فقه
يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ خيرَ النَّاسِ وأفضلهم أهلُ زمانه من المؤمنين، وهم أصحابه الذين لقوه وآمنوا به وماتوا على الإسلام، وتحملوا عبء الدعوة وحمل راية الإسلام والجهاد في سبيل اللهِ تعالى ونصرة نبيِّه ﷺ.
وقد أثنى اللهُ تعالى عليهم في كتابه في غير موضعٍ
كقوله تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
[التوبة: 100]
وأخبر في غيرها من الآيات أنَّه تاب عليهم ورضي عنهم. بل فسَّر ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما
قولَه تعالى:
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}
[النمل: 59]
فقال: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[1].
2. ثم يأتي بعد الصحابةِ في الفضل والخيرية: مَن بعدهم من التابعين، الذين أدركوا الصحابةَ وتتلمذوا على أيديهم، ونقلوا عنهم كتابَ اللهِ تعالى وسُنَّةَ نبيه ﷺ، وبلَّغوا عنهم أقوالهم في التفسير والفقه والتوحيد.
3. ثم أتباع التابعين الذين حملوا الرسالة وبلَّغوا العلم ودوَّنوا السُّنَّة، وأظهر اللهُ سبحانه بهم الإسلام، وانتشر الدينُ في بقاع الأرضِ كلها.
وقد أثنى اللهُ تعالى على الجميع فقال في حقِّ الصحابة:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
[الحشر: 8، 9]
وقال سبحانه في التابعين وأتباعهم:
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}
[الحشر: 10].
4. ثم إنَّ عمران بن حصين رضي الله عنه شكَّ هل ذكر النبيُّ ﷺ بعدهم قرنًا آخر أم اكتفى بالقرنين السابقين من التابعين وأتباعهم، وأكثر الروايات جاءت من غير الشكِّ وإقحامِ قرنٍ ثالث.
5. ثم أخبر ﷺ بما يظهر في أمته بعد ذلك من الفساد والشَّرِّ؛ حيث يكون في أمته بعد تلك القرون قومٌ يسبقون بأداء الشهادة من غير أن تُطلب منهم، وليس ذلك لحرصهم على أداء الشهادات وإيفاء الحقوق، وإنما لتهاونهم بالشهادات وشهادتهم بالباطل والزور، ويشهد لهذا رواية ابن مسعود رضي الله عنه للحديث، وفيها: «ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[2]، ومعنى ذلك أنهم لا يأبهون بالشهادة ولا يُبالون بأن يكونوا من أهلها أم لا. أما الذين يبادرون بالشهادة لإقامة العدل ونصرة المظلوم فهم خير الشهداء، كما قال ﷺ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»[3].
6. ومن صفاتهم كذلك أنهم يخونون الأمانات، فلا يأتمنهم النَّاس على دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم.
7. ومن صفاتهم كذلك أنهم لا يُوفون بما أوجبوه على أنفسهم للهِ تعالى أو للنَّاس؛ فإن نذر أحدهم طاعةً للهِ تعالى أو وعد إنسانًا بشيءٍ، فإنهم يُخلفون ذلك ولا يُنَفِّذوه.
وهذه الصفات التي اتصفوا بها هي صفات المنافقين الذين أخبر النبيُّ ﷺ بسمتهم في قوله: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[4].
8. ومن سماتهم كذلك أنهم آثروا الدُّنيا وتعلَّقوا بها، حتى ظهر ذلك على أبدانهم، فأصابتهم التُّخمة والسِّمنة التي هي دليلُ الغفلةِ والانهماك في لذَّات الدنيا. ولا يعني ذلك أن يكون كلُّ سمينٍ غافلًا أو فاسقًا، أو يكون كلُّ فاسدٍ منافقٍ سمينًا، وإنما الأمر على التغليب، والمقصود أنه كناية عن حُبِّ الدنيا والانشغال بها.
اتباع:
(1) يجب على كلِّ داعيةٍ ومُرَبٍّ وولي أمرٍ أن يغرس في قلوب النَّاس حبَّ الصحابةِ رضوان الله عليهم وتوقيرهم.
(1) على المسلم أن يقرأ في سير الصحابة وأخبارهم، ويتأسى بأخلاقهم وإيمانهم، فهم كما وصفهم ابن عباس رضي الله عنهما: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[5].
(1) إياك والانتقاص من قدر الصحابة أو سَبِّهم؛ فإنهم أصحاب النبيِّ وصفوةُ الخلقِ بعد الأنبياء.
(1) الأسلمُ لنفسك ودينك أن تُعرض عمَّا دار بينهم من الخلاف والفتنة؛ فهم مُتَأَوِّلون معذورون.
(1) علامة الإيمان حبُّ الصحابة، وآية النفاق بغضُهم. فانظر في نفسك؛ أمؤمن أم منافق؟
(2) اقرأ سير التابعين من أعلام الأمة، لتتأكد كيف صاروا خيرَ النَّاس بعد الأنبياء والصحابة.
(3) عليك أنْ تترضَّى عن أصحابِ النبيِّ ﷺ، وتترحم على التابعين لهم بإحسان وأتباعهم، وتسأل الله سبحانه أن يجمعك بهم مع النبيِّ ﷺ في الفردوس الأعلى.
(4) من الأمانة العلمية أن تُبين شكَّك أو خطأك في مسألةٍ ما، بدلًا من أن تكابر وتجادل، فتَضِلَّ وتُضِلَّ.
(5) الشهادة أمرٌ عظيمٌ وخطرٌ كبيرٌ، فإياك والاستهانةَ بأمرها، فإن اتضح لك أمرٌ وضوحَ الشَّمسِ وكنتَ أهلًا للشهادة فافعل، وإلا فلا.
(5) لا يتعارض هذا الحديث مع المبادرة إلى الشهادة بما علمت يقينًا؛ فلا تنتظر دعوةَ مظلومٍ لشهادتك، بل بادِر بالشهادة، خاصةً إذا لم يقم مقامَك أحدٌ.
(6) إياك وخيانة الأمانات؛ فقد نهى اللهُ تعالى عنها
فقال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
[الأنفال: 27].
12. (6) من خيانة الأمانات: عدم إتقان العامل في عمله، والغش في الامتحانات، والغش في البيع والشراء والمعاملات، والتَّغرير بالمرضى لدفع أموالٍ باهظةٍ فيما لا يستدعي.
13. (7) الوفاء بالوعد من علامات المؤمنين وأخلاقهم
قال تعالى:
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ}
[الرعد: 20].
فتحلَّ بصفات المؤمنين، وإياك وصفات المنافقين.
14. (7) النَّذرُ مكروهٌ، لأنك يلزم نفسك بشيء لا يلزمك في أصل الشرع، فتحرج نفسك وتثقلها بذلك، لكن إذا نذرتَ شيئًا لزمك الوفاءُ به
قال تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج: 29].
15. (8) لا تتعلق بملذَّات الدنيا وشهواتها، بل خذ من الحلالِ ما يُقيم قوتَك ويُغنيك عن الحرام؛ فإن الانشغال بالدنيا مُؤْذِنٌ بالإعراضِ عن الدين.
16. قال الشاعر:
إنّ الذوائبَ منْ فِهْرٍ وإخْوَتهمْ = قدْ بيَّنُوا سُنَّةً للنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بهَا كُلُّ مَن كانَتْ سرِيرَتُهُ = تَقْوى الإلهِ وبالأمرِ الذي شَرَعَوا
قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ = أوْ حاوَلُوا النَّفْعَ في أشياعِهِمْ نَفَعُوا
سَجَيَّةٌ تلكَ منهمْ غيرُ محدَثةٍ = إنَّ الخلائِقَ، فاعلَمْ، شَرُّها البِدَعُ
لا يَرْقَعُ النّاسُ ما أوْهَتْ أكفُّهُمُ = عندَ الدِّفاعِ، ولا يوهونَ ما رَقَعوا
إنْ كان في الناس سَبَّاقُونَ بَعْدَهُمُ = فكُلُّ سَبْقٍ لأدنى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
ولا يَضَنُّونَ عَنْ مَوْلًى بِفَضْلِهِمِ = وَلا يُصِيبُهُمُ في مَطْمَعٍ طَبَعُ
لا يَجهَلونَ، وإن حاولتَ جَهْلَهمُ = في فضلِ أحلامهمْ عن ذاكَ مُتَّسَعُ
أعِفّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْيِ عِفَّتُهُمْ = لا يَطْمَعُونَ، ولا يُرْديهمُ الطَّمَعُ
كَمْ من صَدِيقٍ لهمْ نالوا كرامتَهُ = ومِنْ عَدُوٍّ عَليهمْ جاهِدٍ جَدَعوا
أَعَطَوْا نبيَّ الهُدى والبِرِّ طاعتَهمْ = فمَا وَنَى نَصْرُهُمْ عنْهُ وَما نَزَعُوا
أكرِمْ بقومٍ رسولُ اللهِ شِيعتُهمْ = إذا تفرَّقَتِ الأهْوَاءُ والشِّيَعُ
المراجع
- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
- رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
- رواه مسلم (1719).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).
فقه
يُحَدِّثُ النبيُّ ﷺ أصحابه بأمرٍ من أمور الغيب، وهو سؤال القبر ونعيمه وعذابه، فيذكر ﷺ أنَّ المَيْتَ إذا وُضع في قبره وانصرف عنه أهله تُرَدُّ إليه رُوحُه ويحيى حياة خاصة، تسمى بالحياة البرزخية حتى إنه ليسمع صوت أحذيتهم وضربها الأرض إذا انصرفوا عنه.
ثم يأتيه مَلَكان، وقيل إن اسمهما: مُنْكَرٌ ونكير، فيُجلسانه ثم يسألانه عن رسول الله ﷺ: ما يقول فيه؟ هل آمن به وصدَّقه وعَمِل بشرعه أمَّ كفر به واستهزأ بدينه؟
وقد ورد في السُّنَّة الصحيحة أنَّ العبدَ يُسألُ عن ربِّه ودينه وعن النبيِّ ﷺ[1]، فاكتفى في هذا الحديث بذكر النبيِّ ﷺ؛ فإن الإيمان بالنبي ﷺ يستلزم الإيمان بالله، واتخاذ الإسلام دينًا.
3. فإذا كان العبدُ مؤمنًا أجاب بأنَّ محمدٌ رسولُ الله ﷺ، وأنه آمن به واتَّبع شرعه، فتُبشِّره الملائكةُ بالجنَّة، وتُريه مقعده من النار الذي أعدَّه الله له إن كان مات على الكفر، ثم تُريه مقعده في الجنة، الذي أعده الله له بعد صدق جوابه وحسن إيمانه؛ فيُسَرُّ بذلك، ويُفسح له في قبره.
4. وإن كان الميت كافرًا أو منافقًا وسأله الملكان فإنه يقول: لا أدري، كنت أقولُ كما يقول الناس، فالكافر كان يقول بقول الكافرين: ساحرٌ وشاعرٌ وكذَّابٌ ومجنونٌ ونحو ذلك، والمنافق كان يقول بقول المؤمنين إلا أنه كان يقول بلسانه ولا يعتقد ما يقوله بقلبه ولا يؤمن به.
5. فيجيبه المَلَكان بالدعاء عليه، فيقولان: لا عَرَفتَ ولا اتَّبَعْتَ مَن يعرف، ولا انتفعت بالقرآن الذي قرأتَه أو سمعتَه، وذلك أنه لم يكلف نفسه عناءَ البحث والقراءة.
6. ثم يُضرب على رأسه بمطرقة من حديد ضربةً قويَّةً يصرخ منها صرخةً مُدَوِّيَةً، يسمعها كل الخلائق من البهائم، إلا الإنس والجن؛ رأفةً بهم؛ فإنهم لو سمعوا ذلك الصوت، لفسدت عليهم حياتهم، ففي الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قال:
«إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»
[2]،
ولأنهم لو سمعوا ذلك الصوت لصار العبادُ مجبورين على الطاعة والامتناع عن المعصية، وذلك منافٍ لمقصود الابتلاء[3].
وعذاب القبر وسؤال الملكين حقٌّ ثابتٌ بالقرآن والسُّنَّة[4]، فعلى المسلم أن يؤمن بذلك ولا يُكَذِّب به وإن عجز عقلُه عن إدراكه، والنجاة من القبر بشرى بالنجاة يوم القيامة، فمن نجى في هذه المرحلة كان ما بعدها يسيراً عليه.
اتباع
تخوَّل نفسك وغيرك بالموعظة، وارجع إليها في كلام الله تعالى وكلام رسوله ﷺ، وقد يسَّرها الله تعلى في كتب منشورة، ومقاطع مسموعة ومنظورة، فليكن لك نصيب كل حين بتذكر الآخرة وأولها القبر، لتحمل نفسك على الاستعداد ليوم حق.
إذا سمعتَ خبرًا عن الله تعالى أو عن رسوله ﷺ ففكر فيما يلزمك بعد ذلك، فإنه يلزم من الإيمان بعذاب القبر وسؤال المَلكين: الاستعداد لذلك اليوم، والتهيؤ للجواب، والمسارعة بالأعمال الصالحة والطاعات التي تنفع العبدَ، وتشفع له وتُثَبِّته عند السؤال.
لا يجيب الإنسان في القبر إلا بما وقر في قلبه، فالمنافق كان يردد الشهادة بكون محمد ﷺ رسول الله، إلا أنه لا يجيب عن السؤال في القبر، لأن قلبه كان فيه نفاق وكذب، فوثِّق إيمانك بالله تعالى، واصدق في قولك: لا لإله إلا الله، محمد رسول الله .
ليس بعاقلٍ من فرَّط في جَنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، وعرَّض نفسه لعذاب القبرِ ثم الخلودِ في النارِ أبدًا، نظير الاستمتاع في الدنيا أيامًا أو سنينَ يسيرة، بل ربما لأجل ساعات ولحظات قليلة.
المؤمن يرى في قبره مقعده من الجنة والنار، وفيه دلالة واضحة على أن الجنة والنار موجودتان الآن، فحدث نفسك: هذا هو المستقبل حقًا، فماذا أعددت له.
الاستعداد لسؤال القبر والاستعاذة بالله من عذابه هو من دين المرء وعقله، فإن أمره عظيم، ولهذا كان النبيُّ ﷺ يستعيذ بالله منه في كلِّ صلاة قبل السَّلام[5].
قال الشاعر:
فَيَا مَنْ هُوَ القُدُّوْسُ لا رَبَّ غَيْرُهُ = تَبَارَكْتَ أَنْتَ اللهُ لِلْخَلْقِ مَرْجِعُ
وَيَا مَنْ عَلَى العَرْشِ اسْتَوى فَوْقَ خَلْقِهِ = تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ
بِأَسْمَائِكَ الحُسْنَى وَأَوْصَافِكَ العُلَى = تَوَسَّلَ عَبْدٌ بَائِسٌ يَتَضَرَّعُ
أَعِنِّي على الْمَوْتِ الْمَرِيْرَةِ كأْسُهُ = إِذَا الرُّوحُ مِنْ بَيْنِ الجَوانِحِ تُنْزَعُ
وَكُنْ مُؤْنِسِي في ظُلْمَةِ القَبْرِ عِنْدَمَا = يُرَكَّمُ مَنْ فَوْقِي التُّرَابُ وَأُودَعُ
وَثَبِّتْ جَنَانِي للسُّؤَالِ وَحُجَّتِي = إِذَا قِيلَ: مَنْ رَبٌّ؟ وَمَنْ كُنْتَ تَتْبَعُ؟
المراجع
- أبو داود (4753)، عن البراء بن عازب.
- مسلم (2867).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).
- قال ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 50): «أجمع أهل الإسلام من أهل السنة على أن عذاب القبر حق، وعلى أن منكرًا ونكيرًا ملكي القبر حق، وعلى أن الناس يفتنون في قبورهم بعدما يحيون فيها».
- البخاري (1377)، ومسلم (588)، عن أبي هريرة رضى الله عنه.
فقه
يُعَدِّدُ النبيُّ ﷺ بعضًا من علامات الساعة الصغرى، فذكر منها قبضَ العلم، وهو أن يُرفع العلم ويُنزع من الأرض، وذلك بموت كثير من العلماء وعدم وجود من يرث علمهم ويخلفهم.
ومن علامات الساعة أيضًا أن تكثر الزلازل وتنتشر في جميع الأرض، وهي الهزَّات الأرضية المعروفة، والتي ينتج عنها من الدمار بحسب قوة تلك الهزات وضعفها.
ومن آياتها كذلك أن يتقارب الزمان، فتقصُر الأعمار وتقلُّ مدة الأزمنة المعروفة، فتتسارع خُطا الزمان في المسير إلى القيامة بتقدير الله تعالى الذي يعلمه، كقوله ﷺ:
«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونُ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَالشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونُ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونُ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونُ السَّاعَةُ كَالضَّرَمَةِ بِالنَّارِ»
[1].
