فقه
1. لمَّا عاد أبو موسى الأشعري رضي الله عنه من بعثته إلى اليمن حيث أرسله النبيُّ ﷺ، سأل النبيَّ ﷺ عن حُكم بعض الأشربة التي يشربها أهلُ اليمن، كالبِتع والمِزر، والبِتعُ -كما فسَّره أبو بردة ابن أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما لابنه سعيد فقال-: البِتْعُ: نبيذُ العَسَل، والمِزْرُ: نبيذُ الشَّعير، وقيل: نبيذُ الحنطة والشعير.
والنَّبيذُ: ما يُنبذ في الماء من التمر أو العنب أو العسل أو غيرها، يُوضع في الماء ويُترك مُدَّةً ثم يُشرب، سواءً كان مُسْكِرًا أم لا.
2. فأجابه النبيُّ ﷺ بجوابٍ جامعٍ يشمل جميع الأشربة، لا هذين الشرابين فحسب، حيث أناط النبيُّ ﷺ الحُكم بالإسكار، فما كان مُسكرًا من الطعامِ أو الشرابِ فهو حرامٌ، سواءً كان من العسل أو التمر أو العنب أو الشعير أو غيرها، وسواءً كان جامدًا أم سائلًا أم مسحوقًا، مهما اختلفت الأسماءُ وتعددت الأوصاف.
وإنَّما سُمِّيت الخمرُ خمرًا لأنها تُغطِّي العقلَ وتُذهبه كما يُغَطِّي الخمارُ الرأسَ، فدلَّ هذا على أنَّ ما شابهها في العلة يستحقُّ نفسَ الحكم، وهو مقتضى قوله ﷺ: «كلُّ مسكرٍ حرامٌ».
والحديثُ يردُّ على من قَصَر التحريم على الخمر المتخذة من العنب فحسب. ويشهد لذلك أنَّ تحريم الخمر حين نزل لم يكن أهلُ المدينة يشربون خمر العنب، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «نَزَلَ تَحْرِيمُ الخَمْرِ، وَإِنَّ فِي المَدِينَةِ يَوْمَئِذٍ لَخَمْسَةَ أَشْرِبَةٍ مَا فِيهَا شَرَابُ العِنَبِ» [1].
ولا فرق في ذلك بين الشديد الذي يُسكر القليلُ منه وبين الضعيفِ الذي لا يُسكر إلا إذا تناول الإنسانُ الكثيرَ منه؛ قال ﷺ: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [2]. وإنما حرِّم القليل الذي لا يُسكِر؛ لأنه ذريعةٌ إلى الْمُسكِر، وهذا من باب سدِّ الذرائع، ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يُسكِر فإنه حرام [3].
اتباع
(1) ينبغي على كلِّ مسلم أن يحتاط لدينه، فلا يأتي أمرًا إلا وقد علم أنه حلالٌ لا يعاقبه الله عليه، وقد حرص الصحابةُ رضوان الله عليهم على ذلك، ولهذا بادر أبو موسى رضي الله عنه إلى سؤال النبيِّ ﷺ عن تلك الأشربة.
(1) يجب على المستفتي أن يبين الأمرَ المسؤول عنه، بحيث يقفُ المفتي على حقيقته، وتوافق فتواه حكمَ الله تعالى فيه.
(1) الأصلُ في المطعومات والمشروبات الحِلُّ، إلا أن يأتي دليلٌ على تحريم شيءٍ بعينه، فإن لم تجد دليلًا على تحريم طعامٍ أو شرابٍ فهو حلالٌ مباحٌ.
(2) حفظُ العقل من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولهذا حرَّمت كلَّ ما يُذهبه أو يُعطِّله، وأشدُّ تلك الأمور الخمرُ فإنها تضرُّ البدنَ وتُذهِبُ العقل.
(2) مهما تغيرت الأسماء فالحكمُ ثابتٌ، فالخمرُ والحشيشُ والقاتُ ونحوها لها نفسُ الحكم لاشتراكها في العلة، فلا تتحايل على اللهِ تعالى بتغيير الأسماء.
(2) علَّة تحريم الخمر أنَّها تُذهب العقلَ الذي هو مناط التكليف والتفكير، فإذا غاب العقلُ غاب الحاجزُ عن المعاصي والشهوات، وطاش تصرُّف الإنسانِ بما يُوقِعُه في العداوة مع النَّـاس [4].
(2) كيف تُسَوِّل لك نفسك شربَ الخمر فيذهب عقلك ويغفل عن ذكر اللهِ تعالى والتفكر في نِعَمه وآياته؟! قال بعضُ السَّلف: إنَّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعةٌ لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويَذكُروه، ويعبدوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا [5].
(2) من أعظم العقوبات التي ينالها مدمن الخمر أنَّه يُحرم شربَ خمر الجنة إذا دخلها، قال ﷺ: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ» [6].
(2) شاربُ الخمر إن لم يتب منه سقاه الله من عُصارةِ أهل النار وصديدهم،
قال ﷺ:
«كُلُّ مُخَمِّرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَنْ شَرِبَ مُسْكِرًا بُخِسَتْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»، قِيلَ: وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، وَمَنْ سَقَاهُ صَغِيرًا لَا يَعْرِفُ حَلَالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ»
[7].
(2) ينبغي على الداعية والفقيه أن يكون ذكيًّا، يُجيب السائلَ بما ينفعه، فإن رأى الاقتصارَ على جواب سؤاله من غير زيادةٍ أنفع اكتفى به، وإن رأى الزيادةَ عليه زاد.
(2) قيل للعبَّاسِ بنِ مِرْدَاسٍ السلمىِّ - وقد تنزَّه عن الخمر في الجاهلية وتركها -: لِمَ تركتَ الشَّرَابَ وهو يَزِيدُ في جُرأتِكَ وسماحتك؟ فقال: أَكرَه أن أُصبح سيِّدَ قومي وأُمسي سَفِيهَهم [8].
(2) الخمرُ أمُّ الخبائث، إذا شربها الإنسانُ تطاولت به إلى الزنا والسرقة والقتل، وربَّما تلفَّظ بالكفر من غير أن يدري.
(2)
قال ﷺ:
«كان رجلٌ ممَّن كان قبلكم يتعبَّدُ ويعتزِلُ النَّاسَ، فعلَقتْه امرأةٌ فأرسلت إليه خادمًا: إنَّا ندعوك لشهادةٍ، فدخل فطفَقت كلَّما يدخلُ بابًا أغلقته دونه، حتَّى إذا أفضَى إلى امرأةٍ وضيئةٍ جالسةٍ وعندها غلامٌ وباطيَّةٌ فيها خمرٌ، فقالت: إنَّا لم ندعوك لشهادةٍ ولكن دعوْتُك لقتلِ هذا الغلامِ أو تقعُ عليَّ أو تشربُ كأسًا من الخمرِ، فإن أبيتَ صِحتُ بك وفضحتُك، فلمَّا رأَى أنَّه لا بدَّ له من ذلك قال: اسقيني كأسًا من الخمرِ، فسَقَته كأسًا من الخمرِ، فقال: زِيديني، فلم تزَلْ حتَّى وقع عليها وقتل النَّفسَ»
[9].
(2) قال الشاعر:
وجدتُ الخَمْرَ جامحةً وفيها = خصالٌ تَفْضَحُ الرجلَ الكريما
فلا واللهِ أَشْرَبُها حَيَاتي = ولا أدعو لها أَبَدًا نديمَا
وَلا أُعْطي لها ثَمَنًا حياتي = ولا أَشْفِي بها أَبَدًا سَقِيمَا
فإنَّ الخمرَ تَفْضَحُ شاربيها = وتَجْشَمُهُمْ بها أَمْرًا عَظِيمَا
إِذَا دَارَتْ حُمَيَّاهَا تَعَلَّتْ = طَوَالِعُ تَسْفَهُ الرَّجُلَ الحَلِيمَا
المراجع
1. رواه البخاري (4616).
2. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393).
3. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).
6. رواه البخاري (5575)، ومسلم (2003).
7. رواه أبو داود (3680).
8. "نهاية الأرب في فنون الأدب" لشهاب الدين النويريِّ (4/ 89).
9. رواه ابن حبان في صحيحه (5348).
فقهٌ
1. حذَّر النبي ﷺ من خطورة امتلاءِ البطنِ بالطعام؛ فإنَّ أكثرَ الأمراضِ حاصلةٌ بسبب ذلك، فضلًا عن أنَّ الإنسانَ إذا امتلأت معدته بالطعام تكاسل عن الطاعات، وفتر عن أداء عمله، وضعف العقل عن التفكُّر.
2. ولهذا نَدَب النبي ﷺ أُمَّته إلى أن يكتفوا بلُقماتٍ تسدُّ جوعَهم، وتحفظهم عن السقوط والضعف، ويتقوى بها المسلم على العبادات وأنواع الطاعات.
3. فإن عجز المسلمُ عن ذلك وأبى أن يستزيد من الطَّعام، فليجعل بطنه أثلاثًا؛ يملأ ثلثٌ بالأكلِ، وثلثٌ للشَّرَاب، ويترك ثُلُثًا للنَّفَس، فإنَّ البطن إذا امتلأ بالطعام والشَّراب، ضاق على النَّفَس، فيعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل.
اتباع
(1) الطبُّ النبويُّ يحرص على وقاية المسلم من الأمراض، وليس علاجها فحسب.
(1) إياك وملأ معدتك بالطعام؛ فإنَّها سببُ كلِّ رذيلة، قال لقمان الحكيم رحمه الله لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأت الْمَعِدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقَعَدت الأعضاء عن العبادة" [1].
(1) شهوةُ البطنِ من الشهوات التي تُردي الإنسانَ في المحذورات، وبسببها أغوى إبليسُ اللعين آدمَ عليه السلام وزوجته حين أكلا من الشجرة.
(2) قلة الأكل من محاسن الرجال، وكانت العربُ تمتدح الرجلَ الذي يأكل قليلًا، فكيف بأهل الإيمان؟!
(2) يكفيك ما يُقيم صُلبَك ويسدُّ جوعك من الطعام والشراب، وإياك والتُّخَمة.
(2) اعتاد النبيُّ ﷺ وأصحابَه رضوان الله عليهم ألَّا يأخذوا من الطَّعام إلا ما يحفظ البدنَ، ولهذا استوى في أعينهم الغث والسمين؛
مَرَّ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ - أي مَشْويَّة - فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ»
[2].
(2) اجعل هِمَّتك في معالي الأمور لا في امتلاءِ بطنك بالطَّعام، فهذه غايةُ الكافرين الذين قال سبحانه في حقهم:
{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}
[الحجر: 3].
(3) أقصى ما تصل إليه أن تملأ ثُلُثَ معدتك بالطَّعام؛ لتجعل للشراب والنَّفَس مسلكًا.
(3) رُوي أن ابن ماسوَيْهِ الطبيبَ لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استَعمَل الناس هذه الكلمات، سَلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التُّخَم [3].
(3) المسلمُ يأكل ما يُقيمُ بدنه ويسدُّ جوعَه، والكافرُ يتلذَّذ بالأكل ولا يشبعُ منه،
قال ﷺ:
«الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ»
[4].
قال الشاعر:
ثلاثٌ هنَّ مَهْلَكةُ الأنامِ = وداعيةُ الصَّحيحِ إلى السَّقامِ
دَوَامُ مُدَامةٍ ودَوَامُ وَطْءٍ = وإدخالُ الطَّعَامِ على الطَّعَامِ
المراجع
1. "إحياء علوم الدين" للغزاليِّ (3/ 82).
2. رواه البخاريُّ (5414).
3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 468).
4. رواه البخاريُّ (5393)، ومسلم (2060).
فقه
حرَص النبيُّ ﷺ على نشْرِ الدِّينِ وتبليغِ أحكامه، ولهذا أوصى أُمتَه بوصايا جامعةٍ في خُطبة حَجة الوداع التي ألْقاها يومَ عَرفةَ أمام مَشهَدٍ من أصحابه الذين حجُّوا معه، وبلَغ عددهم مائة ألفِ صحابيٍّ أو أكثر.
1. وقد استهلَّ ﷺ خُطبته بعْد الحمد لله والثَّناء عليه بتَحريم دماءِ المسلمين وأموالهم؛ فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يَقتل مسلمًا ظُلمًا، ولا يحِلُّ له أن يَأخذ مِن ماله بغير وجهِ حقٍّ؛
لقوله ﷺ:
«كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»
[1].
وبدأ ﷺ بالدماء لأنها أعظمُ حُرمةً من المال، ولهذا تَوعَّد اللهُ تعالى قاتلَ المؤمنِ عمدًا بما لم يتوعَّدْ به غيرَه،
فقال سبحانه:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93]،
وجعَله ﷺ مِن المُوبقات [2]، وشدَّد ﷺ على ذلك فقال:
«كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»
[3].
وقد أكَّد ﷺ تحريمَ الدماء والأموالِ بتَشبيهِها بحُرمةِ يومِ عرَفة وحُرمةِ الشهر الحرامِ وحُرمةِ مكّة، ومع أنَّ حُرمةَ الدماء والأموال أعظمُ مِن ذلك، إلا أنَّ النبيَّ ﷺ خاطَبهم بذلك لأنهم كانوا يَعتقِدون تعظيمَ الأشهرِ الحُرُم، وأجلُّها يومُ عرَفة، ويَعتقدون أيضًا حُرمةَ البلدِ الحرام؛ فقد كانوا يَستبيحون في الجاهلية الدماءَ والأموالَ في غيرِ الأشهُر الحُرُم، وفي غيرِ البلد الحرامِ، ويحرِّمونها فيها، فكأنه قال: حَرِّموا على أنفسكم دماءَ بعضكم وأموالَهم، كما تُحَرِّمون الشهرَ الحرامَ والبلدَ الحرام [4].
2. ثم أخبَر ﷺ أنَّ جميع ما ابتدَعه أهلُ الجاهلية مِن الشرائعِ والعبادات باطلٌ مردودٌ لا عِبرةَ به، سواءً في مَناسك الحجِّ أو غيرها؛ فالشرعُ ما شرَعه اللهُ تعالى وبيَّنه رسولُه ﷺ،
قال جلَّ جلالُه:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
[المائدة: 50].
3. ثم قَضى ﷺ أنَّ الدماء التي سالتْ في الجاهلية هَدْرٌ لا يُؤخَذ بها؛ فلا ديةَ ولا قصاصَ ولا كفَّارة، فلا يُطالِب أحدٌ بشيءٍ من ذلك. وبدأ ﷺ بنفسه وأهلِه فأهدر دِيةَ ابنِ ربيعةَ بن الحارثِ بن عبد المطَّلِبِ، وقد كان طفلًا مُسترضِعًا في بَني سَعدٍ، فقَتلتْه قبيلةُ هُذيل خَطأً أثناء حَربِها على بَني سعد.
4. وأبطَل كذلك آثار التعامُلات الرِّبوية التي نشَأت في الجاهلية، فمَن كان قد تَعامَل بالربا قبْل الإسلام ولم يَقبِض، فإنَّه يأخُذ أصلَ ماله ويَترُك الزيادة، أما إن كان قد تَعامَل بالربا وقبَض قبْل إسلامه ثم أسلَم، فإن الإسلامَ يَلْقاه بالعفو، والإسلامُ يَجُبُّ ما قبلَه [5].
وإلَّا فقد ثبَت تحريمُ الربا مِن قبلُ، وترَكه المؤمنون؛
لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ}
[البقرة: 278، 279]،
وأكلُ الربا مِن الكبائر، وذكَره النبيُّ ﷺ في المُوبِقات [6]،
وقال جابرٌ رضي الله عنه:
لعَنَ رَسولُ اللهِ ﷺ آكِلَ الرِّبا، ومُؤْكِلَه، وكاتِبَه، وشاهِدَيْه، وقال: «هُم سَواءٌ»
[7].
وبدأ ﷺ بإبطالِ رِبا عمِّه العبَّاس رضي الله عنه، وقد كان العبَّاس يُسلِف في الجاهلية بالرِّبا، فجاء الإسلامُ وله مالٌ عظيمٌ من الرِّبا، فضلًا عمَّا له عند النَّاس منه، فأبطَل النبيُّ ﷺ ما له على النَّاس منه، وأباح له ما كان أخَذه قبْل ذلك [8].
