فقه:

1. أوجَب النبيُّ ﷺ زكاةَ الفطر على المسلمين، وهي فرضُ عينٍ باتفاق جمهور العلماء [1]، جعلها النبيُّ ﷺ جُبرانًا لصيام رمضان وما وقع فيه من السَّهو والخلل والخطأ، وطُعمةٌ للمساكين؛ لِيَستغنُوا بها عن السؤال يوم العيد، ويشتركوا مع الأغنياء في فرحة العيد، قال ابن عباس رضي الله عنهما:

«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ»

[2].

2. ومِقدارها صاعٌ – وهو: أربعة أمدادٍ بكَفَّي رجلٍ معتدِلٍ - من التمر أو الشَّعير أو الأرز أو غيرها من غالب قُوت النَّاس؛ لقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:

«كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ»

[3]

والأقِطُ: اللَّبن المجفَّف.

وفي هذا الحديث وغيرُه بيان أنَّ الواجبَ المجزِئَ في صدقة الفطر إخراجُ الطعامِ لا القيمة، خلافًا لمن أجاز إخراج القيمة.

3. وهي واجبةٌ على جميع المسلمين؛ الذَّكر والأنثى، والصغير والكبير، وهي واجبةٌ على العبد يُخرجها عنه سيِّده.

وهي واجبةٌ على كلِّ مَن يَملِك ما يَزيد عن قُوته وقُوت أهله ليلةَ العيد ويومَه، فيُخرِجها الرجلُ عمَّن يَعُول من أهله وزوجه وولده وعبيده.

ووقتُ وجوبها غروبُ شمس آخِر يومٍ من رمضان؛ فمَن وُلد له ولدٌ قبل غروب شمس آخِر يوم من رمضان، أو تزوَّج في تلك المدة، فعليه زكاةٌ لمولوده وزوجته، أما بعد غروب الشمس فلا زكاة، كما أنَّ من مات بعد غروب الشمس كان عليه في ماله زكاةٌ، كما لو مات بعد اكتمال الحَوْل على ماله، فإنه يَجِب فيه الزكاة [4].

وقد دلَّ الحديثُ على أنَّ الزكاة لا تَجِب على غير المسلم؛ لأنَّها طُهرةٌ له.

4. وأمر النبيُّ ﷺ أن تُخرَج الزكاة قبل خروج النَّاس لأداء صلاة العيد، ورخَّص لهم في إخراجها قبل العيد بيومٍ أو يومين [5]. فمن أخَّرها عن ذلك الوقت لم تُقبَل منه، وكان مؤاخَذًا بتضييعها عن وقتها، قال ابن عباس رضي الله عنهما:

«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»

[6].

وقد جعَل ﷺ زكاةَ الفطر مقصورةً على الفقراء والمساكين، فلا يجوز صرفُها في سائر مصارف الزكاة؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ».

اتباع:

1. (1) زكاة الفطر شرَعها اللهُ عزَّ وجلَّ جُبرانًا للنقص الحادث في صيام رمضان من اللَّغو والمعاصي؛ فبها يَكمُل الصيام، فيَستحقُّ العبدُ الأجرَ كاملًا به، فمن أراد أن يَكمُل أجرُ صومِه فليُخرِج زكاة فِطره.

2. (1) زكاةُ الفطر شرَعها النبيُّ ﷺ إغناءً للفقير وسدًّا لحاجته يوم العيد؛ حتى تَكمُل فرحة العيد لدى الجميع، فعلى المسلم أن يحرص عليها، طلبًا للأجر، وحتى يُسعِد الفقراء من حوله.

3. (1) زكاةُ الفطر مما شرَعه النبيُّ ﷺ شُكرًا لله تعالى على إتمام الصيام والتوفيق للعبادة في رمضان. فعلى المسلم أن يسارع في شُكر الله تعالى على ما وهَبه من النِّعم ووفَّقه للعبادات التي صَرَف عنها كثيرًا من الناس.

4. (2) زكاة الفطر مقدار يسير لا يُكلِّف المسلمُ كثيرًا، فلا ينبغي أن يَغفُل عنه أحدٌ أو يبخل به.

5. (2) الزكوات والصدقات وإن كانت قليلةً إلا أنَّها تقع في يدي الله تعالى، قال ﷺ:

«ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّب - ولا يَقبَل اللهُ إلا الطيبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله»

متفق عليه [7].

6. (3) زكاة الفطر واجبة على كلِّ مسلم أدرك رمضان وغرَبت عليه شمس العيد، فيجب على كلِّ مسلم أن يُخرجها عن نفسه ومَن يعول.

7. (4) ينبغي ألَّا يؤخِّر المسلمُ صدقته حتى يخرج النَّاسُ إلى صلاة العيد، بل الواجب عليه المبادرة بأدائها قبل أن يشغله عنها شاغلٌ فلا تُجزئ عنه بعد ذلك.

8. قال الشاعر: 

يا مَنْ تَصَدَّقَ مالُ اللهِ تَبْذُلُهُ = في أوجُـهِ الخير ِما لِلمال نُقْصانُ

كَمْ ضاعَفَ اللهُ مالًا جادَ صاحِبُهُ = إنَّ السَّخاءَ بِحُـكْمِ اللهِ رضــوانُ

الشُّـحُّ يُفْضي لِسُقمٍ لا دَواءَ لَهُ = مالُ البَخيل ِغَدا إرْثًا لِمَنْ عانوا

إنَّ التَّصَدُّقَ إسعادٌ لِمَنْ حُـرِموا = أهلُ السَّخاءِ إذا ما احْتَجْتَهُمْ بـانوا



المراجع

1. "المجموع شرح المهذَّب" للنوويِّ (6/ 104).

2. رواه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827).

3. رواه البخاريُّ (1506)، ومسلم (985).

4. انظر: "المغني" لابن قدامة (3/ 89).

5. قال ابن عمر: «وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» رواه البخاري (1511).

6. رواه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827).

7. رواه البخاريُّ (1410)، ومسلم (1014).



فقه

1. يُخبِر النبيُّ ﷺ عن ربِّ العزَّةِ جلَّ جلاله أنَّه قال: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به»، وإضافة الصوم لله سبحانه دون سائر العبادات وإن كانت له أيضًا؛ إضافةُ تشريفٍ وتخصيصٍ، كتَسمية المسجد الحرام بأنه "بيت الله" وقوله تعالى:

{نَاقَةَ اللَّهِ}

[الشمس: 13].

واختصَّ الصومُ بذلك لأنَّه عبادةٌ لا يَدخلها الرياءُ؛ فإنَّ جميع العبادات لا يُمكِن إخفاؤها عن الملائكة والبشر إلا الصومَ، ولأنَّه عبادةٌ فيها المشقَّة للبدن تتضمَّن كَسْر النفس والصبر على الجوع والعطش، ولأنَّ في الصوم اجتماعَ أنواع الصبر جميعًا؛ فهو صبرٌ على الطاعة، وصبرٌ عن المعصية؛ حيث يمنعه الصوم عن اللغو والفسوق والمعاصي، وصبرٌ على قَدَر الله؛ حيث يتحمَّل الجوع والعطش [1].

ولهذا استأثر اللهُ عزَّ وجل بمعرفة جزاء الصوم، فإذا كان سبحانه قد أطْلَع الملائكةَ الكَتَبة بأنَّ أجر الصلاة كذا حسنةً، وأجر الزكاة كذا وكذا حَسَنةً، فإنه قد أخفى عنهم جزاء الصيام؛ ليجازي عبادَه عليه بنفسه جلَّ وعلا.

  1. ثم أخبَر ﷺ أنَّ الصيامَ سِترٌ ووقايةٌ؛ فإنَّه يَحُول بين العبدِ وبين النَّار يوم القيامة؛ قال ﷺ:

    «مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»

    [2].

وهو كذلك وقايةٌ وسِترٌ عن المعاصي؛ فإنَّه يَكسِر النَّفْسَ ويُضعِف القوة ويُطفِئ الشهوة، ولهذا قال ﷺ:

«يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»

[3]،

أي: وقاية.

3. ولمَّا كان الصيام وِقايةً للعبد عن النَّار وما يُقرِّب إليها من المعاصي، أرشد النبيُّ ﷺ أُمَّته إلى ترك ما لا يجوز للصائم من الجِماع ومقدِّماته التي تُفضِي إليه، والصِّياحُ ورفع الصوت والخِصامُ، ونحوها. فإنَّ سابَّه أحدٌ أو تَشاجَر معه فلْيَقُل: «إني امرؤٌ صائمٌ»، يقولها في نفسه ليَمتنِع بذلك عمَّا لا يجوز له، ويَجهَر بها لخَصْمه ليَعلم أنَّه إنما ترَكه وسكت عنه لأنه صائمٌ لله تعالى، وإلا فهو قادرٌ على الفَتْك به، فيَنزجِر خَصْمُه بذلك ولا يظنُّ أنَّ سُكوته ذلٌّ منه وضعفٌ، بل رُبَّما كان الآخرُ صائمًا كذلك، فيتوب ويرجع حين يُذَكِّره بصومه [4].

4. ثُمَّ يُقسِم النبيُّ ﷺ بربِّه جلَّ وعلا -وهو الصَّادِقُ المُصَدَّق- أنَّ الرائحة الناتجة عن تغيُّرِ فَمِ الصائم بسبب صيامه أفضلُ عند الله من رِيح المِسْك؛ فإذا كانت تلك الرائحة الكريهة حادثةً بسبب الصيام لله تعالى، فهي أحَبُّ عنده وأدعى للقُرْب منه من رِيح المِسْك، واللهُ تعالى يجازي عبدَه عليها بأن تَفوح منه يوم القيامة رائحة أطيب وأذْكى من المِسْك، كما يُجازي الشهيد في سبيل الله بأن يكون دمُه برائحة المِسْك، وأنَّ اللهَ تعالى إن كان يُجازي على استعمال المسك حيث نُدِب إليه في الجُمَعِ والجماعاتِ والأعياد ونحوها، فإنَّ عِوَضَ ذلك الخُلُوف والرائحة الكريهة من الثَّواب أعظم من أجر المتطيِّب بالمسك [5].

5. ثُم يُخبِر ﷺ أنَّ للصائم فرحتَين يَفرحهما؛ إذا أفطر فَرِح بفطره؛ لِما يجده من الطعام والشَّراب بعد الجوع والعطش، وهو فرَح طبيعيٌّ جائزٌ، وفرحٌ بأن أتمَّ اللهُ عليه صومَه ووفَّقه إليه وسلَّمه من الفساد.

والفرحة الأخرى إذا لَقِي الله تعالى، فيَرى ما أعدَّه له من النعيم والجزاء الذي أخفاه عن خَلْقه.

اتباع

1. (1) شرَّف اللهُ تعالى الصِّيَام وجعله خاصًّا به، لا يَعلم ثوابَه غيره؛ وذلك لعظيم أجره وفضله، فلْيَغتنِم المسلمُ ذلك ويُكثِر من التطوع بالصيام.

2. (1) كفى بالصيام شرفًا أنْ أضَافَه الله تعالى إليه قائلًا: «فإنه لي»، وكفى بالمؤمن طاعةً أن يَغتنِم هذا الفضلَ والشَّرف بالإكثار من صيام النوافل بعد صيام الفريضة.

3. (2) الصَّومُ وِقايةٌ للإنسان من الشيطان ووساوسه، ولهذا نبَّه ﷺ الشبابَ إليه عند عَجْزهم عن الزواج، فعلى المسلم أن يلجأ إلى الصيام يحتمي به عن الشهوات والفِتَن.

4. (2) الصومُ وقايةٌ للعبد من النَّار التي وَقودها النَّاس والحجارة، وقد أخبر سبحانه أنه: 

{مَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ}

[آل عمران: 185]

فمن أراد الفوز والنجاة من النَّار فعليه بالصوم.

5. (3) نهى النبيُّ ﷺ الصائمَ عن الصَّخَب والجهل والسِّباب ونحوه، وهي أمورٌ لا تجوز للصائمِ وغيره، تأكيدًا على منزلة الصائم، وأنه لا ينبغي أن يَتدنَّى إلى تلك الدرجة من الجَهالة والبَذاءة.

6. (3) يجوز للإنسان أن يُصَرِّح بشيءٍ من عبادته بقصد جَلْب الخير ودفع الشَّر، من غير أن يتعلَّق ذلك بالرياء، ولهذا جاز للصائم إذا سابَّه أحدٌ أو تشاجَر معه أن يَذكر له صيامَه.

7. (4) أكَّد النبيُّ ﷺ كلامَه بالقَسَمِ وهو الصَّادقُ المصدوق، زيادةً في توكيد الكلام. فربما يَحسُن بالداعية والمعلم والمُرَبِّي أن يلجأ إلى ذلك أحيانًا من غير أن يُكثِر منه.

8. (4) إذا تأذَّى الصائمُ بما يَجِد من كراهية رائحة فمِه، فلْيَطمِئن بأنَّ تلك الرائحة طيِّبةٌ عند الله سبحانه مأجورٌ عليها.

9. (4) لا يُفهَم من الحديث كراهية استعمال السواك للصائم؛ فإنَّ تلك الرائحة تخرج من الجَوف لا من الفمِ، كما أنَّه ليس في الحديث الأمرُ بترك تلك الرائحة على حالها، وإنما مواساةُ الصائمِ لِما يجده منها.

10. (5) أفاد الحديثُ أنَّ الفرح بانتهاء الصيام واستطاعة الإنسان الأكلَ والشُّربَ ليس مكروهًا أو محرَّمًا، بل هو فرَحٌ مباحٌ فطَره اللهُ تعالى على حُبِّ الطعامِ والشَّراب.

11. (5) إذا كان الفرحُ بالطعام والشراب للصائم مباحًا، فالفرحُ بأنْ أتمَّ اللهُ على العبدِ صومَه ووفَّقَه إليه شُكرٌ لله تعالى على نِعمه، وهي عبادةٌ يُؤجَر الإنسانُ عليها.

12. قال الشاعر: 

جَاءَ الصِّيَامُ فَجَاءَ الخَيْرُ أَجْمَعُهُ = تَرْتِيلُ ذِكْرٍ وَتَحْمِيدٌ وَتَسْبِيحُ

فَالنَّفْسُ تَدْأَبُ فِي قَوْلٍ وَفِي عَمَلٍ = صَوْمُ النَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ التَّرَاوِيحُ

13. وقال غيره:

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَامُمٌ = وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ، وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا = وَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمًا، فَمَا صُمْتُ

المراجع

1. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 946)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (4/ 240)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 212)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 490)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 458).

2.رواه البخاري (2840)، ومسلم (1153).

3. رواه البخاري (5065)، ومسلم (1400).

4. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 20)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 432).

5. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 96).




فقهٌ

1. يَذكر النبي ﷺ أنَّ مَن صام شهر رمضان مؤمنًا بأن اللهَ عزَّ وجلَّ قد فرَضه عليه، ومُصَدِّقًا بموعود الله تعالى للصائمين وما أعدَّه لهم، ومحتسِبًا الأجرَ والثوابَ من الله سبحانه، لا يرجو جزاءَ ذلك من أحدٍ غيره، بل يريدُ به وجهَ الله تعالى من غير رياءٍ أو سُمعة، مُتلقِّيًا الشهر بطِيب نفسٍ، مغتنِمًا الأوقاتِ في طاعة الله تعالى والقُرب منه – فجزاؤه أنَّ اللهَ سبحانه يَغفر له ما تقدَّم من ذَنْبه.