ومن علامات الساعة ظهور الفتن وكثرتها،
لقوله ﷺ:
«بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»
[2].
وقد أخبر ﷺ أنَّ الفتن تشتد كثيرًا قُبيل الساعة، حتى إنَّ المؤمنَ ليتمنى الموتَ من شدة البلاء في دين الله تعالى.
قال ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ عَلَى الْقَبْرِ فَيَتَمَرَّغُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَكَانَ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ، وَلَيْسَ بِهِ الدِّينُ إِلَّا الْبَلَاءُ»
[3].
5. ومع كثرة الفتن تظهر علامة أخرى من علامات الساعة، وهي كثرة الهَرْج، وهو القتل، فيتساهله الناس أو تكثر أسبابه، وقد أخبر ﷺ بأن قتل المسلم بغير وجه حقٍّ من السَّبْعِ المُوبِقات[4]
وتوعَّد اللهُ عزوجل القاتلَ بقوله:
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
[النساء: 93].
6. وآخرُ ما ذكر ﷺ من العلامات أن يكثر المال في الأرض حتى يستغني الناس أو أكثرهم، وربما لا يجد الغنيُّ مَن يقبل زكاته،
قال ﷺ:
«تَصَدَّقُوا، فَيُوشِكُ الرَّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الَّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالْأَمْسِ قَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْآنَ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا، فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا»
[5].
اتباع
هذا الحديث من دلائل نبوته ﷺ؛ حيث أخبر بكثيرٍ من الآيات والعلامات التي تحققَّ أكثرها بالفعل، فكلما رأيت شاهدًا على ذلك في الحياة فاعتزَّ بدينك وزد إيمانِك.
إخبار النبيِّ ﷺ بما سيحدث في آخر الزمان من الفتن والابتلاءات إنما هو توجيهٌ للمسلم كي يكون على علم وبصيرةٍ، ويأخذ حذرَه من تلك الفتن العارضة، فلكما سمعتَ منها فسل نفسك: ماذا عليَّ أن أعمل لأحقق مراد الله تعالى؟
من علامات الساعة قبض العلم وانتشار الجهل، وتجرؤ كثيرٍ من الجهلة والعوامِّ على الفتوى والقول على الله بغير علم، فاحذر أن تشاركهم في ذلك، وتحرَّ فيمن تأخذ عنه العلم والدين، ولا تجزع من الجهال أو يجرك ذلك للطيش في مقاومتهم؛ فهو من ابتلاء الله تعالى.
على المسلمين أن يجدوا ويجتهدوا في طلب العلم، ويهيئوا الأسباب لحفظه، فإن العلم لا يزال يقبض شيئًا فشيئًا، مما يعظِّم الحاجة للعلم وأهله.
إذا رأيت الزلازل أو سمعت بها فليكن ذلك تذكيرًا بالآخرة.
إذا كان قِصَرُ الأعمار من علامات الساعة، فينبغي على العبد أن يُسارع في التوبة والمبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل أن يَفْجَأَه داعي الموت، أو يضيقَ الزمانُ عن فرص الطاعة، وتقلَّ بركته.
على المسلم أن يتمسك بدينه، وأن يحذر من الانخراط في الفتن والشهوات، بل يُنكر ذلك ما استطاع، ففي الحديث: «تُعرَض الفِتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها، نُكِت فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكَرها، نُكِت فيه نُكتةٌ بَيضاءُ، حتى تَصير على قَلْبَين؛ على أبيضَ مثلِ الصَّفا، فلا تضُرُّه فتنةٌ ما دامت السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودُ مُرْبَادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعرِف معروفًا، ولا يُنكِر مُنكَرًا، إلا ما أُشرِبَ مِن هواه»[6].
كانت سُنَّةُ النبيِّ ﷺ الاستعاذةَ من الفتن، كما أمر أصحابه أن يتعوَّذوا منها جميعًا؛
فعن زيد بن ثابت رضى الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال: «تعوَّذوا بالله من الفِتَن، ما ظهَر منها وما بطَن»
[7].
من أسباب كثرة القتل: التساهل في شأنه، لضعف الدِّين، وغلبة الحميّة للنفس، أو لمن ينتسب له الإنسان من قبيلة وبلد، والتنافس المحرّم في شأن المال والنساء، والتهاون في استعمال ما يسبب الهلاك من الأسلحة، وكثرة ما يراه الصغار ومن في حكمهم للقتل في الأفلام والألعاب، ومعالجة كل ذلك واجب الجميع.
كثرة المال ورفاهية الناس بالعيش: ليس علامة على حُسنِ الزمان، فقد كان زمن النبي ﷺ خير زمان، ولم يكن الغالب عليه ذلك، فالزمان الذي يطلب: هو ما كثر فيه الصلاح.
قال الشاعر:
فإنْ نحنُ عِشْنَا يجمَعُ اللهُ بيننَا = وَإنْ نحنُ مُتْنَا، فالِقيامَةُ تَجمَعُ
ألمْ تَرَ رَيْبَ الدّهْرِ في كلّ ساعةٍ = لَهُ عارضٌ فيهِ الْمَنيَّةُ تَلْمَعُ
أيَا بَانِيَ الدُّنْيَا، لِغيْرِكَ تَبْتَنِي = ويَا جامِعَ الدُّنيَا، لِغَيْرِكَ تَجْمَعُ
أَرَى المرْءَ وثَّابًا عَلَى كُلِّ فُرْصَةٍ = وللمَرْءِ يَوْمًا لا مَحَالَةَ مَصْرَعُ
تَبَارَكَ مَنْ لا يمْلِكُ الْمُلكَ غَيْرُهُ = مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيسَ يَشْبَعُ؟!
المراجع
- الترمذي (2332).
- مسلم (118).
- مسلم (157).
- البخاري (2766)، ومسلم (89)، عن أبي هريرة رضى الله عنه.
- البخاري (1411)، ومسلم (1011)، عن حارثة بن وهب رضى الله عنه.
- مسلم (144).
- مسلم (2867).
فقه
أمر ﷺ بأن نُسارع بالأعمال الصالحة قبل ظهور أمور ستٍّ تشغل الإنسان وتحول بينه وبين القيام بالأعمال الصالحة، وقبل ظهور الشمس من مغربها التي لا يُقبل بعدها عملٌ ولا توبة.
فأَوَّلُ تلك الأشياء خروجُ الدَّجَّال؛ وهو أعظم فتنةٍ على وجه الأرض، وهو إنسانٌ فيه ضخامة، عينه ممسوحة، ومكتوبٌ على جبهته (كافر)، يخرج في آخر الزمان فيدَّعي أنه الله -تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا-، وقد أيَّده الله بخوارق العادة زيادةً في ابتلاء الناس، فيشير للسماء فتمطر، وللأرض فتنبت، وللأرض الخربة فتتبعه كنوزها، ويشقُّ الرجل نصفين ثم يقف بين شِقَّيه ويناديه فيقوم حيًّا صحيحًا، إلى غير ذلك من أخباره المعروفة، ويظل كذلك حتى ينزل المسيح عيسى ابن مريم ﷺ فيقود جيش المسلمين ويقتله.
وبدأ بذكر الدجال حيث تنفرط بخروجه خرزات الساعة، فتأتي العلامات متواليةً علامةً بعد علامة حتى تقوم الساعة،
قال ﷺ:
«الْأَمَارَاتُ خَرَزَاتٌ مَنْظُومَاتٌ بِسِلْكٍ، فَإِذَا انْقَطَعَ السِّلْكُ تَبِعَ بَعْضُهُ بَعْضًا»
[1].
3. وثانيها: ظُهور الدُّخان، وهو من علامات الساعة، يَمكُث في الأرض أربعين يومًا يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمنُ فيُصيبه مثل الزكام، وأما الكافرُ والفاجر، فيَدخُل في أنوفهم، فيَثقُب مَسامِعَهم، ويُضيِّق أنفاسهم، وهو من آثار جهنَّم يوم القيامة[2].
قال تعالى:
﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾
[الدخان: 10 - 12].
4. وثالثها: الدابَّة التي تخرج في آخر الزمان تُكَلِّمُ الناسَّ
قال تعالى:
﴿وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾
[النمل: 82]
ولم يفصل القرآن أو الأحاديث النبوية شكل هذه الدابة، فالله أعلم بها.
وخروج الدابَّة يكون بعد طلوع الشمس من مغربها مباشرة؛ لقول النبي ﷺ:
«إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا»
[3].
5. ورابعها: طلوع الشمس من مغربها -على غير عادتها في طلوعها من المشرق-؛ ففي الحديث الصحيح أنَّ الشمسَ حين تغرب تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا [4].
6. وخامسها: القيامة، سمَّاها أَمْرَ العامَّةِ لأنها تعمُّ الناسَ جميعًا بالموت ولا تستثني أحدًا [5]، فإنَّ الإنسانَ إذا قامت القيامة تحسَّر على ما فرط وقصر؛ وحينئذ يتمنى المؤمن أن لو ازداد من الطاعة؛ ويتمنى الكافر أن يعود به الزمان فيتوب.
7. وسادسها: ذكر المَوْت؛ وسمَّاه خُوَيْصَة أحدكم لأنه يخصُّ الإنسانَ دون غيره، بخلاف القيامة حيث سمَّاها أمرَ العامة.
وقد أمر الله تعالى عباده بالتوبة والعمل الصالح قبل الموت فقال:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
[المنافقون: 9 - 11].
اتباع
لنتذكر حرص نبينا ﷺ ورحمته ورأفته بأمته، حيث يدلُّهم على الأوقات التي لا ينفع بعدها إيمانٌ، ليُسارعوا في الأعمال الصالحة قبلها، فينبغي أن يكون العبدُ أكثرَ حرصًا على اتباعِ ذلك الأمر النبويِّ، والمبادرة بالأعمال الصالحة قبل ظهور تلك العلامات.
تلقَّى الصحابةُ تلك الأحاديث التي فيها من الغيبيات ما قد يحار فيه العقل البشريُّ وقَبِلوها ورَوَوها، لكمال دينهم وعقلهم، لأنهم عَلِموا صدقَ الرسول، وكمالَ علمِ المرسِل، فالعاقل من بعدهم يقابلها بالتسليم، ولا يخجل من تعليمها.
على المؤمن أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات قبل حلول الأجل؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، يبسُط يده باللَّيل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويَبسُط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، ويغفرُ جميع الذُّنوب ولا يُبالي.
حذَّر النبيُّ ﷺ أُمَّته مرارًا من الدجَّال، وذلك لعظم خطره وفتنته.
الواجب على الدُّعاة والعلماء أن يهتموا بنوازل المسلمين، ويُبيِّنوا لهم الفتن الواقعة عليهم، ويذكروا لهم حكم الله في المُسْتَجَدَّات، ولا تكن خُطَبُهم وأخبارُهم وكتاباتُهم بمعزلٍ عمَّا يعيشه الناس.
قال الشاعر:
يا نفسُ قَدْ أَزِفَ الرحيلُ = وَأَظَلَّكِ الخَطْبُ الجليلُ
فتأهَّبي يا نَفْسُ لا = يَلْعَبْ بِكِ الأملُ الطويلُ
فلَتَنْزِلِنَّ بمنزلٍ = ينسى الخليلَ به الخليلُ
وليَرْكَبنَّ عَلَيْكِ فِيـ = ـهِ مِنَ الثَّرَى حِمْلٌ ثَقِيلُ
قُرِنَ الفَنَاءُ بنا فما = يبقى العزيزُ ولا الذليلُ
المراجع
- الحاكم في "المستدرك" (8639).
- ينظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (16/ 130).
- مسلم (2941).
- البخاري (3199)، ومسلم (159).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 302).
فقه
اهتمَّ النبيُّ ﷺ كإخوانه من الأنبياء ببيان فتنة المسيح الدَّجَّال؛ لأنها شرُّ فتنةٍ على وجه الأرض،
قال ﷺ:
«مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»
[1].
ولذلك لم يأتِ نبيٌّ إلا وحذَّر أُمَّته منه وبيَّن لهم فتنته، وإنَّما كان فِتْنَتُه أعظمَ فتنةٍ بسبب ما يَخلُق الله معه من الخَوارِق العظيمة التي تَبهَر العقول وتُحيِّر الألباب.
وسُمِّي بالمسيح لأنَّ إحدى عينيه ممسوحةٌ، وقيل لأنه يمسح الأرض أي يقطعها في أربعين يوما وسُمِّي بالدَّجال لما يُظهره من أعمال الدَّجل والكذب والخداع، فيدَّعي الألوهية، ويُجري الله على يده ما يبتلي به الخلقَ[2].
وقد أخبر ﷺ في أحاديث كثيرة عن أمْرِه ونزوله وطوافه الأرض - إلا مكة والمدينة فإنهما حرامٌ عليه -، وبيَّن أوصافه الشَّكْلِيَّة، وما يصنع المسلمُ إن لَقِيَه، إلى أن ذكر نزول عيسى ﷺ وصلاته خلف إمام المسلمين، ثم خروجه معهم للقاء الدَّجَّال وقتاله، حتى يقتله عند باب لُدٍّ في بيت المقدس، فخبر ظهور الدجال متواتر عن رسول الله ﷺ عن أكثر من أربعين صحابيًا، فهو ثابت نقلاً، ولا يوجد ما يمنعه عقلاً[3].
2. ثُمَّ أخبر ﷺ عن أهمِّ أوصافه الخَلْقِيَّة؛ وهو أن إحدى عينيه عوراء، والثانية جاحظة ناتئة عن وجهه، وعليها جلدة غليظة نابتة على مآقي العين، فكلُّ واحدة منهما عوراء، إحداهما بذَهابها، والأخرى بعَيبها[4].
وقد ذكر ﷺ من صفاته في الأحاديث الأخرى أنه شديد جعودة الشعر، قصيرٌ، جسيمٌ، كأنَّ عينَه عنبةٌ طافيةٌ[5].
3. ثُمَّ نزَّهَ النبيُّ ﷺ ربَّنا عن تلك الصفات؛ لما كان المسيح الدجال يدعي الألوهية، فالعَوَرُ من صفات النقص التي لا تنبغي في حق الله سبحانه. وكذلك سائر صفاتِ الدَّجال؛ فإنها صفاتٌ نقص إذا وُجدت مفردةً في الآدمي عيَّره الناسُ، فكيف إذا اجتمعت؟! ولله سبحانه المَثَلُ الأعلى، وصفاته كلها حُسْنَى.
4. ومن علامات الدَّجال كذلك أنه مكتوبٌ بين عينيه "كافرٌ"، يقرأها المسلمُ سواءً كان يعرف الكتابةَ أم أُمِّيًّا، لعموم قوله ﷺ: «يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِم»[6]. فكلمة كل تدل على العموم، وهي كتابةً حقيقيَّةً، جعلها الله آيةً وعلامةً من جُملة العلامات القاطعة بكُفره وكَذِبه وإبطالِه، يُظهِرُها الله لكلِّ مسلم، ويُخفيها عمَّن أراد شَقاوتَه وفِتنتَه، ولا امتناع في ذلك"[7].
اتباع
لم يترك النبيُّ ﷺ أُمَّتَه حتى جَلَّى لها حقيقة فتنة الدجَّال، وأرشدهم إلى ما يعصمهم من فتنته. فهو ﷺ لم يترك خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّر منه. وذلك يستوجب كمال محبته وطاعته وموالاته وتقديم سُنَّته على قول سائر الناس.
مما أخبر به ﷺ مما يعصم من فتنة المسيح الدَّجال حفظُ عشر آيات من أول سورة الكهف؛
قال ﷺ:
«مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ»
[8]،
وفي حديث النَّوَّاسِ بن سمعان رضى الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ»
[9].
كان النبيُّ ﷺ حريصًا على الاستعاذة في كلِّ صلاة من فتنة الدَّجَّال؛
فعن عائشةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ:
«اللهم إني أعوذُ بكَ من عذاب القبر، وأعوذُ بك مِن فِتنة المسيح الدَّجَّال، وأعوذُ بك مِن فتنة الْمَحْيا والممات، اللهم إني أعوذُ بك من المأثَم والْمَغْرَم»
[10].
فإذا كان ذلك هو حال الرسول ﷺ، فينبغي علينا أن نُكثر من التعوِّذ بالله تعالى من فتنة المسيح الدجال.
على المعلم والداعية أن ينتهج نهج الأنبياء وأن يحذر الناس من الفتن الظاهرة والباطنة.
بين النبي ﷺ أن الله يعصم المؤمنين من فتنة الدجال فيلهمهم قراءة كلمة (كافر) بين عينيه دون غيرهم، فأعظم ما يعصم المؤمن من الدجال هو أن يزيد إيمانه ويثبت عليه.
