العمل بدرجة النية.
والنية الصالحة لا تُصلح العمل الفاسد، فقد ابتدع قومٌ طريقة في الذِّكر غير مشروعة، فلما أنكر عليهم عبد الله بن مسعود قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه»[2].
3- ثم فصَّل النبيُّ ﷺ المسألة، وضرب المثال على ذلك بالهجرة -وهي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام-؛ فمن كانت هجرته إلى الله تعالى؛ مخلصًا له فيها ومتعبدًا له، وهجرته للرسول ﷺ انقيادًا لأمره ، ومتابعة لسنته، فتلك الهجرة الحقيقية التي تستحق الذكر والتعظيم.
ولم يذكر النبيُّ ﷺ الأجرَ هنا تعظيمًا لهذا الأجر، كما أخفى الله عز وجل أجر الصوم عندما قال في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به» [3].
4- ومن هاجر لغرضٍ دنيوي -كتجارة يحصّلها أو امرأة يتزوجها-، فإن هجرته لا عبرةَ بها شرعاً، ولا يؤجر عليها، مع أن الهجرة من أعظم الطاعات -فكذلك سائر العبادات-، وهجرته إنما تنسب لعمله الذي نواه.
ولم يذكر النبيُّ ﷺ أن له أجراً، لأن مقصوده ليس عبادة محضة، ولتفاوت الناس في هذا المقصود.
اتباع:
1- حسِّن نيتك، وراقب قلبك، واجتهد أن تكون أعمالُك كلها لأجل طاعة الله تعالى؛
فإن النبي ﷺ يقول:
«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
[4].
2- لا تغترَّ بظاهر عملك أو عمل غيرك مع سوء السريرة، فالأعمال مرتبطة بالنية.
3- أكثر من نية الخير، فنية المؤمن أبلغ من عمله، لأن إن نوى العمل الصالح أُجِر، سواء تيسر له العمل أو لم يتيسر، قال النبي ﷺ وهو راجعٌ من غزوة تبوك:
«إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ»[5]
وفي الحديث:
«رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ.....»[6].
4- كان السلفُ رضوان الله عليهم يتعلمون النية -بالمراقبة والتهذيب وقصد الخير- كما يتعلمون العمل. قال يحيى بن أبي كثير: «تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل»، وقال سفيان الثوري: «ما عالجت شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنّها تنقلب عليَّ»[7].
5- بالنيةِ تتحول العادات إلى عبادات؛ فإذا أكل نوى تقوية بدنه على الطاعات والعبادات والأعمال، وإذا عمل أو تاجر نوى إعمار الأرض، ونفع المسلمين، وتحصيل المال الذي ينفق منه على أهله بالحلال الطيب، وإذا طلب العلم نوى نفع نفسه والناس بسلوك طريق الأنبياء والعلماء، وإذا أراد النوم نوى إراحة جسده ليستطيع مواصلة العمل والعبادة، فيؤجر على جميع ذلك. قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي»[8].
6- إذا كنت ستعمل عملًا ولا بد فاستحضر نية العبوديةِ الله تعالى فيها، قال زُبيد اليمامي: «إنّي لأحبُّ أن تكون لي نيّة في كلِّ شيء، حتّى في الطّعام والشّراب»، وإذا كان العمل صغيرًا في نظرك فاستحضر عظمة الله تعالى ومجازاته ومحبته لتقرب العبد إليه، قال عبد الله بن المبارك: « رُبَّ عمل صغير تُعظّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية»[9]..
ففي الوضوء طهارة لله عز وجل لأجل الصلاة، ومتابعة للرسول ﷺ في إحسان الوضوء، وحطَّ لخطاياك التي أثقلتك.. وهكذا، حتى وأنت تغلق إضاءة الغرفة؛ فأنت تبر والدك كي لا تهدر ماله، وتعين المسلمين وتحفظ مالهم باستهلاك أقل للطاقة.. وهكذا.
7- كن يقظاً، وتجنب مداخل الشيطان بأن يحرف عباداتك لمراءاة الناس بعملك، وتعظيمهم لك، فتخسر
قَالَ ﷺ:
«قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[10].
8- اجمع بين النية الصالحة والمتابعة للرسول ﷺ، فتلك حقيقة الهجرة إلى الله تعالى ورسوله ﷺ، قال الفُضيلُ بن عياض في قوله تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾
[الملك: 2]
قال: «أحسنُ العملِ: أَخلَصُه وأَصوَبه، وأخلصه أن يكون لله تعالى وحده، وأصوبه أن يكون على السُّنَّة، فالعمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل»[11].
جاء هذا الحديث العظيم ليضرب مثلًا، بصورةٍ مصغَّرة عن حياة المسلم، فهو مهاجر إلى الله في حياته هذه، فلينظر موقع أعماله في هذه الهجرة.
9- قال الشاعر:
إِذَا شِئْتَ أَنْ تُدْعَى كَرِيمًا مُهَذَّبًا = تَقِيًّا سَرِيًّا مَاجِدًا فَطِنًا حُرَّا
فَكُنْ مُخْلِصًا للهِ جَلَّ جَلالُهُ = وَكَنْ تَابِعًا لِلْمُصْطَفَى تُحْرِزِ الأَجْرَا
المراجع
- "شرح الأربعين النووية لابن دقيق العيد" (ص: 24)، "جامع العلوم والحكم لابن رجب" (1/ 71).
- سنن الدارميّ (210).
- البخاريُّ (5927)، ومسلمٌ ( 1151).
- مسلم (2564).
- مسلم (4423).
- أحمد (18024)، وابن ماجه (4228).
- " جامع العلوم والحكم لابن رجب" (1/ 70).
- البخاريُّ (4344).