والصِّيامُ: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، بِنية العبادة لله تعالى، من أذان الفجر إلى أذان المغرب؛ لقوله تعالى:

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}

[البقرة: 187]

وقال الله عزَّ وجلَّ في الحديث القدسي:

«يَدَعُ شَهْوَتَه وطعامَه من أجْلي»

[1].

2. ثم أخبَر ﷺ أنَّ مَن قام ليلة القدر بالصلاة والدعاء والذِّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك من العبادات، شريطةَ الإيمان والاحتساب كذلك؛ فقد غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه. ولا يُشترَط في ذلك أن يقوم العبدُ الليلةَ كلَّها، بل يحصل ذلك بقيام جزءٍ منها ولو يسيرًا، كما في مُطلَق التهجُّد أو إدراك صلاة القيام مع الإمام [2].

وقد سُمِّيت ليلةُ القدْر بهذا الاسم لأنَّها عظيمة القَدْرِ عند الله؛ ففيها نزل القرآنُ إلى بيت العزة في السماء الدنيا؛ لقوله تعالى:

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}

[القدر: 1]،

وفيها نسخُ مقادير العباد التي تَحدُث في تلك السَّنة من اللَّوح المحفوظ، فتُساق إلى مواقيتها [3]. وقد منَّ اللهُ سبحانه على عباده بمُضاعَفة الحسنات في تلك الليلة، فهي كما قال سبحانه:

{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}

[القدر: 3].

وليلةُ القدر مُبهَمةٌ في العشر الأواخر من رمضان، فمن قام العشرَ جميعًا فقد أدرك ليلةَ القدر لا مَحالة؛ قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:

«كان النبيُّ ﷺ إذا دخل العشْرُ، شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحْيا ليله، وأيقَظ أهله»

[4]،

وهي أحرى أن تكون في الوتر من تلك الليالي؛ لقوله ﷺ:

«تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ»

[5].

3. وفي الحديث الآخر أخبَر ﷺ أنَّ من قام جميع ليالي رمضان مؤمنًا محتسِبًا، فقد غُفر له ما تقدَّم من ذنبه. ولا تعارض بين مغفرة الذنوب بقيام رمضان كله وبقيام ليلة القدر؛ فإنَّ كلَّ واحدٍ منهما صالحٌ لتكفير السيئات، إلَّا أنَّ في كلِّ واحدٍ ما ليس في الآخر؛ فقيام جميع رمضان شاقٌّ إلا أنَّ قائمَه يُدرِك ليلة القدر لا مَحالة، فيُغفَر له بقيام رمضان وبإدراك ليلة القدر، وقيام ليلة القدر ليست في مَشقة قيام الشهر كلِّه، إلَّا أنَّها تحتاج إلى تَحَرٍّ وتخمينٍ، وقد يصيبُها المرءُ بعد ذلك وقد لا يصيبها، فصار الأفضل قيام جميع الشهر؛ لِما فيه من الأجر، ولتَيقُّن قيام ليلة القدر.

اتباع

1. (1) مِن عظيم لُطف الله بنا أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي جميعًا. وقد جعل الله في تلك الأوقات والأماكن من الفَوز العظيم والفلاح المُبين ما يُحفِّز الإنسانَ على العمل، واغتنام النَّفَحات.

2. (1) لا بُد في الأعمال من الإيمان والاحتساب؛ فإنَّ الأعمال لا تُقبَل من غير المؤمن، ولا يُؤجَر عليها مَن لم يَحتسِب العملَ أو جعَله رياءً وسمعةً؛ لقوله ﷺ: «إنما الأعمالُ بالنِّيَّات» [6]. فعلى المسلم أن يَستحضر النيَّة الخالصة في جميع أعماله، وأن يحتسِبَ كلَّ ما يعمله ابتغاءَ مرضات الله عزَّ وجل.

3. (1) الإيمان والاحتساب أصلُ كلِّ عملٍ، حتى إنَّهما اجتمَعا في تعريف طَلْق بن حَبيب رحمه الله تعالى للتقوى بقوله: "أن تَعمَل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ مَعصية الله، على نُور من الله، تَخاف عِقاب الله"، فلا بدَّ لكل عملٍ أن يكون مَبدؤُه الإيمانَ، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاءَ مرضاته [7].

4. (2) أخفى اللهُ عزَّ وجل ليلةَ القدر ليَجتهِد العبدُ في طاعة الله تعالى في جميع الأوقات، فلا يَجتهد في ليلةٍ ويَدَع سائر الليالي، كما أخفى سبحانه ساعةَ الإجابة يوم الجمعة لذلك؛ كي يدعوه عبادُه في جميع اليوم.

5. (2) المعاصي من أكبر الأسباب التي تَحُول بين العبد وبين التوفيق لاغتنام الطاعات؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ خرج يُخبِر النَّاسَ بليلة القدر، فوجد رجُلَين يتشاجرانِ في المسجد، فنَسِي النبيُّ ﷺ وقتَها بسبب ذلك [8]. فعلى المسلم أن يبتعد عن المعاصي حتى ينير اللهُ قلبَه ويوفِّقَه لاغتنام النَّفَحات والطاعات.

6. (3) أمامك طريقان لتَنال غُفران الله؛ أحدهما فيه مشقَّة لا تخلو عن لذَّة الطاعة والقُرب من الله تعالى، بقيام ليالي رمضانَ كلِّها. والآخَر: يسير، وهو الاقتصار على قيام ليلة القدر وتحرِّيها، فالأول يقين، والآخر مَبْناه على الظنِّ والتَّخْمِين، فأيَّهما تختار: الظنَّ أم اليقين؟

7. (3) قال ابن رجب رحمه الله: "المحبُّون تطُول عليهم الليالي فيَعُدُّونها عدًّا لانتظار ليالي العشر في كل عام، فإذا ظَفِروا بها نالوا مَطلوبهم، وخدَموا مَحبوبهم" [9].

8. قال الشاعر: 

رَمَضَانُ بِالحَسَنَاتِ كَفُّكَ تَزْخَرُ = وَالكَوْنُ فِي لَأْلاءِ حُسْنِكَ مُبْحِرُ

يَا مَوْكِبًا أَعْلامُهُ قُدْسِيَّةٌ = تَتَزَيَّنُ الدُّنْيَا لَهُ تَتَعَطَّرُ

أَقْبَلْتَ رُحْمًا فَالسَّمَاءُ مَشَاعِلٌ = وَالأَرْضُ فَجْرٌ مِنْ جَبِينِكَ مُسْفِرُ

هَتَفَتْ لِمَقْدِمِكَ النُّفُوسُ وَأَسْرَعَتْ = مِنْ حُوبِهَا بِدُمُوعِهَا تَسْتَنْفِرُ



المراجع

1. رواه البخاريُّ (1894)، ومسلم (1151).

2.  انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 161).

3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 390).

4. رواه البخاريُّ (2024)، ومسلم (1174).

5. رواه البخاري (2017)، ومسلم (1169).

6. رواه البخاريُّ (1)، ومسلم (1907).

7.  انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).

8. رواه البخاري (2023).

9. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 204).




فقهٌ

يُبيِّن النبيُّ ﷺ أنَّ الغرضَ الأسمى من الصيام التقوى وحفظُ اللسان والأعضاء؛

لقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 183]

فمن صام عن الطعام والشراب ولم تَصُم أعضاؤه عن قول الزُّورِ والعمل به – وهو كلُّ باطلٍ من الكلام، فيَشمل الكذبَ والنميمة والغِيبة ونحوها من آفات اللسان – ولم يَنتهِ عن السَّفاهة والطَّيش وعدم الحِلم وما يترتب على ذلك من الشِّجار والقتال والضَّجيج المنهيِّ عنه بقوله ﷺ:

«وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرفُثْ، ولا يَصخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فلْيَقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ»

[1]

= فلا يُقبل صيامُه ولا يُعتدُّ به.

وعبَّر ﷺ بقوله: «فليس للهِ حاجةٌ» للدلالة على عدم الالتفات والمبالاة والقبول والمَيل، كما تقول: لا حاجةَ لي في فلان. وإلا فاللهُ عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن العالمين، لا يحتاج إلى شيءٍ منهم،

قال سبحانه:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}

[فاطر: 15].

وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن قول الزُّور فقال:

{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}

[الحج: 30]،

وامتدح عباده الذين لا يَشهدون الزور؛ فلا يقولونه ولا يعملون به ولا يجلسون في مجلسه، قال سبحانه:

{وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}

[الفرقان: 72]،

وذكر النبيُّ ﷺ أنَّ شَهادة الزُّور من أكبر الكبائر،

فقال ﷺ: «ألا أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدينِ، وجلسَ وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقولَ الزُّور»، قال: فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليْتَه سكتَ

[2].

والمقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع والعطش؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل للصائم شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكُن له مِن صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛

لقوله ﷺ:

«رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صِيامه إلا الجوعُ، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهَرُ»

[3].

وحينئذٍ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يحقِّق المقصودَ من صيامه [4].

اتباع

1. إذا كان اللهُ تعالى قد اختصَّ بأجْر الصيام، وأخبر بقوله جل جلاله:

«كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي»

[5]،

دلالةً على عِظَم أجره ورِفعة منزلته، ثم تأتي كلمةٌ يقولها العبد من سَخَط الله فتَهدِم كلَّ هذا الأجر وتُحبِطه؛ فهذا دليلٌ على خطورة قول الزُّور والعمل به، وأنه من المَهالِك والمُوبِقات التي تُورِث الإنسانَ خسران الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يَحذَر من تلك المعصية، ويَنأى بنفسه عن إحباط عمله.

2. إن الله تعالى أراد من عباده أن يتَّقُوه ويطيعوه ويَجتنِبوا مَحارمه، ولم يُرِد أن يضيِّق عليهم بترك الأكل والشُّرب والجِماع؛ بل أراد أن يَمتثِلوا أوامره، ويَجتنبوا نواهيَه؛ حتى يكون الصيام مدرسةً يتعوَّدون فيها على ترْكِ المحرَّمات، وعلى القيام بالواجبات.

3. الغرضُ من الصيام كسْرُ النَّفْس وترْكُ المناهي التي هي مُحَرَّمةٌ، لا تركُ الطعام والشراب فقطْ اللَّذينِ هما مباحانِ [6].

4. اعلم أنه لا يتِمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بتَركِ هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرُّبِ إليه بتَرْك ما حرَّم الله في كلِّ حال من الكذب، والظُّلم، والعُدوان على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم [7].

5. حرَّم اللهُ تعالى قولَ الزُّور كما حرَّم العملَ به، فيَشملُ ذلك الغيبةَ والنَّميمة والإيقاع بين النَّاس والأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وغير ذلك من باطل القولِ.

6. قال الشاعر:

يَا ذَا الَّذِي صَامَ عَنِ الطُّعْمِ = لَيْتَكَ قَدْ صُمْتَ عَنِ الظُّلْمِ

هَلْ يَنْفَعُ الصَّوْمُ امْرَأً ظَالِمًا = أَحْشَاؤُهُ مَلْأَى مِنَ الإِثْمِ

7. وقال غيره:

حَصِّنْ صِيَامَكَ بِالسُّكُوتِ عَنِ الخَنَا = أَطْبِقْ عَلَى عَيْنَيْكَ بِالأَجْفَانِ

لا تَمْشِ ذَا وَجْهَيْنِ مِنْ بَيْنِ الوَرَى = شَرُّ البَرِيَّةِ مَنْ لَهُ وَجْهَانِ



المراجع

1. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

2. رواه البخاريُّ (2654)، ومسلم (87).

3. رواه النسائيُّ في "السنن الكبرى" (3236)، وابن ماجه (1690).

4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).

5. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).

6. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 24).

7. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 155).

فقه

يُرشِد النبيُّ ﷺ إلى بابٍ من أعظم أبواب تكفير الذنوب، وهو الحجُّ المبرور، فيخبِر ﷺ أنَّ من حجَّ حجًّا سليمًا مقبولًا، مُحِيَت ذنوبُه وعاد من حَجِّه مطهرًا كيوم ولدته أمه، والحج المبرور هو الذي لم يأتِ فيه صاحبُه بشيء من محظورات الحجِّ، كالرَّفَثِ وهو ما يريده الرجل من المرأة من جِماعٍ ومقدِّماته، أو الفسوق وهو الخروج عن الطاعة وارتكاب المعاصي. 

والحديثُ يشملُ الحجَّ والعمرةَ معًا؛ بدليل رواية مسلم: «مَن أتى هذا البيت»، وقوله ﷺ:

«العمرةُ إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةُ»

متفق عليه [1].

وهذه المغفرة إنما هي عامَّة في حقوق الله تعالى؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يَغفرها، أما حقوق الآدميين فلا تَسقُط إلا باسترضاء الخصوم، أو أداء الحقوق لأصحابها [2].

اتباع

1. استَخدم النبيُّ ﷺ التشبيه في قوله: «رجع كيوم ولدته أمه» لتوكيد معنى المغفرة وتكفير السيئات. فيحسُن بالداعية والمُربِّي أن يستخدم تلك الوسائل البلاغية وضرب الأمثال في تقريب المعاني وتوكيدها. 

2. أرشد النبيُّ ﷺ إلى بابٍ عظيم من أبواب مغفرة الذنوب، وهو الحج المبرور، وأيُّنا لا يحتاج إلى مغفرة الذنوب وتكفير السيئات؟!

3. في الحديث التأكيدُ على مكارم الأخلاق، وأنها سببٌ في قَبول العمل أو رَدِّه.

4. إياك وظلمَ العبادِ وهضْمَ حقوقهم؛ فإنَّ الذنوب المتعلقة بهم لا تَسقط إلَّا بردِّ المظالم وترضيتهم، أما ما اقترفتَه في حقِّ اللهِ سبحانه – غير الشرك – فداخلٌ في المشيئةِ؛ إن شاء عفا وإن شاء عذَّب.

5. من مقاصد الحج تذكيرُ الإنسانِ بالآخرة؛ حيث يخرج الإنسان عن زِينته ومكانته ليَرتدِيَ إزارًا ورداءً كالكفن، وينعزل عن الدنيا ولذَّاتها، ووقف على عرفات في جموع الحَجيج كما يجتمع الناسُ في أرض المحشر، الجميع سواسية، لا فرق بين كبيرٍ وصغيرٍ ووزيرٍ وخَفيرٍ. فإذا أدرك الحاجُّ ذلك عاد زاهدًا في الدنيا مُستعدًّا للآخرة.

6. قال الشاعر:

إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ أَتَيْتُ مُلَبِّيَا = فَبَارِكْ إِلَهِي حَجَّتِي وَدُعَائِيَا 

قَصَدْتُكَ مُضْطَرًّا وَجِئْتُكَ بَاكِيًا = وَحَاشَاكَ رَبِّي أَنْ تَرُدَّ بُكَائِيَا 

كَفَانِيَ فَخْرًا أَنَّنِي لَكَ عَابِدٌ = فَيَا فَرْحَتِي إِنْ صِرْتُ عَبْدًا مُوَالِيَا

إِلَهِي فَأَنْتَ اللَّهُ لا شَيْءَ مِثْلُهُ = فَأَفْعِمْ فُؤَادِي حِكْمَةً وَمَعَانِيَا

أَتَيْتُ بِلا زَادٍ وَجُودُكَ مَطْعَمِي = وَمَا خَابَ مَنْ يَهْفُو لِجُودِكَ سَاعِيَا

إِلَيْكَ إِلَهِي قَدْ حَضَرْتُ مُؤَمِّلًا = خَلاصَ فُؤَادِي مِنْ ذُنُوبِي مُلَبِّيَا


المراجع

1. رواه البخاريُّ (1773)، ومسلم (1349)، عن أبي هريرة .

2. انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (9/ 31).


فقهٌ

1. خطَب النبيُّ ﷺ في أصحابه يومًا فأخبرهم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد أمرهم بحجِّ بيته الحرام؛ تصديقًا لقوله عزَّ وجل: 

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

[آل عمران: 97].

فعليهم أن يستجيبوا لأمره ويؤدُّوا الفريضة. 

والحجُّ قصدُ بيت الله الحرام في أوقات معيَّنة لأداء شعائر مخصوصة بِنية التقرُّب إلى الله عز وجل [1].

2. فسأله أحدُ الصحابة رضوان الله عليهم – وهو الأقرَعُ بن حابِ - أيجِبُ الحجُّ كلَّ عامٍ يا رسول الله ﷺ؟ لأنَّه لم يَفهَم ما اقتضاه ذلك الأمرُ بالحجِّ؛ أيكون أمرًا بالأداء مرةً أم أمرًا بالتَّكرار؟

وإنما سكت النبيُّ ﷺ عن جواب الرجل مرتينِ زجرًا له عن مثل هذا السؤال؛ فإنَّ النبيَّ ﷺ بُعث ببيان الشريعة وتمامها، فلم يكُنْ ﷺ لِيَسكُت عن بيانِ ما تحتاج الأُمَّةُ إليه، فلو كان الحجُّ واجبًا على التَّكرار لَأخبَر بذلك ﷺ، فكان مثل هذا السؤال تقدُّمًا بين يدَي الله تعالى ورسوله ﷺ، وقد نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عنه بقوله:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

[الحجرات: 1].

3. فلمَّا لم يَنزجِر الرجل بسكوته ﷺ في المرتين، أخبره ﷺ بأنه إنما امتنع عن الجواب شَفقةً ورأفةً بالمؤمنين؛ فلو أجابه النبيُّ ﷺ بالإيجاب لَوَجب على المسلمين أن يحجُّوا في كلِّ عامٍ، وفي ذلك من المشقة ما لا يُقدَر عليه.

4. ثم أرشد النبيُّ ﷺ أصحابَه إلى أنَّه لا يجوز لهم أن يُشدِّدوا في السؤال، ويُكثِروا من الاستفهام عمَّا يأتي مقيَّدًا أو مُجمَلًا؛ فإذا أُمِرْتم بأمرٍ فافعَلوا ما يقع عليه اسمُ ذلك الفعل؛ فإذا أُمِرتم بالصَّدقة أو الحجِّ أو غير ذلك، فيُجزِئكم ما تقع عليه التسمية، فأقل الصَّدقة تُجزِئ، والحجُّ مرةً واحدةً كافٍ، وذلك هو مَدلولُ اللفظ، وما زاد عليه من التَّكرار المحتمَل من اللفظ يُتغافَل عنه [2]. وفي ذلك بيانُ أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، وأنَّه لا حُكم إلا بوُرود الشرع، فما سكَت الشرعُ عنه فهو على أصله [3].

5. وعلَّلَ النبيُّ ﷺ ذلك بأنَّ هلاك الأمم السابقة كان في كثرة سؤالهم لأنبيائهم عمَّا لم يأتِ بيانُه؛ فإنَّه أولًا دليلٌ على عدم التصديق؛ فإنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم مأمورون بإرشاد النَّاس إلى مصالح دُنياهم وآخرتهم، ولا يجوز لهم أن يَسكتوا عند الحاجة إلى البيان، فكان مِن واجب عموم النَّاسِ ألَّا يُعاجِلوهم بالسؤال، بل الواجب حُسنُ الإنصاتِ واغتنامُ ما سكتوا عنه.

ثم إنَّ ذلك أورثهم ثانيًا تشديدَ اللهِ سبحانه عليهم بتشديدهم على أنفسهم في السؤال، فثَقُلت التكاليفُ عليهم بذلك، فأهملوها، فأهلكهم الله تعالى. ولهذا نهى اللهُ سبحانه عن مثل هذا السؤال وحذَّر من عاقبتها بقوله جلَّ جلالُه:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}

[المائدة: 101، 102].

فمن ذلك أنَّ بعضَ بني إسرائيل سألوا نبيَّهم أن يجاهدوا في سبيل الله تعالى، فلمَّا فُرض ذلك عليهم تولَّوا وفرُّوا، وفيهم أنزل سبحانه:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}

[البقرة: 246].

ومنه أيضًا أن موسى ﷺ لمَّا أمر قومه بذَبْح بقرةٍ، ظلُّوا يتشدَّدون في بيان مواصفاتها فشدَّد الله سبحانه عليهم، ولو ذبَحوا أيَّ بقرةٍ من البداية لَأجْزَأتهم.

ولهذا نهى النبيُّ ﷺ أصحابَه عن السؤال؛

قال أنس بن مالك رضي الله عنه:

«نُهِينا أن نسألَ رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجُل من أهل الباديةِ العاقلُ، فيسأله، ونحن نسمع»

[4]

فإنما رخَّص لأهل البادية؛ لعدم علمهم، وعدم وصول أوامر الشرع إليهم، بخلاف أصحابه الملازمين له ﷺ.

وقال ﷺ:

«إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا: مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم على المسلمين، فحَرُمَ عليهم من أجْل مسألته»

[5].

6. ثم أرشد ﷺ إلى ما ينبغي على المسلم فعلُه، وهو أنَّه إذا أتاه الأمرُ أتى منه بالمستطاع؛ فهو مأمورٌ بالصلاة بهيئتها وأركانها وواجباتها وسُننها المعروفة، فإذا عجَز المسلمُ عن الإتيان بها كما ينبغي، أتى بها على ما يَستطيع؛ فإذا عجَز عن الصلاة قائمًا صلَّى قاعدًا أو على جَنْبٍ، وإذا عجَز عن غَسل جميع أعضائه أتى بالممكِن، وهكذا، تصديقًا لقوله تعالى:

{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}

[التغابن: 16].

وإذا جاءه النَّهيُ عن شيءٍ امتنع عنه تمامًا؛ إذ لا يكون الإنسانُ منتهيًا عن شيءٍ وهو يَقترِف بعض أجزائه، فإذا نُهي الإنسانُ عن شرب المسكرات مثلًا، فانتهى عن بعض أنواعها دون البعض لم يكُن منتهيًا حتى يمتنع عنها جميعًا. ولهذا قال سبحانه:

{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}

[الحشر: 7].

اتباع

  1. (1) استَعمل النبيُّ ﷺ أبسط الأساليب في بيان الأحكام الشرعية؛ حيث قال: «إن الله قد فرَض عليكم الحج». فعلى الفقيه والمُفتي أن يكون حريصًا على إيراد الحكم الشرعي في أوضح صوره، بحيث لا يكون قولُه مُلبِسًا أو غامضًا.

  2. (1) دلَّ الحديث على أنَّ الحجَّ فرضٌ من الفرائض التي كتبها اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِه، ويجب على المسلم المستطيع المبادرة إليه قبل أن يَشغَله عنه شاغلٌ أو يمنعه عنه مانع.

  3. (2) يجوز للعالِم والداعية والفقيه إذا سُئل عن شيءٍ أن يسكت عن الجواب زَجْرًا لصاحب السؤال عن الخَوض في مثله.

  4.  (2) إذا لم يَفهَم السائلُ أنَّ سكوت الفقيه أو المفتي لزجره، فينبغي على العالِم أن يبيِّن له الحكم الشرعي، وأن ينهاه عن مثل تلك الأسئلة.

  5.  (3) ينبغي على العبد أن يتأمَّل مَواضع شَفقته ورحمته ﷺ بأُمَّته، كيف أنَّه يخاف عليهم، ويَسكت عن الجواب خشيةَ أن تَثقُل عليهم التكاليف، ولا يخرج لصلاة القيام في رمضان لئلا تُفرَض على النَّاس، وينهى الصحابةَ عن السؤال فيما لا نصَّ فيه من أجْل ذلك. فإن العبد إذا تأمَّل ذلك أحبَّ النبيَّ ﷺ وارتفعت في قَلبه منزلتُه.

  6. (4) على الإنسان ألَّا يتكلَّف الخوضَ في المسكوت عنه، ويحاول أن يَجعل له حكمًا شرعيًّا، فما لا نصَّ فيه ولا عِلة يُقاس عليها، يُؤخَذ فيه بحُكم الأصل، وهو الإباحة.

  7. (4) النهيُ عن السؤال كان في زمانه ﷺ لئلا يُحرَّم شيء بسؤالهم، فيكون فيه مشقَّةٌ عليهم، أما الآن فلا يجوز للإنسان أن يفعل الشيء، ويَسكت عن السؤال عنه أحلالٌ هو أم حرامٌ؟ بل يَجِب عليه أن يتعلَّم العلم، فيَعرِف الحلال فيفعله، والحرام فيَجتنِبه [6].

  8. (4) السؤال المنهيُّ عنه الآن هو السؤال فيما لا طائلَ منه؛ أو السؤال الذي يَترتَّب عليه شَرٌّ ومفسدة، كالتقوُّل في أسماء الله وصفاته بغير عِلم، والسؤال عن كيفية صفاته وأفعاله [7].

  9. (5) يَحسُن بالداعية أن يبيِّن علة الأمر والنهي والحكمة منه إن تيسَّر معرفةُ ذلك؛ فهو أدعى للامتثال، وأرجى للقبول عند المدعوِّين.

  10. (6) دلَّ الحديثُ على أنَّ على العباد أن يَفعلوا المأمورات ما استطاعوا؛ فلا يُكلَّف الفقيرُ بالصَّدقة، ويجوز للمريض والمسافر الإفطار وقَضاء الصوم، وليس على غير المستطيع الحجُّ، بل الواجبُ أداءُ ما يَستطيعه المسلمُ في كل المأمورات.

  11. (6) ترك المعاصي أَولى من إتيان الفرائض، ألا ترى أنَّ المأمورات تتقيَّد بالاستطاعة، والمناهي يَتحتَّم على العبد الانتهاءُ عنها وعمَّا يُقَرِّب إليها؟!

  12. (6) الانتهاء عن المعاصي لا يتمُّ حتى ينتهي المسلمُ عن جميع ما تَشمله المعصية؛ فالنهي عن الشِّرك يقتضي النهيَ عن وسائله التي لا تُعَدُّ شِركًا في نفسها، كالحلِف بغير الله من غير اعتقادِ تعظيمِ المحلوف به، وقول: "ما شاء الله وفلانٌ" ونحو ذلك من ذَرائع الشِّرك وأبوابِه.



المراجع

1. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

2. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 130).

3. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57).

4. رواه مسلم (12).

5. رواه البخاريُّ (7289)، ومسلم (2358). 

6. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 315). 

7. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 315).



فقهٌ

في هذا الحديث بيانُ لقاعدةٍ عظيمةٍ من قواعد الإسلام؛ وهي أنَّ أفعالَ النبيِّ ﷺ حُجَّةٌ، وأنَّها كقولِه في الاتِّباع والامتثال.

1. أخبر جابرٌ رضي الله عنه أنَّه رأى النبيَّ ﷺ يَرمي جَمْرة العقبة يوم عيد الأضحى راكبًا على ناقته؛ ليَرى أصحابُه كيف يؤدِّي ﷺ شعائرَ الحجِّ، ويبيِّن لهم كيف يرمي الجمرات، وما يقوله حين يَرميها، ونحو ذلك، وليُبيِّن لهم أنَّ الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا [1].

2. ثم أمَر ﷺ أن نأخذ عنه شعائرَ الحجِّ وأفعالَه، فنَقتدي به في فِعْلِ ما فَعَلَ وتَرْكِ ما تَرَكَ، وتَقْدِيمِ ما قَدَّمَ وتأخيرِ ما أخَّر.

وأفعالُ النبيِّ ﷺ التي تكون بيانًا لأمرٍ مُجمَلٍ من واجبات الدِّين وفُروضه -كالصلاة والزكاة والحَجِّ ونحو ذلك- واجبةُ التَّأسِّي بها؛

كقوله ﷺ:

«صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي»

[2]،

إلا ما دلَّ الدليلُ على عدمِ الوجوب [3].

وقد قال ﷺ ذلك يوم النَّحر بعد انتهاء أهمِّ فرائضِ الحجِّ وواجباته وأركانِه؛ كأنه يقول: هذه الأمورُ التي أتيتُ بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصِفته، وهي مناسكُكم فخُذوها عني، واقْبَلوها، واحفَظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناسَ [4].

3. وقد علَّل النبيُّ ﷺ ذلك الأمرَ بالاقتداء بأنَّه يَغلِب على ظنِّه - إن لم يكن أيقَنَ – أنَّه لا يحُجُّ بعد ذلك العامِ مرةً أخرى.

وقد جاءه ﷺ من المُنَبِّئات ما يدلُّ على قُرب موته ﷺ، منها أنه نزَل عليه يومَ عرفة قوله تعالى:

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}

[المائدة: 3]،

وما روَته فاطمة رضي الله عنها أنَّه ﷺ أسَرَّ إليها في مرض موته:

«إن جِبريل كان يُعارِضُني القرآن كلَّ سَنة مرةً، وإنه عارضَني العام مرتينِ، ولا أراه إلا حضَر أَجَلي»

[5].

فلعلَّه ﷺ قال ذلك بناءً على تلك المُرَجِّحات إنْ لم يكن قد أخبَره ربُّه جلَّ وعلا بذلك.

وهذه الحَجَّة التي حجَّها النبيُّ ﷺ هي حَجَّته الوحيدة بعد الهجرة وبعد ما فُرِض الحج، وسُمِّيتْ حَجَّةَ الوداع لأنَّه ﷺ كان يُوَدِّع فيها أصحابَه بقولِه: «لعلي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه».

اتباعٌ

  1. (1) على الداعية والمُعلِّم والمُرَبِّي أن يَجهَر ببعض العبادات ويَعملها أمام الناس؛ حتى يأخذَها الناسُ عنه، ويتعلَّموها منه.

  2. (1) لا بدَّ للعلماء والدعاة أن يتصدَّروا المشاهِد والوفود؛ حتى يتسنَّى للنَّاس أن يَستفتوهم ويأخُذوا عنهم الأحكامَ.

  3. (1) قد يُغني بيانُ الشيء بالفعلِ والأمرِ بالتقليد عن شَرحه بالقول.

  4. (2) على الدَّاعية أن يَهتمَّ بقضايا الواقع المعاصِر ويؤخِّر بيان ما لا يحتاجه الناسُ الآن؛ فالنبيُّ ﷺ لم يَذكر تفاصيل الحجِّ وأحكامَه حتى خرج بالنَّاسِ حاجًّا.

  5. (2) على المسلم أن يحرِص دائمًا على اتِّباع النبيِّ ﷺ في أقواله وأفعاله، فأحسنُ الهَدْيِ هَدْيُه ﷺ.

  6. (3) على الداعية والمُعلِّم أن يُحفِّز طُلَّابَه ومُستمِعيه بأن يبادروا إلى الأخذ عنه والتلقِّي منه، قبل أن يَنشغِلوا أو يَقضي اللهُ أمرًا.

  7. (3) يجوز للإنسانِ أن يتنبَّأ بأمرٍ مُستقبليٍّ إذا كان ذلك مبنيًّا على وقائعَ وأحداثٍ تُمَهِّد للأمرِ، من غير أن يَجزِم بذلك أو يعتقِد أنَّه يَعلم الغيب، وإنما يعتقد أنَّ ذلك مِن حُسن الظنِّ والربط بين الأمور، والأمرُ للهِ أولًا وآخرًا.