المراجع
- أحمد (16373).
- "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 194).
- ينظر: البداية والنهاية لابن كثير 19/ 195 وما قبلها وبعدها، وبحث أحاديث الدجال للعوني.
- ينظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 522).
- البخاريُّ (3441).
- مسلم (2933)
- "شرح النوويِّ على مسلم" (18 /60).
- مسلم (809).
- مسلم (2937).
- البخاريُّ (832)، ومسلم (589).
فقه
يخبر النبيُّ ﷺ عن آخر علامةٍ من علامات الساعة الكبرى، وهي طلوع الشمس من مغربها على غير عادتها؛ ففي الحديث الصحيح أنَّ الشمسَ حين تغرب تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرْشِ، فَتَسْتَأْذِنَ فَيُؤْذَنُ لَهَا، وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ، فَلَا يُقْبَلَ مِنْهَا، وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنَ لَهَا، يُقَالُ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا[1]،
فإذا طلعت الشمسُ من مغربها آمن الناسُ كلهم بالله تعالى، وهو إيمانٌ اضطراريٌّ لا اختيار فيه؛ حيث ظهر الغيبُ وأيقن الجميعُ أنَّ الساعةَ قائمةٌ، فيؤمنون طمعًا في النجاة.
إلا أنَّ بابَ التوبةِ يُغلق حينئذٍ، فلا يُقبل من عاصٍ توبةٌ، ولا من كافرٍ إسلامٌ؛ فهو إيمانٌ اضطراري وقع بعد المشاهدة، فلا ثمرة منه، كإيمانِ مَن نزل به الموت
قال تعالى:
﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾
[النساء: 18]
وقال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»[2]، وكإيمانِ مَن حلَّ به العذاب
قال تعالى في حقِّ فرعون:
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾
[يونس: 90، 91].
اتباع
أخفى اللهُ عزَّ وجل موعدَ الساعة ليكون الإنسانُ مجتهدًا مستعدًّا لها طول الوقت، فتزداد طاعتُه وترتفع منزلته، كما أبهم ليلةَ القدر ليجتهد العبد في جميع العشر. فليس المطلوب من الإنسان أن يعلم متى الساعة، وإنما يستعد لها ويكثر من الأعمال الصالحة، ولهذا لمَّا سأل رجلٌ النبيَّ ﷺ: متى الساعة؟ قال ﷺ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»[3].
عظَّم في نفسك أمر الساعة، فإن أمرها عظيم، يتغير عندها نظام العالم، فتطلع الشمس من مغربها، فكن على ذكر ورهبة منها .
على الإنسان أن يُبادر في التوبة إلى الله تعالى، قبل أن يفاجئ بالموت أو بأمر يحول بينه وبين التوبة، قَالَ بَكْرٌ الْمُزَنِيُّ -رحمه الله-: "ما من يومٍ أَخرَجه اللَّهُ إلى الدّنيا إلّا يقول: يا بْنَ آدَمَ، اغتنمني؛ لعلَّه لا يومَ لك بعدي، ولا ليلة إلّا تنادي: ابنَ آدَمَ، اغتنمني؛ لعلّه لا ليلة لك بعدي"[4].
البخاري رحمه الله هو أحد من روى هذا الحديث، وقد كان ممن اغتنم عمره، وكان يقول:
اغْتَنِمْ فِي الْفَرَاغِ فَضْلَ رُكُوعٍ = فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَةْ
كَمْ صَحِيحٍ قد مَاتَ مِنْ غَيْرِ سُقْمٍ = ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَةْ
5. وقال غيره:
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المغرورُ = يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
إِذْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُدْنِيَتْ = حَتَّى عَلَى رَأْسِ الْعِبَادِ تَسيرُ
وَإِذِ النُّجُومُ تَسَاقَطَتْ وَتَنَاثَرَتْ = وَتَبَدَّلَتْ بَعْدَ الضِّيَاءِ كُدُورُ
وَإِذِ الْجِبَالُ تَقَلَّعَتْ بِأصُولهِا = فَرَأَيْتَهَا مِثْلَ السَّحَابِ تَسِيرُ
المراجع
- البخاري (3199)، ومسلم (159).
- الترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253).
- البخاريُّ (7153)، ومسلم (2639).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 391).
فقه
يخبر النبيُّ ﷺ أنَّه ما من أحدٍ إلا وسيقف بين يدي ربه، يحاسبه على ما عمل، يُكَلِّمه من غير وسيط أو مترجمٍ، بل يأتيه فردًا ليس معه من يشفع له أو يُدافع عنه
﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾
[الأنعام: 94].
فإذا وقف العبد بين يدي ربِّه لم يجد نصيرًا أو شفيعًا إلا عمله؛ يبحث من حوله عمَّن ينجيه من هول العذاب ومناقشة الحِساب؛ فإنَّ «مَن نُوقِش الحِسابَ هَلَك»[1]، فينظر عن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا عمله، ثم يَنظُر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. والسبب في ذلك: أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكِنُه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط [2].
وإذا كان هذا حالَ العبدِ يوم القيامة، فالأَوْلى به أن يَحذَر النار، ويرجو النجاةَ منها، فلا يُقْدِم إلَّا على صالح الأعمال وأفضلِها، وأن يحرص على التقرُّب إلى الله في كلِّ وقت وحين، وأن لا يستقِلَّ شيئًا من الطاعات، ومن تلك الأعمال اليسيرة التصدق بما يطيقه الإنسان، ولو كان ذلك نصفَ تمرة.
وإن كنتَ لا تَملِك شيئًا تتصدقُ به، فحسبك بالكلمة الطيبة في مرضات الله، فربَّما كانت سببًا لنجاتك من النار.
اتباع:
تذكر أنك واقف بين يدي الله تعالى لوحدك، ليس معك أحدٌ من أهلك أو أصدقائك، ولا يصحبك نسب ولا مال ولا منصب، فتجهز لذلك المقام
﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾
[الرحمن: 46].
2. لا تحتقر شيئاً من العمل؛ سواءً كان عملًا صالحًا أو فاسدًا؛ فإنَّ أعظم الجبال تكونت من تراكم الحصى وحبَّات الرمل
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾
[الزلزلة: 6، 7].
3. من أعظم الأعمال التي تُبعد العبدَ عن النَّار: الصدقةُ، ولهذا أمر بها ﷺ في الحديث
ولهذا قال سبحانه:
﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾
[المنافقون: 10].
4. لا تؤجل أن تعطي المسكين كأس ماء، أو تسبَّح بتسبيحة، أو تقرأ ولو آية، ولا تقل: أجهز نفسي ليكون أكثر، فالآفات تعرض: جَاءَ سَائِلٌ إِلَى بَابِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: "أَطْعِمِيهِ"، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ لَهَا: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا أُطْعِمُهُ، قَالَتْ: "ارْجِعِي فَابْتَغِي لَهُ"، فَرَجَعَتْ فَوَجَدتْ تَمْرَةً فَأَتَتْ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَعْطِيهِ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ إِنْ تُقُبِّلَتْ"[3].
5. ما أكثر الأعمال الصالحة التي توازي شق تمرة أو تزيد عليها، كإسعاد الوالدين والأهل بحديثٍ أو خدمة، وحملك لمتاع كبير سن أو ضعيف، وكسوتك اللباس لمسكين، ورعايتك لأرملة أو يتيم، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»[4].
6. اللسانُ إما أن يُورد العبدَ إلى جنات الخلد، وإما أن يسوقه إلى نار جهنم والعياذ بالله، فمصير الإنسان مرهون بلسانه إما أن يكون سبب نجاته أو هلاكه.
7. اجلس مع أهلك وطلابك ، وتفكروا في الأعمال الصالحة التي تستطيعون عملها بلا مشقة، ليحفز بعضكم بعضًا عليها.
8. قال الشاعر:
استثمِرِ الخَيْرَ في دُنياكَ واجتهِدِ = ولا تُبَالِ بداعي الشرِّ والحسَدِ
واعْمَلْ ليومٍ جميعُ الناس تَرقُبُه = فيه القضاءُ قضاءُ الواحدِ الأحدِ
أفعالُكَ اليومَ تحكي أيَّ منزلةٍ = رَوْضُ الجنانِ أمِ النيرانُ في اللَّحَدِ
المراجع
- البخاري (4939)، ومسلم (2876).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 404).
- البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3190).
- مسلم (2626).
فقه
يعقد النبيُّ ﷺ مقارنةً بين نار الدنيا ونار الآخرة؛ فيذكر أن حرارةَ النار التي يستعملها الناس إنما هي جزءٌ، و نار الآخرة التي أعدَّها الله تعالى للكافرين والعصاة.
فاستعظم الصحابةُ ذلك، وأجابوا بأنَّ نارَ الآخرة لو كانت كنار الدنيا في الإحراق والحرارة لكانت كافيةً في العذاب، وزاجرةً عن الوقوع في المعاصي وترك الأوامر؛ فإنها تلتهم الإنسان والحيوان والنبات وسائر الجمادات.
فأكَّد ﷺ أنها أشدُّ من تلك النار التي أَلِفُوها وذاقوا حرارتها 69 ضعفًا، زيادةً في تعذيب الكافرين والعصاة وإيلامهم.
اتباع
على المتكلم -من والدٍ وداعية ومعلمٍ وغيرهم- أن يحسن عرضه لما يريده من المعاني، فيستعين بالتشبيه والأرقام وغيرها مما يوصل لحسن الفهم والتصور.
التذكير بالجنة والنار هي من أعظم المواعظ التي كثر ذكرها في القرآن الكريم، وما أجمل أن يكون مثل ذلك حاضرًا، في مساجدنا وبيوتنا ومجالسنا وإعلامنا.
نارٌ تتضاعف على نار الدنيا سبعين ضعفًا، ينبغي على الإنسانِ أن يفرَّ منها، وأن يكثر من الأعمال الصالحة التي تُبعده عن النار؛ فإنَّ الفوزَ الحقيقيَّ إنما هو في النجاة من النار ودخول الجنة
قال تعالى:
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾
[آل عمران: 185].
الحذر من نار الدنيا مشروعٌ، وقد أرشد النبي ﷺ إلى أسباب ذلك حتى في إطفاء سراج صغير خشية أن يحرق بيتًا، فمن العقل التحرز وسد الذرائع الموصلة إلى النار ولو كانت في أصلها مباحة، فالتحرز من نار الآخرة المضاعفة أولى.
من البطولة والأعمال الصالحة إنقاذ الناس من نار الدنيا، وإطفائها، وأهلها مشكورون، والدعاة إلى الله تعالى والناصحون ينقذون من نارٍ أشد حرًا، فالشكر لهم عظيم، وتقدير جهدهم واجب.
كان النبيُّ ﷺ يستعيذ بالله تعالى من حرِّ جهنَّمَ؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ رضى الله عنه يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[1]؛ فإذا كان النبي ﷺ يستعيذ منها وهو المعصومُ الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا؟! فيجدر بكلِّ مسلم ألا يَدَعَ الاستعاذة من عذاب النار.
قال الشاعر:
وَخُذْ من تُقَى الرَّحمنِ أَعظمَ جُنَّةٍ = لِيومٍ بهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهنَّمُ
وَيُنْصَبُ ذاكَ الجَسرُ من فوقِ مَتنِهَا = فَهَاوٍ وَمَخْدُوشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ
وَيَأتِي إِلَهُ العَالمينَ لِوَعْدِهِ = فَيَفْصِلُ ما بَينَ العِبادِ وَيَحْكُمُ
وَيأخُذُ للمَظْلُومِ رَبُّكَ حقَّهُ = فيا بُؤسَ عبدٍ للخلائقِ يَظْلِمُ
المراجع
- النسائيُّ (5520).
فقه
هذا حديث نبوي يرويه النبي ﷺ عن الله تعالى من غير القرآن الكريم، ويسمى حديثًا قدسيًّا:
يُخبر ربنا تبارك وتعالى أنَّه قد أعدَّ لعباده الصالحين من النعيم جزاءَ طاعتهم وعبادتهم ما لم يروه مثله، وبالكاد أن رأوا شيئاً اسمه مثل اسمه، كالأشجار، والأنهار، والقصور من الذهب والفضة، واللؤلؤ المجوّف وغيرها، فضلاً عن جمال أهلها، وغيرها من المناظر.
وفيها أيضا من المسموعات الجميلة ما لم يسمعوا مثله، من أصوات الغناء وغيرها، وفيها أيضاً ما لم يسمعوا بمثله في الأخبار.
ثُمَّ أكَّد سبحانه أنَّ ما أعدَّه لا يمكن لبشرٍ أن يعرفه؛ فإذا كان العبدُ لم يرَ ذلك ولا سَمِع عنه، وهما حاستا الإدراك، فإنه كذلك لا يستطيع أن يتخيَّل بعقله كُنْهَ ذلك النعيم، فمهما خَطر ببال العبد من ألوان النعيم والمتاع والزينة في الجنَّة فلن يصل إلى حقيقة ذلك النعيم الذي هيَّأه الله تعالى لعباده.
وأردف ﷺ بتوكيد ذلك من كلامه تعالى المُنَزَّل، فقال: فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ:
﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾
[السجدة: 17]»
أي: فلا تعلمُ نفسٌ ما أعدَّه اللهُ تعالى وأخفاه لعباده المؤمنين في الجنة من أشكال النعيم والسعادة والخير الوفير الذي تسعد به الأعين وتبتهج.
وقد تواتر في القرآن ذكر الجنَّة ونعيمها، ولهذا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
[1].
اتباع
أعظم المحبة محبةُ قومٍ صالحين، هم مع الله :
﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
[المائدة: 54]
فهم يُعدِّون له الطاعات -وهو غنيٌ عنها-، وهو يُعد لهم ما لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذن سَمعت، ولا خطر على قلب بشر، فكن مع هؤلاء القوم، وكلما كسلتَ في الطريق فتذكر ذلك النُّزُل الذي أعده العظيم الكريم.
قال الحسن رحمه الله: "أخفى القَوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذن سَمعت"[2]. فإذا كان الأمرُ كذلك فينبغي للمسلم أن يُعِدَّ من عمله الخَفِيِّ ما لا يطَّلع عليه إلا الَّذِي خبَّأ له ذلك الخير الجزيل.
الجنة موجودة الآن، والله أعدها للصالحين من عباده، فإذا عرضت لك دنيا بلذةٍ محرمة، فقل لنفسك: الجنة قائمة، وليس إلا صبر زمن يسير يوصل إليها.
كثير من الناس يحدث نفسه بلذائذ الدنيا، ويتخيلها، فيتشوق إليها .. ، من أن كل لذائذ الدنيا وما تخيله منها لا تساوى موضع شبر في الجنة، فعلى العاقل أن يكثر في نفسه من تذكر الجنة، وما أعد الله فيها ليتشوق إليها.
ليكن لك ولأهلك وصحبك نصيب من تذكر الجنة وأوصافها، وتذكير الناس بها ،وقد يسر الله تعالى من وسائل العلم والتواصل ما يسهل ذلك.
أعظم نعيمٍ في الجنة على الإطلاق: هو رؤية الله تعالى؛ وإن لم يروه في الدنيا
قال سبحانه:
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾
[القيامة: 22، 23]
وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه، قَالَ:
كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَنَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةً - يَعْنِي البَدْرَ - فَقَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ»
[3]،
وأعظمُ ما يُعَذَّبُ به الأشقياء الحرمان من رؤيته سبحانه
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾
[المطففين: 15].
قال الشاعر:
اعْمَلْ لِدَارِ الْبَقَا رِضْوَانُ خَازِنُهَا = الجَارُ أحمدُ والرحمنُ بانِيها
أرضٌ لَهَا ذَهَبٌ والْمِسْكُ طِينَتُها = والزَّعْفَرَانُ حَشِيشٌ نَابِتٌ فيها
أنهارُها لَبَنٌ مَحْضٌ ومِنْ عَسَلٍ = وَالخَمْرُ يَجْري رَحِيقًا في مَجاريها
مَنْ يَشْتَرِي الدَّارَ بِالْفِرْدَوْسِ يَعْمُرُهَا = بِرَكْعَةٍ في ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيها
أَوْ سَدِّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشَبْعَتِهِ = فِي يَوْمِ مَسْغَبَةٍ عَمَّ الغَلا فِيها
المراجع
- البخاري (3250).
- "تفسير الكشاف" للزمخشريِّ (3/ 513).
- البخاري (554)، ومسلم (633).
فقه
لما قدَّر الله عزَّ وجل تقديرَ خلقِ المخلوقات، أي قبل أن يخلق الله الخلق كما بينته رواية أخرى [1]: كتب في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع أقدار الخلق [2]، أو كتب في كتابٍ آخرَ عظيم عنده.
