فقه
يخبر ﷺ أنَّ مع اقتراب القيامة تصدق رُؤى المسلم، فلا تكاد تكذب، والرؤيا الصادقة لها شأنٌ عظيم، فهي من بقايا النبوة كما
قال ﷺ في مرضِ موته:
«أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُجامعُ أَدَبِ الرُّؤيا
[1]
ويكون أصدقُ النَّاسِ حديثًا حينئذٍ أصدقَهم رؤيا؛ فالمؤمن الصَّدُوق الذي يتحرى الصدقَ في حديثه تناله البشارة في الدنيا والآخرة، وكما كان صادقًا في يقظته يكون منامُه صادقًا كذلك، بخلاف الكاذب والفاسق؛ فإنَّ أكثر منامه يكون تخليطًا وأضغاثَ أحلام.
وإنَّ الرؤيا الصالحة خصلةٌ من خصال النبوة؛ فإذا كان النبيُّ ﷺ لرفعة شأنه اختصَّه اللهُ سبحانه بخمسٍ وأربعين خصلةً، فإنَّ الرؤيا الصالحة إحدى تلك الخصال، وقد مكث ﷺ ستةَ أشهرٍ قبل أن ينزل عليه الوحي يرى الرؤيا فتأتي كفَلَقِ الصُّبحِ.
ثم أخبر ﷺ أنَّ ما يراه الإنسانُ في منامه على ثلاثة أنواع؛ فإما أن يكون رؤيا صالحةً مبشرةً بالخير من الله تعالى أو مخبرةً ببعض أخبار الغيب الذي هو بعض ثمرات النبوة.
وإما أن تكون حلمًا من الشيطان، وهي التي يراها الإنسان في حلمه فتصيبه بالهَمِّ والحزن، من الكوابيس والأشباح ونحو ذلك.
أو تكونُ حديثًا من أحاديث النَّفس، وهو ما يتمنى الإنسانُ تحقيقَه في اليقظة؛ كأن يطمع في الغِنى فيرى في منامه أنه أصاب مالًا ونحو ذلك.
ثم أرشد ﷺ أن المسلمَ إذا وجد ما يُحزنه من الأحلام والرؤى، فليقم ويتوضأ ويصلي للهِ سبحانه ما شاء، ثم لا يُخبر بها أحدًا؛ فإنَّها لن تضرَّه.
اتباع
(1) الرؤيا الصادقة تكون من المؤمنٍ، وقد يرى الكافرُ والفاسقُ أحيانًا ما يصدق تعبيرُه، لكن أصدق الناس رؤيا هو المؤمن الحريص على الصدق في حديثه.
(2) ينبغي على المؤمن أن يتحرى الصدق في حياته كلها قولًا وفعلًا؛ فمتى استقامت حياته نالته البشريات في الدُّنيا والآخرة.
(3) احرص على أن تتحلَّى بإحدى خصال الأنبياء، فإذا تحلَّيتَ بالصِّدقِ أُوتيتَ خصلة الرُّؤى الصالحة.
(4) الرؤيا الصالحة بشرى من اللهِ تعالى يُبَشِّر بها عباده،
وقد فسَّر ﷺ
قولَه تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 64] بأنَّها «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَه»
[2]
5. (4) صلاحُ الرؤيا لا يعني أن تكونَ مبشرةً بالخير فحسب، بل قد تبدو فيها بعض الأخبار السيئة، من موتٍ أو مرضٍ أو مصيبةٍ تنزل على النفس أو الأهل، فالمقصود من صلاحِها أنَّها صالحةٌ للتأويل.
6. (4) إذا رأى مسلمٌ رؤيا تخيَّر مَن يُحسن تفسيرَها من أهل العلم المعروفين بالتقوى وحبِّ الخير للناس، ولا يخبر بها كارهًا أو عدوًّا.
7. (4) يجوز لمن وجد في نفسه القدرةَ على تعبير الرُّؤى أن يجالسَ النَّاسَ ويُؤول لهم ما رأوه
، كما كان ﷺ يفعل بعد صلاة الفجر؛ فقد كان يقول لأصحابه
: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا؟»
[3]
8. (4) إياك أن تعتمد على رؤياك، فتتكاسل عن الأعمال، بل اجتهد في الطاعات وأَبْشِر بما بشَّرك اللهُ تعالى به.
9. (5) ما كان من الأحلام فيه كوابيسٌ وأهوالٌ ونحو ذلك ولم تتحقق فيها صفات الرؤيا فلا عبرةَ بها، ولا تُفَسَّر؛ فإنها من الشيطان يريد أن يُضعف بها إيمانَ العبدِ ويصيبَه بالحزن والغَمِّ.
10. (6) من الطبيعي أن يرى الجائعُ في نومه طعامًا شهيًّا، والفقيرُ مالًا وكنوزًا وخيرًا، والطَّالبُ نتيجةَ امتحانه. وهذا كلُّه من حديث النَّفس الذي يدور في خلجات النَّفس في اليقظة.
11. (7) إذا رأى المسلمُ ما يسوؤُه في منامه؛ فإنه يُسَنُّ له أن يقوم فيُصَلِّي، ولا يُخبر أحدًا بما رآه.
12. (7) من آداب النبي ﷺ إذا رأى المسلمُ ما يزعجه: أن يستعيذ بالله تعالى ويتفل عن يسارِه ثلاثًا، وأن يحول نفسه إلى جنبه الآخر،
قال ﷺ:
«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ»
[4]
المراجع
- رواه مسلم (479).
- رواه أحمد (23063)، وابن ماجه (3898)، والترمذيُّ (2273).
- رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294).
- رواه مسلم (2262).
فقه
اشتدت هِمَّةُ الصحابةِ رضي الله عنهم في مذاكرة العلم وحفظ أحاديث النبيِّ ﷺ، فهذا الفاروق عمر رضي الله عنه يتذاكر مع أصحابِ النبيِّ ﷺ أحاديثَ المصطفى ﷺ، فيسألهم عن حديث الفتنة، من باب المذاكرة أو التذكير والوعظ.
