المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ما قَالَه رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فقال له: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ» ليسوا كعبدة الأوثان؛ فهم أهلُ عِلْمٍ وجِدال وحُجَّة. «فَإِذَا جِئْتَهُمْ، فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»؛ أي: ادْعُهم إلى الدخول في الإسلام بنُطق الشهادتين. «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ»؛ أي: فإن أسلموا، فأخبرهم بالركن الثاني في الإسلام، وهو الصلاة المفروضة، خمسُ صَلَوات في اليوم والليلة. «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ»؛ أي: فإن انقادوا وأطاعوا فأخبرهم بالركن الثالث في الإسلام، وهو الزكاة، وأخبرهم بحِكمتها، وأنها تؤخذ من الغنيِّ للفقير، فهي حقُّ الفقير في مال الغنيِّ. «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»؛ أي: فإن انقادوا وأطاعوا، فاحذَرْ أن تأخذ الزكاة من الأموال العزيزة عليهم، كما تَحذَر أخذ الأموال الدُّون، فعليك بالوَسَط. «وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»؛ أي: اتَّقِ الظُّلم واحذَرْه؛ فإن دعوة المظلوم مسموعة مستجابةٌ لا تُردُّ.

الشرح المفصَّل للحديث

يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث شرائع الإسلام التي يجب على كلِّ مسلم العملُ بها والمحافظةُ عليها؛ فهي أركان الإسلام ودعائمُه، ولا يصحُّ إيمان امرئ إلا بها.

وقد أرسل النبيُّ ﷺ معاذَ بنَ جبلٍ رضي الله عنه إلى اليمن داعيًا إلى الله تعالى؛ ليدعوَ أهلها إلى الإسلام، ويبيِّن لهم شرائعه، وأوصاه بعدَّة وصايا في التعامل مع المدعوِّين، وبما يجب عليه أن يقدِّمه لهم في دعوته، وقال له: «إنك ستأتي قومًا أهلَ كتاب»: وهذا كالتوطئة للوصية؛ ليستجمع همَّته عليها؛ لكون أهل الكتب أهلَ عِلم في الجُملة، فلا تكون العنايةُ في مخاطبتهم كمخاطبة الجهَّال من عَبَدة الأوثان، وكذلك هم أهلُ عِلْمٍ وجَدَل، تحتاج دعوتهم إلى حكمة وسَعة صدر، وقوَّة حجَّة، وتوقُّد فِكرة، فتدرَّجْ معهم في الدعوة، وعاملْهم بالتي هي أحسن، وليس فيه أن جميع من يَقْدَمُ عليهم من أهل الكتاب؛ بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم؛ وإنما خصَّهم بالذكر تفضيلاً لهم على غيرهم  [1]

قال : «فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»: بدأ بالشهادة لله تعالى بالوحدانية، ولنبيِّه ﷺ بالرسالة؛ لأنهما أصلُ الدين الذي لا يصحُّ شيء من فروعه إلا بهما، فهم مطالَبون أولاً بالجمع بين الإقرار بالوحدانية، والإقرار بالرسالة، فمَن كان منهم غيرَ موحِّد على التحقيق؛ كالنصارى، فالمطالَبة متوجِّهةٌ إليه بكلِّ واحدة من الشهادتينِ عَيْنًا، ومن كان موحِّدًا؛ كاليهود، فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار بالتوحيد والإقرار بالرسالة، فإن كان هؤلاء اليهود الذين كانوا باليمن عندَهم ما يقتضي الإشراكَ، ولو باللزوم، تكون مطالبتُهم بالتّوحيد لنفي ما يَلزَم من عقائدهم   [2]

قال : «فإنْ هم أطاعوا لك بذلك»؛ أي: انقادوا بما أمرتَهم به، ودَعَوْتَهم إليه، بأن تلفَّظوا بالشهادتين، وأقرُّوا بتوحيد الله ورسالة النبيِّ ﷺ، فأَعلِمْهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كلِّ يوم وليلة، وعرِّفهم كيفيَّتها، فإن هم قَبِلوا وأَذعَنوا وصلَّوْا، فأعلمْهم أن الله فرض على الأغنياء منهم زكاةً تُجمَع من أموالهم، وتفرَّق بين الفقراء منهم، قدرٌ يسير معلوم يطهِّر أموالهم وينمِّيها، ويَحُوطُها بالبَرَكة، ويربط أواصر المحبَّة بين طبقات الأمَّة الواحدة.

قال : «فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ، فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ»؛ أي: فإن استجابوا لك بإخراج زكاة أموالهم، فلا تُلزِمْهم إخراج كرائم أموالهم ونفائسها، التي أحبُّوها؛ رفقًا بأصحاب الأموال، فلم يجعل اللهُ مواساة الفقراء على حساب الإجحاف بالأغنياء، فلو طابت نفسُ ربِّ المال بشيء من كرائم أمواله، جاز أخذها منه.

قوله : «وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»؛ أي: تجنَّب الظُّلم عامَّةً، وفي أخذ الصدقات خاصَّةً، واحرص على العدل دائمًا، واحذَرْ دعوة المظلوم، ولا تعرِّض نفسك لأن يدعُوَ عليك؛ فإن دعوة المظلوم مسموعةٌ مستجابة لا تُرَدُّ، تُفتح لها أبواب السموات السبع، ولا يَحُول بينها وبين القَبول حائلٌ، وليس بينها وبين إجابتها حجابٌ   [3]


المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (3/ 358).
  2. "كشف اللثام شرح عمدة الأحكام" للسفارينيِّ (3/ 400).
  3.  "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 70).
النقول

قال القاضي عياض رحمه الله: "وفى قوله - عليه السلام - لمعاذٍ دليلٌ بَيِّنٌ ألَّا يُطالِب أحدًا بفروع الشريعة إلا بعد ثبات الإيمان، وحُجَّة لمن يقول: إن الكفَّار غيرُ مخاطَبين بفروع الشريعة؛ لقوله: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات»، وفى الرواية الأخرى: «فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات...»، وقد يَحتجُّ من يقول بالقول الآخَر بأن هذا على تقديم الآكَد في التعليم؛ ألا تراه كيف رتَّب ذلك في الفروع، وبدا بعضُها على بعض؟! وفيه بيان لا إله إلا الله محمد رسول الله، وفيه ترتيب الفروض في التأكيد، وتبديةُ حقوق الإيمان على حقوق الأموال، وفيه دليلٌ على أن الإيمان لا يصحُّ إلا بالمعرفة وانشراح الصدر، ولا يكفي فيه نطق اللسان كما تقوله الجَهْميَّةُ، ولا التقليد المجرَّدُ كما يظُّنه الجَهَلة، ولم يجئ في حديث معاذٍ فرضُ الصيام والحجِّ، ولا يصحُّ أن يُقال: إن إرسال معاذٍ كان قبل فرضهما؛ فإن توجيه معاذ إلى اليمن كان من آخِر أمر النبيِّ ﷺ سنة تسع، وفيها فُرِض الحجُّ، والصيامُ فُرض سنة ثِنْتين، ومات - عليه السلام - ومعاذٌ باليمن، وهذه الفروضُ متقدِّمة. وقوله: «إياك وكرائمَ أموالهم»: نهاه عن أن يأخذ في الصدقة فوق السنِّ الذي يَلزَمه، أو كريمة ماله، ونُخْبَتَه إن كانت في ذلك السنِّ، وليأخذ الوَسَط منه كما نُبيِّنُه في الزكاة.

وقوله: «واتَّقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»؛ أي: أنها مسموعة مستجابة لا تُردُّ"  [1]

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «قومًا أهل كتاب» قيَّد قوله بأهل الكتاب، وفيهم أهلُ الذِّمَّة وغيرهم من المشركين؛ تفضيلاً لهم وتغليبًا على غيرهم. قوله: «أطاعوا لذلك»؛ أي: انقادوا له. في تقديم الشهادة على الإعلام بالأعمال، وترتُّبه عليها بالفاء، إشعارٌ بأن الكفَّار غير مخاطَبين بالفروع، على ما ذَهَب إليه بعض علماء الأصول؛ بل بالأصول فقط. وفي «تؤخذ من أغنيائهم» دليلٌ على أن الطفل تَلزَمه الزكاةُ لعموم قوله: «تؤخذ من أغنيائهم». وفي قوله: «تُردُّ على فقرائهم» دليل على أن المدفوع عَيْنُ الزكاة. وفيه أيضًا أن نقل الزكاة عن بلد الوجوب لا يجوز مع وجود المستحِقِّين فيه؛ بل صَدَقةُ كلِّ ناحية لمستحقِّي تلك الناحية، واتَّفَقوا على أنه إذا نُقِلت وأُدِّيَت يَسْقُط الفرض، إلا عمرَ بنَ عبد العزيز؛ فإنه ردَّ صدقةً نُقلت من خُرَاسانَ إلى الشام إلى مكانها من خُرَاسان" [2]

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«إنك تَقدَم» بفتح الدال، مضارع قَدِم بكسرها، «على قوم أهل كتاب» التوراة والإنجيل، وقاله تنبيهًا له على الاهتمام بهم؛ لأنهم أهلُ عِلم؛ فليست مخاطبتُهم كمخاطبة جهَّال المشرِكين وعَبَدة الأوثان. «فليكن أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادة الله» بنصب (أول) على أنه خبر كان، ورفع (عبادة) على أنه اسمها؛ أي: معرفة الله. وفي رواية الفضل بن العلاء: «إلى أن يوحِّدوا الله» قال الله تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

 [الذاريات: 56]

ويؤيِّده قوله: «فإذا عرفوا الله» بالتوحيد، ونفيِ الألوهية عن غيره. وفيه دليلٌ على أن أهل الكتاب لا يعرفون الله، «فأخبرْهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم وتُرَدُّ على فقرائهم»: يُحتمَل عَوْدُ الضمير على أهل البلد، فلا يجوز نقلُ الزكاة، وأن يعود عليهم بوَصْفِ إسلامهم، «فإذا أطاعوا بها فخذْ» بالفاء، ولأبي ذرٍّ، وابن عساكر: خذ «منهم» زكاة أموالهم، «وتوقَّ»؛ أي: احذر «كرائم أموال الناس» جمع كريمة، وهي العزيزة عند ربِّ المال، إما باعتبار كونها أكولةً؛ أي: مُسمنة للأكل، أو رُبَّي بضمِّ الراء وتشديد الموحَّدة؛ أي: قريبة العهد بولادة. وقال الأزهريُّ: إلى خمسةَ عَشَرَ يومًا من ولادتها؛ لأن الزكاة لمواساة الفقراء، فلا يناسب الإجحاف بمال الأغنياء إلا إن رَضُوا بذلك[3].

قال ابن بطَّال رحمه الله:  "«وتوقَّ كرائم أموال الناس»، قال: فإذا لم يَملِك كريمَ مال، فلا يكلَّف سواه. قال ابن القصَّار: ويُقال له: وكذلك أيضًا نهى عن أخذ الدُّون، وكلِّف الوَسَط، وليس إذا كلِّف الوَسَط كلِّف كريمَ ماله، ألا ترى أنا نرفِّه ربَّ المال إذا كانت غنمُه كرامًا كلُّها رُبَّى مواخض ولوابن، وشاة اللحم، والفحل، فلا نأخذ منها، فكذلك نرفِّه الفقراء بأن لا نأخذ الصغيرة، ونأخذ السنَّ المجعول، وهذا هو العدلُ بينهم وبين أرباب المواشي، كما قال عمر، رضى الله عنه"  [4].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «فإياك وكرائمَ أموالهم»: فيه دليلٌ على أنه ليس للساعي أن يَأخُذ خيار ماله إلا أن يتبرَّع به ربُّ المال، وليس لربِّ المال أن يُعطِيَ الأَرْدَأَ، ولا للساعي أن يرضى به، فيَبخَس بحقِّ المساكين؛ بل حقُّه في الوسط. قوله: «صَدَقة أموالهم» فيه دليلٌ على أنه إن تَلِفَ المال، تَسْقُط الزكاة ما لم يقصِّر في الأداء وقتَ الإمكان. أقول: قوله: «واتَّقِ دعوة المظلوم» تذييل؛ لاشتماله على هذا الظُّلم الخاصِّ من أخذ كرائم الأموال، وعلى غيره مما يتعلَّق بالمزكِّي، وعلى هذا المظلوم وغيره. وقوله: «فإنه ليس بينها وبين الله حجاب» تعليلٌ للاتِّقاء، وتمثيلٌ للدعوة لمن يَقصِد إلى السلطان متظلِّمًا، فلا يُحجَب عنه"  [5].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "واستدلَّ بقوله: «تؤخذ من أموالهم» أنّ الإمام هو الّذي يتولَّى قبض الزّكاة وصرفها، إمّا بنفسه أو بنائبه، فمن امتنع منها، أُخذت منه قهرًا، وقد بيَّن ﷺ المراد من ذلك ببعثه السُّعاة. واستدلَّ بقوله: «تردُّ على فقرائهم» أنّه يكفي إخراج الزّكاة في صنف واحد، وقيل: يحتمل أنّه خصَّ الفقراء لكونهم الغالب في ذلك، فلا دليل على ما ذكر، ولعلَّه أُريد بالفقير من يَحِلُّ إليه الصَّرف، فيدخل المسكين عند من يقول: إنّ المسكين أعلى حالًا من الفقير، ومن قال بالعكس، فالأمر واضح  [6]


المراجع

  1. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 239 - 241).
  2.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1469).
  3.  "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (3/ 48).
  4.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 475).
  5.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1470).
  6.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 512).

غريب الحديث

رَدِيف: الرَّدِيفُ هُوَ الرَّاكِبُ خَلْفَ الراكب. يقال منه: رَدِفْتُهُ أَرْدَفُهُ، إِذَا رَكِبْتُ خَلْفَه  [1]  

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (1/230).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يقول مُعاذُ بنُ جبلٍ ‏‏رضي الله عنه : (كنتُ رَدِيفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ)؛ أي: كنتُ راكبًا خلفَه ﷺ، فقال لي: «يا معاذُ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟»؛ أي: هل تَعرِف ما حقُّ الله الذي أَوجَبه على عباده؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله على نفسه؟

أجاب معاذٌ: «قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلمُ»؛ أي: لا أعلم، وهذا في حياة النبيِّ ﷺ أما بعد وفاته فيُقال: اللهُ أعلمُ.

فقال ﷺ: «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا»؛ أي: إن حقَّ الله على عباده أن يعبدوه وحدَه، ويتقرَّبوا إليه بالطاعات، ولا يعصونه، ولا يُشـركوا مع الله شيئًا. «وحقَّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشرك به شيئًا»؛ أي: وحقّ العباد على الله إن فعلوا ذلك، أن لا يُدخِلَهم النار، ولا يعذِّبهم، وأن يُدخلهم جنَّته.

فقال معاذٌ: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشِّرْهم فيتَّكلوا»؛ أي: لا تبشِّرْهم فيعتمدوا على ذلك إذا أخبرتَهم ولا يَعمَلوا.

الشرح المفصَّل للحديث

يُخبِر الصحابيُّ الجليلُ معاذُ بنُ جبلٍ رضي الله عنه عن نفسه أنه صَحِب النبيَّ ﷺ  ذاتَ مرَّةٍ فيقول: (كنتُ رديفَ النبيِّ ﷺ على حمارٍ)؛ أي: كنتُ أَركَب خلفَ النبيِّ ﷺ  على حماره، والرَّدِيف: "الراكبُ خلفَ الراكبِ بإذنه، ورِدْفُ كلِّ شيءٍ مؤخَّره"[1]، وفي هذه الجملة إشارة إلى تواضع النبيِّ ﷺ حيث حَمَل معاذًا  خلفه على حمار له، وبيانٌ لفضل معاذِ بنِ جبلٍ وعِظَم مكانته عند النبيِّ ﷺ.

فقال لي: «يا معاذُ، أتدري ما حقُّ اللهِ على العبادِ؟ وما حقُّ العبادِ على اللهِ؟»؛ أي: ناداه النبيُّ ﷺ وبادره بسؤال، فقال له: يا معاذُ، هل تعرف ما حقُّ الله تعالى الذي أَوجَبه على عباده؟ وما حقُّ العباد الذي أَوجَبه الله تعالى على نفسه؟ وهذه طريقةٌ لطيفة من النبيِّ ﷺ  كان يعلّم بها أصحابه رضوان الله عليهم، وهي طريقة السؤال والجواب، فسؤاله فيه استثارة لنفس معاذ رضي الله عنه وجلب اهتمامه وتركيزه، ولَفْتُ انتباهه.

قال معاذ: (قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلم): فأجاب معاذ رضي الله عنه بقوله: الله ورسوله أعلم، وفي جواب معاذ رضي الله عنه بيان لفقهه وفَهمه وأَدَبِه مع الله تعالى ومع رسوله ﷺ، حيث وَكَل إجابة السؤال الذي خَفِيَ عنه إجابتُه إلى الله تعالى وإلى رسوله ﷺ، وفي هذا الجواب تنبيهٌ للمسلمين أن لا يتحرَّجوا من عدم الإجابة عن الأسئلة التي لا يعرفون إجابتها، فقد فَعَلها قبلَهم أكابرُ الصحابة رضوان الله عليهم، وأكثرُهم فقهًا وعلمًا، وأن لا يتجاسروا على الإفتاء بغير علم؛ فالفتوى بغير علم مُنكَرٌ عظيم، وإثمٌ مُبين، واتِّباع لخطوات الشيطان؛

قال تعالى:

يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي ٱلۡأَرۡضِ حَلَٰلٗا طَيِّبٗا وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٌ . إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ

[البقرة: 168، 169]،

  والقولُ على الله بغير علم من أشدِّ المحرَّمات، وجعله الله تعالى قرينَ الشِّرك لخطورته

فقال تعالى:

قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ

ﱠ [الأعراف: 33].

قال : «فإنَّ حقَّ الله على العبادِ أن يعبدوه ولا يُشـركوا به شيئًا»؛ أي: إن حقَّ الله جلَّ وعلا على عباده أن يتوجَّهوا إليه بالعبادة، ولا يُشـركوا معه غيره، ويتقرَّبوا إليه بالطاعات، ويبتعدوا عن المعاصي، فهو وحدَه تعالى المستحِقُّ للعبادة والمتوجَّه بها إليه؛

قال تعالى:

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ

[الإسراء: 23]،

وقال تعالى:

قُلۡ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ . لَا شَرِيكَ لَهُۥۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ

ﱠ [الأنعام: 162-163]،

"والمراد هنا ما يستحقُّه اللهُ على عباده مما جَعَله محتَّمًا عليهم، وحقُّ الله على العباد هو ما وَعَدهم به من الثواب، وأَلزَمهم إيَّاه بخطابه، والمراد بالعبادة: عملُ الطاعة، واجتناب المعاصي، وعَطَف عليها عدمَ الشِّـرك؛ لأنه تَمَام التوحيد، والحِكمة في عطفه على العبادة أن بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنهم يعبدون الله؛ ولكنهم كانوا يعبدون آلهةً أخرى، فاشترط نفيَ ذلك، وقال ابن حبَّانَ: عبادةُ الله إقرارٌ باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح" [2]

قوله ﷺ : «وحقّ العباد على الله أن لا يُعذِّب مَن لا يُشـركُ به شيئًا»؛ أي: وحقّ العباد على الله إن هم فعلوا ذلك، وأقبلوا على طاعته، واجتنبوا معصيته، وأَفرَدوه وحدَه بالعبادة، أن لا يُدخِلهم النار، ولا يعذِّبهم، وأن يُدخلهم جنَّته، ويَشهَد لذلك قولُ النبيِّ ﷺ: «مَنْ لَقِيَ اللهَ لَا يُشْـرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشـْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ»  [3 ]، ومن أَشرَك بالله عزَّ وجلَّ فمثواه النار؛

قال تعالى:

إِنَّهُۥ مَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدۡ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيۡهِ ٱلۡجَنَّةَ وَمَأۡوَىٰهُ ٱلنَّارُۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٖ

[المائدة: 72]،

و"إن من مات لا يتَّخِذ مع الله شريكًا في الإلهيَّة، ولا في الْخَلْق، ولا في العبادة، فلا بُدَّ من دخوله الجنَّة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشـرك، لا يدخل الجنَّة، ولا يناله من الله تعالى رحمةٌ، ويُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب" [4]، والله تعالى يَغفِر الذنوب جميعها، عدا الشـرك؛

قال تعالى:

إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا

[النساء: 48]

 واعلم - يَرحَمُك الله - أنه "ليس للعباد على الله حقٌّ ابتداءً، وإنما وجب ذلك بموجب وعده؛ لأنه لا يُخلف الميعاد [5]، فالله تعالى لا يجب عليه شيء؛ وإنما أوجب ذلك على نفسه منَّةً وتفضُّلاً ومجازاة لعباده على أعمالهم.

قال معاذٌ: قلتُ: يا رسول الله، أفلا أُبشـِّر الناس؟ قال: «لا تُبَشّـِرْهم فيتَّكلوا» والمعنى: أنك إذا أخبرتهم بهذه البشارة، تكاسلوا عن الطاعات وتركوها؛ اتِّكالاً على هذه البِشارة، فاتركهم يجتهدوا في العبادات ويتنافسوا فيها، وذلك خاصٌّ بمن يُخشى منه الاتِّكال وترك العمل.

و"يؤخَذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتَّكِلوا أن أحاديث الرُّخَص لا تُشاع في عُموم الناس؛ لئلَّا يَقصُـر فَهْمُهم عن المراد بها، وقد سَمِعها معاذٌ فلم يَزدَد إلا اجتهادًا في العمل وخشية لله عزَّ وجلَّ، فأما من لم يبلغ منزلته، فلا يؤمَن أن يُقصِّر اتِّكالاً على ظاهر هذا الخبر"[6]

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (10/389).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (11/339).
  3.  رواه مسلم (93).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (1/290)
  5. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للكورانيِّ (5/438).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (11/340).