- "البحر المحيط الثجاج للإتيوبي" (32/606).
- مسلم (2985).
- "جامع العلوم والحكم لابن رجب" (1/ 72).
فقه:
1- يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ ذكرَ اللهِ تعالى حياةُ الأرواح والأماكن؛ فالبيتُ الذي يُذكر اللهُ سبحانه فيه يَنْعَمُ بالطمأنينة والراحة، ويضجُّ بالسعادة والبهجة، وتألفه الملائكةُ، فتتنزل عليه بالسكينة، فهو كالحيِّ الذي يتمتع بروحه ويأنسُ بغيره ويُؤنَسُ به. أما البيتُ الذي لا يُذكر الله تعالى فيه فهو مُوحِشٌ لا روحَ فيه ولا حياة، ينفر منه النَّاس كما ينفرون من الأموات، وتهجره الملائكة.
والذِّكرُ: استحضار عظمة اللهِ تعالى في القلب، وجريان اللسان بالثناء على اللهِ عزَّ وجلَّ، وبمعنًى أعم يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة من الصلاة والدعاء والتسبيح وقراءة القرآن ونشر العلم وغير ذلك.
2- وفي الرواية الأخرى جعل ﷺ الذَّاكرَ نفسَه حيًّا والغافلَ مَيْتًا؛ إذ بالذِّكر تحيا الأرواح وتطمئن القلوب
قال تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
[الرعد: 28]
والذِّكْرُ غذاءُ الأرواح كما أن الطعام والشراب غذاءُ الأبدان، فإن اهتمَّ الإنسانُ بغذاء بدنه وترك غذاءَ قلبه وروحه كان كالبهائمِ التي لا يُرتجى منها نفعٌ، وكالأموات حين تعطَّل قلبُه عن ذكرِ ربِّه
ولهذا قال سبحانه:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}
[الأعراف: 205]
اتباع:
1- (1) من أنفع وسائل التعليم والإفهام ضربُ الأمثالِ؛ حيث تُقَرَّب المعاني وتُوَضَّح، وتُصاغُ الفكرة العقلية في صورةٍ حِسِّيَّةٍ يفهمها جميع النَّاس. فيجدر بكل داعيةٍ ومُرَبٍّ أن يستخدم ذلك الأسلوب.
2- (1) لا يشترط في الذكر حضورُ الذِّهن واستحضار معانيه، بل يستطيع المسلم أن يذكر ربَّه في فراغه وشُغله، يُجري ما تيسَّر على لسانِه من الأذكار، وإن كان ذكرُ القلبِ واللسانِ معًا أعلى مراتب الذِّكر وأعظمها أجرًا.
3- (1) لا تجعل بيتَك خَرِبًا مهجورًا تنفر منه الملائكة، عَمِّره بالذِّكر وقراءة القرآن.
4- (1) الذَّاكرُ حيٌّ وبيتُه عامرٌ بالخير والبركة، والغافلُ عن الذِّكرِ ميْتٌ كأنه يسكن قبرًا.
5- (2) الذِّكر حياةُ القلوب، فلا تُمِتْ قلبك بتركه.
6- (2) ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب [1].
7- (2) حافظ على الذكر؛ فإنه يُرضي الرحمن ويطرد الشيطان، ويُزيل الهمَّ ويجلب السعادة، ويستجلب الرزقَ والنضارةَ والمهابةَ، ويستوجبُ محبةَ اللهِ تعالى.
8- (2) ذكرُ الله تعالى أنواعٌ؛ فمنه المطلق الذي يُقال في كلِّ وقتٍ؛ كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء وقراءة القرآن، ومنه مُقَيَّدٌ بأسبابٍ؛ كأذكار الصباح والمساء والنوم، ودخول البيت والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، ولبس الثوب وخلعه، ودخول المسجد والخروج منه، وغير ذلك.
9- (2) داوِم على الذِّكر؛ فإنَّ الذَّاكر لله ينشرحُ صدرُه وتسعد نفسُه، والمُعرض عن الذكر قاسي القلب جاف الروح
قال سبحانه:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
[الزمر: 22]
10- قال الشاعر:
عَلَيْكَ بذِكْرِ اللهِ يا طالبَ الأَجْرِ = وَيا راغِبًا في الخَيْرِ والفَضْلِ والبِرِّ
عليكَ بِهِ تُعطى الرغائبَ كلَّها = وتُكفى به كلَّ الْمُهمَّات والضُرِّ
فمَنْ يَذْكُرِ الرحمنَ فهْوَ جَلِيسُهُ = ومَنْ يَذْكُرِ اللهَ يُكافِئْهُ بالذِّكْرِ
ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الإلهِ فإنه = قَرِينٌ له الشَّيْطَانُ في داخِلِ الصَّدْرِ
ومَن يَنْسَ مَوْلاهُ الكَرِيمَ فَرَبُّهُ = له ناسيًا، أَعْظِمْ بذلك من خُسْرِ!
له استحوَذَ الشَّيْطَانُ نسَّاهُ ذِكْرَ مَنْ = تفضَّلَ بالإيجادِ في أوَّلِ الأمرِ
المراجع
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
فقه:
1. جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ يشكو إليه كثرة النوافل والسُّنَنِ حتى عجز عن أدائها كلِّها، وطلب من النبيِّ ﷺ أن يخبره بعملٍ من تلك السُّنن التي يعظم أجرها ويدرك بها ما فاته من أجور النوافل والسُّنَن، ليتمسك به ويحرص عليه.
2. ولا يُفهم من كلامه هذا أنَّه يشمل الفرائض كذلك؛ إذ لا يُتصور ذلك منه، ولا أن يُقرَّه عليه النبيُّ ﷺ، كما أنَّ جميع النوافل لا تسدُّ مسدَّ فريضةٍ واحدة[1].