فقال بعض الجالسين من الصحابة: نحن سمعناه منه ﷺ، فبادر عمر بسؤالهم إن كانوا يقصدون حديثَ النبيِّ ﷺ:
«فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَجَارِهِ، يُكَفِّرُهَا الصِّيَامُ، وَالصَّلَاةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ»
[1]،
فقالوا: أَجَل، ذلك الذي نقصد، فقال عمر رضي الله عنه: تلك تكفرها الصلاة والصيام والصدقة، فأمرُها هَيِّنٌ؛ إذ هي داخلةٌ في قوله ﷺ: «الصلواتُ الخمسُ، والجمُعةُ إلى الجمُعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينَهن إذا اجتنبَ الكبائر»[2].وفتنةُ الرجلِ في أهلِه وماله ونفسه وولده أن يرتكبَ العبدُ في سبيلهم يُغضب اللهَ تعالى من إتيان المعاصي وترك الفرائض، تصديقً
لقوله تعالى:
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}
[التغابن: 15]
.وفتنته في جاره أن يحسده على ما عنده من النِّعم، أو ينظر إلى عورات جاره مما لا يطلع عليه غيره[3].
فقال عمر رضي الله عنه: ليس ذلك الحديث أريد، وإنما أريدُ الفتنةَ العامَّة التي تبطش بجميع الناس وتتلاطم ويتلو بعضها بعضًا كموج البحر، فأيكم يحفظُ ذلك الحديث؟ فسكت النَّاسُ حين لم يكن لهم علمٌ بما قاله الفاروق رضي الله عنه ، فقام حذيفة رضي الله عنه فقال: أنا سمعتُ ذلك الحديث، فقال عمر مادحًا له: "لله أبوك"، وهي كلمة تقولها العربُ على سبيل التشريف والتعظيم، كما هو شأنهم في إضافة الأشياء إلى اللهِ تعالى، فيقولون: بيتُ الله، ناقةُ الله. فيمتدحون والدَه إذ أنجب مثلَه
فقصَّ حذيفةُ رضي الله عنه الحديث، وفيه أنَّ الفتنَ تتوالى على القلوبِ من غير فصلٍ، بل متسلسلةً كأعواد الحصير؛ فصانع الحصيرِ يضمُّ الأعواد إلى بعضٍ ويخيطها وينسجها إلى بعضها من غير فجوة.
فإذا تشَرَّب القلبُ تلك الفتنةَ وُضِع في قلبه نقطةٌ سوداء، وإن أنكرها واستعاذ باللهِ تعالى منها وُسِمَ في قلبه نقطةٌ بيضاء.وتلك النقطة السوداء هي الرَّان الذي يكون على القلوب في
قوله تعالى:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
[المطففين: 14].
وهكذا تتوالى الفتن وأثرُها من النَّكت في القلوب، يُنكَت في قلب المؤمن نقطة بيضاء، وعلى قلب الكافر نقطة سوداء، حتى يكون النَّاسُ على قلبين؛ قلبٍ أبيضٍ مثل الحجر الأملس، فهذا لا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السماء والأرض، كما لا يضرُّ الحجرَ الناعم الأملس ما يصيبه من المطر أو التراب أو غيره، كما
قال سبحانه:
{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}
[البقرة: 264]
. والقلب الآخر أسودُ قاتم يشوب سوادَه الغُبرَةُ، فهذا لا نَفْع يُرجى منه، كالكوز المائل الذي لا يُمسك الماء، وقد تراكمت الفتنُ على ذلك القلب حتى نكَّستْ فطرتَه فصار لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، بل يكون متبعًا هواه فيأمره بالمعصية وينهاه عن الطاعة.
ثُمَّ يُطمئنُ حذيفةُ عمرَ رضي الله عنهما؛ فإنه لا خوفَ عليه منها؛ فإنَّ بينه وبينها بابًا مانعًا يمنعها منه. إلا أنَّ ذلك المانع سيُكسر عمَّا قريبٍ، فقال عمررضي الله عنه: أيُكسر أم يُفتح؟ إذ لو فُتح لأمكن غلقُه مجدَّدًا، قال حذيفةُ رضي الله عنه: بل يُكسر، فإذا كُسر لم يَحُل بين الفتنةِ والنَّاسِ حائلٌ. وأراد بالبابِ رجلًا يموتُ كان حاجزًا الفتنَ، فإذا مات هجمت. وذلك الذي قاله حذيفةُ رضي الله عنه إنما هو علمٌ تعلَّمه من رسولِ اللهِ ﷺ، ليس من أغاليط النَّاس وخرافاتهم ولا من كلام أهل الكتاب وأصحاب الرأي.
وقولُ عمر: "لا أبا لك" من كلام العرب الذي يفيد الحثَّ على الشيء؛ فإن الأب يدفع عن ولده المصائب والضرر، فإذا مات والدُه لم يكن على غيره أن يدفع عن نفسه، فالمعنى: جِدَّ في الأمر وشَمِّر وتأهَّب.
وقد جاء في روايات الحديث الأخرى أنَّهم سألوا حذيفةَ رضي الله عنه عن ذلك الباب، فقال: البابُ عمر. وأخبرهم أنَّ عمرَ رضي الله عنه كان يعلمُ ذلك[4]
وهذا الحديث من دلائل نبوَّته ﷺ؛ فإنَّه قد وقعت باستشهاد عمر رضي الله عنه فتنٌ كثيرةٌ متوالية، أوَّلها خروج النَّاس على عثمانَ رضي الله عنه وقتله، ثم الفتنة بين الصحابة زمن عليٍّ رضي الله عنه، ونُجُوم الخوارج والمرجئة وغلاة الشيعة.
اتباع
(1) حرص الصحابةُ رضي الله عنهم على مذاكرة العلمِ وأحاديثِ النبيِّ ﷺ، ولم تشغلهم شواغلُ الدنيا عن ذلك. فينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يقتدي بهم في حرصهم على العلمِ.
(1) ينبغي على كلِّ داعٍ ومُرَبٍّ أن يتذاكر مع النَّاسِ حديثَ رسولِ الله ﷺ، ويُشركهم معه في الحديث؛ فإن ذلك أنفع لهم، وأفضل في إصغائهم للكلام المطروح.