النقول

قال ابن حجر رحمه الله رحمه الله: "قوله: «هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ؟»: الْحَقُّ كُلُّ مَوْجُودٍ مُتَحَقِّقٍ، أو ما سيوجَد لا محالةَ، ويُقال للكلام الصِّدْقِ: حقٌّ؛ لأنَّ وقوعه متحقِّق لا تردُّدَ فيه، وكذا الحقُّ المستحَقُّ على الغَير إذا كان لا تردُّد فيه. والمراد هنا: ما يستحقُّه اللّه على عباده ممَّا جعله محتَّمًا عليهم. قاله ابن التَّيميُّ في التّحرير، وقال القرطبيُّ: حقُّ اللّه على العباد هو ما وعدهم به من الثّواب، وألزمهم إيّاه بخطابه. قوله: «أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا»: المراد بالعبادة: عمل الطّاعات واجتناب المعاصي. وعطف عليها عدم الشّرك؛ لأنّه تمام التّوحيد، والحكمة في عطفه على العبادة أنّ بعض الكفرة كانوا يدَّعون أنّهم يعبدون اللّه؛ ولكنّهم كانوا يعبدون آلهةً أخرى، فاشترط نفيَ ذلك، وتقدَّم أنّ الجملة حاليَّة، والتّقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به. قال ابن حبّان: عبادة اللّه: إقرار باللّسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح؛ ولهذا قال في الجواب: فما حقُّ العباد إذا فعلوا ذلك، فعبَّر بالفعل ولم يعبِّر بالقول. قوله: «هل تدري ما حقُّ العباد على اللّه إذا فعلوه؟»: الضّمير لما تقدّم من قوله: «يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا». في رواية مسلم: «إذا فعلوا ذلك». قوله: «حقّ العباد على اللّه أن لا يعذبهم». في رواية ابن حبّان من طريق عمرو بن ميمون: «أن يغفر لهم ولا يعذّبهم»، وفي رواية أبي عثمان: «يدخلهم الجنّة»، وفي رواية أبي العوّام مثله، وزاد: «ويغفر لهم»، وفي رواية عبد الرّحمن بن غنم: «أن يدخلهم الجنّة»، قال القرطبيّ: "حقّ العباد على اللّه ما وعدهم به من الثّواب والجزاء، فحُقَّ ذلك ووجب بحُكم وعده الصِّدْقِ، وقولِه الحقِّ الّذي لا يجوز عليه الكذب في الخبر، ولا الخُلف في الوعد؛ فاللّه سبحانه وتعالى لا يجب عليه شيء بحُكم الأمر؛ إذ لا آمِرَ فوقَه، ولا حُكم للعقل؛ لأنّه كاشف لا موجِبٌ"[1].

قال ابن تيمية رحمه الله: "والعبادةُ هي الغاية الّتي خلق اللّه لها العبادَ من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه

كما قال تعالى

وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ

[الذاريات: ٥٦]

وبها أَرسَل الرُّسل وأَنزَل الكُتب، وهي اسم يجمع كمال الحبِّ للّه ونهايتَه، وكمال الذُّلِّ للّه ونهايتَه؛ فالحبُّ الخَلِيُّ عن ذلٍّ، والذّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادة ما يجمع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها؛ ولهذا كان اللّه أشدَّ فرحًا بتوبة العبد من الفاقد لراحلته عليها طعامُه وشرابه في أرض دَوِيَّة مُهلكة إذا نام آيِسًا منها، ثمّ استيقظ فوجدها، فاللّه أشدُّ فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته"[2].

 قال العباد  رحمه الله رحمه الله: "قال: «إن حق العباد على الله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق الله على العباد أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا» فمهَّد للجواب بهذه الأسئلة وهذا الخطاب؛ حتى يكون عند معاذ الحرص والاهتمام بتلقِّي ما يسمعه من رسول الله ﷺ 

وقوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه ﷺ ، فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم، فقد يُسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول ﷺ  لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء

كما قال الله عز وجل:

قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ

[النمل:65]

وأما الرسول ﷺ  فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ  أن يقول:

قُل لَّآ أَقُولُ لَكُمۡ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلَآ أَعۡلَمُ ٱلۡغَيۡبَ

[الأنعام:50]،

فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه"  [3]

قال ابن تيمية  رحمه الله : "وقد اتَّفَق العلماء على وجوب ما يَجِب بوعد الله الصادق، وتنازعوا هل يُوجِب اللهُ بنفسه على نفسه، ويحرِّم بنفسه على نفسه على قولين، ومن جوَّز ذلك احتجَّ

بقوله سبحانه:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ

[الأنعام: ٥٤]

وبقوله في الحديث القدسيِّ الصحيح: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي…»[4]  إلخ، وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خَلقه، فهذا قول القَدَرية، وهو قول مبتدَع مخالِف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السنَّة متَّفِقون على أنه سبحانه خالق كل شيء وربُّه ومليكه، وأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن، وأن العباد لا يوجِبون عليه شيئًا؛ ولهذا كان من قال من أهل السنَّة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرَّم الظلم على نفسه، لا أن العبد نفسه مستحِقٌّ على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق؛ فإن الله هو المنعِم على العباد بكلِّ خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسِل إليهم الرسلَ، وهو الميسِّر لهم الإيمانَ والعملَ الصالح، ومن توهَّم من القَدَرية والمعتزلة ونحوِهم أنهم يستحقُّون عليه من جنس ما يستحقُّه الأجير على المستأجِر، فهو جاهلٌ في ذلك، وإذا كان كذلك، لم تكن الوسيلةُ إليه إلا بما منَّ به من فضله وإحسانه، والحقُّ الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، ليس من باب المعاوَضة، ولا من باب ما أَوجَبه غيرُه عليه؛ فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك"[5]

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث جَوَازُ ركوب اثنينِ على حمار، وفيه تواضُعُ النّبيِّ ﷺ ، وفضلُ معاذ وحُسْنُ أَدَبِه في القول وفي العلم بردِّه لِما لم يُحِطْ بحقيقته إلى علم اللّه ورسوله، وقُرْبُ منزلته من النّبيّ ﷺ ، وفيه تَكرار الكلام لتأكيده وتفهيمه، واستفسار الشّيخ تلميذَه عن الحكم ليختبر ما عنده، ويبيِّن له ما يُشكِل عليه منه. وقال ابن رجب في شرحه لأوائل البخاريِّ: قال العلماء: يؤخذ من منع معاذ من تبشير النّاس لئلّا يتَّكلوا: أن أحاديث الرُّخص لا تُشاع في عموم النّاس لئلّا يَقصُر فَهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يَزْدَدْ إلّا اجتهادًا في العمل، وخشيةً للّه عزّ وجلّ، فأمّا من لم يبلغ منزلتَه فلا يؤمَن أن يقصِّر اتّكالًا على ظاهر هذا الخبر، وقد عارضه ما تواتر من نصوص الكتاب والسّنّة أنّ بعض عصاة الموحّدين يدخلون النّار، فعلى هذا فيجب الجمع بين الأمرين، وقد سلكوا في ذلك مسالك؛ أحدُها: قول الزُّهْريِّ: إنّ هذه الرّخصة كانت قبل نزول الفرائض والحدود، وسيأتي ذلك عنه في حديث عثمان في الوضوء، واستبعده غيره من أنّ النَّسخ لا يدخل الخبر، وبأنّ سماع معاذ لهذه كان متأخّرًا عن أكثر نزول الفرائض. وقيل: لا نسخ؛ بل هو على عمومه؛ ولكنَّه مقيَّد بشرائطَ كما تُرتَّب الأحكام على أسبابها المقتضية المتوقّفة على انتفاء الموانع، فإذا تكامل ذلك، عَمِل المقتضي عملَه، وإلى ذلك أشار وهب بن منبِّه بقوله: ليس من مفتاح إلّا وله أسنان. وقيل: المراد ترك دخول نار الشّرك. وقيل: ترك تعذيب جميع بدن الموحِّدين؛ لأنّ النّار لا تُحرق مواضع السّجود. وقيل: ليس ذلك لكلِّ من وحَّد وعبد؛ بل يختصُّ بمن أخلص، والإخلاص يقتضي تحقيق القلب بمعناها، ولا يُتصوَّر حصول التّحقيق مع الإصرار على المعصية؛ لامتلاء القلب بمحبَّة اللّه تعالى وخشيته، فتنبعث الجوارح إلى الطّاعة، وتنكفُّ عن المعصية. انتهى ملخَّصًا. وفي آخر حديث أنس عن معاذ في نحو هذا الحديث، فقلت: ألا أُخْبِرُ النّاس، قال: «لا؛ لئلّا يتّكلوا» فأخبر بها معاذ عند موته تأثّمًا"[6]

قال القرطبيُّ  رحمه الله: "إن من مات لا يتَّخِذ مع الله شريكًا في الإلهيَّة، ولا في الْخَلْق، ولا في العبادة، فلا بُدَّ من دخوله الجنَّة، وإن جرت عليه قبل ذلك أنواعٌ من العذاب والمحنة، وأن من مات على الشـرك، لا يدخل الجنَّة، ولا يناله من الله تعالى رحمةٌ، ويُخلَّد في النار أَبَد الآباد، من غير انقطاع عذاب"[7]

قال ابن تيمية  رحمه الله: "العبادة: هي اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ فالصّلاةُ والزّكاة والصّيام والحجُّ، وصِدق الحديث وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنّهيُ عن المنكر، والجهاد للكفّار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميّين والبهائم، والدّعاء والذّكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصّبر لحكمه، والشّكر لنعمه، والرّضا بقضائه، والتّوكّل عليه، والرّجاء لرحمته، والخوف لعذابه، وأمثال ذلك، هي من العبادة للّه؛ وذلك أنّ العبادة للّه هي الغاية المحبوبة له والمرضيَّة له، الّتي خلق الخلق لها؛ كما

قال تعالى:

وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ

[الذاريات: ٥٦]

 وبها أَرسَل جميع الرّسل"[8]

المراجع

  1.  "فتح الباري" لابن حجر (11/339).
  2.  "مجموع الفتاوى" (10/ 19، 20).
  3.  "شرح الأربعين النووية للعباد (8/ 9).
  4. رواه مسلم (2577).
  5.  "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص: 409، 410).
  6.  "فتح الباري" لابن حجر (11/ 340).
  7. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (1/290)
  8.  "مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).


المعنى الإجماليُّ للحديث

قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ »؛ أي: أَوْجَب رسول الله ﷺ «زَكَاةَ الفِطْرِ» من صوم رمضان «صَاعًا» هو مِكْيال مقدارُه أربعةُ أمداد بكفَّيْ رجل معتدِل الكفَّين. «مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِير عَلَى العَبْدِ» تَلزَم مالكَه ويُخرجها عنه مالِكُه «وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِين»، فتجب على كلِّ مسلم حرٍّ، مالكٍ لِمَا يَزيد على قُوته وقُوت من تَلزَمه نَفَقتُه، يومَ العيد وليليتَه، ويجب إخراجها عن نفسه وعمَّن تَلزَمه نفقتُه؛ كزوجته، وأولادِه، وخَدَمه من المسلمين الذين يتولَّى أمورَهم ويقوم بالإنفاق عليهم. «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ»؛ أي: وقت تأديتها قبل صلاة العيد.

الشرح المفصَّل للحديث

شرع الله تعالى لعباده خَتْمَ صيام رمضانَ بزكاة الفِطر، وبصلاة العيد، وبالتكبير، والذكر؛ تعظيمًا لله - عزَّ وجلَّ - وشكرًا له على نعمته بإكمال الصيام والقيام، وهي زكاة يسيرة تنفع الفقراء والمساكين، وتوسِّع عليهم في العيد، وهي زكاة خفيفة على الْمُخرِجين؛ صاعٌ واحد من قُوت البلد عن كلِّ رأسٍ، على الذكر والأنثى، والحرِّ والمملوك، والصَّغير والكبير من المسلمين، تُؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة، قبل صلاة العيد؛ إغناءً للفقراء، وسدًّا لحاجتهم أيام العيد.

وزكاة الفطر من شكر الله - عزَّ وجلَّ - على إتمام صيام الشهر، وفيها إشاعة المحبَّة، وبثُّ السرور بين المسلمين، وخاصَّةً الفقراءَ والمساكين، فالعيدُ يومُ فرح وسرور، فاقتضت حكمة الشارع أن يَفرِض للمسكين في يوم العيد ما يُعِفُّه عن السؤال، ويُغنيه عن الحاجة.

يقول ابْنُ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهمَا -: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ  زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»

"وَأُضِيفَتْ هذه الزَّكَاةُ إلى الْفِطْرِ؛ لأنها تَجِبُ بِالْفِطْرِ من رَمَضَانَ... وقيل لها: فِطرةٌ؛ لأن الفِطرة الخِلْقة،

قال الله تعالى:

{فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا}

[الروم: 30]

أي: جبِلَّتَه التي جبَل الناسَ عليها، وهذه يُراد بها الصدَقةُ عن البدن والنفس كما كانت الأولى صدقةً عن المال" [1].

"وقد أَجْمَع العلماءُ على وجوب صَدَقة الفِطْر، نَقَل الإجماعَ فيها ابنُ الْمُنذِر والبيهقيُّ" [2].

وزكاة الفطر تجب على كلِّ مسلم حرٍّ، مالكٍ لِمَا يَزيد على قُوته وقُوت من تَلزَمه نَفَقتُه، يومَ العيد وليليتَه، ويجب إخراجها عن نفسه وعمَّن تَلزَمه نفقتُه؛ كزوجته، وأولادِه، وخَدَمه من المسلمين الذين يتولَّى أمورَهم ويقوم بالإنفاق عليهم.

"ومن أَخرَج عن الجَنين، فحَسَن، وكان عثمانُ بنُ عفَّانَ - رضي اللّه عنه - يُخرج عن الجنين، وقولُ أكثر أهل العلم أنّ الفِطرة غير واجبة على الجنين. قال ابن المنذر: كلُّ من نحفظ عنه من علماء الأمصار لا يوجبون على الرّجل زكاة الفطر عن الجَنين في بطن أمِّه" [3].

والواجب في زكاة الفطر صاعٌ من غالب قُوت أهل البلد، سواء ٌكان من القمح، أو الشَّعير، أو التمر، أو الزبيب، أو الأرز، أو الذرة، أو نحو ذلك مما يُقتات ويُدَّخَر.

وروى الشيخان عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي اللَّه عنه - قال: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ» [4].

والأَقِطُ: اللبن المجفَّف الذي لم تُنزَع زُبدته. والصَّاعُ يساوي أربعة أمداد بكفَّيْ رجل معتدِل الكفَّين.

وإن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة يَرَون وجوب إخراج الأعيان في زكاة الفِطر؛ كالتمر والشعير والزبيب، أو من غالب قوت الناس، ولا يُجيزون إخراج قيمتها نقودًا، ومذهب الحنفية جواز إخراج القيمة.

و"قوله: «على العبد»: جعل وجوبَ زكاة الفطر علي السيِّد كالوجوب علي العبد مجازًا؛ إذ ليس هو أهلًا لأن يكلَّف بالواجبات المالية، ويؤيِّد ذلك عطف الصغير عليه... وفيه دليل علي أن صدقة الفطر فريضة، وهو قول عامَّة أهل العلم، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنها واجبة، وليست بفريضة، والواجب عندهم أقلُّ رُتبةً من الفريضة. وعلى أن مِلك النِّصاب ليس بشرطٍ لوجوبها؛ بل هي واجبة على الفقير والغنيِّ. وقال الشافعيُّ - رضي الله عنه -: إذا فَضَل عن قُوتِه وقُوت عياله ليوم العيد وليلته قَدْرُ صَدَقة الفِطر، يَلزَمه صَدَقة الفِطر، ويجب على الْمَولى أن يؤدِّيَها عن عبيده وإمائه المسلمين، شاهِدهم وغائبِهم، سواءٌ كان للخِدمة أو للتجارة، فعليه في رقيق التجارة صَدَقة الفطر وزكاة التجارة. وعلى أنها لا تجب على المسلم فِطرة عبده الكافر؛ لقوله  في الحديث: «من المسلمين»، ولأنها طُهْرةُ المسلم كزكاة المال" [5].

قوله: «وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ»: "هذا أمرُ استحباب؛ لجواز التأخير عند الجمهور، واختلفوا في جواز التأخير عن اليوم" [6].

"وَالظاهر أن من أخرج الْفِطرة بعد صلاة العيد كان كمن لم يُخرجها، باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، وجزموا بأنها تُجْزِئ إِلى آخِر يوم الْفِطر، والحديث يَرُدُّ عليهم، وأما تأخيرها عن يوم العيد، فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتِّفاق؛ لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم؛ كما في إخراج الصلاة عن وقتها" [7].

"أما حِكْمةُ زكاة الفِطر، فظاهرةٌ جدًّا؛ ففيها إحسانٌ إلى الفقراء، وكَفٌّ لهم عن السؤال في أيام العيد؛ ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم به، ويكون عيدًا للجميع، وفيها الاتِّصاف بخُلق الكرم وحبِّ الْمُواساة، وفيها تطهيرُ الصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولَغْوٍ وإثم، وفيها إظهارُ شُكر نعمة الله بإتمام صيام شهرِ رمضانَ وقيامه، وفِعل ما تيسَّر من الأعمال الصالحة فيه" [8].

عن ابن عَبَّاسٍ، قال:

«فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ»

[9].

"(طُهْرَةً)؛ أي: تَطْهِيرًا لِنَفْسِ مَن صام رمضانَ (مِن اللَّغْو): وهو ما لا يَنْعَقِدُ عليه القلب من الْقَول (وَالرَّفَث) قال ابن الأثير: الرَّفَث هنا هو الْفُحْش من كلام، (وَطُعْمَة) بِضَمِّ الطَّاء: وهو الطَّعَامُ الذي يُؤكل. وفيه دليل على أن الْفِطْرَة تُصْرَف في المساكين دون غيرهم من مَصارف الزكاة. (مَنْ أَدَّاهَا قَبْل الصَّلَاة)؛ أي: قبل صلاة العيد (فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَة): الْمُراد بالزكاة صدقة الفِطر. (صَدَقَة مِن الصَّدَقَات): يعني التي يُتَصَدَّقُ بها في سائر الأوقات، وأمر القَبول فيها موقوف على مشيئة اللَّه تعالى" [10].

قال وَكيعُ بنُ الجرَّاح: "زكاة الفِطر لشهر رمضانَ كسَجدة السَّهو للصلاة؛ تَجبُر نُقصانَ الصَّوم كما يَجبُر السجودُ نقصان الصلاة" [11].


المراجع

1. "المغني" لابن قدامة (3/ 79).

2. "المجموع شرح المهذَّب" للنوويِّ (6/ 104).

3. "المغني" لابن قدامة (3/ 99).

4. رواه البخاريُّ (1506)، ومسلم (985).

5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1499).

6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1499).

7. "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي (5/ 4).

8. "مجالس شهر رمضان" لابن عثيمين (ص142).

9. رواه أبو داود (1609)، وابن ماجه (1827)، وقال الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (5/ 317): "قلت: إسناده حسن، وحسَّنه ابن قدامة والنوويُّ".

10. "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي (5/ 3، 4).

11. "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرمليِّ (3/ 110).




النقول:

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «على العبد»: جعل وجوب زكاة الفطر علي السيِّد كالوجوب علي العبد مجازًا؛ إذ ليس هو أهلًا لأن يكلَّف بالواجبات المالية، ويؤيِّد ذلك عطف الصغير عليه... فيه دليل علي أن صدقة الفطر فريضة، وهو قول عامَّة أهل العلم، وذهب أصحاب أبي حنيفة إلى أنها واجبة، وليست بفريضة، والواجب عندهم أحطُّ رتبةً من الفريضة. وعلى أن مِلك النِّصاب ليس بشرطٍ لوجوبها؛ بل هي واجبة على الفقير والغنيِّ. وقال الشافعيُّ - رضي الله عنه -: إذا فَضَل عن قُوتِه وقُوت عياله ليوم العيد وليلته قَدْرُ صَدَقة الفِطر، يَلزَمه صَدَقة الفِطر، ويجب على الْمَولى أن يؤدِّيَها عن عبيده وإمائه المسلمين، شاهِدهم وغائبِهم، سواءٌ كان للخِدمة أو للتجارة، فعليه في رقيق التجارة صَدَقة الفطر وزكاة التجارة. وعلى أنها لا تجب على المسلم فِطرة عبده الكافر؛ لقوله في الحديث: «من المسلمين»، ولأنها طُهْرةُ المسلم كزكاة المال. أقول: إن «من المسلمين» حالٌ من «العبد» وما عُطِف عليه، وتنزيلها على المعاني المذكورة على ما يقتضيه علمُ البيان أن المذكوراتِ جاءت مزدَوَجةً على التضادِّ للاستيعاب، لا للتخصيص؛ لئلا يَلزَم التداخل، فيكون المعنى: فَرَض رسول الله على جميع الناس من المسلمين. وكونُها على مَن وجبت وفيمن وجبت، يُعلَم من نصوص أُخَرَ. ويمكِن أن يُقال: إن «على» بمعنى «عن»، وضُمِّن «فَرَض» معنى «صدر»؛ أي: أصدر صدقة الفطر فرضًا عن العبد والحرِّ صاعًا... فوضع «على» موضع «عن» لمزيد الاستعلاء. والله أعلم. قوله: «أن تؤدَّى قبل خروج الناس» هذا أمرُ استحباب؛ لجواز التأخير عند الجمهور، واختلفوا في جواز التأخير عن اليوم" [1].