3. فأمره النبيُّ ﷺ بكثرة ذكر اللهِ سبحانه، وأن يظل لسانُه رطبًا نَدِيًّا بذكره تعالى، فيداوم عليه ليلًا ونهارًا.
4. وإنما اختار له ﷺ الذكرَ لسهولته وخفَّته على اللسان، ولعظيم أجره
فقد قال ﷺ:
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُم؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»[2].
5. ويكفي في فضل الذِّكر أنَّ اللهَ سبحانه يقول في الحديث القدسي:
«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[3]
اتباع:
1- (1) إذا تكاثرت عليك الطاعات والنوافل، فتحرَّ أفضلَها جزاءً واغتنم وقتك بها.
2- (1) ينبغي على الدُّعاةِ أن يبينوا للنَّاس ثواب الطاعات والنوافل حتى يحفزهم ذلك على المداومة عليها.
3- (1) على الدُّعاة والمُرَبِّين أن يتخيروا للنَّاس من النَّوافل ما يليق بحالهم، ويعظم أجره عند اللهِ تعالى.
4- (2) ما أيسرَ عبادة الذكر! يؤديها العبدُ من غير مشقةٍ أو تعبٍ. فالسعيد مَن حرص على مثل تلك العبادة.
5- (2) داوِم على ذكر اللهِ سبحانه؛ فبالذكر تُغفر الذنوب، وتُرفع المراتب، ويُطرد الشيطان، ويرضى الرحمن، وتُكشف الكُرَب، وتزول الهموم، ويُبارَك في الرزق، ويَقوى القلبُ والبدن.
6- (2) آية المحبة: الذكرُ وعدم النسيان. فاختبر قلبَك أتراك مُحِبًّا دائم الذكر لربك أم مُدَّعِيًا تلك المحبة؟
7- (2) الذكر مراتب؛ فأعلاها أن تذكرَ اللهَ تعالى بقلبك ولسانك، ثم أن تذكره بقلبك، ثم أن تحرك لسانك بذكره من غير تفكُّرٍ. وبين كلِّ مرتبةٍ بونٌ بعيدٌ وأجرٌ عظيم.
8- (2) الذكرُ حياةُ القلوبِ
ولهذا قال ﷺ:
«مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»[4].
9- قال الشاعر:
عَلَيْكَ بذِكْرِ اللهِ يا طالبَ الأَجْرِ = وَيا راغِبًا في الخَيْرِ والفَضْلِ والبِرِّ
عليكَ بِهِ تُعطى الرغائبَ كلَّها = وتُكفى به كلَّ الْمُهمَّات والضُرِّ
فمَنْ يَذْكُرِ الرحمنَ فَهْوَ جَلِيسُهُ = ومَنْ يَذْكُرِ اللهَ يُكافِئْهُ بالذِّكْرِ
ومَنْ يَعْشُ عن ذِكْرِ الإلهِ فإنه = قَرِينٌ له الشَّيْطَانُ في داخِلِ الصَّدْرِ
ومَن يَنْسَ مَوْلاهُ الكَرِيمَ فَرَبُّهُ = له ناسيًا، أَعْظِمْ بذلك من خُسْرِ!
له استحوَذَ الشَّيْطَانُ نسَّاهُ ذِكْرَ مَنْ = تفضَّلَ بالإيجادِ في أوَّلِ الأمرِ
المراجع
- " كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه" لنور الدين السنديِّ (2/ 418).
- رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377).
- رواه مسلم (2675).
- رواه البخاريُّ (6407)، ومسلم (779).
فقه:
1- للاستغفار صِيَغٌ كثيرةٌ دلَّ عليها الكتاب والسُّنَّة، إلَّا أنَّ أفضلَها وأعظمَها أثرًا وأقربَها للقبول ما سمَّاه النبيُّ ﷺ سيدَ الاستغفار، وهو قول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك" فيبدأ استغفارَه بالإقرار للهِ تعالى بالوحدانية، فهو ربُّه وسيِّده ومالكُه ومُدَبِّرُ أمره، خلقَه بيده، ولا يستحقُّ العبادةَ غيرُه؛ إذ ليس الخالقُ كغيرِه
قال تعالى:
{أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}
[النحل: 17]
2- ثم يجدد العهد بينه وبين ربِّه، ويذكر أنَّه ما زال على عهد الإيمان والعبادة التي أخذها عليه ربُّه حين كان في صُلبِ أبيه
قال سبحانه:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}
[الأعراف: 172]
يقول: إنني ما زلت على عهدي بربي أن أُطيعه ولا أعصيه، ولا أشركَ به شيئًا، قدر استطاعتي، فإن قصَّرتُ في حقِّ شكرِ نِعَمِك أو أذنبتُ في حقِّك فبمقتضى ضعف النفس البشرية لا جهلًا بقدْرِك ولا استخفافًا بجلالِك. وذلك يتضمن الاعتراف بالعجز والتقصير عن القيام بحقوق اللهِ سبحانه.
3- ثم يلجأ إلى ربه مستجيرًا من شرِّ ما عملت يداه؛ من الإساءة في حقِّ ربِّه أو التقصير في القيام بشكره؛ فإنه لا يليق باللهِ تعالى إلا عبادته حقَّ العبادة، فما جاء على خلافِ ذلك فأنا مستجيرٌ بك منه، مُستغفرُك عنه.
4- ثم يُقِرُّ لله تعالى بنعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصى، ويعترف له بذنوبه وزلَّاته.