  8. قال الشاعر: 

  9. يَا رَاحِلِينَ إِلَى مِنًى بِقِيَادِي = هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي 

سِرْتُمْ وَسَارَ دَلِيلُكُمْ يَا وَحْشَتِي = الشَّوْقُ أَقْلَقَنِي وَصَوْتُ الْحَادِي 

وَحَرَمْتُمُ جَفْنِي الْمَنَامَ بِبُعْدِكُمْ = يَا سَاكِنِينَ الْمُنْحَنَى وَالْوَادِي

المراجع

1. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 400)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 312).

2. رواه البخاري (6008).

3. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 345)، "المفهم" للقرطبيِّ (3/ 399).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45). 

5. رواه البخاريُّ (3624)، ومسلم (2450).



فقهٌ

يبين النبيُّ أنَّ فضلَ اللهِ تعالى على عبادِه لا يُحصى، وأنَّنا غارقون في نعم الله تعالى التي لا نُدرك أهميتها ولا نُوفيها حقَّ شكرِها، وذكر من تلك النِّعم في هذا الحديث ثلاثًا، وهي الأمان والعافية والرزق.

فمَن استقبلَ يومَه وهو آمنٌ في نفسه وبيته وأهله ووطنه، مطمئنٌ لا يخشى عدوًّا أو وباءً أو ظُلْمًا يقعُ عليه، مُعافًى في بدنه صحيحًا سليمًا ليس به داءٌ أو مرضٌ يمنعه عن الحركة وأداء مهام يومه، عنده ما يكفيه من قوت يومه فلا يحمل هَمَّ الرزقِ – فقد جُمعت له الدُّنيا بأسرها؛ فماذا يريدُ بعدَ تلك النِّعم؟!

وقد امتنَّ اللهُ تعالى على عبادِه بتلك النِّعم،

فقال سبحانه:

{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}

[العنكبوت: 67]،

وقال عزَّ وجلَّ:

{الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}

[قريش: 4].

وعاب على الكافرين الذين كفروا تلك النعم، فعاقبهم بسلبها،

قال تعالى:

{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}

[النحل: 112].

اتباع

1. أَحسِن الظنَّ باللهِ تعالى، فرزقُك وقدرُك وأمورُك كلُّها بيد اللهِ تعالى.

2. اشكر اللهَ تعالى على نعمةِ الأمن؛ فكم من مُطارَدٍ وخائفٍ وأسيرٍ يتمنى شيئًا مما عندك.

3. من عظيم نعمة الأمن أن اللهَ تعالى وعد المؤمنين بها،

قال سبحانه:

{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}

[الأنعام: 82]

فكن منهم يصيبك ما يصيبهم من موعود الله سبحانه.

4. الصِّحةُ نعمةٌ عظيمةٌ تستوجب شكرَ اللهِ تعالى عليها؛ حيث سوَّاك في أحسن صورة وأكمل بنيان، ومنحك العافية التي تُخَوِّلُك من العمل.

5. كان من دعائه :

«اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت»

[1]

فاحرص على هذا الدُّعاء النبوي.

6. قال :

«نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ»

[2].

فلا تكن من الجاحدين لنعم اللهِ تعالى.

7. احمَد اللهَ تعالى على رزقك واقنع بما آتاك، فغيرُك جائعٌ لا يجد ما يسدُّ رمقه.

8. يجب على المرء أن يُدرِك قيمة نعم الله عليه، وأنه محاسَبٌ عليها، فيسعى ويحرص على شكرها بطاعة الله تعالى وما يُرضيه؛ فإن الله سائلُه يوم القيامة عنها، فإن اغتنمها في خير وما يُرضي الله تعالى، نجا وسَلِم، وإلا فهو الخسران الْمُبين.

9. لا يُدرك المرء قيمة نعمة الماء إلا حين يَفقِده، فيشتدُّ عليه العطش، وهكذا كلُّ النِّعم، لا يُدركها الإنسان إلا حين يفقدها؛ فكن من الشاكرين!

10. قال الشاعر:

إذَا ما كَسَاكَ الدَّهْرُ ثَوْبَ مَصَحَّةٍ = وَلَمْ يَخْلُ مِن قُوتٍ يُحَلَّى ويَعْذُبُ

فَلا تَغْبِطَنَّ الْمُتْرَفِينَ فَإِنَّهُ = عَلَى حَسْبِ مَا يُعْطِيهِمُ الدَّهْرُ يَسْلُبُ

11. وقال غيره: 

إَذَا ما القُوتُ يَأْتِي لَـ = ـكَ وَالصِّحَّةُ وَالأَمْنُ

وَأَصْبَحْتَ أَخَا حُزْنٍ = فَلا فَارَقَكَ الْحُزْنُ


المراجع

1. رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد" (701)، وأحمد (20701)، وأبو داود (5090).

2. رواه البخاريُّ (6412).




فقهٌ

  1. التوكُّل من العبادات القلبية، ويتحقَّق بالثقة بالله تعالى والاعتماد عليه مع الأخذ بالأسباب، وقد أخبر أننا لو توكَّلنا على الله حقَّ التوكُّل لَرَزقنا كما يَرزق الطير؛ 

  2. والطير تذهب في الصباح جائعةً فارغة البطن من الجوع، وتَرجع في آخر النهار شَبعانة ممتلئة البطن، فلو أنَّنا صدقنا في اعتمادنا وتوكُّلنا على الله تعالى لرزقنا كما يرزق الطير الذي لا حيلة له، ولكنَّ أكثرنا يعتمد على الغشِّ والكذب والخداع في المعاملات، أو يلجأ إلى التواكُل وطرح الأسباب، أو يعتمد على الأسباب اعتمادًا كُلِّيًّا بحيث يرى أنَّ موافقةَ الأسبابِ يفيد وقوع الرزق حتمًا [1].

وحقُّ التوكُّلِ أن يأخذَ الإنسانُ بالأسبابِ مع الثقةِ بالله تعالى في أنَّ الأمر كله بيده، لا أن يَدع الأسبابَ ويجلس مُنتظِرًا رزقَه، فهذا من التَّواكل المذموم لا التَّوكل المحمود؛ فالنبيُّ لَبِس في معاركه الدروع، وحفر الخندق في الأحزاب، وخرج يوم الهجرة متخفِّيًا، واستخدم الدليلَ لطريق هجرته، واختبأ في الغار، وأعدَّ للمعاركِ خُطَطَها، وهو خيرُ من يتوكَّل على الله سبحانه. وقد أمر جل وعلا بالتوكل مع العزم والأخذ بالأسباب فقال:

{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}

[آل عمران: 159].

اتباع

  1. إذا أَهَمَّ المسلمَ أمرُ الرزقِ، فلا عليه إلا أن يتوكَّلَ على اللهِ تعالى، ويرضى بما يقسمه له، ويُوقِنَ تمامَ اليقينِ أنَّ له ربًّا يُدَبِّر أمرَه، ثم يأخذَ بالأسبابِ بعد ذلك.

  2. كثيرٌ من النَّاس يُكثِر من قول: "توكلتُ على الله" دون أن يكون متوكِّلًا حقًّا؛ فالتَّوَكُّلُ ليس قولًا باللسان، وإنما تسليمٌ للهِ تعالى ورِضًا بقَضائه، مع الإيمانِ به.

  3. المتوكِّلُ على الله حقَّ التوكُّل مُوَفَّقُ القصد، محفوظٌ عن نَزَغات الشيطان ووساوسه،

    قال تعالى:

    {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

    [النحل: 98-99].

قال تعالى:

{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}

[النحل: 98-99].

فمن أراد أن يحفظه الله تعالى من الشيطان ويبعده عنه، فليُحسِن التوكل عليه سبحانه.

4. مَن سرَّه أن يحفظه الله في جميع أموره، وأن يكفيه ما أهمَّه من أمر الدنيا والآخرة، فلْيَلجأ إلى الله تعالى ويُفَوِّض الأمر إليه؛

قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}

[الطلاق: 3]،

وقال رسول اللّه ﷺ:

«مَنْ قَالَ – يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ -: بِاسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ؛ يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ»

[2].

5. حقُّ التَّوَكُّل على اللهِ تعالى أن يرضى بما يفعلُ اللهُ به، وأن يثقَ به سبحانه، وأن يُسَلِّم الأمرَ له. قال بشرٌ الحافي -رحمه الله-: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله رَضِيَ بما يفعل الله، وسُئل يَحيى بنُ معاذ-رحمه الله-: متى يكون الرجل متوِّكلًا؟ فقال: إذا رَضِي بالله وكيلًا [3].

6. عندما أراد اللهُ سبحانَه أن يُطعِم السيدة مريم رضي الله عنها وهي في مَخاضِ ولادتِها، أمرها أن تَهُزَّ جذع النخلة، فأيُّ قوةٍ من امرأةٍ تضعُ ولدَها تهزُّ النخلةَ حتى يسقط منها التمر! بل لو هزَّ رجلٌ قويٌّ جَلْدٌ النخلةَ ما أسقطت شيئًا منها، ولكنه سبحانه يحبُّ أن يأخذ العبدُ بالأسبابِ ويدع النتائج لله سبحانه.

7. لَقِي عمر بن الخطاب رضي الله عنه جماعةً من المتواكِلين الذين لا يأخذون بالأسباب من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون. قال: بل أنتم المتَّكِلون؛ إنّما المتوكِّل الَّذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكَّل على الله [4].

8. ينبغي على الداعية والمُرَبِّي أن يُكثر من استخدام الصُّوَر البلاغية وضربِ الأمثالِ التي تُوضِّح المعاني وتُقَوِّي الأفكار.

9. الْتَقى عبد الله بن سَلَام وسلمان رضي الله عنهما، فقال أحدهما لصاحبه: إن متَّ قبلي فالْقَني، فأخبِرْني ما لقِيتَ من ربك، وإن متُّ قبلك لَقِيتُك، فأخبرتُك. فقال أحدهما للآخر: أوَتَلقى الأمواتُ الأحياءَ؟ قال: نعم، أرواحهم تذهب في الجنة حيث شاءت. قال: فمات فلانٌ، فلقيه في المنام، فقال:

«توكَّل وأبشر، فلم أرَ مثل التوكل قطُّ، توكَّل وأبشِر، فلم أرَ مثل التوكل قط»

[5].

10. قال لقمان -رحمه الله- لابنه: «يا بني، الدنيا بحرٌ غَرِق فيه أناس كثير، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان بالله، وحشوها العمل بطاعة الله عز وجل، وشِراعها التوكُّل على الله؛ لعلك تنجو» [6]. 

11. قال الشاعر: 

تَوَكَّلْتُ في رِزقِي علَى اللهِ خالقِي = وَأَيْقَنْتُ أنَّ اللهَ لا شَكَّ رازِقي

وَمَا يَكُ مِنْ رزقِي فَلَيْسَ يَفُوتُني = وَلَوْ كَانَ فِي قَاعِ البِحارِ الغَوَامِقِ

سيأتي بهِ اللهُ العظيمُ بِفَضْلِهِ = ولو لم يكنْ مِنِّي اللِّسَانُ بنَاطِقِ

ففي أيِّ شيءٍ تَذْهَبُ النَّفْسُ حَسْرَةً = وَقَدْ قسَّمَ الرَّحمنُ رِزقَ الخلائِقِ


المراجع

1. ينظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان الصديقي (1/197-198). 

2. رواه الترمذيُّ (3426). 

3.  "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114). 

4. رواه البخاري  (1523). 

5. "التوكل على الله" لابن أبي الدنيا (ص: 51).

6. " التوكل على الله" لابن أبي الدنيا (ص: 49).


فقه

1. حرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ ونبيُّه ﷺ الخمرَ؛ لأنَّها تُذْهِب العقلَ الذي هو مَناط التكليف، وتَحملُ الإنسانَ على ارتكاب المعاصي والإفساد في الأرض؛

قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}

[المائدة: 90، 91].

وإذا كانت الخمرُ حرامًا كان ثمنُها حرامًا كذلك، 

وقد قال أنسٌ رضي الله عنه:

«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ» وسأل أبو طَلحةَ ﷺ النبيَّ عن أيتامٍ وَرثوا خمرًا، فقال ﷺ: «أَهْرِقْهَا» قَالَ: أَفَلَا أَجْعَلُهَا خَلًّا؟ قَالَ: «لَا»

 [1]، [2].

2. وحرَّم بَيْعَ المَيتة كذلك؛ إذ يَحرم أكلُها والانتفاعُ بها؛

لقوله تعالى:

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}

[المائدة: 3]،

إلا ما استُثني من الانتفاع بجلدِ ما كان طاهرًا مباحًا في الحياة -كالشاةِ والبقرة ونحوهما- بعد الدِّباغ؛

فعن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال:

«تُصُدِّقَ على مَولاةٍ لمَيمونةَ بشاةٍ، فماتتْ، فمرَّ بها رسولُ الله ﷺ، فقال: هلَّا أخذتُم إهابَها، فدَبَغتُموه، فانتفعتُم به، فقالوا: إنَّها مَيتةٌ،  فقال: إنَّما حَرُم أكْلُها»

[3].

ويُستثنى كذلك جوازُ أكلِ مَيتة السَّمَكِ والجرادِ؛

لقوله ﷺ:

«أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»

[4].

3. ويَحرُم كذلك بيع الخنزير؛ إذ حرَّم اللهُ سبحانه أكلَه وقضى بنجاسته بقوله:

{قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}

[الأنعام: 145].

4. ويَحرُم أيضًا بيعُ الأصنام وصُنعُها، سواءً كانت تُتَّخَذُ للعبادةِ أم لا؛ لأنَّ ذلك ذريعةٌ إلى الشِّركِ، وإنما دخَل الشِّركُ في الأرض مع اتِّخاذ تلك الأصنامِ وإن كانت مصنوعةً في البداية لغيرِ العبادة، خاصَّةً وأن النبيَّ ﷺ أخبَر أنَّه:

«لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ»، وَكَانَتْ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ»

[5].

5. فلمَّا ذكَر النبيُّ ﷺ لهم حُرمةَ بيع الميْتة واستخدامها سألوه عن استخدام شُحوم الميتة ودُهنِها في غيرِ الأكل؛ فهل يجوزُ استعمالها في تَلطيخ السُّفن ودِهان الجلود ووَضعها في المصابيحِ للإنارة؟ فنَهاهم النبيُّ ﷺ عن ذلك وأخبَرهم أنَّه حرامٌ لا يجوز.

وإنَّما سألوه عن الانتفاع بشُحومِ الميتة وبيعِها لظَنِّهم أنها مثلُ الحُمر الأهلية؛ حيث حرَّم ﷺ أكلَها إلا أنَّه أجاز بَيعها وركوبَها ونحوَ ذلك، فبيَّن لهم ﷺ أن الأمر مختلِفٌ؛ فالميتة نَجِسةٌ، ولذلك لا يجوزُ أكلُها أو الانتفاعُ بها، ولهذا حَرُم بيعُها كذلك.

6. ثم دَعا النبيُّ ﷺ على اليهود؛ فإنَّهم احتالوا على شَرعِ اللهِ تعالى حين نهاهم عن أكلِ الشُّحوم واستعمالها وبيعِها كما قال تعالى:

{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا}

[الأنعام: 146]،

فأذابوا الشُّحوم وباعوها وأكَلوا ثمنَها.

اتباعٌ

  1. (1) يَحرُم على المسلم بيعُ الخمر، سواءً باعها لمسلمٍ أم لكافرٍ؛ فإنَّ ثمنها حرامٌ على المسلمين.