وهذا الكتاب محفوظٌ وموجود عند الله تعالى فوق عرشه، وعرشُ الله خلقٌ عظيمٌ لله تعالى، فوق السموات السبع، وتحمله ملائكة عظام لله تعالى، والعرشُ يقصد به سرير المُلْك.
وذلك من أدلة علوِّه سبحانه، وأنه فوق سماواته على عرشه سبحانه
﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾
[طه: 5].
3. كَتَب عزَّ وجلَّ في ذلك الكتاب: «إنَّ رحمتي غلبت غضبي»، ومعنى ذلك أنَّ نصيب خلقه من الرحمة أكثر من نصيبهم من الغضب؛ فهي التي تصيبهم غالباً في مواقفهم المختلفة
﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾
[فاطر: 45]
ولولاها لما استحقَّ الجنَّةَ أحدٌ من الخلق: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لَا، وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»[3].
ومن سبق رحمته تعالى أنه يمهل العصاة، ويلهمهم الاستغفار، حتى إذا استغفروا غفر لهم.
اتباع
اطمأنّ بالله تعالى، فكما كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق، فقد كتب فيها الرحمة، فلا تحزن على ما فات، ولا تجزع مما يأتي وثِقْ بالله.
الكتاب -الذي فيه المقادير، وفيه بيان رحمة الله تعالى- وضع الله تعالى عنده فوق عرشه؛ تعظيمًا له، فعلى العاقل أن يقدَّر هذا الكتاب قدره، وأن يتعلق تفكيره بهذا الأمر العظيم، لا بالأفكار السفلية .
رحمة الله تعالى سبقت غضبه، فهو يقبل توبة العصاة والمُسرفين على أنفسهم مهما أسرفوا، فلننظر إلى أنفسنا: ألم نمتلئ من ذنوب البصر والسمع، والكلام واليد؟، فتعالوا لنستمع لنداء الله الرحيم
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾
[الزمر: 53].
تقرِّب إلى رحمة الله تعالى ولو بشبر؛ فقد «كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لَا، فَقَتَلَهُ، فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: ائْتِ قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ، فَنَاءَ بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ العَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبَ بِشِبْرٍ، فَغُفِرَ لَهُ» [4].
الله تعالى له كمال الملك والعلم ، وله العرش والكتاب الذي فيه كلُّ شيء، ومع ذلك فله كمال الرحمة، وكثيرٌ من الناس إن حصل له سلطان بالملك أو العلم (أو نحوهما كالأبوة، أو القوة الجسدية، أو الوظيفة العالية، أو الغنى، أو غيرها..) استقوى على من دونه، وعاملهم بالعسف، فانتبه لنفسك.
لا بد أن يكون من الناس إساءةٌ دالة على نقصهم، فالكمال في تدبيرهم يجمع بين الرحمة والغضب، والكمال حقًا في أن تكون الرحمة أسبق وأغلب، فعلى المسلم أن يتخلّق بمثل هذا الحديث، فتغلب رحمتُه غضبه، ولأنه ضعيفٌ فليستعن بالله تعالى أن يلهمه تلك الرحمة.
قال الشاعر:
إن كنتَ ترجو مِن الرحمنِ رحمتَه = فارحمْ ضِعافَ الورَى يا صاحِ محترِمَا
واقصِدْ بذلك وجهَ اللهِ خالقِنا = سبحانَه مِن إلهٍ قد برى النَّسَما
واطلبْ جزا ذاك مِن مولاك رحمتَه = فإنَّما يَرْحَمُ الرحمنُ مَن رحِما
المراجع
- انظر رواية البخاري (7554) : «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ» .
- حديث «إن أولَ ما خلَقَ اللهُ القلمُ، فقال له: اكتبْ، قال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ كلِّ شيء حتى تقومَ الساعةُ» أبو داود (4700)، والترمذيُّ (3319).
- البخاري (5673)، ومسلم (71).
- البخاري (3470)، ومسلم (2766).
فقه
1-يذكر النبيُّ ﷺ أحوال الجنين ومراحل تخلُّقِهِ في بطن أمه، فيكون نطفة مجموعة من نطفة الرجل والمرأة، ومكان تكونها: في رَحِمِ الأُمِّ، ثم يصبح قطعةَ دمٍ متجمدٍبعد ذلك وتسمى علقة، وسُمِّيت عَلَقةً لأنها تَعْلَقُ في جدار الرحم. ثم بعد ذلك تصير مُضغة، وهي قطعة اللحم الصغيرة بقدر ما يمضغ الفم.
2- وبعد أن يصبح مضغة يأمر اللهُ تعالى المَلَك المُوَكَّل بالأرحام، فيكتُبُ ما يجري عليه من القَدَر، فيكتب رزقَه وأجلَه وعملَه وشقيًّا أم سعيدًا.وتشمل كتابة الملك أمورًا أخرى أيضاً؛ ككونه ذكرا أو أنثى [1] ، وخلقه وخلائقه [2]. وإنما ذكر ﷺ تلك الأربع لأهميتها واندراج ما سواها فيها. وهذه الكتابةُ التي يكتبها المَلَك غير الكتابة التي كتبها اللهُ تعالى عنده في اللوح المحفوظ؛ فكتابةُ المَلَك قابلةٌ للمحو والتغيير والتبديل لأسباب قدرها الله تعالى كالدعاء والعمل الصالح، بخلاف ما أثبته الله تعالى في أمِّ الكتاب حيث لا تتبدل ولا تتغير،
قال تعالى:
﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾
[الرعد: 39][3]
2- وعندئذ ينفخ الله الرُّوحَ في الجنين فيصيرُ حيًّا بقدرته تعالى، والنَّفْخُ في الرُّوح من الأمور الغيبية التي استأثر اللهُ بعلمها وأخفاها عن خلقه،
قال تعالى:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾
[الإسراء: 85]
إلا إننا نؤمن بما أخبر ﷺ عن ربه تعالى، ونوقن أنه
﴿إِنَّمَآ أَمْرُهُۥٓ إِذَآ أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ﴾
[ يس: 82]
ويحدث ذلك عند اكتمال المضغة وتَشَكُّلِها بشكل الآدمي،
قال تعالى
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ﴾
[الحج: 5]
فالمُضْغَةُ المُخَلَّقَة هي تامة الخلق التي تشكَّلت على صورة خلق الإنسان، وغير المُخَلَّقة: غير تامة الخلق التي لم تصور وتكون سَّقطاً تقذفه الأرحام [4]
2- ثم أرشد ﷺ إلى أنَّ الأعمال بالخواتيم، وأنَّ العبرةَ بما سبق في علم الله وكتبه على العَبْدِ من الشقاء والسعادة، فربَّما عمل الإنسانُ بعملِ أهل النَّارِ زمنًا طويلًا، حتى إذا اقترب أجلُه هيَّأ الله له التوبةَ فيتوب عليه ويختم له بعملٍ صالحٍ فيدخل الجنَّةَ؛ إذ كان اللهُ قد كتب له السعادةَ في اللوح المحفوظ عنده، وفي بطن أمه حين أرسل إليه المَلَك.
3- وعلى العكس فقد يعمل الرجلُ بعمل أهل الجَنَّةِ زمانًا طويلًا، حتى إذا دَنا من الجنَّة بدُنُوِّه من الموت، يسبقُ عليه ما كتبه الله عليه من الشقاء، فيعمل بعمل أهل النَّارِ فيموتُ على ذلك ويكون من أهل النار.
وليس المرادُ أنَّ المؤمن قد يضلَّ بعد الهُدى بدون سبب منه، وإنما ذلك لحكمةٍ وعدل، كالرجل يعبد الله عن جهلٍ وهوى: إن أُعطي شكر وإن مُنع جحد وكفر،
كقوله تعالى
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾
[الحج: 11]
ومثل المنافق؛ لحديث «إن الرجُلَ ليعملُ عملَ أهل الجنة - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل النار، وإن الرجُل ليعملُ عملَ أهل النار - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل الجنة» [5]
وهذا الخَتْمُ بالسُّوء لمَن ظاهرُ أعمالهم الصلاحُ إنما هو من النوادر التي لا تظهر كثيرًا، وحكمةُ وجودها بيانُ أنَّ الأعمالَ بالخواتيم، وأنَّ الإنسانَ لا يغترَّ بعَمَلِه. وهذا من لُطْف الله سبحانه، وسَعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشرِّ إلى الخيركثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرِّ، ففي غاية الندور، وإلا لَافتتن النَّاسُ بذلك" [6]
والغالبُ المُطَّرِدُ أنَّ أهلَ السعادةِ يُوفَّقون للعمل الصالح، وأهلَ الشقاء يعملون بعمل الأشقياء من المعاصي والذنوب، كما في حديث عليٍّ أن النبيَّ ﷺ قال: «ما منكم من أحدٍ، ما من نفْس منفوسةٍ إلا كُتِب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتِب: شقيَّةٌ أو سعيدةٌ»، فقال رجُل: يا رسول الله، أفلا نتَّكِلُ على كتابنا ونَدَع العمل؟ فمَن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما مَن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة،
قال: «أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسَّرون لعمل الشقاوة»
قَرَأَ
﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى﴾
[الليل: 6] الآيَةَ. [7]
اتباع
1- وقال ابن مسعود رضي الله عنه في حقِّ النبيِّ ﷺ «الصَّادق المصدوق» وهذا من كمال الإيمان به وتصديقه اعه فيما أتى به، حتى وإن أخبر بما يخالفُ العقلَ أو ما يعجز العقل عن إثباته أو نفيه من أمور الغيب. ولهذا كان أصحابُ النبيِّ ﷺ أفضل البشر بعد الأنبياء، وهم قدوةُ المؤمنين في الإيمان بالنبيِّ ﷺ واتباع شرعه.
2-أخبر النبيُّ ﷺ بمراحل خلق الجنين في بطن أمِّه قبل تطور الطب وظهور الأدوات والآلات المتطورة التي أثبتت صدقَ ما قاله ﷺ. وهذا أمرٌ يزيد المؤمنَ إيمانًا حين يرى تصديق العلم الطبيعي لما أخبر به القرآن والسُّنَّة وعدم التناقض بينهما.
3-تأمل في قدرة الله تعالى ، وفي تقليبه الجنين في أحوال شتى، وفي تقديره المقادير، العجيبة، ومثل ذلك يبعث التعظيم لله تعالى والتسليم له.
4- لو تلمَّس الإنسانُ الحكمةَ من خلق الإنسان طَوْرًا بعد طور، وهو القادر سبحانه على أن يقول للشيء: كن فيكون؛ فهي تربية إيمانية على التأنِّي في الأمور، وعدم استعجال النتائج، كما أنها توضيح للارتباط الوثيق الذي جعله الله تعالى بين الأسباب والمسبِّبات، والمقدِّمات والنتائج، ومراعاة نواميس الكون في ذلك .
5- إن أصابك شيء في عملك، أو رزقك، أو تمنيت غير ما أنت عليه؛ فلا تشتغل بمعاتبة القدر، أو التحسر واستصغار النفس، بل ارض بما كتبه الله تعالى، واعلم أنه كتبه وأنت في بطن أمك، وقبل ذلك، فما ثمَّ إلا التسليم لله تعالى، والعمل بما يرضي الله تعالى.
6- لا ينبغي للإنسان أن يحكم لأحدٍ بجنَّةٍ أو نارٍ؛ فإنَّ ذلك لله وحده، وهو الذي كتب مصائر العباد، والشقيُّ قد يسعد، والسعيدُ قد يشقى.
7- على الإنسان ألَّا يركن إلى عمله ويطمئن إليه ويترك الجِدَّ والاجتهاد؛ فإن الأعمال بالخواتيم. وقد كان سفيان الثورُّي رحمه الله يَبكي ويقول: "أخاف أن أكون في أمِّ الكتاب شقيًّا"،
8- ينبغي على المسلم أن يداوم على دعاء الله أن يثبته على طاعته، وألَّا يُضِلَّه ويُزلَّ قدمه،
وقد كان رسول الله ﷺ يُكثر ويقول
"أخاف أن أُسلَب الإيمانَ بعد الموت"
[8]
أن يقول
«يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك»
[9]
أخبر النبيُّ ﷺ أنَّ رجلًا قال
«وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ»
وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ
«مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ؟! فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ»
[10]
10 . قال عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: "إياكم والاستنانَ بالرجال؛ فإن الرجُل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب - لعِلم الله فيه - فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجُل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب - لعِلم الله فيه - فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بُدَّ فاعلين، فبالأموات لا بالأحياء" .[11]
11- قال الشاعر:
للهِ فـي الآفَـاِق آيَـاتٌ لَعَلْ = لَ أَقَلَّهَـا هُـَو مَـا إِلَيْهِ هَدَاكَ
وَلَعَلَّ مَا في النَّفْسِ مِـْن آيَاتِهِ = عَجَبٌ عُجَابٌ لَـْو تَـَرى عَيْنَـاكَ
وَالْكَـوْنُ مَشْحُـونٌ بِأَسْرَارٍ إِذَا = حَاوَلْـتَ تَفْسِيـرًا لَهَـا أَعْيَـاكَ
قُلْ لِلْجَنِينِ يَعِيشُ مَعْـُزولاً بِلا = رَاعٍ وَمَرْعَى مَا الَّـذِي يَرْعَـاكَ؟
المراجع
- البخاري (3333)، ومسلم (2646).
- إسحاق بن راهويه في "مسنده" (2/344)، والآجريُّ في "الشريعة" (365). وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (7/ 193).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن رجب (ص: 45)، "فتح الباري" لابن حجر (11/ 485).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 651).
- البخاري (2898)، ومسلم (112) من حديث سهل بن سعد الساعديِّ رضي الله عنه.
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
- البخاري (1362)، ومسلم (2647).
- "شرح الأربعين النووية" لابن رجب (ص: 47).
- الترمذيُّ (2140)، وابن ماجهْ (3834)، عن أنس بن مالك وقال الترمذيُّ: حديث حسن.
- مسلم (2621)، عن جندب بن عبد الله
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 135).
فقه
كان ابن عباس رضي الله عنهما خلف النبي ﷺ راكبًا على الدابة..
1-فأراد النبيُّ ﷺ أن يُعلِّم ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما دروسًا في الإيمان بالله تعالى، فيجذب سمعَه وعقله لما يذكره من العلم، فناداه بما يناسب عمره، وكان غلامًا بين الحادية عشرة والرابعة عشرة، وقال له: «إني أعلمك كلمات»، أي: فاحفظها، وافهمها، واعمل بها.
2-وأولُّ ما علَّمه النبيُّ ﷺ هو أن يحفظ اللهَ تعالى، وذلك بحفظ حدوده وأوامره، فيأتمر بما أمره، وينتهي عمَّا نهاه،
قال تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾
[التوبة: 112]
وقال سبحانه:﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾
[ق: 32، 33].
3-فإذا حَفِظَ الإنسانُ حدودَ ربه وامتثل أوامره: جُوزي بجنس عمله؛ فكما يحفظُ اللهَ يحفظه الله تعالى، وحفظ الله تعالى شاملٌ لحفظ البدنِ والأعضاء والحواس وراحة البال وغيرها،
قال سبحانه:
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾
[الرعد: 11]
ولا يقتصر الحفظُ على الإنسانِ فحسب، بل يتعداه إلى أهله؛
قال سبحانه:
﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ،
[النساء: 9]
وقال جلَّ شأنه
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾
[الكهف: 82].4
وأرفع درجات حفظ الله للعبد أن يحفظ دينَه، فيعصمه من خطوات الشيطان ويصرفه عن وساوسه،
قال تعالى:
﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24]،
[الأنفال: 24]
ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرُّه إلى النار[1].
4. ثم ذكر ﷺ جزاءً آخر لمن يحفظ حدود الله تعالى، وهو أنَّه يجد الله معه في كل أحواله؛ ينصره ويدافع عنه ويؤيده ويستجيب دعاءه ويتقبل عملَه؛ قال ﷺ: «وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُهُ، كنتُ سمْعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويده التي يبطِشُ بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعِيذنَّه» [2].