5- فإذا استهلَّ دعاءه بذلك الإقرارِ المتضمن للثناءِ على اللهِ والإقرارِ بنعمه والاعتراف بذنوبه، عَدَلَ إلى الاستغفار مما اقترف، وسألَ اللهَ تعالى أن يغفر له؛ فإنه لا يغفر الذنوب غيره.
6- ثم يبين النبيُّ ﷺ فضلَ ذلك الدعاء، فيذكر أنَّ مَن قاله حين يصبح موقنًا به، مخلصًا من قلبه، ثم مات قبل أن يُمسي دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي كذلك فمات قبل أن يطلع الصبح دخل الجنة.
وإنما كان هذا الدعاء سيِّدَ الاستغفار لتضمنه الإقرارَ بالوحدانيةِ والاعترافَ بالنِّعم، ولأنَّه مهَّد بين يدي الاستغفار بالثناء على اللهِ تعالى بما هو أهله.
اتباع:
1- (1) «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك» فتُقِرَّ لله عزَّ وجلَّ بلسانك وبقلبك أن الله هو ربُّك المالك لك، المدبِّر لأمرك، المعتني بحالك، وأنت عبده كَوْنًا وشَرْعًا، عبدُه كونًا يفعل بك ما يشاء، إن شاء أَمرَضك، وإن شاء أصحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّكَ، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته عزَّ وجلَّ، وكذلك أنت عبده شرعًا تتعبَّد له بما أَمَر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه[1].
2- (1) احرص على أن تُمَهِّد لدعائك بالثناء على اللهِ تعالى
سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، ثُمَّ لِيَدْعُ بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[2].
3- (1) أفضل الاستغفار أن يبدأ العبد بالثناء على ربه، ثم يُثَنِّي بالاعتراف بالنِّعَم، ثم يُقرُّ لربِّه بذنبه وتقصيره، ثم يسأل بعد ذلك ربَّه المغفرة.
4- (1) ينبغي على العلماء والدعاة والمرَبِّين أن يبينوا للنَّاس أفضل صيغ الثناء على الله تعالى، وخير أدعية الاستغفار، وأطيب ألفاظ الصلاة على النبيِّ ﷺ، ويُعَلِّموهم ما يحتاجون إليه في يومهم من الأوراد والأدعية والأذكار.
5- (2) يجب على العبد أن يُخبر ربَّه بلسان الحال والمقال أنه ما زال على عهده معه بالطاعة والإيمان بقدر استطاعته، واللهُ لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
6- (3) ينبغي على المسلم أن يتبرأ إلى الله من معاصيه، ويستجير به منها، فإنه لا يليق بحقِّ اللهِ سبحانه إلا تمام الطاعة.
7- (3) إياك والتفاخر بالمعصية، والجهر بها؛ فإن اللهَ سبحانه يغفر لكل مسلمٍ إلا المجاهر بالمعصية
قال ﷺ:
«كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ»[3].
8- (4) الاعتراف بالنِّعم التي أنعم اللهُ سبحانه بها على الإنسان يستوجبُ شكرَها، وذلك بألا يستخدمها العبدُ في المعصية.
9- (4) الاعترافُ بالذنب أوَّلُ التوبة، فلا تُكابِر في الإقرار بالذَّنب لعل الله يغفره لك.
10- (4) إياك واحتقار الذنب؛ فإن احتقارَه والاستهانة به تدفعك إلى المزيد من الذنوب، ولا تحضك على التوبة، ولهذا قال الفُضَيل بن عياضٍ رحمه الله: "بقدرِ ما يصغُرُ الذنبُ عندك، يَعظُمُ عند الله، وبقدر ما يَعظُمُ عندك، يَصغُرُ عند الله"[4].
11- (4) المؤمن يرى ذنوبَه وإن صَغُرتْ عظيمةً، فيندم على فعلها، ويلجأ إلى ربِّه بالاستغفار والإنابة، قال عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: "إن المؤمنَ يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبلٍ يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجرَ يرى ذنوبه كذُبابٍ مرَّ على أنفه، فقال به هكذا"[5].
12- (5) لا يغفر الذنبَ إلا الله تعالى، فالجأ إليه وحده بالاستغفار وطلب الرحمة، وإياك وسؤالَ الأموات والتوسل إليهم.
13- (5) من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده[6].
14- (6) احرص على حفظ دعاء سيد الاستغفار، وحافظ عليه صباحًا ومساءً، فإنك إن متَّ من يومكَ، فأنت من أهل الجنة، وإن متَّ من ليلتكَ، فأنت من أهل الجنَّة.
15- (6) اغتنم الأدعية والأذكار التي ذكر النبيُّ ﷺ فضائلها، مثل هذا الدعاء الذي يضمن للعبد الجنة.
16- (6) على الدُّعاةِ والمُرَبِّين والعلماءِ أن يُبَيِّنوا للنَّاس ثوابَ الذِّكرِ والدعاءِ المأثورِ؛ فإن ذلك مما يشجع على المداومة عليه.
17- قال الشاعر:
يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً = فلقد عَلِمْتُ بِأَنَّ عفوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ = فَمَن الذي يَدْعُو ويَرْجُو المجرِمُ؟!
أَدْعُوكَ رَبِّ كما أمرتَ تَضَرُّعًا = فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فمن ذا يَرْحَمُ؟!
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا = وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
18- وقال غيره:
إلهي لا تعذِّبني فإني = مُقِرٌّ بالذي قد كان منِّي
وما لي حيلةٌ إلَّا رجائي = لعفوِكَ إن عفوتَ وحُسْنُ ظنِّي
فكم من زلَّةٍ لي في البرايا = وأنتَ عليَّ ذو فضل ومَنِّ
يظنُّ الناسُ بي خيرًا وإنِّي = لشرُّ النَّاسِ إن لم تعفُ عنِّي
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717).