5. ثُمَّ أوصى ﷺ بالنِّساء، فأمر بالإحسانِ إليهنَّ ومعاملتِهنَّ معاملةً كريمةً، ومراعاةِ طبيعةِ المرأةِ وشُعورها، وتلبيةِ احتياجاتها،
وقد قال ﷺ:
«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاء؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»
متفق عليه [9]،
ورغَّب ﷺ في حُسن العِشرة بقوله:
«خَيْرُكُم خَيْرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلِي»
[10]،
حتى إنَّه ﷺ جعَل النفقة على الأهلِ قُربَةً يَنال المسلمُ بها أجرًا،
فقال ﷺ:
«وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»
[11].
وعلَّل ﷺ تلك الوصيَّة بأن المسلِمَ إنَّما أخَذها واستحلَّ فَرْجها بعَهدِ الله وشرعِه في الزواج، فمَن نَقَض عهدَ اللهِ تعالى فيهنَّ استحقَّ عقابه وغضَبَه.
6. ثم ذكَر ﷺ مِن حقوق الرجلِ على امرأتِه: ألَّا تأذَن لأحدٍ أيًّا كان في دخولِ بيته مِن غيرِ إذنه الصريحِ أو الضِّمني، وهو أن تظُنَّ أن دخولَ ذلك الشخصِ بيتَه لا يؤذِيه، فإنْ خالفَت ذلك فللزوجِ أن يؤدِّبَها بما يَلِيق بحالها من الهجْرِ والضربِ غير المؤلِم الذي لا يَكسِر ولا يَجرح.
وكما جعَل اللهُ سبحانه للرجُل حقًّا على امرأته، فكذا جعَل لها عليه حقًّا،
قال تعالى:
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
[البقرة: 228].
ومن حقِّها على الرَّجل: الإنفاقُ في المأكل والمشرب والسُّكنى والملبَس، وذلك بحسب استطاعته
{عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}
[البقرة: 236].
7. ثم ذكَر النبيُّ ﷺ أنَّه قد ترَك في المؤمنين شيئًا إنْ تمسَّكوا به وعمِلوا بأحكامه وشرعِه، أخَذوا بسُبُل الهدى والرَّشاد وما ضلُّوا أبدًا، وهو كتابُ اللهِ تعالى الذي
{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت: 42]،
وأخبَر ربُّنا تبارك وتعالى عنه بقوله سبحانه:
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
[الأنعام: 92].
ولم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتمِلٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ.
8. ثم أخبَر ﷺ أصحابَه رضوانُ الله عليهم أنهم سيُسألون عنه، فهُم شُهداءُ على إبلاغِه دعوةَ ربِّه، فماذا يقولون حينئذٍ؟ فأخبروه أنهم يَشهَدون أنَّه قد بلَّغ رسالةَ ربِّه وأدَّى أمانتَه ونصَح لأُمَّتِه. فأشار النبيُّ ﷺ إلى السَّماء بيده ثم يرُدُّها إلى أصحابه، ويقول: اللهم اشْهَد على قومي؛ فإنَّهم يُقرِّون بأنِّي قد أدَّيتُ وبلَّغتُ.
اتباعٌ
(1) حُرمةُ دمِ المسلمِ عظيمةٌ عند الله تعالى،
قال ﷺ:
«لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»
[12]،
فلا يجوز لمسلمٍ أن يُقدِم على إراقتِها بغيرِ وجهِ حق.
(1) شدَّد النبيُّ ﷺ في حقِّ الدِّماء حتى ذكَر أنَّها لا تُغفَر،
فقال ﷺ:
«كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»
[13]،
مع أنَّ القتلَ كغيرِه من الذنوب داخلٌ في المشيئة، إنْ شاء اللهُ غفَر لصاحبه، وإن شاء عذَّبه. وهذا مِن تَهويل الذنْب وبيان مَدى استحقاقِ صاحبِه العذابَ الأليم.
(2) لا يجوز للمسلمِ أن يجعَل اعتقادَه وحُكمَه إلى أمور الجاهليَّة، ويُحِلُّ ما أحلُّوا، ويُحَرِّم ما حَرَّموا.
(2) دلَّ الحديثُ على أنَّ ما صنَعه الإنسانُ قبل إسلامِه مَغفورٌ معفوٌّ عنه، فإنْ أخَذ مالًا مِن حرامٍ قبْل إسلامِه فهو حلالٌ له بعْد الإسلامِ، أما إنْ أقرَض برِبًا أو باع خمرًا أو خِنزيرًا أو ميتةً أو نحو ذلك، ولم يَقبِض المالَ حتى أسلَم، فلا يجوزُ له أخذُ الربا أو ثمَنَ المُحَرَّم.
(3، 4) على الإمام والداعية والمُرَبِّي أن يكون قُدوةً بنفسه في الأمر والنهي، فإذا أمَر بمعروفٍ كان أوَّلَ الفاعلِين، وإنْ نهى عن مُنكَرٍ كان أوَّل المجْتنبِين؛ فإنَّ ذلك أقربُ إلى قَبولِ قولِه وأمكنُ في الاستجابةِ له.
(5) على المسلمِ أن يُحسِن إلى زوجتِه ويتَّقِيَ اللهَ سبحانه فيها، ويعاشِرَها بالمعروف، ويصبِر عليها، ويَتغافَل عن بعضِ هَفَواتها.
(5) كان النبي ﷺ نِعمَ القدوةُ في معاشَرةِ أهلِه والإحسان إليهنَّ؛ فقد كان إذا هَوِيت عائشة رضي الله عنها شيئًا لا مَحذورَ فيه تابَعها عليه، وكانت إذا شَرِبت من الإناء، أخَذه فوضَع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحْم - أخَذه فوضَع فمَه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حِجرها، ويقرأ القرآن ورأسُه في حِجرها [14].
(6) على المرأةِ أن تراعي حقَّ زوجِها، فلا تُدخِل مَن يَكرهُه بيتَه إلا بإذنه، حتى وإن كان أباها أو أُمَّهَا. ولمَّا دخَل أبو سفيان رضي الله عنه قبْل إسلامهِ على ابنته أمِّ حَبيبةَ رضي الله عنها حين نقَضت قريشٌ صُلح الحديبية، هَمَّ بالجلوس على فِراش النبيِّ ﷺ، فشدَّت أمُّ حبيبةَ رضي الله عنها الفِراش من تحته، وقالت: أنت مُشرِكٌ نجسٌ، وهذا فِراشُ النبيِّ ﷺ، فلم أحِبَّ أن تجلسَ عليه [15].
(6) إذا كان على المرأة ألَّا تُدخِل أحدًا إلى بيت زوجها إلا بإذنِه، فلا يجوزُ للزوجِ أن يَستغِلَّ ذلك الحقَّ في منعها مِن زيارة أهلِها أو مَجيئهم إليها.
(6) إذا عَصَت المرأةُ زوجَها جاز له أن يَضرِبها، لكنَّه ضربُ تأديبٍ لا عِقاب؛ فلا يَضربها ضربًا مُوجِعًا، وإنما يَضرِبها بسواكٍ ونحوه، فليس الغرَضُ إيذاءَ المرأة ولا إهانتَها؛ وإنما إشعارُها بأنها مخطئة في حقِّ زوجها، وأن لزَوجِها الحقَّ في إصلاحها وتقويمِها.
(6) إذا لم تَرتدِعِ المرأةُ بعد ضَرْب الزوج لها، فلا يَتمادى في الضَّرب، وإنما يبعثُ إلى أهلها مَن يَنصحها ويُرشِدها إلى طاعته.
(6) للزوجةِ على زوجها أن يُنفِق عليها ويَكفِيها احتياجاتِها من المأكل والسُّكنى والملبَس، على قدرِ استطاعته، فلا تُكَلِّفه ما لا يَقدِر عليه.
(6) إذا امتنَع الزوجُ عن الإنفاق على امرأتِه، أو بَخِل في الإنفاق عليها مع استطاعته، جازَ لها أن تأخُذَ من مالِه ما يَكفيها سِرًّا؛ لقول النبيِّ ﷺ لهندٍ رضي الله عنها حين اشتكَت بُخلَ أبي سُفيانَ رضي الله عنه:
«خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»
[16].
(7) مَن أراد الرَّشادَ والهدايةَ والصلاحَ فلْيَلزَمْ كتابَ اللهِ تعالى؛ فهو مُرشِد الحائرينَ والضياءُ للسائرينَ.
(7) كما أنَّ القرآنَ يَهدي النَّاس إلى الحقِّ والرَّشاد، فإنَّه كذلك يَرفعُ أصحابَه في الدُّنيا والآخرة، فمَن أراد الرِّفعةَ فعليه بمُدارسَتِه والعملِ به،
وقد قال ﷺ:
«إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
[17].
(8) التفريطُ في تبليغ الدِّين جُرْمٌ عظيمٌ، ولهذا سُرَّ النبيُّ ﷺ بشَهادةِ أصحابه له بالبلاغ، وأشْهدَ اللهَ تعالى على ذلك. وقد تحمَّلتْ أُمَّتُنا تلك المَهَمَّة،
فقال تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
[آل عمران: 110].
فالحذرَ مِن التفريطِ في أدائها.
المراجع
1. رواه مسلم (2564).
2. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
3. رواه النسائي (3984).
4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).
5. انظر: "معالم السنن" للخطابي (3/ 59).
6. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
7. رواه مسلم (1598).
8. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي (1/ 248).
9. رواه البخاريُّ (3331)، ومسلم (1468).
10. رواه الترمذيُّ (3895)، ابن ماجه (1977).
11. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
12. رواه ابن ماجه (2619).
13. رواه النسائي (3984).
14. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 146).
15. انظر: "السيرة النبوية وأخبار الخلفاء" لابن حبان (1/ 322)، " سبل الهدى والرشاد" للصالحي (5/ 206).
16. رواه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
17. رواه مسلم (817).
فقهٌ
1. المسلمُ الحقُّ هو الذي كفَّ شرَّه عن النَّاس، فسَلِم المسلمون مِن أذاه القولي والفعلي، وقد توعَّد سبحانه مَن آذى المؤمنين بقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}
[الأحزاب: 57، 58].
وليس معنى الحديثِ انتفاءَ الإسلام عمَّن يؤذِي المسلمين، بل المرادُ كمالُ الإسلام؛ فمَن لم يَسلَم المسلِمون مِن لسانه ويدِه، فإنه يَنتفي عنه كمالُ الإسلام الواجبِ، فإن سلامةَ المسلمين مِن لِسان العبدِ ويده واجبةٌ، فإنَّ أذى المسلم حرامٌ باللسان وباليد، فأذى اليدِ: الفعل، وأذى اللسانِ: القولُ" [1].
وليس الأذى محصورًا في اليد واللسان، بل يَحصل بجميعِ الأعضاء، وإنما الغالبُ في ذلك أفعالُ اللسان واليد؛ فاللسان يَغتابُ ويسُبُّ ويَشهد زُورًا ويَقذف، واليد تَبطِش وتسرِق وتَقتل ونحو ذلك.
وإنَّما بدأ ﷺ باللسان لأنَّه أشدُّ نكايةً، والإيذاءُ به أسهلُ وأكثر، ويطُولُ الأمواتَ والأحياءَ، ولهذا لمَّا قال معاذٌ رضي الله عنه:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ قَالَ ﷺ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»
[2].
2. والهجرةُ الحقيقية ليست مجرَّدَ الانتقال من بلدِ الشِّركِ إلى بلدِ الإيمان، بل أن يَهجُر العبدُ كذلك جميعَ ما نهى اللهُ تعالى عنه، فهِجرةُ بلدِ الكفرِ مع البقاءِ على المعاصي ليست بهجرةٍ كاملة؛ فأصلُ الهجرةِ: هجرانُ الشرِّ ومُباعدتُه لطلَبِ الخيرِ ومحبَّته، فهي عامَّةٌ في هجرانِ المعاصي والذنوب، ويَدخل فيها هجرانُ بلاد الشِّركِ إلى بلاد الإسلام [3].
اتباعٌ
(1) احرِص على الاتِّسام بصفاتِ الإسلام كاملةً حتى تَستوفي أجرَ المسلمين حقًّا، فإياكَ وظلمَ النَّاسِ بالقول أو الفعل.
(1) إياك وظُلمَ النَّاسِ باللسان واليد؛ فإنه سببٌ في الإفلاس الحقيقي وضياعِ أجرِ ما تعِبتَ فيه من القُرُبات؛
قال ﷺ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
[4].
فإياك وذلك الخُسران.
(1) الأخلاقُ ميزانٌ بين المؤمنين، والدين كلُّه خُلُقٌ، فمَن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدِّين [5].
(1) قال الشاعر:
فلا تَعْجَلْ على أَحَدٍ بظُلْمٍ = فَإِنَّ الظُّلْمَ مَرْتَعُه وَخِيمُ
ولا تَفْحُشْ وَإِنْ مُلِّئْتَ غَيْظًا = على أَحَدٍ فإنَّ الفُحْشَ لُومُ
5. (2) إذا كان السابقونَ من المؤمنين قد حازوا فضْل الهجرة مِن أوطانهم إلى المدينة، فإنَّ ذلك الفضلَ حاصلٌ لِمَن هجَر المعاصي والذنوبَ ممَّن بعدهم.
6. (2) إياك والاتِّكالَ على ما تقرَّبت به إلى الله تعالى من الطاعاتِ والقُرَب، فتعتمِد عليها وتترُك العبادة ظانًّا النجاةَ؛ فالهجرةُ -وهي من أفضل الأعمال- لا تنفعُ أصحابَها إنْ قصَّرُوا في حقِّ الله تعالى.
7. على الداعية والمُرَبِّي أن يحرِص على توجيه النَّاس إلى مكارمِ الأخلاق التي تُوَثِّقُ الأُلفةَ بين المسلمين.
المراجع
1. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 37، 38).
2. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616).
3. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).
4. رواه مسلم (2581).
5. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
فقهٌ
1. سأل رجلٌ النبيَّ ﷺ عن أَوْلَى النَّاس بحسن صحبته والإحسان إليه والقيام بحقِّه، ونحو ذلك من صلته والإنفاق عليه وتلبية احتياجاته.
2. فأجابه النبيُّ ﷺ أنَّ أُمَّك أولى الناس بذلك وأحقهم بحسن صحبتك، فقال له الرجل: ثُمَّ مَن بعد أمي؟ فأجابه ﷺ بنفس الإجابة توكيدًا وإنزالًا للأُمِّ منزِلتها اللائقة بها، ثم أعاد الرجل السؤال مرةً ثالثةً، ويجيبه ﷺ بذات الجواب.
وإِنَّما كرَّر النبيُّ ﷺ ذكر الأمِّ ثلاثًا إيفاءً لحقِّها؛ فإنها تحملت العناءَ فيه حملًا، ثم أصابتها به مشقة الوضع، ثم عانت في إرضاعه وتربيته، فلهذا كانت لها الأَثَرَةُ على أبيه وجميع النَّاس، فاستوجب بكلِّ حقٍّ من تلك الحقوق أن يكون لها ضِعْفُ ما للأبِ من الحقِّ [1].
3. ثم سأله الرجلُ مجددًا عن أولى النَّاس وأحقِّهم بعد الأُمِّ، فأجابه بأنَّه الأب، وذكر الأبَ بعد الأمِّ إيفاءً لحقِّه، ومكافأةً لتربيته وإنفاقه، وإن لم يكن في درجة الأُمِّ،
وقد قال ﷺ:
«الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوِ احْفَظْهُ»
[2].
وهذا الترتيب إنما فائدته تكمن عند ازدحام الحقوق بحيث لا يستطيع إيفاءهما جميع حقوقهما، فيُقَدِّم حقَّ الأُمِّ [3].
4. ثم يأتي سائر الأقارب بعد الوالدَين، يُقدَّم عند التزاحم الأقربُ فالأقرب، كما في الميراث؛ فإنه سبحانه ورَّث الأدنى فالأدنى. وهذا أيضًا عند تزاحم الحقوق وعدم القدرة على استيعاب جميع الأقارب وذوي الأرحام والأصدقاء ونحوهم، وإلا فيتعين القيامُ بجميع أولئك [4].
وقد أفاد الحديث تنزيلَ النَّاس منازلهم، وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه على قدر قرابته ورَحِمِه.