قال العظيم آبادي رحمه الله: "(طُهْرَةً)؛ أي: تَطْهِيرًا لِنَفْسِ من صام رمضان (مِن اللَّغْو): وهو ما لا يَنْعَقِدُ عليه القلب من الْقَول (وَالرَّفَث) قال ابن الْأَثِير: الرَّفَث هنا هو الْفُحْش من كلام، (وَطُعْمَة) بِضَمِّ الطَّاء: وهو الطَّعَامُ الذي يُؤكل. وفيه دليل على أن الْفِطْرَة تُصْرَف في المساكين دون غيرهم من مَصَارِف الزكاة. (مَنْ أَدَّاهَا قَبْل الصَّلَاة)؛ أَيْ: قَبْل صَلَاة الْعِيد (فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَة): الْمُراد بالزكاة صدقة الفِطر (صَدَقَة مِن الصَّدَقَات): يعني التي يُتَصَدَّقُ بها في سائر الأوقات، وأمر القبول فيها موقوف على مشيئة اللَّه تعالى. وَالظاهر أن من أخرج الْفِطرة بعد صلاة العيد كان كمن لم يُخرجها، باعتبار اشتراكهما في ترك هذه الصدقة الواجبة. وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن إخراجها قبل صلاة العيد إنما هو مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، وجزموا بأنها تُجْزِئ إِلى آخِر يوم الْفِطر، والحديث يَرُدُّ عليهم، وأما تأخيرها عن يوم العيد، فقال ابن رسلان: إنه حرام بالاتِّفاق؛ لأنها زكاة، فوجب أن يكون في تأخيرها إثم؛ كما في إخراج الصلاة عن وقتها" [2].

قال ابن قدامة رحمه الله: "وَأُضيفت هذه الزكاة إلى الفطر؛ لأنها تجب بالفطر من رمضانَ. وقال ابن قتيبة: وقيل لها: فِطرةٌ؛ لأن الفِطرة الخِلْقة،

قال الله تعالى:

{فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِى فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا}

[الروم: 30]؛

أي: جبِلَّتَه التي جبَل الناسَ عليها، وهذه يُراد بها الصدَقةُ عن البدن والنفس كما كانت الأولى صدقةً عن المال" [3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما حِكْمةُ زكاة الفِطر، فظاهرةٌ جدًّا؛ ففيها إحسانٌ إلى الفقراء، وكَفٌّ لهم عن السؤال في أيام العيد؛ ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم به، ويكون عيدًا للجميع، وفيها الاتِّصاف بخُلق الكرم وحبِّ الْمُواساة، وفيها تطهيرُ الصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولَغْوٍ وإثم، وفيها إظهارُ شُكر نعمة الله بإتمام صيام شهرِ رمضانَ وقيامه، وفِعل ما تيسَّر من الأعمال الصالحة فيه" [4].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال البيهقيُّ: وقد أجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر، وكذا نَقل الإجماع فيها ابن المنذر في الأشراف" [5].

قال وَكيعُ بنُ الجرَّاح رحمه الله: "زكاة الفِطر لشهر رمضانَ كسَجدة السَّهو للصلاة؛ تَجبُر نُقصانَ الصَّوم كما يَجبُر السجودُ نقصان الصلاة" [6].

قال ابن قدامة رحمه الله: "ومَن أخرج عن الجنين، فحَسَنٌ، وكان عثمانُ بنُ عفّانَ - رضي اللّه عنه - يُخرج عن الجنين. المذهب أنّ الفِطرة غير واجبة على الجنين. وهو قول أكثر أهل العلم. قال ابن المنذر: كلُّ مَن نحفظ عنه من علماء الأمصار لا يوجبون على الرّجل زكاة الفطر عن الجنين في بطن أمّه. وعن أحمدَ رواية أخرى: أنّها تجب عليه؛ لأنّه آدميٌّ، تصحُّ الوصيّة له، وبه، ويرث، فيدخل في عموم الأخبار، ويُقاس على المولود. ولنا أنّه جنين فلم تتعلَّق الزّكاة به؛ كأجنَّة البهائم، ولأنّه لم تَثبُت له أحكام الدّنيا إلّا في الإرث والوصيّة، بشرط أن يخرج حيًّا. إذا ثبت هذا فإنّه يُستحبُّ إخراجها عنه؛ لأنّ عثمانَ كان يُخرجها عنه، ولأنّها صدقة عمَّن لا تجب عليه، فكانت مستحبَّةً كسائر صدقات التّطوُّع" [7].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "زكاةُ الفِطر واجبة على الإنسان نفسه؛ لقول ابن عمر: «فَرَضَ النبيُّ  زَكَاةَ الفِطْرِ عَلَى الحُرِّ والعَبْدِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، كلُّ إنسان تجب عليه الفِطرة بنفسه؛ لكن إذا أَخرَجها وليُّ الأمر عن نفسه وعمَّن تحت ولايته، فلا بأس، فإن ابن عمر - رضي الله عنه - كان يُخرجها عن نفسه وعمَّن يَمُونُهم. فإذا أخرجها الإنسان عنه وعن أهل بيته، وعن أولاده، ولو كانوا في مكانٍ آخَرَ، ورَضُوا بذلك، فلا حَرَجَ؛ بل قد يكون في هذا برٌّ لوالدَيه؛ لأن بعض الآباء لو قال له الابنُ: يا أبتِ، أنا أريد أن أُخرج زكاة الفطر لنفسي، ربما يَغضَب، ويقول: أتراني عاجزًا؟! أنا من يوم أنت صغير وأنا الذي أُخرج زكاتك، واليوم تجيء وتقول: أنا سأخرج زكاتي لنفسي؟! يعني: بعض الآباء ما عنده فَهم، فإذا رأى الولدُ أن من أسباب رضا والده أن يمكِّنه من دفع الزكاة فلا بأس، وإلا فالأصل أن الزكاة واجبة على كلِّ إنسان بنفسه" [8].

قال ابن قدامة رحمه الله: " فأمّا وقتُ الوجوب، فهو وقتُ غروب الشّمس من آخر يوم من رمضانَ، فإنّها تجب بغروب الشّمس من آخر شهر رمضانَ، فمن تزوَّج، أو مَلَك عبدًا، أو وُلِد له وَلَد، أو أَسلَم، قبل غروب الشّمس، فعليه الفِطرة. وإن كان بعد الغروب، لم تَلزَمه. ولو كان حين الوجوب مُعْسِرًا، ثمّ أَيْسَر في ليلته تلك أو في يومه، لم يَجِبْ عليه شيء، ولو كان في وقت الوجوب موسِرًا، ثمّ أَعسَر، لم تَسقُط عنه؛ اعتبارًا بحالة الوجوب. ومن مات بعد غروب الشمس ليلةَ الفطر، فعليه صدقة الفطر. نَصَّ عليه أحمدُ" [9].


المراجع

    1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1499).

    2. "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي (5/ 3، 4).

    3. "المغني" لابن قدامة (3/ 79).

    4. "مجالس شهر رمضان" لابن عثيمين (ص142).

    5. "المجموع شرح المهذَّب" للنوويِّ (6/ 104).

    6. "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" للرمليِّ (3/ 110).

    7. "المغني" لابن قدامة (3/ 99).

    8. "جلسات رمضانية" للعثيمين (14/ 20).

    9. "المغني" لابن قدامة (3/ 89).




    غريب الحديث:

    جُنَّةٌ: أي: ساترٌ ووَاقٍ [1].

    يرفُث: الرَّفَث: الجِماع [2].

    يصخَب: الصَّخَب: الصياح ورفعُ الصوت والجَلَبة [3].

    خُلُوف: تغيُّر رائحة الفم عند الصيام والجوع [4].


    المراجع

    1. قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 156): "الصوم جُنة: قيل: من النار ساترٌ عنها مانعٌ منها". وقال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 308): "أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشهوات. والجُنة: الوق

    2. قال أبو عبيد الهرويُّ في "الغريبين في القرآن والحديث" (3/ 759): "الرَّفَث: الجماع، والرفث: التصريح بذِكر الجماع والإعرابُ به"، قال الأزهريُّ: "هي كلمة جامعة لكلِّ ما يريده الرجلُ من امرأته".

    3. قال الحميديُّ في "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاريِّ ومسلم" (ص 431): الصَّخب: الصياح والضوضاء والجَلَبة.

    4. قال القاسم بن سلّام في "غريب الحديث" (1/ 327): "تغيُّر طعم الفم لتأخير الطعام".




    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو هُرَيرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ فيما يرويه عن ربِّه تعالى:

    «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به»

    أي: الأعمال كلُّها يُجازى عليها ابنُ آدمَ، وكلُّها له، وإنما جَعَل الله الصيامَ وحدَه له تشريفًا لهذه العبادة الجليلة وتعظيمًا. «والصِّيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: سِتر ووقاية من النار أو من المعاصي. «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يَرْفُثْ، ولا يَصْخَبْ»، فيتجنَّب الصائم الأمور التي تَحرُم على الصائم وغيره؛ كالصَّخب والفُحش والفسوق والجهل ونحو ذلك. «فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» حتى لا يستدرجه إلى السِّباب والتقاتُل بالباطل.

    قال ﷺ: 

    «والذي نفْسُ محمدٍ بيده، لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسك»

    يُقسِم ﷺ مبالغةً في التأكيد على أن تغيُّر رائحة فم الصائم بسبب الصيام أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسك. «للصائم فرحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ» بأن أتمَّ الله عليه صومه في خير وعافية، وبذهاب الظَّمأ والجوع وثُبوت الأجر. «وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»؛ لِما يرى ما أعدَّه الله له من الجزاء في الآخرة.




    الشرح المفصَّل للحديث:

    هذا الحديث القُدسيُّ يَرْويه النبيُّ ﷺ عن ربِّه في فضائل الصوم، وما أَعَدَّه الله للصائمين من النعيم المقيم، والفوز العظيم.

    قوله تعالى: «كلُّ عمل ابن آدم له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي» الأعمال كلُّها يُجازى عليها ابنُ آدمَ، وكلُّها له، وإنما جَعَل الله الصيامَ وحدَه له تعالى لأمور، منها:

    • أن يكون أضافه إليه إضافةَ تشريف وتخصيص؛

      كقوله:

      ﴿عِندَ بَيْتِكَ ٱلْمُحَرَّمِ﴾

      [إبراهيم: 37]،

      وقوله تعالى:

      ﴿نَاقَةَ ٱللَّهِ وَسُقْيَٰهَا﴾

      [الشمس: 13].

    • أن يكون أراد: الصوم لا يعلمه أحدٌ غيري؛ لأن كلَّ طاعة لا يقدِر المرء أن يُخفيَها، وإن أخفاها عن الناس لم يُخْفِها عن الملائكة، والصومُ يمكِنه أن يَنْوِيَه ولا يعلم به مَلَك ولا بشَر؛ فلهذا لا يمكِن أن يَدخُله الرياء.

    • أن الاستغناء عن الطعام صفة لله تبارك وتعالى؛ فإنه يُطْعِمُ ولا يُطْعَم، كأنه قال: إن الصائم إنما يتقرَّب إليَّ بأمر هو متعلِّق بصفة من صفاتي، وهذا على معنى تشبيه الشيء في بعض معانيه، وإن كان لا يجوز أن يكون لله شريكٌ في كُنْهِ صفاته، كما لا شريكَ له في ذاته.

    • أن يكون المراد بقوله: «الصوم لي»؛ أي: من صفة ملائكتي؛ لأن العبد في حالة الصوم يشبه الْمَلَك؛ لأنه يَذكُر ولا يأكل، يمتَثِل العبادة ولا يَقضي شهوته.

    • أن يكون المراد أنه تعالى أخبرنا بجزاء العبادات، وأن الحسنة بعَشْر أمثالها، إلى سَبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة، إلا الصومَ؛ فإنه مُستَثنًى من ذلك، فلم يُخبر الله بجزائه مَلَكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مُرسلًا.

    • أن سائر الحسنات راجعةٌ إلى صَرف المال، واشتغال البَدَن بما فيه رضاه، والصومُ يتضمَّن كَسْر النفْس، وتعريض البدن للنُّقصان والنُّحول، مع ما فيه من الصبر على مَضَض الجوع، وحُرقة العطش، فبينَه وبينها أمدٌ بعيدٌ.

    • أنَّ في الصيام اجتماعَ أنواع الصبر الثلاثة؛ فهو صبرٌ على طاعة الله؛ لأن الإنسان يَصبر على هذه الطاعة ويَفعلها، وعن معصيته؛ لأنه يَتجنَّب ما يَحرُم على الصائم، وعلى أقدار الله؛ لأن الصائم يُصيبه ألَمٌ بالعطش، والجوع، والكسل، وضعف النفْس، فلهذا كان الصوم من أعلى أنواع الصبر؛ لأنه جامع بين الأنواع الثلاثة،

      وقد قال الله تعالى:

      ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّٰبِرُونَ أَجْرَهُم﴾

      [الزمر: 10].

    • أن معنى قوله تعالى: «الصوم لي» أن الصوم يقمَع عَدُوِّي، وهو الشيطان؛ لأن سبيل الشيطان إلى العبد اقتضاءُ الشهوات، فإذا تركها العبدُ، بَقِيَ الشيطان لا حَراكَ به، ولا حِيلةَ له [1].

    وقوله: «وأنا أجزي به» فيه زيادةُ تفضيل للصوم، وإن كانت كلُّ العبادات إنما يَجزي بها الله تعالى، والمراد: مضاعفةُ الحسنات من غير عدد ولا حساب [2].

    وقوله: «والصيامُ جُنَّةٌ»؛ أي: وقاية، وإنما أخبر أنه وقايةٌ وجُنَّةٌ؛ لأن المسلم يتستَّر به من شَوكة الشيطان وإغوائه، والجُنَّة إنما يَكْمُل الانتفاع بها إذا كانت مُحْكَمةً ومسرودةً في غير اختلال، وكذلك الصيام إنما يحقِّق التستُّر به على حَسَبِ العناية به من التحفُّظ، والإتقان، والتنَزُّه عن الخطأ والخَطَل فيهما، فإذا وجد فيه بعض الخلل، نقَص بحصَّته ثوابُ العمل؛ ولهذا ترتَّب عليه ما بعده من النهي عن الصَّخَب، والرفَث، والفسوق [3].

    وقوله: «جُنَّة» يُحتمَل أن يكون من النار؛ فإنه يَحُول بين الصائم وبينها، ويُحتمَل أن يكون عن المعاصي؛ لأنه يَكسِر الشهوةَ ويُضعف القوَّة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جُنَّةٌ وسترٌ دونها [4].

    وقوله: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ، ولا يَصخَبْ» الصَّخب والفسوق والجهل ونحو ذلك؛ من الأمور التي تَحرُم على الصائم وغيره، وإنما ذكَرَها هنا توكيدًا وتنبيهًا على أن الصوم أبعدُ ما يكون عن الرفَث والجهل، وهو كقوله تعالى:

    ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ﴾

    [المؤمنون: 1، 2]،

    فالخشوع في الصلاة أوكَدُ منه في غيرها، وقال في الأشهر الحُرُم:

    ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾

    [التوبة: 36]،

    فأكَّد حرمةَ الأشهر الحُرُم، وجعل الظُّلْمَ فيها آكَدَ من غيرها [5].

    وقوله: «فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» اختُلِف في المراد بالقول هنا؛ هل يقولها الإنسان في نفْسه أو يقولها للذي يُقاتله ويَسبُّه؟ والصحيح أنه يقولها جهرًا للذي يُقاتله؛ ليَعلَم أنه إنما سكَت عنه لا عجزًا منه ولا هوانًا؛ وإنما لأنه صائمٌ لله تعالى، وهذا المانع الذي منعه عنه، فينزجر السابُّ بذلك، ولا يظنُّ من ذلك ذُلَّ الرجُل وهوانه. ولأن ذلك قد يَزجُر السابَّ أيضًا إن كان هو الآخَرُ صائمًا؛ كأن يكون ذلك في رمضان أو غيره، فيُذكِّره بصومه فينزجر [6].

    وقوله: «والذي نفْسُ محمدٍ بيده» يُقسم النبيُّ ﷺ بربِّه تأكيدًا وتوثيقًا، وهو الصادق المصدوق، إلا أن ذلك للتأكيد والحثِّ، وبيان الفضل. والظاهرُ أن الحديث القدسيَّ انقطع إلى هنا، والآتي من كلام النبيِّ ﷺ، كما صُرِّح بذلك في بعض الروايات: «فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلْفَةُ فَمِ الصَّائِم...».

    قوله: «لَخُلُوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله مِن ريحِ المسكِ» هذا من باب الثناء على الصائم والرضا بفِعله؛ لئلا يمنعَه تغيُّر رائحة فمه عن مواظبة الصوم. وفي معنى ذلك عدَّةُ أوجه:

    • أن ذلك استعارة ومجاز؛ فقد جرت عادتنا بتقريب الروائح الطيبة مِنَّا، فاستُعير ذلك من الصوم لتقريبه من الله تعالى. فيكون المعنى: أن خُلوف فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك عندكم؛ أي: إنه يقرِّب إليه أكثر من تقريب المِسك إليكم.

    • وقيل: يجعله اللهُ - عزَّ وجلَّ - كذلك في الآخِرة، فيكون أطيبَ عنده من رِيح المسك، كما يفعل في المجاهد في سبيل الله، حيث يجعل الدَّمَ برِيح المسك.

    • أن صاحب الخُلوف يَنال من الثواب ما هو أفضلُ من رِيح المسك عندنا.

    • أنه يُعتَدُّ برائحة الخُلوف، وتُدَّخر على ما هي عليه أكثرَ مما يُعتَدُّ بريح المسك، وإن كانت عندنا نحن بخلافه.

    • أن الخُلوف أكثر ثوابًا من المسك حيث نُدِبَ إليه في الجُمَع والأعياد، ومجالس الحديث والذِّكر، وسائر مجامع الخير [7].

    وقوله: «للصائم فرحتانِ يَفرَحُهما: إذا أفطَرَ فَرِحَ، وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِه»، أما الفرح بلقاء ربِّه، فلِما أعدَّه له من الجزاء الذي أخفاه عن جميع خلقه، فلم يعلمه غيره، وأما الفرح بفِطره، فيُحتمَل أن يكون فرحًا بالطعام بعد الجوع والعطش، ويُحتمَل أن يكون فرحًا بأن أتمَّ الله عليه صومه في خير وعافية وسلامته من الفساد [8]. 

    ولا مانعَ من الحمل على ما هو أعمُّ مما ذُكر؛ ففرَحُ كلِّ أحد بحسَبه؛ لاختلاف مَقامات الناس في ذلك؛ فمنهم مَن يكون فرحُه مُباحًا - أي: بالطعام والشراب - وهو الطبيعيُّ، ومنهم مَن يكون مُستَحبًّا [9].



    المراجع

    1. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 946)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (4/ 240)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 212)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 490)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 458).

    2. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 940).

    3. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنّة" للتوربشتيِّ (2/ 459).

    4. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 939)، "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (6/ 88).

    5.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 214).

    6. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 20)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 432).

    7. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 96).

    8. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 947)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 112).

    9. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 118).



    النقول:

    قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "قوله: «كلُّ عمل ابن آدم له إلا الصيامَ فإنه لي»: اختُلف في معنى هذا على أقوال: أحدها: أن أعمال بني آدم يمكِن الرياء فيها، فيكون لهم، إلا الصيام فإنه لا يمكِن فيه إلا الإخلاص؛ لأن حال الْمُمسِك شِبعًا كحال الْمُمْسِك تقرُّبًا، وارتضاه ا لمازِريُّ.

    وثانيها: أن أعمال بني آدم كلَّها لهم فيها حظٌّ إلا الصيام؛ فإنهم لا حظَّ لهم فيه، قاله الخطَّابيُّ.

    وثالثها: أن أعمالهم هي أوصافهم، ومناسِبةٌ لأحوالهم، إلا الصيامَ؛ فإنه استغناءٌ عن الطعام، وذلك من خَواصِّ أوصاف الحقِّ سبحانه وتعالى.

    ورابعها: أن أعمالهم مضافةٌ إليهم إلا الصيام؛ فإن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفًا؛ كما قال: (بيتي) و(عبادي).

    وخامسها: أن أعمالهم يقتصُّ منها يوم القيامة فيما عليهم إلا الصيام؛ فإنه لله تعالى، ليس لأحد من أصحاب الحقوق أن يأخذ منه شيئًا" [1].

    قال ابن حجر رحمه الله: "وَالْجُنَّةُ بضمِّ الجيم: الوقاية والسَّتْر، وقد تبيَّن بهذه الرّوايات متعلَّق هذا السَّتر، وأنّه من النّار، وبهذا جَزَم ابن عبد البرّ، وأمّا صاحب النّهاية، فقال: معنى كونه جُنّةً؛ أي: يقي صاحبه ما يؤذيه من الشّهوات، وقال القرطبيُّ: جُنّة؛ أي: سُترة، يعني: بحسب مشروعيّته، فينبغي للصّائم أن يصونه ممّا يُفسده ويَنقُص ثوابه، وإليه الإشارة بقوله: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث...» إلخ، ويصحُّ أن يُراد أنّه سُترة بحسب فائدته، وهو إضعاف شهوات النّفس، وإليه الإشارة بقوله: «يدع شهوته...» إلخ، ويصحُّ أن يُراد أنّه سُترة بحسب ما يحصل من الثّواب وتضعيف الحسنات. وقال عياض في "الإكمال": معناه: سُترة من الآثام، أو من النّار، أو من جميع ذلك، وبالأخير جزم النّوويُّ، وقال ابن العربيِّ: إنّما كان الصّوم جُنّةً من النّار؛ لأنّه إمساك عن الشّهوات، والنّار محفوفة بالشّهوات، فالحاصل أنّه إذا كفَّ نفسه عن الشّهوات في الدّنيا، كان ذلك ساترًا له من النار في الآخرة" [2].