  2. (1) اهتمَّ الإسلامُ بعقل الإنسان، وندَبه إلى التفكير والتأمُّل في خلْق الله تعالى، وأوجَب عليه طلبَ العلمِ، وحرَّم عليه ما يُفسِده من شُرب المُسكِراتِ ونحوها.

  3. (2) يَدخل في بيعِ الميتة بيعُ الحيوانات المُحَنَّطة، فلا يجوز للإنسان شِراؤها وبيعُها.

  4. (3) كما يَحرُم على المسلِم أكلُ الخنزير، فكذا يَحرُم عليه بيعُه، سواءً باعه لمسلمٍ أو لكافرٍ؛ لأنَّه مِن التعاوُن على الإثم والعدوان.

  5. (4) لا يجوز اتِّخاذُ الأصنام وصناعتها؛ فإنَّ ذلك من الكبائر، وقد قال ﷺ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ» [6].

  6. (4) دلَّ الحديثُ على وجوبِ الحذرِ من الوقوع في بَوادِر الشِّرْك؛ فقدْ نَذَر رجلٌ على عهد رسول الله ﷺ أن يَنحَر إِبِلًا ببُوَانةَ - موضع بأسفل مكةَ - فأتى النبيَّ ﷺ، فقال: إني نذَرتُ أن أَنحَر إبلًا ببُوَانةَ،

    فقال النبيُّ ﷺ:

    «هل كان فيها وَثَنٌ من أوثانِ الجاهلية يُعبَدُ؟» قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيدٌ مِن أعيادهم؟»، قالوا: لا، قال رسول الله ﷺ: «أَوْفِ بنَذْرِكَ؛ فإنه لا وفاءَ لنَذر في مَعصيةِ الله، ولا فيما لا يَملِك ابنُ آدم»

    [7].

  7. (5) لم يَستحِ الصحابةُ رضوانُ اللهِ عليهم مِن سؤال النبيِّ ﷺ عن شُحوم الميتة، وليس ذلك من السؤال المذمومِ ولا مِن الاعتراض على حُكمه، وإنَّما لِما رأوه مِن الفائدة المرجوَّة التي لا تتعلَّق بالأكل والشُّربِ، وظنِّهم أنَّ الحرمة متعلِّقةٌ بالأكل. فينبغي ألَّا يَرُدَّ الحياءُ سائلًا عن مَسألته.

  8. (6) التحايُل على شرع اللهِ تعالى ليس من طِباع المؤمنينَ الذين قال سبحانه فيهم:

    {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

    [النور: 51]،

    وإنما هو مِن أخلاقِ اليهود المغضوبِ عليهم؛ فاحذَرْ أن تكون منهم.

  9. (6) حذَّر ﷺ مِن اتِّباع اليهود في تحايلهم على الشَّرع،

    فقال ﷺ:

    «لَا تَرْتَكِبُوا مَا ارْتَكَبَتِ الْيَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا مَحَارِمَ اللَّهِ بِأَدْنَى الْحِيَلِ»

    [8].

  10. (6) كانت عاقبةُ التحايُل على شَرع الله تعالى أنَّه مسَخ أصحاب السبتِ قِردةً حين تحايَلوا على نهيِه عن الصَّيدِ يومَ السبت، فرَمُوا الشِّبَاكَ يوم الجمعةِ وترَكوها للسبت؛ فلْيَخْشَ الذين يَتحايَلون أن يُصابَوا بمِثلِ ما أصابِهم.

المراجع

1. رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381).

2. رواه أبو داود (3675).

3. رواه البخاري (1492)، ومسلم (363).

4. رواه أحمد (5723)، وابن ماجه (3314).

5. رواه البخاريُّ (7116)، ومسلم (2906).

6. رواه البخاري (5950)، ومسلم (2109).

7. رواه أبو داود (3313).

8. رواه ابن بطة العكبري في إبطال الحيل (ص: 47).





فقه

  1. بينما النبيُّ ﷺ يمرُّ في السُّوق يتفقدُ أحوال النَّاسِ ويتابعُ البيعَ والشراء، إذ وجد رجلًا يبيع طعامًا، فأدخل يدَه ﷺ في تلك الكَوْمَة التي هيَّأها البائعُ بحيث يكون ظاهرُها جذَّابًا مُغريًا، فوجد ﷺ في باطن الطعامِ بللًا، وذلك يدلُّ على فسادٍ أصابَ الطَّعام فغطَّاه الرجلُ وأخفاه حتى لا يراه المشتري.

  2. فسأله النبيُّ ﷺ عن ذلك مستنكرًا فِعلَته حيث جعل المبلولَ من الطَّعام بالأسفل واليابس بالأعلى، بحيث يظنُّ المشتري أن الجميع يابسٌ لا عيبَ فيه. فأخبره الرجلُ أنَّ المطر سقط على الطَّعام فأفسد أكثره.

  3. فأخبره ﷺ أنَّه كان ينبغي عليه أن يرفع الفاسدَ منه بحيث يراه النَّاس، فذلك مقتضى الأمانةِ والصِّدق في البيع،

    وقد قال ﷺ:

    «إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ»

    [1].

  4. ثم ذكر ﷺ قاعدةً عامَّة يُرجع إليها، وهي أنَّ الغاشَّ خارجٌ عن سُنَّةِ النبيِّ ﷺ؛ فإنَّ المكر والخديعة والتدليس صفاتُ الكاذبين والمنافقين، ولا يليق بالنبيِّ وأتباعه أن يتصفوا بتلك الصفات.

وليس المرادُ خروجَ الغاشِّ من الإسلام، وإنما بيانُ مخالفته للدين، وأنه أتى ذنبًا يُوجِب له غضبَ اللهِ تعالى وعقابَه؛ لأنَّه استحلَّ مالَ أخيه المسلم، وأوغر صدرَه، وأورثه البغضاء والكراهية، فأعقب ذلك تفكك الروابط التي تجمع المسلمين.

وهذه القاعدة ليست مقصورةً على البيع والشراء فحسب؛ بل تشمل جميع المعاملات؛ فيدخل فيها غشُّ الإمامِ للرعية وعدم مراعاة مصالحهم واستغلال منصبه في مصالحه الشخصية،

لقوله ﷺ:

«مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»

[2]،

كما يشملُ ذلك أيضًا غشَّ الدين، وهو أعظم أنواع الغش وأفدحها أثرًا وأفدحها جُرمًا، وهو أن يكتم العلماءُ ما أمرهم اللهُ تعالى بإبلاغه أو يُحَرِّفوه عن مواضعه ابتغاءَ المناصبِ والأموال، كما وَصَمَ القرآنُ بني إسرائيل بذلك.

اتباع

  1. (1) ينبغي على الدعاة وطلبة العلم أن يَمُرُّوا بالأسواق، ينظروا ما فيها من المخالفات الشرعية في البيوع، وينصحوا النَّاس، ويذكروهم باللهِ تعالى.

  2. (1) كان من سُنَّة النبيِّ ﷺ وأصحابه وتابعيهم في القرون الأولى أن يسيرَ المحتسبُ في الأسواق لتفقد السِّلَع، فحبَّذا إن أعادت الحكوماتُ ذلك لتنظيم حركة البيع والشراء وحفظ حقوق النَّاس.

  3. (2) بادر النبيُّ ﷺ إلى سؤال البائع عن البلل الحاصل قبل أن يتَّهمَه بشيءٍ من الغِشِّ؛ إذ ربما لم يعلم به البائع. فيجدر بنا أن نستبين الأمورَ قبل الحكم على ظواهرها.

  4. (2) على الباعة أن يتعاهدوا بضائعهم بين الحين والآخر، ليروا إن طاله فسادٌ أو ضررٌ أو غير ذلك.

  5.  (3) يجب على المسلم أن يكون صادقًا في بيعه وشرائه وجميع تعاملاته، ويحذر أن يأكل حرامًا؛

    فقد قال ﷺ:

    «إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ»

    [3].

  6. (3) إياك والتدليس في البيع؛ فإنه سبيلٌ إلى الخسران ومحق البركة في الرزق،

    قال ﷺ:

    «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»

    [4].

  7. (3) كان جريرُ بنُ عبد الله رضي الله عنه إذا قام إلى السِّلعة يَبيعُها، بصَّر عيوبَها ثم خيَّره، وقال: "إنْ شئتَ فخُذْ، وإنْ شئتَ فاترك. فقيل له: إنك إذا فعلتَ مثلَ هذا لم يَنفُذ لك بيعٌ، فقال: إنا بايعْنا رسول الله ﷺ على النُّصح لكلِّ مسلم [5].

  8. (3) على المسلم أن يحرص على تحرِّي الحلال في طعامه وشرابه؛ فإنَّ الأعمالَ لا تُقبل مع أكل الحرام؛ قال وهب بن الورد رحمه الله: "لو قُمْتَ مَقامَ هذه السارية، لم ينفعك شيء حتى تَنْظُر ما يدخل بَطْنَك حلال أو حرام" [6].

  9. (4) ليعلمْ كلُّ غاشٍّ آكلٍ للحرام أنه لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، منها: «وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟» [7]. فكيف تُجيب ربَّك حينئذ؟!

  10. (4) كيف ترجو إجابة الدعاء أيها الغاشُّ الذي يأكل أموالَ النَّاسِ بالباطل، وقد ذكَر النبيُّ الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!» [8].

  11. (4) الأَوْلَى في مثل الأحاديث التي فيها "ليس مني" و"ليس منا" ونحو ذلك تركُها على إطلاقها من غير تفسيرٍ؛ فإنَّ ذلك أشدُّ ردعًا وزجرًا للنَّاس.

  12. (4) قال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يزال الرَّجل يزداد في صحَّة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غشَّه سلبه الله نُصحه ورأيَه [9]. 

  13. قال الشاعر:

فَيَا بائعًا بالغِشِّ أَنْتَ مُعَرَّضٌ = لِدَعْوَةِ مَظْلُومٍ إلى سامِعِ الشَّكْوَى

فَكُلْ مِنْ حَلالٍ وَارْتَدِعْ عَنْ مُحَرَّمٍ = فَلَسْتَ عَلَى نارِ الجَحِيمِ غدًا تَقْوَى

14. وقال غيره:

قل للذي لَسْتُ أَدْرِي مِنْ تَلَوُّنِه = أناصِحٌ أم على غِشٍّ يُدَاجيني

إني لَأَكْثَرُ مِمَّا سُمْتَني عَجَبًا = يَدٌ تَشُجُّ وأخرى مِنْكَ تَأْسُوني

تَغْتَابُني عِنْدَ أقوامٍ وتَمْدَحُني = في آخَرِينَ وكلٌّ عنك يأتيني

هَذَانِ أَمْرَانِ شَتَّى بَوْنُ بَيْنِهِمَا = فَاكْفُفْ لِسَانَكَ عِنْ ذَمِّي وتَزْيِيني


المراجع

1. رواه الترمذي (1210)، وابن ماجه (2146).

2. رواه البخاريُّ (7150)، ومسلم (227). 

3. رواه الترمذي (612).

4. رواه البخاري (2079)، ومسلم (1532).

5. رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى - متمم الصحابة" (ص 803)، والطبرانيُّ في "الكبير" (2510).

6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).

7. رواه الترمذيُّ (2417).

8. رواه مسلم (1015).

9. "الذريعة إلى مكارم الشريعة" للراغب الأصفهانيِّ (ص 211).





فقهٌ:

1. يخبر النبي ﷺ عن ربه عز وجل: بأنه يطرد من رحمته أشخاصًا متعددين اشتركوا في جريمة واحدة.

2. وهو في هذا الحديث يخبر بلعن آكِل الرِّبا، وهو الذي يأخذ المالَ من النَّاس في التعاملات الربوية، وسواء استعمله في أكل الطعام أو أي استهلاك.

والربا زيادةٌ يأخذها أحدُ المتعاقدين في مقابلة مالٍ بمالٍ بلا عوض، كأن يُقرض إنسانٌ أو مصرفٌ أو متجرٌ إنسانًا ألفًا؛ على أن يأخذها بعد شهرٍ ألفًا ومائتين، أو يشترط عليه بأن التأخير عن موعد السداد فيه غرامة مالية، أو يشتري سندًا ماليًا كتب عليه ألف ومائتان يحصِّله في تاريخ كذا، وهو لم يدفع إلا ألفا، ولها أنواع وصور أخرى، وقد تسمى في التعاملات المالية باسم الفوائد، أو غرامات تأخير، أو غيرها.

3. كما أن اللعنة أيضا تلحق من يعطى الزيادة الربوية، وهو المتعاقد الذي رضي بأن يدفع المال الزائد مقابل التأخير ونحوه، فهو قد أعان على أكلِ الرِّبا، وفي الغالب أنها ليست ضرورة تتوقف عليها حياة الناس، بل أكثرها لتحسين مسكن أو مركب أو غيرها.

والربا قد يكون زيادة المال النقدي وقد يكون بغيره؛ كأن يعطيه هدية ويقول: أقرضني ألفًا؛ فحتى لو رد عليه ألفًا تمامًا فقد زاد الهدية.

4. كما يخبر  بلعن الكاتبِ الذي يكتب عقدَ التعامل الرِّبوي، أو يُسهم في كتابته؛ سواء كتبه باليد، أو بالآلة، أو بتصميم الوثائق، أو بإدخال البيانات، أو نغير ذلك

5. وكذلك لعن الشاهدَين اللذين يشهدان لإثبات حقُّوق المتعاقدين،

6. وأخبر أنهم كلهم سواء في حصولهم على  اللعنة، لأنهم يتعاونون على الإثم والعدوان، وقد نهى اللهُ تعالى عن ذلك،

فقال سبحانه:

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}

[المائدة: 2].

اتباع:

1. كلنا نحتاج إلى رحمة الله تعالى، وكلنا يتوسل إلى الله تعالى أن يرحمه، فمتى ما سمعت أمرًا لعنه الله أو لعن صاحبه فاهرب منه.

2. قد يتسخط بعضهم على القدر، أو لتألمه وتأخر إجابة الله تعالى لدعائه، ويوسوس في نفسه لِم لمْ يرحمني الله؟ مع أنه ربما كان واقعًا في أنواع توجب اللعنة والطرد من رحمة الله تعالى ولا يبالي.

3. يغترَّ الإنسان، فيتساهل في الرِّبا ، مع أن الربا من المُوبقات [1]، فهي تهلك ماله ودنياه وأخراه، فلا تطع من يدعوك للرّبا؛ سواء كان صاحبًا تاجرًا، أو تقريرًا اقتصاديًا، أو إعلانًا مبهرجًا، فإنَّ الله تعالى ينزع البركةَ من مالِ المُرابي، 

قال سبحانه:

 {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}  

[البقرة: 276].

4. الربا محرم ومعلون كل مشارك فيه، فلا يجوز المشاركة في أي عقد ربوي، حتى لو قال المقترض مثلاً : "إني أستطيع أن أرد المبلغ في الوقت المحدد بدون ربا"، لأن نفس كتابة العقد محرم، ولعن الله كاتبه.

5.احرص على ألَّا تكسب إلا المال الحلال؛ فإنَّ أكل الحرام يحول بين العبد وبين إجابة الدُّعاء. وفي الحديث أن النبيَّ  ذكَر الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!» [2].

6. حرص السَّلفُ رضوان الله عليهم على إطابة المطعم، وتحذير النَّاس من أكل الحرام؛ قَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ رحمه الله: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام" [3]، وسُئل الإمامُ أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله: بمَ تَلين القلوب؟ ثم أطرَقَ ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: "بأكل الحلال" [4].

7. 

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبا»

[5]

8. إن اللهَ سبحانه إذا حرَّم شيئًا حرَّم ثمنَه، والمعاونةَ عليه، وشهودَه من غير إنكارٍ على فاعلِه، فلا تسهم في معصية حتى لو قلتَ: إني لم أعملها.