اتباع
(1) تقديم أصحاب الحقوق وتأخيرهم ليس بحسب الهوى والميل، وإنما بالنَّص وقول اللهِ تعالى وسُنَّةِ رسوله ﷺ.
(1) لا تُقَدِّم رجلًا أو تؤخرها إلا بعد بيان حكم الشَّرع فيما أنت مُقْدِمٌ عليه فافعل. فهذا صحابيٌّ جاء يسأله ﷺ عمَّن يُوليِه إحسانَه ومحبته من النَّاس، وإن كان معلومًا بالفطرة أن الوالدين والأقربين أولى بالمعروف.
(2) إياك وعقوق الأمِّ وترك الإحسانِ إليها؛ فإنها أجدر النَّاس برحمتك وعطفك وكرمك.
(2) يستحبُّ للداعية والمُعَلِّم والمُرَبِّي أن يُكرِّر الإجابة على نفس السؤال لمزيدٍ من التأكيد والاهتمام.
(2) قيل للحسن -رحمه الله-: "ما بر الوالدين؟ قال: تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك ما لم تكن معصية" [5].
(2) جرى بين أبي الأسود الدؤلي رحمه الله وبين امرأته كلامٌ، وأراد أَخْذَ ولدِه منها، فسار إلى زياد بن أبيه والي البصرة، فقالت المرأة له: أصلح الله الأمير، كان بطني وعاءه، وحجري فناءه، وثديي سقاءه، أَكْلَؤُه إذا نام، وأحفظه إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام، حتى إذا استوفى فصاله، وكملت خصاله، وأمَّلْتُ نفعه، ورجوتُ دفعه، أراد أن يأخذه مني كرهًا! قال أبو الأسود: أصلحك الله، هذا ابني حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أَوَدِه. فقالت المرأة: صدق أصلحك الله، حمله خفًّا وحملته ثقلًا، ووضعه شهوة ووضعته كُرهًا. فقال له زياد: ارْدُدْ على المرأة ولدها، فهي أحق به منك، ودعني من سجعك [6].
(2) ليس في مَن أَوْلَتْهُ أمُّه رعايتها واهتمامها ثم أراد أن يُنكر فضلها ويجحد حقَّها خيرٌ، ولا يُرجى من ورائه نفعٌ.
(2)
عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:
أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ»
[7].
(3) بر الأب مقدمٌ على الزوجة والأبناء وسائر النَّاس. فإياك وهضمَ حقِّ أبيك.
(3) إذا كان في وُسعك أن تفي بحقِّ أبيك وأمِّك معًا وجب عليك ذلك، وإنما يُقَدَّم حقُّ الأمِّ عند استحالة الجمع بين الحقوق.
(2، 3) لا ينقطع البرُّ والإحسان إلى الوالدين بموتهما؛
فعن أبي أُسَيْدٍ رضي الله عنه قال:
بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ: الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا»
[8].
(4) سائر القرابات من الأبناء والزوجات والإخوة والأخوات ونحوهما إنما تكون في مرتبةٍ نازلةٍ عن مرتبة الوالدَين، فلا يُسَوَّى بينهم في الرعاية والإحسان.
(4) إذا تزاحمت الحقوقُ وضعفت احتمالية الوفاء بحقوق جميع الأهل والأقارب، فابدأ بأقربِّ النَّاس رَحِمًا منك، حسب ترتيب المواريث، فبعد الوالدَين يُقدَّم الأبناءُ والزوجات والإخوة والأخوات وهكذا.
قال الشاعر:
الْعَيْشُ ماضٍ فأَكْرِمْ والدَيْكَ بهِ = والأُمُّ أَوْلى بإِكرامٍ وإِحسانِ
وحسبُها الحَمْلُ والإِرضاعُ تُدْمِنُهُ = أمرانِ بالفضلِ نَالَا كُلَّ إِنسانِ
المراجع
1. انظر: " إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5)، "شرح النووي على مسلم" (16/ 102).
2. رواه أحمد (28061)، وابن ماجه (3663)، والترمذيُّ (1900).
3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (6/ 508).
4. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 450)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (6/ 509).
5. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (28/ 241).
6. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (28/ 240).
7. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.
8. رواه أحمد (16156)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (35)، وأبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، والحاكم (4/154)، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1482).
فقهٌ
أَكْثَرَ جبريلُ عليه السلام من النزولِ على النبيِّ ﷺ مُوصِيًا إياه بالإحسانِ إلى الجار، وحِفظِ حقوقِه، ودفعِ الضرر عنه، ومشاركتِه الأفراحَ، ومُواساتِه في الأحزان، وتَعاهدِه إياه بالهدايا والصَّدقاتِ، والتَّلَطُّفِ معه بالقول والفعل، وغير ذلك من سُبُلِ إكرام الجارِّ، حتى ظنَّ النبيُّ ﷺ أنَّ الوحي سيَنزِل بأنَّ الجارَ يَرِثُ مِن جارِه فَرْضًا أو تعصيبًا كما يَرِثه أقاربُه.
وقد جاءت آياتُ القرآنِ مُوصِيةً بالجارِ؛
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا}
[النساء: 36].
وأخبَر ﷺ أنَّ الإحسانَ إلى الجارِ من أمارات الإيمان،
فقال ﷺ:
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ»
[1]،
وأقْسَم ﷺ ثلاثًا على أنَّ الذي يُؤذِي جارَه ليس بمؤمِن؛
قال ﷺ:
«وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ»، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
[2]،
بل لا يدخلُ الجنَّةَ بمقتضى قولِ النبيِّ ﷺ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
[3].
والجارُ أنواعٌ؛ فجارٌ مسلمٌ قريبٌ: له حقُّ الجوارِ وحقُّ الأُخُوَّةِ في الإسلامِ وحقُّ القرابة، وجارٌ مسلمٌ ليس بقريبٍ: فله حقُّ الجوارِ وحقُّ الأخُوَّة في الإسلام، وجارٌ كافرٌ: له حقُّ الجوار فحسبُ [4].
اتباعٌ
الإكثارُ من الحديث في مَوضوعٍ ما، يُورِثُ المستمعَ أهميته ويدفعه إلى القيام بالمطلوب منه، ولهذا كان ﷺ يُكَرِّرُ كلامَه ثلاثًا. فعلى الداعية والمُرَبِّي والخطيب والفقيه أنْ يَحرِص على أهمِّ قضايا الأمة ويُكثِر من الحديث عنها في لقاءاته ودُروسه.
الجارُ له حقٌّ عظيمٌ ذكَره القرآنُ الكريمُ والسُّنَّةُ النبويَّةُ المطهَّرة، فعلى المسلمِ أن يقومَ بذلك الحقِّ ولا يَغفُل عنه.
إيذاءُ الجارِ دليلٌ على نقصِ الإيمان، وإكرامُه مِن الإيمان. فانظُرْ في نفسِك وإيمانِك أهو زائدٌ أم ناقصٌ؟
باع أبو الجَهمِ العَدَويُّ دارَه بمائة ألفِ درهمٍ، فلمَّا جاء المشتري ليأخُذَها، قال أبو الجَهمِ: هذا ثمن الدَّار، فبِكَم تَشترون جِوارَ سعيدِ بن العاص؟ قال: هل يُشترى جِوارٌ قطُّ؟! قال: رُدُّوا عليَّ داري وخُذوا مالكم، ما أَدَعُ جِوارَ رجُل إنْ قعدتُ سأل عنِّي، وإنْ رآني رَحَّب بي، وإن غِبتُ حفِظني، وإنْ شَهدتُ قَرَّبَنِي، وإنْ سألتُه قَضى حاجتي، وإنْ لم أسأله بَدَأني، وإنِ نابتني جائحةٌ فَرَّج عنِّي. فبلغ ذلك سعيدًا فبعَث إليه مائة ألفِ درهمٍ، وقال: هذا ثمنُ دارِك، والدارُ لك [5].
مِن حقِّ الجارِ على جاره أن يَحتمِل بعضُ أذاه، ولا يكون سريعَ الشِّكايةِ منه، قال الحسنُ البصري: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى" [6].
قال الشاعر:
ونُكْرِمُ جارَنا ما دامَ فينا = ونُتبِعُهُ الكَرامَةَ حَيْثُ مَالا
لعَمرُكَ مَا يبيتُ الجَارُ فِينا = عَلى وَجَلٍ يُحاذِرُ أنْ يُغالا
7. وقال آخر:
يَلُومُونَني أَنْ بِعْتُ بِالرُّخْصِ مَنْزِلي = وَمَا أَبْصَرُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغِّصُ
فَقُلْتُ لَهُمْ كُفُّوا المَلامَ فَإِنَّمَا = بجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
المراجع
1. رواه البخاريُّ (6018)، ومسلم: (47).
2. رواه البخاري (6016).
3. رواه مسلم (46).
4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 228)، "التعيين في شرح الأربعين" لسليمان بن عبد القويِّ (1/ 136) بتصرُّف.
5. "ربيع الأبرار" للزمخشري (1/393).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
فقهٌ
ألَّفَ الإسلامُ بين قلوبِ المؤمنين، فأصبحوا إخوانًا مُتحابِّين، يَفرحُ بعضُهم لفرحِ أخيه، ويَتألَّمُ لِألَمِه، كما قال ﷺ:
«تَرَى المُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى»
[1].
وأخبَر النبي ﷺ أنَّ إيمان العبدِ لا يَكْمُلُ حتَّى يُحِبَّ لأخيه من الطاعاتِ والخيرِ ما يُحبُّه لنفسِه، فإذا وجَد بابَ خيرٍ دلَّ إخوانَه عليه، وإنْ كانت لأخيه عليه مَظلمةٌ بادَر إلى إنصافِه من نفسِه وإعطائه حقَّه.
وليس معنى الحديث أن يُزيل الإنسانُ من نفسِه طَبْعَ حُبِّه الخيرَ لنفسه؛ فإنَّ ذلك لا يَقدِر عليه أحدٌ، وإنَّما المقصود أن يَتمنَّى لأخيهِ الخيرَ من غيرِ أن يؤذيَه ذلك، وذلك سَهلٌ على القلب السليمِ [2].
ولا يعني هذا ألَّا يَتنافَس المسلمُ في بُلوغ المنازل العالية؛ فإنَّ أبا بكرٍ وعُمرَ رضي الله عنهما كانا يتنافسانِ على أبوابِ الخيرِ، ولم يكُن ذلك نقصًا في إيمانهما؛ فالمطلوب تمنِّي حصولِ الخير في الجملة، وانتفاءُ الشَّرِّ في الجُملة، أمَّا الارتقاءُ إلى الفضائل العالية والمناقبِ السامية، فلا حرَجَ على الإنسانِ أن يُؤْثِر نفسَه على غيره فيها [3].
وقد اهتمَّ العلماءُ بهذا الحديثِ جدًّا، حتى قالوا: إنَّ الدِّينَ كلَّه مبنيٌّ على أربعةِ أحاديث، هذا أحدها. فهو بهذا رُبع الإسلام [4].
اتباعٌ
حُبُّ الخيرِ للمسلمين خصلةٌ تَصِل بصاحبها إلى أعلى درجات الكمال الأخلاقي؛ حيث يَرتقي بنفسه عن الحسد والحقد والغِل والضَّغينة والكِبْر. نسألُ اللهَ أن يَرزُقنا إياها.
المطلوبُ من المسلم أن يُحبَّ الخيرَ لأخيه، فإذا أحبَّ لنفسه خصلةً من دِينٍ أو غِنًى أو نحوهما أحبَّ أن يكون لصاحبِه مثلُها، ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «إنِّي لَأمُرُّ بالآيةِ مِن القرآنِ فأفهمُها؛ فأودُّ أنَّ الناسَ كلَّهم فَهِموا منها ما أفْهَمُ» [5].
يَجدُر بكل مسلمٍ أن يُفتِّش في نفسه عن تلك الصِّفة؛ وهي حُبُّ الخير لإخوانه المسلمين، فإنَّ فاقدَها ناقصُ الإيمان.
المؤمنُ يضعُ نفسَه موضعَ أخيه المسلم؛ فإنْ سَرَّه شيءٌ تمنَّاه لأخيه، وإن كَرِه شيئًا لم يَرْضَه له. قال الأحنَفُ بنُ قَيس رحمه الله، قال: كنتُ إذا كرِهتُ شيئًا من غيري، لم أفعلْ بأحدٍ مثلَه [6].
أثنى اللهُ تعالى على الأنصار في كتابه الكريمِ حين آثَروا إخوانَهم المهاجرِين على أنفسِهم، فقسَّموا أموالَهم بينهم، حتى إنَّ سعدَ بن الرَّبيعِ رضي الله عنه عرَض على أخيه عبدِ الرحمن بن عَوف رضي الله عنه أن يُشاطرَه مالَه، وأن يُطَلِّق إحدى امرأتيه من أجْل أن يتَزوجها بعد انقضاءِ عِدتها [7]. ولم يكُنْ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أقلَّ إيثارًا من أخيه سعد بن الربيع رضي الله عنه؛ فإنَّه لم يَقبَل منه أن يَنزِل عن نِصف مالِه أو يطلِّق امرأته من أجْله، على ما حلَّ به من الفقر؛ حيث ترك مالَه ودارَه وكلَّ شيءٍ لله، إلا أنَّه شكَر أخاه سعدًا وانصرف إلى السوق ليَكسِب قُوتَه بجهده.
على الدَّاعية والمُرَبِّي أن يحرِص على تهذيبِ العلاقات الاجتماعية بين المسلمين وتَقويتِها.
لا يَتعارضُ حبُّ الخير للناس مع منافستِهم في منازلِ الدنيا والآخرة؛ فحبُّ الخير لهم والسرورُ بتَوفيقهم كافٍ.
الطالبُ المؤمنُ يتمنَّى لجميع إخوانه النجاحَ والتوفيقَ، ولا حرَج أن يحرِص مع ذلك أن يكون الأوَّل في دُفعتِه، وكذلك التاجرُ يتمنَّى الخير لجميع التُّجَّار، وأن يَرزقهم اللهُ تعالى الرزقَ الطيِّب، ولا يَمنعه ذلك أن يتمنى الثراءَ والغِنَى، وهكذا الطبيب والمهندِسُ والعامل وغيرهم.
قال الشاعر:
أخوكَ الذي يَحْميكَ في الغَيبِ جاهدًا = ويَستُرُ ما تَأتي مِن السُّوء والقُبْحِ
ويَنشُرُ ما يُرضيكَ في الناسِ مُعلِنًا = ويُغضي وَلا يَأْلو مِن البِرِّ والنُّصحِ
المراجع
1. رواه البخاري (6011)، ومسلم (2586).
2. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 17). والدَّغِل: الفاسد. انظر: "لسان العرب" لابن منْظور (11/ 244).
3. "كشف المشكل من حديث الصحيحينِ" (3/ 232).
4. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
5. رواه الطبرانيُّ (10621).
6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
7. متفق عليه، رواه البخاري (2049)، ومسلم (1427).
فقهٌ
اهتمَّ الإسلامُ ببناءِ مجتمعٍ مُتماسكِ البُنيان، تَسُوده المحبَّةُ والأُلفةُ والتعاونُ، وتَحكمُه قاعدة:
«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
[1].
ولهذا يَضربُ النبيُّ ﷺ المَثَل الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمِنون فيما بينهم من التماسُك والتكافُلِ؛ حيث صوَّرهم ﷺ في عَطفِهم وشَفَقتِهم على بعضهم، ومودَّتهم وتقرُّبهم من بعضهم؛ بالجسدِ الواحدِ الذي ما إنْ يَشكو عضوٌ منه حتى تَدعو سائرُ الأعضاءِ بعضُها البعضَ للأنينِ والتَّعبِ من أجْل ذلك العضو، فيُصيبُ الجسدَ كلَّه السَّهرُ والحُمَّى من أجْل ذلك العضوِ. وهكذا ينبغي أن يكونَ المسلمُ في إحساسِه بأخيه وشَفقتِه عليه؛ فيَأْلَم لألَمِه ويَفرَح لفرحِه، ويُفَرِّج عنه كُرَبَه ما استطاع إلى ذلك سبيلًا،
وقد قال ﷺ:
«إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
[2].