    قال المازِريُّ رحمه الله: "تخصيصه الصومَ هاهنا بقوله: «لي»، وإن كانت أعمال البرِّ المخلَصة كلُّها له تعالى؛ لأجْلِ أنَّ الصَّوْمَ لا يمكِن فيه الرِّياء كما يمكِن في غيره من الأعمال؛ لأنه كفٌّ وإمْسَاكٌ، وحال الْمُمْسِكِ شِبعًا أوْ لِفَاقةً كحال الممسِك تقرُّبًا، وإنما القصد وما يُبطنه القلب هو الْمُؤَثِّر في ذلك، والصلوات والحجُّ والزكاة أعمال بَدَنية ظاهرة، يمكِن فيها الرياء والسُّمعة؛ فلذلك خُصَّ الصوم بما ذكره دونها. وأما قوله: «أطْيَبُ عند الله من ريح المِسْك»، فمجازٌ واستعارة؛ لأن استطابة بعض الروائح من صفات الحيوان الذي له طبائعُ تميل إلى شيء، فتَستطِيبه وتَنفِر عن آخَرَ، فتستقذره، والله تعالى يتقدَّس عن ذلك؛ ولكن جرت العادة فينا بتقريب الروائح الطيبة منّا، واستُعير ذلك في الصوم لتقريبه من الله سبحانه. و «خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ» بضم الخاء: تغيُّره. قال الهرويُّ: يُقال: خَلَفَ فُوه إذا تغيَّر، يَخْلُف خُلُوفًا" [3].

    قال ابن حجر رحمه الله: "حُكي عن عائشةَ، وبه قال الأوزاعيُّ، أنّ الغِيبة تفطِّر الصّائم، وتوجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأَفرَط ابن حزم فقال: يُبطله كلُّ معصية من متعمِّد لها ذاكرٍ لصومه، سواء كانت فعلًا أو قولًا؛ لعموم قوله: «فلا يرفث ولا يجهل»، ولقوله: «من لم يدع قول الزّور والعمل به فليس للّه حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، والجمهور وإن حملوا النّهي على التّحريم، إلّا أنّهم خصُّوا الفِطر بالأكل والشُّرب والجِماع، وأشار ابن عبد البرِّ إلى ترجيح الصّيام على غيره من العبادات، فقال: حَسْبُكَ بكون الصّيام جنّةً من النّار فضلًا" [4].

    قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله: «الصيام جُنَّة»؛ أي: سِتْرٌ ومانع من الرَّفَث والآثام، أو مانع من النار وساتر منها، أو مانع من جميع ذلك، ومنه: الْمُجْن للتُّرْس الذى يُسْتَتَر به، ومنه سُمِّيت الملائكة والشياطين جِنًّا؛ لاستتارهم عن أعين الناس، ورؤيتهم، وفي بعض الروايات: «فلا يصخب»، وهو من معنى يَجهَل، والصَّخَب بالسين والصاد: الصياح، ورواه الطبريُّ: «فلا يسخر» بالراء، ومعناه صحيح؛ لأن السخرية بالقول والفعل كلُّه من الجهل وبمعناه، وقد ذهب الأوزاعيُّ إلى أن السبَّ والغِيبة يفطِّران الصائم، وخصَّ النهيَ عن الرَّفَثِ والجهل هنا، وهو في كلِّ حال منهيٌّ عنه؛ لتأكيد حقِّ الصَّوم، ولتضعيف الإثم بفعل ذلك به؛ لإهانته حقَّ الشهر، ومراعاة الصوم، أَوْ لِئَلَّا يَفسَد صومُه على مذهب من يراه" [5].

     قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «والّذي نفسي بيده» أقسم على ذلك تأكيدًا. قوله: «لخلوف» بضمّ المعجمة واللّام وسكون الواو بعدها فاء. قال عياض: هذه الرّواية الصّحيحة، وبعض الشّيوخ يقوله بفتح الخاء، قال الخطّابيُّ: وهو خطأ، وحكى القابسيُّ الوجهين، وبالغ النّوويُّ في "شرح المهذّب" فقال: لا يجوز فتح الخاء، واحتجَّ غيره لذلك بأنّ المصادر الّتي جاءت على فَعول بفتح أوَّله قليلة؛ ذكرها سيبويهِ وغيره، وليس هذا منها، واتّفقوا على أنّ المراد به تغيُّر رائحة فم الصّائم بسبب الصّيام. قوله: «فم الصّائم» فيه ردٌّ على من قال: لا تثبت الميم في الفم عند الإضافة إلّا في ضرورة الشّعر؛ لثبوته في هذا الحديث الصّحيح وغيره. قوله «أطيب عند اللّه من ريح المسك»: اختلف في كون الخلوف أطيب عند اللّه من ريح المسك مع أنّه سبحانه وتعالى منزّه عن استطابة الرّوائح إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنّه يعلم الشّيء على ما هو عليه على أوجه، قال المازريُّ: هو مجاز؛ لأنّه جرت العادة بتقريب الرّوائح الطّيّبة منّا، فاستعير ذلك للصّوم لتقريبه من اللّه، فالمعنى: أنّه أطيب عند اللّه من ريح المسك عندكم؛ أي: يقرِّب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البرِّ، وقيل: المراد أنّ ذلك في حقّ الملائكة وأنّهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر ممّا تستطيبون ريح المسك، وقيل: المعنى أنّ حكم الخلوف والمسك عند اللّه على ضدِّ ما هو عندكم، وهو قريب من الأوّل، وقيل: المراد أنّ اللّه تعالى يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك، كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكًا، وقيل: المراد أنّ صاحبه ينال من الثّواب ما هو أفضل من ريح المسك، لا سيّما بالإضافة إلى الخلوف. حكاهما عياض، وقال الدّاوديُّ وجماعة: المعنى أنّ الخلوف أكثر ثوابًا من المسك المندوب إليه في الجُمَع ومجالس الذّكر، ورجّح النّوويُّ هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطّيب على القبول والرّضا" [6].

    قال ابن رجب رحمه الله: "ومن أفضل أنواع الصّبر: الصّيام؛ فإنّه يَجمَع الصّبر على الأنواع الثّلاثة؛ لأنّه صبر على طاعة اللّه عزّ وجلّ، وصبر عن معاصي اللّه؛ لأنّ العبد يترك شهواته للّه ونفسُه قد تُنازعه إليها؛ ولهذا في الحديث الصّحيح: «إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: كلّ عمل ابن آدم له إلّا الصّيام، فإنّه لي وأنا أجزي به، إنّه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي»، وفيه أيضًا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصّائم من الجوع والعطش، وكان النّبيُّ ﷺ يسمِّي شهر الصّيام شهرَ الصّبر" [7].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «فلا يرفث»؛ أي: الصّائم، كذا وقع مختصرًا، وفي الموطّأ: «الصّيام جنّة، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث...» إلخ، ويرفث بالضّمِّ والكسر، ويجوز في ماضيه التّثليث، والمراد بالرَّفَث هنا - وهو بفتح الرّاء والفاء ثمّ المثلّثة - الكلام الفاحش، وهو يُطلق على هذا، وعلى الجماع، وعلى مقدِّماته، وعلى ذكره مع النّساء أو مطلقًا، ويحتمل أن يكون لما هو أعمّ منها. قوله: «ولا يجهل»؛ أي: لا يفعل شيئًا من أفعال أهل الجهل كالصّياح والسّفه ونحو ذلك. ولسعيد بن منصور من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه: «فلا يرفث ولا يجادل». قال القرطبيُّ: لا يُفهم من هذا أنّ غير الصّوم يُباح فيه ما ذكر؛ وإنّما المراد أنّ المنع من ذلك يتأكّد بالصّوم" [8].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال الداوديُّ: تخصيصُه في هذا الحديث ألَّا يَرْفُثَ ولا يجهل، وذلك لا يحلُّ في غير الصيام؛ وإنما هو تأكيد لحُرمة الصوم عن الرفث والجهل؛

    كما قال تعالى:

    ﴿قَدْ أَفْلَحَ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَٰشِعُونَ﴾

    [المؤمنون: 1، 2]،

    والخشوع في الصلاة أوكَدُ منه في غيرها، وقال في الأشهر الحُرُم:

    ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ﴾

    [التوبة: 36]،

    فأكَّد حُرمةَ الأشهر الحُرم، وجَعَل الظُّلمَ فيها آكَدَ من غيرها، فينبغي للصائم أن يعظِّم من شهر رمضانَ ما عظَّم الله ورسوله، ويَعرِف ما لَزِمه من حُرمة الصيام. قال غيره: واتَّفَق جمهور العلماء على أن الصائم لا يفطِّره السبُّ والشتم والغِيبة، وإن كان مأمورًا أن ينزِّه صيامه عن اللفظ القبيح، وقال الأوزاعيُّ: إنه يَفطُر بالسبِّ والغِيبة، واحتجَّ بما رُوي أن الغِيبة تفطِّر الصائم. قال ابن القصّار: معناه أنه يصير في معنى المفطِر في سقوط الأجر، لا أنه يُفطِر في الحقيقة؛

    كقوله تعالى:

    ﴿وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا﴾

    [الحجرات: 12]،

    ومن اغتاب فلم يكن آكلاً لحمَ أخيه مَيْتًا في الحقيقة؛ وإنما يصير في معناه، ويجوز أن يكون في معنى التغليظ، كما قال: الكذب مجانِبٌ للإيمان، فإن قيل: فما معنى قوله: «فليقل: إني صائم»، والمندوب إليه أن يَستتِر بعمله ليَكثُر ثوابه؟ قيل: إذا قال: إني صائم، ارْتَدَع، وعَلِم أنه إذا اجترأ عليه في صوم، كان أعظمَ في الإثم، فليَعلَم أيضًا أن الصوم يَمنَع من الردِّ عليه، ومثلُ هذا لا يُكرَه إذا كان لعُذر، وقيل معناه: أن يقول ذلك لنفسه" [9].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وإن امرؤ قاتله أو شاتمه»، وفي رواية صالح: «فإن سابّه أحد أو قاتله» ولأبي قُرَّة من طريق سُهيل عن أبيه: «وإن شتمه إنسان فلا يكلّمه»، ونحوه في رواية هشام عن أبي هريرة عند أحمد، ولسعيد بن منصور من طريق سهيل: «فإن سابّه أحد، أو ماراه»؛ أي: جادله. ولابن خزيمة من طريق عَجْلانَ مولى الْمُشْمَعلِّ عن أبي هريرة: «فإن سابّك أحد فقل: إنّي صائم، وإن كنت قائمًا فاجلس». ولأحمدَ والتّرمذيِّ من طريق ابن المسيِّب عن أبي هريرة: «فإن جَهِل على أحدكم جاهل وهو صائم». وللنّسائيِّ من حديث عائشة: «وإن امرؤ جَهِل عليه فلا يشتمه ولا يسبَّه»، واتّفقت الرّوايات كلُّها على أنّه يقول: «إنّي صائم»، فمنهم من ذكرها مرّتين، ومنهم من اقتصر على واحدة" [10].



    المراجع

    1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (10/ 1).

    2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

    3. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 61، 62).

    4. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

    5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 110).

    6. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 105، 106).

    7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 26).

    8. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).

    9. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24، 25).

    10. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 104).





    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُولَ اللَّهِ ﷺ  أنه قَالَ: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى»؛ أي: كلُّ المسلمين يدخلون الجنة إلا الذي يرفض ويمتنع.

    (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ يَأْبَى؟!)؛ أي: ومن ذا الذي يمتنع عن دخول الجنة وقد دُعِيَ إليها؟!

    قال ﷺ : «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى»؛ أي: إن الذي يطيع الرسول ﷺ   هو الذي قَبِل الدعوة وأطاعه، أما الذي يَعصيه بعدم الإيمان به، أو باتِّباعه سبيلَ المعاصي والشهوات، فذلك الذي يمتنع عن دخول الجنة. 

    الشرح المفصَّل للحديث

    يبيِّن النبيُّ ﷺ  في هذا الحديث أصلاً عظيمًا من أصول الدين، ألا وهو اتِّباع النبيِّ ﷺ، ويكون ذلك بامتثال أمره، واجتناب ما نهى عنه، وقد أمرَ الله عزَّ وجلَّ عباده باتِّباع نبيِّه والاقتداء بسنَّته؛

    فقال

    وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَٱحۡذَرُواْۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ

    [المائدة: 92]

    وتوعَّد مَن خالَفَ أمرَه، ورَغِب عن سنَّته

    فقال:

    فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ

    [النور: 63].

    قوله ﷺ : «كلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى»: المراد بالأمَّة هنا: أمَّةُ الدعوة، وهي من بُعِث إليهم ﷺ ، وقد أُرسل للعالَمين من الجنِّ والإنس، فالجنُّ مكلَّفون مثلُ البَشَر، والحُجَّة قائمة عليهم. وقيل: أمَّة الإجابة، وهي مَن صدَّقه وآمن به ﷺ ، وهم المسلمون، «أبى»؛ أي: امتنع، إما عن قَبول الدعوة والدخول في الإسلام، فيكون كافرًا، أو بتركه الطاعةَ التي هي سببٌ في دخول الجنَّة، فيكون مسلمًا عاصيًا.

    قوله ﷺ : «من أطاعني»؛ أي: انقاد وأَذعَن لِما جئتُ به، فيكون جزاؤه الفوزَ بالجنَّة ونعيمِها الأبديِّ، «ومن عصاني»: بعدم التصديق، أو بفعل المنهيِّ عنه، فله سوء الْمُنقلَب بإبائه وعصيانه.

    والموصوفُ بالإباء إن كان كافرًا، لا يدخل الجنة أصلاً، وإن كان مسلمًا، لم يدخلها مع السابقين الأوَّلين، فمن أطاع النبيَّ ﷺ  وتمسَّك بالكتاب والسنَّة، دخل الجنَّة، ومن اتَّبَع هواه وزلَّ عن الصواب والطريق المستقيم، دخل النار [1]

    وقد جعل الله عزَّ وجلَّ طاعة النبيِّ ﷺ  واتِّباعه سببًا في جلب محبَّته سبحانه، وغفران الذنوب؛

    قال تعالى:

    قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞﱠ

    [آل عمران: 31].

    "هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله ﷺ  أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[2]؛ ولهذا

    قال:

    قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

    أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية

    ثم قال:

    وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

    أي: باتِّباعكم للرسول ﷺ  يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته" [3]

    المراجع

    1.  "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 12) بتصرف.
    2.  رواه مسلم (1718).
    3. "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
    النقول:

    قال الطيبيُّ رحمه الله: "«كلُّ أمَّتي يدخلون الجنة» يُحتمَل أن يُراد بالأمَّة أُمَّةُ الدعوة؛ أي: كلُّهم يَدخُلون الجنة على التفصيل السابق في باب الإيمان، والآبي هو الكافر، أو يُراد بها أمَّة الإجابة؛ فالآبي هو العاصي من أمَّته، استثناه تغليظًا عليهم، وزجرًا عن المعاصي، «ومن أبى» عطفٌ على محذوف؛ أي: عَرَفنا الذين يَدخُلون الجنَّة، ومن الذي أبى؟ أي: والذي أبى لا نَعرِفه، وكان من حقِّ الجواب أن يُقال: من عصاني، فعَدَل إلى ما هو عليه؛ تنبيهًا به على أنهم ما عَرَفوا ذلك ولا هذا؛ إذ التقديرُ: من أطاعني وتمسَّك بالكتاب والسنَّة، دَخَل الجنَّة، ومن اتَّبَع هَوَاه، وزلَّ عن الصواب، وضلَّ عن الطريق المستقيم، فقد دخل النار، فوضع «أبى» موضِعَه وضعًا للسبب موضعَ المسبّب، ويَشُدُّ هذا التأويلَ إيرادُ محيي السنَّة هذا الحديث في باب الاعتصام بالكتاب والسنَّة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسنَّة، ويجتنب الأهواء والبدع"[1].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «إلا مَن أبى»؛ أَيِ: امْتنع عن قَبُول الدعوة أو عن امتثال الأمر، فإن قلتَ: العاصي يدخل الْجنَّة أيضًا؛ إِذ لا يبقى مخلَّدًا في النَّار؟ قلت: يعني لا يدخل في أوَّل الْحَال، أو الْمُرَاد بالإباء الامْتِنَاعُ عن الإسلام"[2]

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«كلُّ أمتي»؛ أي: أمة الإجابة، «يدخلون الجنة إلا مَن أبى» بفتح الهمزة والموحَّدة، من عَصَى منهم، فاستثناهم تغليظًا عليهم، وزجرًا عن المعاصي، أو المراد أمَّة الدعوة، و«إلا مَن أبى»؛ أي: كَفَر بامتناعه عن قَبول الدعوة.

    «قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى». قال في "شرح المشكاة": ومن يأبى معطوف على محذوف؛ أي: عَرَفنا الذين يَدخُلون الجنة، والذي أبى لا نعرفه، وكان من حقِّ الجواب أن يُقال: من عصاني، فعَدَل إلى ما ذكره؛ تنبيهًا به على أنهم ما عَرَفوا ذاك ولا هذا؛ إذ التقديرُ: من أطاعني وتمسَّك بالكتاب والسُّنّة دخل الجنة، ومن اتَّبع هواه وزلَّ عن الصواب وضلَّ عن الطريق المستقيم، دخل النار، فوضع (أبى) موضعه؛ وضعًا للسبب موضع المسبّب. قال: ويعضِّد هذا التأويلَ إيرادُ محيي السُّنّة هذا الحديثَ في باب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، والتصريح بذكر الطاعة؛ فإن المطيع هو الذي يعتصم بالكتاب والسُّنّة، ويجتنب الأهواء والبدع[3].

     قال الملا علي القاري رحمه الله: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ»: على صيغة الفاعل، وقيل: على بناء المفعول، «إلّا من أبى»؛ أي: امتنع عن قَبول ما جئتُ به. قال ابن الْمَلَك: إن أُريد من الأمّة أمّة الإجابة، فالاستثناء منقطِع، وإن أُريد أمّة الدّعوة، فالاستثناء متَّصِل. وقال الطِّيبيُّ: المراد إمّا أمّة الدّعوة، فالآبي هو الكافر، أو أمّة الإجابة، فالآبي هو العاصي، استثناه زجرًا وتغليظًا. «قيل: ومن أبى»: هذه عطف على محذوف، عطف جملة على جملة؛ أي: عرفنا الّذين يدخلون الجنّة، ومن الّذي أبى؟ أي: الّذي أبى لا نعرفه، وحقُّ الجواب اختصارًا أن يقول: من عصاني، فعدل عنه ﷺ  إلى ما سيأتي؛ لإرادة التّفصيل. قال: «من أطاعني دخل الجنّة، ومن عصاني فقد أبى»؛ تنبيهًا على أنّهم ما عرفوا هذا ولا ذاك، أو التّقدير: من أطاعني وتمسّك بالكتاب والسّنّة دخل الجنّة، ومن اتّبع هواه وزال عن الصّواب، وضلّ عن الطّريق، فقد دخل النّار، ووضع (أبى) موضع هذا وضعًا للسّبب موضع المسبَّب"[4].

    قال المناويُّ رحمه الله: "«كلُّ أمَّتي يدخلون الجنة إلا من أبى» بفتح الهمزة والموحَّدة بامتناعه عن قَبول الدعوة، أو بتركه الطاعة التي هي سببٌ لدخولها؛ لأن من ترك ما هو سببُ شيءٍ لا يوجد بغيره، فقد أبى؛ أي: امتنع، والمراد أمَّة الدعوة، فالآبي هو الكافر بامتناعه عن قَبول الدعوة، وقيل: أمَّة الإجابة؛ فالآبي هو العاصي منهم، استثناهم تغليظًا وزجرًا عن المعاصي. قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «من أطاعني»؛ أي: انقاد وأذعن لما جئت به، «دخل الجنة»، وفاز بنعيمها الأبديِّ، بيَّن أن إسناد الامتناع عن الدخول إليهم مَجَازٌ عن الامتناع لسببه، وهو عصيانه بقوله: «ومن عصاني»، بعدم التصديق، أو بفعل المنهيِّ، «فقد أبى»، فله سوء المنقلَب بإبائه، والموصوف بالإباء إن كان كافرًا، لا يدخل الجنة أصلاً، أو مسلمًا، لم يدخلها مع السابقين الأوَّلين"[5].

    قال السعديُّ رحمه الله:

    وَإِن تُطِيعُوهُ تَهۡتَدُواْۚ 

    [النور: ٥٤]

    إلى الصراط المستقيم، قولاً وعملاً، فلا سبيل لكم إلى الهداية إلا بطاعته، وبدون ذلك، لا يمكِن؛ بل هو مُحَال.

    وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ

    أي: تبليغكم البيِّن الذي لا يُبقي لأحدٍ شكًّا ولا شُبهة، وقد فعل ﷺ، بلَّغ البلاغ المبين، وإنما الذي يحاسبكم ويجازيكم هو الله تعالى، فالرسولُ ليس له من الأمر شيء، وقد قام بوظيفته"[6].

    قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن؛

    لأن الله تعالى قال:

    وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُواْۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ

    [الحشر: 7]،

    وقال:

    أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ

    [النساء: 59]،

    فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله  في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن" [7].

    قال الشافعيُّ رحمه الله : " أجمع المسلمون على أنّ من استَبانَت له سُنَّة رسول اللّه ﷺ  لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد من النّاس"[8].

    قال ابن كثير رحمه الله : هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله ﷺ  أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[9]؛ ولهذا

    قال:

    قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

    أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، ثم قال

    وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ

    أي: باتِّباعكم للرسول ﷺ  يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته"[10].

    المراجع

    1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 606).
    2.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (25/ 27).
    3.  "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (10/ 302، 303).
    4.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 225).
    5.  "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 12).
    6.  "تفسير السعديِّ" (ص: 572).
    7.  انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
    8.  "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 6).
    9.  رواه مسلم (1718).
    10.  "تفسير ابن كثير" (2/ 32).

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، أن النَّبِيَّ ﷺ قال له: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ»؛ أي: لا تَطلُب أن تكون واليًا أو حاكمًا. «فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ»؛ أَيْ: إيتاءً صَادِرًا عن سؤالٍ وطلب. «وُكِلْتَ إِلَيْهَا»؛ أي: تَرَكك الله تعالى لتدبير نفسك، ولم يُعِنْكَ عليها. «وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ»؛ أَيْ: حالَ كَوْنِكَ مُفَوِّضًا أَمْرَكَ إلى اللَه تعالى، وَمُعْتَقِدًا أَلَّا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. «أُعِنْتَ عَلَيْهَا»؛ أَيْ: أعانَكَ الله بتوفيقِه وتثبيته، وهيَّأ لك أعوانَ خَيْرٍ ينصحون لك. «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ»؛ أي: إذا أقسمتَ على شيء.