9. إذا كنتَ تتعاملُ بالرِّبا وأردتَ التوبة، فأعد الزيادة الربوية إلى أربابِها، ولا تأخذ غير حقِّك المشروع؛ فإن ردَّ المظالم شرطٌ في التَّوبة.

10. إذا كان هناك من يتعامل بالرِّبا، فينبغي نُصحُه ودعوتُه إلى الحقِّ، وربما ينفع معه هجرُ التعامل معه تأديبًا وزجرًا له، ومنه البنوك التي لها تعامل ربوي وتعامل إسلامي، ولكن لا بأس أن يتعامل بشيءٍ مباحٍ لا يوجد عند غيره، أو يصعب حصولُه من غيره؛ فقد تعاملَ النبيُّ  مع اليهود وباع واشترى منهم، وهم أهلُ الرِّبا.

11. قال الشاعر:

رَأَيْتُ حَلالَ الْمَالِ خَيْرَ مَغَبَّةٍ = وَأجْدَرَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْحَدَثَانِ

وَإِيَّاكَ وَالْمَالَ الْحَرَامَ فَإِنَّهُ = وَبَالٌ إِذَا مَا قُدِّمَ الْكَفَنَانِ

المراجع 

1. لحديث: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَأَكْلُ الرِّبَا...» الحديث، رواه البخاري (6857)، ومسلم (89).

2. رواه مسلم (1015).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).

4. "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزيِّ  (ص 269).

5. رواه البخاريُّ (2085).


فقهٌ

لمَّا كانت حياةُ الناس قائمةً على البيع والشِّراء، حتى إنَّ حياتَهم لا تَستقيم بدونها، نظَّم الإسلامُ أحكام ذلك، فجعَل الأصلَ في البيوعِ الإباحة، إلا ما دلَّ الدليلُ على تحريمه لفسادِه أو دُخولِ الجَهالةِ أو الربا فيه.

1. ومن تلك البيوعِ التي حرَّمها اللهُ سبحانه بيعُ الحصاة، وهو بيعٌ كان متداولًا في الجاهلية، وله صُوَرٌ متعددة؛ منها أن يقول البائعُ: بِعتُك مِن هذه الأرض مِن هنا إلى حين تَنتهي الحصاةُ، ثم يَرمي بالحصاة، ومنها أن يكون البيعُ بالخيارِ إلى حين تَسقُط الحصاةُ مِن يدِ المشتري، ومنها أن يَرمي حصاةً على قطيعٍ من غَنَمٍ، وأيَّ شاةٍ أصابتها الحصاةُ وقَع عليها البيع، ومنها أن يَقبِض على الحصى ويقولَ: لي بكلِّ حصاةٍ درهمٌ ثمنًا للسِّلعة. إلى غير ذلك من الصور التي يتضمَّنها جميعًا الجهالةُ والخَطَر وأكْلُ أموال الناس بالباطل.

2. وحرَّم كذلك بيعَ الغَرَر، وهو كلُّ بيعٍ كان المقصودُ منه مجهولًا غيرَ معلوم، أو كان غيرَ مَقدورٍ على تَسليمه؛ كبيع السَّمَك في البحر، وبيعِ جَنِين الحيوانِ في بطْنِ أمِّه، وبَيع اللَّبن في الضَّرع. فكلُّ ذلك من الغَرَر المنهيِّ عنه لِما فيه من الجَهالة؛ فالسَّمَك لا يُدرى عددُه ولا حجمه، وربما عجَز المرءُ عن صيدِه، والجنينُ لا نَعلم أيخرُجُ حيًّا أم ميتًا، كاملًا أم ناقصًا، واللَّبنُ في الضَّرْع لا يُدرى صِحته من فسادِه، ولا يُعلَم وزنُه. وبيعُ الحصاةِ من بيوعِ الغررِ، إلَّا أنَّ النبيَّ ﷺ أفردَه بالذِّكر لكثرةِ وقوعِه في الجاهلية.

على أنَّ الشرعَ أحلَّ بعض البيوع التي فيها غَررٌ يسيرٌ لأجل الحاجة، فإنْ لم يكُن للبائعِ والمشتري حاجةٌ فلا يجوزُ البيعُ، وإن كان الغررُ كبيرًا لم يَجُزْ كذلك. فمِن الغرَرِ اليسيرِ أن يَبيع الشاةَ بولدِها في بطنِها، وأن يبيعَها باللبنِ في ضَرعِها، وأن يشتريَ الرجلُ شربةً ماءٍ بدِرهم مثلًا، مع اختلاف حاجاتِ الناسِ إلى الماء، فربما يَشربُ رجلٌ أكثر من رجُل. فلمَّا كان الغررُ يسيرًا وللناسِ في تلك البيوع حاجةٌ جاز ذلك [1].

اتباعٌ

  1. (1) على المسلم أن يهتمَّ بمعرفة ما يحِلُّ ويَحرُم من البيوع؛ حتى لا يقع في البيوع المحرَّمة ويأكلَ أموال النَّاس بالباطل.

  2. (1) يَدخل في بيعِ الحصاةِ الآن بعضُ الألعاب المحرَّمةِ التي تَعتمد على أن يرمي الرجلُ عُملةً مَعدنيةً نحو شيءٍ معيَّن، فإن أصابه فاز به، وإن أخطأه خَسِر.

  3. (1) احرِص أن يكون بيعُك وشراؤك صحيحًا شرعًا؛ فيكون الشيءُ معلومًا، وثمنُه معلومًا، وأجلُه – إن لم يكن يدًا بيد – معلومًا.

  4. (2) الأصل في البيوع الحِلُّ، إلا أنَّ الحُرمةُ قد تتطرَّق للبيع من إحدى ثلاثة أمور: الأول: حُرمة العين كبَيع الميتة والخنزيرِ والخَمر ونحوها، الثاني: الغرَر لجهالة شيءٍ في المبيع أو الثَّمن أو عدم القدرة على تسليمِه، الثالث: وقوعُ الرِّبا في البيع. فاحرِص على أن يَخلو بيعُك وشراؤك من تلك الأمور.

  5. (2) مِن صُوَر بيع الغرر المنتشِرة: بيع ما لم تَرَه، وهو أن يشتري الإنسانُ شيئًا لم يَرَه ولم يتحقَّق مِن مُواصفاته.

  6. (2) مِن صُوَر بيع الغرر أن يشتري الإنسانُ شيئًا مجهولًا؛ كأن يشتري ثوبًا من أثواب، بأن يرى أثوابًا مختلِفةً يَشتري منها واحدًا لا على التعيينِ، بل حسَبِ ما يخرُج له في اختيار عشوائي.

  7. (2) من أكثر صُوَر بيعِ الغرَرِ المنتشرة الآن: صناديقُ الهدايا المجهولة، وهو أن يَشتري الإنسان صندوقًا بمبلغٍ معيَّنٍ، ولا يدري ما فيه.

  8. (2) من صُوَر بيع الغرَرِ المنتشرة: أن يَشتري الطفلُ كِيسًا فيه هديةٌ لا يَدري ما هي، وربما لم يكن فيه شيءٌ، وهو ما يُسمى بالبخت أو ورَقِ الحظ.

  9. (2) مِن أبرز صُوَر بَيع الغرَرِ المنتشِرة: أن يبيعَ الرجلُ محصولَ أرضه لسِنينَ قادمة.

  10. قال الشاعر:

وَفِي النَّاسِ مَن ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ = وَيَنْشُرُ أَعْذارًا بها يَتَأوَّلُ

جَرِيءٌ على أَكْلِ الحرامِ ويدَّعِي = بأنَّ له في حِلِّ ذلك مَحْمَلُ

فَيَا آكِلَ الْمَالِ الحرامِ أَبِنْ لَنَا = بأيِّ كتابٍ حِلُّ مَا أَنْتَ تَأكُلُ؟

ألمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بما جَرَى = وبينَ البَرايَا في القِيامةِ يَفْصِلُ




المراجع

1. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).


فقهٌ

1. يُخاطِب النبيُّ ﷺ فئة الشباب لأنَّهم مَظِنَّةُ الشهوةِ بخلاف الشيوخِ، فيَندُبُهم إلى المسارَعة إلى النكاح، وذلك لمن قَدَرَ على تكاليفه ومُتطلَّباته؛ فإنَّه أشدُّ حفظًا للبصر من النظَر للشهوات والمحرَّمات، فيَنشغِل بذلك عمَّا ينفعه في دُنياه وآخِرته، كما أنَّه أصوَنُ للفرْجِ وأَمْنَعُ له من الوقوع في الزِّنا، والعياذُ بالله.

2. فإنْ لم يَستطَعِ الشابُّ الزواجَ لفقره وحاجته، فعليه أن يَستعفِفَ ويحفظَ بصرَه وفَرْجَه إلى أن يشاء اللهُ تعالى؛

لقوله عزَّ وجلَّ:

 {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}

 [النور: 33].

وأكثرُ ما يُعِين الشابَّ على ذلك الصيامُ؛ فإنَّه وِقايةٌ للمسلم من الوقوعِ في الحرام؛ حيث يَكسِر في نفسه الشهوةَ ويُطفئها، فلا يَنشغِل بما يُثِيرها.

وقد استنبط العلماءُ أنَّ النَّاسِ في أمرِ النِّكاح مختلِفون إلى أربعة أقسام؛ الأول: تَتُوق نفسُه إلى النِّكاحِ ويَجِد مُؤنتَه، فهذا يُستحَبُّ له النكاح، والثاني: لا تَتُوق نفسُه إليه ولا يَجِدُ مُؤْنته، فهذا يُكرَه له ولا يُندَبُ إلى الصَّوم، والثالث: تَتُوقُ نفسُه إليه ولا يَجِد المؤنة، فهذا الذي يُندَبُ إلى الصَّوم لدَفعِ التَّوَقان، والرابع: لا تَتُوقُ نفسُه ويَجِد المُؤنة، فهذا اختلَف الفقهاءُ في حقِّه أيهما أفضلُ له: التخلِّي للعبادة وطلبِ العلم أو النكاح [1].

وقد وجَّه النبيُّ ﷺ الخِطابَ للشباب بناءً على الغالب؛ لأن أسباب قوةِ الداعي إلى النكاح مَوجودةٌ فيهم بخلاف الشيوخ، والمعنى مُعتبرٌ في الشيوخِ والكهولِ إذا تحقَّقَ فيهم ذلك أيضًا [2].

اتباعٌ

  1. (1) يجِبُ على الداعية والمُعلم والمُرَبِّي أن يهتمَّ بقضايا الشباب، ويوجِّههم لِما فيه صلاحُهم.

  2. (1) السعيُ في تزويج الشبابِ غيرِ القادر من أفضل الطاعات، وقد أمر اللهُ تعالى بذلك فقال:

    {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

    [النور: 32].

  3. (1) حِفظُ الفرْجِ وغضُّ البصرِ من أوجب الواجبات على المسلِم، فلا يجوز للمسلم أن يُطلِقَ بصَرَه وفَرْجَه.

  4. (1) من أفضل الأمور في تَقَبُّل الأحكام أن يَذكُر الفقيهُ عِلَّةَ الحكمِ وسَببَه والحكمةَ منه؛ ألا تَرى أن النبيَّ ﷺ حين شَرَع النكاح أخبر أنَّه أغضُّ للبصر وأحصن للفرْجِ؟! فعلى الداعيةِ والفقيه والمفتي أن يَذكر أدلةَ الأحكامِ والحكمةَ منها إن عُرِفت.

  5. (1) قيَّد النبيُّ ﷺ الزواجَ بالمقدرةِ عليه، وتَشمل القدرةَ الجسميةَ على الجِماع، والقدرةَ الماديةَ على تكوينِ الأسرةِ والإنفاق عليها. فمَن لم يَجِد في نفسه القدرةَ على ذلك فلا يُقدِمْ على الزواج.

  6. (1) الحكم الشرعيُّ للنكاحِ يدورُ حول الأحكامِ الخمسة؛ فقد يكون واجبًا إذا كان المسلمُ قادرًا على النكاح، ويخافُ على نفسه من الوقوع في الحرام، وقد يكون مندوبًا إنْ أمكنه ذلك وكان قادرًا على ضبط نفسه، ويكون مكروهًا إذا كان الشخص غيرَ محتاج إليه؛ كأن يكون كبيرًا، أو مريضًا لا شهوة له.

  7. (2) إذا عجَز الإنسانُ عن الزواج لفقرِه وحاجته، وجَب عليه الاستعفافُ؛

    لقوله تعالى:

    {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}

    [النور: 33]،

    وقد وعَد اللهُ سبحانه بإعانةِ المسلمِ على تكاليفِ النكاح، قال ﷺ: «ثلاثة حقٌّ على الله عزَّ وجل عَوْنُهم: المُكاتَبُ الذي يُريد الأداء، والناكحُ الذي يُريد العفاف، والمجاهدُ في سبيلِ الله» [3].


المراجع

1. ينظر: "شرح النووي على مسلم" (9/ 174).

2. ينظر: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (2/ 169).

3. رواه الترمذيُّ (1655)، والنسائيُّ (3120)، وابن ماجه (2518).




فقهٌ

يَذكر النبيُّ ﷺ أسباب النَّاس غالبًا في اختيارِ الزوجات؛ فمنهم مَن يختارُ المرأةَ الغنيَّةَ التي تُغنِيه وتُغني أولادَه، ولا تُرهِقه بمطالَبِها ونفقاتها، ومنهم مَن يختار المرأةَ الحسِيبة النَّسِيبة ليَشرُف بمُصاهرةِ آبائها وأقاربِها، ومنهم مَن يختار المرأةَ الجميلةَ التي تَسُرُّه إذا نظَر إليها، ومنهم مَن يختار المرأةَ الدَّيِّنةَ التي تَحفَظه في أهله ومالِه. ثُمَّ أرشد ﷺ إلى ضرورة الفَوزِ بذاتِ الدِّين، فإنْ لم تَفعَل التَصَقت يَداك بالتُّراب، وذلك كِناية عن الفقر والخَيبة.

وليس معنى ذلك أنَّ المسلمَ عليه أن يختارَ الدَّيِّنةَ الفقيرة أو الدَّمِيمة أو وَضِيعة النسَب، وإنَّما عليه أن يكون معيارُه الأول هو الدِّين؛ فإن وجَد امرأةً دَيِّنَةً غنيَّةً نَسيبةً جميلة فهي الغايةُ التي لا وراءها غايةٌ، وإلَّا فالمرأةُ الفقيرة الدَّيِّنَة خيرٌ مِن الغنيَّة غيرِ الدَّيِّنة، والدَّيِّنةُ غير النَّسيبةِ خيرٌ من النَّسِيبة غيرِ الدَّيِّنة، والدَّيِّنة غيرُ الجميلة أفضلُ من الجميلة غيرِ الدَّيِّنة. 

ولهذا نَدَب ﷺ المسلمين إلى زَواج المرأة الصالحة،

فقال ﷺ:

«الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»

[1]،

وَقِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ:

أَيُّ النِّسَاءِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «الَّتِي تَسُرُّهُ إِذَا نَظَرَ، وَتُطِيعُهُ إِذَا أَمَر، وَلَا تُخَالِفُهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا بِمَا يَكْرَهُ»

[2].

فالمرأة الصالحة تُطِيعه وتخاف اللهَ سبحانه فيه، وتَحفَظ عليه عِرضه، وتُحسِن تَنشئةَ أولاده، وتتَّقي اللهَ تعالى في أهله وماله، وتُعِينه على طاعة الرحمن جلَّ وعلا.