وأوجَب ﷺ على المؤمنِ أن يَهتمَّ بأمرٍ المؤمنين، خاصةً الجيرانَ الذين هم أَلْصَقُ النَّاسِ بالرجلِ،
قال ﷺ:
«ليْسَ المؤمنُ بالذي يَشبَعُ وجارُه جائِعٌ إلى جَنبَيْهِ»
[3]،
وندَبَ ﷺ المؤمنين إلى مُعاونةِ إخوانهم والسعيِ في قضاء حوائجهم،
قال ﷺ:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
[4].
اتباعٌ
ضربُ الأمثال واستخدامُ الصورِ البيانيةِ مِن أبلغ الأساليب في إيضاح المعنى، فعلى الداعيةِ والخطيب والمُرَبِّي أن يُكثِر مِن استخدام الأمثلة وتقريب المعاني.
مِن دلائل اكتمالِ الإيمان أن يكون المسلمُ مُهتمًّا بأمورِ المسلمين، يَفرَح لفرحِهم ويَحزنُ لمُصابِهم.
السَّعيُ في قضاءِ حوائجِ النَّاس والتخفيفِ عنهم من أفضل العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى ربِّه،
وقد قال ﷺ:
« أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ، وأَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعًا، ولأَنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجةٍ أَحَبُّ إليَّ من أن اعتكِفَ في هذا المسجدِ - يعني مسجدَ المدينةِ - شهرًا، ومن كظَم غيظَه ولو شاء أن يُمضِيَه أمضاه ملأ اللهُ قلبَه يومَ القيامةِ رِضًا، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يَقضِيَها له ثبَّتَ اللهُ قدمَيه يومَ تزولُ الأقدامُ»
[5].
مِن صُوَر التعاطُف والتكافلِ فيما بين المسلمين أنَّ النبيَّ ﷺ لمَّا استُشهد جعفرُ بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
«اصْنعُوا لآلِ جَعفَرٍ طعامًا؛ فقد أتاهم ما يَشْغَلُهم، أو أمْرٌ يَشْغَلُهم»
[6].
مِن توادِّ المؤمنين أن يَزُور المسلمُ المريضَ، ويعاوِن المحتاجَ، ويَصْل الأرحامَ، ويُكرِم الضَّيفَ، ويُشَيِّع الجنائز، ولا يُظهِر الفَرَحَ أمامَ الحزينِ.
قال الشاعر:
كُونوا جميعًا يا بَنيَّ إذا اعترَى = خَطْبٌ ولا تتفرَّقوا آحادَا
تأبى القِداحُ إذا اجتمعْنَ تَكَسُّرًا = وإذا افتَرَقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا
المراجع
1. رواه البخاريُّ (13)، ومسلم (45).
2. رواه البخاريُّ (481)، ومسلم (2585).
3. رواه أبو يعلى في مسنده (2699).
4. رواه مسلم (2699).
5. رواه الطبراني في المعجم الأوسط (6026).
6. رواه أبو داود (3132)، والترمذي (998)، وابن ماجه (1610).
فقهٌ
رحمةُ اللهِ تعالى واسعةً لا مُنتهَى لها؛
قال سبحانه:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
[الأعراف: 156]،
وجزءٌ من مائةِ جزءٍ من رحمته سبحانه يَتراحمُ به الخَلْقُ فيما بينهم؛ حتى إنَّ الفَرَس لتَرفعُ حافرَها عن ولدها؛ خشيةَ أن تُصيبَه [1].
وقد أرسَل اللهُ تعالى أنبياءَه ورُسُلَه رحمةً بعبادِه؛ فهَداهم إلى الحقِّ، وأنعَم عليهم بالإيمان، ورزَقهم الهِدايةَ والتوفيقَ، وأسْكَنهم دارَ كَرامتِه في الآخرة
قال سبحانه:
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
[الأنبياء: 107].
ولهذا قَصَر رحمتَه على عبادِه الرُّحَماء، فمَن لم يَقتدِ به سبحانَه في رحمته بالخلق، فهو المحرومُ مِن رحمته تعالى،
قال ﷺ:
«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»
[2].
وسببُ ذلك أنَّ المؤمن رحيمٌ بخَلْقِ اللهِ تعالى، يَرِقُّ قلبُه للضعيف، ويَأسى لحُزن المَكْلوم، ويألَمُ للمُبتلى، ويَحِنُّ على الضُّعفاء والمساكين،
قال سبحانه:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}
[البلد: 17]،
وأخبر ﷺ أنَّه:
«لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»
[3].
وليس المقصودُ بالرحمةِ أن يَرحَم المسلمُ ذَوِيه وأهله دون غيرِهم؛ بل أن تَشمَل رحمتُه جميع الخلْقِ،
قال رَسولُ اللهِ ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: «لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»
[4].
وقد كان ﷺ أرحمَ النَّاسِ؛
قال فيه ربُّه سبحانه:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}
[آل عمران: 159]،
وقد امتلأ ﷺ رحمةً وعطفًا، فمِن ذلك قوله ﷺ:
«إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»
[5].
ولم تَقتصِرْ رحمتُه على النَّاس فحسبُ، بل تعدَّت إلى الحيوانات والطيور؛
فعنْ عبد الله بن مَسعود قال:
كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».
اتباعٌ
الرَّحمةُ بالخلق من علامات السعادة؛ فإنَّ الشَّقِيَّ مَن حُرِم الرَّحمة، فالحذرَ الحذرَ من طبع أهل الشَّقاء.
الرَّحمةُ من صِفات الله تعالى التي يُحبُّ أن يَقتدي عبادُه به فيها؛ فيحبُّ أن يرى عبْدَه رحيمًا لطيفًا رؤوفًا بالخلْق، كالمغفرة والصَّفح والعفو والجُود.
النبيُّ ﷺ هو الأسوةُ الحَسَنةُ، وقد كان ﷺ رحيمًا بالكبار والصِّغار، قَبَّلَ ﷺ الحَسَنَ بنَ عَلِيٍّ رضي الله عنهما وعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ رضي الله عنه جالِسًا، فقالَ الأَقْرَعُ:
إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ، مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لَا يَرْحَمُ لا يُرْحَمُ»
[6].
لا أحد مُستغنٍ عن رحمةِ اللهِ تعالى، فكلُّ واحدٍ منا عنده عيوبٌ وذنوب وخَطايا، ولولا رحمتُه سبحانه لَهَلَك الخلقُ جميعًا. فمَن أراد أن يرحمه اللهُ تعالى، فلْيَرحَم خلْقَه، فهذه بَغْيٌّ مِن بَغايا بني إسرائيل رأت كلبًا يَلهَث يأكُلُ التُّراب من العطَش، فسَقَتْه فغفرَ اللهُ سبحانه لها برَحمتها للحيوانٍ [7].
الجزاءُ من جِنس العمل، فمَن رَحِم رُحِم، ومَن عَذَّب عُذِّب، ومَن يَسَّرَ يَسَّر اللهُ سبحانه له.
عدمُ رحمةِ الخلق سببٌ في دخول النار والعياذُ بالله؛
فعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: كُنْتُ أَضْرِبُ غُلَامًا لِي، فَسَمِعْتُ مِنْ خَلْفِي صَوْتًا: «اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ، لَلَّهُ أَقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَيْهِ»، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا هُوَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَقَالَ: «أَمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ»، أَوْ «لَمَسَّتْكَ النَّارُ»
[8].
قال الشاعر:
إنْ كُنتَ لا تَرحَمُ المسكينَ إنْ عَدِما = ولا الفقيرَ إذا يَشْكو لكَ العَدما
فكَيْفَ تَرْجُو منَ الرَّحمنِ رَحْمتَه = وإنَّما يَرحَمُ الرحمنُ مَن رَحِما
8. وقال غيره:
إنْ كنتَ ترجو مِن الرَّحمنِ رحمتَه = فارْحَمْ ضِعافَ الورَى يا صاحِ مُحترِمَا
واقْصِدْ بذلك وَجْهَ اللهِ خالِقِنا = سُبحانَه مِن إلهٍ قدْ برى النَّسَما
واطلبْ جَزا ذاك مِن مَولاكَ رَحْمتَه = فإنَّما يَرْحَمُ الرحمنُ مَن رحِمَ
المراجع
1. رواه البخاريُّ (6000)، ومسلم (2752).
2. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
3. رواه أحمد (9700)، وأبو داود (4942)، والترمذيُّ (1923).
4. رواه أبو يعلى (4258).
5. رواه البخاري (707).
6. رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318).
7. رواه البخاريُّ (3467)، ومسلم (2245).
8. رواه مسلم (1659).
فقهٌ
يجوزُ للإنسان أن يتصرَّف في جزءٍ مِن ترِكتِه والوصيةُ بجُزءٍ منها، بشرطِ ألا يتعدَّى الثُّلُثَ، وألَّا تكون تلك الوصيةُ لوارثٍ؛
لقوله ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ زِيَادَةً لَكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ»
[1]،
وقوله ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَعْطَى لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»
[2].
فربَّما أراد الرجلُ أن يُوصي بشيءٍ مِن ماله لِذَوي القُربى ممن لا يَرِثونه، أو أراد الصدقةَ من ماله.
ولذلك يَندُب النبيُّ ﷺ كلَّ مَن أراد أن يُوصي بشيءٍ من ماله أن يبادِر بكتابة وَصيتِه، فلا تمرُّ عليه ليلةٌ أو ليلتانِ إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده؛ فإنه لا يَدري ربما يأتيه الموتُ فجأةً فيَحُول بينه وبين ما أراد. وقد خصَّ السَّلَفُ ذلك النَّدب إلى المسارعة بالمريض ومَن شارَف على الموت، وإنما لم يَأتِ ذلك التخصيصُ في الحديثِ لاطِّراد العادةِ بذلك [3].
على أنَّ حكم الوصيةِ في الأصل مختلَفٌ باختلاف المُوصَى به؛ فقد تكون واجبةً، وذلك حين يكون على المُوصِي دَينٌ لا يَعلمه الورثة، لا سِيَّما إذا لم يكن للدائن بيِّنةٌ عليه؛ فإنه لو لم يُوصِ بذلك لَضاع حقُّ الدَّائن. وقد تكون محرَّمةً إذا كانت وصيةً بشيءٍ حرام؛ كالوصية بالمعصية، وكالوصيةِ للوارث. وقد تكونُ مَندوبةً إذا كانت على جِهات الخير والإنفاق في سبيل الله تعالى أو لذوي القُربى من غير الوارثين.
اتباعٌ
على المسلِم أن يتذكَّر الموتَ دائمًا، وأن يَجعله نُصْب عينه، فيَعمَل لهذا الوقت ولا يَنشغِل عنه بملذَّات الدنيا وشَهواتها. قال الحسن رحمه الله: المَوْتُ معقودٌ في نَوَاصِيكم، والدنيا تُطوى من ورائكم [4].
استأثَر اللهُ سبحانه بتقسيم المواريث بنفسه، فلا يجوز لمسلمٍ أن يُنازعَ ربَّه فيها، أو يظنُّ أنَّ قِسمتَه خيرٌ من قسمةِ أحكمِ الحاكمِين.
تفضَّل اللهُ سبحانه على عِباده بثُلث أموالهم يتصرَّفون فيها بالوصايا كيْف شاؤوا، فالكَيِّسُ مَن استغلَّ ذلك الفضلَ في مَرضاةِ الله تعالى وطاعتِه، وصَرَف ذلك القدْر َفي سبيلِه.
يَنبغي للمسلم أن يبادِر بكتابة وَصيتِه – إن كان له شيءٌ يحِب أن يوصِي به – قبل أن تُنسِيه الدنيا أو يُقعِدَه المرضُ أو يَفجَأَه الموتُ. وقد بادَر إلى ذلك الصحابةُ رضوانُ الله عليهم، فابنُ عُمر رضي الله عنهما راوي الحديث يقول:
«مَا مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا وَعِنْدِي وَصِيَّتِي»
[5].
ليس معنى جوازِ التصدُّق والوصيةِ بالثُّلث أنَّه لا يجوزُ غيرُه، أو أنَّ أفضلَ الوصيةِ الوصيةُ بالثُّلث، بل إنَّ الأفضلَ للمسلِم أن يَترُك ورثته أغنياءَ لا يحتاجون شيئًا من النَّاس،
ولهذا قال النبي ﷺ لسَعدِ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه حين أراد الوصية بنصف ماله:
«فَالثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ؛ إِنَّكَ أَنْ تَدَعَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ فِي أَيْدِيهِمْ»
[6].
ولهذا كان ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما يقول: لو أنَّ النَّاس عَدَلوا من الثُّلث إلى الرُّبع، وأوصى أبو بَكرٍ الصدِّيقُ رضي الله عنه بخُمس ماله، وقال: أرْضى لنفسي ما رَضِيه اللهُ تعالى لنفسِه؛ يُريد قوله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
[الأنفال: 41].
يَنبغي لطلبةِ العلمِ ومَن يكتبون للناس وَصاياهم أن يُبَيِّنوا لهم أنَّ الأمرَ مُتفاوتٌ؛ فإذا كان الوَرَثةُ فقراء محتاجِين إلى المال فالأفضل عدمُ الوصية، وإن كانوا مُوسِرين استُحِبَّ له الوصيةُ بالثلث أو أقلَّ، بحسَب حالة الورثة.
قال الشاعر:
نَسِيرُ إِلَى الْآجَالِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ = وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ
وَلَمْ أَرَ مِثْلَ الْمَوْتِ حَقًّا كَأَنَّهُ = إِذَا مَا تَخَطَّتْهُ الْأَمَانِيُّ بَاطِلُ
وَمَا أَقْبَحَ التَّفْرِيطَ فِي زَمَنِ الصِّبَا = فَكَيْفَ بِهِ وَالشَّيْبُ لِلرَّأْسِ شَامِلُ؟!
تَرَحَّلْ مِنَ الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التُّقَى = فَعُمْرُكَ أَيَّامٌ وَهُنَّ قَلَائِلُ
8. وقال غيره:
أَمْوالُنا لِذَوِي المِيراثِ نَجمَعُها = ودَارُنا لخَرَابِ البُومِ نَبنِيها
لا دارَ لِلمَرْءِ بعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُها = إلَّا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَبْنِيها
فمَنْ بَنَاهَا بخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ = ومَنْ بَنَاهَا بِشَرٍّ خَابَ بَانِيها
المراجع
1. رواه ابن ماجه برقم: (2709).
2. رواه أبو داود (2870)، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713).
3. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 360).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382).
5. رواه مسلم (1627).
6. رواه البخاري (2742)، ومسلم (1628).
فقه:
1- نهى النبيُّ ﷺ أن يطلب الرجلُ ولايةَ أمرٍ من أمور المسلمين - كأن يكون أميرًا أو وزيرًا أو نحو ذلك -؛ لأنها مسؤولية عظيمةٌ وأمانةٌ كبيرةٌ في رقبة صاحبها، وقد قال ﷺ لأبي ذرٍّ حين سأله الإمارة:
«يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»[1].
2- ثم أخبر ﷺ أنَّ الرجلَ إن طلب الإمارةَ لنفسه فأُوتيها، تُرِكت إليه ولم يُعِنه اللهُ سبحانه على مشاقِّها، فلا يُوَفَّقُ غالبًا في مَقْصِدِه، ولهذا
قال ﷺ: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ»[2].
ويُستثنى من ذلك الأنبياء؛ فهم معصومون من الذنوب، ولا يطمعون في رئاسة أو منصب، ولهذا قال يوسف عليه السلام:
{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}
[يوسف: 55].
3- أما إن أتته الإمارةُ من غير طلبٍ منه، واستعان بالله تعالى ثم اجتهد في القيام بمسئولياتها، فإن اللهُ تعالى يعينه على نوائبِها، ويجعل التوفيقَ حليفَه.
4- ثم أخبر ﷺ أنَّه لا يصحُّ للمسلم أن يجعل يمينَه عائقًا له عن فعل الخير؛ فإن حلف على شيءٍ ثم رأى خيرًا مما حَلَفَ عليه، فليُكَفِّر عن يمينه، وليفعل الذي رآه خيرًا.
فإن كان حلف على معصيةٍ من المعاصي كقطع الرحم أو هجر الزوجة أو شكوى المَدينِ أو نحو ذلك، فإنه ينبغي عليه أن يُكفِّر عن يمينه ويصل رحمه وزوجتَه ويُمهل غريمَه؛ فإنَّ ذلك كله خيرٌ مما حلف عليه.