    «فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»؛ أي: فرأيت شيئًا خيرًا من المحلوف عليه، فافعل هذا الخيرَ، وكفِّر عن يمينك بالكفَّارة المشروعة.

    الشرح المفصَّل للحديث:

        يوجِّه النبيُّ ﷺ في هذا الحديث المسلمَ ويُرشِده إلى خطورة حبِّ الإمارة والرياسة، وسؤالِها، والغفلةِ عن حقيقة أمرها؛ فإنها في الدنيا أمانة، ويوم القيامة ستكون على من لم يَقُم بحقِّها خِزْيًا وندامة، فيحذِّر النبيُّ ﷺ وينهى عبدَالرحمن بنَ سمرة - رضي الله عنه - يقول له: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلِ الإِمَارَةَ» ينهاه أن يسألَ الإمارة، أو يَسعَى إليها؛ لأنها أمانة كبرى ومسؤولية عظمى؛ فالإمارةُ وغيرُها من الولايات التي تتعلَّق بها مصالح الناس، ينبغي أن يُسعى بها إلى أهلها ومستحقِّيها، ولا ينبغي للناس أن يَتَصارعوا عليها؛ بل على العبد أن يسأل الله العافية والسلامة؛ فإنه لا يدري هل تكون الولاية خيرًا له أو شرًّا؟ وهل يستطيع القيام بحقِّها أو لا؟ 

    فكان التَّحذير من سؤال الإمارة؛ لأنها خطر، فقد يسألها ولا يقوم بالواجب، فينبغي له سؤال العافية، وعدم سؤال الإمارة.

    ثم قال ﷺ له: «فَإِنَّكَ إِنْ أُوتِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُوتِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، أُعِنْتَ عَلَيْهَا»:

    "قوله: (وُكِلت إليها) معناه: أن الإمارة أمر شاقٌّ لا يَخرُج عن عُهدتها إلَّا الأفرادُ من الرجال، فلا تسألها عن تشوُّف نفس؛ فإنك إن سألتها، تُركتَ معها، فلا يُعينك الله عليها، وإن أوتيتَ من غير مسألة، أعانك الله عليها"[1].

    و"فيه دليلٌ على أنه من تعاطى أمرًا وسوَّلت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر، أنه يُخذَل فيه في أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها؛ فقد قال ﷺ: (وُكِل إليها)؛ بمعنى: لم يُعَنْ على ما أعطاه، والتعاطي أبدًا مقرونٌ بالخِذلان، وإن من دُعيَ إلى عمل أو إمامة في الدين فقَصَّر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمرَ الله، رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنيٌّ على أنه مَن تَواضَع لله رَفَعه"[2].

    وفي الحديث " كراهةُ سؤال الولاية، سواءً ولايةُ الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها، وبيان أنّ من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من اللّه تعالى، ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل، فينبغي أن لا يولَّى

    ولهذا قال ﷺ:

    «لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ»"[3].

    هذا وإن "طلب الشَّرفِ بالوِلايةِ والسُّلطانِ والمال خطرٌ جدًّا، يَمنَعُ خيرَ الآخرةِ وشَرَفَها وكرامَتها وعزَّها

    قال الله تعالى:

    {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

    [القصص: ٨٣]

    وقَلَّ مَن يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولاياتِ فوُفِّق؛ بل يُوكَلُ إلى نفسه؛ كما في هذا الحديث. قال بعضُ السَّلفِ: ما حرص أحدٌ على ولاية فعَدَل فيها. وكان يَزيدُ بنُ عبد الله بن وهبٍ من قضاة العدل والصالحين، وكان يقول: من أَحَبَّ المالَ والشَّرف، وخافَ الدوائِرَ، لم يَعدِلْ فيها

    وفي "صحيح البخاريّ": عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ قال:

    «إِنكم سَتحرصونَ عَلَى الإمارة، وستكونُ ندامةً يوم القيامةِ، فنِعْمَ الْمُرضعةُ، وبئستِ الفاطمة»"[4].

    وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعريِّ

    أنَّ رجلين قالا للنبيِّ ﷺ: يا رسولَ الله، أَمِّرْنا. قال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي أَمرَنَا هذا مَن سأَلَه، ولا من حَرَصَ عليه»[5]"[6].

    و"من المعلوم أنَّ كلّ ولاية لا تخلو من المشقَّة، فمن لم يكن له من اللّه إعانة، تورَّط فيما دخل فيه، وخَسِر دنياه وعُقْباه، فمن كان ذا عقل، لم يتعرَّض للطلَب أصلًا؛ بل إذا كان كافيًا وأُعطِيَها من غير مسألة، فقد وَعَده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل"[7].

    هذا "ويتعيَّن على الإمام أن يبحث عن أرضى النّاس وأفضلِهم فيُولِّيه

    لِما أخرجه الحاكم والبيهقيُّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:

    «مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ»

    وإنّما نهى عن طلب الإمارة؛ لأنّ الولاية تُفيد قوّةً بعد ضعف، وقدرةً بعد عجز تتَّخِذها النّفس المجبولة على الشّرِّ وسيلةً إلى الانتقام من العدوِّ، والنّظر للصَّدِيق، وتتبُّع الأغراض الفاسدة، ولا يوثَق بحُسن عاقبتها، ولا سلامة مجاورتها، فالأَوْلى أن لا تُطلَب ما أَمكَن"[8]. 

    وقيل: إن هذا "محمول على الغالب، وإلّا فقد قال يوسفُ - عليه السّلام -:

    {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ}

    [يوسف: 55]

    وقال سليمان:

    {وَهَبْ لِي مُلْكًا}

    [ص: 35]

    ويُحتمَل أن يكون في غير الأنبياء - عليهم السّلام - وذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العِصمة من الذُّنوب. وأيضًا لا يُعارِض الثّابتَ في شرعنا ما كان في شرع غيرنا، فيُمكِن أن يكون الطّلب في شرع يوسف - عليه السّلام – سائغًا، وأمّا سؤال سليمانَ فخارج عن مَحَلِّ النّزاع؛ إذ مَحَلُّه سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان - عليه السّلام - إنّما سأل الخالق"[9].

    قوله ﷺ:

    «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»

    "والمعنى: من حَلَف يمينًا، جَزْمًا لا لَغْوًا، ثم بدا له أمرٌ آخَرُ، إمضاؤه أفضلُ من إبرار يمينه، فليأتِ ذلك الأمرَ، وليكفِّرْ عن يمينه"[10].

    و"اختلفوا في تقديم كفَّارة اليمين على الحِنْثِ، فذهب أكثرُ الصحابة وغيرهم إلى جوازه، وإليه ذهب الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ، إلا أن الشافعيَّ يقول: إن كفَّر بالصَّوم قبلَ الحِنث، فلا يجوز؛ وإنما يجوز العِتْقُ أو الإطعام أو الكِسوة، كما يجوز تقديم الزكاة على الحَول، ولا يجوز تعجيلُ صوم رمضان قبل وقته"[11].

    "ومن حَلَف على معصية؛ مثل: لا يصلِّي أو لا يكلِّم أباه، أو ليَقْتُلنَّ فلانًا، ينبغي أن يَحنَث؛ أي: يَجِب عليه أن يحنِّث نفسَه ويكفِّر عن يمينه، واعلم أنّ المحلوف عليه أنواع: فعلُ معصية، أو ترك فرض، فالحنثُ واجب. أو كان غيرُه أَوْلى منه؛ كالحَلِف على ترك وطء زوجته شهرًا أو نحوه، فإنّ الحنث أفضلُ؛ لأنّه الرِّفْق، وكذا الحِنْث ليضربنَّ عبدَه، وهو يستأهل ذلك، أو ليَشْكُوَنَّ مديونه إن لم يوافِه غدًا؛ لأنّ العفوَ أفضل، وكذا تيسير المطالبة. أو على شيء، وضدُّه مثله؛ كالحَلِف لا يأكل هذا الخبز ولا يَلبَس هذا الثّوب، فالبرُّ في هذا وحفظ اليمين أَوْلى، ولو قال قائل: إنّه واجب

    لقوله تعالى جلّ جلاله:

    {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}

    [المائدة: 89]

    على ما هو المختار في تأويلها أنّه فيما أمكن، لا يَبعُد"[12].

    {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن الحَلِف بالله كاذبًا، وعن كثرة الأَيمان، واحفظوها إذا حَلفتُم عن الحِنث فيها؛ إلا إذا كان الحنث خيرًا، فتمامُ الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينُه عُرضةً لذلك الخير"[13].

    المراجع

    1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/2440).
    2.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 217).
    3. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/116).
    4. رواه البخاريُّ (7148).
    5. رواه البخاريُّ (7149)، ومسلم (1733).
    6. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 71).
    7. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 124).
    8. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 567).
    9. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (8/ 296).
    10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
    11. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
    12. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (6/ 2239).
    13. "تفسير السعديِّ" (ص: 242).
    النقول:

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: فيه دليلٌ على أنه من تعاطى أمرًا وسوَّلت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر، أنه يُخذَل فيه في أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى نفسه أهلًا لها؛ فقد قال ﷺ: (وُكِل إليها)؛ بمعنى: لم يُعَنْ على ما أعطاه، والتعاطي أبدًا مقرونٌ بالخِذلان، وإن من دُعيَ إلى عمل أو إمامة في الدين فقَصَّر نفسه عن تلك المنزلة وهاب أمرَ الله، رزقه الله المعونة، وهذا إنما هو مبنيٌّ على أنه مَن تَواضَع لله رَفَعه"[1].

    قال النوويُّ رحمه الله: "«لَا تَسَألِ الْإِمَارَةَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ، أُكِلْتَ عَلَيْهَا» هكذا هو في كثير من النُّسَخ أو أكثرها (أُكِلْتَ) بالهمز، وفي بعضها: (وُكِلْتَ). قال القاضي: هو في أكثرها بالهمز. قال: والصواب بالواو؛ أي: أُسلِمْتَ إليها ولم يكن معك إعانة، بخلاف ما إذا حصلت بغير مسألة"[2].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "والمعنى: من حَلَف يمينًا، جَزْمًا لا لَغْوًا، ثم بدا له أمرٌ آخَرُ، إمضاؤه أفضلُ من إبرار يمينه، فليأتِ ذلك الأمرَ، وليكفِّرْ عن يمينه... اختلفوا في تقديم كفَّارة اليمين على الحِنْثِ، فذهب أكثرُ الصحابة وغيرهم إلى جوازه، وإليه ذهب الشافعيُّ ومالكٌ وأحمدُ، إلا أن الشافعيَّ يقول: إن كفَّر بالصَّوم قبلَ الحِنث، فلا يجوز؛ وإنما يجوز العِتْقُ أو الإطعام أو الكِسوة، كما يجوز تقديم الزكاة على الحَول، ولا يجوز تعجيلُ صوم رمضان قبل وقته"[3].

    قال النوويُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث فوائدُ؛ منها: كراهةُ سؤال الولاية، سواءً ولايةُ الإمارة والقضاء والحسبة وغيرها، ومنها: بيان أنّ من سأل الولاية لا يكون معه إعانة من اللّه تعالى، ولا تكون فيه كفاية لذلك العمل، فينبغي أن لا يولَّى

    ولهذا قال ﷺ:

    «لَا نُوَلِّي عَمَلَنَا مَنْ طَلَبَهُ أَوْ حَرَصَ عَلَيْهِ»"[4].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: (وُكِلت إليها) معناه: أن الإمارة أمر شاقٌّ لا يَخرُج عن عُهدتها إلَّا الأفرادُ من الرجال، فلا تسألها عن تشرُّف نفس؛ فإنك إن سألتها، تُركتَ معها، فلا يُعينك الله عليها، وإن أوتيتَ من غير مسألة، أعانك الله عليها"[5].

    قال ابن رجب رحمه الله: " والحرصُ على الشَّرَف على قسمين؛ أحدهما: طلب الشَّرَف بالولاية والسُّلطان والمال، وهذا خطر جدًّا، وهو الغالب، يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزَّها

    قال الله تعالى:

    {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}

    [القصص: ٨٣]

    وقلَّ من يَحرِص على رياسة الدّنيا بطلب الولايات فوُفِّق؛ بل يوكَل إلى نفسه

    كما قال النبيُّ ﷺ لعبد الرحمن بن سمرة:

    «يا عبدَ الرحمنِ، لا تسألِ الإمارةَ؛ فإِنَّكَ إِن أُعْطيتَهَا عن مَسألةٍ، وُكّلتَ إليها، وإنْ أُعْطيتَهَا من غير مسألةٍ، أُعنتَ عليها».

    قال بعضُ السَّلفِ: ما حرصَ أحدٌ على ولايةٍ فعَدَل فيها. وكان يَزيدُ بنُ عبد الله بن وهبٍ من قضاةِ العدلِ والصَّالحين، وكان يقولُ: من أَحَبَّ المالَ والشَّرف، وخافَ الدوائِرَ، لم يَعدِلْ فيها

    وفي "صحيح البخاريّ": عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ قال:

    «إِنكم سَتحرصونَ عَلَى الإمارة، وستكونُ ندامةً يوم القيامةِ، فنِعْمَ الْمُرضعةُ، وبئستِ الفاطمة»"[6].

    وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعريِّ أنَّ رجلين قالا للنبيِّ ﷺ:

    يا رسولَ الله، أَمِّرْنا. قال: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي أَمرَنَا هذا مَن سأَلَه، ولا من حَرَصَ عليه»[7]"[8].

    قال ابن حجر رحمه الله: "من المعلوم أنَّ كلّ ولاية لا تخلو من المشقَّة، فمن لم يكن له من اللّه إعانة، تورَّط فيما دخل فيه، وخَسِر دنياه وعُقْباه، فمن كان ذا عقل، لم يتعرَّض للطلَب أصلًا؛ بل إذا كان كافيًا وأُعطِيَها من غير مسألة، فقد وَعَده الصّادق بالإعانة، ولا يخفى ما في ذلك من الفضل"[9].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«وإذا حلفتَ على» محلوف «يمين، فرأيت غيرها خيرًا منها، فكفِّر عن يمنيك، وأْتِ الذي هو خير»: ظاهرُه تقديم التكفير على إتيان المحلوف عليه، والرواية السابقة تأخيرُه، ومذهب إمامنا الشافعيِّ، ومالكٍ والجمهور جوازُ التقديم على الحِنث؛ لكن يُستحبُّ كونُه بعدَه، واستثنى الشافعيُّ التكفير بالصوم لأنه عبادة بدنية، فلا تقدَّم قبل وقتها كصوم رمضان، واستثنى بعض أصحابه حِنث المعصية؛ كأن حلف لا يزني؛ لِما في التقديم من الإعانة على المعصية، والجمهور على الإجزاء؛ لأن اليمين لا يحرِّم ولا يحلِّل، ومنع أبو حنيفة وأصحابه وأشهبُ من المالكية التقديمَ. لنا قولُه: «فكفِّر عن يمينك وأت الذي هو خير»، فإن قيل: الواو لا تدلُّ على الترتيب. أُجيب برواية أبي داود والنسائيِّ: «فكفِّر عن يمينك ثم ائتِ الذي هو خير». فإن قلتَ: ما مناسبة هذه الجملة للسابقة؟ أُجيب بأن الممتنع من الإمارة قد يؤدِّي به الحال إلى الحَلِف على عدم القَبول مع كون المصلحة في ولايته"[10].

    قال الملا علي القاري رحمه الله: "قال صاحب الهداية: ومن حَلَف على معصية؛ مثلِ: لا يصلِّي أو لا يكلِّم أباه، أو ليَقْتُلنَّ فلانًا، ينبغي أن يَحنَث؛ أي: يَجِب عليه أن يحنِّث نفسَه ويكفِّر عن يمينه، واعلم أنّ المحلوف عليه أنواع: فعلُ معصية، أو ترك فرض، فالحنثُ واجب. أو كان غيرُه أَوْلى منه؛ كالحَلِف على ترك وطء زوجته شهرًا أو نحوه، فإنّ الحنث أفضلُ؛ لأنّه الرِّفْق، وكذا الحِنْث ليضربنَّ عبدَه، وهو يستأهل ذلك، أو ليَشْكُوَنَّ مديونه إن لم يوافِه غدًا؛ لأنّ العفوَ أفضل، وكذا تيسير المطالبة. أو على شيء، وضدُّه مثله؛ كالحَلِف لا يأكل هذا الخبز ولا يَلبَس هذا الثّوب، فالبرُّ في هذا وحفظ اليمين أَوْلى، ولو قال قائل: إنّه واجب

    لقوله تعالى جلّ جلاله:

    {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}

     [المائدة: 89]

    على ما هو المختار في تأويلها أنّه فيما أمكن، لا يَبعُد"[11].

    قال الصنعانيُّ رحمه الله: "ويتعيَّن على الإمام أن يبحث عن أرضى النّاس وأفضلِهم فيُولِّيه؛ لِما أخرجه الحاكم والبيهقيُّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:

    «مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى عِصَابَةٍ، وَفِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ مَنْ هُوَ أَرْضَى لِلَّهِ تَعَالَى مِنْهُ، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ».

    وإنّما نهى عن طلب الإمارة؛ لأنّ الولاية تُفيد قوّةً بعد ضعف، وقدرةً بعد عجز تتَّخِذها النّفس المجبولة على الشّرِّ وسيلةً إلى الانتقام من العدوِّ، والنّظر للصَّدِيق، وتتبُّع الأغراض الفاسدة، ولا يوثَق بحُسن عاقبتها، ولا سلامة مجاورتها، فالأَوْلى أن لا تُطلَب ما أَمكَن"[12].

    قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَالَ ابْنُ التِّينِ: محمول على الغالب، وإلّا فقد قال يوسفُ - عليه السّلام -:

    {اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ} 

    [يوسف: 55]

    وقال سليمان:

    {وَهَبْ لِي مُلْكًا}

    [ص: 35]

    ويُحتمَل أن يكون في غير الأنبياء - عليهم السّلام - وذلك لوثوق الأنبياء بأنفسهم بسبب العِصمة من الذُّنوب. وأيضًا لا يُعارِض الثّابتَ في شرعنا ما كان في شرع غيرنا، فيُمكِن أن يكون الطّلب في شرع يوسف - عليه السّلام – سائغًا، وأمّا سؤال سليمانَ فخارج عن مَحَلِّ النّزاع؛ إذ مَحَلُّه سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان - عليه السّلام - إنّما سأل الخالق"[13].

    قال السعديُّ رحمه الله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} عن الحَلِف بالله كاذبًا، وعن كثرة الأَيمان، واحفظوها إذا حَلفتُم عن الحِنث فيها؛ إلا إذا كان الحنث خيرًا، فتمامُ الحفظ: أن يفعل الخير، ولا يكون يمينُه عُرضةً لذلك الخير"[14].

    المراجع

    1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 217).
    2. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 207).
    3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2439).
    4. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/116).
    5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/2440).
    6. رواه البخاريُّ (7148).
    7. رواه البخاريُّ (7149)، ومسلم (1733).
    8. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 71).
    9. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 124).
    10. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 364).
    11. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (6/ 2239).
    12. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 567).
    13. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (8/ 296).
    14. "تفسير السعديِّ" (ص: 242).


    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو هُرَيرةَ رضي الله عنه عن رسول الله  أنه قال: «مَن صام رَمَضَانَ إيمانًا»؛ أي: صَامَه مؤمنًا بفرضِه عليه، مُصَدِّقًا بما أعدَّه الله للصائمين. «واحتسابًا»: مُغتنِمًا لساعاته، محتسبًا الأجرَ والثوابَ عند الله وحدَه؛ ابتغاءَ مرضاته. «غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذَنْبه»؛ أي: جزاؤه أن يَغفِر له الله ما تقدَّم من ذنبه. «ومَن قام ليلةَ القَدر إيمانًا واحتسابًا، غُفِر له ما تقدَّم من ذَنْبه»؛ أي: قامها بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، والذكر، واجتهد فيها بما يستطيع من العبادات.

    وقال ﷺ:

     «مَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا، غُفِرَ له ما تقدَّم من ذَنْبه»

    أي: قام لياليَه بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، والذكر، واجتهد فيها بما يستطيع من العبادات. 


    الشرح المفصَّل للحديث

    مِن عظيم لُطف الله بنا أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي جميعًا. وقد جعل الله في تلك الأوقات والأماكن من الفَوز العظيم والفلاح الْمُبين ما يُحفِّز الإنسانَ على العمل، واغتنام النَّفَحات.

    وفي هذا الحديث بيانُ نَفحة عظيمة من نفحات الله، وهي غُفران الذنوب التي تقدَّمت جميعًا بصيام شهر رمضان، وقيام لَيْلِه.

    والصيام: الامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، بنِيَّة العبادة لله تعالى، من أذان الفجر إلى أذان المغرب، وهو مأخوذٌ من

    قوله تعالى:

    ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾

    [البقرة: 187]،

    ومن الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه

    أن رسول الله ﷺ قال: قال الله عزَّ وجلَّ: «يَدَعُ شَهْوَتَه وطعامَه من أجْلي»

    [1].

    قوله: «إيمانًا»؛ أي: صَامَه وهو مؤمنٌ بأن الله عزَّ وجلَّ قد فرضَه عليه، مُصَدِّقٌ بموعود الله للصائمين، وما أَعَدَّ لهم [2]، وأن يصومَه لله تعالى، لا عن خوفٍ من الناس، ولا استحياء منهم من غير اعتقاد بفرضيته عليهم، ولا اعتقاد بتعظيم ذلك الشهر [3].

    وقوله: «احتسابًا»: أن يحتسب الثوابَ عند الله، لا يرجو جزاءً من أحد غيره، فيفعل الطاعةَ ابتغاءَ مرضاة الله ورجاءَ ثوابه. والاحتسابُ من الحَسْب، وهو العَدُّ؛ كأن الفاعل يعتدُّ بعمله الذي عَمِله [4]. وقيل: الاحتساب: أن يتلقَّى الشهر بطِيبة نفْس، فلا يتجهَّم لمورده، وألَّا يستطيل زمانه؛ لكن يغتنم طولَ أيامه وامتدادَ ساعاتها؛ لِما يرجوه من الأجر والثواب فيها [5]. وقيل: أن يفعل ذلك يُريد به وجهَ الله بريئًا من الرياء والسُّمعة [6].