اتباعٌ


  1. على المسلم أن يتخيَّر المرأةَ الصالحة الدَّيِّنة؛ فهي التي تُطِيعه وتسُرُّه وتُرضي اللهَ تعالى عنه؛

    قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

    «أَرْبَعٌ مِنَ اَلسعَادَةِ: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الوَاسِعُ، وَالجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الهَنِيءُ، وَأَرْبَع مِنَ الشَّقَاوَةِ: الْجَارُ السُّوءُ، والمرأة السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضيقُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ»

    [3].

  2. ينبغي على كل امرأةٍ أن تُحسِن التَّبَعُّل لزوجِها، وتتَّقي اللهَ تعالى فيه وفي أهله،

    قال ﷺ:

    «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ»

    [4].

  3. في هذا الحديثِ الحثُّ على مصاحَبة أهلِ الدِّين في كلِّ شيء؛ لأنَّ صاحبَهم يَستفيدُ من أخلاقِهم وبَرَكتهم وحُسنِ طَرائقهم، ويَأمَن المفسَدةَ من جِهتِهم [5].

  4. كما أرشد النبيُّ ﷺ إلى اختيار الزوجة الصالحة، فقدْ أرشد كذلك إلى تزويجِ الرجل الصالح وإنْ كان فقيرًا وضيعَ النَّسب؛ 

    قال ﷺ:

     «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» 

    [6]. 

  5. قال الشاعر:

أخَا الْإِسْلَامِ ذَاتُ الدِّينِ أَضْحَتْ = تُؤَمِّلُ فِيكَ زَوْجًا لِلسُّكُونِ

إِذَا خَيَّبْتَهَا فِي نَيْلِ زَوْجٍ = أَمِينِ الْعَهْدِ لِلْحُبِّ الْمَصُونِ

سَيَطْلُبُ وُدَّهَا زَوْجٌ لَئِيمٌ = يَخُونُ الْعَهْدَ ذَا سَبَبُ الْفُتُونِ




المراجع

1. رواه مسلم (1467).

2. رواه النسائيُّ (3131).

3. رواه ابنُ حبَّانَ في "صحيحه" (1232).

4. رواه أحمد (1664).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 51، 52).

6. رواه الترمذي (1084)، وابن ماجه (1967).




فقهٌ

1. بينما رسولُ اللهِ ﷺ في حجرة عائشةَ رضي الله عنها، إذ سَمِعتْ عائشةُ صوتَ رجلٍ يستأذن للدخول على حفصةَ رضي الله عنها، فأخبرتْ عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ ﷺ بذلك، فقال لها ﷺ: أظنُّه فلانًا، وذكر اسمَ عمِّ حفصةَ من الرَّضاعة. وفي قوله ﷺ ذلك تجويزٌ لدخولِه عليها، وإلا لَأنكَرَ عليه ذلك وقام إليه ومنعه.

2. فلمَّا سَمِعت أمُّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها ذلك، قالت: لو كان عمِّي فلانًا -وذكرتْ اسمَه- حيًّا، أكان له أن يَدخُل عليَّ ويَخلو بي فيكون له حكمُ العمِّ من النَّسب؟ فأخبرها ﷺ بأنَّ الرَّضاعة تُحَرِّم ما يُحَرِّمُ النَّسب.

وفي حديثٍ آخَرَ

عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت:

اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لا آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي؟ عَمُّكِ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ»

[1].

وقد أجمع الفقهاءُ على أنَّ الرَّضاع يُحرِّم ما يحرِّم النَّسبُ [2]، وعُرضت ابنةُ حمزةَ ﷺ على النبيِّ ﷺ فقال:

«لا تَحِلُّ لِي؛ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»

[3].

إلَّا أنَّه يُشترَط في ذلك أن يكون رَضاعًا في فترة الرَّضاع، فلا تتحقَّق الحرمةُ بالرضاع الحاصلِ بعد الفطامِ؛

فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ:

دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي رَجُلٌ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، مَنْ هَذَا؟»، قُلْتُ: أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ؛ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ»

[4].

ولا يَحصُل التحريم بمجرَّد المصَّة والمَصَّتين، بل إذا رضَع الصبيُّ خمسَ رضعات، يَلتقِم الثديَ في كلِّ مرَّةٍ فيَشرَب منه ثم يَدَعه باختياره، فهذه مرَّةٌ وإن قصُر وقتُها [5]؛

لقول أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها:

«كان فيما نزَلَ مِنَ القُرآنِ: عَشْرُ رَضَعاتٍ مَعلوماتٍ يُحَرِّمْنَ، ثمَّ نُسِخْنَ بخَمسٍ مَعلوماتٍ، فتُوفِّيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهُنَّ فيما يُقرأُ مِنَ القُرآنِ»

[6].


اتباعٌ

  1. (1) لا يجوز للمرأة أن تأذَن لأحدٍ بدخول البيت من غير إذنِ زوجِها، ولهذا أخبَرت عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ ﷺ باستئذان رجلٍ على حَفصة رضي الله عنها.

  2. (1) إذا كان الصحابةُ رضوان الله عليهم لا يجوز لهم الدخول على النساءِ والخَلْوة بهنَّ، وهُم أطهرُ النَّاس وأفضلهم بعد الأنبياء، فكيف بغيرِهم من سائرِ النَّاس؟

  3. (1) لا يجوزُ للمرءِ أن يَتشدَّد في دِين اللهِ عزَّ وجلَّ إلا لحاجةٍ؛ فمتى كان الرجلُ مَحْرَمًا للمرأة لم يَمنَعْه من الدخول عليها ومصافحتِها والسَّفرِ بها ونحوِ ذلك، إلا أن يُرتابَ في دِينِه وخُلُقه؛ فالنبيُّ ﷺ لم يَمنَعِ الرجلَ من الدخول على حفصةَ ولا غَضِب من ذلك.

  4. (1) لا يجوزُ للرجُل أن يَدخُل على امرأةٍ من مَحارِمِه من غير استئذانٍ، ولو كانت أختَه أو أُمَّه.

  5. (2) أقوالُ النبيِّ ﷺ الأصلُ فيها العموم والتشريع، إلا ما دلَّ الدليلُ على أنَّه خاصٌّ به أو بالمخاطَب؛ فلمَّا سَمِعت عائشةُ رضي الله عنها إذنَه ﷺ لعمِّ حفصةَ رضي الله عنها ظنَّت أنَّ ذلك خاصٌّ بها، فسألتْه عن عمِّها من الرَّضاع، فأخبرها ﷺ أنه لو كان حيًّا لَمَا منَعه من الدخول عليها.

  6. (2) على الرجل أن يَتعاهدَ أهلَه ويُعَلِّمَهُم أمورَ دينهم، ويُبيِّن لهم ما يحتاجون إليه من الأحكام. 

  7. (2) لا يجوز التساهُل في مسائل الرَّضاع والإذنِ في الدخول والخَلْوة والسفر ونحو ذلك، بل يجِبُ على المسلمِ أن يَتبيَّن ويتأكَّد من ذلك؛ فليس كلُّ رضاعٍ مُحَرِّم؛ إذ يُشترَط فيه أن يكون في فترة الرَّضاع، وأن تكونَ الرضعاتُ خمسًا يَحصُل بها بعضُ الشِّبع، ولهذا قال ﷺ لعائشةَ رضي الله عنها: «انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ» [7].

المراجع

1. رواه البخاريُّ (4796)، ومسلم (1445).

2. قال ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 82): وأجمعوا على أنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب.

3. رواه البخاري (2645)، ومسلم (1447).

4. رواه البخاري (2647)، ومسلم (1455).

5. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (34/57)، "سبل السلام" للصنعاني (2/311).

6. رواه مسلم (1452).

7. رواه البخاري (2647)، ومسلم (1455).



فقه

1. يُخبِر النبي ﷺ أنَّ إبليس يَنصِب عرْشَه على الماء، ثم يرسل جنودَه وأعوانَه لإغواءِ النَّاس وإضلالِهم وصدِّهم عن سبيل الله تعالى، وأقربُهم منه منزلةً أشدُّهم فتنةً وأعظمُهم أثرًا على عباد الله، فإذا انتهَت مَهَمَّةُ كلُّ واحدٍ منهم، جاؤوا إليه فأخبروه بما فعَلوا، فيقول أحدُهم: ما تركتُ ابنَ آدم حتَّى سَقَيته خمرًا، ويقول آخَرُ: ما تركْتُه حتى أوقعتُه في الزنا، ويقول آخرُ: حملتُه على منع زكاة ماله، ويقول آخر: حملته على السرقة... فيُحَقِّر إبليسُ أفعالَهم تلك، ويُخبرُهم أنَّهم لم يَصنعوا شيئًا ذا بالٍ.

2. ثم يأتي أحدُهم فيقول: ما تركتُ ابنَ آدم حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيُسَرُّ إبليسُ بذلك جدًّا، ويُقرِّبه من مَجلسِه، ويمدحُه بقوله: نِعْم أنتَ؛ أي: نِعْمَ الشيطانُ أنت؛ فأنت الذي جِئتَ بالأمر العظيم، وأنت الذي أغنيتَ عنِّي، وأنت صاحبُ المنزلة عندي.

وإنما حَظِيَ ذلك الشيطانُ عند إبليسَ بتلك المكانةِ لِمَا للتفريقِ بين الزوجينِ من الشرِّ والأذى؛ فبِهِ تحصُل الضَّغينة، وتقعُ العداوة والشَّحناء بين الزوجين وأهليهما، ويتشرَّد الأطفال وتَسُوء أخلاقهم وأفعالهم نتيجةَ التفكُّكِ الأُسَري، كما يكثُر بذلك الوقوعُ في الفاحشة التي هي أعظمُ الكبائر فسادًا وأكثرها مَعَرَّةً [1].

اتباع

  1. (1) إبليسُ - لعنه الله – أشدُّ أعداءِ ابن آدم، بارزه بالعداوةِ مُذ أمَره اللهُ تعالى بالسجود له، فأبى،

    وقال:

    {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}

    [الأعراف: 12]،

    وتوعَّد بغوايةِ بني آدم جميعًا، فقال:

    {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}

    [الأعراف: 16، 17].

    فالحذرَ الحذرَ من كَيدِه وإغوائه وفِتنتِه.

  2. (1) طُرق الشيطان في الإضلال كثيرة؛ فمنها الوَسْوسةُ، والتحريشُ بين النَّاس والإيقاع بينهم، وتَزيينُ المعصيةِ، والغضبُ، والتعصُّبُ، والعجَلةُ، والتكاسلُ ... إلى غيرِ ذلك. فعلى المسلِم أن يكونَ يَقِظًا لحِيَلِه، مُستعيذًا باللهِ تعالى منه، وقد أخبر سبحانه أنَّ الاستعاذةَ منه تَرُدُّ عن المرءِ ما يَجِده مِن وَساوسه ونَزغاته؛

    قال سبحانه:

    {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}

    [الأعراف: 200، 201].

  3. (1) الملجأُ للعبدِ مِن وَساوس الشيطان هو الدخولُ في طاعةِ اللهِ تعالى والاحتماء بحِصنه الحَصين؛ قال قتادةُ السَّدوسيُّ رحمه الله: "أتاك الشيطانُ يا ابنَ آدمَ من كلِّ وجه، غيرَ أنه لم يأتِكَ من فَوقِك؛ لم يَستطِعْ أن يَحُول بينك وبين رحمةِ الله" [2].

  4. (2) احذَرْ؛ فمُرادُ إبليسَ وأعوانِه هدمُ البيتِ المسلِم.

  5. (2) يَنجُم عن التفريقِ بين الزوجينِ شرٌّ كبيرٌ؛ منها: حصولُ الضَّغينة والعداوة بين الأهل، وانتشار الزِّنا الذي هو أعظم الكبائر فَسادًا وأكثرها مَعَرَّةً، فضلًا عمَّا يُصِيب الأبناءَ من الضرر الماديِّ والمعنوي، وما قد يَترتَّب عليه من فسادِ الأخلاق وسُوء التربية؛ ولهذا عَظُمَ سرورُ إبليسَ اللعينِ به.

  6. قال الشاعر:

يَا مُنْزِلَ الآيَاتِ وَالفُرْقَانِ = بَينِي وَبَيْنَكَ حرْمَةُ القُرْآنِ

اشْرَحْ بِهِ صَدْرِي لمعرِفَةِ الهُدَى = وَاعْصِمْ بِهِ قَلبِي مِنَ الشَّيطَانِ

واحطُطْ بِهِ وِزْرِي وَأخْلِصْ نِيَّتِي = وَاشدُدْ بِهِ أَزْرِي وأَصْلِحْ شَانِي

واكْشِفْ بِهِ ضُرِّي وحقِّقْ تَوبَتِي = أرْبِحْ بِهِ بَيْعِي بِلَا خُسْرَانِ

طهِّر بِهِ قَلْبِي وصَفِّ سَرِيرَتِي = أجمِلْ بِهِ ذِكْرِي وَأَعْلِ مكَانِي

7. وقال غيره:

وأَثنَتْ علَى اللهِ نَفسُ الشَّكُورِ = ولم يُنسِها الأمنُ أحوَالَهَا

وكم أنفُسٍ جَحَدت رَبَّها = ومرَّتْ تُجَرِّرُ أذيَالَها

وساوِسُ شيطَانِهَا استحْوَذَتْ = علَيهَا من الوَهْمِ فاجتالَها

فيَا وَيْلَهَا أنفُسًا بالجُحُودِ = تُقَابِلُ أنعُمَ من عَالَها

وَتَتْبَعُ أوهَامَهَا البَاطِلاتِ = وتَعبُدُ بالذُّلِّ مُغتالَها


المراجع

1. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).

2. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 103).



فقهٌ

  1. كان ابن عمر شابًا في حياة النبي ﷺ ، فتزوّج، ثم طلق زوجته وهي في وقت الحيض طلقة واحدة.

  2. فذهب أبوه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى النبيِّ يخبره أنَّ ابنَه عبدَ اللهِ رضي الله عنه طلَّق امرأته في حيضتها؛ ليعلم حكم الشرع في ذلك.

  3. فغضب النبيُّ لمخالفته السُّنَّة.

  4. وقال لعمر رضي الله عنه: قل له: عليك أن تُرَاجعها، حتى إذا طَهُرت من حيضتها، فعليك أن تنتظر حيضة أخرى، ثم تنتظر طهرًا آخر -ولا يجامعها في كل ذلك الوقت إذا كان يريد طلاقها-،

  5. ثم بعد ذلك ستكون في وقت طهر لم تجامعها فيه، ففي هذه الحال: فإن شئتَ طلَّقتها قبل أن تجامعها، وإن شئتَ أمسكتَها ولم تُطَلِّقها.

  6. وهذا ما شرعه اللهُ تعالى عند الحاجة للطلاق.

  7. وهناك رواية أخرى وضحت أن الطلاق الجائز إما أن يكون في طُهرٍ -أي لم يجامعها فيه كما سبق-، أو في حال حمل المرأة -حتى لو جامعها فيه- كما دلت عليه أدلة أخرى، لأن الحامل لا تحيضُ، وتستمر عدة الطلاق حتى وضع الحمل. 

والحكمةُ في تأخير الطلاق إلى طُهرٍ لم تُجامع فيه أنَّه رُبَّما كانت المرأةُ حاملًا فيندم الرجلُ على طلاقها، وأنَّ في التأخيرِ إمهالٌ له حتى يتأنَّى ويتريَّث ولا يبادر في الطلاق لغضبٍ ونحوه [1].