5-ثم أرشده ﷺ إلى بابٍ عظيمٍ من أبواب التوحيد وحسن الاعتقاد، وهو إفرادُ اللهِ تعالى وحده بالسؤال والطلب، فلا يدعو أحدًا غيره؛ إذ الدعاءُ عبادةٌ من العبادات لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، ولذلك قال ﷺ: «الدعاء هو العبادة»،
ثم قرأ:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾
[غافر: 60] [3]
.لأن السؤال فيه إظهار الذلِّ والحاجة من السائل، وفيه الاعترافُ بقُدرة المسؤول على جلب المنافع، ودَرْءِ الْمَضارِّ، ولا يَصلُح الذلُّ والافتقار إلا لله وحدَه؛ لأنه حقيقةُ العبادة[4]
6-ثم أمره ﷺ بإفراد الاستعانة بالله تعالى وحده أيضاً، والاستعانة الميل إلى المساعدة والعون لحصول المقاصد، وفي الاستعانة ظهور لمعنى التوكّل القلبي، والتوحيد في الاستعانة منتزعٌ من
قوله تعالى:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[الفاتحة: 5]
فإنه لمَّا أمر اللهُ تعالى عبادَه بطاعته، أرشدهم إلى دعائه وحده، وإلى الاستعانة به في أداء الفرائض والانتهاء عن المناهي[5]
على أنَّ الاستعانة بالمخلوق فيما يقدر عليه جائزٌ ومشروعٌ، فالإنسان يستعين بأخيه في حمل المتاع الثقيل أو قضاء حاجةٍ من الحاجات التي يقدر عليها البشر، ويستحب للمسلم أن يُعين أخاه فيما يقدر عليه،
قال ﷺ:
«وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»
[6].
أما الاستعانة المحرمة فهي الاستعانة فيما هو من خصائص الرب، كما يحصل من دعاء الأموات، والتوسل بالأضرحة، وطلب الشفاء والنجاح والإنجاب منهم.
7- ثُمَّ علَّم النبيُّ ﷺ ابنَ عمِّه رضي الله عنه حقيقةَ التسليم والرضا بقضاء الله وقدره وصدق التوكُّل عليه؛ فإنَّ الأمرَ كله لله تعالى، وكلُّ ما يحدث للعبد من السَّرَّاء والضَّرَّاء من الله تعالى، كتبه على عبدِه قبل أن يخلق السماوات والأرض، فلو اجتمع الخلقُ على منعِ ما كتبه الله تعالى ما استطاعوا، ولو اجتمعوا على أن يُصيبوا العبدَ بما لم يكتبه الله عليه من الخير أو الشرِّ ما وَصَل إليه من تدابيرهم شيءٌ.
قال تعالى:
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾
[يونس: 107].
وهذه العبارة مدار الوصيةِ كلِّها؛ فإن العبدَ إذا علم أنَّه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، أورثه ذلك صدق التوكُّل على الله تعالى، فلا يخاف إلا منه، ولا يسأل إلَّا الله، واقتضى التسليم له، وتقديم قولِه على قول جميع الخلق، ويستلزم ذلك حفظَ أوامره ونواهيه[7].
8-ثم أخبر ﷺ أنَّ الأقلام التي كتبت بها أقدار الخلق قد رُفعت وتوقفت عن الكتابة، والكتب التي فيها تلك الأقدار قد استقرت بما كتب فيها، فلا تعديل في صحف الأقدار واللوح المحفوظ،
قال تعالى:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾
[الحديد: 22]
و«كتَب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألْفَ سنةٍ»[8]
اتباع
1-كان النبي ﷺ يعمر وقته ووقت أصحابه بطاعة الله تعالى، حتى وقت ركوب الدابة.
2-حرص النبي ﷺ على تعليم هذا الحديث لابن عباس رضي الله عنهما على صغر سنه، مع ما في الحديث من المعاني الكبيرة في السلوك والتوحيد والقدر وغيره، فلا ينبغي أن يهمل الصغار؛ وخاصة النجباء منهم، وليخاطب كل أحد بما يناسب لغته، وخصوصًا في تدعيم أصول الدين فيهم، فهم شباب الغد، وعماد من يقوم بمصالح الناس.
3-بدأ النبيُّ ﷺ كلامَه بالنداء، وبالتشويق إلى كلمات، قليلة في عددها عظيمة في معناها، مما يجذِب الانتباهَ، ويَسترعي الفَهْم، ويَجلِب النَّظرَ، وهذا مما ينبغي على الناصح اتِّباعُه، أن يستهلَّ كلامَه بما يجعل المتلقِّيَ متشوِّقًا إليه.
4-لم يطل النبي ﷺ الوصية، بل كانت كلمات، فهي أرجى أن تستوعب ويعمل بها، خصوصًا من الصغار.
5-إذا كنت تهتم لنفسك فاحفظ الله يحفظك، قال بعض السَّلَف: "مَن اتَّقى الله، فقد حفِظ نفْسَه، ومَن ضيَّع تقواه، ضيَّع نفْسه، والله الغنيُّ عنه"[9]، حتى لو أردت أن تحفظ صحتك فاحفظ الله، وكان بَعْضُ الْعُلَمَاء قد جَاوَزَ الْمِائةَ سَنَةً، وهو مُمَتَّعٌ بقُوَّته وعقله، فأراد يومًا أن يعبر قناةً تعترض طريقه، فَوَثَبَ يومًا وَثْبَةً شديدة، فتعجَّب تلامذته من قوته على كبر سنِّه، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عن المعاصي في الصِّغَرِ، فحفظها اللَّهُ علينا في الْكِبَرِ[10]
6-روي أن امرأة خرجت في سرية للجهاد مع المسلمين، وتركت ثنتي عشرة عَنزةً، وعصاها التي تنسج بها، فلمَّا رجعت فقدت عنزة وفقدت صيصية -وهي أداة كالصنارة أو عصا لها شوكة ينسجك بها الحائك-، فقالت: يا ربِّ، إنكَ قد ضمِنْتَ لِمَن خرج في سبيلكَ أن تحفَظ عليه، وإني قد فقدتُ عَنْزًا من غنمي وصِيصِيَتِي، وإني أَنْشُدُكَ عَنزي وصِيصِيَتِي، فكانت تناشد ربها تبارك وتعالى، فأصبحتْ عَنزُها ومِثلها، وصِيصِيتها ومثلها[11]
7-إذا أراد العبدُ أن يحفظه الله تعالى ويحفظ أهله وماله فليتقِ الله تعالى، قال ابْنُ الْمُنْكَدِرِ -رحمه الله-: "إِنَّ اللَّه ليحفظُ بِالرجل الصالح ولدَه، وولدَ ولدِه، وَالدُّوَيْرَاتِ التي حَوْلَه، فما يزالون في حفظ من اللَّه وسِتْرٍ"[12]. وقال سعيد بن المسيِّب -رحمه الله- لابنه: "إني لأَزيد في صلاتي من أجْلك؛ رجاءَ أن أُحفَظَ فيكَ،
وتلاقوله تعالى:
﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾
[الكهف: 82] [13].
8-صور سؤال المخلوقين المحرّمة تتجدد مع الأزمان، ومنه سؤال القوى الكونية، أو سؤال الوالدين في قبورهم ونحوها في كثير من الأفلام ورسوم الأطفال والدورات التدريبية ذات العلاقة بالكونيات، فتحرّز وانتبه إلى شرك يظهر بمسميات أخرى.
9-تجنب سؤال المخلوقين ما أمكن حتى في القليل، وعوَّد نفسك قضاء حاجتك بنفسك، فقد بايع رسول الله ﷺ قومًا على أشياء ومنها: «ولا تسألوا الناس شيئاً»، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه [14]، وهذا وإن لم يكن محرمًا ولكنه "حملٌ منه على مكارم الأخلاق، والترفعُ عن تحمل منّة الخَلْق، وتعليمُ الصبر على مضض الحاجات، والاستغناءُ عن الناس، وعزَّةُ النفوس، ولمَّا أخذهم بذلك التزموه في جميع الأشياء وفي كل الأحوال، حتى فيما لا تلحق فيه منة؛ طردًا للباب، وحسمًا للذرائع"[15]
10-استعن بالله تعالى على مصالحك دينك ودنياك، من قيام لصلاةٍ، ومن تحسين خلق، وفي دراسة وطلب وظيفة، فليس أقوى من الاستعانة بالله تعالى، وقد أوصاك النبي ﷺ: «احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ» [16]، وأكثر من سؤال الله العون، فقد قال ﷺ لمعاذ بن جبل: «أوصيكَ يا معاذُ، لا تدعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذِكركَ وشُكركَ وحُسْن عبادتكَ»[17]
11-ما مقدار تعلقنا بالمخلوقين ومقدار تعلقنا بالله تعالى؟ قال وهب بن منبِّهٍ -رحمه الله- لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!؟[18]
12-احرص على تعلم هذا الحديث والعمل بما فيه، وعلِّم معانيه لأهلك ولولدك وللناس؛ كلٌّ بما يناسب لغته وعمره واستعداده، لما يشتمل عليه من الوصايا العظيمة، حتى قال بعض العلماء: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشني وكدتُ أَطيشُ، فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث، وقلَّة التفهُّم لمعناه! [19]
13-قال الشاعر:لا تسألَنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً =وسَلِ الذي أبوابُه لا تُحْجَبُ اللهُ يَغضَبُ إن ترَكْتَ سؤالَه = وبُنَيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغْضَبُ
المراجع
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 470).
- البخاري (6502)، عن أبي هريرة رض الله عنه.
- أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ في "السنن الكبرى" (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح.
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).
- انظر: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ (ﷺ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص 93).
- البخاري (2989)، ومسلم (1009)، عن أبي هريرة رضي الله عنه
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 484).
- مسلم (2653).
- "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص 54).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 466).
- أحمدُ في "مسنده" (34/260)، (20664)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 277).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
- مسلم (1043).
- "المفهم" للقرطبي (3/ 86).
- مسلم (2664).
- أبو داود (1522)، والنسائيُّ (1303)، وصحَّحه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (1/ 468).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 462).
فقه
1- يخبرُ النبي ﷺ أنَّ المؤمن القويَّ أحبُّ إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، والقوةُ هنا تشمل قوةَ الإيمانِ وما يتمم مقاصدها من قوة النفس وقوة البدن وقوة العلم ونحو ذلك؛ ففي اجتماعها عونٌ على أداء العبادات، والمهام المطلوبة من الإنسان في الحياة، وفي الجهاد، وفي القيام بمصالح النفس والناس،
قال تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾
[الأنفال: 60].
وهذه القوى تحمله على الصبر على الطاعات، والبعد عن المعاصي والشهوات، وتحثُّه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُصبِّره على أذى الناس وما ينزل به من مصائب الدنيا[1]
2- ولا يعني تفضيل القويِّ على الضعيف أن يكون الضعيفُ لا خيرَ فيه، بل فيه خيرٌ كذلك وإن كان فاته حظٌّ كبيرٌ ومقامٌ عالٍ، وهذا يسمى "أسلوب الاحتراس".
3- ولما بين أن المؤمن القوي خيرٌ؛ بيَّن ما ينبغي للمؤمن أن يوجه هذه القوة له، وهذا من جوامع كلمه، إذ دلَّه بكلمة عامة أن يجتهد في كلِّ ما يعود عليه بالنفع العاجل والآجل، والتركيز في التوجه له، ولا ينشغل بالمُلهيات عنه.
4- فإذا حرص المسلم على ما ينفعه في أمر دينه ودنياه، فعليه أن يستعين بالله تعالى متوكلًا عليه في تحصيل ما يرجو، وألا يتكاسلَ أو يترك قواه تضعف عن بلوغ مراده، متعلِّلا بالقَدَر أو الضعف أو غيره وهو لم يحاول، فإنه حينئذ يُلامُ على تفريطه وتضييعه.
5- فإنْ أصابَ المؤمنَ أمرٌ خلافَ ما سعى إليه، فلا يندم على سعيه وجهده ، ولا يقل: «لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا» جزعًا وتحسرًا على قضاء الله، أو ظنًّا منه بأنَّ الأمور ستتغير لو غيَّر فعله، فإن الأمورَ بمقادير كتبها الله تعالى من قبل أن يخلق السماوات والأرض، وإنما على الإنسان أن يأخذ بالأسباب ويُفَوِّض أمر النتائج لله تعالى وحده.
6- وعليه أن يقول: (قَدَرُ اللهِ وما شاء فعل) بتخفيف الدال [2]، أي ليبادر إلى تسليم الأمرِ لله ويقول: هذا قَدَرُ الله تعالى، ووقع الأمر بقَدَرِ اللهِ تعالى الذي كتبه علينا، ولا يكون إلا ما يريد.
7- وإنما نهى ﷺ عن ذلك لأنَّه يفتح باب الشيطان، فتبدأ الوساوس في إنكار القَدَر، وفي التسخُّط عليه، وفي لوم النفس المستمر، وفي ذمها بأنها لا تصلح لشيء، وفي الكآبة من الحياة، مما تضعف معه القوى، ويضيع الوقت، وتفوت المصالح الأخرى.
وليس معنى هذا أن يحتجَّ بالقدر على المعصية والوقوع في الخطأ والاستمرار عليه، فيقول: عصيت بقَدَرِ الله، فقد أنكر الله تعالى على الكفار الذين احتجوا بهذه الحجة الباطلة على شركهم،
قال الله تعالى:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
[الأنعام: 148].
7. وإنما نهى ﷺ عن ذلك لأنَّه يفتح باب الشيطان، فتبدأ الوساوس في إنكار القَدَر، وفي التسخُّط عليه، وفي لوم النفس المستمر، وفي ذمها بأنها لا تصلح لشيء، وفي الكآبة من الحياة، مما تضعف معه القوى، ويضيع الوقت، وتفوت المصالح الأخرى.
وليس معنى ذلك أنَّ كلمة "لو" محرمةٌ مطلقًا، بل تحرم إذا كانت على سياق التذمُّر أو اللوم ونحو ذلك، أما إن قالها الإنسان على وجه بيان الخطأ، أو بيانِ حُكمٍ شرعيٍّ أو حديث عن مستقبلٍ فجائزٌ قال لوط ﷺ:
﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾
[هود: 80]،
وقال ﷺ: «لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك» [3]، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو في الغار مع النبيِّ ﷺ: «لو أن أحدَهم نظَر تحت قدميه لأبصرَنا» [4]
اتباع
- النفس السوية تميل إلى أن تكون الأفضل في أمور الخير، وهذه المفاضلة تبعث على العمل لإدراك منزلة الأفضل، فحفِّز من عندك من أولاد أو طلاب أو عاملين على الكمالات، وساعدهم على ذلك بالتوجيه والمساندة.
- القوة سببٌ لتحصيل المقاصد، فاحمل نفسك على التحمل والصبر، وعلى تحصيل القوى الموصلة لمراضي الله تعالى، فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وغير ذلك مما يفعل أو يترك كله مما يحتاج إلى أنواع من القوى البدنية والنفسية والعلمية وغيرها، فما قدرت على القوة فيها فاحمد الله تعالى، وما لم تقدر عليه ففوِّض أمرك إلى الله فيها.
- إذا رأيت منكسرًا لما يراه من ضعفه في العلم أو التجارة أو القوى البدنية أو غيرها، فاجبر قلبه بأنه باجتهاده على خير.
- جمع النبيُّ ﷺ في قوله: «احرص على ما ينفعك واستعن بالله» بين أصلين هما مفهوم التوكل، وهو الأخذ بالأسباب مع الاعتماد على الله تعالى والثقة به، موافقةً فالطالب يجتهد في تعلمه، وصاحب المشروع يُتقن عمله ويبذل قصارى جهده في إنجاحه، والمُعَلِّمُ ينشر علمه ويحسن إفهام طلابه، كُلُّهم مع الاستعانة بالله تعالى في قضاء حاجاتهم، ونيل توفيق منه فيما يبتغون.
لقوله تعالى:
﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾
[هود: 123].
- العجز آفةٌ تقطع كثيرًا من الناس عن مصالحهم، فيرغبون في عمل خير ثم يكبِّرون حجمه في قلوبهم فيصيبهم الوهن دون العمل عليه، وربما يبدأون ثم تتقاعس هِمَّتُهُم عن إكمالِها فيفتُرُون عنها. فعلى الإنسان أن يجمع قُواه وينشط ولا يضعف ويتكاسل.
- لا يجوز للإنسان أن يتلفظ بالألفاظ التي تُسخط الله تعالى، من سبِّ القدر، أو مثل قول: لماذا أنا ولماذا فلان، أو قول (لو) على جهة الجزع، ومعارضة القدر.
- على الإنسان أن يحرص على ما ينفعه، في جميع أموره الدينية والدنيوية، فمع تكميله لدينه فهو لا يضيع أمر دنياه ودنيا من يعول، بل يحرص على ما ينفعه من تعلم العلوم الدنيوية، وكسب الرزق الحلال، وحفظ الصحة، ونحو ذلك.
- إذا أخطأت فاستغفر الله تعالى، وإذا أصبت بمصيبة فاسترجع "إنا لله وإنا إليه راجعون"، وقل: "قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ" ، ودع عنك اللوم المستمر للنفس، والتفكير المستمر بتمني خلاف لمقدور، فهو يسبب السخط على القدر والضعف والاكتئاب، وما في القدر الماضي لا يمكن تغييره، فركز على المستقبل، وانظر ما الممكن فعله، واستعن بالله تعالى عليه.