    وقد أفاد قوله: «إيمانًا واحتسابًا» أن الأعمال الصالحة لا تُقبل إلا بالاحتساب، وصِدق النيَّات؛ كما في الحديث عن عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال: «إنما الأعمالُ بالنِّيَّات» [7]، وأنه لا يُقبَل صوم رمضانَ إلا بنِيَّة، فيجب في الصوم الفرضِ أن ينويَ الإنسان الصيامَ قبل الفجر، أما النَّفْلُ فيجوز أن ينويَ بعد الفجر ما دام لم يأكُل أو يشرب [8]. ودائمًا ما يجتمع الإيمان والاحتساب معًا، حتى إن طَلْقَ بنَ حَبيبٍ رحمه الله لما عرَّف التقوى قال: "أن تَعمَل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تتركَ معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله"، فقَرَن بين الإيمان، وبين طلب الثواب والخوف من العقاب، وهو الاحتساب؛ فلا بدَّ لكل عملٍ أن يكون مبدؤُه الإيمانَ، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاءَ مرضاته، وهو الاحتسابُ [9].

    وقيل: الاحتساب أن يعتَدَّ بالأجر عند الله، يدَّخِره إلى الآخرة، لا يرجو أن يتعجَّل شيئًا منها في الدنيا؛ لأن ما يَفتَح الله على العبد في الدنيا من المال، ويناله من لذَّة، فمحسوب من أجره، ويُحاسَب يوم القيامة به. وقد رأى عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه جابرَ بنَ عبدِ الله رضي الله عنه يشتري لحمًا بدِرْهَمٍ، فقال: أَمَا يُريد أحدكم أن يطويَ بَطْنَه عن جاره، أو ابنِ عمِّه؟ أين تذهب عنكم هذه الآية:

    ﴿أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَٰتِكُمْ فِى حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا﴾؟!

    [الأحقاف: 20] [10]

    وقوله: «ومَن قام ليلة القَدر»؛ أي: قامها بالصلاة، والدعاء، وقراءة القرآن، ونحو ذلك من العبادات.

    واختلفوا في سرِّ تسمية ليلة القَدْر بهذا الاسم؛ فقيل: لأن لها قَدْرًا عظيمًا؛

    قال تعالى:

    ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَٰهُ فِى لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ ﴿١﴾ وَمَآ أَدْرَٰكَ مَا لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ ﴿٢﴾ لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍۢ ﴿٣﴾﴾

    [القدر: 1 - 3]،

    وقيل: لأن فيها تقديرَ الأشياء من أمور السَّنة، وقيل: فيها سَوْقُ المقادير إلى المواقيت، وقيل: قُدِّر في وقتها إنزالُ القرآن [11].

    وليس المراد بقيام تلك الليلة قيامَ جميع ليلِها؛ بل يَحصُل ذلك بقيام جزءٍ، ولو يسيرًا من الليل، كما في مطلَق التهجُّد، أو إدراك التراويح مع الإمام [12].

    وقد اختلف العلماء في تحديد ليلة القَدْر على أقوال؛ فقيل: إنها في كل شهر رمضان، وقيل: هي ليلةُ السابعَ عَشَرَ من رمضانَ؛

    لقوله تعالى:

    ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ﴾

    [الأنفال: 41]،

    ويوم التقى الجمعان كان يومَ بدر في السابعَ عَشَرَ من رمضانَ. وقيل: هي ليلة الحادي والعشرين، وقيل: ليلة الثالث والعشرين، وقيل: ليلة الخامس والعشرين، وقيل: ليلة السابع والعشرين، وقيل: في الليالي الوتر من العشر الأواخر، والقول الصحيح فيها أنها لا تُعلم بعينها؛ لكنها في العشر الأواخر من رمضان؛ ففي الحديث عن عائشة رضي الله عنها، قالت:

    «كان النبيُّ ﷺ إذا دخل العشْرُ، شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»

    [13].

    وحديث ابن عمر رضي الله عنه: 

    قال رسول الله ﷺ:

     «أَرَى رُؤْيَاكُمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَاطْلُبُوهَا فِي الْوِتْرِ مِنْهَا»

     [14]، 

    فمَن قام العشر الأواخر، فقد أدرك ليلة القَدْر لا محالةَ [15].

    وإنما أخفى الله عزَّ وجلَّ تلك الليلة ليتحقَّق اجتهادُ الطالب في الليالي جميعها، كما أُخفيت ساعةُ الإجابة يوم الجُمُعة، والوقت الذي ينزل الله عز وجل فيه إلى السماء الدنيا، وقد كان النبيُّ ﷺ يجتهد في العَشْر ما لا يجتهد في غيره [16].

    قوله: «ومَن قام رمضان»؛ أي: قام لياليَ رمضان كلَّها، على أنه لا تعارُضَ بين مغفرة الذنوب بقيام ليلة القَدْر وحْدَها، ومغفرتها بقيام ليالي رمضان جميعًا؛ فإن كلَّ واحدٍ منهما صالحٌ لتكفير السيئات؛ فقد يغتنم الإنسانُ قيامَ رمضان جميعًا بما فيه من ليلة القدر، فيُغفَر له ما تقدَّمَ من ذَنْبه، وقد يقصِّر في قيام رمضان كله، ويغتنم قيام ليلة القَدْر، فيحصل له ذلك بعون الله وتوفيقه.

    فذكر النبيُّ ﷺ للغفران طريقَين:

    أحدهما: يمكِن تحصيلُه يقينًا؛ لكنه شاقٌّ، وهو قيامُ رمضانَ كلِّه.

    والآخَر: الاقتصار على قيام ليلة القدر وتحرِّيها، وهذا لا سبيل إلى اليقين فيه؛ وإنما مَبْناه على الظنِّ والتَّخْمِين [17].

    قوله: «غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»؛ أي: يَغفِر اللهُ - عزَّ وجلَّ - له الذنوبَ جميعًا؛ صغائرَها وكبائرها، وهذا ظاهر الحديث؛ لكن قد اختلف الفقهاءُ في ذلك؛ فذهب بعضهم إلى القول به، وأن الله لم يَستَثنِ الكبائرَ دونَ الصغائر، وذهب أكثرُ الفقهاء إلى أن ذلك مختصٌّ بالصغائر دون الكبائر، ويشهَد له أحاديثُ كثيرةٌ؛ مثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ كان يقول: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان، مُكفِّراتٌ ما بينهن إذا اجتَنَب الكبائر» [18]، وأيضًا ما رواه عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه قال: سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاة مكتوبةٌ، فيُحسن وُضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه» [19]. ويشهد لذلك أن مذهب أهل السُّنة أن الكبائر تكفِّرها التوبة، أو إقامة الحدِّ، أو رحمة الله تعالى [20]. ورحمة الله واسعة، وفضله عظيم.


    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (1894)، ومسلم (1151) واللفظ له.

    2. انظر: "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 945)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 112).

    3. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 8)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1573).

    4. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 21)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 161)

    5. "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (2/ 945).

    6. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 61).

    7. رواه البخاريُّ (1)، ومسلم (1907).

    8. انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (4/ 21)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (13/ 72).

    9. انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).

    10. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 476). والأثر أخرجه مالك في "الموطأ" (2/936)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (24524).

    11. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 390).

    12. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 161).

    13. رواه البخاريُّ (2024)، ومسلم (1174).

    14. رواه البخاريُّ (11622)، ومسلم (1165) واللفظ له.

    15. انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربِّي (4/ 265)، "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (3/ 495).

    16. انظر: "التبصرة" لابن الجوزيِّ (2/ 97).

    17. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 76)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (4/ 164).

    18. رواه مسلم (233). 

    19. رواه مسلم (228).

    20. انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقي (4/ 163)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 77).


    النقول:

    قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا هو الإيمانُ والاحتسابُ الْمُشارُ إليه في كلام النَّبِيِّ ﷺ كقوله: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا»، و«مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ،»، فالصيامُ والقيام: هو الطَّاعَةُ، والإيمانُ: مراقبة الأمر. وإخلاصُ الْبَاعِثِ: هو أن يكون الْإِيمَانُ الْآمِرَ لَا شَيْءَ سِوَاهُ. وَالِاحْتِسَابُ: رَجَاءُ ثَوَابِ اللَّهِ. فَالِاعْتِصَامُ بِحَبْلِ اللَّهِ يَحْمِي مِنَ الْبِدْعَةِ وَآفَاتِ الْعَمَلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ" [1].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله: «إيمانًا»: يريد تصديقًا بفرضه، وبالثواب من الله تعالى، على صيامه وقيامه، وقوله: «احتسابًا» يريد بذلك: يحتسب الثواب على الله، وينوى بصيامه وَجْهَ الله، وهذا الحديثُ دليلٌ بين أن الأعمال الصالحة لا تزكو ولا تُتقبَّل إلا مع الاحتساب وصدق النيَّات؛ كما قال - عليه السلام -: «الأعمال بالنِّيَّات، ولكلِّ امرئ ما نوى»، وهذا يردُّ قَوْلَ زُفَرَ، فإنه زَعَم أنه يجزئ صوم رمضان بغير نِيَّة، وقولُه مردود بهذه الآثار، وإذا صحَّ أنه لا عمل إلا بنيَّة، صحَّ أنه لا يجزئ صوم رمضان إلا بنيَّة من الليل؛ كما ذهب إليه الجمهور. وخالف ذلك أبو حنيفة، والأوزاعيُّ، وإسحاق، وقالوا: يُجزئه التبييتُ قبل الزوال، ولا سَلَفَ لهم في ذلك، والنيَّة إنما ينبغي أن تكون متقدِّمةً قبل العمل، وحقيقةُ التبييت في اللغة يقتضي زمن الليل، ورُوي هذا عن ابن عمرَ، وحفصةَ، وعائشةَ، ولا مخالف لهم" [2].

    قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»: هذا أيضًا مثل الأول، ولعلَّ هذا فيمن لم يَقُم رمضانَ، فيُغفر له لقيامه ليلة القدر، أو من لم يكن قيامه إخلاصًا واحتسابًا" [3].

    قال ابن الملقِّن رحمه الله: "معنى قوله: «إيمانًا»؛ أي: تصديقًا بأنه حقٌّ، فصدَّق بفضل صيامه وقيامه. وقوله: «احتسابًا»؛ أي: يريد به وجه الله تعالى، بريئًا من رياء وسُمعة، فقد يفعل ما يعتقد صِدْقَه لا مُخْلِصًا؛ بل رياءً أو خوفًا من قاهر، أو من فَوَات منزلة، ونحو ذلك" [4].

    قال ابن حجر رحمه الله: "المراد بالإيمان: الاعتقاد بحقِّ فرضيّة صومه، وبالاحتساب: طلب الثّواب من اللّه تعالى، وقال الخطّابيُّ: احتسابًا؛ أي: عزيمةً، وهو أن يصومه على معنى الرّغبة في ثوابه، طيّبةً نفسُه بذلك، غيرَ مستثقل لصيامه، ولا مستطيل لأيّامه" [5].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «إيمانًا»؛ أي: تصديقًا بأنّه حقٌّ وطاعة. قوله: «واحتسابًا»؛ أي: إرادة وجه الله تعالى؛ لا لرياء ونحوه، فقد يفعل الإنسان الشّيء الّذي يعتقد أنه صادق؛ لكن لا يفعله مخلصًا؛ بل لرياء أو خوف أو نحو ذلك، يقال: احتسابًا؛ أي: حَسبه الله تعالى. يقال: احتسبت بكذا أجرًا عند الله تعالى، والاسم الحِسبة، وهي الأجر. وفي "العباب": احتسبت بكذا أجرًا عند الله؛ أي: اعتددتُه أنوي به وجه الله تعالى، ومنه قوله عليه السّلام: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا...» الحديث. واحتسبت عليه كذا؛ أي: أنكرته عليه، قاله ابن دُريد، ومنه: محتسِب البلد. قوله: «غفر له» من الغفر، وهو السَّتر، ومنه الْمِغفَر، وهو الخودة، وفي "العباب": الغَفْر التغطية، والغَفر والغفران والمغفرة واحد، ومغفرة الله لعبده: إلباسه إيّاه العفوَ وسَتره ذنوبَه" [6].

    قال ابن القيم رحمه الله: "وأما التقوى، فحقيقتها العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فيَفعَل ما أَمَر الله به؛ إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه؛ إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيده؛ كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فأطفئوها بالتقوى"، قالوا: وما التقوى؟ قال: " أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقاب الله". وهذا أحسن ما قيل في حدِّ التقوى؛ فإن كلَّ عمل لابدَّ له من مبدأ وغاية، فلا يكون العمل طاعةً وقُربة حتى يكون مصدرُه عن الإيمان، فيكون الباعثُ عليه هو الإيمانَ الْمَحْضَ، لا العادةَ، ولا الهوى، ولا طلب الْمَحْمَدة والجاه، وغير ذلك؛ بل لا بدَّ أن يكون مبدؤه محضَ الإيمان، وغايتُه ثوابَ الله، وابتغاء مرضاته، وهو الاحتساب" [7].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "من يقم ليلة القدر، هل يقتضي قيام تمام اللّيلة، أو يكفي أقلُّ ما ينطلق عليه اسم القيام؟ وأُجيب: بأنّه يكفي الأقلُّ، وعليه بعض الأئمّة، حتّى قيل بكفاية فرض صلاة العشاء في دخوله تحت القيام فيها؛ لكن الظّاهر منه عُرفًا أنه لا يقال: قيام اللّيلة، إلاّ إذا قام كلَّها أو أكثرها. قلت: قوله: «من يقم ليلة القدر»؛ مثل: من يصم يومًا، فكما لا يكفي صوم بعض اليوم ولا أكثره، فكذلك لا يكفي قيام بعض ليلة القدر ولا أكثرها؛ وذلك لأن ليلة القدر وقعت مفعولاً لقوله: يقم، فينبغي أن يوصف جميع اللّيلة بالقيام؛ لأن من شأن المفعول أن يكون مشمولاً بفعل الفاعل، فافهم. ومنها ما قيل: ما معنى القيام فيها إذ ظاهره غير مراد قطعًا؟ وأجيب: بأن القيام للطاعة كأنّه معهود من قوله تعالى:

    ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَٰنِتِينَ﴾

    [البقرة: 238]،

    وهو حقيقة شرعيّة فيه. ومنها ما قيل: الذّنب علم؛ لأنّه اسم جنس مضاف، فهل يقتضي مغفرة ذنب يتعلّق بحق النّاس؟ وأجيب: بأن لفظه مقتضٍ لذلك؛ ولكن عُلِم من الأدلّة الخارجية أن حقوق العباد لا بدّ فيها من رضى الخصوم، فهو عامٌّ اختصَّ بحقِّ الله تعالى ونحوه بما يدلُّ على التّخصيص، وقيل: يجوز أن تكون (من) تبعيضية. وفيه نظر" [8].

    قال ابن رجب رحمه الله: «المحبُّون تطول عليهم الليالي فيَعُدُّونها عدًّا لانتظار ليالي العشر في كل عام، فإذا ظَفِروا بها نالوا مطلوبهم، وخدموا محبوبهم» [9].

    المراجع

    1. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).

    2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 21).

    3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 113).

    4. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 61).

    5. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 115).

    6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعيني (1/ 226).

    7. "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن القيم (1/ 10).

    8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 228).

    9. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 204).




    غريب الحديث:

    الزُّور: أصله: ازْوَرَّ عن الطريق؛ أي: مال عنه، وازْوَرَّ عن الحقِّ؛ ولذلك سُمِّيَ الكذبُ زُورًا [1].

    المراجع

    1. انظر: "الغريبين في القرآن والحديث" للهروي (3/ 836)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 318)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 24).


    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَن لم يَدَعْ قولَ الزُّورِ»، وقول الزور يشمل كلَّ باطل وكذب. «والعَمَلَ به»؛ أي: العمل بالزور، فيشمل شهادةَ الزور، والغِيبة، والنميمة، وغير ذلك. «والجهلَ»: وهو: السفاهة، وعدم الحِلم، والصَّخَب والرفث، والسباب والتقاتل بالباطل، وغير ذلك مما نُهِي عنه الصائم. «فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه» تعالى ربُّنا عن أن يحتاج، فهو الغنيُّ عن العالَمين، وهذا تَعبير عن عدم القَبول.



    الشرح المفصَّل للحديث

    يُحذِّر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث عن مُبطِلَين من مُبطلات الأعمال التي تُبطل أجرَ الصيام كما تُبطل سائر الحسنات، وهما: قولُ الزور والعملُ به، والجهلُ.

    وقول الزور يشمل كلَّ باطل وكذب، لذا؛ نهى الله عز وجل عن قول الزُّور؛

    قال تعالى:

    ﴿ فَٱجْتَنِبُوا ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلْأَوْثَٰنِ وَٱجْتَنِبُوا قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾

    [الحج: 30]،

    وأثنى تبارك وتعالى على عباده الذين لا يشهدون الزور بقوله:

    ﴿ وَٱلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ ٱلزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِٱللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ﴾

    [الفرقان: 72]، 

    وجعله النبيُّ ﷺ من أكبر الكبائر؛ ففي الحديث عن أبي بكْرةَ رضي الله عنه قال:

    قال النبيُّ ﷺ:

    «ألا أُنبِّئُكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وجلسَ وكان متَّكِئًا فقال: ألا وقول الزُّور»، قال: فما زال يُكرِّرها حتى قلنا: ليْتَه سكتَ

    [1].

    وقوله: «والعمل به» أي: العمل بالزور، فيشمل شهادةَ الزور، والغِيبة، والنميمة، وغير ذلك.

    وقوله: «والجهل»، وهو: السفاهة وعدم الحِلم، بما يؤدِّي إليه من الشجار، والعِراك والصَّخَب، وغير ذلك مما نُهِي عنه الصائم؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإذا كان يومُ صومِ أحدكم، فلا يرفُثْ، ولا يَصخَبْ، فإن سابَّهُ أحدٌ أو قاتَلَهُ، فليقُلْ: إني امرؤٌ صائمٌ» [2]. وقيل: الجهلُ هنا هو العملُ بما فيه خلافُ ما يَقتَضيه العلم، من الابتداع والتحريف [3].

    وقوله: «فليس لله حاجة» تعالى ربُّنا عن أن يحتاج، فهو الغنيُّ عن العالَمين، وهذا تَعبير عن عدم الالتفات، والمبالاة، والقَبول، والْمَيل، تقول: لا حاجةَ لي في فلان؛ أي: لا تهتمُّ به ولا يُهِمُّك أمرُه [4].

    والمقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع وعطشه؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل له شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكن له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يقصد به مجرَّد جوعه وعطشه، فيحتفل به، ويقبل منه [5].

    وقد كان مَن قبلَنا من الأمم صومُهم الإمساكُ عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حَرَجٍ، ثم أرخص الله لهذه الأمَّة بحَذْف نصف زمانها - وهو الليل - وحَذْف نصف صومها عن الفَم - وهو الإمساك عن الكلام - ورخَّص لها فيها؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدَّرَج، فوقعت في ارتكاب الزُّور، واقتراف المحظور في هَرَج؛ فأنبأ اللهُ سبحانه أنه في غِنًى عن الإمساك عن طعامه وشرابه إذا لم يُمسك مِن لسانه، وليس لله حاجة في شيء، ولا يناله بالسكوت أو الكلام نَيْلٌ؛ ولكن يناله التقوى والصيانة عن الزور والخَنَى؛ ليُجزل عليها الثواب، ويُكرم بها في المآب، وهذا يقتضي بتشديده في تهديده أنه لا ثوابَ له على صيامه [6].

    وقد أفاد هذا الحديثُ أن حُكمَ الامتناع عن الفُسوق وقول الزُّور كالامتناع عن الطعام والشراب والشهوة، وأن مَن لم يمتنع عن ذلك، فقد نقص أجرُ صيامه، وتعرَّض لسَخط ربِّه - جلَّ وعلا - وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «رُبَّ صائمٍ ليس له مِن صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السَّهَر» [7].

    وفي الحديث وعيدٌ شديدٌ، وتغليظٌ كبيرٌ في حقِّ قول الزور؛ فإذا كان الزور يُحبط أجرَ الصوم الذي له من الثواب العظيم بحيث يخبِّئ الله ثوابَه؛ فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال:

    إن رسول الله ﷺ قال:

    «قال الله: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلا الصيامَ؛ فإنه لي»

    [8]

    فما الظنُّ بتلك السيئة التي غطَّت على هذا الثواب والأجر؟! [9].

    وليس المعنى من قوله: «فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامه وشرابه» أن يؤمَر المغتاب، أو قائل الزور وفاعله بترك الصيام؛ وإنما هو تحذيرٌ له، وتخويفٌ؛ لكي يترك ذلك الفعل، ويجتنبه ليَتِمَّ له أجرُ صومه [10].

    وقيل: إن المراد: مَن لم يدَعْ قولَ الزور مطلَقًا في الصيام وغيره؛ أي: مَن لم يتركْ طولَ عمره الزورَ والتلبُّسَ به، فما يصنَعُ بصومه؟! [11].

    وقد ذهب بعضُ الفقهاء إلى أن الوقوع في قول الزور، والفسوق، والكذب ونحو ذلك، يُفطِّر الإنسانَ؛ كما لو أَكَلَ، أو شَرِبَ، أو جامَع عامدًا، إلا أن كافَّةَ العلماء على خلافهم، وقد سُئل الإمامُ أحمد رحمه الله عن الغِيبة هل تفطِّر؟ فقال: لو كانت تُفطِّر ما بَقِيَ لنا صيام.


    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (2654)، ومسلم (87).

    2. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).

    3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 214)، "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 431).

    4. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 467)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).

    5. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).