اتباع
1- (1) إياك أن تطلب إمارةً أو ولاية، واسأل اللهَ السلامةَ والخير؛ فقد تُعطاها ولا تقدر على مهامها.
2- (1) لا ينبغي لحريصٍ على الآخرة أن تكون المناصبُ همَّه؛ قال تعالى:
{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}
[القصص: 83].
3- (1) احذر عاقبةَ الولايات؛ فقد
قال ﷺ: «لَيُوشِكَنَّ رَجُلٌ يَتَمَنَّى أَنَّهُ خَرَّ مِنْ عِنْدِ الثُّرَيَّا، وَأَنَّهُ لَمْ يَلِ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئًا»[3].
4- (1)
قال ﷺ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَلِي أَمْرَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلَّا أَتَى اللَّهَ مَغْلُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ، فَكَّهُ بِرُّهُ، أَوْ أَوْبَقَهُ إِثْمُهُ، أَوَّلُهَا مَلاَمَةٌ، وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ، وَآخِرُهَا خِزْيٌ يَوْمَ الْقِيَامَة»[4].
5- (1) كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي إِبِلِهِ، فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ رضي الله عنهما، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ»[5].
6- (2) ليتَّقِ اللهَ أناسٌ طلبوا الإمارة وسعَوا إلى تولِّي أمور المسلمين؛ لِيَصِلوا بذلك إلى شهوات خسيسة، وأغراضٍ مِن أعراض الدنيا الزائلةِ البخيسة؛ فوكَلَهم اللهُ إلى أنفسهم، فضاعوا وأضاعوا، وخسروا الدنيا والآخرة.
7- (2) ينبغي على وُلاة الأمور ألَّا يستعملوا من طلب أمرًا من الرئاسة والولاية؛ فإنَّ عاقبةَ ذلك الخذلان، وقد قال ﷺ: «إِنَّا وَاللهِ لَا نُوَلِّي عَلَى هَذَا الْعَمَلِ أَحَدًا سَأَلَهُ، وَلَا أَحَدًا حَرَصَ عَلَيْهِ»[6].
8- (3) إذا أتتك المناصبُ طواعيةً من غير طلبٍ منك، فإن رأيتَ في نفسِك قوةً وأمانةً يُؤهلانك إلى قضاء حوائج النَّاس فلك أن تقبل ذلك محتسبًا، والله يعينك.
9- (3) على وليِّ الأمر أن يُحسن اختيار نُوَّابِه وعُمَّاله؛ فإنه مسؤولٌ عن أفعالهم.
10- (4) اليمين اللغو لا يؤاخذ به، فلا تشغل نفسك بما يسبق على لسانك من الأيمان من غير قصدٍ.
11- (4) إذا حلفت يمينًا على شيءٍ من الطاعات أو المعاصي أو المباحات، ثمَّ رأيتَ أنَّه يمنعك عن خيرٍ مما حلفت عليه؛ كأن تحلف على عدم الكلام اليومَ، ثم رأيت احتياج النَّاسِ إلى فتواك ووعظك، فكَفِّر عن يمينك وقدِّم الأهمَّ على المهم.
12- (4) الأصلُ في الأيمان أن يُوَفِّي الحالِف بما حلف، فلا يُحَنِّث نفسه إلا أن يكون السببُ مندوبًا إليه؛ فلو حلف لا يلبس هذا الثوب، فحِفْظُ اليمينِ أولى من التكفير عنه وإخلافه، قال سبحانه:
{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}
[المائدة: 89].
Refrance
- رواه مسلم (1825).
- رواه مسلم (1733).
- رواه أحمد (10940).
- رواه أحمد (22656).
- رواه مسلم (2965).
- رواه مسلم (1733).
فقه:
1- يَأمرُ النبيُّ ﷺ أُمَّته بوجوبِ السَّمعِ والطَّاعةِ لأُولي الأمر من الملوك والرؤساء ونُوَّابِهم؛ فإنَّ بهم استقرارَ الحياةِ التي ييسر اللهُ بها نشْرَ الدِّينِ وتطبيقَ أحكامِه، ولو اعتاد الناسُ عصيانَ الأنظمةِ لَصارت الأمور فَوضى، ولتَفكَّكت جماعةُ المسلمين، وسهُلَ على عدوِّهم القضاءُ عليهم.
2- وسواء كان ذلك فيما تهواه النفوس من الأحكام أو الأشخاص؛ أو فيما تكرهه، فالواجب الصبر؛ قال ﷺ:
«مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[1].
3- لكنَّ تلك الطَّاعةَ ليست مطلَقةً؛ بل مُقَيَّدةً بما ليس مَعصيةً، فإنْ أَمَر بمعصيةٍ فلا سمْعَ ولا طاعةَ، قال ﷺ: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»[2]، ولهذا قال سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}
[النساء: 59]
فلم يَقُل: وأطيعوا أُولي الأمر منكم، وإنما جعلها تابعةً لطاعةِ اللهِ تعالى وطاعةِ رسوله ﷺ.
فإذا أمَر وليُّ الأمر بما فيه مَعصيةٌ لله تعالى، فلا تجوز طاعته في هذه المعصية فقطْ، لا في مُطلَق أمرِه ونهيِه، ولا يجوز الخروجُ عليه لأجْل ذلك؛ بل يُشرَع للمسلم مُراجعتُه ومناصَحتُه بالحِكمة والموعظة الحَسنة بحسب ما تيسر من طبيعة كل عصر وحال.
اتباع:
1- المسلم العاقل ينظر إلى أوامر الشرع قبل أن ينظر لهوى نفسه ومصلحتها الخاصة.
2- جاءت طاعة ولاة الأمر بضوابطها في الآيات والأحاديث، لأن فيها مصلحة الدين والدنيا، ولو فكّر الإنسان في نظام بيته ، ونظام عمله، ومجتمعه؛ لرآها لا يستقيم أمرها إلا بوجود ولاةٍ للأمور.
3- ينبغي على المسلمِ إذا رأى ما يُنكِر مِن ولاة الأمر شيئًا أن يُبادِر إلى أهلِ العلم، فيَسألهم ويَستنصِحهم، فربَّما ظنَّ الطاعةَ معصيةً، والمعصيةَ طاعةً، وربما لم يحسن التعامل معها.
4- إذا تحقَّق المسلمُ مِن أنَّ وليَّ الأمر يأمرُ بمعصيةٍ لم يَجُزْ له طاعتُه فيما أمَر، بل إن تيسر له النُّصحُ للأميرِ بلا فتنة نصحَه، وإلا لم يعمل بما فيه معصية.
5- لا تجوزُ طاعةُ أحدٍ في معصيةِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ بايَع النَّاس على طاعته في المعروف، وهو ﷺ لا يأمرُ بمعصيةٍ ولا يَرضاها، فكيف بغيرِه من النَّاس؟
6- إذا أمَر الأميرُ بمعصيةٍ لم يكُن ذلك حاملًا على تركِ طاعته مطلقًا، بل نُطيعُه في غيرِ ذلك الأمرِ.
المراجع
- رواه البخاري (7143).
- رواه البخاريُّ (7145)، مسلم (1840).
فقه:
1- يُخبِر عبادةُ بن الصامت عن مُبايعةِ النبيِّ ﷺ لنُقَبَاءِ الأوس والخَزْرَج من الأنصار ليلة العقبة الثانية بِمِنًى، حيث خرَج إليه ﷺ اثنا عشَرَ نَقيبًا ينُوبون عمَّن آمَن من أهل يَثرِب، فيَذكُر عبادةُ أنَّه بايَع النبيَّ ﷺ في جماعةٍ، فبايعهم على التوحيد ونبْذِ الشِّرك، وعلى ألَّا يَسرقوا أو يَزنوا، أو يَقتلوا أولادَهم، أو يَختلِقوا الشائعاتِ والأكاذيبَ، وعلى الطاعة لرَسول الله ﷺ.
وبدأ ﷺ بالتوحيدِ ونبذِ الشركِ لأنه أصل الإيمانِ والإسلام، فأولُ أركان الإسلام "لا إله إلا الله" كلمة التوحيد، والشرك أكبرُ الكبائرِ وأعظم الذُّنوب؛ قال ابن مسعود : سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»[1]، وأخبر سبحانه أنَّ جميعَ المعاصي داخلةٌ في المشيئة إلا الشِّركَ، قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
[النساء: 48].
ثُمَّ نَهاهم عن السرقة والزنا لأن الإسلامَ يَحمي أعراضَ النَّاسِ وأموالَهم، فلو استحلَّ النَّاسُ الزِّنا والسَّرِقة، لَبغى بعضهم على بعضٍ، وأكَل القويُّ حقَّ الضعيفِ، واختلَطَت الأنسابُ، وانتشَر أولادُ الزنا؛ ولهذا نفى النبيُّ ﷺ الإيمانَ عن السَّارقِ والزاني، فقال: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[2].
وقد كان العربُ يَقتلون أولادَهم لفقرِهم الحاصل، أو خَوفًا مِن حُدوثه بسببِهم، فنهاهم اللهُ عن ذلك، فقال:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}
[الأنعام: 151]
وهذا في شأن الفقيرِ الذي يَقتل ولدَه لفَقرِه، وقال عز وجل:
{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}
[الإسراء: 31]
وهذا للرجلِ يَقتل ولدَه خشيةَ أن يُصِيبه الفقرُ. ومنهم مَن كان يَدفِن بِنته حيَّةً خوفَ العارِ، فقال جلَّ وعلا:
{وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}
[التكوير: 8، 9].
ونَهاهم ﷺ عن افتراء الكذب ورميِ الناس بالباطل، فيَشملُ ذلك شَهادةَ الزُّورِ وقذْفَ المؤمنين والمؤمنات، واغتيابَهم بما ليس فيهم، ومنه قوله ﷺ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ»، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ»[3].
2- ثم أخبَرهم ﷺ أنَّ مَن ثبَت منهم على ما بايَع عليه فله الأجرُ من اللهِ تعالى، وهو رضوانُه جلَّ وعلا ودخولُ الجنَّة، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}
[الفتح: 10]
ومَن أصاب شيئًا ممَّا نهى اللهُ عنه من الحُدُودِ، فأُخِذَ به في الدنيا وأُقيم عليه الحدُّ فيه، فهو تَطهيرٌ لنفسِه من الذنْب ومُسقِطٌ عنه العقوبة في الآخرة؛ فمَن أُقيم عليه حدُّ الزنا أو السَّرقة أو شرب الخمر أو القذف ونحو ذلك في الدُّنيا، لم يُعاقَب عليه في الآخرة. ومَن ستَره اللهُ عزَّ وجلَّ فلم يُؤاخَذ بذنْبه ذلك في الدُّنيا، فأمرُه إلى الله تعالى؛ إن شاء عذَّبه بذنْبِه ذاك ثم أدخله الجنة، وإن شاء غفَر له.
اتباع:
1- (1) التوحيدُ أعظمُ الطاعاتِ التي يتقرَّب بها العبدُ إلى الله، ولهذا كان «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»[4]، والشركُ أكبرُ الكبائرِ، وهو الظُّلْمُ العظيمُ الذي لا يَغفِره الله سبحانه. فعلى كلِّ مسلم أن يُصحِّح توحيده لله تعالى، ويُهَذِّبه مِن دقائق الشِّرك.
2- (1) بدأ النبيُّ ﷺ بالأهمِّ فالمُهم، فابتدَأ البيعةَ بالتوحيد ونبْذِ الشِّرك، ثم ثنَّى بالزنا والسرقة والقتل ونحوها. فعلى الدَّاعية والعالم والمُرَبِّي أن يَحرِص على أهمِّ الأمورِ، فيُقدِّمها على غيرها.
3- (1) المؤمنُ لا يَسرقُ أبدًا، ولا يَتطلَّع إلى ما ليس عنده، بل يَعلم أنَّ اللهَ تعالى قسَّم الأرزاقَ بحكمتِه، وأنَّ رِزقَه مكتوبٌ في اللَّوح المحفوظ قبْل أن يخلُق اللهُ تعالى السماوات والأرض.
4- (1) المؤمن يَعلمُ أنَّ اللهَ تعالى سيُحاسِبه على ماله؛ مِن أين اكتسَبه وفِيمَ أنفقه؟ ولهذا فهو أبعدُ النَّاسِ عن أخذ مالِ النَّاس بغير وجه حقٍّ.
5- (1) المؤمنُ يَتجنَّب الزِّنا؛ فهو يَعلمُ أنَّ اللهَ تعالى حرَّم الزِّنا، وشدَّد في تحريمه حتى جعَله من الكبائر، فعن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ، قال:
سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ، قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «وَأَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ تَخَافُ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ»[5]
وتصديقُ ذلك من كتابِ اللهِ جلَّ وعلا:
{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}
[الفرقان: 68، 69].
6- (1) قتلُ النفسِ جريمةٌ عظيمةٌ عند الله تعالى، توعَّد سبحانه القاتلَ بأشدِّ العقوبات، قال سبحانه:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
[النساء: 93]
فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يَستبيحَ دماءَ النَّاس بغير وجهِ حقٍّ، كما أنَّه لا يُعقَل أن يُقدِم عاقلٌ على القتل وقد عَلِم هذا العقاب الأليمَ الذي يَنتظِره في الآخرة.
7- (1) الإيمانُ باللهِ تعالى والرضا بقَضائه أصلُ السعادةِ والرَّاحة في الدنيا؛ فالعبدُ إذا عَلِم أنَّ رزقَه بيَدِ الله تعالى، لا يُؤثِّرُ عليه كثرةُ النَّسل أو قِلتُه، ولاطْمَأنَّ وارتاح قلبُه، ولم يَنزعِج بكثرة أولاده، فضلًا عن أن يَقتُلهم خَوف الفقر.
8- (1) إذا كان القتلُ كبيرةً من الكبائر، فقتلُ الأولادِ أعظم جُرمًا؛ إذ فيها قطيعةُ الأرحام والشَّحناء بين الأهل، وخَراب البيوت، فضلًا عن سُوء الظنِّ باللهِ عزَّ وجل.
9- (1) إثارةُ الشائعاتِ واختلاقُها ونشرُها من غيرِ تأكُّدٍ منها يخالِفُ الدِّينَ القويمَ، ولهذا نهانا اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك فقال:
{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
[النور: 16، 17]
وتوعَّد مُثِيري الفتنِ بقوله جلَّ جلالُه:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}
[النور: 19].
10- (1) قيَّد النبيُّ ﷺ وجوبَ طاعته في المعروف، مع أنَّه ﷺ لا يَأمر إلا بالمعروف؛ ليكون ذلك أصلًا في جميع الطاعات؛ فلا يجوزُ أن تُطِيع أحدًا أيًّا كان – والدًا أو وليَّ أمرٍ أو نحوهما – إلا في المعروف، فلا طاعةَ لمخلوقٍ في مَعصية الخالِق.
11- (2) إقامة الحدِّ كفَّارةٌ لصاحبه، فلا يجوز لمسلمٍ أن يسُبَّ رجلًا أُقيم عليه الحدُّ، فلمَّا سبَّ خالدٌ رضي الله عنه المرأةَ التي أُقِيم عليها الحدُّ، قال النبيُّ ﷺ له:
«مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»[6].
12- (2) اعلم أنَّ حقوقَ العبادِ لا تَسقُط بمجرَّد التَّوبة، بل حتى تُرَدَّ المظالِمُ إلى أهلها، فاحرِص على التَّحَلُّلِ من ذنوب النَّاس قبل أن يكونَ التراضِي بالحسناتِ والسيئات.
13- (2) يُستحَبُّ للمسلم إذا اقترَف ذنْبًا أن يَستُر نفسَه ويتوبَ إلى اللهِ تعالى ولا يُعَرِّض نفسَه لإقامةِ الحدِّ والتعرُّض للفضيحة؛ فقد جاء ماعزٌ إلى أبي بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنهما، فأخبَره أنه قد زنى، فقال أبو بكر: هل ذكرتَ هذا لأحدٍ غيري؟ قال: لا. قال: فتُبْ إلى الله واستَتِرْ بسَترِ الله؛ فإن الله يَقبل التوبةَ عن عباده، فلم تُقِرَّه نفسُه حتى أتى عمر بن الخطَّاب، فقال له كما قال أبو بكر، فلم تُقِرَّه نفسه حتى أتى رسول الله ﷺ فأقام عليه الحدَّ[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
- رواه مسلم (2589).