- قال الشاعر:بمَنْ يَستعينُ العبدُ إلَّا بربِّهِ = ومَنْ للفتى عند الشدائد والكربِ؟
ومَن مالكُ الدنيا ومالكُ أهلِها = ومَنْ كاشفُ البلوى على البُعد والقُربِ؟ ومَنْ يرفع الغمَّاءَ وقتَ نزولها = وهل ذاك إلَّا مِنْ فعالك يا ربي؟!
المراجع
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215)، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري (8/ 3318)، "الشباب وحفظ الأوقات" من دروس ابن باز.
- "دليل الفالحين" (1/ 243)، وقيل يجوز تشديد الدال، انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري (8/ 3318).
- البخاري (7240).
- البخاري (3653)، ومسلم (2381).
فقه
﴿قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ18 قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾
[يس (18-19)].
أرسل اللهُ سبحانه نبيَّه محمدًا ﷺ لدعوة الناس إلى عبادة التوحيد، وتخليصها مما يشوبها من أدران الجاهلية واعتقاداتها. وهذا الحديث يُنَبِّه على بعضها:
1- فلا عدوى؛ أي لا تنسبوا انتقال المرض من المريض إلى الصحيح عن طريق المخالطة: للمرض نفسه. فالحديث لا ينفي العدوى، وإنما ينفى أن تكون مؤثِّرة بنفسها وطَبْعها؛ وإنما التأثير بتقدير الله عزَّ وجلَّ، بدليل أنه إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح بالمخالطة، وإن شاء لم يقع ذلك، وبدليل أن المريض الأوَّل جاءه المرض بلا عدوى.
والمسلم مأمور بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يؤدي به إلى الضرر، ولذلك أمر ﷺ بالأخذِ بأسباب النجاة والابتعاد عن المُصابين بالأمراض المُعْدِيَة،
فقال ﷺ:
«فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ»
[1]
وقال ﷺ
«إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَدْخُلُوهَا، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا» ،
متفق عليه[2]
وقال:
«لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»
[3]
أي: لا يؤتى بمريض على صحيح سليم؛ فيكون سبباً في عدواه ومرضه.
فالمسلم يجمع بين تجنب أسباب الخطر،
كما قال تعالى:
﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾
[البقرة: 195]
وبين اعتقاده أنه لا يُصيبُ الإنسانَ إلا ما كتبه الله تعالى عليه،
كما قال تعالى:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾
[التوبة: 51].
2- ولا طِيَرَة؛ أي لا تتشاءموا بما ترونه أو تسمعونه؛ كأن يعزم على السَّفر فيرى غرابًا أو يسمع بحادثةٍ أو بموتٍ أو نحو ذلك فيتشاءم عن سفره ذلك ولا يسافر، وربما يسافر وهو مُرتابٌ شاكٌّ.
وإنما سُمِّيت بذلك لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون من الطير؛ فإذا أرادوا سفرًا أو نحوه أتوا بطيرٍ فزجروه، فإن طار يمينه تفاءلوا وسافروا، وإن طار يسارًا تشاءموا وقعدوا، وكانوا يتشاءمون من طيورٍ معينة؛ كالبومة والغراب؛ فإذا نعق الغراب فوق بيتٍ زعموا أنه نذيرُ موته فتشاءموا بذلك،
ولهذا قال ﷺ:
«لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»
[4]
والهامةُ هي ذلك الطائر الذي يتشاءمون به، وصَفَر الشهر المعروف الذي بعد شهر المحرم؛ كانوا يتشاءمون به.
3- ثم أخبر ﷺ أنَّه يُحبُّ الفأل الحسن، وهو الكلمة الطيبة يسمعها الرجلُ فيُسَرُّ بها، كأن يعمل رجلٌ فيسمع شخصًا ينادي أخاه: يا مُوَفَّق، ونحو ذلك.
فالكلمة الطيبة تَسُرُّ النَّفسَ وتُشرح الصدرَ وتبعث النشاطَ في الإنسان، ولذلك أعجبه ﷺ التفاؤل؛ إذ لا يُناقضُ التوحيد ولا يُضعف الإيمانَ في القلب، ولهذا لمَّا جاء سهيلُ بنُ عمرٍو إلى النبيِّ ﷺ يوم الحديبية ليفاوضه في الصُّلْح،
استبشر النبيُّ ﷺوقال:
«قَدْ سَهُلَ أَمْرُكُم»
[5].
اتباع
1- على المسلم أن يكون قوي النفس، مقدامًا على أسباب الخير، فالأمورُ كلُّها تجري بمقادير، وليس على المرء سوى العمل والتوكل على الله تعالى والأخذ بالأسباب.
2- الأخذُ بالأسبابِ التي تَقي الإنسانَ الأمراضَ مشروع، ولا يتعارض مع اليقين بالله وأنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه؛ فعلى المسلم أن يؤدي ما عليه، ويعلم أن الأمرَ أولًا وآخرًا بيدِ الله تعالى وحده.
3- حقيقة التوكُّل على الله تستلزم الرضا بما قضى والتسليم بما أمر وشرع. قال بشرٌ الحافي رحمه الله: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله، رَضِيَ بما يفعل الله [6]
4- متى وقع وباء عام كالطاعون فعلى المسلم أن يلتزم بالحجر، فلا يقدم على هذا البلد، ولا يخرج منه إن كان فيه، ويسلم لله تعالى، فعن عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ،
فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّه ﷺ:
«أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ»
[7]
5- كما أمر ﷺ بالحذر من الأمراض المُعدية، فكذلك أمر بأن يقي الإنسان نفسَه من الأخلاق الفاسدة التي تُعدي مخالطيها كذلك، فنهى النبيُّ ﷺ أن يُجالسَ الرجلُ ذوي الأخلاق السيئة، وشبَّه الجليس السوء بالذي ينفخ في النَّار فقال:
«مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً»
[8]
6- من عادات بعض الشعوب التشاؤم ببعض الحيوانات أو الأشكال أو الأرقام أو الأحداث، وقد تنتشر في بيئات مسلمة عبر أفلام وقصص، وقد يوسوس الشيطان إن وقع الشر موافقًا لها يومًا ما، فعلى العاقل أن يحذر من تسرُّب هذه الأفكار ويحذِر منها.
7- التشاؤم كما أنه مخالف لمقتضى التسليم لله تعالى والإيمان بقضائه وقدره، فهو شرٌّ يُمرض القلبَ ويصدُّ الإنسانُ عن مقصده، وإن لم يصدَّه عنه جعله مرتبكًا مضطربًا لا يطمئن باله إلى أنَّه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، وعلاجه أن يعرض عنه، ويعظم في قلبه الثقة بالله والتسليم له، ويمضي لحاجته.
8- قد يقع في قلب الإنسان تطير من شيء لسبب معين وبغير قصد منه، فهذا لا يلام عليه، ولكن اللوم إن رضي به وتابعه، قال ابن مسعود رضي الله عنه :
"الطِّيرةُ شركٌ ، وما مِنَّا إلَّا ولكنَّ اللهَ يذهبُهُ بالتوكلِ"[9]
9- للمسلم أن يتفاءل بما يسمعه من كلمة طيبة، كما لو قال له رجل : أبشر، أو سمع باسمٍ حسن، والتفاؤل لا يدفع القَدَرَ وإنَّما يُريحُ النَّفسَ ويطيب القلب ويبعث على النشاط، وقد كان النبي ﷺ يعجبه التفاؤل.
10- قال حافظ الحكمي رحمه الله:
فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ ... والكُلُّ في أُمِّ الكِتَابِ مُسْتَطَرْ
لا نَوْءَ لا عَدْوَى ولا طِيَرَ وَلا ... عَمَّا قَضَى الله تَعَالى حِوَلاَ
لاَ غَوْلَ لاَ هَامَةَ لاَ ولا صَفَرْ ... كَمَا بذَا أخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرْ
المراجع
- البخاري (5707)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
البخاري (5728)، ومسلم (2218)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما
مسلم (2221)، عن أبي هريرة رضي الله عنه
البخاري (5757)، ومسلم (2220)، عن أبي هريرة
(إمتاع الأسماع" للمقريزي (12/ 175)، " سبل الهدى والرشاد" للصالحي (5/ 48).
"مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114).
البخاري (5734).
البخاري (5534)، ومسلم (2628)، عن أبي موسى الأشعري
- أحمد (3687).
فقه
1- يحضُّ النبيُّ ﷺ أصحابَه وسائر أمتِه من بعده على أن ينظروا إلى من هم أقل منهم في أمور والدنيا من المال والخِلْقة ونحو ذلك، من الفقراء والمحتاجين والضعفاء والمرضى وذوي الاحتياجات ونحوهم؛ ويَرَوا كيف فضَّلهم الله تعالى على غيرهم.
2- ونهاهم ﷺ عن النَّظَرِ إلى من هم أغنى منهم وأقوى وأصحُّ أجسادًا،
كما قال تعالى:
﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ .
[طه: 131]
3- وعلَّلَ ﷺ ذلك بأنَّه أجدر ألَّا يحتقروا نعمة الله التي أنعم بها عليهم؛ فالإنسانُ إذا نظر إلى من هو أدنى منه وإلى من هو أقل منه في أمور الدنيا علم أنَّ الله تعالى فضَّله على كثيرٍ من النَّاس، فقابلَ ذلك بالحمد والشكر والإحسان ومكافأة النعمة بحسن العبادة.
أمَّا إذا نظر إلى أهل النِّعم وتأمل في أحوال أهل الدنيا وما وسع الله به عليهم، أورثه ذلك مقارنةَ ما عنده بما في أيديهم، فأدَّاه ذلك إلى أن يجحد نعمةَ الله التي عنده ويحتقرها، وربَّما أفضى به ذلك إلى الحقد والحسد.
وليس معنى الحديث أن يترك العبدُ الدنيا، أو لا ينتفع بما أعطاه الله تعالى منها، وإنما المراد ألَّا تستحوذ الدنيا على قلبه بحيث لا يرضى بما آتاه الله تعالى منها.
اتباع
1. قد تقع عين الإنسان أو يسمع بمن هو أفضل منه في أمر الدنيا، فعليه أن يعالج نفسه بأن ينظر إلى من هو أسفل منه؛
كما قال ﷺ:
«إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ»
[1]
2. ينبغي على المؤمن أن يضع الآخرة أمام عينيه، ولا يتبع بصرُه نعيمَ الدنيا، ولا يكثر النظر إلى المُتْرَفين؛ فقد أعدَّ اللهُ تعالى في الجنَّة لعباده «مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»[2]، فإذا رأت عينه أو تعلَّق قلبه بشيءٍ من زينة الحياة الدنيا فلا يُتبعها نفسه، وإنما يُذَكِّرُ نفسه بنعيم الله الذي أعدَّه لعباده المتقين.
3. غير موازين تقييمك للأشياء، وتذكر أن النعيم الحقيقي والرفعة هي في الجنة الأبدية، فهنا يتغير ما تتنافس فيه أو تغبط غيرك عليه،
قال ﷺ:
«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا»
[3]
4. لَمَّا بغى قارون وتجبَّر وتكبَّر بما أعطاه الله تعالى، نظر أصحابُ النفوس الضعيفة إليه
وقالوا:
﴿يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾
[القصص: 79]
فلا هم حفظوا أعينَهم ونفوسَهم عن الافتتان بما آتاه الله، ولا هم نالوا نصيبًا مما أُعطي، فكانوا كما قال الشاعر:
5. قال ابنُ عون رحمه الله: جالستُ الأغنياءَ، فاحتقرتُ لباسي إلى لباسهم، ودابَّتي إلى دوابِّهم، وجالستُ الفقراء فاسترحتُ"[4]
6. المؤمن إذا علم أن الله تعالى قسم الأرزاقَ بحكمته ارتاحت نفسُه، ولم تتعلق بما فضَّل الله تعالى به بعضَ الناسِ على بعض.
7. من أعظم ما يحقق السعادة في قلب المسلم أن يستشعر نعم الله الكثيرة التي أنعم الله تعالى بها عليه، وأن يكثر من التأمل فيها والنظر في حال من هم أقل حالا منه،
كما قال ﷺ:
«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»
[5]
8. الإنسانُ إذا ابتلي ببلاءٍ أو حلَّت به مصيبةٌ فنظر إلى من هم أسفل منه، هانت عليه مصيبته، ورأى أنَّ ما به من البلاء هَيِّنٌ، فيُحسن عند ذلك الصبرَ على البلاء، ويشكر اللهَ على ما وهبه من العافية.
9. قال الشاعر:
عَلَيْكَ بتَقْوَى اللهِ واقْنَعْ برزقِهِ = فخَيْرُ عبادِ الله مَن هو قانِعُ
وَلا تُلْهِكَ الدنيا ولا تَطْمَعَنْ بها = فقد يُهْلِكُ الْمَغْرُورَ فيها الْمَطَامِعُ
10. وقال غيره:
وَجَدْتُ القَنَاعَةَ ثَوْبَ الغِنَى = فصِرْتُ بأَذْيَالِهَا أَمْتَسِكْ
فَأَلْبَسَنِي جَاهُهَا حُلَّةً = يَمُرُّ الزَّمَانُ ولم تُنْتَهَكْ
فصِرْتُ غَنِيًّا بلا دِرْهَمٍ = أَمُرُّ عَزِيزًا كَأَنِّي مَلِكْ
المراجع
- البخاري (6490)، ومسلم (2963).
- البخاري (3244)، ومسلم (2824).
- البخاري (73)، ومسلم (816)، عن ابن مسعود رضي الله عنه.
- "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (8/ 145، 146).
- الترمذي (2346)، عن عبيد الله بن محصن.
فقه
1. يذكر النبيُّ ﷺ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى استأثر بمعرفة أمور الغيب التي لا يعلمها إلا هو سبحانه؛
قال تعالى:
{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
[النمل: 65]،
وقال جل شأنه:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}
[الجن: 26، 27].
وليست الأمور المذكورة في الحديث هي وحدها التي اختصُّ الله تعالى بمعرفتها، بل هي على سبيل المثال لا الحصر، أو أنها أهمُّ الأمور التي انفرد اللهُ سبحانه بعلمها، وإلا ففي أخبار السابقين من الأنبياء وأُمَمهم ما لا يعلمه إلا الله،
قال سبحانه:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}
[إبراهيم: 9]،
وما أخفاه الله من عوالم الجنِّ والملائكة وأخبارهم، وعجائب خلقه في السماوات والأرض، ونحو ذلك.
وأمور الغيب بالنسبة إلى إمكان علم الإنسان بها منقسمةٌ إلى قسمين:
فمنها ما يمكن للإنسان أن يَقِف عليه ويعلمه بالوسائل والأسباب التي سخَّرها اللهُ له، كمعرفة وقت طلوع الشمس وأوقات الصلوات ومواعيد الكسوف والخسوف، ونحو ذلك مما جعَله الله على قوانين ثابتة منتظِمة.
وقسمٌ لا يعلمه إلا الله تعالى، وهو الغيب المطلَق الذي منه هذه الأشياء المذكورة في الحديث، والتي تضمنها
قول الله عز وجل:
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}
[لقمان: 34].
وقد سمَّى الله تلك الأمور مفاتحًا من باب التشبيهِ والتمثيل؛ فإنَّ الأمور المحجوبة عن الإنسان لا يُتوصَّلُ إليها إلا بالمفاتيح الموصِلة إليها، فإذا كانت المفاتيح نفسها لا يعلمها أحدٌ من البشر، فكيف بالمُغَيَّباتِ نفسها؟!
2. الأمر الأول: ما يَكسِبه الإنسانُ في غَدِهِ القريبِ والبعيد، فلا يعلم الإنسانُ ما يتحصل له من الرزقِ، أو ما يجري عليه من الأقدار من خيرٍ وشرٍّ، وما يكسبه من الأعمال الصالحة والسيئة.
3. الأمر الثاني: أنَّه سبحانه يَعلم ما يكون في الأرحام، فيعلم ما ينقص من شيء متعلق بالرحم، سواء في نقص اكتمال الحمل كالسِّقْط، أو نقصِ الدم غذاءً للجنين، أو سائر النقص كنقص الرزق وغيره، ويعلم ما يزداد من شيء متعلق بالرحم، كاكتمال نموه حتى موعد ولادته، ويشمل ما سبق جميع التفاصيل، فيعلم سبحانه ما يتعلق بالرحم من خَلْق وخُلُق، وقدرات جسمية وعقلية، وسعادة وشقاوة، ويعلم جنس الجنين ذكرًا كان أم أنثى،
قال سبحانه:
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ}
[الرعد: 8].