- رواه أحمد (23937) وأبو داود (1481) والترمذي (3476).
- رواه البخاري (6069)، ومسلم (2990).
- "سير أعلام النبلاء" للذهبيِّ (8/ 427).
- رواه البخاريُّ (6308).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
فقه:
1- يُخبِر النبيُّ ﷺ أن خيرَ الناس، وأعلاهم درجةً عند الله تعالى مَن أَقبَل على القرآن الكريم، فتَعلَّمه تلاوةً وحِفظًا وعَملًا، فأصبح عالِمًا بمعانيه وأحكامه، ثم أقبل على تعليمه للناس، فيَنال بتعلُّمه درجة المتعلِّمين، وبتعليمه درجة العالِمين.
ويُشترط مع العلم والتعليم أن يكون الشخص عاملًا بما عَلِم؛ وجاء عن عيسى ﷺ أنه قال: "من عَلِم وعَمِل وعلَّم يُدعى في الملكوت عظيمًا"[1].
2- وسار التابعون رحمهم الله على خُطى الصحابة في حفظ القرآن وتعلُّم أحكامه ومعانيه، وتعليمه للناس، فهذا أبو عبد الرحمن السُّلَمي رحمه الله التابعي راوي ذلك الحديث عن عثمان يجلس للإقراء والتعليم، منذ عهد عثمان بن عفان إلى زمان الحجاج بن يوسف، ما يقارب أربعين سنة.
وأبو عبدالرحمن هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة الكوفي، من أولاد الصحابة ، مولده في حياة النبي ﷺ، قال أبو عمرو الداني: أخذ القراءة عرضًا عن عثمانَ، وعليٍّ، وزيدٍ، وأبيٍّ، وابنِ مسعود، وأخذ عنه القرآن : عاصم بن أبي النجود - شيخ حفص صاحب القراءة المشهورة: حفص عن عاصم-..، توفي سنة أربع وسبعين[2].
3- يقول السلميُّ: «فذاك الذي أقعدني في مقعدي هذا»؛ أي: أن سبب بقائه المدة الطويلة لتعليم القرآن هو العمل بهذا الحديث، ورغبته في الدخول في مدلول «خيركم».
اتباع:
1- استمع لهذا الحديث ثم اجتهد في تعلم القرآن الكريم، ومعرفة أحكامه، وضبط تلاوته، والوقوف على معاني ألفاظه وتدبر آياته، ثم نشر ذلك في الناس؛ فإنَّ المغبون من تكاسل أن يكون من خير الناس.
2- الناس يتنافسون أن يكونوا الأفضل، فهذا بمنزله، بسيارته، وهذا بلباسه، وهذا بمنصبه، لكنَّ النبيَّ ﷺ جعل خيرَ الناسِ مَن تعلَّم القرآن وعلَّمه، فليكن ميزانك وتقويمك لنفسك وللناس بما أخبر الله تعالى.
3- من أراد خير الدنيا فعليه بالقرآن، ومن أراد خير الآخرة فعليه بالقرآن، ومن أرادهما معا فعليه بالقرآن.
4- كمال العلم بالعمل وبالتعليم، فعلى المعلم أن يبذل ما في وسعه في تعليم طلابه، ولا يبخل عليهم بشيء، وعلى الطالب أن يعلم أقرانه ما تعلمه من معلمه.
5- لا تتحقق في العالم المُعَلِّم الخيرية حتى يكون عاملًا بما عَلِم
قال تعالى:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾
[البقرة: 44]
فيتأدب بآداب القرآن الكريم؛ حتى يكون قدوة معلّمًا لغيره حقا، وباعثاً لهم على تعلم القرآن، قال عبد الله بن مسعود: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرف بِلَيْلِه إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخلطون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا محزونًا حكيمًا حليمًا عليمًا سكيتًا، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافيًا، ولا غافلًا، ولا صَخَّابًا، ولا صَيَّاحًا، ولا حديدًا»[3].
6- متى رأيت صاحب قرآن علمه وعمل به وعلّمه: فأحبه، وأكرمه، ولو كان شيخاً من فقراء الناس، ومن غرباء الأرض، فلعله من خير الناس، خصوصًا إذا كان ممن علمك القرآن، فله عليك حقوق.
7- قولوا لمعلِّم القرآن أن يصبر على جلوسه للناس، وعلى الساعات الطوال في مسجد أو معهد أو عبر وسائل التواصل، ولا يقع في ذهنه أنه كبُر عن ذلك، فقد جلس أبوعبدالرحمن السلمي أربعين سنة يطلب فضل تعليم القرآن.
8- من لم يعلّم القرآن بطريق مباشرة، فليعلّمه بما تيسر له ، كالحث على ذلك بالكتابة والخطابة، وطباعة الكتب، وبناء البرامج التقنية، وتأسيس حلقات القرآن الكريم، ومكافأة معلميها وطلابها، ونشر المقاطع الصوتية، وغير ذلك.
9- قال الشاعر:
اسْلُكْ دُرُوبَ العارفيـنَ بهِمَّةٍ = والْـَزمْ كتـابَ الله غيـرَ مبـالِ
فهُوَ الْمُعِينُ عَلَى الشَّدَائـدِ وَطْـأةً = وهُوَ الْمُهَيْمِنُ فَوْقَ كلِّ مَجَـالِ
وَهُوَ الشَّفِيعُ عَلَى الخلائقِ شاهـدٌ = في مَوْقِفٍ يُنْجِي مِنَ الأَهوالِ
المراجع
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1452، 1453).
- "سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 268).
- "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" لأبي نعيم (1/ 130).