    6. "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (3/ 229).

    7. رواه النسائيُّ في "السنن الكبرى" (3236)، وابن ماجه (1690)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 625). وانظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 24).

    8. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).

    9. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (9/ 250).

    10. انظر: "الاستذكار" لابن عبد البر (3/ 374)، "فتح الباري" لابن حجر (4/ 117).

    11. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (10/ 276).



    النقول:

    قال المظهريُّ رحمه الله: "الغرضُ من الصيام كسْرُ النَّفْس بترك الطعام، والغَرَض من كَسْر النَّفْس تركُ المناهي، والغَرَض الْمُعَظَّم من الصيام ترْكُ المناهي التي هي مُحَرَّمةٌ، لا ترك الطعام والشراب اللَّذينِ هما مباحانِ" [1].

    قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أنه لا يتمُّ التقرُّبُ إلى الله تعالى بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصيام إلا بعد التقرُّب إليه بتَرْك ما حرَّم الله في كل حال من الكذب، والظلم، والعُدوان على الناس في دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم" [2].

    قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: «إذا صمتَ فلْيَصُمْ سمعُكَ، وبصركَ، ولسانكَ عن الكذب والمآثم، ودَعْ أذى الخادم، وليكن عليكَ وقارٌ وسَكينةٌ يومَ صيامك، ولا تجعلْ يومَ فِطركَ وصومكَ سواءً» [3].

    قال القاضي البيضاويُّ رحمه الله: "المقصود من إيجاب الصوم وشَرْعِه، ليس نفْسَ الجوع وعطشه؛ بل ما يَتبَعُه من كَسْر الشهوة، وإطفاء ثائرة الغضب، وتطويع النفْس الأمَّارة للنفْس المطمئنَّة، فإذا لم يحصُل له شيءٌ من ذلك، ولم تتأثَّر به نفْسه، لم يكن له من صيامه إلا الجوعُ والعطشُ؛ لا يُبالي الله تعالى بصومه، ولا ينظر إليه نظرَ قَبولٍ؛ إذ لم يقصد به مجرَّد جوعه وعطشه، فيحتفل به، ويقبل منه" [4].

    قال ابن العربيِّ رحمه الله: "كان مَن قبلَنا من الأمم صومُهم الإمساكُ عن الكلام مع الطعام والشراب، فكانوا في حَرَجٍ، ثم أرخص الله لهذه الأمَّة بحَذْف نصف زمانها - وهو الليل - وحَذْف نصف صومها عن الفَم - وهو الإمساك عن الكلام - ورخَّص لها فيها؛ ليرفعها بالكرامة في أعلى الدَّرَج، فوقعت في ارتكاب الزُّور، واقتراف المحظور في هَرَج؛ فأنبأ اللهُ سبحانه أنه في غِنًى عن الإمساك عن طعامه وشرابه إذا لم يُمسك مِن لسانه، وليس لله حاجة في شيء، ولا يناله بالسكوت أو الكلام نَيْلٌ؛ ولكن يناله التقوى والصيانة عن الزور والخَنَى؛ ليُجزل عليها الثواب، ويُكرم بها في المآب، وهذا يقتضي بتشديده في تهديده أنه لا ثوابَ له على صيامه" [5].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلّب: فيه دليلٌ أن حُكْمَ الصيام الإمساكُ عن الرَّفَث وقول الزور، كما يُمسِك عن الطعام والشراب، وإن لم يُمسِك عن ذلك، فقد تنقَّص صيامه، وتعرَّض لسَخط ربه وترك قبوله منه. وقال غيره: وليس معناه أن يؤمَر بأن يَدَع صيامه إذا لم يدع قول الزور؛ وإنما معناه التحذير من قول الزور" [6].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المؤلِّف: قولُ الزُّور هو الكذب، وهو محرَّم على المؤمنين، وهذا الحديث في شاهد الزور تغليظٌ شديد، ووعيد كبير، ودلَّ قوله ﷺ: «فليس لله حاجةٌ في أن يَدَع طعامَه وشَرَابَه» على أن الزور يُحبِط أجر الصائم، وأن من نطق به في صيامه؛ كالآكل الشارب عند الله تعالى في الإثم، فينبغي تجنُّبه، والحَذَر منه؛ لإحباطه للصيام الذى أخبر النبيُّ - عليه السلام - عن الله تعالى أنه قال فيه: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ: كلُّ عمَلِ ابن آدمَ له، إلَّا الصيامَ؛ فإنه لي، وأنا أَجْزِي به» [7]؛ فما ظنُّكَ بسيِّئةٍ غطَّت على هذا الفضل الجَسِيمِ والثَّوَاب العظيم؟!" [8].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "هذا باب في بيان حال من لم يدع؛ أي: لم يترك، قول الزّور، وهو الكذب والميل عن الحق، والعمل بالباطل والتّهمة. قوله: «والعمل به»؛ أي: بمقتضاه ممّا نهى الله عنه " [9].

    قال الصنعانيُّ رحمه الله: "«من لم يدع قول الزّور»؛ أي: الكذب، «والعمل به والجهل»؛ أي: السَّفَه، «فليس للّه حاجة»؛ أي: إرادة «في أن يدع شرابه وطعامه» رواه البخاريُّ وأبو داود واللّفظ له. الحديث دليل على تحريم الكذب والعمل به، وتحريم السَّفه، على الصّائم، وهما محرَّمان على غير الصّائم أيضًا؛ إلّا أنّ التّحريم في حقّه آكَدُ؛ كتأكُّد تحريم الزّنا من الشّيخ، والخُيَلاء من الفقير، والمراد من قوله: «فليس للّه حاجة»؛ أي: إرادة: بيان عظم ارتكاب ما ذكر، وأنّ صيامه كلا صيام، ولا معنى لاعتبار المفهوم هنا؛ فإنّ اللّه لا يحتاج إلى أحد، هو الغنيُّ سبحانه، ذكره ابن بطّال. وقيل: هو كناية عن عدم القبول؛ كما يقول المغضَب لمن ردَّ شيئًا عليه: لا حيلة لي في كذا، وقيل: إنّ معناه أنّ ثواب الصّيام لا يُقاوَم في حكم الموازنة ما يستحقُّ من العقاب لما ذُكِرَ" [10].

    قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والمراد بالزّور: الكذب. قوله: «فليس للّه حاجة»... إلخ. قال ابن بطّال: ليس معناه أنّه يؤمر بأن يدع صيامه؛ وإنّما معناه التّحذير من قول الزّور وما ذُكر معه. قال في الفتح: ولا مفهوم لذلك؛ فإنّ اللّه لا يحتاج إلى شيء؛ وإنّما معناه: فليس للّه إرادة في صيامه، فوضع الحاجة موضع الإرادة. وقال ابن المنير في حاشيته على البخاريِّ: بل هو كناية عن عدم القبول؛ كما يقول الْمُغضَب لمن ردَّ عليه شيئًا طلبه منه، فلم يقم به: لا حاجة لي في كذا. وقال ابن العربيِّ: مقتضى هذا الحديث أنّه لا يثاب على صيامه، ومعناه أنّ ثواب الصّيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزّور وما ذُكر معه. واستُدلَّ بهذا الحديث على أنّ هذه الأفعال تَنقُص ثواب الصّوم، وتُعُقِّب بأنّها صغائرُ تكفَّر باجتناب الكبائر" [11].

    المراجع

    1. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 24).

    2. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 155).

    3. رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8880)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3374).

    4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 497).

    5. "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (3/ 229).

    6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 23).

    7. رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).

    8. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 250).

    9. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (10/ 275).

    10. "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 567).

    11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 248).


    غريب الحديث

    يرفُث: الرفَثُ: الجِماعُ، وقيل: الفُحشُ في القول [1].

    المراجع

    1. قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 296): رفَث: إذا أفْحَش في كلامه، ويكون الرفثُ الجماعَ أيضًا، والرفث ذِكر الجماع والتحدُّث به.



    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي أبو هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ أنه قال: «مَن حَجَّ هذا البيتَ»؛ أي: من أتى البيت الحرام حاجًّا لله. «فلم يَرفُثْ، ولم يفسُقْ»؛ أي: فلم يأتِ بفُحش من القول، أو السِّباب، أو المعاصي، أو السيِّئات، ونحو ذلك. «رجَعَ كيومَ ولَدَتْهُ أمُّهُ»: خرج من حَجِّه هذا مغفورًا له ذنوبُه؛ كأنه وُلِد من جديد دون ذنوب.

    الشرح المفصَّل للحديث

    يُرشدنا النبيُّ في هذا الحديث إلى بيان أحد أعظم مُكَفِّرات الذنوب، وهو الحجُّ الْمَبْرور؛ فإنه كما في الحديث

    عن أبي هريرة رضي الله عنه:

    أن رسول الله ﷺ قال: «العمرةُ إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينَهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنةُ»

    [1]،

    ولما رواه عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : «تابِعوا بين الحجِّ والعُمرة؛ فإنهما يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذنوبَ كما يَنفي الكِيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضةِ، وليس لحجَّةٍ مبرورةٍ إلا الجنةُ» [2].

    قوله: «من حَجَّ» في رواية مسلم: «مَن أتى»، وذلك يشمل الحَجَّ والعمرة معًا [3].

    قوله: «فلم يرفُث» الرفَث: الجِماع، كما أن جمهور المفسِّرين على أنه كناية عن الجِماع في قوله تعالى:

    ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ ۚ  ﴾

    [البقرة: 187]،

    وقيل: التصريح بذِكر الجماع، وقيل: كلمة جامعةٌ لكل ما يُريد الرجُل من المرأة، وقيل: الفُحْشُ في القول [4].

    وقوله: «ولم يَفسُق»، الفسوق: السِّباب، والمعاصي، والسيِّئات، وقيل: قول الزُّور، وقيل: الذبح للأنصاب. وأصله: انفسَقَت الرطبةُ، إذا خرَجَت، فسُمِّي الخارجُ عن الطاعة فاسقًا [5].

    وهذا الحديث مُقتَبَس من قوله تعالى:

    ﴿ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ﴾ 

    [البقرة: 197]،

    وإنما لم يُذكَر في الحديث الجدال كما ذُكِر في الآية على طريق الاكتفاء بذِكْر البعض، وقد دلَّت الآية على البعض الآخَر، ويُحتَمل أن يقال: إن ذلك يختلف بالقصد؛ لأن وجودَه لا يؤثِّر في ترك مغفرة ذنوب الحاجِّ إذا كان المراد به المجادلةَ في أحكام الحجِّ فيما يظهَر من الأدلَّة، أو المجادلة بطريق التعميم فلا يؤثِّر أيضًا؛ فإن الفاحش منها داخل في عموم الرفَث، والحَسَن منها ظاهرٌ في عدم التأثير، والمستوي الطرفَين لا يؤثِّر أيضًا [6].

    وإنما أمر الله باجتناب ذلك في الحجِّ خاصَّةً، مع أنه مأمور باجتناب الجدال والفسوق في كلِّ وقت؛ لأنه مع الحجِّ أشدُّ، فهو كلُبْس الحرير للرجال في الصلاة مثلًا [7].

    وقوله: «رجَع كيوم ولدته أمه» كنايةٌ عن المغفرة ومحو الذنوب، فكأنه رجَع عاريًا عن الذنوب. وهذا يشمل جميعَ الذنوب؛ الصغائر، والكبائر، والتَّبِعات [8].

    وهذه المغفرة إنما هي عامَّة في حقوق الله تعالى؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يغفرها، أما حقوق الآدميين فلا تسقُط إلا باسترضاء الخصوم، أو أداء الحقوق لأصحابها [9].



    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (1773)، ومسلم (1349).

    2. رواه الترمذيُّ (810)، والنسائيُّ (2631)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وكذلك قال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 7).

    3. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 382)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (3/ 97).

    4. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 462)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (11/ 41).

    5. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 462)، "فتح الباري" لابن حجر (3/ 382).

    6. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (3/ 383).

    7. انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (9/ 31).

    8. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 464).

    9. انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (9/ 31).


    النقول

    قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه جعل لأهل كلِّ مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضانَ في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صحَّ له يوم جمعته وسَلِم، سَلِمت له سائر جُمعته، ومن صحَّ له رمضان وسلم، سلمت له سائر سَنَته، ومن صحَّت له حَجَّته وسَلِمت له، صحَّ له سائر عمره، فيومُ الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضانُ ميزان العام، والحجُّ ميزان العمر" [1].

    قال الباجي رحمه الله: "«مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»: يُريد - واللّهُ أعلم - أنّه لا ذنبَ له؛ لأنَّ ما أتى به من العمل قد كفَّر سائر ذنوبه، فصار كيومَ ولدتْه أمُّه، لا ذنب له، واللّه أعلم" [2].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «فلم يرفث»: الرَّفَث: التصريح بذِكر الجِماع، والإعرابُ به. وقال الأزهريُّ: هو كلمة جامعة لكلِّ ما يريده الرجل من المرأة، وقال سعيدُ بنُ جُبيرٍ في قوله تعالى:  

    ﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ ۗ﴾  

    [البقرة: ١٩٧]

    الرَّفَث إتيان النساء، والفسوقُ السِّبابُ، والجِدال الْمِراء، يعني مع الرُّفقاء والخَدَم والْمُكَارين. وإنما لم يذكر الجدال في الحديث اعتمادًا على الآية. والفاء في «فلم يَرفُث» معطوف على الشَّرط، وجوابه «رجع»؛ أي: صار، والجار والمجرور خبرٌ، ويجوز أن يكون حالاً؛ أي: رَجَع مشابِهًا لنفسه في البراءة عن الذنوب في يوم ولدته أمُّه" [3].

    قال ابن الملقِّن رحمه الله: "والرَّفَث: الجِماع أو التَّعْرِيض به، أو القَبِيح من القول. والفسوقُ: المعاصي كلُّها، أو الذَّبح لغير الله، أو إتيان المعاصي في الحَرَم، أو السِّباب، أقوال. وقال ربيعة: هو قول الزور. وقُرِئ: (فَلا رُفُوثَ وَلَا فُسُوقَ)، وكذا هو في مُصحَف عبد الله، وزعم ابن حزم أنه لا يَحرُم على الْمُحرِم إلا الإيلاج فقط، ويُباح له أن يقبِّلها ويُباشِرها، قال: لأن الله تعالى لم يَنْهَ إلا عن الرَّفَث، وهو الجماع فقط، ولا عجب أعجب ممن نهى عن ذَلِكَ، ولم يَنْهَ الله تعالى ولا رسوله عن ذَلِكَ" [4].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «فلم يرفث»: الرَّفَث الجِماع، ويُطلَق على التّعريض به، وعلى الفُحش في القول. وقال الأزهريُّ: الرّفث: اسم جامع لكلِّ ما يريده الرّجل من المرأة، وكان ابن عمر يخصُّه بما خوطب به النّساء، وقال عياض: هذا من قول اللّه تعالى: ﱡ ﱉ ﱊ  ﱋ ﱌ ﱠ، والجمهور على أنّ المراد به في الآية الجماع. انتهى. والّذي يظهر أنّ المراد به في الحديث ما هو أعمُّ من ذلك، وإليه نحا القرطبيُّ، وهو المراد بقوله في الصّيام: فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث" [5].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «فلم يرفث»، بضمِّ الفاء وكسرها، الفاء فيه عطف على الشّرط، أعني قوله: (من)، ويرفث بضمِّ الفاء وكسرها وفتحها، والأفصح الفتح في الماضي، والضّمُّ في المستقبل. وقال ابن سِيدَه: الرّفث: الجماع، وقد رفث إليها، ورفث في كلامه يَرفُث رفثًا، وأرفث: أفحش، والرّفث: التّعريض بالنّكاح. وفي "الجامع": الرّفث: اسم جامع لكلّ شيء ممّا يريد الرجل من المرأة. قوله: «ولم يفسق»، الفسق العصيان والتّرك لأمر الله تعالى، والخروج عن طريق الحق.... وقال القزاز: أصله من قولهم: انفسقت الرُّطبة إذا أُخرِجت من قشرها، فسُمِّي بذلك الفاسق؛ لخروجه من الخير وانسلاخه منه. وقيل: الفاسق الجائز. قالوا: والفسق والفسوق في الدّين اسم إسلاميٌّ لم يُسمَع في الجاهليّة ولا يوجد في أشعارهم، وإنّما هو مُحدَث سُمِّي به الخارج عن الطّاعة بعد نزول القرآن العظيم. وقال ابن الأعرابيِّ: لم يُسمَع قطُّ في كلام الجاهليّة ولا في شعرهم: فاسق، وهذا عجيب، وهو كلام عربيٌّ. قوله: «رجع كيوم ولدته أمه»؛ أي: رجع مشابهًا لنفسه في البراء من الذّنوب في يوم ولدته أمه، ورجع بمعنى: صار، جواب الشّرط. ولفظ: (كيوم) يجوز فيه البناء على الفتح. فإن قلت: ذكر هنا الرّفث والفسوق ولم يذكر الجدال، كما في القرآن؟ قلت: اعتمادًا على الآية، والله أعلم" [6].

    قال السيوطيُّ رحمه الله: "من أتى هذا البيت حاجًّا فلم يرفث، بضمّ ِالفاء وكسرها، والرّفث الفُحش من القول، وقيل: الجماع، ولم يَفسُق بارتكاب شيء من المعاصي رجع كيوم ولدته أمّه؛ أي: بغير ذنب. قال القرطبيُّ: وهذا يتضمَّن غفران الصّغائر والكبائر والتَّبِعات" [7].

    قال ابن حجر رحمه الله: "فائدة: فاء الرّفث مثلَّثة في الماضي والمضارع، والأفصحُ الفتح في الماضي، والضّمُّ في المستقبل، واللّه أعلم. قوله: «ولم يفسق»؛ أي: لم يأت بسيّئة ولا معصيّة. وأغرب ابن الأعرابيّ فقال: إنّ لفظ (الفسق) لم يُسمع في الجاهليّة ولا في أشعارهم؛ وإنّما هو إسلاميٌّ، وتُعقِّب بأنّه كثر استعماله في القرآن، وحكايته عمّن قبل الإسلام، وقال غيره: أصله انفسقت الرُّطبة إذا خرجت، فسُمِّي الخارج عن الطّاعة فاسقًا. قوله: «رجع كيوم ولدته أمّه»؛ أي: بغير ذنب، وظاهره غفران الصّغائر والكبائر والتَّبعات" [8].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«فلم يرفث»: بتثليث الفاء في المضارع والماضي؛ لكن الأفصح الضمُّ في المضارع، والفتح في الماضي؛ أي: الجِماع أو الفُحش في القول، أو خطاب الرجل المرأة فيما يتعلَّق بالجماع. وقال الأزهريُّ: كلمة جامعة لكلِّ ما يُريده الرجل من المرأة. «ولم يَفسُق»: لم يأتِ بسيئة ولا معصية. وقال سعيدُ بنُ جُبيرٍ في قوله تعالى:


    ﴿ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِى ٱلْحَجِّ ۗ﴾  

    [البقرة: ١٩٧]

    الرَّفَث إتيان النساء، والفسوقُ السِّبابُ، والجِدال الْمِراء، يعني مع الرُّفقاء والخَدَم والْمُكَارين. ولم يذكر في الحديث الجدال في الحجِّ اعتمادًا على الآية، ويُحتمَل أن يكون ترك الجدال قصدًا؛ لأن وجوده لا يؤثِّر في ترك مغفرة ذنوب الحاجِّ إذا كان المراد به المجادلةَ في أحكام الحجِّ؛ لما يظهر من الأدلَّة، أو المجادلة بطريق التعميم لا تؤثِّر أيضًا؛ لأن الفاحش منها دَخَل في عموم الرَّفَث، والحَسَن منها ظاهرٌ في عدم التأثير، والمستوي الطَّرفين لا يؤثِّر أيضًا. قاله في "فتح الباري"، والفاء في قوله: «فلم يرفث» عطف على الشرط، وجوابه «رجع»؛ أي: من ذنوبه، «كيوم ولدته أمه» بجرِّ (يوم) على الإعراب، وبفتحه على البناء، وهو المختار في مثله؛ لأن صدر الجملة المضاف إليها مبنيٌّ؛ أي: رجع مشابهًا لنفسه في أنه يَخرُج بلا ذنب كما خرج بالولادة، وهو يشمل الصغائر والكبائر والتبِّعات" [9].

    قال الملا علي القاري رحمه الله: "«ولم يفسق» بضمّ السّين؛ أي: لم يفعل فيه كبيرةً، ولا أصرَّ على صغيرة، ومن الكبائر ترك التّوبة عن المعاصي؛

    قال تعالى:

    {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ}

    [الحجرات: 11]

    ... والرّفث: التّصريح بذكر الجماع، وقال الأزهريُّ: هو كلمة جامعة لكلِّ ما يريده الرّجل من المرأة، وقيل: الرّفث في الحجّ إتيان النّساء، والفسوق السِّباب، والجدال الْمُماراة مع الرّفقاء والخَدَم، ولم يذكر الجدال في الحديث اعتمادًا على الآية، أو لدخوله في الفسق أو الرّفث، وقيل: لأنّ المراد به النّهي لا النّفي... قيل: رجع بمعنى صار، خبره (كيوم)، ويجوز أن يكون على معناه الموضوع له، فيكون (كيوم) حالًا؛ أي: رجع إلى وطنه مشابهًا يومه بيوم ولادته في خلوّه من الذّنوب؛ لكن على هذا يخرج المكّيّ عمّا ذكر في الحديث، ويجوز أن يكون بمعنى فرغ من أعمال الحجّ.

    اعلم أنّ ظاهر الحديث يفيد غفران الصّغائر والكبائر السّابقة؛ لكنّ الإجماع أنّ المكفّرات مختصّة بالصّغائر عن السّيّئات الّتي لا تكون متعلّقةً بحقوق العباد من التّبعات؛ فإنّه يتوقّف على إرضائهم، مع أنّ ما عدا الشّركَ تحت المشيئة" [10].