- رواه الترمذي (3383)، وابن ماجه (3800).
- رواه البخاري (4477)، ومسلم (86).
- رواه مسلم (1695).
- رواه النسائي في السنن الكبرى (16999)، عن سعيد بن المسيب رحمه الله مرسلًا.
فقهٌ:
1- يتعجب النبيُّ ﷺ لشأن المؤمنِ وحالِه مع اللهِ سبحانه، وهو تعجُّب استحسانٍ وفرحٍ؛ إذ إنَّ المؤمن في جميع أحوالِه غانمٌ مأجورٌ.
2- فإنه إذا أنعم اللهُ عليه بنعمةٍ تسرُّه في نفسه أو مالِه أو أهله، قابَل تلك النعمة بشُكرِ اللهِ تعالى عليها، فكانت عاقبةُ الشكر خيرًا له؛ حيث يزيده اللهُ تعالى بنعمه، ويأجُره على شُكرِه.
3- وإذا ابتلاه بما يضرُّه ويؤذيه، صَبَرَ على البلاء، ورَضِي به، واحتسب الأجرَ والثَّوابَ عند اللهِ تعالى، فألهمه اللهُ الصبرَ والسلوان، وأجزل له العطاءَ مكافأةً لصبره ورضاه.
وهذا الحديث يشمل جميع أقضية اللهِ تعالى لعباده؛ فإنه إما أن يبتليهم بالشرِّ أو بالخير، وقد قال سبحانه:
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
[الأنبياء: 35]
فإذا صبر المؤمن على الشرِّ وشكر على الخير فقد استوفى الإيمان، ولهذا قال السَّلَف: الإيمان نصفان؛ نصفٌ صبرٌ ونصفٌ شكرٌ، كما قال تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}
[إبراهيم: 5][1]
اتباع:
1- (1) المؤمن الحقُّ الراضي بقضاء اللهِ تعالى وقدَرِه، الصابرُ على ما أصابه، الشاكرُ نعمةَ اللهِ تعالى عليه – جميع أمورِه تجري على أفضل مطلوب. فاحرص على بلوغ درجة الراضي الشاكر تعظم منزلتُك وتتضاعف حسناتك.
2- (2) اشكر نعم الله سبحانه عليك التي لا تُعَدُّ ولا تحصى، فكم من نعمةٍ في دينك ودنياك ونفسك وصحتك وتعليمك وتجارتك وعملِك ومالك وأهلك أنت غارقٌ مغبونٌ فيها، لم تؤدِّ حقها من الشُّكْر والاعتراف!
3- (2) الشكر يستوجب الزيادة والبركة. فاشكرْ تُزَد.
4- (3) واجِه البلاءَ بقلبِ مؤمنٍ يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأنَّ قدرَ اللهِ نافذٌ.
5- (3) إياك والجزع من قدر الله، فإنَّ البلاءَ نازلٌ لا محالة، فالصابر مأجورٌ مُعانٌ، والقانط مأزورٌ مُهان.
6- (3) قال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "الصبر اعتراف العبد لله بأنَّ ما أصابه منه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه، وقد يجزع الرجلُ وهو يتجلد لا يُرى منه إلا الصبر"[2].
7- (3) قال ابن رجب-رحمه الله-: "أهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المبتَلِي وخيرته لعبده في البلاء، وأنه غير مُتَّهمٍ في قضائه، وتارة يلاحظون ثواب الرضا بالقضاء، فينسيهم ألم المَقْضِيِّ به، وتارة يلاحظون عظمة المُبْتَلِي وجلالَه وكمالَه، فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى لا يشعرون بالألم، وهذا يصل إليه خواص أهل المعرفة والمحبة، حتى ربما تلذذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم، كما قال بعضهم: أوجدهم في عذابه عذوبة"[3].
8- (3) سئل بعض التابعين عن حاله في مرضه، فقال: "أَحَبُّه إليه أَحَبُّه إِلَيَّ"[4].
9- (2، 3) قال عمر بن الخطاب: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبتُ[5].
10- قال الشاعر:
وَمِنَ الرَّزِيَّةِ أنَّ شُكْري صامتٌ = عمَّا فعلتُ وأنَّ بِرَّكَ ناطقُ
وأرى الصَّنِيعةَ منك ثم أُسِرُّها = إني إذًا لنَدَى الكَرِيمِ لَسَارِقُ
11- وقال غيره:
إذا كان شُكري نعمةَ اللهِ نعمةً = عليَّ له في مِثْلِها يجبُ الشكرُ
فكَيْفَ وقوعُ الشُّكْرِ إلَّا بفضلِه = وإنْ طالتِ الأيامُ واتَّصلَ العمرُ
إذا مسَّ بالسرَّاءِ عمَّ سرورُها = وإن مسَّ بالضرَّاءِ أعقَبَها الأجْرُ
فما منهما إلا لهُ فيه نعمةٌ = تَضِيقُ بها الأوهامُ والسِّرُّ والجهرُ
المراجع
- "جامع المسائل" لابن تيمية - المجموعة الأولى (ص: 165).
- "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم (ص: 97).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 487).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 487).
- "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم (ص: 94).
فقه:
1- يأمرُ النبيُّ ﷺ أُمَّتَه بأن تلتزمَ الصِّدْقَ؛ فإنَّ الصِّدق يهدي صاحبَه إلى البر، وهو اسمٌ جامعٌ لكل خيرٍ، فيقودُه ذلك إلى دخول الجَنَّة. وإنَّ المسلمَ ليصدقُ ويعتاد الصِّدْق ويألفُه في الرَّخاءِ والشِّدةِ حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا.
والصِّدِّيقُ: المُلازمُ للصِّدقِ الذي لا يَكذِب. فإذا أدمنَ العبدُ الصِّدْقَ كتبه اللهُ سبحانه عنده صِدِّيقًا، فيشتهر بين النَّاس بذلك إكرامًا له كما يُوضَعُ له القَبُول بينهم، ويشتهر بذلك في الملأ الأعلى جزاءً لِصِدْقِه، وحَشَرَه جلَّ وعلا في زُمْرَةِ الصِّدِّيقين، وهم أعلى النَّاس منزلةً بعد الأنبياء، قال تعالى:
{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
[النساء: 69]
وقد أَمَر اللهُ تعالى عبادَه بالصِّدق والدُّخولِ في كَنَفِ الصَّادقين، قال جلَّ وعلا:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
[التوبة: 119]
وأخبر ﷺ أنَّ أفضلَ النَّاسِ الصَّادقون؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»[1].
2- وحذَّر ﷺ من الكَذِب؛ فهو رأسُ كلِّ شرٍّ، وهو القائدُ إلى الفساد والمعاصي، وذلك مُفْضٍ إلى أن يُكَبَّ الكاذبُ في النَّار. وأخبر ﷺ أنَّ الرجلَ إذا أَلِفَ الكذبَ واعتادَه كُتب عند الله تعالى كَذَّابًا، فيشتهر بين النَّاس وصفُه بذلك تعييرًا له وتوبيخًا، ويُذَمُّ بذلك بين أهل الملأ الأعلى، ويُحشر يومَ القيامةِ في زُمْرة المنافقين.
وقد أخبر ﷺ أنَّ الكذب من صفات المنافقين وأماراتهم، قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[2].
وقد جعل النبيُّ ﷺ المُعَوَّل في صلاحِ العبدِ وفساده على اللسان؛ فقال ﷺ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[3].
اتباعٌ:
1- (1) الزم الصدق؛ فإنَّه الفاصلُ المميز بين النفاق والإيمان، والحكم العدل بين أهل الجنة وأهل النيران.
2- (1) الصِّدْقُ هو المرتبة العليا في الإسلام، ولهذا أرشد اللهُ تعالى عباده أن يكونوا مع الصَّادقين، وجعل جزاءَ أصحابِ الطاعات أن يُحشروا مع الصِّدِّيقين، وهذا يدلُّ على عظيم منزلتهم وقُربهم من اللهِ تعالى. أفلا يُطَمِّعنا هذا أن نحرص على الصِّدق؟!
3- (1) فضَّلَ اللهُ سبحانَه اللسانَ على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده. فلا يحسن بالمسلم أن يعوِّد لسانه على الكَذِب؛ بل يجب عليه أن يعوده لزوم الصدق، وما يَعُود عليه بالنفع في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا.
4- (1) إذا أردتَ أن يحسن أثرُك في النَّاس، فلا تجعلهم يتهمونك بكذبٍ أو رِيبةٍ، فكن صادقًا يكتبك الله في الصِّديقين ويُوضع لك القبول في الأرض.
5- (1) الصِّدْق في القول يرفع درجات العبدِ في الدُّنيا والآخرة؛ قيل للقمان الحكيم رضي الله عنه: "ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني"[4].
6- (1) الصِّدقُ صفةٌ من صفات الله تعالى، قال جلَّ وعلا:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}
[النساء: 87]
وقال سبحانه:
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}
[النساء: 122]
فهلَّا تشبَّهنا باللهِ عزَّ وجلَّ في صفته!
7- (1) إذا أردتَ صلاح الأعمال فابدأ بإصلاح الكلام، فلا تنطق إلا صدقًا؛ فإن الصِّدق يهدي إلى البرِّ. قال يونسُ بنُ عبيد رحمه الله: "ما رأيت أحدًا لسانُه منه على بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله"[5].
8- (1) إياك أن تظنَّ أنَّ النَّجاةَ في الكَذِب؛ فربما تنطلي حِيَلُك وأباطيلُك على النَّاس، لكنَّها لن تمرَّ على ربِّك. فالزم الصِّدْقَ تنجو. فهذا كعبُ بنُ مالكٍ لمَّا تخلَّف عن غزوةِ تبوك، وجاء المنافقون إلى النبيِّ ﷺ يعتذرون إليه بالأباطيل والأكاذيب، أبى إلا أن يَصْدُق النبيَّ ﷺ القولَ، فكانت عاقبةُ ذلك أن قَبِلَ اللهُ تعالى توبته، وأنزل فيه آياتٍ تُتلى، وختمها بقوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
[التوبة: 119][6]
9- (1) قال الشاعر:
وإذا الأُمُورُ تَزَاوَجَتْ = فالصِّدْقُ أَكْرَمُهَا نِتَاجَا
الصِّدْقُ يَعْقِدُ فَوْقَ رَأْ = سِ حَلِيفِهِ بالصِّدْقِ تاجَا
والصِّدْقُ يَقْدَحُ زَنْدَهُ = في كُلِّ ناحِيَةٍ سِرَاجَا
10- (2) توعَّد اللهُ تعالى الكاذبين بالعقابِ في النَّار والعياذ بالله، قال تعالى:
{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
[الجاثية: 7]
فالحذرَ الحذرَ من عذاب الله تعالى.
11- (2) أشدُّ أنواعِ الكذبِ: الكذبُ على اللهِ تعالى بتحريم ما أحلَّ وتحليل ما حرَّم، افتراءً على اللهِ تعالى وتَقَوُّلًا عليه بغير علمٍ. قال سبحانه:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[النحل: 116، 117]
فإياكَ أن تقول في شرعِ اللهِ سبحانه بغير علمٍ، قل: اللهُ أعلم، ودُلَّ السَّائِلَ على أهلِ العلمِ والفتوى، فذلك خيرٌ من الوقوع في الإفك والافتراءِ على اللهِ جلَّ وعلا.
12- (2) ابتعد عن الكَذِب مطلقًا، فلا تكذب جادًّا ولا هازلًا، فقد قال ﷺ:
«وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ»[7].
13- (2) قال الشاعر:
كَذَبْتَ وَمَنْ يَكْذِبْ فَإِنَّ جَزَاءَهُ = إذَا مَا أتَى بالصِّدْقِ أَنْ لا يُصَدَّقَا
إذا عُرِفَ الكذَّابُ بالكِذْبِ لَمْ يَزَلْ = لَدَى النَّاسِ كذَّابًا وإنْ كَانَ صَادِقَا
ومِنْ آفَةِ الكذَّابِ نِسْيَانُ كِذْبِهِ = وتَلْقَاهُ ذا ذِهْنٍ إذا كَانَ حاذِقَا
المراجع
- رواه ابن ماجه (4216).
- رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
- رواه أحمد (13079).
- رواه أبو نعيم في حلية الأولياء (6/328).
- رواه ابن أبي عاصم في الزهد (112)، وابن أبي الدنيا في الصمت (60).
- رواه البخاري (4418)، ومسلم (2769).
- رواه أبو داود (4990)، والترمذي (2315).
فقهٌ:
يخبر النبيُّ ﷺ أنَّ النَّاسَ توارثوا جيلًا عن جيلٍ من كلام النبوةِ المتقدمةِ مِمَّا لا يتغير ولا يُنسخ قولَهم: «إذا لم تستحي فاصنع ما شئت»، وهو أمرٌ قد عُلم صوابُه، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل"[1].
ومعنى تلك المقولة أنَّ الحياء هو الذي يمنع الإنسانَ عن كثيرٍ من القبائح، فمن لم يكن له حياءٌ لم يزجره شيءٌ عن الفحشاءِ والمنكر.
والحياءُ خُلُقٌ حميدٌ يبعث في صاحبه الانقباضَ عن الشيءِ وتركَه حذرًا من اللوم فيه أو المَذَمَّةِ به، وهو رأسُ الفضائلِ والشِّيم والأخلاق، وهو عِمادُ شُعَب الإيمان، وبه يتمُّ الدين، وهو دليلُ الإيمان، ورائدُ الإنسان إلى الخير والهدى، وهو خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَعه من التقصير في حقِّ ذي الحقِّ.
وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[2]. وهو ما أراده النبيُّ ﷺ بجعله من شُعَب الإيمان؛ حين
قال ﷺ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»[3].
ولهذا أخبر ﷺ أنَّ الحياءَ شُعْبَةٌ من الإيمان[4]، ومَرَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ، وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِي، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«دَعْهُ، فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ»[5].
والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه اللهُ سبحانه للعبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان.
والنوع الثاني: يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[6].
اتباعٌ:
1- الحياءُ خُلُقٌ جميلٌ، يهذب النفوس ويدعوها إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، والبعد عن الفواحش والمعايب. فينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يتعاهد حياءَه ويُنَمِّيه.
2- الحياءُ خُلُقٌ نَبَوِيٌّ؛ فقد كان ﷺ حَيِيًّا،
قال أبو سعيد الخدري:
«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»
[7]،
وقال ﷺ في حقِّ كليم اللهِ موسى ﷺ: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ»[8].
أفلا يجبُ أن نتشبَّه بأنبياءِ اللهِ تعالى؟!
3- مَن أراد دخول الجنة فليحرص على الحياء؛ فإنَّ من أعظم فضائل الحياء أنه يُفضي إلى جنةٍ عَرْضُها السماوات والأرض؛ قال النبيُّ ﷺ: «الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ»[9].
4- الحياءُ زينةُ الأخلاقِ، فمَن تزيَّن به فهو المحمودُ عندَ اللهِ تعالى وعند الناس، ومَن نَزَع حياءَه كان مذمومًا عند اللهِ تعالى وعند النَّاس. قال النبيُّ ﷺ:
«مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَه»[10].
5- الحياءُ خُلُقٌ ربَّانيٌّ، يكفي الحَيِيَّ شرفًا أنَّه مُتَشَبِّهٌ بالحقِّ تبارك وتعالى في صفته؛ قال النبيُّ ﷺ:
«إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا – أَوْ قال: خَائِبَتَيْنِ»[11].
6- قال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ رحمه الله: "خمسٌ من علاماتِ الشَّقاوة: القَسْوَةُ في القلب، وجُمودُ العَيْن، وقِلَّةُ الحياء، والرغبة في الدنيا، وطولُ الأمل"[12].