فقه:
1- يذكر أبو سعيد بن المُعَلَّى أنه كان يُصَلِّي، فناداه النبيُّ ﷺ فلم يردَّ عليه واستكمل صلاته.
2- فلمَّا أنهى صلاتَه ذهب إلى النبيِّ ﷺ مجيبًا، ومُبَرِّرًا عدم إجابته له بأنه كان في الصلاة، ظناً منه أنَّه لا يجوز له أن يقطعها، أو يتكلم فيها عند كلام رسول الله ﷺ له، وأن إجابة رسول الله ﷺ واجبة فقط لمن هو خارج الصلاة، فلهذا لم يُجبه.
3- فأخبره النبيُّ ﷺ بأنَّ إجابته واجبة على الفور سواء كان في الصلاة أو في خارجها
لقوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
[الأنفال: 24]
فالنبي ﷺ لا يدعوه إلا لأمر مهم.
4- ثم أخبره ﷺ أنه سيذكر له أعظم سورة في القرآن قبل أن يخرج من المسجد.
وهذا يدل على أنَّ سور القرآن تتفاضل في الأجر وثواب القراءة
قال تعالى:
﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾
[البقرة: 106]
وذلك لما فيها من معاني أسماء الله تعالى وصفاته، وتوحيده والثناء عليه وصيغ دعائه وتمجيده، ولذلك كانت آية الكرسي أعظم آية في القرآن، وفاتحة الكتاب أفضل سورة فيه، وتعدل سورةُ الإخلاصِ ثُلثَ القرآن.
5- ثُمَّ إنَّ النبيَّ ﷺ أخذ بيد أبي سعيد وَهَمَّ بالخروج من المسجد، إما نسيانًا لوعده بإخبار أبي سعيد عن أعظم سورة، وإما اختبارًا لأبي سعيد لينظر حرصه على العلم، فذَكَّره أبو سعيد بقوله قبل أن يخرج من الباب.
6- فأجابه النبيُّ ﷺ بأن سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن الكريم، فهي السبع المثاني؛ سُمِّيت بذلك لما فيها من الثناء على الله، ولأنها تُثنَّى -أي تُعاد- في الصلاة، ولأنها مما استثناه الله تعالى لأمة نبيه ﷺ، وهي سبعٌ لأنها سبع آيات، وهي القرآن العظيم اللذان امتنَّ الله على نبيِّه ﷺ بإيتائهما له في قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾
[الحجر: 87]
اتباع:
1- إذا كانت الاستجابة لأمرِ النبيِّ ﷺ واجبةً على المسلم، حتى لو كان في الصلاة، فمن باب أولى الاستجابة لأوامر النبيِّ ﷺ في جميع شؤون حياته، وعدم تقَدِّيم رأيَ الإنسان وهواه على سُنَّةِ النبيِّ ﷺ وشرعه، فوطِّن نفسك لذلك دائمًا.
2-
في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
[الأنفال: 24]
إشارةٌ إلى أنَّ الحياة المُعتبرة المَرجُوَّة إنما هي حياة القلوب والأرواح لا مجرد حركة الأجساد وابتغاء الشهوات، وهي التي تُورث السعادة في الحياة الأبدية في الآخرة، لا تلك الحياة الفانية، فمن أراد أن يحيا حقًّا فليلزم طاعةَ الله ورسوله ﷺ، فهي وحدها سبيل الحياة السعيدة في الدنيا والآخرة.
3- احرِص على طلب العلم ولا يشغلك عنه شيءٌ، ولا يصدَّنَّك عن السؤال حياءٌ أو استكبار؛ فإنَّ أبا سعيد لم يستحِ من أن يُذَكِّر النبيَّ ﷺ بما نسيه من وعده بإخباره أعظم سورة في القرآن، ولا من أن يتباطأ عن الخروج معه، على عظيم مكانته ﷺ في قلوب أصحابه، لحرصه على الحديث ومعرفة العلم.
4- في الحديث دليل على رحمة النبي ﷺ بأصحابه، وحرصه على تعليمهم ما ينفعهم، فعلى المعلم أن يتخلق بخلق النبي ﷺ في التعليم، وعلى الطالب أن يتخلق بخلق أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه في التعلم والحرص.
5- على طالب العلم ألا يترك الخير حتى يضيع من يده، فلو أن أبا سعيد بن المعلى رضي الله عنه ترك النبي ﷺ حتى خرج من المسجد، لما تعلم هذه الفائدة العظيمة.
6- إذا تفاضلت سور القرآن في الأجر والثواب؛ فإنَّه ينبغي على المسلم أن يتدارك ذلك الفضل بأن يُكثر من قراءة الآيات والسور التي ورد في فضلها الأحاديث الصحيحة، فضلًا عن أن يحفظها، ويتدبر معانيها، ويفهم سرَّ رفعتها.
7- من أسرارِ علوِّ منزلة الفاتحة: أنَّ الله تعالى ابتدأها بالحمد والثناء والتمجيد قبل الدعاء، وهذا من آداب الدعاء التي ينبغي على العبد أن يحرص عليها ليستجاب دعاؤه
فعَنْ فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ، قَال:
سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[1].
8- قال الشاعر:
اقْرَأْ كِتَابَ اللهِ وَافْهَمْ حُكْمَهُ = تُدْرِكْ عَطَاءَ اللهِ فِي إِحْسَانِ
فَهُوَ الخِطَابُ لِكُلِّ عَقْلٍ نَابِهٍ = وَهُوَ الضِّيَاءُ بِنُورِهِ الرَّبَّانِي
يَهْدِي إِلَى الخَيْرِ العَمِيمِ وَإِنَّهُ = أَمْنُ القُلُوبِ وَرَاحَةُ الأَبْدَانِ
قَدْ أَنْزَلَ القُرْآنَ رَبٌّ حَافِظٌ = لِيُعَلِّمَ الإِنْسَانَ خَيْرَ بَيَانِ
المراجع
- أبو داود (1481)، والترمذيُّ (3477)، والنسائي (1284).