ولا يُعارِضُ هذا ما قد يعلمه الأطباء وغيرهم من جنس الجنين في شهوره الأخيرة؛ فإنَّ هذا -مع أنه تسخيرٌ من الله تعالى- علمٌ ناقصٌ، لشيء محدود، لا يكون إلا بعد مرور في نتائج ظنِّيَّة يكثر فيها الخطأ، وهو علمٌ لإناثٍ محدودة، ولا يعلم ما في أرحام الطير والسباع وسائر المخلوات إلا الله سبحانه وتعالى.
4. الأمرُ الثالثُ: معرفةُ وقت نزول المطر؛ فلا يعلم أحدٌ غير الله تعالى على وجه كمال العلم واليقين: متى ينزل المطرُ ولا مِقدارُه ولا أين ينزل؟
وإن كان بعض الناس يمكنه توقع شيء من ذلك -من مثل ما ترصده بعض الجهات العلمية بما سخرّه الله تعالى من أدوات-؛ فإن ذلك مُترتِّبٌ على دلالات من الرياح والغيوم والضغط الجوي، من جنس ما كان موجودًا في الأمم من قديم، وإن كان متقدمًا عليه بأدواتٍ وعلوم حديثة، وهي معرفة محدودة وظنية ويعترضها الخطأ كثيرًا.
5. الأمر الرابعُ: مَعرفة وقت موت الإنسان ومكانه،
قال تعالى:
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
[لقمان: 34].
فلم يجعل الله للإنسان حدًّا معيَّنًا إذا وصل إليه مات، ولا جَعَل له سببًا لا يُفارِقه إلا إلى الموت؛ فالمريض يُشفى، والصَّحيح القويُّ يموت فجأةً، والشاب تَبْغَته المنايا، والشيخُ يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ويَرِدُ الإنسانُ مواطن الهلَكة فيَغرِق في البحر أو يقع من شاهقٍ أو نحو ذلك وينجو، ويموت الآمنُ المطمئنُّ في قَعر بيته.
6. الأمر الخامس: من تلك الأشياء التي أخبر بها النبيُّ ﷺ في الحديث هو معرفة وقت قيام السَّاعة؛ فإن ذلك مما اختص اللهُ تعالى به نفسه، لم يُطلِعْ عليه مَلَكًا مقرَّبًا أو نبيًّا مُرسلًا،
قال تعالى:
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
[الأعراف: 187].
وسَأَل أمينُ الوحي جبريلُ عليه السلام أمينَ أهلِ الأرض محمدًا ﷺ: متى الساعة؟ فقال: «مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ» [1]
اتباع
1- (1) أخبر النبيُّ ﷺ عن بعض الأمور التي لا يعلمها أحدٌ ألبتة غيره سبحانه، فلا يجوز لمسلم أن يعتقد غير ذلك، أو يُصَدِّق الجهلة والكهنة المُدَّعين معرفة ذلك.
2- (2) إذا كان لا يعلم ما يقع في غدٍ إلا الله سبحانه وتعالى، فعليك بالعمل ولا تتقاعس وتَرْكَن إلى ما يسوقه الدَّجاجلة والكَذَبةُ، ولا تَتشاءم بسماع أو رؤية ما يحملك على ترك العمل.
3- (2) أخفى اللهُ تعالى عن العباد عِلمَ ما يحدث في المستقبل. فإياك أن تَتحجَّج بالقَدَر فيما فرَّطتَ فيه مما يجب عليك، أو وقعتَ فيه من المُحَرَّمات، فتكون كالكافرين
حين قالوا:
{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}
[النحل: 35].
4- (3) إذا طَمِع العبدُ في رزق الله تعالى فليلجأ إليه وحده، فهو الرزاق الوهاب.
5- (3) ذهاب المرأة إلى الطبيبِ ليخبرها بجنس الجنين ونحو ذلك لا يضرُّ ولا يحرم؛ فإنَّ ذلك مما وهبه الله تعالى لأهل العلم وسخَّره لهم، ويقتصر علمهم على معرفة ذلك بعد اكتمال تخلُّق الجنين في بطن أمه، أما قبلها فلا يمكن معرفة ذلك يقينًا.
6- (4) إذا كان المطرُ وهو سبب الرزقِ لا يتحكَّم فيه ولا يعلم وقت نزوله ولا قَدْره ولا موضعه إلا الله سبحانه. فاعلم أنَّ رزقك بقدر الله وحده، فاعبده وتوكَّل إليه، واسْعَ في ابتغاء ما كتبه لك.
7- (5) أخفى الله عن العباد موعد موتهم ومكانه؛ فإنه لو علم إنسانٌ أنه يموت في يومٍ معيَّن لَفَسدت الدُّنيا ولَما عُمِرت الأرض، ولظلَّ الإنسانُ يبكي ويرقُب أجله حتى يأتيه، فأخفى ذلك ليدفعنا الأملُ إلى العمل وإعمار الأرض. وهذا من حكمته سبحانه الذي لا يفعل أمرًا إلا لحكمة، عَلِمَها مَن عَلِمَها وجَهِلَها مَن جَهِلَها.
8- (6) أخفى الله عن عباده موعد قيام الساعة ليكونوا على ترقُّبٍ دائمٍ لها، وليستعدوا طِيلة أعمارهم بالأعمال الصالحة، ويجتهدوا ما بقوا في الحياة بالطاعات، كما أخفى عنهم ليلةَ القدر وساعة الإجابة يوم الجمعة ليحصل ذلك.
9- في الإيمان بهذه الغَيْبيَّات والوقوف عند ما أخبرنا به الوحيُ راحةُ النفس، وبثُّ الأمل، وزيادة التعلُّق بالله تعالى والإيمان به.
10- قال الشاعر:
يا منْ يُغيثُ الورَى مِنْ بَعْدِ ما قَنَطوا = ارْحَمْ عِبادًا أكُفَّ الفَقْرِ قدْ بَسَطُوا
عَوَّدْتَهُم بَسْطَ أرزاقٍ بِلا سَبَبٍ = سِوى جَمِيلِ رَجاءٍ نَحْوَهُ انبسَطوا
وعُدْتَ بالفَضْلِ في وِرْدٍ وفي صَدَرٍ = بالجُودِ إنْ أقسَطوا والحِلمِ إنْ قَسَطُوا
المراجع
- رواه البخاري (50)، ومسلم (9)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فقه
يحذِّر النبيُّ ﷺ أُمَّتَهَ من اتباع الكُهَّان والدجَّالين وغيرهم من الذين يزعمون أنَّهم يعلمون الغيب، فيُخبِر أنَّ مَن أتى أحدًا من الكَهَنَةِ الذين يتَّصِلون بالشياطين لِيَسترِقوا لهم السمع ويخبروهم بالأخبار المستقبلية وما لا يطَّلِع عليه أحدٌ من البشر، أو من العرَّافين الذين يستخدمون وسائل الشعوذة والنَّظر في الأبراج والمُنَجِّمِين لمعرفة الغائب ونحوهم، وصدَّقهم بما افتروه وزعموه؛ فقد كفر بالله تعالى وبنبيِّه رضي الله عنه.
ووجه الكفر أنه يتضمن تكذيب
قوله تعالى:
﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾
[النمل: 65]
ولكن إذا صدقهم شخصٌ ظنًا أن هذا مما يمكن أن يعلمه البشر، ولم يَعرف أن هذا مما اختص الله بعلمه؛ فلا نحكم عليه بالكفر بعينه.
وقد جعل اللهُ تعالى ذلك من الابتلاء والفتنة التي تمحِّص المؤمنَ من الكافر؛ وذلك أنَّ الكاهن أو العرَّاف قد يأتي ببعض الأخبار الصادقة، فيَحسِب الجاهلُ أنه يدعي الغيبَ حقًّا، وليس كذلك؛ سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا الشَّيْءَ يَكُونُ حَقًّا!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ ماِئَةِ كَذِبَةٍ»
[1]
وقد كان الجنُّ يصعدون إلى جهة السَّماء، فيركب بعضهم بعضًا، إلى أن يَسترِقَ الأعلى منهم السمع فيُلقي الكلام إلى الذي يَلِيه، إلى أن يتلقَّاه من يُلقيه في أُذن الكاهن، فيَزيد فيه، فلمَّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرِست السماء من الشياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبَقِي من استِراقِهم ما يَتخطَّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبه الشِّهاب، وإلى ذلك الإشارة
بقوله تعالى:
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}
[الصافات: 6 - 10][2]
على أنَّ الإنسانَ إذا أتى عرَّافًا أو كاهنًا للفرجة ونحوها ثم لم يُصَدِّقه فيما أخبر، فقدْ حَبِط عمله أربعين ليلة، قال ﷺ: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» [3]
اتباع
1.كان الناس قديمًا يذهبون إلى الكاهن أو العَرَّاف، أما الآن مع انتشار وسائل التقنيات والتواصل الحديثة، أصبح الكاهنُ يأتيك في بيتك على هاتفك، على شكل موقعٍ تدخله، أو خبرٍ تقرؤه، أو على صورةِ الأبراج وحظوظها، إلى غير ذلك من صور الكهانة والدجل الكثيرة، فاحذر من إتيانهم بأي طريقة.
2. يدخل في الكهانة والعرافة أن يأتي الرجلُ إلى مَن يزعم أنه راقٍ فيطلب منه شيئًا من ثيابه أو يسأله عن اسمه واسم أمه، ويكتب له رموزًا أو يصنع له حجابًا أو نحو ذلك، فهؤلاء من الكَهَنَة والدجَّالين فينبغي الحذر منهم.
3. الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رُسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء؛ بل يَبعُد عن رسول الله ﷺ بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول بقدر تصديقه للكاهن[4]
4. أصل العقيدة أن ترتبط بالله تعالى وحده، وأن تَرُدَّ إليه أمرك كلَّه، وألَّا يتعلَّق قلبُك بأحد غيرِ الله، وألَّا ترجوَ جلب نفعٍ أو دَفْعَ ضُرٍّ من أحد غيرِ الله تعالى.
5. إياك وإتيانَ الكُهَّان والمنجِّمين والعرَّافين، وتصديقَهم؛ ففي ذلك خسران الدين، والخروج من ملَّة الإسلام، والعياذ بالله.
6.دلَّ الحديثُ على أنَّ تصديقَ الكُهَّان كفرٌ، وإتيانهم مع عدم تصديقهم من الكبائر. فلا يجوز للإنسان أن يأتيهم أو يدخل مواقعهم هزلًا ولا جادًّا.
7. ارضَ بما قسمه الله لك، واعلم أن الغيب ما حُجب عنك إلا لراحتك أنت، فلا تَهتِك سِتْرَ الغيب بما يَزيدك رَهَقًا وتَعبًا.
المراجع
- رواه البخاري (5884).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216).
- رواه مسلم (2230).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
فقه
1. يَذكر النبيُّ ﷺ أنَّ الله لا يُحاسِب العبدَ على صورته ومظهره وبُنيان جسده؛ فلا فرق بين الأبيض والأسود، ولا بين الغني والفقير، ولا بين القوي والضعيف، فقد يكون العبدُ حَسَنَ الوجه، معتدِل الجسم، قويَّ الحُجَّة، حُلْو المنطق، غير أنَّه لا يُقام له عند الله وزنٌ،
كما أخبر سبحانه عن المنافقين:
{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}
[المنافقون: 4].
2. العبرةُ عند الله بالقلوب؛ فهي مُستودَع التقوى والإيمان، والتفاضلُ الحقيقيُّ بين الناسِ إنما يكون بالتقوى والعمل الصالح،
قال تعالى:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات: 13]،
وقال ﷺ:
«أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ؛ إِلَّا بِالتَّقْوَى»
[1]
فربما كان العبدُ دَميمًا قبيحَ المنظر إلَّا أنَّ له منزلةً عظيمةً عند الله،
قال ﷺ:
«رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ»
[2]
على أنَّ بعض الناس يحتجُّ بهذا الحديث مُبطِلًا الأعمال والفرائض، فيَزعم أنَّ القلب إنِ اطمأنَّ بالإيمان أغنى عن العمل. وهذا زعمٌ باطلٌ؛ فإنَّ العملَ من الإيمان، ولا يصح الإيمان لأحدٍ إلا بالعمل.
اتباع
1- (1) دلَّ الحديثُ على أنَّه ليست العبرة بالمناظر والصُّور، فلا يسارع العبدُ إلى الحكم على أحدٍ لمجرَّد ظاهره؛ فإنَّ المظاهرَ خدَّاعة.
2- (1) أفاد الحديث أنَّ على الإنسان ألَّا يَهتم بالمظهر والصورة بما يهمل به قلبه، بل يهتم بجسده ومظهره باعتدال، ويُوجِّه أكثر اهتمامه إلى ما عليه المُعَوَّل في الميزان، وهو صلاح القلب واستقامته.
3- (2) وجَّه النبيُّ ﷺ إلى ضرورة تزكية القلب وتطهيره مما ينتابه من الأدران والشُّبهات ومداخل الشِّرْك وحُبِّ الدنيا؛ فإنَّه محل نظر الله تعالى.
4- (2) يجب على المسلم أن يُحَسِّن نيته؛ فعليها مَدار الجزاء والثواب والعقاب، وعليه أن يصبر في تصحيحها ويتحمَّل معاناة ذلك، فالأمر صعبٌ، وقد كان السَّلَفُ يتعلَّمون النيَّة للعمل كما تتعلَّمون العمل[3]
5- (2) الاهتمام بتصحيح القلب وتسديده أَولى ما اعتمد عليه السالِكون إلى الله، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون؛ فإن القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يريد، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به[4]
6- (2) النيَّة هي التي يستحق بها العبدُ الثوابَ أو العقابَ؛ فربما يعمل الإنسان عملًا صالحًا غير أنَّه نوى به غيرَ الله، فيعاقب على ذلك ولا يُثاب، وربما نوى الرجلُ عملًا صالحًا ثم لم يستطع عملَه، فيؤجر عليه لمجرد النِّيَّة. فعلى المرء أن يجدد النيات الصالحة، وأن يسعى في تصحيح نياته.
7- (2) على الدُّعاة والمُرَبِّين أن يوجّهوا أنظار النَّاس واهتماماتهم إلى الاهتمام بالقلب وعلاج آفاته وأمراضه.
8- (2) يجبُ على المسلم أن يعمل بالميزان الذي يرضاه الله تعالى، وهو التفضيل بناءً على الدِّين والاعتقاد والتقوى، لا المظهر واعتدال القوام وحُسن الحديث والثَّراء والوجاهة الاجتماعية ونحوها.
9- (2) معيار الدين والتقوى هو الأهم لدى المسلم؛ فينبغي أن يراعيه الرجلُ إذا كان يبحث عن زوجة، وتراعيه المرأة التي يتقدَّم لها رجل للزواج بها، وكذلك من كان يريد عاملًا أو شريكًا أو ساكنًا يستأجر بيتَه أو نحو ذلك، فعليه أن يختار التَّقِيَّ الدَّيِّنَ.
10- (2) القلب يَمرَض كما يمرض البَدَن، وشفاؤه في التوبة، ويصدأ كما تصدأ الْمِرآة، وجِلاؤه بالذِّكر، ويَعرى كما يَعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة، والتوكُّل، والإنابة [5]
11- (2) في إشارة النبيِّ ﷺ إلى صدره الشريف استخدامٌ للغة الجسد، وهذا من الأمور التي تؤثِّر في المستمِع، وترسِّخ لديه المعلومة، فيُستحسَن استخدام لغة الجسد في التعليم والإرشاد والدعوة.
12- كان جُلَيْبِيبٌ أحدَ أصحاب النبيِّ ﷺ، وكان دَمِيم المنظر قصيرًا، عرض النبيُّ ﷺ عليه الزواج فقال: إذن تَجِدني كاسدًا يا رسولَ الله، فقال ﷺ: «ولكنك عند الله لستَ بكاسدٍ»، فأرسله إلى أحد بيوت الأنصار يخطب ابنتهم، فتعجب الرجلُ وامرأتُه، إلا أنَّ ابنته بادرت إلى الموافقة تلبيةً لأمر الله تعالى، ثم إنَّ جُلَيبيبًا خرج مُلَبِّيًا داعي الجهاد، فافتقده النبيُّ ﷺ بعد انتهاء الغزوة، فوجده شهيدًا وحوله سبعة من المشركين قد قتلهم ثم قُتل، فقال ﷺ: «هذا مني وأنا منه». وكانت امرأتُه بسبب ما أصابت منه من أغنى النساء[6]
13- قال الشاعر:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتَزْدَرِيهِ = وفِي أثْوابِهِ أسَدٌ هَصُورُ
ويُعْجِبُكَ الطَّريرُ فتبتَلِيهِ = فيُخلِفُ ظنَّكَ الرَّجُلُ الطَّريرُ
فمَا عِظَمُ الرِّجالِ لهم بزَيْنٍ = ولكنْ زَيْنُهم كَرَمٌ وخِيرُ
المراجع
- "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5).