7- قال الشاعر:
إذا لم تَخْشَ عاقِبَةَ الليالي = وَلَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ ما تَشَاءُ
فَلا واللهِ ما في العَيْشِ خَيْرٌ = ولا الدُّنيا إذا ذَهَبَ الحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ = وَيَبْقَى الْعُودُ ما بَقِيَ اللِّحَاءُ
8- وقال غيره:
إِذَا حُرِمَ الْمَرْءُ الحَيَاءَ فإنَّهُ = بِكُلِّ قَبِيحٍ كَانَ مَنْهُ جَدِيرُ
لَهُ قِحَةٌ في كُلِّ شَيْءٍ، وسِرُّهُ = مُبَاحٌ، وَخِدْنَاهُ خَنًا وغُرُورُ
يَرَى الشَّتْمَ مَدْحًا وَالدَّناءَةَ رِفْعَةً = وَللسَّمْعِ منه في العِظَات نُفُورُ
وَوَجْهُ الحَيَاءِ مُلْبَسٌ جِلْدَ رِقَّةٍ = بَغِيضٌ إليه ما يَشِينُ كَثِيرُ
لَهُ رَغْبَةٌ في أَمْرِه وَتَجرُّدٌ = حَلِيمٌ لَدَى جَهْلِ الجَهُولِ وَقُورُ
فَرَجِّ الفَتَى ما دَامَ يَحْيَا فإنَّه = إلى خَيْرِ حَالاتِ الْمُنِيبِ يَصِيرُ
المراجع
- "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
- رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
- رواه الترمذيُّ (2458).
- رواه البخاريُّ (9)، ومسلم (35).
- رواه البخاري (6118).
- انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
- رواه البخاريُّ (3562)، ومسلم (67).
- رواه البخاري (3404).
- رواه أحمد (10512)، والترمذيُّ (2009)، وابن ماجه (4184).
- رواه الترمذيُّ (1974)، والبخاريُّ في الأدب المفرد (601).
- رواه ابن ماجه (3865).
- رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/182)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/416).
فقه:
1- يخبر النبيُّ ﷺ عن بعضِ خصال الخير، فيذكر منها إكرامَ الجارِ، فالمؤمنُ مطالبٌ بإكرام جارِه وحفظِ حقوقه، فيتعاهده بالبرِّ والخير، ويتفقَّدُ حالَه، ويلاطفه في القول، ويعاونه فيما يحتاج، ولا يؤذيه بقولٍ أو فعلٍ.
ولهذا أوصى اللهُ سبحانَه بالإحسانِ إلى الجار، قال سبحانه:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}
[النساء: 36]
ونزل جبريل مرارًا على النبيِّ ﷺ يُوصيه بجارِه، قال ﷺ:
«مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»[1].
وقد أقسم ﷺ على نقصِ إيمان مَن آذى جارَه، قال ﷺ:
«وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[2].
2- كما ذكر أيضًا إكرامَ الضيفِ، وجعله من علامات الإيمان بالله واليوم الآخر، وقد أخبر ﷺ أنَّ هَدِيَّةَ المُضَيِّف لضيفه وعَطِيَّتَه له أن يُكرمه ويجودَ عليه بأطيب الطعام والفراش في يومِه وليلته، ثم بعد ذلك يُطعمه مِمَّا يأكل من غير تَكَلُّفٍ، وتمام الضيافةِ ثلاثةُ أيام، فإن أحبَّ المُضَيِّفُ أن يُقيم الضيفُ عنده بعدَ ذلك فهو صدقةٌ وتَفَضُّلٌ منه، ولا لَوْمَ عليه إن لم يفعل؛ فقد أدَّى ما عليه بإكرامِه إلى ثلاثة أيام.
وإنَّما جعل ﷺ للضيفِ جائزةً في أولِ يومٍ وليلةٍ لما حصل له من التعب والمشقَّة في سَفَرِه، فيرتاح بذلك، ويأنس إلى مُضَيِّفِه، فتشتدُّ أواصرُ المحبة والتوادِّ بين المسلمين، فإذا حَصَل ذلك لم يَتَكَلَّفِ المُضَيِّفُ بعدُ، وإنَّما يُطعمُه ممَّا يجد.
3- ثم ذكر ﷺ الخصلة الثالثة، وهي أنَّ المؤمن عليه أن ينظر في كلامِه الذي يُريد أن يتكلم به؛ فإن وجده خيرًا أو سبيلًا إلى خيرٍ قالَه، وإن وجده غيرَ ذلك سَكَتَ؛ فإنَّ السكوتَ غنيمةٌ إذا كان الكلامُ فيه معصيةٌ أو مفضيًا إلى معصية، والمرءُ مُحاسَبٌ على كلِّ ما يتلفَّظُ به، قال تعالى:
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}
[ق: 18]
«إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[3].
وهذا الحديثُ من جوامع أبواب الخير، حتى إنَّ أهلَ العلم ذكروا أنَّ الآداب الإسلامية تدور حول أربعة أحاديث؛ هذا الحديث، وحديث: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»، وقوله ﷺ:
«لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»"[4].
اتباع:
1- (1) من علامات استقرارِ الإيمان وزيادته في قلب العبد المؤمن أن يُكرم جارَه ولا يؤذيَه. ففَتِّش عن تلك الأمارةِ في نفسك.
2- (1) إياك أن تؤذيَ جارَك فتُحرم دخول الجنة؛ فقد قال ﷺ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[5].
3- (1) كُلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا كان آكدَ حقًّا، وأولى بالإكرامِ. فينبغي على الجار أن يحفظ حقوقَ جارِه، فلا يتطلع إلى عوراته، بل يتعاهده بالهدايا والدعوة، ويلاطفه بالقول والفعل.
4- (1) ليس حسنُ الجوارِ مقتصرًا على إكرامِ الجارِ فحسب، بل كذلك أن تتحمَّلَ منه الأذى غير المتعمد، قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى"[6].
5- (2) إكرامُ الضيف من الإيمان باللهِ تعالى، والاقتداءُ بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؛ فقد وصف القرآنُ كرمَ خليل الرحمن إبراهيم ﷺ، وكان نبيُّنَا محمد ﷺ كريمًا جوادًا، أجودَ بالخير من الرِّيح المرسلة، ولهذا قال عبدُ الله بن عمرو رضي الله عنهما: من لم يُضِفْ، فليس من محمّد، ولا من إبراهيمَ[7].
6- (2) على المسلم أن يتصف بإكرام الضَّيف، وألَّا يردَّ نازلًا نزل به إن وجد خيرًا، وألَّا يقتصر ذلك منه على مَن يعرِف دون مَن لا يعرف؛ وقد نزل أبو هريرة على قومٍ لا يعرفونه، فأَبَوا أن يُضَيِّفوه، ثم إنَّه أتى بطعامٍ فدعاهم إليه فأَبَوا أن يأكلوا معه، فقال لهم: لا تُنزلون الضَّيف ولا تُجيبون الدّعوة! ما أنتم من الإسلام على شيء. فعَرَفه رجلٌ منهم، فقال له: انزل عافاك اللّه، فقال : هذا شرٌّ وشرٌّ، لا تُنزلون إلَّا من تعرفون؟![8].
7- (3) ينبغي على المسلم أن يتعاهد كلامَه، فلا يُطلق لسانَه فيما حلَّ وحرُم، قال عمر بن الخطاب: "من كَثُر كلامه، كثر سَقْطه، ومن كَثُر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النّار أولى به"[9].
8- (3) قال محمّدُ بنُ عجلانَ رحمه الله: "إنّما الكلام أربعة: أن تَذكُر اللّه، وتقرأ القرآن، وتُسأل عن علم فتُخبر به، أو تَكلَّم فيما يَعنِيك من أمر دنياك" [10].
9- (3) قال رجل لسلمانَ ﷺ: "أوصني، قال: لا تَكَلَّمْ، قال: ما يستطيع من عاش في النّاس أن لا يتكلَّم، قال: فإن تكلَّمتَ، فتكلَّمْ بحقٍّ أو اسكُتْ" [11].
10- (3) كان أبو بكر الصّدّيق يأخذ بلسانه ويقول: "هذا أَوْرَدني الموارد" [12].
11- (3) قال ابن مسعود: "واللّه الّذي لا إله إلّا هو، ما على الأرض أحقُّ بطول سجن من اللّسان" [13].
12- (3) احفظ لسانَك تدخل الجنة؛ قال ﷺ:
«مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ»[14].
المراجع
- رواه البخاريُّ (6015)، ومسلم (2625)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
- رواه البخاري (6016).
- رواه البخاريُّ (6478)، ومسلم (2988).
- ينظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
- رواه مسلم (46).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 356).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 356).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 339).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 340).
- رواه البخاري (6474).
فقهٌ:
1- أمر اللهُ سبحانه بالإحسان في كلِّ أمرٍ من الأمور، قال سبحانه:
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[البقرة: 195]
والإحسانُ: فِعْلُ الحَسَنِ، وذلك شاملٌ لجميع أمورِ الحياة؛ ففي العبادات: أن تعبدَ اللهَ سبحانه كأنك تراه، والإحسانُ إلى نفسك ألَّا تُلْجِئَها إلى النَّار، وألَّا تُحَمِّلْها ما لا تطيق، والإحسانُ إلى النَّاسِ أن تُخالِقَهم بأخلاق الإسلام؛ فلا تظلمُ أحدًا، ولا تهضم النَّاسَ حقوقَهم، وتعاملَهم بالحُسْنى فتقبل من مُحسنِهم وتُكافئه بالإحسان، وتصفح عن مُسِيئهم ولا تجازي السيئةَ بالسيئة.
والإحسانُ المأمورُ به نوعان: واجبٌ، وهو العدلُ والإنصافُ وإيتاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، والقيامُ بما عليك من الواجبات. ومستحبٌّ وهو ما زاد على ذلك من بذلِ النَّفعِ البدنيِّ أو الماديِّ أو العلميِّ للنَّاس، وتوجيههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وكلُّ معروفٍ صدقةٌ.
2- حتَّى إنَّ الإحسانَ ليجب في إزهاقِ الرُّوحِ، فلا يجوز سفكُ دمِ آدميٍّ مسلمًا أو كافرًا بغير وجه حقٍّ، بل إذا وجب قتلُه لَزم الإحسانُ في القتل؛ فلا يُعذَّب حتى الموت، ولا لا يُقتلُ بسُمٍّ أو يُضربُ في غير مقتلٍ ويترك حتى يموت، وإنما يُختار أسهلَ الطرق وأقلَّها إيلامًا عليه.
واستثنى الشرعُ من ذلك الساعي في الأرضِ فسادًا حين يُقام عليه حدَّ الحرابة؛ زجرًا وترهيبًا لغيره عن القيام بما قام به.
واستثنى كذلك القِصاصَ في القتل؛ حيث يُقتل القاتلُ بمثل ما فعل؛ فإنْ قَتَلَ بسقي السُّمِّ أو رميًا بالرصاصِ أو إلقاءً من شاهقٍ أو غير ذلك فُعِل به مثل ما فَعَل بالقاتل، قال سبحانه:
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}
[النحل: 126]
وقَتلَ يهوديٌّ جاريةً بالمدينة بحجرٍ، فأتى به النبيُّ ﷺ فرضخ رأسه بين حَجَرَين[1].
ومن الإحسان في القَتْلِ أيضًا ألَّا يُمَثَّل بجثة القتيل ولا يُنَكِّلَ به أو يتشفَّى منه؛ فإنَّ ذلك من الإسرافِ في القتل الذي نهى اللهُ سبحانه عنه بقوله:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}
[الإسراء: 33]
3- كذلك يجب الإحسانُ في ذَبْحِ الحيوانِ، فلا يجوز ابتداءً ذبحُ حيوانٍ لغير مأكلةٍ، ولا يجوز اتخاذ الحيوان هدفًا يرميه النَّاس تسليةً أو مسابقةً، قال عبدُ اللهِ بن عمر رضي الله عنهما: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا»[2]، ثُمَّ إذا أرادَ ذبح حيوانٍ فإنَّه يُحسن ذبحه، فلا يجرُّه إلى موضع الذبح جرًّا، ولا يذبحه بين الحيوانات، ولا يبدأ بسلخه وتقطيعه قبل أن يبرُد وتخرج روحُه، بل يفعل ما يساعد على إراحةِ الحيوانِ وإخراج روحه بسهولةٍ من غير إيلامٍ، فيُحِدُّ الشفرةَ أو السكين التي يذبحُ بها، ويتخيَّر الهيئة التي تُريحُها، ويقطع الوَدَجين والحلقوم والمريء حتى يُسَهِّل خروجَ الرُّوح، ثم يتركها إلى أن تبرد وتخرج الرُّوح تمامًا.
اتباعٌ:
1- (1) مِن أَجَلِّ أنواع الإحسانِ: الإحسانُ إلى مَن أساء إليك، ذكر اللهُ سبحانه أنها مرتبةٌ عظيمةٌ لا يصل إليها إلا مَن أوتي حظًّا عظيمًا من الإيمان والصبر. قال تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت: 34، 35]
2- (1) الجزاءُ من جنس العمل، فأحسِن يُحسِن اللهُ تعالى إليك،
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
[الرحمن: 60]
3- (1) من أنواعِ الإحسانِ الواجبِ: الإحسانُ إلى الأهل؛ بتقويمهم، والتلطُّف معهم، والقيام على شؤونهم، وتلمُّس حاجاتهم.
4- (1) من الإحسانِ الواجب على المسلم: أداءُ الواجباتِ وتركُ المنهيَّات؛ فيؤدي الواجبات كاملةً لا نقص في أركانها وواجباتها، وينتهي عن المُحَرَّمات وما يؤدي إليها من الوسائل.
5- (2) إذا كان الإنسانُ مأمورًا بالإحسان في قتلِ مَن وجب قتلُه، فلا شكَّ أنَّ حفظَ دماءِ النَّاس وتحريمَها، والسعيَ في حقنِها من أوجب أنواع الإحسان.
6- (2) مِن إحسان القِتْلةِ ألَّا نَسُبَّ المقتول في حدٍّ أو قصاصٍ، وقد قال ﷺ في شأن المرأة التي رُجمت في الزنا حين سبَّها خالدُ بنُ الوليدِ :
«مَهْلًا يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ»[3].
7- (3) مِن إحسانِ الذَّبح أن يتولاه مَن يُحسن القيامَ به، ولا يقوم بذلك كلُّ أحدٍ.
8- (3) إذا هممتَ بالذبحِ فاشكر الله تعالى على ما أَوْلَاك من النِّعمة، حيث سخَّر لك من الأنعام ما لو شاء لسخَّره عليك.
9- (3) احرص على استخدام السكين الحادَّة، وأن تُنَحِّي الذبيحة عن سائر الحيوانات، وأن تتمكن منها بحيث لا تفرُّ منك عند الذَّبح فتتألم، وأن تُسرع في ذبحها ولا تريَها السكينَ قبل الذَّبح، وأن تقطع الوَدَجين والحلقوم والمريء فإنَّ ذلك أدعى إلى سرعة إخراج روحها.
10- قال الشاعر:
أَحْسِنْ إلى النَّاسِ تَسْتَعبِدْ قُلوبَهمُ = فَطَالَمَا اسْتَعْبَدَ الإنسانَ إِحسانُ
مَنْ جَادَ بالْمَالِ مَالَ النَّاسُ قاطبةً = إليه والمالُ للإنسانِ فتَّانُ
أَحْسِنْ إذا كان إمكانٌ ومَقْدِرَةٌ = فَلَنْ يَدُومَ على الإنسانِ إِمْكَانُ
References
- رواه البخاري (5295)، ومسلم (1672).
- رواه مسلم (1958).
- رواه مسلم (1695).
فقه:
يخبر النبي ﷺ بهذا الحديث الذي أوحي إليه من الله تعالى أن:
1- الكبرياء تدل على ترفع صاحبها على كل من سواه، وأن يرى لذاته فضلاً وشرفًا عليهم، وهي لا تكون إلا لله تعالى وحده، لأنه مستحق لها بصفاته، فهي مثل الرداء، والرداء للإنسان ثوبٌ يوضع كتفَيه يستر به أعلى جسده، ، فحقيقته أنه ستر وملكٌ خاصٌ بصاحبه، وحاجبٌ له بينه وبين غيره، فلا ينازع فيه.
2- والعظمة يدل على معاني الكمال في الأسماء والصفات، وهذه لا تكون إلا لله تعالى، لأنه مستحق حقيقة بصفاته، وهي له مثل الإزار، والإزار للإنسان ثوبٌ يشدُّ في وسطه يستر أسفلَ جسده، فحقيقته أنه ستر وملكٌ خاصٌ بصاحبه، وحاجبٌ له بينه وبين غيره فلا ينازع فيه كذلك، فالعظمة صفة انفرد بها سبحانه لنفسه، فلا يحِقُّ لمخلوقٍ أن يشاركه فيها فيعتزَّ ويتعاظم على النَّاس.