فقه:
1- أخبر أُبَيٌّ ﷺ أن النبيَّ ﷺ سأله مرةً، فقال: أتعلم أي آية من كتاب الله تعالى أعظم، وأعلى في الثواب والفضل وعظيم المنزلة؟
2- فأجاب أُبَيٌّ بإسناد العلم إلى الله تعالى وإلى نبيه ﷺ، وإن كان عنده بالجواب؛ تعظيمًا للكلام في الدين، ورعايةً للأدب، وتواضعًا.
وإنما أسند العلمَ إلى النبيِّ ﷺ بعد اللهِ تعالى لأنَّ ذلك من أمور الشرع التي بيَّنها اللهُ تعالى لنبيه ﷺ، أما أمور الغيبيات فلا يجوز فيها إسناد العلم إلى غير الله تعالى
قال جل وعلا:
﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾
[الأنعام: 59]
3- ثم كرَّر النبيُّ ﷺ السؤالَ على أُبَيِّ بن كعب يستحثه على الجواب، دون اكتفاءٍ منه بتفويض العلم إلى الله ورسوله.
4- فلمَّا رأى أُبَيٌّ ذلك أجاب بأن تلك الآية هي آية الكرسي.
وإنما لم يُجب من المرة الأولى لأنَّه اعتاد أنَّ النبيَّ ﷺ يسأل لاستثارة الأفهام وجلب الأسماع، ولأنَّه ﷺ ربَّما يُجيب بغير المعتاد؛ كأن يكون نزل الوحي عليه يُخبره بأفضلية آية أخرى مثلًا، أو يزيده فائدة أخرى، فلمَّا كرَّر النبيُّ ﷺ السؤال، علم أُبَيٌّ أنَّه ﷺ يريد استظهار ما عنده من العلم والفهم، ولهذا أجاب بأنها آية الكرسيِّ [1].
وإنما كانت آية الكرسيِّ أعظم آيات القرآن لما فيها من بيان توحيد الله تعالى، وإثبات صفات الكمال له سبحانه، وذكر أسمائه الحسنى، ونفي كل ما يُوهم النقص في حقِّه سبحانه مثل النَّوم ومقدماته.
5- فضرب النبيُّ ﷺ في صدر أُبَيٍّ إشارةً إلى انشراحه وامتلائه علمًا وحكمة، وهذا تلطُّف منه ﷺ؛ ليتمكَّن العلمُ في صدره، وتنشيطٌ له، وترغيبٌ في أن يزداد علمًا وبصيرة، وفَرَحٌ بما ظهر عليه من آثاره المباركة [2].
6- ثم دعا له النبيُّ ﷺ : هنيئاً لك بأن يكون العلمُ يسبب له الهناء والسعادة، وأن يكون راسخًا في العلم متقنًا له، وهو دعاءٌ متضمن معنى الإشادة والإخبار بعلم أُبَيٍّ [3].
ولآية الكرسي فضائل كثيرة، فجاء أنها أعظم آية، وأنها حفظ من الشيطان، وتقرأ بعد الصلاة المفروضة، وقبل النوم، وغير ذلك[4]
اتباع:
1- خاطب الآخرين بالألقاب التي يحبونها -مما لا تكره شرعًا- فقد كان ﷺ لأصحابه ينادي أصابه بكُنى يحبونها، رغم علوِّ منزلته وصغر سِنِّهم، وأنهم في منزلة التلاميذ منه ﷺ. فحَرِيٌّ بكل مسلم أن يقتدي به ﷺ في ذلك، خاصةً العلماء وأهل الدعوة والتربية؛ فعليهم ملاطفة طلابهم بالكلام الجميل والأسلوب المهذب، والمناداة لهم بأحب الأسماء ونحو ذلك، فلذلك أعظم الأثر في نفوسهم.
2- عوِّد لسانك على قول (الله أعلم) ، فهي أسلم لك، وأعزّ لك، وهي دأب أهل العلم، فأبيِّ بن كعب من أهل العلم بالقرآن حتى قال ﷺ: «خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبيِّ بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة»[5]، وهو كان عنده علم أو ظنٌّ غالب بجواب السؤال عن أعظم آية، ومع ذلك فقد بادر إلى إيكال العلم إلى الله تعالى.
3- من أساليب التعليم المؤثرة التي تلقى عند الطالب والمُعلِّم صداها: أسلوب السؤال والجواب؛ فإن المسؤول إذا فوجئ بسؤالٍ لم يعرف له جوابًا كان حريصًا على معرفة الجواب، وأفضل لثبوت الجواب في ذهنه وعدم نسيانه، بخلاف إملاء العلم وإلقائه على المتلقي فقد يكون عُرضة للنسيان.
4- من جميل الأدب أدب السؤال، وله أحوال: فقد يسكت عن جواب سؤالٍ يعلم جوابَه، إجلالًا للسائل، ورغبةً في الإنصات لما عنده من الجواب، الذي ربما يكون فيه زيادة عمَّا عنده، وقد يجتهد في الإجابة عند وجود المعلم الذي يصحح له الخطأ إن أخطأ.
5- اعتن بآية الكرسي، فهي إن كانت أعظم آية فقد عظم شأن حفظها، وتعلمها، وتدبر آياتها، وتعليمها؛ سواء في البيوت، أو المدارس، أو في بحوث أهل العلم.
6- في ضرب النبي ﷺ لصدر أبي بن كعب بعد جوابه مؤانسة حسية له ، وتثبيت للعلم، فقد بقيت في ذهنه، وفي أذهان الرواة من بعده.