اتباع

  1. إذا أصابك شكٌّ في فعلٍ فعلتَه أو تريد فعله، فعليك باستشارة أهل العلم؛ وسواء كان ذلك في أمور العبادات أو المعاملات.

  2. يجوز للرجل أن يبعث من يستفتي بدلًا منه إذا كان المُرْسَلُ يُحسن الإبلاغَ والفهم، ولهذا أرسل عبدُ اللهِ أباه رضي الله عنهما.

  3. يجوز للداعية والفقيه والعالِم والمُرَبِّي أن يغضب على فعلٍ فعله السائل لم يكن له علمٌ بحكمه، إذا كان ذلك الفعلُ عظيمًا يستدعي المشاورة وسؤال أهل العلم قبل فعله.

  4. إذا كانت الحكمةُ من منع الطلاق في الحيض أو في طهرٍ جامع الرجلُ فيه زوجته هي التأني والتريث والتفكير في الأمر؛ فلا ينبغي لعاقلٍ أن يُسارع إلى الطَّلاق، بل عليه أن يمد له زمنًا للتفكير.

  5. وجود الحمل -ومثله الأولاد- من الأسباب التي تمنع كثيرًا من الناس من الطلاق، وهذا من حكمة منع الطلاق في طهرٍ جامعها فيه، فربما قُدِّر بينهما ولدٌ فندم.

  6. ينبغي أن يُرجع في أحكام الطلاق إلى أهل العلم المرضيين -خصوصًا إن كان لهم منصبُ قضاءٍ، أو تحكيمٍ بين الخصوم-، لما يحصل في الطلاق من الاختلاف في تصوير الواقعة، أو الاختلاف في الأحكام الجزئية، فإذا رُجع لأهل العلم المقبولين حصلت الطمأنينة بحكمهم.


المراجع

1. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (4/ 66)، "شرح النووي على مسلم" (10/ 61).





فقهٌ:

1. قَضى النبيُّ ﷺ أنَّه لا يجوز للمرأة أن تَترُك الزينةَ والطِّيب حزنًا على مَن مات عنها من أبٍ أو أمٍ أو ابنٍ أو أخٍ أو أختٍ أو غيرهم أكثرَ من ثلاثةِ أيام، إلا الزوجَ؛ فإنَّها تَدَعُ الزينةَ والطِّيبَ والكُحلَ أربعة أشهرٍ وعشرة أيامٍ.

فاكتفى في الميتِ القريبِ ونحوِه بثلاثةِ أيامٍ يحصُل فيها القيامُ بحقِّ الميت، والتفريجُ عن النفْسِ الحزينة. واستثنى من ذلك الزَّوجَ لعظيم حقِّه على امرأته، ولهذا لم يُفرِّق الشرعُ في إيجاب العدَّة والإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها بين المدخول بها وبين التي لم يُدخَل بها [1].

واختصَّ ذلك بالوفاة لا الطلاقِ؛ لأنَّ في الزينةِ دعوةً للنِّكاح، والمُطَلِّقُ حيٌّ يمكِنُه زجْرَ مُطَلَّقتِه عن الزواجِ في عِدَّته إنْ أقدَمت على ذلك، بخلاف الميت الذي لا يمكِنُه ذلك، فجاء الإحدادُ أربعة أشهرٍ وعشرًا، وهي المدة التي يَكتمِلُ فيها نموُّ الجنينِ في رَحِم أُمِّه وزيادة عَشرة أيامٍ احتياطًا [2].

وهذا في حقِّ غيرِ الحامل، أما الحامل فعدَّتُها وإحدادُها مدَّةُ حمْلِها، طالت أو قَصُرَت [3]

لقوله تعالى:

{وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}

[الطلاق: 4].

2. ثم فصَّل ﷺ بعضَ أحكامِ الإحدادِ المهِمةِ، فمنها ألَّا تَلبَس المُحِدَّة ثيابًا مصبوغةً للزينة، إلا ثوبًا يمنيًّا قديمًا كان يُصبَغ غزلُه قبل أن يُنسَج، وليس فيه من الزينةِ ما في غيرِه، ولهذا جاز لُبْسُه. كما أنَّها لا تَستعمِل الكُحلَ في عينها، ولا تَتطيَّب بالمِسكِ ونحوه من الروائحِ الطيِّبة، إلا إذا طهُرت من حَيضِها، فيجوز لها أن تَتطيَّب بجُزءٍ يسيرٍ جدًّا من القُسط، وهو العودُ الهنديُّ، عقارٌ معروفٌ طيِّبُ الريحِ، ويجوزُ لها كذلك حينئذٍ أن تتطيَّب بالأظفار، وهو نوعٌ من الطِّيب على شكل الأظافرِ، وكلاهما لا تفوحُ رائحتُهما إلا إذا استُعملا بَخورًا أو اختلَطا بغيرهما.

والنهيُ عن الاكتحالِ إنما إذا لم تَدْعُ الضرورةُ إليه، فإذا احتاجت إليه المرأةُ استعمَلَتْه بالليلِ ومسَحَته بالنهار؛ لقول أمِّ سلمة: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقَدْ جَعَلْتُ عَلَى عَيْنِي صَبِرًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا أُمَّ سَلَمَةَ؟» فَقُلْتُ: إِنَّمَا هُوَ صَبِرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ، قَالَ: «إِنَّهُ يَشُبُّ الْوَجْهَ فَلَا تَجْعَلِيهِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَتَنْزَعِينَهُ بِالنَّهَارِ» [4]، والصَّبِر: عصارةُ شَجرٍ مُرٍّ.

ومن الإحدادِ أيضًا تركُ الخُضابِ بالحِنَّاءِ والتَّحَلِّي بالذهب والفضة ونحوِها؛

لقوله ﷺ:

«المُتوَفَّى عنها زَوجُها لا تَلبَسُ المُعَصفَرَ مِنَ الثِّيابِ، ولا المُمَشَّقةَ، ولا الحُلِيَّ، ولا تَختَضِبُ، ولا تَكتَحِلُ» 

[5].

والمُمَشَّقة نوعٌ مِن الثيابِ مصبوغٌ بلَونٍ أحمَرَ.

اتباعٌ: 


  1. (1) أجاز الشرعُ الإحدادَ للمرأة تنفيسًا لها عن حُزنِها بفقدِ قريبٍ أو صديقةٍ، بشرط ألَّا يَنتُج عن ذلك اعتراضٌ على قَضاءِ اللهِ وقدَرِه، ولا يصاحبه شيءٌ مما يُغضِب اللهَ سبحانه؛ مِن لَطْم الخدود وشقِّ الجيوب ودَعاوى الجاهلية.

  2. (1) يجب على المرأة أن تُحدَّ على زوجها إذا مات عنها، سواءً دخَل بها أم لا؛ فإن كانت حاملًا فتُحِدُّ حتى تضع حمْلَها، وإلا فعدَّتُها أربعة أشهر وعشرةُ أيامٍ.

  3. (2) إذا احتاجت المرأةُ للكحل لوَجعٍ بعينها ولم تَجِد ما يداويها غير الكحل جاز لها ذلك للضرورة. 

  4. (2) يحرم على المرأةِ المُحِدَّةِ على زوجها كل أنواع الزينةِ؛ فيحرُم عليها لبس الحُلِيِّ والتخضُّب بالحناء والاكتحال ومسِّ الطيب ولُبْس الثياب التي تَلبَسها النساء لأزواجهن يتزينَّ بها. 

  5. (2) دلَّ الحديث على أنَّ المرأة تَستعمل الأدهان التي ليْس فيها طِيب، فيجوز لها أن تَدهُن شعرَها بالزيوت لتصفيفِه، لا للتطيُّب برائحته.

  6.  (2) للمُحِدَّة أن تَغتسل وتخرج للضرورة وتخاطب الرجالَ إذا دَعَت الحاجةُ من غير خضوعٍ بالقول.

  7. (2) للمُحِدَّة أن تأكل أطيب أنواع الطعام وأشهاه، ولا عَلاقةَ للإحداد بالطعام والشَّراب.

المراجع

1. قال ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 90): وأجمعوا أن عدة الحرة المسلمة التي ليست بحامل من وفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا، مدخولا بها وغير مدخول، صغيرة لم تبلغ أو كبيرة. وقال ابن القطان في "الإقناع في مسائل الإجماع" (2/ 54): وأجمع الجميع على وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها، إلا الحسن فإنه حكي عنه أنه كان لا يرى الإحداد، وعلى كل زوجة بالغة عاقلة مسلمة حرة أن تحد على زوجها المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا.

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 113).

3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (7/ 2371).

4. رواه أبو داود (2305) والنسائي (3537).

5. رواه أبو داود (2305) والنسائي (3537).

فقهٌ

اختَصَّ اللهُ سبحانه وتعالى بتوزيع التَّرِكات ومَواريث الموتى بنفسِه، فأخبَر في كتابه بأحكام الفرائض، وبيَّنها النبيُّ ﷺ في سُنَّتهِ الشريفة؛ كي لا يأكلَ الناسُ أموالَهم بينهم بالباطل، ويَجُورَ القويُّ على الضَّعيف.

وفي هذا الحديث يأمرُ النبيُّ ﷺ القائمينَ على توزيع التَّرِكات أن يبدؤوا بأصحاب الأنصِبة المعروفة، وهم الذين يَستحِقون نصيبًا مفروضًا في مال الميت، فإن بَقِي شيءٌ بعد أخذِهم حُقوقَهم، كان الباقي لأصحابِ العَصَبات، وهم أقارب الميت الذين لا نصيبَ لهم محدَّدٌ، وإنما يَحُوزون جميع التركةِ إنِ انفرَدوا، ويأخذون الباقي إنْ كان معهم أصحاب فرائضَ؛ كالابنِ والأخِ الشقيقِ، والأخِ لأبٍ، والعمِّ وابنِ العمِّ، ونحوهم.

والفرائضُ المعروفة سِتة؛ النصفُ والربعُ والثمنُ والثلثُ والسُّدس والثُّلثان، فالنصف فرضُ خمسةٍ: ابنةُ الصُّلب، وابنةُ الابنِ، والأختُ الشَّقيقةُ، والأختُ للأبِ، والزَّوْجُ، وكلُّ ذلك إذا انفرَدوا عمَّن يَحجُبُهم عنه.

والرُّبع: فرضُ الزَّوجِ مع الحاجب، وفرضُ الزوجة أو الزوجاتِ مع عَدَم الحاجِب.

والثُّمن: فرضُ الزوجةِ أو الزوجاتِ مع الحاجبِ.

والثُّلثانِ فرضُ أربعٍ: الاثنتينِ فصاعدًا من بنات الصُّلب، أو بناتِ الابن، أو الأخواتِ الأشقَّاءِ أو للأبِ. وكلُّ هؤلاء إذا انفردْنَ عمَّن يَحجُبهنَّ عنه.

والثُّلثُ فرضُ صِنفين: الأُمُّ مع عدمِ الولدِ، ووَلَدِ الابن، وعَدَمِ الاثنينِ فصاعدًا من الإخوة والأخوات، وفرضُ الاثنين فصاعدًا من وَلَدِ الأُمِّ، وهذا هو ثُلثُ كلِّ المال، فأمَّا ثُلثُ ما يَبقى، فذلك للأُمِّ في مَسألة: زوجٌ أو زوجةٌ وأبَوَانِ، فللأمِّ فيها ثلثُ ما يَبقى.

والسُّدس فرضُ سبعةٍ: فرض كلِّ واحد من الأبوينِ والجَدِّ مع الولد وولدِ الابن، وفرضُ الجَدَّةِ والجَدَّات إذا اجتمعْنَ، وفرضُ بنات الابن مع بِنْتِ الصُّلب، وفرضُ الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، وفرضُ الواحد من وَلَدِ الأمِّ، ذكَرًا كان أو أُنثى.

وهذه الفروض كلُّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى، إلا فرضَ الجَدَّات فإنَّه مأخوذٌ من السُّنَّة، فهؤلاء أهلُ الفرائض الذين أَمَرَ النبيُّ ﷺ أن يُقْسَمَ المال عليهم لَمَّا قال: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ» [1]، وهو معنى قوله: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا» [2].

وأصحاب العَصَبات يُنزَّلون مراتبَ؛ فالأبناءُ في المرتبة الأولى، والابنُ مقدَّم على ابنِ الابن، وابنُ الابن مقدَّم على ابنِ ابنِ الابن، وهكذا، ثم الأبُ في المرتبة الثانية، ثم الإخوةُ الأشقَّاء، ثم الإخوةُ لأبٍ، ثم أبناءُ الإخوةِ الأشقَّاءِ، ثم أبناءُ الإخوةِ لأبٍ، ثم الأعمامُ الأشقَّاء، ثم الأعمامُ لأبٍ، ثم أبناءُ الأعمامِ الأشقَّاءِ، ثم أبناءُ الأعمامِ لأبٍ، وهكذا.

والعَصَبَة الأقربُ تَحجُب العَصَبةَ الأبعد؛ فلا يَرِث الأبُ بالتعصيب مع وجودِ الابن، كما لا يَرِث ابنُ الابن مع وجودِ الابن، والأبُ يَحجُب الإخوةَ مطلقًا والأعمامَ وأبناءَ الأعمامِ وغيرَهم، والأخُ الشقيق يَحجُب الأخَ لأبٍ وأبناءَ الأخِ والأعمام، والأخُ لأبٍ يَحجُب أبناءَ الأخِ والأعمام، وأبناءُ الأخِ الشقيقِ يَحجُبون أبناءَ الأخِ لأبٍ والأعمام، وأبناءُ الأخِ لأبٍ يَحجُبون الأعمامَ وأبناءَ الأعمام، إلى نحو ذلك [3]. وهذا معنى قوله ﷺ: «فما بقي فلِأَوْلَى رجلٍ ذَكَر». وليس المعنى أنَّ مَن استوى في القُرب من الميت أن يُقدَّم الأولى مَنزلةً؛ فيَرِث الابنُ الأكبرُ مثلًا دون سائرِ إخوانه، أو يَرِث الابنُ المتفوِّق في العمل والدراسةِ ونحو ذلك [4].

اتباعٌ

  1. علم الفرائض والمواريث علمٌ مهمٌّ يحتاج إليه المسلمون، ويجب أن يَنتبِه إليه طلبةُ العلم والدارسون.

  2. لا يجوزُ أن يتجرَّأ على تقسيم المواريث إلا عالمٌ بأحكام الفرائض، بارعٌ في الحساب وتقسيم الفروض.

  3. لا بُدَّ أن يُقابَلَ شرعُ اللهِ تعالى في المواريث بالرِّضا التام والإيمانِ بالحكمة الإلهيةِ، وذلك مُقتضى الإيمان.

  4. تقسيمُ الميراث شرعٌ شَرَعَه اللهُ عزَّ وجل، لا يجوز لمسلمٍ أن يَعترِض عليه أو يتأفَّف منه، فضلًا أن يَقسِم شيئًا منها وَفْق هواه.

  5. قال الشاعر:

أموالُنا لذَوِي الْمِيراثِ نَجمَعها = ودَارُنا لخَرَابِ البُومِ نَبنِيها

لا دارَ للمَرْءِ بعْدَ الْمَوْتِ يَسْكُنُها = إلَّا الَّتِي كَانَ قَبْلَ الْمَوْتِ يَبْنِيها

فمَنْ بَنَاهَا بخَيْرٍ طَابَ مَسْكَنُهُ = ومَنْ بَنَاهَا بشَرٍّ خَابَ بَانِيها


المراجع

1. رواه مسلم (1615).

2.  "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (4/ 564).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 54).

4. ينظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 347).