(1) على العلماء والدُّعاة والخطباء أن يحرصوا على الموضوعات المُهِمَّة التي تمسُّ حاجةُ النَّاس، ولا يستبدل بها الأمور الهامشية والفروع التي ليس لها كبيرُ أثرٍ في حياة النَّاس.
(1) يجوز للرجلِ أن يهتمَّ بطلبِ أحد فروع العلم بعد تحصيله للعلوم الضرورية التي تجب على كلِّ مسلم؛ فإذا فهم الطالبُ أحكامَ الشرع التي لا غِنَى له عنها، جاز له بعد ذلك أن يتخصص في علوم اللغة أو الطب أو الهندسة أو غيرها من العلوم النَّافعة، أو يتميز في فرعٍ من فروع الشريعة كالفقه والتفسير والحديث والعقيدة وغيرها؛ فقد اهتمَّ عمرُ بالسؤال عن أحاديث الفتنة خاصة، كما كان حذيفةُ رضي الله عنه يهتمُّ بأحاديث الفتنةِ خوفًا من الوقوع فيها.
(2) لم يجرؤ أحدٌ من الصحابة على التقوُّلِ على رسول اللهِ ﷺ بما لم يسمع منه، ولهذا سكتوا حين سألهم عمر رضي الله عنه. فلا ينبغي لأحدٍ أن يُفتي بغير علمٍ أو يجادل فيما لا علم له به.
(2) مهما ارتكبتَ من السيئات والذنوب، فبادر إلى التَّوبة والإنابة والتكفير بالأعمال الصالحة؛ فإنها تمحو السيئات وتُكَفِّرها.
(3) لا ينبغي لطالبِ العلم أن يستحيي من الجواب عن مسألةٍ أو الإفتاءِ فيما عَلِمَ حكمُه واستبان له دليلُه، ولا يمنعه عن ذلك مانعٌ.
(3) ينبغي على المُرَبِّين والدعاة أن يُكافؤوا النَّابغين من الطُّلَّاب بما يشجعهم على استكمال حرصهم على العلم، وأقلُّ ذلك التشجيع والتحفيز والدعاء.
(4) تتوالى الفتنُ على القلوبِ ولا عاصمَ منها إلا الإيمانُ باللهِ تعالى، فالجأ إليه في الرَّخاء يعرفك في الشدة.
(5) احذر الفتنَ والمعاصي؛ فإنها لا تزال تنكت في قلب العبدِ السَّوادَ حتى يُختم على القلب بالشقاء.
(5) إذا أذنبتَ أو وقعتَ في معصيةٍ فبادر بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى؛ ليمحوَ اللهُ سبحانه عنك النكتة السوداء.
(5) أكثِر من الأعمال الصالحة، وإياك والتعرُّض للفتن صغيرةً كانت أو كبيرةً؛ فبذلك يبيَضُّ قلبُك ولا تؤثرُ عليه فتنةٌ أو شهوة.
(6) استعذ باللهِ تعالى من أهل الضلال؛ فإنهم لا يرون إلا المنكر، ولا يتبعون إلا الضلال والهوى.
(6) إياك والاستهانة بالفتن والمعاصي؛ فإنها لا تزال بالعبد حتى تطمس فطرته وتُنَكِّس قلبه، فيصير عبدًا لهواه وشهواته.
(6) القلوبُ أربعة: قلب أَجْرَدُ، فيه سِراج يُزهِر، فذلك قلب المؤمن، وقلب أَغلَفُ، فذلك قلب الكافر، وقلب منكوسٌ، فذلك قلب المنافق، عَرَف ثمّ أَنكَر، وأَبصَر ثمّ عَمِيَ، وقلب تَمُدُّه مادَّتان: مادَّة إيمان، ومادَّة نفاق، وهو لِما غَلَب عليه منهما[5] فاختر لنفسك أيَّ قلبٍ تريد!
(7) ينبغي أن يزداد المؤمنُ إيمانًا وتصديقًا باللهِ تعالى وبرسولهِ ﷺ؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، وفي كلِّ حديثٍ ترى فيه من دلائل النبوة ما يقطع شكوكَ أهل الكفر وتخرصاتهم.
قال الشاعر:
رَأَيْتُ الذُّنوبَ تُمِيتُ القلوبَ = وقد يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُها
وَتَرْكُ الذُّنوبِ حَيَاةُ القلوبِ = وخيرٌ لنفسِكَ عِصْيَانُها
المراجع
- رواه البخاري (7096)، ومسلم (144).
- رواه مسلم (233).
- "إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (1/480).
- رواه البخاري (1435).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12).
فقه
يبين النبيُّ ﷺ عظيمَ فضلِ العبادةِ في زمان الفتن؛ حيث ينشغل النَّاسُ بالشهوات والمَلَذَّات وتكثر المعاصي وتُسفك الدِّماء، فيخبر ﷺ أن العبادة في تلك الأوقات تُضاهي في ثوابِها ثوابَ المهاجرِ الذي يترك أهلَه ووطنَه ومالَه في سبيل اللهِ تعالى وطاعةً للنبيِّ ﷺ.
والعبادةُ: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وأمثال ذلك هي من العبادة لله"[1]
والهَرْجُ: كثرة الفتن وانتشار القتل،
ومنه قوله ﷺ:
«يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ»
[2]
وإنما كانت العبادةُ في ذلك الزمان خاصَّةً عظيمةَ الأثر؛ لأنَّ الغالب حينئذ على النَّاس الوقوع في الفتن وعدم المبالاة بالحلال والحرام، فكان المنعزلُ عن عامَّة النَّاس مثلَ المهاجر الذي ترك قومَه على شِركِهم وكفرهم وخرج فارًّا بدينه[3]
اتباع
اشغل نفسَك بالطاعة وإلا شغلتْكَ بالمعصية.
لا تغترَّ بكثرة الهالكين، ولا تيأس من قلة السَّالكين، فإنَّ أتباع كلِّ باطلٍ كثيرون.
في الحديث دليلٌ على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عزَّ وجلَّ كما كان طائفةٌ من السلف يستحبُّون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضِّل القيام في وسَط الليل المشمول بالغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر [4]
العبادة في زمان الفتن ووقت الغفلة تساوي في الأجر الهجرةَ من دار الكفر إلى دار الإسلام، ولا أجرَ يرتقي على الهجرة، بل
إنَّ الله تعالى قال:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
[التوبة: 20].
