عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللَّه عنهمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»

فقه

1. يُخبِر النبي ﷺ أنَّ إبليس يَنصِب عرْشَه على الماء، ثم يرسل جنودَه وأعوانَه لإغواءِ النَّاس وإضلالِهم وصدِّهم عن سبيل الله تعالى، وأقربُهم منه منزلةً أشدُّهم فتنةً وأعظمُهم أثرًا على عباد الله، فإذا انتهَت مَهَمَّةُ كلُّ واحدٍ منهم، جاؤوا إليه فأخبروه بما فعَلوا، فيقول أحدُهم: ما تركتُ ابنَ آدم حتَّى سَقَيته خمرًا، ويقول آخَرُ: ما تركْتُه حتى أوقعتُه في الزنا، ويقول آخرُ: حملتُه على منع زكاة ماله، ويقول آخر: حملته على السرقة... فيُحَقِّر إبليسُ أفعالَهم تلك، ويُخبرُهم أنَّهم لم يَصنعوا شيئًا ذا بالٍ.

2. ثم يأتي أحدُهم فيقول: ما تركتُ ابنَ آدم حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيُسَرُّ إبليسُ بذلك جدًّا، ويُقرِّبه من مَجلسِه، ويمدحُه بقوله: نِعْم أنتَ؛ أي: نِعْمَ الشيطانُ أنت؛ فأنت الذي جِئتَ بالأمر العظيم، وأنت الذي أغنيتَ عنِّي، وأنت صاحبُ المنزلة عندي.

وإنما حَظِيَ ذلك الشيطانُ عند إبليسَ بتلك المكانةِ لِمَا للتفريقِ بين الزوجينِ من الشرِّ والأذى؛ فبِهِ تحصُل الضَّغينة، وتقعُ العداوة والشَّحناء بين الزوجين وأهليهما، ويتشرَّد الأطفال وتَسُوء أخلاقهم وأفعالهم نتيجةَ التفكُّكِ الأُسَري، كما يكثُر بذلك الوقوعُ في الفاحشة التي هي أعظمُ الكبائر فسادًا وأكثرها مَعَرَّةً [1].

اتباع

  1. (1) إبليسُ - لعنه الله – أشدُّ أعداءِ ابن آدم، بارزه بالعداوةِ مُذ أمَره اللهُ تعالى بالسجود له، فأبى،

    وقال:

    {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}

    [الأعراف: 12]،

    وتوعَّد بغوايةِ بني آدم جميعًا، فقال:

    {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}

    [الأعراف: 16، 17].

    فالحذرَ الحذرَ من كَيدِه وإغوائه وفِتنتِه.

  2. (1) طُرق الشيطان في الإضلال كثيرة؛ فمنها الوَسْوسةُ، والتحريشُ بين النَّاس والإيقاع بينهم، وتَزيينُ المعصيةِ، والغضبُ، والتعصُّبُ، والعجَلةُ، والتكاسلُ ... إلى غيرِ ذلك. فعلى المسلِم أن يكونَ يَقِظًا لحِيَلِه، مُستعيذًا باللهِ تعالى منه، وقد أخبر سبحانه أنَّ الاستعاذةَ منه تَرُدُّ عن المرءِ ما يَجِده مِن وَساوسه ونَزغاته؛

    قال سبحانه:

    {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}

    [الأعراف: 200، 201].

  3. (1) الملجأُ للعبدِ مِن وَساوس الشيطان هو الدخولُ في طاعةِ اللهِ تعالى والاحتماء بحِصنه الحَصين؛ قال قتادةُ السَّدوسيُّ رحمه الله: "أتاك الشيطانُ يا ابنَ آدمَ من كلِّ وجه، غيرَ أنه لم يأتِكَ من فَوقِك؛ لم يَستطِعْ أن يَحُول بينك وبين رحمةِ الله" [2].

  4. (2) احذَرْ؛ فمُرادُ إبليسَ وأعوانِه هدمُ البيتِ المسلِم.

  5. (2) يَنجُم عن التفريقِ بين الزوجينِ شرٌّ كبيرٌ؛ منها: حصولُ الضَّغينة والعداوة بين الأهل، وانتشار الزِّنا الذي هو أعظم الكبائر فَسادًا وأكثرها مَعَرَّةً، فضلًا عمَّا يُصِيب الأبناءَ من الضرر الماديِّ والمعنوي، وما قد يَترتَّب عليه من فسادِ الأخلاق وسُوء التربية؛ ولهذا عَظُمَ سرورُ إبليسَ اللعينِ به.

  6. قال الشاعر:

يَا مُنْزِلَ الآيَاتِ وَالفُرْقَانِ = بَينِي وَبَيْنَكَ حرْمَةُ القُرْآنِ

اشْرَحْ بِهِ صَدْرِي لمعرِفَةِ الهُدَى = وَاعْصِمْ بِهِ قَلبِي مِنَ الشَّيطَانِ

واحطُطْ بِهِ وِزْرِي وَأخْلِصْ نِيَّتِي = وَاشدُدْ بِهِ أَزْرِي وأَصْلِحْ شَانِي

واكْشِفْ بِهِ ضُرِّي وحقِّقْ تَوبَتِي = أرْبِحْ بِهِ بَيْعِي بِلَا خُسْرَانِ

طهِّر بِهِ قَلْبِي وصَفِّ سَرِيرَتِي = أجمِلْ بِهِ ذِكْرِي وَأَعْلِ مكَانِي

7. وقال غيره:

وأَثنَتْ علَى اللهِ نَفسُ الشَّكُورِ = ولم يُنسِها الأمنُ أحوَالَهَا

وكم أنفُسٍ جَحَدت رَبَّها = ومرَّتْ تُجَرِّرُ أذيَالَها

وساوِسُ شيطَانِهَا استحْوَذَتْ = علَيهَا من الوَهْمِ فاجتالَها

فيَا وَيْلَهَا أنفُسًا بالجُحُودِ = تُقَابِلُ أنعُمَ من عَالَها

وَتَتْبَعُ أوهَامَهَا البَاطِلاتِ = وتَعبُدُ بالذُّلِّ مُغتالَها


المراجع

1. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).

2. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 103).



مشاريع الأحاديث الكلية