والفرقُ بين الكبرياء والعظمة: أن المتكبِّرَ يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبْرَ، قال: «الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[1]، أي احتقارُهُم، أما المعظِّمُ فيلاحِظ كمالَ نفْسه ولو مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ[2]، ولهذا لمَّا كان الكبرياء أعلى من العظمة وأرفع، شبَّهه الله بالرداء، وشبَّه العظمة بالإزار، وهذا أعلى الثوب وذاك أدناه.
3- فمَن أراد أن يشاركه في تلك الصفات بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قذَفه الله في النار، وعذبه فيها؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يتَّصِف بتلك الصفات؛ لأن صفةَ المخلوق هي التواضعُ والتذلُّلُ[3]، وقد نهى اللهُ تعالى عبادَه عن التكبُّر في الأرض والإعجاب بالنفس، فقال جل جلاله:
{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}
[الإسراء: 37]
وأخبر أنَّه جعل النارَ عاقبة المتكبرين الباغين، فقال:
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ}
[الزمر: 60]
اتباع:
1- (1) (2) اعرض الحق بأوضح ما يكون وأجمل ما يكون، فانظر لما في الحديث القدسيِّ من استخدام التشبيهات والتصويرات البلاغية التي توضح المعاني وتقربها؛ فينبغي على الدعاة والوُعَّاظ والعلماء أن يستعملوا مثل تلك الأساليب.
2- (1) هل نراقب أنفسنا لنرى: هل نتكبر على غيرنا؟، وربما لو حاسب الإنسان نفسه لرأى أنه يتعاظم في نفسه ويتكبر على غيره، إما بسبب مال، أو منصب، أو علم، أو قوة، أو درجة اجتماعية، أو غيرها ، فيستصغر غريبًا، أو فقيرًا، أو شعبًا، أو غير ذلك.
3- (1) ليس من الكبرياء والعظمة أن يحرص الإنسانُ على حسنِ مظهره وتجمُّله؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:
«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ»، قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ، الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[4]
فالكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس.
4- (1) ليكن تعظيم الله تعالى في قلوبنا وألسنتنا ومجالسنا، ولنمحُ به كبرياء النفوس، وقد جعل اللهُ تعالى التكبيرَ بقول: (الله أكبر) شعارًا للصَّلوات والأذان والأعياد، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصَّفَا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابّةً ونحو ذلك، وقد جاء أنه يُطفَأ به الحريق وإن عَظُم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان[5].
5- (1) راجع نفسك في أي نقاش علمي أو اجتماعي، فالكبر من أكبر أسباب ردِّ الحق، وهو سببُ هلاك كثير من الأمم السابقة؛ باستكبارهم عن اتباع النبيِّ الذي أرسله اللهُ إليهم، قال تعالى عن قوم نوح:
{وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}
[نوح: 7]
وقال تعالى:
{وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}
[العنكبوت: 39]
وقال سبحانه:
{فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}
[فصلت: 15]
ولهذا قرن اللهُ الحديثَ عن استكبارهم ببيان هلاكهم؛ فعلى المسلمِ أن يجتهد في طرد الكبر والعُجب عن نفسه.
6- (2) تأمل ضعفك عن إدراك مصالحك، وعن القدرة على تحصيلها، وأن عامتها أسباب ليست بيديك، وأنك ترى الرأي اليوم وتستسخفه غدًا، وأنك ترى القدرة على الشيء فتحجزه عنه أتفقه الأسباب، وبه تعلم أنه إنما حرَّم اللهُ التكبُّرَ لأنَّه صفةُ للهِ تعالى؛ فليس لمخلوقٍ صفته النقص والتذلل أن يتكبر أو يتعاظم؛ ولهذا حرَّم الشرع اتِّصافَ الإنسان بهاتين الصفتين، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن ظنَّ كمال نفْسه ونسِيَ مِنَّة الله تعالى فيما خصَّه به، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ}
[الأعراف: 12]
وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:
{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}
[النازعات: 24]
فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[6].
7- (2) بعض صفات الله تعالى يحبُّ الله تعالى أن يتصف ويتحلى به عباده، كالرحمة والمغفرة والكرم ونحو ذلك، لأنها في أصلها كمال، فإذا طلبها الإنسان طلب الكمال، وبعض الصفات اختص الله تعالى بها، ونهى عباده أن يتصفوا بها كالكبرياء والعظمة، لأنها إنما تحسن حين يكون صاحبها كاملاً، فإذا ادعاها غير المستحق لها كان باطلًا.
8- (2) على الإنسان أن يحرص على البُعد عن الكبر والعظمة، وأن يكسر تطلّع نفسه لها كلما نال شيئًا من الدنيا؛ فإنهما من الصفات التي توجِب للعبد النَّار، قال سفيان بن عيينة -رحمه الله-: "مَن كانت معصيتُه في الشهوة فارجُ له التوبة، فإنَّ آدمَ - عليه السلام - عصى مُشْتَهيًا فغُفر له، فإذا كانت معصيتُه في كِبْر، فاخْشَ على صاحبه اللعنةَ؛ فإن إبليسَ عصى مُستكبرًا فلُعِن"[7].
9- (2) عالج كبر نفسك بتحذيرها من نقيض قصدها؛ فلما كان المتكبِّرُ يرى نفْسه كبيرًا، فإن الله يُعاقبه بنَقيض قصده من الذُّلِّ والصَّغار والحَقارة؛ يقول ﷺ:
«يُحشَر المتكبِّرون يوم القيامة أمثال الذَّرِّ في صور الرجال يَغشاهم الذلُّ من كل مكان»[8]
وقد يُعَجِّلُ اللهُ تعالى له العقابَ في الدنيا قبل الآخرة، كما حدَث مع قارون حين خَسَف الله به الأرض، ومع فرعون حين أغرقه سبحانه. وعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال:
«بينما رجُل يتبختَرُ، يمشي في بُردَيْه قد أعجبته نفْسُه، فخسفَ اللهُ به الأرض، فهو يَتجَلْجَلُ فيها إلى يوم القيامة»[9]
10- (2) رأى مُطَرِّفُ بن عبد الله بن الشِّخِّير رحمه الله يزيدَ بن المهلبِ بنِ أبي صفرة يتبخترُ في مشيته لابسًا ثوبًا يجرُّه، فقال مُطَرِّفٌ: يا عبد الله، هذه مشية يبغضها اللهُ ورسولُه. قال يزيدُ: ألا تعرفني؟! قال: أعرفك. أوَّلُك نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت بين ذلك تحمل العَذِرَة. فاعتدل وترك مِشيته[10].
11- قال الشاعر:
كم جاهلٍ متواضعٍ = سَتَرَ التواضُعُ جَهْلَهُ
ومميَّزٍ في عِلْمِه = هَدَم التَّكَبُّرُ فَضْلَهُ
فَدَعِ التكبُّرَ ما حَيِيـ = ـتَ ولا تُصاحِبْ أهلَهُ
فالْكِبْرُ عَيْبٌ للفتى = أَبَدًا يُقبِّحُ فِعْلَهُ
12- وقال غيره:
يا صَاحِ إن الكِبْرَ خُلْقٌ سَيِّئٌ = هَيْهَاتَ يُوجَدُ في سوى الجُهَلاءِ
والعُجْبُ داءٌ لا يُنالُ دَوَاؤه = حتى يُنَالَ الخُلْدُ في الدُّنْيَاءِ
فَاخْفِضْ جَنَاحَكَ للأنامِ تَفُزْ بِهِمْ = إنَّ التواضُعَ شِيمَةُ الحُكَماءِ
لَوْ أُعْجِبَ القَمَرُ الْمُنِيرُ بنَفْسِهِ = لرأيتَهُ يَهْوِي إلى الغَبْرَاءِ
المراجع
- رواه مسلم (91)
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/286).
- انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
- رواه مسلم (91).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 196).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/287).
- "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزِّيِّ (11/ 191).
- رواه الترمذيُّ (2492).
- رواه البخاريُّ (5789)، ومسلم (2088) واللفظ له.
- "وفيات الأعيان" لابن خلكان (6/ 284)، " سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 505).
فقه:
1- جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ يطلب منه وصيةً جامعةً لأنواعِ الخيرِ وأسبابِ الفلاح، حتى يحفظَها ويعملَ بما فيها،
2- فأوصاه النبيُّ ﷺ بألَّا يغضب، فالغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ، والتَّحَرُّزُ منه سبيلُ كلِّ خيرٍ، حتى إنَّ بعضَ العلماءِ فسَّروا حُسْنَ الخلق بترك الغضب؛ فإنَّ الغضبَ يدفعُ المرءَ إلى القتلِ والضَّربِ والسَّبِّ والفُحش في القول، كما يحملُ الإنسانَ على الأيمانِ الغِلاظ، وكثيرًا ما يدفعه إلى تطليق امرأتِه أو هجر ذوي رَحِمِه، بل رُبَّما أدى الغضبُ إلى إيقاعِ العبدِ في الكُفر والشركِ، والعياذُ بالله.
3- فكرَّر الرجلُ السؤالَ ليستزيدَه النبيُّ ﷺ بشيءٍ آخر ينفعه في دنياه وآخرته، فلم يزده على النبيُّ ﷺ على قوله: «لا تغضب».
ونَهْيُ النبيِّ ﷺ عن الغضبِ يُرادُ به تركُ أسبابِه المؤدية إليه من الجدالِ والمِراء بغير حقٍّ، وإتيانُ ما يمنعُهُ من الحِلم والسَّخاءِ وكظمِ الغيظ واحتمالِ النَّاس والطلاقةِ والبِشْر؛ فإذا تحقَّقت في النَّفس تلك الخِصال أوجبتْ دفعَ الغضبِ عند حصولِ أسبابه.
ويُرادُ به أيضًا عدمُ العملِ بمقتضى الغَضبِ إذا حدث؛ فإذا غَضِبَ المسلمُ وبلغَ الضِّيقُ منه مبلغًا وجب عليه أن يكظِم غيظَه، وألَّا يصدر عنه قولٌ أو فعلٌ ناتجٌ عن غضبِه، فيُورِثُه ذلك إثمًا.
وقد امتدح اللهُ تعالى عبادَه الذين يتحكمون في انفعالاتهم، فيكظمون غيظَهم ويغفرون للمسيءِ إليهم، فقال سبحانه:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}
[آل عمران: 133، 134]
وأخبر ﷺ عن عظيم جزاءِ الذين لا يغضبون فقال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»[1].
اتباع:
1- (1) يجدر بكلِّ مسلمٍ أن يطلب النَّصيحة من أهل العلم وأصحاب الخبرات؛ فوصاياهم تجمع للمرء خلاصةَ خبراتهم وعلومهم.
2- (1) اهتمَّ الصحابةُ رضوان الله عليهم بسؤال النبيِّ ﷺ عن كل ما بدر لهم، وأكثروا من طلب النصيحة والموعظة منه، وذلك دليلٌ على صدق اتباعهم وحرصهم على العلم ومعرفة شرع الله تعالى. وحَرِيٌّ بنا أن نقتدي بهم.
3- (2) ينبغي على الداعية والمُرَبِّي أن ينصحَ كلَّ أحدٍ بما يلائم حالَه، فهذا الرجلُ الذي طلب الوصيَّة من النبيِّ ﷺ يبدو أنه كان غضوبًا، ولهذا أوصاه بعدم الغضب، ولم يُوصِ غيرَه به.
4- (2) إياكَ والغضبَ؛ فإنَّه يحجبُ العبدَ عن شرعِ اللهِ تعالى، فيحملُ المسلمَ على الكذب، واتهام الآخرين وسَبِّهم والتطاول عليهم، ورميهم بما ليس فيهم. ولهذا كان من دعائه ﷺ: «أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[2].
5- (2) اعلم أنَّ مجاهدتك نفسَك أقوى من مجاهدة الأعداء؛ فإنَّ النَّفس أمَّارةٌ بالسُّوء، تُحَرِّضُ المرءَ أن يبطش بمَن أساءَ إليه، عدوًّا كان أم حبيبًا، ولهذا قال النبيُّ ﷺ:
«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[3]
فليس الشَّديدُ الذي يصرع النَّاس ويهزمهم، وإنَّما الشديدُ حقًّا الذي يملك نفسَه عند الغضب. ولهذا قال الحسن البصريُّ رحمه الله حين سُئل: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال: "جهادُك نفسَكَ وهَواك"[4].
6- (2) النبيُّ ﷺ هو القدوة الحسنة لنا جميعًا، لم يكن ﷺ يغضب لنفسه، ولا ينتصر لنفسه، إنما كان يغضبُ للهِ تعالى،
قالت أمُ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها:
«وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ بِهَا»
[5].
فالغضبُ مذمومٌ إلا للهِ عزَّ وجلَّ فهو واجبٌ على كلِّ مسلم.
7- (2) وجَّه النبيُّ ﷺ إلى طُرُقِ مقاومةِ الغضبِ وعلاجِه، فمن ذلك الاستعاذةُ باللهِ تعالى من الشيطان الرجيم؛ اسْتَبَّ رجلانِ عند النَّبيِّ ﷺ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»[6]
فإذا رأى المسلمُ في نفسه بوادرَ الغضب فليستعذ بالله عزَّ وجلَّ من الشيطان الرجيم.
8- (2) من طُرُقِ علاج الغضب والتحكم فيه كذلك الجلوسُ إن كان المرءُ واقفًا، والاضطجاعُ إن كان جالسًا؛ فإنَّ الواقفَ مُتَهَيِّئٌ للانتقام، والجالسَ دونَه، والمضطجع أبعدَ منهما من ذلك؛ قال ﷺ:
«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[7]
وقال أيضًا:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[8]
9- (2) من وسائل التحكم في الغضب كذلك أن يسكت الإنسانُ ولا يتكلم؛ فإنه إن تكلَّم تَحَكَّم فيه الغضبُ، فكان هو النَّاطقُ بدلًا منه، ولهذا قال سبحانه:
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
[الأعراف: 154]
وقال ﷺ:
«وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ»[9]
10- (2) إياك وأن تتلفظ في غضبك بما يُضَيِّعُ عليك عمرك، ويصرفك إلى الندم ما بقيت، فكم من غضبةٍ أورثت صاحبها ذُلًّا وندمًا. قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "ما أبكى العلماءَ بكاءٌ آخِرَ العُمر من غضبة يَغضَبها أحدهم، فتَهدِم عمر خمسين سنةً، أو ستّين سنةً، أو سبعين سنةً، وربَّ غضبةٍ قد أَقحَمت صاحبها مُقحَمًا ما استَقالَه"[10]. وقال مورق العجليُّ رحمه الله: "ما قلتُ في الغضب شيئًا إلَّا نَدِمْتُ عليه في الرضا"[11].
11- (3) لم يزد النبيُّ ﷺ في وصيته على ترك الغضب؛ لأنَّه رأس كلِّ قبيحٍ؛ قيل لابنِ المبارك رحمه الله: "اجْمَعْ لنا حُسنَ الخُلق في كلمة، قال: تركُ الغَضَب"[12].
12- قال الشاعر:
وكَظْمِيَ الغيظَ أَوْلى مِن مُحَاولتي = غَيْظَ العَدُوِّ بإضراري بإيماني
لا خَيْرَ في أمرٍ تُـرْدِيني مَغَبَّـتُهُ = يَوْمَ الحسابِ إذا ما نَصَّ مِيزاني
13- وقال غيره:
ولم أرَ فضلًا تمَّ إلا بشِيمةٍ = ولم أرَ عقلًا صحَّ إلَّا على الأدبْ
ولم أرَ في الأعداءِ حين اختبرتُهم = عدوًّا لعقلِ المرءِ أعدَى مِن الغَضَبْ
References
- رواه أحمد (15637)، وأبو داود (4777)، وابن ماجه (4186).
- رواه أحمد (18515).
- رواه البخاريُّ (6114)، ومسلم (2609).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/296).
- رواه البخاري (3560)، ومسلم (2327).
- رواه البخاريُّ (6115)، ومسلم (2610).
- رواه أحمد (11608)، والترمذيُّ (2191)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن.
- رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
- رواه أحمد (2556)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (1320)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 374).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 166).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 361، 364).