7- إذا رأيت طلابك وأولادك وأصحابك أصابوا الحقَّ، فادعُ له، وأثنِ عليهم، واعترف بصوابهم، ولا تتكبر عليهم، وأعط كل ذي حق حقه، ؛ كما فعل النبي ﷺ مع أُبَيِّ بن كعب.
8- دلَّ الحديث على أنَّه يجوز للإنسان أن يمدح غيره في وجهه إن كانت هناك مصلحة من ذلك، كأن يكون في مدحه تحفيزٌ له على المداومة على الخير والجدِّ والاجتهاد.
المراجع
- "البحر المحيط الثجاج" للإتيوبيِّ (16/ 395).
- "المفهم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 436).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
- انظر: "تفسير ابن كثير" آية (255).
- البخاري (4999) ومسلم (2464).
فقه:
1- سأل النبي ﷺ أصحابه رضي الله عنهم: ألا يقدر أحدكم أن يقرأ ثُلُثَ القرآن في كل ليلة؟
2- فتعجَّب الصحابةُ من السؤال؛ فإنَّ ذلك مما يشقُّ عليهم، وليس من عادته ﷺ أن يُكلِّفهم بما لا يستطيعون.
3- فأخبرهم ﷺ بأنَّ سورة «الله الواحد الصمد» تَعْدِل ثُلُثَ القرآن في الأجر والفضل والثواب، وهي سورة الإخلاص، لتضمنها تلك الكلمات
وهي قوله تعالى:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ﴾
[الإخلاص: 1 - 2]
وكلمة الصَّمَد تتضمن عدة أوصافٍ لله تعالى، منها أنه تعالى لا جوف له فلا يحتاج لطعام ولا غيره، ولا يُشبهه أحدٌ، وأنه سبحانه الذي يُصمد -أي: يُقصد- في الحوائج، فهو غنيٌّ عن جميع خلقه، وهم مفتقرون إليه، وأنه الباقي بعد فناء جميع الخلق [1].
وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، فَقَرَأَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ) حَتَّى خَتَمَهَا[2].
وإنما كانت تلك السورة على قلة عدد كلماتها تَعْدِل ثُلُثَ القرآن لما فيها من التوحيد وبيان أسماء الله تعالى وصفاته ونفي الشريك والشبيه والولد؛ فإنَّ كتاب الله تعالى تضمَّن ثلاثة أصول: بيان التوحيد وصفات الله تعالى، وذكر أحكام الشريعة وما يحل وما يحرم، والإخبار عن قصص السابقين، وقد تناولت السورة الأصلَ الأولَ منها وهو التوحيد، ولذلك من قرأ سُورةِ الإخلاص نال مثلَ ثواب من يقرأ ثُلُثَ القرآن [3].
اتباع:
1- اعتن بأساليب الخطاب، فالكلام وإن كان صحيحاً نافعاً، فإن أسلوب العرض يهيئ قبوله، فانتبه لذلك في خطابك لأولادك وأهلك وطلابك ومن تتعامل معهم بنصح أو تجارة أو غيرها.
2- هيَّأ النبيُّ ﷺ أصحابه -رضي الله عنهم أجمعين- بسؤال غريب إلى قبول الجواب وتلقي العلم، حيث لمَّا سألهم عن أمرٍ مستبعدٍ بالنسبة لهم، تعلَّقت أسماعهم وانصرفت أفهامهم إلى كلامه ﷺ ليروا كيف يستطيعُ المرءُ أن يقرأ ذلك الكَمَّ في ليلة. فيحسن بالداعية والفقيه والمُعَلِّم والمُرَبِّي أن يجذب أسماع وأفهام مَن حوله بالأسئلة العجيبة والأخبار الغريبة، التي من شأنها جلب الأبصار والأسماع.
3- يُظهر الحديث حكمة النبي ﷺ في تعليم أصحابه، حيث واجههم بأسلوب العرض، وليس بأسلوب الأمر، فعلى المعلم أن ينتهج نهج النبي ﷺ في التعليم، فهذا الأسلوب أفضل في حث الطلاب على فعل المراد.
4- الشريعة جاءت بالتكاليف اليسيرة التي تحمل الخيرَ والفضلَ الكثير، فلا يليق بمسلمٍ أن يُفَوِّت تلك النفحات، بل ينبغي أن يحرص على الاستفادة من تلك الهِبات الربَّانية.
5- يُظهر الحديث حسن أدب الصحابة رضي الله عنهم، فلم يواجهوا النبي ﷺ بالنفي والرفض، بل التمسوا العذر بحسن أدب، فعلى الطالب أن يتأدب بأدبهم تجاه معلمه.
6- اعتن بسورة الإخلاص، فلم يعظّمها رسول الله ﷺ إلا لكونها عظيمة، فاعتن بحفظها، وتعلمها، وتدبر آياتها، وتعليمها؛ سواء في البيوت، أو المدارس، أو في بحوث أهل العلم، وهذا الشأن فيما عظم الله تعالى.
7-
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:
أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟»، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»[4].
8- قال الشاعر:
أَيَا مَنْ لَيْسَ لِي مِنْهُ مُجيرُ = بعفوِكَ من عِقَابِكَ أستَجِيرُ
أَنَا العَبْدُ الْمُقِرُّ بِكُلِّ ذَنْبٍ = وَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الغَفُورُ
فَإِنْ عَذَّبْتني فالذَّنْبُ ذَنْبي = وإِنْ تَغْفِرْ فَأَنْتَ به جَدِيرُ
المراجع
- "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (4/ 506).
- مسلم (262).
- "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).
- البخاري (7375)، ومسلم (813).