    قال ابن تيمية رحمه الله: "«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» جعل الوعد بالمغفرة لمن لم يَرفُث ولم يَفسُق. فالمنهيُّ عنه الْمُحرِم في الآية: هو «الرَّفَث»، وهو الجماع ودواعيه قولاً وفعلاً، و«الفسوق»: هو المعاصي كلُّها، هذا الذي نُهي عنه الْمُحرِم" [11].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق» قال في القاموس: الفسق الترك لأمر الله والعصيانُ، والخروجُ عن طريق الحقِّ أو الفجور؛ كالفسوق، وفسق: جَارَ، وعن أمر ربِّه خرج، والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت، قيل: ومنه الفاسق لانسلاخه عن الخير. «رجع» والحال أنه «كيوم ولدته أمه» عاريًا من الذنوب، أو رجع بمعنى صار، والظرف خبره، وميمه مفتوحة، ويجوز كسرها، وهو الذي في اليونينية، ولم يذكر في الحديث الجدال اعتمادًا على ما في الآية، أو لأن المجادلة ارتفعت بين العرب وقُريش في موضع الوقوف بعرفةَ والمزدلفة، فأسلمت قريش، وارتفعت المجادلة، ووقف الكل بعرفة" [12].

    قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه جعل لأهل كل مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضانَ في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صحَّ له يوم جمعته وسَلِم، سَلِمت له سائر جُمعته، ومن صحَّ له رمضان وسلم، سلمت له سائر سنته، ومن صحَّت له حَجَّته وسلمت له، صحَّ له سائر عمره، فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر" [13].


    المراجع

    1. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).

    2. "المنتقى شرح الموطأ" للباجي (3/ 81).

    3. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1938، 1939).

    4. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (11/ 41).

    5. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 382).

    6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (9/ 135).

    7. "شرح السيوطيِّ على مسلم" (3/ 395).

    8. "فتح الباري" لابن حجر (3/ 382).

    9. “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” للقسطلانيِّ (3/ 97).

    10. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 1741)

    11.  "المستدرك على مجموع الفتاوى" (3/ 187)

    12. “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” للقسطلانيِّ (3/ 290).

    13. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).

    الشرح المفصَّل للحديث:

    إن الله تبارك وتعالى أنزل شريعته، وهيَّأ للناسِ أن يقوموا بتكاليفها؛ فمثلًا: جعل في أمور المعاملات بين الناس لكلٍّ منهم حقوقًا وعليه واجبات؛ حتى تنتظم حياة الناس ومعايشهم، ويَعمُروا الأرض بطاعة الله والاستجابة لأوامره.

    وحيث إن صلاح حياة الناس ومعيشتهم تكون في العَيش جماعاتٍ؛ أمرهم الله تعالى بأن يكونوا مع الجماعة، وأن يحذروا الفُرْقةَ والاختلافَ؛ لأنَّ ذلك يُسبِّب الشرَّ والفساد والنزاع واختلال الأمن؛ فالإسلامُ يحضُّ على لزوم الجماعة؛ حيث إن رفع راية الحقِّ، وكلمة الله تعالى، يتوقَّف تحقُّقه على قوَّة الجماعة، وقوَّةُ الأمَّة في وَحْدتها.

    لقد أَمَرَهم الله تعالى أن يولُّوا عليهم من يَحكُمُهم بشرع الله تعالى، فيَسُوسهم ويحفظ دنياهم، ويَذُود عن دينهم، ويرفع راية الإسلام، وأمرهم أن يسمعوا له ويُطيعوه في المعروف، وأن يُعينوه في مَهامِّه وواجباته، ويتعاونوا معه؛ إلا أن يأمرهم بمعصية، فلا سمع له ولا طاعة فيها؛ بل يأثم من يُطيعه في المعصية.

    لقد أمرهم الله تعالى بالسَّمع والطاعة لوليِّ الأمْرِ المسلم، ونهاهم عن الخروج عليه، والسَّعيِ إلى عَزْلِه؛ فإن ذلك من أعظم أسباب نشر الفِتن وتهييجها، وإراقةِ الدِّماءِ، وإفساد ذاتِ البَينِ؛ وغالبًا ما تكونُ المفسدةُ في عَزْلِه أكثرَ منها في بقائه.

    وفي هذا الحديثِ يقول النبيُّ ﷺ:

    «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ؛ إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ»

    يُبيِّن النبيُّ ﷺ أنَّ مِن حقوقِ الحاكِم الشَّرعيِّ الواجبة على الْمُسلِم: السَّمْعَ والطاعةَ فيما أحَبَّ، وكذلك فيما كَرِه لأيِّ سبب، سواءٌ كان السبب فَواتَ مَصالِحَ شخصيَّةٍ له، أو وقوعَ ضرر عليه، أو حتى لِمَا يَراه مِن فواتِ مَصالِح الأمَّة؛ ولكن هذا الحق مشروطٌ بألَّا يأمُرَه الحاكمُ بمعصية لله تعالى، فإنْ أمَرَه بمعصيةٍ، فلا سَمْعَ ولا طاعةَ له فيها.

    ففي قوله: «إلا أن لم يؤمَر بمعصية» تقييدُ ما أُطلِق في الأحاديث الأخرى التي تأمر بالسّمع والطّاعة، ولو لحبشيٍّ، ومن الصَّبر على ما يقع من الأمير ممَّا يُكرَه، والوعيد على مفارقة الجماعة، وقوله: «فإذا أَمَرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة»؛ أي: لا يَجِب ذلك؛ بل يَحْرُم على من كان قادرًا على الامتناع؛ بل إنه ينعزل بالكُفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلم القيامُ في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك، فله الثَّوابُ، ومن داهَنَ، فعليه الإثم، ومن عَجَز، وَجَبت عليه الهجرة من تلك الأرض[1].

    وإن وليَّ الأمر هو كلُّ من جعل الله تعالى له ولاية على من تحته، وعلى رأس هؤلاء مَن يتولَّى الإمامة العظمى على البلاد؛ من الملوك والأمراء والرؤساء ونحوهم، وكل من ولَّاه السلطان ولاية من الولايات، فإنه يطاع فيها بالمعروف؛ لِمَا في ذلك من الخير العظيم، واستِتْباب الأمن، ونصر المظلوم، وردع الظالم، وغير هذا من الفوائد العظيمة في السمع والطاعة في المعروف

    يقول الله تعالى:

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

    [النساء: 59]

    فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله؛ فطاعة الله أصل، وكذلك طاعة رسوله ﷺ أصل بما أنه مُرسَل منه، أما طاعة أولي الأمر من المؤمنين فهي تَبَع لطاعة الله وطاعة رسوله، فلم يكرِّر لفظ الطاعة عند ذكرهم، كما كرَّرها عند ذكر الرسول ﷺ ليقرِّر أن طاعتهم مستمَدَّة من طاعة الله وطاعة رسوله.

    وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ

    قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

    «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»[2].

    وفي المقابل إذا لم يَعِ المسلم أن السمع والطاعة لا تكون إلا في المعروف فقط، وإلا فإنه بطاعته في المعصية فهو على عصيان

    عَنْ عَلِيٍّ رضي اللَّه عنه، قَالَ:

    بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ ﷺ فِرَارًا مِنَ النَّارِ؛ أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ خَمَدَتِ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا، مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا؛ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»[3].

    فإنه لا طاعة لوليِّ الأمر في معصية الله تعالى، ويَجِب عليه أن يجتنب الأمر بمعصية الله تعالى، وعليه مراجعة أهل العلم فيما أَشكَل عليه؛ ليَعلَم كون الشيء المأمور به من المعاصي أو ليس كذلك، كما أنه يجب على الناس جميعًا أن يقدِّموا طاعة الله تعالى على طاعة كلِّ أحد؛ فإن الأصل أن طاعة الولاة من طاعة الله تعالى، فلا يُتصوَّر أن يكون مأمورًا بطاعتهم فيما يناقض أمر الله تعالى وشريعته.

    فإذا أمر وليُّ الأمر بما فيه معصيةٌ لله تعالى، فلا تجوز طاعته في هذه المعصية فقط، لا في مُطلَق أمره ونهيِه، ولا يجوز الخروجُ عليه لأجل ذلك؛ بل يُشرَع للمسلم مراجعته ومناصحته بالحِكمة والموعظة الحسنة، ويجب التنازل عن الرَّغَبات والمصالح الشخصية؛ من أجل وَحدة الأمَّة الإسلامية، واجتماعها، وتماسكها.

    وفي الحديث "البيانُ الواضح عن نهي اللهِ - على لسان رسولهِ - عبادَه عن طاعة مخلوق في معصية خالقه، سلطانًا كان الآمِرُ بذلك، أو سُوقةً، أو والدًا، أو كائنًا من كان، فغَيْرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا من الناس في أمر قد صحَّ عنده نهيُ الله عنه، فإن ظنَّ ظانٌّ أن في قوله ﷺ: «اسْمَعوا وأطيعُوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشيٌّ»، وفي قوله: «من رأى من أميره شيئًا يَكرَهُه فليصبرْ» حُجَّةً لمن أَقدَم على معصية الله بأمر سُلطان أو غيره، وقال: قد وَرَدت الأخبار بالسَّمع والطاعة لوُلاة الأمر، فقد ظنَّ خطأً؛ وذلك أن أخبار رسول الله ﷺ لا يجوز أن تَتضادَّ، ونَهْيَه وأمرَه لا يجوز أن يتناقض أو يتعارَضَ؛ وإنما الأخبارُ الواردة بالسمع والطاعة لهم، ما لم يكن خلافًا لأمر الله، وأمرِ رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك، فغيرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا في معصية الله، ومعصية رسولِه، وبنحوِ ذلك قال عامَّة السَّلَف"[4].

    وعن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول ﷺ:

    «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»[5].

    فيذكر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث ذِكرًا من الماضي، حيث إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء؛ أي: يقومون على الأمور بما يُصلحها، ويتولَّون أمور الناس كما يفعل الأمراء والولاة بالرعيَّة، ثم يوجِّه النبيُّ ﷺ الأمَّة لكيفية التعامل مع ما سيَحدُث في المستقبل، من أنه سيكون هناك أكثرُ من حاكم واحد للمسلمين في زمن واحد، فيقول: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ»؛ أي: إذا بُويِع لخليفة بعد خليفة، فبيعةُ الأول صحيحةٌ يجب الوفاءُ بها، وبيعةُ الثاني باطلةٌ يَحرُم الوفاء بها، ويَحرُم عليه طَلَبُها، وسواءٌ عَقَدوا للثاني عالِمينَ بعَقد الأول، أم جاهلين، وسواءٌ كانا في بلدينِ أو بلد، أو أحدُهما في بلد الإمام المنفصل، والآخَرُ في غيره

    ثم يوجِّههم النبيُّ ﷺ قائلًا:

    «أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»

    أي: أطيعوهم في غير معصية؛ فإن الله تعالى سيُحاسبهم بالخير والشرِّ عن حال رعيَّتهم.

    "قال عليٌّ - رضى الله عنه -: حقٌّ على الإمام أن يَحكُم بما أَنزَل الله ويؤدِّيَ الأمانة، فإذا فَعَلَ ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا ويُطيعوا. ورُوي مثلُه عن معاذِ بنِ جبلٍ... وقوله: «من رأى شيئًا يكرهه فليصبر» يعنى: من الظُّلم والجَور. فأما من رأى شيئًا من معارَضة اللهِ ببدعة أو قلبِ شريعةٍ، فليَخْرُجْ من تلك الأرض ويُهاجِر منها، وإن أمكنه إمامٌ عَدْلٌ، واتَّفَق عليه جمهور الناس، فلا بأس بخَلع الأوَّل، فإن لم يكن معه إلَّا قِطعةً من الناس، أو ما يُوجِب الفُرقة، فلا يحِلُّ له الخروج. قال أبو بكرِ بنُ الطيِّب: أجمعتِ الأمَّةُ أنه يوجِبُ خَلْعَ الإمام وسقوطَ فرض طاعته كفرُه بعد الإيمان، وتركُه إقامةَ الصلاة والدعاءَ إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالِمًا غاصبًا للأموال، يَضرِب الأبشار، ويتناول النُّفوس المحرَّمة، ويُضيع الحدود، ويُعطِّل الحقوق، فقال كثير من الناس: يَجِبُ خَلْعُه لذلك. وقال الجمهور من الأمَّة وأهل الحديث: لا يُخلَع بهذه الأمور، ولا يَجِب الخروج عليه؛ بل يَجِب وَعْظُه وتخويفُه، وتركُ طاعته فيما يدعو إليه من معاصي الله"[6].

    المراجع

    1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 123).
    2. رواه البخاريُّ (7143). 
    3. رواه البخاريُّ (7145)، مسلم (1840). 
    4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 214، 215).
    5. رواه البخاريُّ (3455)، مسلم (1842). 
    6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 215).


    النقول:

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال محمدُ بنُ جَريرٍ: في حديث عليٍّ وحديث ابن عمرَ البيانُ الواضح عن نهي اللهِ على لسان رسولهِ عبادَه عن طاعة مخلوق في معصية خالقه، سلطانًا كان الآمِرُ بذلك، أو سُوقةً، أو والدًا، أو كائنًا من كان، فغَيْرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا من الناس في أمر قد صحَّ عنده نهيُ الله عنه، فإن ظنَّ ظانٌّ أن في قوله ﷺ في حديث أنس: «اسْمَعوا وأطيعُوا، وإن استُعمِل عليكم عبد حبشيٌّ»، وفي قوله في حديث ابن عبَّاس: «من رأى من أميره شيئًا يَكرَهُه فليصبرْ» حجَّةً لمن أَقدَم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره، وقال: قد وردت الأخبار بالسَّمع والطاعة لوُلاة الأمر، فقد ظنَّ خطًا؛ وذلك أن أخبار رسول الله ﷺ لا يجوز أن تَتضادَّ، ونَهْيَه وأمرَه لا يجوز أن يتناقض أو يتعارَضَ؛ وإنما الأخبارُ الواردة بالسمع والطاعة لهم، ما لم يكن خلافًا لأمر الله، وأمرِ رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك، فغيرُ جائز لأحد أن يُطيع أحدًا في معصية الله، ومعصية رسولِه، وبنحوِ ذلك قال عامَّة السَّلَف"[1].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «السمع والطاعة» يعني: سَماعُ كلام الحاكم وطاعتُه واجبٌ على كلِّ مسلم، سواءٌ أَمَرَه بما يوافق طَبْعَه أو لم يوافقْه، بشرط ألَّا يَأْمُرْه بمعصية، فإن أَمَره بها، فلا تجوز طاعتُه؛ ولكن لا يجوز له محاربة الإمام"[2].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال عليٌّ - رضى الله عنه -: حقٌّ على الإمام أن يَحكُم بما أَنزَل الله ويؤدِّيَ الأمانة، فإذا فَعَلَ ذلك، فحقٌّ على الناس أن يسمعوا ويُطيعوا. ورُوي مثلُه عن معاذِ بنِ جبلٍ... وقوله: «من رأى شيئًا يكرهه فليصبر» يعنى: من الظُّلم والجَور. فأما من رأى شيئًا من معارَضة اللهِ ببدعة أو قلبِ شريعةٍ، فليَخْرُجْ من تلك الأرض ويُهاجِر منها، وإن أمكنه إمامٌ عَدْلٌ، واتَّفَق عليه جمهور الناس، فلا بأس بخَلع الأوَّل، فإن لم يكن معه إلَّا قِطعةً من الناس، أو ما يُوجِب الفُرقة، فلا يحِلُّ له الخروج. قال أبو بكرِ بنِ الطيِّب: أجمعتِ الأمَّةُ أنه يوجِبُ خَلْعَ الإمام وسقوطَ فرض طاعته كفرُه بعد الإيمان، وتركُه إقامةَ الصلاة والدعاءَ إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالِمًا غاصبًا للأموال، يَضرِب الأبشار، ويتناول النُّفوس المحرَّمة، ويُضيع الحدود، ويُعطِّل الحقوق، فقال كثير من الناس: يَجِبُ خَلْعُه لذلك. وقال الجمهور من الأمَّة وأهل الحديث: لا يُخلَع بهذه الأمور، ولا يَجِب الخروج عليه؛ بل يَجِب وَعْظُه وتخويفُه، وتركُ طاعته فيما يدعو إليه من معاصي الله"[3].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قولُه: «ما لم يؤمَر بمعصية»: هذا يقيِّد ما أُطلِق في الحديثين الماضيين من الأمر بالسّمع والطّاعة، ولو لحبشيٍّ، ومن الصَّبر على ما يقع من الأمير ممَّا يُكرَه، والوعيد على مفارقة الجماعة. قوله: «فإذا أَمَرَ بمعصية، فلا سمع ولا طاعة»؛ أي: لا يَجِب ذلك؛ بل يَحْرُم على من كان قادرًا على الامتناع. وفي حديث معاذٍ عند أحمدَ: «لا طاعة لمن لم يُطِعِ اللّه»، وعنده وعند البزَّار في حديث عمرانَ بنِ حُصينٍ والحَكَم بنِ عمرٍو الغفاريِّ: «لا طاعة في معصية اللّه» وسندُه قويٌّ، وفي حديث عبادةَ بنِ الصَّامت عند أحمدَ والطّبرانيِّ: «لا طاعة لمن عصى اللّه تعالى»، وقد تقدَّم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسّمع والطّاعة إلّا أن تَرَوا كُفرًا بَواحًا، بما يُغني عن إعادته، وهو في كتاب الفتن، وملخَّصُه أنَّه ينعزل بالكُفر إجماعًا، فيجب على كلِّ مسلم القيامُ في ذلك، فمن قَوِيَ على ذلك، فله الثَّوابُ، ومن داهَنَ، فعليه الإثم، ومن عَجَز، وَجَبت عليه الهجرة من تلك الأرض"[4].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «والسمع والطاعة»؛ أي: أوصيكم بقبول قول الأمير وطاعته، وبما أمركم به ولو كان أدنى خَلق، وهذا وارد على سبيل المبالغة لا التحقيق؛ كما جاء: «مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ»[5] يعني: لا تستنكفوا عن طاعة من وُلِّي عليكم، ولو كان عبدًا حبشيًّا؛ إذ لو استنكفتم عنه، لأدَّى إلى إثارة الحروب، وتهييج الفتن، وظهور الفساد في الأرض، فعليكم بالصبر والْمُداراة حتى يأتي أمر الله. والفاء في «فإنه» للتسبيب، جَعَلت ما بعدها سببًا لِما قبلها؛ يعني: من قَبِل وصيَّتي، والْتَزَم تقوى الله، وقَبِل طاعة من وُلِّي عليه، ولم تهيَّج الفتن، أَمِن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعيب الآراء، ووقوع الفتن"[6].

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: (والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ): السمع والطاعة، يعني لوليِّ الأمر. (وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ)، سواءٌ كانت إمرتُه عامَّةً؛ كالرئيس الأعلى في الدولة، أو خاصَّةً كأمير بلدة، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك. وقد أخطأ من ظنَّ أن المراد بقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الوليِّ الأعظم الذي يسمِّيه الفقهاء الإمام الأعظم؛ لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى، وهي الإمامة وما دونها؛ كإمارة البُلدان، والمقاطعات، والقبائل، وما أشبه ذلك؛ ودليل هذا أن المسلمين منذ تولَّى عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - يسمُّون الخليفة (أمير المؤمنين) فيجعلونه أميرًا. وهذا لا شكَّ فيه، ثم يسمَّى أيضًا (إمامًا)؛ لأنه السلطان الأعظم، ويسمَّى سُلطانًا؛ لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمُّونه (أمير المؤمنين). وقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ)؛ يعني: حتى ولو لم يكن من العرب، لو كان من الحبشة، وتولَّى، وجعل الله له السلطة، فإن الواجب السمع والطاعة له؛ لأنه صار أميرًا، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له، لأصبح الناس فوضى، كلٌّ يعتدي على الآخر، وكلٌّ يُضيع حقوق الآخرين. وقوله: (والسمع والطاعة): هذا الإطلاق مقيَّد بما قيَّده به النبيُّ ﷺ حيث قال: «إنما الطاعة في المعروف»[7] ثلاث مرات، يعني فيما يُقرُّه الشرع، وأما ما يُنكره الشرع، فلا طاعة لأحد فيه، حتى لو كان الأبَ أو الأمَّ أو الأمير العامَّ أو الخاصَّ؛ فإنه لا طاعة له. فمثلًا لو أمر وليُّ الأمر بأن لا يصلِّي الجنود، قلنا: لا سمع ولا طاعة؛ لأن الصلاة فريضة، فرضها الله على العباد، وعليك أنت أيضًا، أنت أول من يصلِّي، وأنت أول من تُفرَض عليه الصلاة، فلا سمع ولا طاعة... وهكذا كلُّ ما أمر به وليُّ الأمر، إذا كان معصيةً لله، فإنه لا سمع له ولا طاعة، يجب أن يُعصى عَلَنًا ولا يُهتمَّ به، إن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله، فإنه لا حقَّ له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يُطاع في غير هذا؛ يعني: ليس معنى ذلك أنه إذا أَمَر بمعصية، تسقط طاعته مطلَقًا، لا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعيَّن الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك، فإنه تجب طاعته، وقد ظنَّ بعض الناس أنه لا تجب طاعة وليِّ الأمر إلا فيما أمر الله به، وهذا خطأ؛ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفِّذه ونفعله، سواءٌ أَمَرنا به وليُّ الأمر أم لا. فالأحوال ثلاثة: إما أن يكون ما أَمَر به وليُّ الأمر مأمورًا به شرعًا، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلًا، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر وليِّ الأمر. وأما أن يأمر وليُّ الأمر بمعصية الله، مِن تركِ واجب، أو فعل محرَّم، فهنا لا طاعة له ولا سمع. وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعيٌّ ولا معصية شرعية، فهذا تجب طاعته فيه

    لأن الله قال:

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}

    [النساء: 59]

    فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله"[8].

    المراجع

    1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 214، 215).
    2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2559).
    3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 215).
    4. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 123).
    5. رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
    6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
    7. رواه البخاريُّ (7145)، ومسلم (1840).
    8. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276، 279).