أخبر النبيُّ ﷺ بوقوع الفتن في آخر الزمان لكي يستعدَّ لها المسلمُ ويتأهب بالمبادرة إلى الطاعات والتمسك بحبل اللهِ تعالى.
العبادة في وقت الغفلة أمانٌ للنَّاس، فلولا العُبَّاد في زمان الفتن لدمَّرَ اللهُ تعالى الأرضَ ومن عليها. فاحرص أن تكون صمام أمان للمسلمين.
قال الشاعر:
إذَا لَمْ أجِدْ خِلاًّ تَقِيًّا فَوَحْدَتي = ألذُّ وأشهى من غويٍّ أعاشِرُهْ
وأَجلِسُ وَحْدي للعبادة آمِنًا = أَقَرُّ لعَيْشِي من جَلِيسٍ أُحاذِرُهْ
المراجع
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).
- رواه البخاريُّ (6037)، ومسلم (157).
- ينظر: "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 132)، "فيض القدير" للمناويِّ (4/ 373).
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 131).
فقه
بين النبيُّ ﷺ صورةً من صور فضلِ اللهِ تعالى على عباده المؤمنين؛ فإنَّ جميعَ أمرِ المؤمن له خيرٌ، كما قال ﷺ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[1].
فيخبر ﷺ أنَّ كلَّ ما يصيب المسلمَ من الابتلاءات، من تَعَبٍ أو وجعٍ أو تكديرٍ في القلب لما يخشى حصولَه أو فواته في المستقبل، أو لما أصابه في الماضي، أو أذًى مطلقًا يصيبه، أو ضيقٍ في القلبِ يغتمُّ به، يسيرًا كان ذلك أم قويًّا، حتى الشوكة التي تصيبُ المسلم، فجميع ذلك يمحو من سيئاته، وقد قال ﷺ: «ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ»[2].
على أنَّ ذلك الأجر وتكفير السيئات إنما يشترط فيه الصبرُ والاحتساب؛ فإن جزع المرءُ لما نزل به من البلاءِ كان آثمًا مأزورًا.
اتباع
واجِه البلاءَ بنفسٍ راضيةٍ محتسبةٍ، تنل الأجر على الصبرِ والكفارةَ على المرض.
ربٌّ يتفضَّلُ على عبادِه بألوان الأجر والثواب حقيقٌ ألَّا يغفل اللسانُ عن شكرِه والجسدُ عن الخضوع له والانقياد لأوامره في حبٍّ.
ليس المُصابُ مَن نزل به البلاء، وإنما المُصابُ حقًّا من حُرم الثواب مع ذلك.
البلاءُ نازلٌ بك لا محالة، فاصبر على ما نزل بك ولا تجزع عليك. قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه للأشعثِ بنِ قيسٍ رضي الله عنه: "إنَّك إن صبرتَ، جرى عليك القلمُ وأنت مأجورٌ، وإن جَزِعت، جرى عليك القلم وأنت مأزورٌ"[3]
قال الشاعر:
دَعِ الأيَّامَ تفعلُ ما تشاءُ = وطِبْ نفسًا بما حَكَم القضاءُ
ولا تَجْزَعْ لحادثةِ اللَّيالي = فما لحوادثِ الدُّنيا بَقَاءُ
ورِزْقُكَ ليس يَنقُصُه التَّأنِّي = وليس يَزيدُ في الرِّزق العَنَاءُ
ولا حُزْنٌ يَدُومُ ولا سُرورٌ = ولا بُؤْسٌ عَلَيْكَ ولا رَخَاءُ
6. وقال غيره:
وإذا عَرتْك بَلِيَّةٌ فاصبِرْ لها = صبرَ الكريم فإنَّه بك أَعْلَمُ
وإذا شَكَوْتَ إلى ابنِ آدمَ إنما = تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرحمُ
Marejeo
- رواه مسلم (2999).
- رواه الترمذي (2399).
- "أدب الدنيا والدين" للماورديِّ (ص 288).
فقه
لمَّا كان الإنسانُ في طبعه ضعيفًا، تُنازعه النَّفسُ وشهواتها، وتزين له الدنيا زخارفَها، ويُوسوس له الشيطان ويُغويه، كان بديهيًّا أن يقع في المعاصي والذنوب، ولهذا أخبر ﷺ أنَّ كلَّ بني آدم كثيرو الوقوع في الخطأ والمعاصي، فليس أحدٌ من البشرِ معصومًا غير الأنبياء.
وليس معنى ذلك أن يسترسل الإنسانُ في ذنوبِه ويقترف منها ما شاء، ولهذا بيَّن ﷺ أنَّ خيرَ النَّاس حينئذٍ هم كثيرو التوبة والإنابة إلى اللهِ تعالى سريعًا، فكلَّما اقترفوا ذنبًا بادروا بالتوبة والنَّدم، من غير إصرارٍ منهم على الذَّنب، كما قال اللهُ تعالى في وصف عباده المتقين:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}
[آل عمران: 135].
اتباع
(1) لا تُعَيِّرْ أحدًا بذنبٍ، فكلُّ ابنِ آدم خطَّاء.
(1) إياك والإصرار على الذنب بحُجَّةِ أنَّ كلَّ النَّاس يخطؤون، فإنَّ ذلك ليس مبررًا لذنوبك.
(1) لا تيأس من رحمةِ اللهِ تعالى لكثرةِ ذنوبك؛ فإن الله تعالى لو شاء عبادًا لا يعصون لخلقنا كالملائكة،
قال ﷺ:
«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ»
[1].
(1) حذارِ من احتقار الذنوب ورؤيتها يسيرةً؛ فإن ذلك باعثٌ على المداومة على الذنب وعدم التوبة. قال عبدالله بن عباسٍ – رضي الله عنهما -: "يا صاحبَ الذَّنْب، لا تأمنَنَّ مِن سوء عاقبته، ولَمَا يَتبَع الذنبَ أعظمُ من الذنب إذا علمتَه؛ فإن قلَّة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب، أعظمُ مِن الذنب الذي عملتَه، وضَحِكُكَ وأنت لا تدري ما اللهُ صانع بك أعظمُ من الذنب، وفرحُكَ بالذنب إذا ظفِرْتَ به أعظمُ من الذنب، وحُزْنُكَ على الذنب إذا فاتك أعظمُ من الذنب إذا ظفِرْتَ به، وخوفُك من الريح إذا حرَّكَتْ سِتْرَ بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك مِن نظر الله إليك أعظمُ مِن الذنب إذا عملتَه"[2].
(2) سارِع بالتوبة إلى اللهِ تعالى كلَّما أذنبتَ أو اقترفتَ معصيةً من المعاصي، ولا تقنط من رحمة الله تعالى، فهو سبحانه الذي يقول في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»[3].
(2) من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده[4]
(2) أَقْبِل على ربِّك مهما كان ذنبُك، ومهما عظمت سيئاتك؛ فإنه جلَّ وعلا يفرح بتوبة العبد،
كما قال ﷺ:
«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»
[5].
(2) التوبة من الذنب تقتضي النَّدمَ على ما أجرمتَ في حقِّ الله تعالى، فإياكَ والتفاخر بالمعاصي وإن كنتَ تبتَ منها.
(2) لا يحملنَّك كثرة المعاودة إلى الذنب على عدم التَّوبة، فقط أخلِص النِّيَّة على التوبة، واعزم على عدم الفعل، وتُب إلى اللهِ تعالى، ثم لا يضرُّك الوقوع مجددًا في الذنب، أَعِد الكَرَّة وتُبْ من جديد.
قال ﷺ:
«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»
[6].
(2) إياك أن تظنَّ أن ذنبَك لن يُغفر؛ فإن ذلك تكذيبٌ له سبحانه حين قال:
{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}
[الأعراف: 156].
(2) إذا أردتَ التَّوبة: فشروطُها: النَّدمُ على المعصية، والإقلاعُ عنها، والعزمُ على عدم الرجوع إليها، وإرجاع الحقِّ لصاحبه إن كان الذنبُ متعلقًا بحقوق العباد أو إرضائهم.
(2) التَّوبة لا تمحو السيئات فحسب، وإنما تُبَدِّلها إلى حسنات، فهنيئًا للتائب بمحو الذنب وكثرة الحسنات!
قال الشاعر:
يا نفسُ، كُفِّي عن العصيانِ واكتَسِبي = فِعلًا جميلًا لعلَّ اللهَ يرحَمُني
يا نفسُ، ويحكِ توبي واعمَلي حسنًا = عسى تُجازَيْنَ بعد الموتِ بالحسَنِ
14.وقال غيره:
يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً = فلقد عَلِمْتُ بِأَنَّ عفوَكَ أَعْظَمُ
إِنْ كَانَ لاَ يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ = فَمَن الذي يَدْعُو ويَرْجُو المجرِمُ؟!
أَدْعُوكَ رَبِّ كما أمرتَ تَضَرُّعًا = فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فمن ذا يَرْحَمُ؟!
مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا = وَجَمِيلُ عَفْوِكَ ثُمَّ إِنِّي مُسْلِمُ
المراجع
- رواه مسلم (2749).
- حلية الأولياء" لأبي نُعيم الأصبهانيِّ (1/ 324).
- رواه مسلم (2577).
- الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
- رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
- رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
فقه
يحضُّ النبيُّ ﷺ على المبادرة بالتوبة وردِّ المظالم إلى أهلها، فمن كان عنده شيءٌ أخذه من أخيه المسلم بغير وجه حقٍّ، سواءً كان ذلك في عرضه كالسَّبِّ والغيبة والنميمة ونحوها، أو غيرها بأن أكل مالَه أو غصبه حقَّه أو ضربه ونحو ذلك، فعليه أن يتحلل منه قبل يوم القيامة، حيث ينقطع التعامل بالأموال، فلا يمكن الردُّ حينها. والتَّحَلُّل يكون بردِّ المظالم إلى أهلها واستسماح النَّاس وطلب الصفح منهم.
فإن لم يتحلل العبدُ في الدنيا من مظلمته، كان القصاص بالحسنات والسيئات؛ فيؤخذ من حسنات الظالم إن كانت عنده حسنات، وتُعطى للمظلوم، وإن لم تكن عنده حسناتٌ أُخذ من سيئات المظلوم فطُرحت على الظالم،
لقوله ﷺ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
[1]
اتباع
(1) احذر أموالَ النَّاس ودماءهم وأعراضَهم؛ فإنَّ اللهَ تعالى يُعَجِّلُ عقوبة الظالم؛
قال ﷺ:
«مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»
[2]
(1) إذا كان اللهُ سبحانه وهو الملك القيوم الذي بيده السماوات والأرض، حرَّم الظلم على نفسه
وقال:
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا»
[3]
فكيف بالعبد الضعيف الذي لا يخرج عن أمرِ اللهِ تعالى.
(1) بادِر بالتحلل من مظالم النَّاس قبل أن تندم ولات حينَ ندم.
(1) يشترط في التوبة ردُّ المظالم إلى أهلها والتحلُّلُ منهم، فاحرص على أن تكون توبتُك مقبولةً.
(1) احذر دعوةَ المظلوم؛ فإنَّها مجابةٌ تُفتح لها أبوابُ السماء،
قال ﷺ:
«وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
[4]
(1) احذر الظلم؛ فقد
قال ﷺ:
«اتَّقوا الظلم؛ فإنَّ الظلم ظلمات يوم القيامة»
[5].
(2) احتفظ بحسناتك التي نِلتها بالتَّعب والانتصاب بين يدي اللهِ تعالى، أن يأخذها منك مظلومٌ ظَلَمْته أو تكلمت في عرضه.
(2) إذا كانت تخشى أن تكون مفلسًا في الدنيا، فإفلاس الآخرة أشقُّ وأشقى.
(2) تخيَّل أن تحمل أوزارًا لم تصنعها، وإنما وُضعت عليك جزاءً لكلمةٍ قلتَها في حقِّ أخيك.
(2) سارِع في ردِّ المظالم قبل أن تُجبر على القصاص بالحسنات والسيئات، لا بالأموال والعُروض.
قال الشاعر:
وَفِي النَّاسِ مَن ظُلمُ الوَرَى عَادةٌ لهُ = وَيَنْشُرُ أَعَذارًا بها يَتَأوَّلُ
جَرِيءٌ على أَكْلِ الحرامِ ويدَّعِي = بأنَّ له في حِلِّ ذلك مَحْمَلُ
فَيَا آكِلَ الْمَالِ الحرامِ أَبِنْ لَنَا = بأيِّ كتابٍ حِلُّ مَا أَنْتَ تَأكُلُ؟
ألمْ تَدْرِ أَنَّ اللهَ يَدْرِي بما جَرَى = وبينَ البَرايَا في القِيامةِ يَفْصِلُ
12. وقال غيره:
لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كُنْتَ مُقْتَدِرًا = فالظُّلْمُ آخِرُه يَأْتِيكَ بالنَّدَمِ
نامَتْ عُيُونُكَ والمظلومُ مُنْتَبِهٌ = يَدْعو عَلَيْكَ وَعَيْنُ اللهِ لم تَنَمِ
المراجع
- رواه مسلم (2581).
- رواه أبو داود (4902)، وابن ماجه (4211)، والترمذيُّ (2511).
- رواه مسلم (2577).
- رواه البخاريُّ (1496)، ومسلم (19).
- رواه مسلم (2578).
فقه
لمَّا شرح اللهُ سبحانَه صدرَ عمرو بن العاص رضي الله عنه للإسلام، أتى إلى النبيِّ ﷺ وطلب منه أن يعطيه يدَه ليصافحه ويعاهده على الإسلام، كما كانت العادةُ حينذاك في مبايعةِ الرجال.
فلمَّا مدَّ النبيُّ ﷺ يمينه إلى عمرٍو رضي الله عنه ليبايعه، قبضَ عمرٌو يده، فتعجبَ النبيُّ ﷺ عن سبب تراجعه عن البيعة، وسأله عن ذلك، فقال عمرو رضي الله عنه: أريد أن أشترط شيئًا قبل أن أبايع، واشترط أن يضمن أن يغفر اللهُ تعالى له ما اقترفه من الذنوب والسيئات ومحاربة دينِ اللهِ تعالى.
فبشَّره ﷺ أنَّ بمجرد دخول المرءِ في الإسلامِ يُمحى ما كان عليه قبل ذلك من الذنوب والشِّرك.
كما أنَّ الهجرةَ من دار الكفر إلى دار الإسلام تهدم ما كان قبلها، وقد كانت الهجرةُ في أولِ الإسلامِ الخروجَ إلى المدينة المنورة حيث رسول الله ﷺ، ثم بعد فتح مكة صارت الهجرةُ ترك دارِ الكفرِ إلى دارِ الإسلام أيًّا كانت. وأما حديث: «لا هِجرةَ بعد الفَتْح»[1]، فمعناه: لا هجرةَ من مكة إلى المدينة؛ لأن أهلها صاروا مسلمين، وصارت دارَ إسلام، وإنما الهجرة من دار الحرب[2]
وكذلك الحجُّ؛ فإنه يمحو ما كان قبله من الذنوب، قال ﷺ: «مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفسُق، رجَع من ذنوبه كيوم ولدَته أُمُّه»[3]
اتباع:
(1) إذا انشرح صدرُك لطاعةٍ من الطاعات فبادِر إليها ولا تتردد أو تُسَوِّف.
(1) لمَّا هدى اللهُ تعالى عمرًا للإسلام، لم يُبالِ بمنصبه ومكانته في قريش التي سيفقدها بإسلامه ويصيرُ واحدًا من عامة المسلمين. فعليك أن تنشغل بالحقِّ ولا تعبأ بما سوى ذلك.
(1) مصافحةُ الرجل لأخيه من السُّنَّة، وقد كان ﷺ يبايع الرجال بالمصافحة، أمَّا مصافحة الرجل للمرأة من غير محارمه فلا يجوز، قالت عائشةُ رضي الله عنها: «واللهِ ما مسَّت يدُ رسول الله ﷺ يدَ امرأة قطُّ، غير أنه بايعهن بالكلام، والله ما أخذ رسول الله ﷺ على النساء إلا بما أمره الله، يقول لهن إذا أخذ عليهن: «قد بايعتُكنَّ»[4]
(2) لم يشترط عمرو بن العاص رضي الله عنه على النبيِّ ﷺ أن يكون قائدًا للجيش أو يتولى ولايةَ بلدٍ من البلدان المفتوحة أو ينال شيئًا من المال مقابل إسلامه، بل اشترط المغفرة والعفو، فيجب أن يكون همُّك مغفرةَ اللهِ تعالى ورفعةَ الدرجات ودخول الجنة، لا غيرها من زينة الدنيا وزخارفها.
(3) ينبغي على الدُّعاة والعلماء والمُرَبِّين أن يُشجعوا النَّاس على الدخول في الإسلام، ويبينوا لهم أن الإسلام يمحو ما كان قبله من الذنوب والمعاصي.
(3) إنما يمحو الإسلامُ ما اقترفه العبدُ قبلَه إذا حسُن إسلامُه، أما إن أساء وأكثر من المعاصي والكبائر بعد إسلامه ولم يتب منها فإنه يؤاخذ بالكلِّ؛
قال ﷺ:
«مَنْ أحْسَن فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، أُخذ بالأول والآخر»
[5]
(3) من مكارم الإسلام أنَّه يمحو ما ارتكبه العبدُ قبلَه من السيئات والذنوب، أما ما جناه من الحسنات والأعمال الصالحة قبل الإسلام، فإنه يُثاب عليها، كرمًا وإحسانًا من ربِّ العالمين.
(4) إذا كانت الهجرةُ قد فاتت بانتشار الإسلام في بلادنا، فإنَّ الهجرةَ الأعظم تحصل بالمداومة على الطاعات وهجرة المعاصي وأصحاب البدع والأهواء.
(5) داوِم على الحجِّ والعمرةِ؛ فإنهما يمحوان الذنوب حتى يعودَ المسلمُ خاليًا من الذنوب كما ولدته أمه.
المراجع
- رواه البخاري (2783)، ومسلم (1353).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي بن محمد القاري (1/ 102).
- رواه البخاري (1521)، ومسلم (1320).
- رواه البخاريُّ (5288)، ومسلم (1866).
- رواه البخاريُّ (6921)، ومسلم (120).
فقه
سأل حكيمُ بنُ حزامٍ رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن مصير الأعمال الصالحة التي كان يفعلها قبل إسلامه ويتعبَّد بها، من الصدقات وتحرير الرِّقاب وصلة الأرحام ونحو ذلك؛ فقد كان حكيمٌ رضي الله عنه سخيًّا كريمًا، فقد أعتق في الجاهلية مائةَ عبدٍ من العبيد، ووهب مائةَ بعير، ولمَّا أسلم فعل مثل ذلك وقال: "فوالله، لا أَدَعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليّة، إلّا فعلتُ في الإسلام مِثْلَه"[1].
فأجابه النبيُّ ﷺ أنَّه قد أسلم على ما قدَّم من الخير؛ أي: إن اللهَ تعالى سيُثيبك على ما فعلتَ من الخيرِ قبل إسلامك، ولن يُعاقبك على ما أسأتَ في جاهليتك.
اتباع
(1) لم يستحِ حكيمٌ رضي الله عنه أن يسألَ النبيَّ ﷺ عمَّا أسلف قبلَ إسلامِه. فلا يمنعك عن السؤال حياءٌ أو استكبار.
(1) حرص حكيمٌ رضي الله عنه على أن يكون كلُّ عملٍ فعله في ميزانِ حسناته، حتى تُضاعف له الأجور وترتفع به الدرجات. فاحرص على ألَّا تشوبَ عملُك شائبةٌ تُحبط العملَ وتضيع ثوابه.
(2) لا تمنع كافرًا أو فاسقًا عن عملٍ صالحٍ يعمله، فربَّما يُسلم ويُثيبه اللهُ سبحانه على ذلك.
(2) انظر عظيمَ رحمةِ اللهِ تعالى ومحبته لعباده؛ كيف يُجازيهم على ما فعلوه قبل التوبة والإنابة إليه، ولا يُعاقبهم على جرائرهم التي اقترفوها قبل ذلك!
المراجع
- رواه مسلم (123).
فقه
يخبر النبيُّ ﷺ أن اللهَ تعالى قد قسّم الرحمة إلى مائة جزء.
وهو تقريب من النبيِّ ﷺ للمعنى، والله أعلم بكيفيته، ولكن المقصود به أن هناك رحمات كثيرة جعلها الله تعالى مُعدة للعباد، والمراد: تقليلُ ما عندنا وتكثير ما عنده سبحانه من الرحمة[1].
2. ثُمَّ فصَّل ﷺ ذلك بأن أخبر أنَّ تسعة وتسعين بالمائة من تلك الرحمات ستكون في الآخرة لعباده، وأن كل ما نراه في الدنيا من آثار الرحمة؛ كرحمة الأم بولدها الصغير، وما به تراحم الناس وتسامحهم فيما بينهم من الحقوق، بل حتى من الدواب ما علمنا منها وما لم نعلم: إنما هو من ذلك الجزء الذي أنزله الله تعالى.
فإذا كان ما نراه في الأرض من الرحمات حاصلًا من جزءٍ واحدٍ من مائة جزء، فكيف بسائر الأجزاء التي أعدَّها الله عزَّ وجلَّ لعباده في الآخرة..؟. فهي عند الله تعالى مدخرة ومؤخرة إلى يوم القيامة، فتحصل للناس رحمات أضعاف أضعاف ما وجدوه في الدنيا، فيغفر لهم سبحانه ويعفو، وييسر أن يعفوا بعضهم عن بعض ..
3. ثم ضرب ﷺ مثالًا على تلك الرحمة التي أنزلها الله عزَّ وجلَّ على عباده، وهو أن الحيوانات والسِّباع تتراحم فيما بينها، فلا يأكل السبعُ ولدَه، حتى أن أنثى الحصان على سرعتها وخفة حركتها: ترفع قدمها عن ولده لئلا يؤذيه.
وهو مثال مصغر من أمثلة هذا الجزء الواحد، وبه يتضح سعة رحمة الله تعالى.
اتباع
رحمة الله واسعة ، لكن له رحمة تعم الخلق ، ورحمة خاصة هي أعظم وأكمل لمن اتقى وآمن:
﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾
[الأعراف: 156].
فمن أراد أن يُحَصِّل ذلك الجزاء الموفور من رحمة الله تعالى فليسارع في الدخول في سلك عباد الله المتقين، فيقيم حدوده، ويأتمر بأوامره، وينتهي عمَّا نهاه الله عنه.
إذا كانت الحيوانات والسِّباع التي لم يُعطها الله العقلَ والحكمةَ، تتراحمُ فيما بينها، فكيفَ بمن نُزعت الرحمةُ من قلبه؟! مَن لا يَرحَم لا يُرحَم.
متى رأيت الله تعالى ابتلاك أو ابتلى عبدًا ببلاء فاعلم أن ذلك صادر عن حكمة عظيمة، وإلا فإنه سبحانه لا تنقصه الرحمة، ومتى رأيته لعن أحدًا أو حكم على أحدٍ بنار دائمة فاعلم أنه يستحقه.
لا يضق صدرك لضرٍّ نزل بك، فما أوسع رحمةَ الله تعالى، وما أوشك تداركها لعباده الضعفاء الذين يطلبونها منه، ويحسنون ظنهم به.
ربٌّ رحيمٌ يُنزّل من رحماته ما تستقيم به حياتنا، ويدَّخر منها ما نتراحم به يوم لا دينار ولا درهم، وإنما القصاص بالحسنات والسيئات، والمُفلس من استنفد القصاصُ حسناتِه وأكثر سيئاتِه، ثم يجعل منها ما يحمل الملائكة على الدعاء لنا بالرحمة والمغفرة ورفعة الدرجات، والجزء الأعظم منها أن يتجاوز بعد ذلك عن ذنوبنا ويغفر لنا ويعفو عن تقصيرنا في عبادته وامتثال أمره. إنَّ امرأً غفل عن شكره والإنابة إليه بعد ذلك لمغبونٌ غافل.
قال الشاعر:
إليكَ إلهَ الخلقِ أرفعُ رغبتي = وإنْ كنتُ يا ذا المنِّ والجودِ مجرما
ولـمَّـا قسا قلبي وضاقتْ مذاهبي = جعلْتُ الرَّجا مني لِعفوكَ سُلَّما
تعاظمني ذنبي فلـمَّـا قرنْتُهُ = بعفوِكَ ربي كانَ عفوُكَ أعظما
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنبِ لمْ تزلْ = تجودُ وتعفو مِنَّةً وتكرُّما
المراجع
- ينظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 213- 214)، "إرشاد الساري" للقسطلاني (9/19).
فقه
يتودَّد اللهُ سبحانه على خلقه ويتفضلُ عليهم ويحضهم على التوبة والمسارعة إلى الاستغفار؛ فإنه ما دعاه عبدٌ وطلب مغفرته إلا غفر له ذنوبه جميعًا، ولا يعبأ سبحانه بكثرتها ولا يهتمُّ بعِظَمِها،
قال سبحانه:
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}
[الزمر: 53].
ثم ينادي سبحانه على عبدِه من جديدٍ، ليخبره أنَّ ذنوبَه وإن كثرت وطغت حتى ملأت الأرض وبلغت السَّحاب، ثم جئتني مستغفرًا مُنيبًا لغفرتها لك ولا أُلقي لها بالًا.
ثم يبين سبحانه فضلَ التوحيد، فيذكر أنَّ العبدَ لو جاءه بملء الأرض ذنوبًا وسيئاتٍ، غير أنَّه يُوَحِّدُه ولا يشرك به شيئًا، لَقَابله سبحانه بمثلِ ذنوبه مغفرةً،
لقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
[النساء: 48].
اتباع
(1) تضرَّع إلى اللهِ تعالى والجأ إليه، فمن يجيب الدعاءَ غيره؟
(1) تعبَّد إلى اللهِ تعالى بالدعاء؛ فالدعاءُ عبادةٌ من العبادات، قال ﷺ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»[1].
(1) لا تستعظم ذنبًا عن مغفرة اللهِ سبحانه؛ فاللهُ جلَّ وعلا يغفر الذنوب جميعًا.
(1) اطمع في مغفرةِ اللهِ جلَّ جلالُه، ولا تتكبر على خالقِك.
(1) إذا دعوتَ اللهَ سبحانه بشيءٍ وأردت استجابة الدعاء، فاحرص على استيفاء شروط الدعاء، من الإخلاص لله تعالى، والأكل من حلالٍ، وعدم الدعاء بإثمٍ، والإلحاح على اللهِ سبحانه، وحضور القلب ساعة الدعاء.
(1) ظُنَّ بربِّك إذا دعوتَ واستغفرتَ خيرًا؛ فقد قال سبحانه في الحديث القدسي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» [2]
(2) الاستغفار سببٌ لمغفرة الذنوب والمعاصي وإن بلغت السماء. فاحرص عليه.
(2) لزوم الاستغفار سُنَّةٌ نبويَّةٌ،
قال ﷺ:
«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»
[3]
9. (2) الاستغفار يمحو الذنوب ويزيد الحسنات ويرفع الدرجات ويبارك في الرزق،
قال تعالى:
{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا}
[نوح: 10- 12].
10 . (2) الاستغفار أمانٌ من نزول العذاب في الدنيا والآخرة،
قال سبحانه:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}
[الأنفال: 33].
11. (2) يُروى عن لقمانَ - عليه السّلام - أنّه قال لابنه: "يا بُنيَّ، عَوِّدْ لسانك: اللّهمَّ اغفر لي؛ فإنّ للّه ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلًا[4]
12. (2) داوم على الاستغفار، فقد قال الحسن رحمه الله: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طُرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم؛ فإنّكم ما تَدرُون متى تنزل المغفرة[5]
13. (2) على المسلم أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، يبسُط يده باللَّيل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويَبسُط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، ويغفرُ جميع الذُّنوب ولا يُبالي.
14. (3) إياك والشِّرك؛ فإنه يُحبط العملَ ولا يُغفر إلا بالتوبة.
15. (3) التوحيدُ أمانٌ من الخلودِ في النَّار، وسببٌ لغفران الذنوبِ والتجاوز عن السيئات.
16. (3) ينبغي على كلِّ مسلمٍ أن يتعوَّذ بالله سبحانه من الشِّرك الأصغر والأكبر.
17. (3) ربٌّ يتكرم على عباده ويتفضل عليهم وهو الغني عنهم، ربٌّ كريمٌ ودودٌ، يتحتم علينا أن نتودَّد إليه بالطاعات ونوافل الأعمال.
18. (3) قال ﷺ:
« إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الخَلَائِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ اليَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ البِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ: «فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ البِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»
[6]
19. قال الشاعر:
تَضَرُّعِي وَابْتِهَالِي = بِدَمْعِ عَاصٍ جَفَاكَ
وَصِرْتُ أَدْعُو وَأَرْجُو = مُؤَمِّلاً رُحْمَاكَ
فَارْحَمْ ضَعِيفًا مُقِرًّا = بِذَنْبِهِ قَدْ أَتَاكَ
تَبَتُّلِي وَصَلاتِي = أَدْعُو وَأَرْجُو رِضَاكَ
فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَهَبْنِي = فِي كُلِّ أَمْرِي هُدَاكَ
20. وقال غيره:
إلهي لا تعذِّبني فإني = مُقِرٌّ بالذي قد كان منِّي
وما لي حيلةٌ إلَّا رجائي = لعفوِكَ إن عفوتَ وحُسْنُ ظنِّي
فكم من زلَّةٍ لي في البرايا = وأنتَ عليَّ ذو فضل ومَنِّ
يظنُّ النَّاس بي خيرًا وإنِّي = لشرُّ الناسِ إن لم تعفُ عنِّي
المراجع
- رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ (3828)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247).
- رواه البخاريُّ (7405)، ومسلم (2675).
- رواه البخاريُّ (6307).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 408).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 408).
- رواه الترمذي (2639).