- "الفوائد" لابن القيم (ص: 98).
- انظر: " الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر (1/ 272)، " الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (2/ 222).
- رواه أحمد (23489)
- . رواه مسلم (2622).
فقه
هذا الحديث من أصول الإسلام، ومن جوامع أخباره ﷺ:
1. فأخبر أن الإنسان إذا تحقَّقت فيه ثلاثُ صفاتٍ وجد حلاوةَ الإيمان، أي طعمًا تشعر به نفسُه كما تشعر بحلاوةِ الطعام. وهذا كقوله ﷺ:
«ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»
[1]
وهي مثل ما يجدُه المؤمنُ مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى وعبادته، ومعرفة رسوله ﷺ واتباعه [2]، ومن استلذاذِ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ، وإيثارُ ذلك على عرَضِ الدنيا [3] و«الإيمان هو غذاء القلوب وقُوَّتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوةَ الطعام والشراب إلا عند صحَّته، فإذا سَقِم لم يجِدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه، وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السقم عليه، فكذلك القلبُ إنما لا يجدُ حلاوةَ الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوةَ الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوةَ الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوةَ الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي» [4]
2. وأول هذه الخصال هي: "أنْ يَكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما"، والمرادُ بحُبِّ الله ورسوله ﷺ: شعورٌ يعرفه الإنسان في قلبه، ويورثه كثرةَ ذكرِ محبوبه، والشوق له، وفعل ما يحبه، وتجنب ما يكرهه، ولا تزال تزيد المحبة حتى يقدمه على كل حبٍّ سواه، بل يقتضي إيثارَ ما يريده محبوبه، وإن كان على خلافِ هوى النفْس.
وهذه المحبة يجب أن تكون مُقَدَّمةً في قلب كل مسلم على كل محبوب، وإلا تعرَّض العبدُ لغضب
الله تعالى وعقوبته:
﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
[التوبة: 24]،
وقال ﷺ:
«لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
[5]
3. وأما الخَصلةُ الثانيةُ: أن يكون اللهُ تعالى حاكمًا عليه في حبه، فيحب المرء لا لشيءٍ إلا لأن الله تعالى يحبه أو أمر بحبه، وفي الحديث: «إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللَّهِ» [6] ، ولا يزال تسليمه لله تعالى حتى يكون الحاكمِ عليه في كل حب،
كما قال تعالى:
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾
[الممتحنة: 4]
وفي الحديث:
«مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ، وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ»
[7]
4. وأما الخَصلة الثالثة فهي كراهية الدخول في الكُفر والمعاصي -سواء كان واقعًا فيهما سابقا أو لا-، فإن من آمنَ حقاً، وتعلَّق بحبِّ الله ورسوله ﷺ؛ كان تركه لنعيم الإيمان بالله جحيمًا يكرهه؛ كما يكره أن يلقى في النار [8]
القَدْر الواجب من كراهة الذنوب أن ينفِّر نفسه منها، ويتباعد عنها، ويعزم على ألَّا يقع فيها؛ لعلمه بسخط الله لها، فأما مَيْل الطبع إلى شيء من الذنوب دون استجلاب لمحبتها أو فعلها فلا يؤاخَذ به؛ وقد مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، فدلَّ أن الهوى قد يميل إلى ما هو ممنوع منه، لكن المؤمن ينهى نفسه عن ذلك [9].
وهذا الحديث أصلٌ في محبة الله، فالعبادة تجمع كمال الحب مع كمال الذل، "وهذه المحبة لله عز وجل حقٌ؛ كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث: أن الله سبحانه محبوبٌ لذاته محبة حقيقية؛ بل هي أكمل محبة فإنها
كما قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ﴾
[البقرة: 165]،
وكذلك هو سبحانه يحبُّ عباده المؤمنين محبة حقيقية، وكل ما يحبونه سواه فإنما يحبونه لأجله" [10]
اتباع
1. ذهبت أمُّ سُلَيم بابنها أنس بن مالك إلى النبي ﷺ ليكون خادمًا له، وهو دليلٌ على عظيم محبتها لرسول الله ﷺ، إذ ولدها قُرَّة عينها، وهو حُرٌّ لا عبد، ولم يخدمه لأجل مال، فماذا قدمنا لدين رسول الله صلى الله ﷺ وأحاديثه وسنته؟
2. استعمل النبيُّ ﷺ في حديثه أساليب التشويق والإغراء وجذب الانتباه، فابتدأ الحديث بحصر الخصال في عددٍ معين، ليبقى المستمع منتبهًا لها حتى يحصيها، كما أتى بلفظ "حلاوة" ليحرص الإنسان على تحقيق الخصال لينال تلك اللذة. فعلى الدعاة والخطباء والوُعَّاظ أن يحرصوا على اتباع الأساليب الدعوية المُشَوِّقة.
3. كلما رأيت نفسك مقصرًا في العمل، فعمِّق في قلبك محبة الله تعالى ومحبة رسوله ﷺ،
فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ:
«وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: لا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ
[11]
4. كلما سمعت فعلَ محبٍّ مع محبوبه، فليكن منك أعظم من ذلك مع الله تعالى ومع رسوله ﷺ، وهي درجات فمنها محبةٌ تحمل على أداء الفرائض واجتناب النواهي، ومنها محبةٌ تَحمِل على أداء المندوبات، وتجنُّب الوقوع في الشبهات.
5. لنتعلّم ونعلَّم من حولنا كيف ننمي في قلبنا حب الله تعالى وحب رسوله ﷺ ، فمن طرق تحصيل محبة الله تعالى: معرفةُ أسمائِه وصفاتِه وكمال أفعاله سبحانه، وتأمل جميل صنعه، وتذكير النفس عظيم نعمه، وعظيم رحمته، مع عظيم الذنوب، ومثلُه يُقال في محبة رسول الله ﷺ، بمعرفته ﷺ، والوقوف على جميل خصاله، وعظيم جهاده ﷺ، وكونه سببًا في هدايتنا لطريق الله عزَّ وجلَّ، وغير ذلك وغير ذلك.وقد يسأل المؤمن نفسه: كيف أعلم أن محبة الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما؟، فلينظر إذا تعارض هواه مع ما يحبه الله؟، كمن تعرض له وظيفة مرموقة في بنك ربوي، فيتركها لله تعالى.
وقد يسأل المؤمن نفسه: كيف أعلم أن محبة الله ورسوله أحب إليّ مما سواهما؟، فلينظر إذا تعارض هواه مع ما يحبه الله؟، كمن تعرض له وظيفة مرموقة في بنك ربوي، فيتركها لله تعالى.
6. الإنسان يستطيع أن يؤثِّر في نفسه لتحبَّ شيئًا أو تكرهه، فتفقَّد نفسك وجاهدها حتى تقدم حبَّ رسول الله ﷺ على كلِّ شيء، فقد أخذ النبيُّ ﷺ بيد عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الآنَ يَا عُمَرُ» [12]
7. إذا أحببت مسلمًا فليظهر آثار ذلك بحسب ما تيسر لكل أحد، كالمجالسة والتزاور والبذل، فإن «رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ -طريقه- مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ، قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا -تطلبها-؟ قَالَ: لَا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ» [13]
8. متى أحببتَ صاحبًا في الله فحافظ على أن تكون خالصةً لله تعالى، لأن من أحبَّ امرأً لغرض انقطعت محبته بانقطاعه أو اليأس منه [14]، وكمال الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء [15]
9. عوَّد نفسَك استبشاع المعاصي، وكراهتها لكراهة ما تؤول إليه، واحذر أن تستحليَها في نفسك، أو تتخيلها بصور جميلة، فإن الخواطرَ مفتاح الإرادة، والإرادة مفتاح العمل.
10. قال الشاعر:
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ = هَذا مُحَالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقًا لَأَطَعتَهُ = إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
في كُلِّ يَومٍ يَبْتَديكَ بِنِعمَةٍ = مِنهُ وَأَنتَ لِشُكرِ ذاكَ مُضِيعُ
11. قال أبو قيس الأنصاري رضي الله عنه يذكر قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في المدينة:
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً = يُذَكّرُ لَوْ يَلْقَى حَبِيبًا مُوَاتِيَا
فَلَمّا أَتَانَا وَاسْتَقَرّتْ بِهِ النّوَى = وَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطَيْبَةَ رَاضِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلّ مَالِنَا = وَأَنْفُسَنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتّآسِيَا
نُعَادِي الّذِي عَادَى مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ = جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
المراجع
- مسلم (34)، عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).
- ("المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 13).
- "فتح الباري لابن رجب" (1/ 50- 51)
- البخاريُّ (15)، ومسلم (44)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
- أحمد رقم (18524) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
- أبوداود رقم (4681)، عن أبي أمامة الباهلي.
- "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 66).
- البخاريُّ (3688)، و مسلم (2639).
- البخاريُّ (6632)
- . مسلمٌ (2567).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
- انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).
فقه
1. أخبَر النبيُّ ﷺ أنَّ أُمَّته ستَتَّبع طريق الأمم السابقة وطريقتها في الابتداع في الدين وارتكاب المعاصي اتباعًا تامًّا وتقليدًا أعمى، وقد حصل ذلك بعده ﷺ، فمال كثير من الناس إلى الحِيَل، وإلى أكْل الربا، والتشبُّه بهم في ملابسهم وشعارهم، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأغنياء، وغير ذلك، ومال بعضهم إلى عبادة الصالحين من دون الله تعالى[1]
2, وشبه اتباعهم بقوله: «شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع» وهو تشبيهٌ يُقَوِّي المعنى؛ حيث إنَّ من أمته ﷺ من يُقلِّد الكفارَ في كل شيءٍ، وقد قال ﷺ: «ليأتينَّ على أُمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أَتَى أُمَّه علانيةً، لكان في أُمتي مَن يصنع ذلك»[2]، والمراد من ذلك بيان شِدَّة موافقتهم في المعاصي والمخالَفات [3] ، وإخبارُ النبيِّ ﷺ بذلك ليس إقرارًا منه، بل إنَّه ﷺ حذَّر من اتباعهم وأمر في أحاديث كثيرة بمخالفتهم[4]
3. ثُمَّ شبَّه النبيُّ ﷺ ذلك التقليد والاتباع بالأمم السابقة بأنه لوْ دخَل أحدُهم جُحْر الضَّبِّ – وهو حيوانٌ معروفٌ يُشبه الوَرَل[5] – لاتَّبعه كثيرٌ من المسلمين. وإنَّما اختار جُحرَ الضَّبِّ لضِيقِه وخُبثِ رائحته، يريد أنَّهم لو دخلوا مكانًا ضيِّقًا مؤذيًا خبيث الرائحة لاتَّبعتُموه، وذلك حاصلٌ في اتباعهم في المعاصي والخبائث والفواحش التي يأنفُ منها الطَّبْعُ السَّليم[6]
4. فتَساءل الصحابةُ: أتقصدُ اليهودَ والنصارى يا رسولَ الله؟ وهو استفهامٌ يفيد التعجُّب والاستنكار؛ استَعظَم الصحابةُ أن يُقلِّدَ بعضُ هذه الأُمَّة اليهودَ والنصارى على ما هم عليه من الضَّلال، وبعدما مَنَّ اللهُ علينا بالهدى والتوحيد. فأجاب ﷺ بالإثبات؛ إذ لو لم يكُونوا اليهودَ والنصارى فمَن غيرهم.
وهذا الإخبارُ منه ﷺ عامٌّ مخصوصٌ؛ فإنه ليس كلُّ المسلمين يتَّبِعون مَن كان قبلَهم، ففيهم المتمسِّكون، والعلماءُ، وأهل الدِّين والتقوى؛ وإنما المراد: يكون فيكم اتِّباع لِمَن كان قبلَكم[7]
اتباع
1- (1) خاطب النبيُّ ﷺ أصحابه فقال: (لتتبعنّ سنن من قبلكم) مع أن الصحابة كانوا أبعد الناس عن اتباع من قبلهم من يهود ونصارى، وظهر ذلك أكثر فيمن بعدهم شيئًا فشيئًا، ولكنه دليل على وحدة الأمة، وأنه يطلب منها التعاون على إصابة الحق.
2- (1) (2) استخدم النبيُّ ﷺ التشبيهات والصور البيانية التي تُقرِّب المعاني وتؤكِّدها بألطف أسلوب. فينبغي على الدُّعاة والعلماء استعمال تلك الصُّور البديعة التي تأسر العقول وتخطف القلوب.
3- (1) تَرَفَّع النبيُّ ﷺ عن ذكر أسماء الكفار والفُسَّاق، واكتفى بالإشارة إليهم بقوله: «مَن كان قبلكم»، فيُستحَب عدم ذكر أسمائهم إلا لحاجةٍ؛ كأن يُذكَر من قصصهم وأخبارهم ما يتَّعظ به السامع.
4- (1) على الإنسانِ أن يَحذَر مِن اتباع غير المسلمين فيما اختُصُّوا به من شؤون حياتهم من مأكل ومَلْبَس ونحو ذلك، فضلًا عن العبادات والطقوس والعادات الدينية، بل يخالفهم ما استطاع.
5- (1) اطمئن بمثل هذا الحديث فإنه يقوِّي قلب المؤمن، لما فيه من من دلائل نبوته ﷺ؛ فقد وقع ذلك بين المسلمين باتِّباع الكافرين في أمور دينهم ودُنياهم. وهذا مما يزيدنا إيمانًا باللهِ جل وعلا وبرسوله ﷺ.
6- (1) لقد حذَّر النبيُّ r من اتِّباع سَنَن من قبلنا، وفي التحذير من التقليد واتباع السَّنن تكثيرٌ للطائفة الظاهرة المنصورة، وتثبيتٌ لها، وتقويةٌ لإيمانها؛ ففي أيِّ الطائفتين تريد أن تكون؟!
7- (1) في الحديث إشارةٌ إلى بلاء التقليد، وسوء مغبَّته، وكم جرَّ التقليد على المسلمين من بلاءات ووَيْلات وَنَكَبات، وضياع هُوِيَّة الأجيال، وذَوَبانهم في هُوِيَّات الضلال والانحلال!
8- (2) دلَّ تشبيه الاتِّباع بدخول جُحر الضبِّ أنَّ مِن أفعالهم ما تُنكره الفِطرة ويأباه العقلُ، ومع ذلك يُقلِّدهم أُناس من المسلمين. فالحمدُ لله على نعمة العقل والإيمان.
9- (2) دلَّ الكتاب والسُّنَّة على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسِّكة بالحقِّ إلى قيام الساعة[8]، وأنَّ الله لا يزال يَغرِس في هذا الدين غَرْسًا يستعملهم فيه بطاعته[9]، وأنهم لا يجتمعون على ضَلالة [10]، فينبغي للمسلم أن يحرص أن يكون منهم.
10.(3) استنكر الصحابةُ رضوان الله عليهم من تقليد اليهود والنصارى واتِّباعهم، وقد اتضح الدليلُ على ضلالِهم وغيِّهم. فلا شكَّ أنَّ المُقَلِّدَ لهم أجهلُ منهم وأضل؛ لأنه اتبع أهل الضلال والغواية، بعدما تبين له الحقُّ والهداية.
11- قال الشاعر:
وَمَنْ يَبْتَغِ الْإِسْلَامَ دِينًا يَكُنْ لَهُ = نَصِيبٌ مِنَ الدَّارَيْنِ يَبْقَى وَلَا يَفْنَى
وَمَنْ يَبْتَغِ الأهواءَ فاعجبْ لحالِه = فَقَدْ خَسِرَتْ يُمْنَاهُ إِنْ طَفَّفَ الْوَزْنَا
لَنَا سُنةٌ نُحْيِي ذُرَاهَا وَنَتَّقِي = حِمَاهَا وندري أنَّ في ظِلَّها الحُسنى
المراجع
- انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 261)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (6/ 340).
- رواه الترمذي (2641).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 43)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (5/ 421).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 494)، وكتاب السنن والآثار في النهي عن التشبه بالكفار، لسهيل حسن عبدالغفار.
- انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميريِّ (2/ 107).
- انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 44)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلاني (5/ 422).
- انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 464).
- رواه مسلم (4988): عَنْ ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ».
- روى أحمد (17787)، والبخاريُّ في "التاريخ الكبير" (9/61)، وحسَّنه الألبانيُّ في صحيح الجامع (7692): عن أبي عِنَبةَ الخَوْلانِّي قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
- روى أحمد في "المسند" (27224)، والترمذيُّ (2167)، وصحَّحه الألباتيُّ دون «ومن شذ»: عن ابن عمرَ أن رسول الله ﷺقال: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد ﷺ- على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار».