المعني الاجمالي للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ

يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»

أي: إذا قَرُب أمرُ الساعة والآخرة، لم تكد رؤيا المؤمن تَكذِب، وأصدقُ الناس حديثًا أصدقُهم رؤيا، والرؤيا جزءٌ من خَمْسٍ وأربعين جزءًا من النبوَّة. «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ»؛ أي: ثلاثةُ أنواع: «فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ». أوَّلُها: الرؤيا الصالحة الحَسَنة، وهي بُشرى من الله. «وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثانيها: الرؤيا السيِّئة، وهي من الشيطان، تُصِيبكُ بالحُزْنِ والهمِّ والغمِّ. «وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» وهذه الثالثة: يرى الْمَرء في منامه أنه يَلُوم نفسَه، أو يحدِّث نفسَه بحديث، أو يَأمُر نفسَه بأمر، أو ينهاها عن نهيٍ، أو يوبِّخ نفسَه، أو غير ذلك.

«فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ»

أي: إن رأى أحدكم ما يَكرَه في مَنامه، فليَقُمْ من نومه، ثم ليتوضَّأْ، وليُصَلِّ ركعتينِ أو ما يشاء، ولا يحدِّث بها الناس.

الشرح المفصَّل للحديث:

إن الرؤيا الصالحة هي عاجلُ بُشرى المؤمن في الدنيا؛ فعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ

قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

 لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: ٦٤]، فَقَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَه»

[1]

وبعد انقطاع الوحيِ، لم يَبْقَ من مبشِّرات النُّبوَّة إلَّا الرؤيا الصالحة؛

فعَن ابْنِ عَبَّاسٍ، قَال:

كَشَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ، يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ».

[2]

وفي حديث الباب يقول ﷺ:

«إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ، لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا، وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ»؛

أي: إذا قَرُب أمرُ الساعة والآخرة، لم تكد رؤيا المؤمن تَكذِب، وأصدقُ الناس حديثًا أصدقُهم رؤيا، وهذا يدلُّ على أن الرؤيا الصالحةَ لها شأنٌ عظيم؛ فهي جزء من النبوَّة، وإنها لا تكاد تَكذِب في آخر الزمان إذا رآها المؤمنُ الصَّدُوق، فينبغي للمؤمن أن يتحرَّى الصِّدق في حديثه كلِّه، وأن يتحرَّى الاستقامة في أعماله كلِّها؛ فإنه كلَّما استقام في دينه، نالته بُشرى الدنيا ومبشِّرات النبوَّة، وكانت الرؤيا أقربَ إلى الصِّدق؛ فعلى حَسَبِ صِدقه في يَقَظته واستقامتِه في يقظته، وصلاحه، تكون رؤياه.

و"قولُه ﷺ: «وأصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»: ظاهره أنّه على إطلاقه، وقال بعض العلماءِ: إنّ هذا يكون في آخِر الزمان عند انقطاع العلم، ومَوت العلماء والصالحين، ومن يُستضاء بقوله وعَمَله، فجعله اللّه تعالى جابرًا وعِوَضًا ومنبِّهًا لهم، والأوَّلُ أظهر؛ لأن غيرَ الصادق في حديثه يتطرَّق الخَلَل إلى رؤياه وحكايته إيَّاها" [3]

ففي "قوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقكم حديثًا»: إنما كان ذلك لأن من كَثُر صِدقُه تَنوَّر قلبُه، وتَقَوَّى إدراكُه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحَّة والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حالِه الصِّدقَ في يقظته، استَصحَب ذلك في نومه، فلا يَرى إلَّا صدقًا. وعكسُ ذلك الكاذبُ والْمُخلِّط، يَفسَدُ قلبه، ويُظلِم، فلا يَرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالبُ حال كلِّ واحد من الفريقين، وقد يَنْدُرُ فيرى الصادقُ ما لا يصحُّ، ويرى الكاذب ما يصِحُّ؛ لكن ذلك قليل، والأصلُ ما ذكرناه"[4].

"وإن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوَّة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسِب حالُه حالَ النبيِّ ﷺ، فكُرِّم بنوع ممَّا أُكرِم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب؛ كما قال ﷺ: «إنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرؤيا الصادقة في النَّوْمِ، يراها الرجلُ الصالح، أو تُرى له»، فإنَّ الكافر، والكاذبَ، والمخلِّطَ، وإن صَدَقت رؤاهم في بعض الأوقات، لا تكون من الوحيِ، ولا من النبيِّ ﷺ؛ إذ ليس كلُّ من صَدَق في حديث عن غَيْبٍ، يكون خبرُه ذلك نبوَّةً؛ فالكاهنُ يُخبِر بكلمة الحقِّ، وكذلك المنجِّم قد يَحْدِس فيَصدُق؛ لكن على النُّدُور والقِلَّة، وكذلك الكافرُ، والفاسق، والكاذب، وقد يرى الْمَنام الحقَّ، ويكون ذلك الْمَنامُ سببًا في شرٍّ يَلحَقُه، أو أمرٍ يَنالُه... إلى غير ذلك من الوجوه المعتبَرة المقصودة به، وقد وقعت لبعض الكفَّار مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمَنام الْمَلِك الذي رأى سَبْعَ بَقَرات، ومَنامِ الفتَيَيْنِ في السِّجن، ومَنام عاتكةَ عمَّة رسول الله ﷺ وهي كافرة، ونحوُه كثير؛ لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلِّطة والفاسدة"[5].

"وأما قولُه: «رؤيا المسلم جزءٌ من خمسة وأربعين – وفي رواية: ستة وأربعين - جزءًا من النُّبوَّة» فسَّر بعض العلماء معنى هذا العدد من الأجزاء بأن النبيَّ ﷺ أقام يوحَى إليه ثلاثةً وعشرين عامًا: عشَرةً بالمدينة، وثلاثةَ عَشَرَ بمكَّةَ، وكان قبل ذلك بستَّة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يُلقيه إليه الْمَلَك عَلَيهِما السلام، وذلك نصفُ سَنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنةً جزءٌ من ستَّة وأربعين جزءًا من النّبوَّة.

وقد قيل: إن النّبيَّ ﷺ قد خُصَّ دون الخَلِيقة بضُروب وفنون، وجُعِل له إلى العلم طُرُقٌ لم تُجعَل لغيره، فيكون المرادُ أن الْمَناماتِ نِسبتُها مما حصل له وميِّز به جزءٌ من ستَّة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يُقال: بَيِّنُوا هذه الأجزاء، ولا يَلزَم العلماءَ أن تَعرِف كلَّ شيء جُملةً وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء حَدًّا تَقِف عنده، فمنها ما لا تَعْلَمُه أصلاً، ومنها ما تَعلَمه جُملةً ولا تَعلَمه تفصيلاً، وهذا منه، ومنها ما تَعْلَمُه جُملةً وتفصيلاً، لا سِيَّما ما طريقتُه السَّمْعُ، ولا مدخَلَ للعقل فيه؛ فإنّما يُعرَف منه قَدْرُ ما عُرِف به السَّمع"[6]

و"اختلفت الرواية في عدد أجزاء النبوَّة التي جُعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها، من ستَّة وعشرين إلى سبعين، وأكثرُها في الصحيحين، وكلُّها مشهور؛ فلا سبيلَ إلى أخذ أحدِها، وطَرْحِ الباقي، والوجهُ الذي يتعيَّن الْمَصيرُ إليه أن يُقال: إن هذه الأحاديثَ - وإن اختلفت ألفاظُها - متَّفِقةٌ على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزءٌ من أجزاء النبوَّة؛ فهذه شهادة صحيحة من النبيِّ ﷺ لها بأنها وحيٌ من الله تعالى، وأنها صادقةٌ لا كَذِب فيها؛ ولذلك قال مالك، وقد قيل له: أيفسِّر الرؤيا كلُّ أَحَدٍ؟ فقال: أيُلعَب بالوحي؟! وإذا كانت هكذا، فيتَعيَّن على الرائي أن يعتنيَ بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إمَّا مبشِّرةٌ له بخير، أو محذِّرة له من شرٍّ، فإنْ أَدرَك تأويلها بنفسه، وإلَّا سأل عنها من له أهليَّةُ ذلك، وهو اللبيبُ الحبيب؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصَّها، أُعبِّرها؟»[7]، فكانوا يقصُّون عليه، ويَعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه؛ كما فَعَل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر. وكلُّ ذلك بناءً على أنها وحيٌ صحيح"[8].

والرؤيا تقع حقًّا، وما فيها هو خَبَرٌ بالغَيب، والخبرُ بالغَيب أحدُ ثمرات النبوَّة؛ إلا أنه ربما دلَّت الرؤيا على شيء، ولم يَقَع ما دلَّت عليه؛ إمّا لِكَوْنهَا مِن الشّيطان، أو من حَدِيثِ نَفْسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة الْمَنام أو الاعتماد عليه.

لذا؛ قال ﷺ: «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ»؛ أي: ثلاثة أنواع: «فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللهِ». أوَّلها: الرؤيا الصالحة الحسنة، وهي بُشرى من الله؛ إلَّا أنه لا ينبغي للإنسان أن يعتمد على الرؤيا؛ بل عليه أن يَجتهِد في العمل الصالح والاستقامة، فتَسُرُّه الرؤيا الصالحة؛ ولكن لا تُضعِفه عن عمل، ولا تُوكِله عن العمل؛ بل عليه أن يظلَّ مُجِدًّا في العمل الصالح.

 «وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ» ثانيها: الرؤيا السيِّئة أو الحُلم السيِّئ من الشيطان، تُصِيبكُ بالحُزْنِ والهمِّ والغمِّ. «وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» وهذه الثالثة: يرى الْمَرء في منامه أنه يَلُوم نفسَه، أو يحدِّث نفسَه بحديث، أو يَأمُر نفسَه بأمر، أو ينهاها عن نهيٍ، أو يوبِّخ نفسَه، أو غير ذلك.

«فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ، فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ»؛ أي: إن رأى أحدكم ما يَكرَه، فليَقُمْ من نومه، ثم ليتوضَّأْ، وليُصَلِّ ركعتينِ أو ما يشاء، ولا يحدِّث بها الناس، فإنها لا تضرُّه.

و"الرؤيا الصحيحة إنذارٌ من الله، وعناية بعبده؛ لئلَّا يَفجَؤه ما قدِّر عليه بغتةً، وليكون فيه على حَذَرٍ وأُهْبَة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث؛ ولكن على سبيل النُّدور، بضدِّ الأولى لعوارضَ تقتضى ذلك - واللهُ أعلم - من وسوسة النفس وحديثها، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها.

ويَحتمِل قوله: (الصالحة) أن يكون راجعًا إلى حُسن ظاهرها، ويَحتمِل أن يرجع إلى صحَّتها، كما أن قوله في الأخرى: (السوء) يَحتمِل الوجهين: سوء الظاهر، أو سوء التأويل.

وفي أمره بنَفثِه وبَصقِه ثلاثًا: طردٌ للشيطان الذي حَضَر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يَبصُق على ما يَستقذِر ويَكرَه، كما أَمَر بذلك عند التثاؤب. وكَوْنُ ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جِهَةُ الشيطان، وجهة الْمَذامِّ والأقذار، والجهة المشؤومة، بضدِّ اليَمين، والعربُ تسمِّيها الشُّؤْم. وقولُه: "فليَبصُق، وليتفل، ولينفث" على اختلاف الأحاديث، كلُّه بمعنًى.

وأمرُه بتحويله عن جَنْبِه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لا تضرُّه، وهذا يصحِّح أحد التأويلين في قوله: «لا تضرُّه» أنه عائد إلى صرف سوء تأويلها، ودَفْع اللهِ بما فعل عنه مكروهها.

وأما قولُه: «ولا يحدِّث بها الناس»، أو «ولا تُخبِرْ بها أحدًا»، فما فائدة كتمانها؟ فقيل: إن ذلك مخافة تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها، إن وافَقَ ظاهرُها باطنَها، والتعذيب به مدَّةً لا يُدرى قُرْبُها من بُعْدِها، فقد تَخرُج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يُخبِر بها، وفعل ما أُمِر به من النَّفث والاستعاذة، كان دواءَ مكروهها، وخروجُها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يُريك رَوعتها، وتحزنه بها. وإذا لم يَذكُرْها لأحدٍ، ولم يُفصَّل له تفسيرها، بَقِيَ بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام، أو حديث النفس، فكان أسكنَ لنفسه، وأقلَّ لتعذيب قلبه"[9]

والأحاديث التي تتناول كيفية التعامل مع الرؤيا متكاثرة؛ منها:

عن أبي قتادة قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللَّهِ، وَالْحُلُمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ حُلُمًا يَخَافُهُ، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، فَإِنَّهَا لا تَضُرُّهُ»

[10]

وعَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:

«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ»

[11]

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

«إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا، فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ، فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا، وَلْيُحَدِّثْ بِهَا، وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ، فَإِنَّمَا هِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا، وَلا يَذْكُرْهَا لِأَحَدٍ؛ فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ»

[12].

وعَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ

أَنَّهُ قَالَ لأَعْرَابِيٍّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: «لا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ»

[13]

وعليه؛ فإن الرؤيا الصالحة الحسنة السارَّة هي من الله، وأن الرؤيا السيِّئة التي يَكرهها الإنسان، هي حُلْمٌ من الشيطان؛ فعليه أن يستعيذ من شرِّها.

ونلخِّص أهمَّ الآداب في هذه الأحاديث لمن رأى ما يَكرَه في منامه؛ فإن التزم الْمَرْءُ بهذه الآداب، فيُرجى له أن لا تَضُرَّه هذه الرؤيا المكروهة كما ورد في الأحاديث، وأهمُّها:

  • أن يَعلَم أن هذا الحُلم من الشيطان يُريد إحزانه، وأن يصيبه بالهمِّ والغمِّ، فليُرغِمِ الشيطان، ولا يلتفت إليه.

  • يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.

  • يستعيذ بالله من شرِّ هذه الرؤيا.

  • يَنفُث أو يتفل أو يبصق (يَنفُخ مع شيء يسير من الريق) عن يساره ثلاثًا.

  • لا يحدِّث بها أحدًا.

  • يتحوَّل عن جنبه الذي كان عليه، فإن كان على جنبه الأيسر، تحوَّل للأيمن، والعكس بالعكس.

  • يقوِّم ليُصلِّيَ.

المراجع

  1. رواه أحمد (23063)، وابن ماجه (3898)، والترمذيُّ (2273)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن، قال شُعيب الأرنؤوط: صحيحٌ لغَيره، وهذا إسنادٌ رجالُه ثِقاتٌ رجالُ الشَّيخين.
  2. رواه مسلم (479).
  3. شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 20، 21).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
  6. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203، 204).
  7. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»، وَيَقُولُ «إِنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح.
  8. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).
  9. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
  10. رواه البخاريُّ (3292). 
  11.  رواه مسلم (2262).
  12. رواه البخاريُّ (7045)
  13. رواه مسلم (2268).


النقول

قال المازريُّ رحمه الله : "اختلف النَّاس في معنى قوله: «إذا اقترب الزّمان لمَ تكن رؤيَا المسلم تكذب» فقال بعضهم: المرادُ به: إذا اقترب من اعتدال اللَّيل والنّهار، فإن الرُّؤيا حينئذ لم تَكَد تَكِذب. وبهذا فسَّره أبو داود، وقال بعضُهم: بل المراد: آخِرُ الزَّمان والقُرب من القِيَامة"[1].

قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: «أصدقُكم رؤيا أصدقكم حديثًا»: إنما كان ذلك لأن من كَثُر صِدقُه تَنوَّر قلبه، وتَقوَّى إدراكُه، فانتقشت فيه المعاني على وجه الصِّحَّة والاستقامة، وأيضًا فإن من كان غالبُ حالِه الصِّدقَ في يقظته، استَصحَب ذلك في نومه، فلا يَرى إلَّا صدقًا. وعكسُ ذلك الكاذبُ والْمُخلِّط، يَفسَدُ قلبه، ويُظلِم، فلا يَرى إلا تخليطًا وأضغاثًا، هذا غالبُ حال كلِّ واحد من الفريقين، وقد يَنْدُرُ فيرى الصادقُ ما لا يصحُّ، ويرى الكاذب ما يصِحُّ؛ لكن ذلك قليل، والأصلُ ما ذكرناه"[2]

قال النوويُّ رحمه الله : "قولُه ﷺ: «وأصدقُكم رؤيا أصدقُكم حديثًا»: ظاهره أنّه على إطلاقه، وحكى القاضي عن بعض العلماءِ أنّ هذا يكون في آخِر الزمان عند انقطاع العلم، ومَوت العلماء والصالحين، ومن يُستضاء بقوله وعَمَله، فجعله اللّه تعالى جابرًا وعِوَضًا ومنبِّهًا لهم، والأوَّلُ أظهر؛ لأن غيرَ الصادق في حديثه يتطرَّق الخَلَل إلى رؤياه وحكايته إيَّاها. قوله ﷺ: «ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النُّبوَّة»، وفي رواية: «رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النّبوَّة»، وفي رواية: «الرّؤيا الصّالحة جزء من ستّة وأربعين جزءًا من النّبوّة»، وفي رواية: «رؤيا الرّجل الصّالح»، وفي رواية: «الرّؤيا الصّالحة جزء من سبعين جزءًا من النّبوَّة»، فحصل ثلاثُ روايات، المشهور (ستَّة وأربعين، والثانية خمسة وأربعين، والثالثة سبعين جزءًا)، وفي غير مسلم من رواية ابن عبّاس: «من أربعين جزءًا»، وفي رواية: «من تسعة وأربعين»، وفي رواية العبَّاس: «من خمسين»، ومن رواية ابن عمر: «ستّة وعشرين»، ومن رواية عبادة: «من أربعة وأربعين». قال القاضي: أشار الطّبريُّ إلى أنّ هذا الاختلاف راجع إلى اختلاف حال الرّائي؛ فالمؤمن الصّالح تكون رؤياه جزءًا من ستَّة وأربعين جزءًا، والفاسق جزءًا من سبعين جزءًا. وقيل: المراد أنّ الخفيَّ منها جزءٌ من سبعين، والجَليُّ جزء من ستَّة وأربعين"[3].

قال المازريُّ رحمه الله: "وأما قولُه: «رؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءًا من النُّبوَّة»، فإنّه مما قال بعض الناس فيه: إنّه ﷺ أقام يوحَى إليه ثلاثةً وعشرين عامًا: عشَرةً بالمدينة، وثلاثةَ عَشَرَ بمكَّةَ، وكان قبل ذلك بستَّة أشهر يَرى في الَمنَامِ ما يُلقيه إليه الْمَلَك عَلَيهِما السلام، وذلك نصف سَنة، ونصف سَنَةٍ من ثلاث وعشرين سنةً جزءٌ من ستَّة وأربعين جزءًا من النّبوءة، وقد قيل: إن النّبيَّ ﷺ قد خُصَّ دون الخَلِيقة بضُروب وفنون، وجُعِل له إلى العلم طُرُقٌ لم تُجعَل لغيره، فيكون المرادُ أن الْمَناماتِ نِسبتُها مما حصل له وميِّز به جزءٌ من ستَّة وأربعين، فلا يبقى على هذا إلا أن يُقال: بَيِّنُوا هذه الأجزاء، ولا يَلزَم العلماءَ أن تَعرِف كلَّ شيء جُملةً وتفصيلاً، وقد جعل الله سبحانه للعلماء حَدًّا تَقِف عنده، فمنها ما لا تَعْلَمُه أصلاً، ومنها ما تَعلَمه جُملةً ولا تَعلَمه تفصيلاً، وهذا منه، ومنها ما تَعْلَمُه جُملةً وتفصيلاً، لا سِيَّما ما طريقتُه السَّمْعُ، ولا مدخَلَ للعقل فيه، فإنّما يُعرَف منه قَدْرُ ما عُرِف به السَّمع، وقد مال بعض شيوخنا إلى هذا الجواب الثّاني، وقدح في الأوَّل بأنه لم يَثبُت أن أَمَدَ رؤيَاه ﷺ قبل النّبوءة كانت ستَّةَ أشهر، وبأنه بعد النُّبوءة رأى مناماتٍ كثيرةً، فيجب أن يلفَّق منها ما يُضاف إلى الستَّة أشهر، فيتغيَّر الحساب، وتَفسَد النِّسبة، ولا وجه عندي لاعتراضه بما كان من المنامات خلال زمن الوحيِ؛ لأنَّ الأشياء توصَف بما يَغلِب عليها، وتُنسَب إلى الأكثَرِ منها، فَلَمَّا كانت الستَّة أشهر مَحْضَةً في المنامات، والثَّلاثُ والعشرون سنةً جُلُّها وحيٌ، وإنما فيها مناماتٌ شيءٌ يسير، يُعَدُّ عَدًّا، صَحَّ أن يُطرَح الأقَلُّ في حُكم النِّسبة والِحسَاب. ويَحتمِل عندي أن يُراد بالحديث وجهٌ آخَرُ، وهو أنّ ثمرةَ الْمَناماتِ الخَبَرُ بالغَيب لا أكثَرَ، وإن كان يَتبَع ذلك إنذارٌ وَتَبشِير، والإخبار بالغَيب أحَدُ ثمرات النبوَّة، وأحدُ فوائدها، وهو في جنب فوائد النبوَّة، والمقصودُ بها يسيرٌ؛ لأنّه يصحُّ أن يُبْعَثَ نَبيٌّ ليُشرِّع الشرائع، ويبيِّن الأحكام، ولا يُخبَر بغَيب أبدًا، ولا يكون ذلك قادحًا في نبوَّته، ولا مبطِلاً للمقصود منها، وهذا الجزء من النبوَّة، وهو الإخبار بالغيب، إذا وقع، فلا يكون إلَّا صِدْقًا، ولا يقع إلَّا حقًّا، والرؤيا ربما دلَّت على شيء، ولم يقع ما دلَّت عليه؛ إمّا لِكَوْنهَا مِن الشّيطان، أو من حَدِيثِ نَفْسٍ، أو من غَلَطِ العَابِر في أصل العبارة، إلى غير ذلك من الضُّروب الكثيرة التي توجب عدم الثقة بدلالة الْمَنام، فَقد صار الَخبرُ بالغَيب أحَدَ ثمرات النّبوءة، وهو غير مقصود فيها؛ ولكنه لا يقع إلا حَقًّا، وثمرةُ الْمَنَام الإخبارُ بالغَيب؛ ولكنه قد لا يقع صِدْقًا، فتُقدَّر النِّسبة في هذا بقدر ما قدَّره الشرع بهذا العدد على حَسَبِ ما أَطلَعه الله سبحانه عليه، ولأنه يَعلَم من حقائق نبوَّته ما لا نَعلَمُه نحن"[4]

قال القاضي عياض رحمه الله: "وأما قوله ﷺ: «فإنها لن تضرَّه»، فقيل: معناه: أن الرَّوع يُذهب هذا التعب المذكور في الحديث، إذا كان فاعله مصدِّقًا به، متَّكِلاً على الله جلَّت قُدرته في دفع المكروه عنه. وقيل: يُحتمَل أن يريد أن هذا الفعل منه يَمنَع من نفوذ ما دلَّ عليه الْمَنام من المكروه، ويكون ذلك سببًا فيه، كما تكون الصَّدَقة تَدفَع البلاء، إلى غير ذلك من النظائر المذكورة عند أهل الشريعة"[5]

قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الإمام: كَثُر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويلَ كثيرةً مُنكَرةً لَمَّا حاولوا الوقوفَ على حقائقَ لا تُعلَم بالعقل، ولا يقوم عليها بُرهان، وهم لا يصدِّقون بالسَّمع، فاضطربت لذلك مقالاتُهم، فمَن ينتهي إلى الطلب، يَنسُب جميع الرؤيا إلى الأخلاط، ويستدلُّ بالْمَنَامات على الخلط المغالِب، فيقول: من غَلَب عليه البَلْغَم، رأى السباحة في الماء، ويُشبِهه لمناسبة الماء في طبيعته طبيعة البَلغَم، ومن غَلَب عليه الصفراءُ، رأى النيران والصعود في العُلوِّ، ويُشبِهه لمناسبة النار في الطبيعة طبيعة الصفراء، ولأن خِفَّتها وانقيادها يخيَّل إليه الطيران في الجوِّ، والصُّعود في العُلو، وهكذا يصنعون في بقيَّة الأخلاط، وهذا مذهب، وإن جوَّزه العقل، وأَمكَن عندنا أن يُجريَ الباري - جلَّت قُدرته - العادة؛ بأن يَخلُق مثل ما قالوه عند غلبة هذه الأخلاط، فإنه لم يَقُم عليه دليل، ولا اطَّردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غَلَطٌ وجَهَالة. هذا لو نسبوا ذلك إلى الأخلاط على جهة الاعتياد، وأما إن أضافوا الفعل، فإنها تَقطَع بخطئهم، ولا يجوز ما قالوه؛ إذ لا فاعل إلا الله. ولبعض أئمة الفلاسفة تخليط طويلٌ في هذا، وكأنه يرى أن صور ما يجري في الأرض في العالم العُلويِّ كالمنقوش، وكأنه يدور بدوران الآخر، فما حاذى البعض المنقوش منه انتقش فيها، وهذا أوضح فسادًا من الأول، مع كونه تحكُّمًا بما لم يقع عليه برهان، والانتقاش من صفات الأجسام، وكثيرًا ما يجري في العالم الأعراض، والأعراض لا تنتقش ولا يتنقَّش فيها.

والمذهب الصحيح ما عليه أهل السنَّة، وأن الله - سبحانه - يَخلُق في قلب النائم اعتقاداتٍ كما يَخلُقها في قلب اليقظان، وهو - تبارك اسمُه - يفعل ما يشاء، ولا يَمنَعه من فعله نَوْمٌ ولا يَقَظة، فإذا خَلَق هذه الاعتقاداتِ، فكأنه - سبحانه - جعلها عَلَمًا على أمور أُخَرَ، يَخلُقها الله في ثاني حال، أو كان قد خَلَقها. فإذا خَلَق في قلب النائم اعتقادَ الطيران، وليس بطائر، فقُصارى ما فيه أنه اعتقد أمرًا على خلاف ما هو عليه، وكم في اليقظة ممن يعتقد أمرًا خلاف ما هو عليه، فيكون ذلك الاعتقاد عَلَمًا على غيره، كما يكون خلق الله - سبحانه - الغَيم عَلَمًا على المطر، والجميعُ خَلْقُ الله - سبحانه - ولكن يَخلُق الرؤيا والاعتقاداتِ التي جَعَلها عَلمًا على ما يسَّر بحضرة أو بغير حضرة الشيطان، ويَخلُق ضدَّها مما هو عَلَم على ما يضرُّ بحضرة الشيطان، فيُنسَب إليه مجازًا واتِّساعًا. وهذا المعنيُّ بقوله ﷺ: «الرؤيا من الله، والحُلم من الشيطان»، لا على أن الشيطان يفعل شيئًا في غيره، وتكون الرؤيا اسمًا لما يُحَبُّ، والحُلم لما يُكرَه"[6]

قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "وإن الرؤيا لا تكون من أجزاء النبوَّة إلَّا إذا وقعت من مسلم صادق صالح، وهو الذي يُناسِب حاله حال النبيِّ ﷺ، فكرِّم بنوع ممَّا أُكرِم به الأنبياء عليهم السلام، وهو الاطِّلاع على شيء من علم الغيب، كما قال ﷺ: «إنه لم يبقَ من مبشِّرات النبوَّة إلا الرؤيا الصادقة في النَّوْمِ، يراها الرجلُ الصالح، أو تُرى له»، فإنَّ الكافر، والكاذبَ، والمخلِّطَ، وإن صَدَقت رؤاهم في بعض الأوقات، لا تكون من الوحيِ، ولا من النبيِّ ﷺ؛ إذ ليس كلُّ من صَدَق في حديث عن غَيْبٍ، يكون خبرُه ذلك نبوَّةً؛ فالكاهنُ يُخبِر بكلمة الحقِّ، وكذلك المنجِّم قد يَحْدِس فيَصدُق؛ لكن على النُّدُور والقِلَّة، وكذلك الكافرُ، والفاسق، والكاذب، وقد يرى الْمَنام الحقَّ، ويكون ذلك الْمَنام سببًا في شرٍّ يَلحَقُه، أو أمرٍ يَنالُه... إلى غير ذلك من الوجوه المعتبَرة المقصودة به، وقد وقعت لبعض الكفَّار مناماتٌ صحيحة صادقة؛ كمَنام الْمَلِك الذي رأى سَبْعَ بَقَرات، ومَنامِ الفتَيَيْنِ في السِّجن، ومَنام عاتكةَ عمَّة رسول الله ﷺ وهي كافرة، ونحوُه كثير؛ لكن ذلك قليل بالنسبة إلى مناماتهم المخلِّطة والفاسدة"[7]

قال المازريُّ رحمه الله: "وأمَا اختلاف الرِّوايات في هذا القَدْرِ، ففي كتاب مسلمٍ "خمسة"، وفيه "ستة"، وفيه "من سبعين جزءًا من النُّبوَّة"، وقد أشار الطَّبريُّ إلى أن هذا الاختلاف راجع إلى اختِلاف حَالِ الرَّائي؛ فالمؤمنُ الصالح تكون نسبةُ رؤياه من ستَّةٍ وأربعين، والفاسقُ من سبعين؛ ولهذا لم يَشترِط في رواية السَّبعين في وصف الرائي ما اشترَطَه في وصف الرائي في الحديث المذكور فيه ستَّة وأربعون، فقد قال في بعض طُرق مسلم: «رؤيا الرّجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»، وإن كان قد أَطلَق في بعض طُرقه فقال: «رؤيا المؤمن جزء من ستَّة وأربعين»، وقال في السّبعين: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءًا من النبوءة»، ولم يشترط كون الرائي صالحًا، وقد يُحمَل مُطلَقُ قوله: «الرؤيا الصالحة جزء من ستةٍ وأربَعِين» على أن المراد به إذا كانت من رَجلٍ صالح؛ بدليل الحديث الآخَر، وقد قيل: إن المنامات دلالاتٌ، والدلالة منها خَفيٌّ، ومنها جَلِيٌّ، فما ذُكِر فيه السبعون أُرِيد به أنّه الخَفيُّ منها، وما ذُكِر فيه الستة والأربعون أُرِيدَ بِه الجَليُّ منها"[8]

قال القاضي عياض رحمه الله: "الرؤيا الصحيحة إنذارٌ من الله، وعناية بعبده؛ لئلَّا يَفجَؤه ما قدِّر عليه بغتةً، وليكون فيه على حَذَر وأُهْبَة، كما أن الرؤيا الصالحة والحسنة من الصالحين، هذا أيضًا على الغالب، وقد يكون في رؤياهم أضغاث؛ ولكن على سبيل النُّدور بضدِّ الأولى لعوارضَ تقتضى ذلك - والله أعلم - من وسوسة النفس وحديثها، أو غلبة خلط عليه، أو فساد ذكرها أحيانًا وتخييلها وفكرها. ويَحتمِل قوله: (الحسنة، والصالحة) أن يكون راجعًا إلى حُسن ظاهرها، ويَحتمِل أن يرجع إلى صحَّتها، كما أن قوله في الأخرى: (السوء) يَحتمِل الوجهين: سوء الظاهر، أو سوء التأويل. وفي أمره بنَفثِه وبَصقِه ثلاثًا: طردٌ للشيطان الذي حَضَر رؤياه المكروهة، واستقذاره لها، كما يَبصُق على ما يَستقذِر ويَكرَه، كما أَمَر بذلك عند التثاؤب. وكَوْنُ ذلك في يساره؛ لأن اليسار أبدًا جِهَةُ الشيطان، وجهة الْمَذامِّ والأقذار، والجهة المشؤومة، بضدِّ اليَمين، والعربُ تسمِّيها الشُّؤْم. وقولُه: "فليَبصُق، وليتفل، ولينفث" على اختلاف الأحاديث، كلُّه بمعنًى. وأمرُه بتحويله عن جَنْبِه: تفاؤلاً بتحويل حالها، وظاهر مكروه تأويلها، وأنها لا تضرُّه، وهذا يصحِّح أحد التأويلين في قوله: «لا تضرُّه» أنه عائد إلى صرف سوء تأويلها، ودَفْع اللهِ بما فعل عنه مكروهها. وأما قولُه: «ولا تُخبِرْ بها أحدًا»، فما فائدة كتمانها؟ فقيل: إن ذلك مخافة تعجيل اشتغال السوء بمكروه تفسيرها، إن وافَقَ ظاهرُها باطنَها، والتعذيب به مدَّةً لا يُدرى قُرْبُها من بُعْدِها، فقد تَخرُج الرؤيا بعد طول السنين، وإذا لم يُخبِر بها، وفعل ما أُمِر به من النَّفث والاستعاذة، كان دواءَ مكروهها، وخروجُها عن ذلك على أحد التأولين، وعلى التأويل الآخر: أن ذلك إنما يُريك رَوعتها، وتحزنه بها. وإذا لم يَذكُرْها لأحدٍ، ولم يفصَّل له تفسيرها، بَقِيَ بين الطمع والرجاء من أنه أهل لها تفسيرًا حسنًا، أو أنها من أضغاث الأحلام، أو حديث النفس، فكان أسكنَ لنفسه، وأقلَّ لتعذيب قلبه"[9]

 قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "اختلفت الرواية في عدد أجزاء النبوَّة التي جعلت رؤيا الرجل الصالح واحدًا منها، من ستَّة وعشرين إلى سبعين، وأكثرُها في الصحيحين، وكلُّها مشهور؛ فلا سبيلَ إلى أخذ أحدِها، وطرح الباقي، والوجهُ الذي يتعيَّن الْمَصيرُ إليه أن يُقال: إن هذه الأحاديثَ - وإن اختلفت ألفاظُها - متَّفِقةٌ على أن الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزءٌ من أجزاء النبوَّة؛ فهذه شهادة صحيحة من النبيِّ ﷺ لها بأنها وحيٌ من الله تعالى، وأنها صادقةٌ لا كَذِب فيها؛ ولذلك قال مالك، وقد قيل له: أيفسِّر الرؤيا كلُّ أَحَدٍ؟ فقال: أيُلعَب بالوحي؟! وإذا كانت هكذا، فيتَعيَّن على الرائي أن يعتنيَ بها، ويسعى في تفهُّمها، ومعرفة تأويلها؛ فإنَّها إمَّا مبشِّرةٌ له بخير، أو محذِّرة له من شرٍّ، فإنْ أَدرَك تأويلها بنفسه، وإلَّا سأل عنها من له أهليَّةُ ذلك، وهو اللبيبُ الحبيب؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يقول إذا أصبح: «هل رأى أحدٌ منكم الليلة رؤيا فليقصَّها، أعبِّرها؟»[10]، فكانوا يقصُّون عليه، ويَعْبُرُ. وقد سلك أصحابه ذلك المسلك في حياته، وبعد وفاته، وقد كان يقتبس الأحكام من منامات أصحابه، كما فَعَل في رؤيا الأذان، وفي رؤيا ليلة القدر. وكلُّ ذلك بناءً على أنها وحيٌ صحيح"[11]

المراجع

  1. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 117).
  3. شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 20، 21).
  4. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 203، 204).
  5. إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 205).
  6. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 204، 205).
  7. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 119).
  8. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (3/ 205).
  9. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 207، 208).
  10. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ يَقُولُ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟»، وَيَقُولُ «إِنَّهُ لَيْسَ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ». رواه أحمد (8296)، وأبو داود (5017)، والترمذيُّ (2294)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح.
  11. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (18/ 120).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

عَنْ حُذَيْفَةَ قال: (كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟)؛ أي: يَذكُر الفِتَن والبلاءاتِ التي ستَحدُث. (فَقَالَ قوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ. فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟)؛ أي: فتنته بأن يأتيَ من أجْل أهله بما لا يحِلُّ شرعًا من القول والفعل، وفتنته في جاره بأن يتمنَّى مثلَ حاله إنْ كان متَّسَعًا مع تمنِّي زوال النعمة عنه. (قَالُوا: أَجَلْ)؛ أي: نعمْ، هذا الذي نُريده بالفتنة. (قَالَ: تِلْكَ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ)؛ أي: إن فتنة الرجُل في أهله وجاره هي من صغائر الذنوب التي تُكفِّرها الأعمالُ الصالحةُ. (وَلَكِنْ أَيُّكُمْ سَمِعَ النَّبِيَّ يَذْكُرُ الَّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟)؛ أي: إنه يسأل عن الفتنة الكُبرى العامَّة التي تضطربُ بشدَّة كالبحر، ويدفع بعضُها بعضًا، فهي كالموج في شدَّة عِظَمها، وكثرة شيوعها.

قَالَ حُذَيْفَةُ: (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ، فَقُلْتُ: أَنَا)؛ أي: فسكت القوم، فقال حذيفةُ: أنا سمعتُ النبيَّ ﷺ يذكُر الفتنة الكبرى التي تسأل عنها. 

قَالَ: (أَنْتَ للهِ أَبُوكَ!): لله أبوكَ: كلمة مدح تَعتاد العرب الثناء بها؛ لأن الإضافةَ إلى العظيم تشريف.

قَالَ حُذَيْفَةُ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا»

أي: تَلصَق الفتن - فتنة بعد أخرى - بعرض القلوب - وهو جانبها - كما يَلصَق الحصير بجنب النائم، ويؤثِّر فيه شدَّةُ التصاقها به. «فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ»؛ أي: فأيُّ قلب أُشرب الفتنة، وحلَّت منه محلَّ الشراب، نُكت فيه نقطة سوداء. «وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ»؛ وأي قلب ردَّها ودَفَعها، نُكت فيه نقطة بيضاء. «حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»؛ أي: حتى تنقسم القلوب إلى قسمين؛ الأول: الذي يردُّ الفتنةَ ويدفعُها يَصِير كالحجر الأملس (الصَّفا) في شِدَّته على الإيمان ودفع الفتن، وسلامته من الخلَل، فلا تضرُّه فتنةٌ أبدًا. «وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا» والثاني الذي أُشرِب الفتنةَ يصير أسودَ اللون، يختلط سَوَادُه بكُدرة، وهو مع ذلك مقلوب منكوس كالكوز المائل الذي لا يثبُت الماء فيه. وحالُه أنه: «لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ».

قَالَ حُذَيْفَةُ: (وَحَدَّثْتُهُ، أَنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ»؛ أي: إن هذه الفتنَ لا يخرُجُ منها شيءٌ في حياتك يا أمير المؤمنين، فبابُها موصَدٌ ما دمتَ حيًّا؛ ولكن هذا الباب يوشك أن يُكسَر.

قَالَ عُمَرُ: (أَكَسْرًا لَا أَبَا لَكَ؟ فَلَوْ أَنَّهُ فُتِحَ لَعَلَّهُ كَانَ يُعَادُ)؛ وذلك لأن المكسور لا يمكِن إعادتُه، بخلاف المفتوح، وقوله: «لا أبا لكَ» كلمة تذكرها العرب للحثِّ على الشيء، ومعناها: جِدَّ في هذا الأمر، وتأهَّبْ تأهُّبَ مَن ليس له أبٌ يُعاوِنُه.

قال حذيفة: (قُلْتُ: لَا؛ بَلْ يُكْسَرُ): يؤكِّد حذيفةُ رضي الله عنه على أن باب الفتنة سيُكسَر. (وَحَدَّثْتُهُ: أَنَّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ)؛ أي: إن باب الفتنة سوف يُكسَر بموت رجُل، وهو عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه . (حَدِيثًا لَيْسَ بِالْأَغَالِيطِ)؛ أي: حدَّثتُه حديثًا صِدقًا محقَّقًا ليس فيه غلطٌ؛ إذ هو من حديث النبيِّ ﷺ الذي لا يَنطِق عن الهوى.



الشرح المفصَّل للحديث:

اعتاد الصحابةُ ﭫ أن يسألوا فيما ينفَعُهم في دينهم، لا سيَّما الأمورُ التي تتعلَّق بالفتن والابتلاءات؛ لكي يُسارعوا إلى النجاة منها، فيسأل الفاروق عمرُ رضي الله عنه  الصحابةَ فيقول: أيُّكم سمعَ رسولَ الله يذكُر الفتنَ؟ فيُجيبه طائفةٌ منهم بأنهم سمِعوا النبيَّ ﷺ يتكلَّم عن الفتن، وأصلُ الفتنة الامتحانُ والاختبارُ، ثم صارت في العُرف عبارةً عن: كل أمر كشَفه الاختبارُ عن سوء[1].

لكن عمر يستدرك ويقول: لعَلَّكُم تَعْنونَ فِتنة الرَّجلِ في أهلِهِ وجارِهِ؟

أي: بأن يأتيَ من أجْلهم بما لا يحِلُّ من القول والفعل؛ فإن فِتنتَه في ولده تكون بفَرط المحبَّة والشغل به عن كثير من الخيرات، أو التوغُّل في الاكتساب من أجْلهم من غير اتِّقاء المحرَّمات، وفتنته في جاره بأن يتمنَّى مثلَ حاله إن كان متَّسَعًا مع الزوال[2]. وإنما خصَّ الرجُل لأنه غالبًا صاحب الحُكم في داره وأهله، وإلا فالنساء شقائق الرجال في الحكم[3].

فيردُّون عليه: أجَلْ؛ أي: نعمْ، هذا الذي نُريده بالفتنة!

فيقول عمر رضي الله عنه: تلك تُكفِّرها الصلاةُ والصيامُ والصدقةُ؛ أي: إن فتنة الرجُل في أهله وجاره هي من الصغائر التي تُكفِّرها الأعمالُ الصالحةُ كالصلاة والصيام والصدقة؛ كما في حديث أبي هريرة  رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كان يقول:

«الصلواتُ الخمسُ، والجمُعةُ إلى الجمُعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينَهن إذا اجتنبَ الكبائر»

[4]

ثم يُعيد الفاروق السؤالَ ويَزيده إيضاحًا: «ولكن أيُّكم سمعَ النبيَّ ﷺ يذكُر التي تموج موجَ البحر؟»؛ أي: إنه يسأل عن الفتنة الكُبرى العامَّة التي تَمُوج - أي: تضطربُ - كالبحر، ويدفع بعضُها بعضًا، فهي كالموج في شدَّة عِظَمها، وكثرة شيوعها[5]

فيَحكي حذيفة رضي الله عنه المشهدَ بعد سؤال عمر بقوله: «فأسكت القومُ»؛ أي: سكتوا، فنهض حذيفةُ وقال: أنا. أي: أنا سمعتُ النبيَّ ﷺ يَذكُر الفتنة الكبرى التي تسأل عنها. فقال عمر  رضي الله عنه: أنت لله أبوكَ. وهي كلمة مدح تَعتاد العرب الثناء بها؛ لأن الإضافةَ إلى العظيم تشريف، كما يقال: "بيتُ الله، وناقة الله"، فإذا وجدوا من الولد ما يُحمَد، قيل له: لله أبوكَ حيث أتى بمثلك[6].

ثم يقصُّ حذيفة رضي الله عنه ما سمعه من النبيِّ ﷺ: «تُعرَض الفتنُ على القلوب كعَرض الحصير عودًا عودًا»؛ أي: تَلصَق بعرض القلوب - وهو جانبها - كما يَلصَق الحصير بجنب النائم، ويؤثِّر فيه شدَّةُ التصاقها به، والتَّكرار هنا؛ أي: تَظهَر لها فتنةٌ بعد أخرى. وقوله: «كالحصير»؛ أي: كما يُنسج الحصير عودًا عودًا، فإن ناسج الحصير عند العرب كلَّما صَنَع عُودًا أخذ آخَرَ ونسجَه، فشبَّه عَرض الفتن على القلوب واحدةً بعد الأخرى بعَرض قُضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد[7].

ثم يُخبر النبيُّ ﷺ: «فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيه نُكتةٌ سوداءُ»، ومعنى أُشرِبَها؛ أي: دخلتْ فيه دخولًا تامًّا، وحلَّت منه محلَّ الشراب؛ 

كما قال تعالى:

﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ﴾

[البقرة: 93]

 أي: حُبَّ العِجل[8]. وقوله: «نُكِتَ نُكتة»؛ أي: نقطة، و«أيُّ قلب أنكرها»؛ أي: ردَّها.

وقوله ﷺ:

«حتى تَصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامت السموات والأرض»

أي: إن قلبه حين يُنكر الفتنةَ ويَردُّها يصيرُ مثل الصفا، (وهو الحجر الأملس) في شِدَّته على الإيمان وسلامته من الخلَل، وأن الفتن لم تَلصَق به، ولم تؤثِّر فيه؛ لأن الصفا لا يَعلَق به شيءٌ[9]. هذا حالُ القلب الأول الذي يردُّ الفتنةَ ويدفعُها.

وأما القلبُ الآخَرُ فهو «أسودُ مُرْبادًّا كالكوز مُجخِّيًا»؛ أي: أسود اللون، يختلط سَوَادُه بكُدرة، وهو مع ذلك مقلوب منكوس كالكوز المائل الذي لا يثبُت الماء فيه. وحالُه أنه: «لا يعرِف معروفًا ولا يُنكر منكرًا، إلا ما أُشرِبَ من هواه»، والمعنى أن الرجُل إذا تَبِعَ هواه، وارتكب المعاصيَ، دَخَل قلبَه بكلِّ معصية يتعاطاها ظُلمةٌ، وإذا صار كذلك افتُتِن وزال عنه نورُ الإسلام، والقلبُ مثلُ الكوز، فإذا انكبَّ انصبَّ ما فيه، ولم يَدخُله شيءٌ بعد ذلك[10]

ثم يُبيِّن حذيفةُ رضي الله عنه حالَ الفتنة في زمن عمرَ رضي الله عنه، فيقول: (وحدَّثتُه أن بينك وبينه بابًا مغَلقًا يوشِك أن يُكسَر)؛ أي: إن هذه الفتن لا يخرُجُ منها شيءٌ في حياتك يا أمير المؤمنين، فأبوابُها موصَدةٌ ما دمتَ حيًّا. فيسأله عمرُ  رضي الله عنه: (أكسْرًا لا أبَا لكَ؟ فلو أنه فُتِح لعلَّه كان يُعاد)؛ وذلك لأن المكسور لا يمكِن إعادتُه بخلاف المفتوح، ولأن الكسرَ غالبًا لا يكون إلا عن إكراهٍ وغلَبةٍ وخلاف عادة. وقوله: (لا أبا لكَ) كلمة تذكرها العرب للحثِّ على الشيء، ومعناها: أن الإنسان إذا كان له أبٌ وحَزَبه أمرٌ ووقع في شدَّة، عاوَنَه أبوه، فإذا قيل: "لا أبا لكَ"، فمعناه: جِدَّ في هذا الأمر، وشَمِّرْ، وتأهَّبْ تأهُّبَ مَن ليس له معاوِنٌ[11]

يؤكِّد حذيفةُ رضي الله عنه على أن باب الفتنة سيُكسَر، ويقول: (وحدَّثتُه: أن ذلك الباب رجُلٌ يُقتَل، أو يموت حديثًا ليس بالأغاليط)؛ أي: إن باب الفتنة سوف يُكسر بموت رجُل، وهو عمر بن الخطاب  رضي الله عنه. وسبب إيراده مُبهمًا يَحتمِل أن حذيفةَ سمِعَه هكذا من النبيِّ ﷺ دون تعيين، وربما يكون حذيفة قد عَلِم أنه يُقتل؛ لكنه كرِهَ أن يخاطِب عمر  رضي الله عنه بالقتل، وذلك من حُسن أدبه  رضي الله عنه[12]، وفي الصحيح أنهم طلبوا من مسروق أن يسأل حذيفةَ عن الباب، فسأله فقال حذيفة: عمر رضي الله عنه، قال: قلنا: فعلم عمرُ مَن تَعني؟ قال: نعمْ[13].

وقوله: (حديثًا ليس بالأغاليط)، فهي جمع أُغلوطة، وهي التي يُغالَط بها، فمعناه: حدَّثتُه حديثًا صِدقًا محقَّقًا ليس هو من صُحُف الكتابيِّين، ولا من اجتهاد ذوي الرأي؛ بل من حديث النبيِّ ﷺ الذي لا يَنطِق عن الهوى[14]

المراجع

  1. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/357).
  2. "إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (1/480).
  3. "فيض القدير" للمناويِّ (4/423)
  4.  رواه مسلم (233).
  5.  "شرح السيوطيِّ على مسلم" (1/164).
  6. "شرح السيوطيِّ على مسلم" (2/171).
  7. شرح السيوطيِّ على مسلم" (2/171-172).
  8. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/359).
  9. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/172
  10.  انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/173).
  11.  انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/174).
  12.  انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/175)، و"فتح الباري" لابن حجر (13/50).
  13. رواه البخاريُّ (1435).
  14.  انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/175)


النقول

قال النوويُّ رحمه الله " قال أهل اللّغة: أصل الفِتنة في كلام العرب الابتلاءُ والامتحان والاختبار. قال القاضي: ثمّ صارت في عُرف الكلام لكلِّ أمر كشفه الاختبار عن سوء. قال أبو زَيد: فُتِنَ الرَّجُلُ يُفْتَنُ فُتُونًا إذا وقع في الْفِتْنَةِ وتَحَوَّل من حال حَسَنَةٍ إلى سَيِّئَةٍ، وفِتنةُ الرَّجُل في أهله وماله ووَلَده ضُرُوبٌ مِن فَرْطِ مَحَبَّته لهم، وشُحِّه عليهم، وشُغْلِه بهم عن كثير من الخير؛ كما

قال تعالى:

إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞﱠ

[التغابن: ١٥]

أو لتفريطه بما يَلزَم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم؛ فإنّه راعٍ لهم ومسؤول عن رعيَّته، وكذلك فتنةُ الرّجل في جارِه من هذا؛ فهذه كلُّها فتن تقتضي المحاسبة، ومنها ذنوب يُرجى تكفيرها بالحسنات؛ 

كما قال تعالى:

إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِﱠ

[هود: ١١٤]

 وقوله: «الّتي تموج كما يموج البحر»؛ أي: تَضْطرِب ويَدفَع بعضها بعضًا، وشبَّهها بموج البحر لشدَّة عِظَمها، وكثرة شيوعها"[1].

قال الطِّيبيُّ  رحمه الله: "«حتى يصير»؛ أي: جنس الإنسان على قسمين: قسمٌ ذو قلب أبيضَ كالصَّفاء، وقسم ذو قلب أسود مربادًّا. الضمير في «يصير»؛ أي: تصير القلوب على نوعين؛ أحدهما: أبيضُ، وثانيهما: أسود. «الصفا»: الحجارة الصافية الملساء، وأريد به هاهنا النوع الذي صفا بياضُه، وعليه نبَّه بقوله: «أبيض»، وإنما ضَرَب المثلَ به؛ لأن الأحجار إذا لم تكن معدنيةً لم تتغيَّر بطول الزمان، ولم يدخلها لونٌ آخَرُ، لا سيَّما النوع الذي ضُرب به الْمَثَل، فإنه أبدًا على البياض الخالص الذي لا تَشُوبه كُدرةٌ، والربدة لون بين السَّواد والغُبرة، ومنه ظَلِيمٌ أَرْبَدُ، وقد اربَدَّ اربدادًا؛ أي: تلوَّن وصار على لون الرماد. وإنما وصف القلب بالرُّبدة؛ لأنه أنكرُ ما يوجد من أنواع السواد، بخلاف ما تشوبه صفا ويعلوه طراوة من النوع الخالص. وأما قوله: «مربادًّا» فهو منصوب على الحال""[2].

قال النوويُّ  رحمه الله"وقوله: (فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ): هو بقطع الهمزة المفتوحة. قال جمهور أهل اللُّغة: (سَكَتَ وَأَسْكَتَ) لُغتان بمعنى صَمَتَ، وقال الأصمعيُّ: سَكَتَ: صَمَتَ، وَأَسْكَتَ: أَطْرَقَ، وإنّما سَكَت القوم لأنّهم لم يكونوا يَحفَظون هذا النَّوع من الفِتنة؛ وإنّما حَفِظوا النّوع الأوَّل. وقوله: (لله أبوكَ): كلمة مدح تَعتاد العرب الثناءَ بها؛ فإن الإضافةَ إلى العظيم تشريف؛ ولهذا يُقال: بيتُ الله، وناقة الله. قال صاحب التحرير: فإذا وُجِد من الولد ما يُحمَد، قيل له: لله أبوكَ، حيث أتى بمثلِكَ""[3].

قال الطِّيبيُّ  رحمه الله: "قوله: «إلا ما أُشرب من هواه» يعني: لا يعرف القلب إلا ما قَبِل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية. أقول: ولعله أراد أنه من باب تأكيد الذمِّ بما يُشبه الْمَدح؛ أي: ليس فيه حبَّة خير البتَّةَ، إلا هذا، وهذا ليس بخير، فيلزم منه أن يكون فيه خير""[4].

قال النوويُّ  رحمه الله"هذان الحرفان ممّا اختُلف في ضبطه على ثلاثة أوجه، أظهرُها وأشهرها: عُودًا عُودًا، بضمِّ العَين وبالدّال المهمَلة، والثّاني: بفتح العين وبالدّال المهملة أيضًا، والثّالث: بفتح العين وبالذّال المعجَمة، ولم يَذكُر صاحب التّحرير غير الأوّل، وأمّا القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثّلاثة عن أئمّتهم، واختار الأوّل أيضًا. قال: واختار شيخنا أبو الحسين بن سرَّاج فتح العين والدّال المهملة. قال: ومعنى (تُعرَض): أنّها تَلصَق بعرض القلوب؛ أي: جانبها، كما يَلصَق الحصير بجنب النّائم ويؤثّر فيه شدَّة التصاقها به. قال: ومعنى (عَودًا عَودًا)؛ أي: تُعاد وتُكرَّر شيئًا بعد شيء. قال ابن سرَّاج ومن رواه بالذّال المعجَمة: فمعناه سؤال الاستعاذة منها ؛كما يقال: غَفرًا غفرًا، وغُفرانك؛ أي: نسألك أن تُعيذنا من ذلك، وأن تَغفر لنا. وقال الأستاذ أبو عبد اللّه بن سليمان: معناه: تَظهَر على القلوب؛ أي: تظهر لها فتنة بعد أخرى. وقوله: (كالحصير)؛ أي: كما يُنسَج الحصير عُودًا عودًا، وشَظِيَّةً بعد أخرى. قال القاضي: وعلى هذا يترجَّح رواية ضمِّ العَين؛ وذلك أنّ ناسج الحصير عند العرب كلَّما صنع عودًا أخذ آخَرَ ونَسَجه، فشبَّه عَرْضَ الفِتن على القلوب واحدةً بعد أخرى بعرض قُضبان الحصير على صانعها واحدًا بعد واحد. قال القاضي: وهذا معنى الحديث عندي، وهو الّذي يدلُّ عليه سياق لفظه وصحَّة تشبيهه، واللّه أعلم"[5].

 قال ابن القيم  رحمه الله: "وقسَّم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين: قلبٍ إذا عُرضت عليه فتنة أُشربها، كما يَشرَب السفنج الماء، فتُنكت فيه نكتة سوداءُ، فلا يزال يشرب كلَّ فتنة تُعرض عليه حتى يسودَّ وينتكس، وهو معنى قوله: (كالكوز مُجَخِّيًا)؛ أي: مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسودَّ وانتكس، عَرَض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك؛ أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا، ولا ينكِر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرًا، والمنكَرَ معروفًا، والسنَّة بدعة، والبدعة سنَّة، والحقَّ باطلاً، والباطل حقًّا، الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول ﷺ، وانقياده للهوى، واتِّباعه له.

وقلبٍ أبيضَ قد أشرق فيه نور الإيمان، وأَزهَر فيه مصباحه، فإذا عَرَضت عليه الفتنة أَنكَرها وردَّها، فازداد نوره وإشراقه وقوَّته.

والفتن التي تُعرَض على القلوب هي أسباب مَرِضها، وهي فتن الشهوات وفتن الشُّبهات، فتن الغيِّ والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظُّلم والجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد""[6].

قال النوويُّ  رحمه الله: 

قَوْلُهُ ﷺ:

«فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ»

معنى أُشرِبها: دخلت فيه دخولًا تامًّا، وألزمها وحلَّت منه مَحَلَّ الشّراب، ومنه

قوله تعالى:

﴿وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ﴾

[البقرة: 93]

أي: حبَّ العِجل. ومنه قولهم: ثوب مُشرَب بحُمرة؛ أي: خالطته الحُمرة مخالطةً لا انفكاك لها، ومعنى (نكت نُكتة): نَقَط نُقطة، وهي بالتاء المثنَّاة في آخره. قال ابن دُريد وغيره: كلُّ نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نَكْت، ومعنى (أنكرها): ردَّها واللّه أعلم. وقوله ﷺ: «حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ». قال القاضي عياض رحمه اللّه: ليس تشبيهه بالصّفا بيانًا لبياضه؛ لكن صفةً أخرى لشدَّته على عَقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأنّ الفتن لم تَلصَق به ولم تؤثِّر فيه كالصّفا، وهو الحجر الأملس الّذي لا يَعلَق به شيء، وأمّا قوله: (مُرْبادًّا)، فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا، وهو منصوب على الحال، وذكر القاضي عياض رحمه اللّه خلافًا في ضبطه، وأنّ منهم من ضبطه كما ذكرناه، ومنهم من رواه (مُرْبَئِدٌّ) بهمزة مكسورة بعد الباء. قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا، وأصلُه أن لا يُهمَز، ويكون (مُرْبَدٌّ) مثلَ (مُسْوَدٌّ ومُحْمَرٌّ)، وكذا ذكره أبو عُبيد والهرويُّ وصحَّحه بعض شيوخنا عن أبي مروانَ بنِ سرَّاج؛ لأنّه من (ارْبَدَّ) إلّا على لغة من قال: (احْمَأَرَّ) بهمزة بعد الميم لالتقاء السّاكنين، فيقال: (ارْبَأَدَّ ومُرْبَئِدٌّ) والدّال مشدَّدة على القولين، وسيأتي تفسيره. وأمّا قوله: (مجخِّيًا) فهو بميم مضمومة ثمّ جيم مفتوحة ثمّ خاء معجَمة مكسورة، معناه: مائلًا، كذا قاله الهرويُّ وغيره، وفسَّره الرّاوي في الكتاب بقوله: منكوسًا، وهو قريب من معنى المائل. قال القاضي عياض: قال لي ابن سرَّاج: ليس قوله: «كالكوز مجخّيًا» تشبيهًا لما تقدَّم من سواده؛ بل هو وصف آخَرُ من أوصافه بأنّه قُلِب ونُكِّس حتّى لا يَعلَق به خير ولا حِكمة، ومثَّله بالكوز المجخّي، وبيَّنه بقوله: «لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا». قال القاضي رحمه اللّه: شبَّه القلب الّذي لا يعي خيرًا بالكوز المنحرِف الّذي لا يثبت الماء فيه، وقال صاحب التّحرير: معنى الحديث أنّ الرّجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصيَ، دخل قلبه بكلِّ معصية يتعاطاها ظُلْمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام، والقلب مثل الكوز، فإذا انكبَّ انصبَّ ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك""[7]

قال ابن القيم  رحمه الله: "وقد قسَّم الصحابة رضى الله تعالى عنهم القلوب إلى أربعة، كما صحَّ عن حذيفة بن اليمان: "الْقلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ، فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، وَقَلْبٌ أَغْلفُ، فَذلِكَ قَلْبُ الكَافِرِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، فَذلِكَ قَلْبُ الْمُنافِقِ، عَرَفَ ثمَّ أَنْكَرَ، وَأبْصَرَ ثُمَّ عَمِىَ، وَقَلْبٌ تَمُدُّهُ مَادَّتَانِ: مَادَّةُ إِيمَانٍ، وَمَادَّةُ نِفَاقٍ، وَهُوَ لما غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا""[8]

قال النوويُّ  رحمه الله: "قوله: (حدَّثتُه أنّ بينك وبينها بابًا مُغلَقًا يوشك أن يُكسَر. قال عمر رضي اللّه عنه: أكسرًا لا أبا لكَ؟ فلو أنّه فُتح لعلَّه كان يُعاد): أمّا قوله: إنّ بينك وبينها بابًا مغلقًا، فمعناه أنّ تلك الفتن لا يخرج شيء منها في حياتك، وأما قوله: يوشك، فبضمِّ الياء وكسر الشِّين، ومعناه: يَقرُب، وقوله: أكسرًا؛ أي: أيُكسَر كسرًا؟ فإنّ المكسور لا يمكن إعادته بخلاف المفتوح، ولأنّ الكسر لا يكون غالبًا إلّا عن إكراه وغَلَبة وخلاف عادة. وقوله: لا أبا لك. قال صاحب التّحرير: هذه كلمة تَذكُرها العرب للحثِّ على الشّيء، ومعناها أنّ الإنسان إذا كان له أبٌ وحَزَبَه أمرٌ، ووقع في شدَّة، عاوَنَه أبوه ورفع عنه بعض الكلِّ فلا يحتاج من الجِدِّ والاهتمام إلى ما يَحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاوِن، فإذا قيل: لا أبا لك، فمعناه جِدَّ في هذا الأمر وشَمِّرْ، وتأهَّبْ تأهُّب من ليس له معاون، والله أعلم"[9].

 قال النوويُّ  رحمه الله: "قوله: (وحدَّثتُه: أنّ ذلك الباب رجل يُقتَل أو يموت، حديثًا ليس بالأغاليط). أمّا الرّجل الّذي يُقتَل فقد جاء مبيَّنًا في الصّحيح أنّه عمرُ بنُ الخطّاب رضي اللّه عنه، وقوله: يُقتَل أو يموت، يَحتمِل أن يكون حذيفة رضي اللّه عنه سمعه من النّبيِّ ﷺ هكذا على الشّكِّ، والمراد به الإبهام على حذيفةَ وغيره، ويَحتمِل أن يكون حذيفة عَلِم أنّه يُقتَل؛ ولكنّه كَرِه أن يخاطِب عمرَ رضي اللّه عنه بالقتل؛ فإنّ عمر رضي اللّه عنه كان يعلم أنّه هو الباب؛ كما جاء مبيَّنًا في الصّحيح: أنّ عمر كان يعلم من الباب كما يعلم أنّ قبل غد اللّيلة، فأتى حذيفة رضي اللّه عنه بكلام يَحصُل منه الغرض مع أنّه ليس إخبارًا لعمر بأنّه يُقتَل. وأمّا قوله: «حديثًا ليس بالأغاليط» فهي جمع أغلوطة، وهي الّتي يغالَط بها، فمعناه: حدّثته حديثًا صِدقًا محقَّقًا ليس هو من صحف الكتابيِّين ولا من اجتهاد ذي رأي؛ بل من حديث النّبيِّ ﷺ. والحاصل أنّ الحائل بين الفتن والإسلام عمر رضي اللّه عنه، وهو الباب، فما دام حيًّا لا تدخل الفتن، فإذا مات دخلت الفتن، وكذا كان، واللّه أعلم""[10].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 170، 171).
  2.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3402).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 171).
  4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3403).
  5. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 171، 172).
  6. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
  7. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 172 - 174).
  8. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 12)
  9. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 174).
  10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 174، 175).


غريب الحديث

أُشرِبها: قَبِلَها ودخلَتْ فيه، وسكنَتْ إليه[1]

نُكتة: أثرٌ قليلٌ كالنُّقطة[2]

مُرْبادًّا: لونٌ بين السَّوَاد والغُبرة[3]

مُجَخِّيًا: مائلًا[4]

الأغاليطُ: جمع أُغلوطة، وهو ما يُغلَط فِيه[5]


المراجع

  1. "تفسير غريب ما في الصحيحين" للحميديِّ (1/78).
  2. النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/183).
  3. النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/114).
  4. "الصحاح" للجوهريِّ (6/2298).
  5. مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/134).


غريب الحديث

البِتْعُ: نَبِيذُ العَسَلِ؛ أي: العسلُ المخلوط بالماء. قال ابن الأثير رضي الله عنه: "البِتْع بسكون التاء: نَبيذ الْعَسَلِ، وهو خَمْرُ أهل اليمن، وقد تُحرَّك التاءُ كَقِمْع وَقِمَع" [1].

الْمِزْرُ: نَبِيذُ الشَّعِير؛ أي: الماء الذي نُقِع فيه الشَّعير. قال ابن الأثير رضي الله عنه: "الْمِزْرُ بالكسر: نبيذٌ يُتَّخَذُ من الذُّرَة. وقيل: من الشَّعِير أو الحِنْطة" [2].

النَّبِيذِ: وهو ما يُعمَل من الأشربة من التَّمر، والزَّبيب، والعسل، والحِنطة، والشَّعير، وغيرِ ذلك. يُقال: نَبَذْتُ التَّمر والعِنَب، إذا تركتُ عليه الماء ليَصير نبيذًا، فصُرِف من مفعول إلى فَعيل. وانتبذتُه: اتَّخَذتُه نبيذًا. وسواءٌ كان مسكِرًا أو غيرَ مسكِر، فإنّه يُقال له: نبيذ. ويُقال للخمر المعتصَر من العِنَب: نبيذ، كما يُقال للنّبيذ: خَمر [3].


المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 94).

    2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 324).

    3. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 7).



    الشرح المفصَّل للحديث

     إن الإسلام دينٌ سامٍ، يَحرِص على مصالح العباد، وحياتهم، دينٌ يحفظ على أتباعه عقولَهم، وأبدانهم، ودينهم، وقد امتنَّ الله تعالى على عباده بما خَلَقه في الأرض؛

    فقال تعالى:

    ﴿هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا﴾

    [البقرة: 29]،

    وجعله طيِّبًا مباحًا لهم، وحذَّر من كلِّ ما فيه مفاسدُ ومَضارُّ لهم، فأباح لهم الطيِّباتِ، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحرَّم عليهم الخبائث؛

    قال تعالى:

    ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾

    [الأعراف: 157]

    ومن تلك الخبائثِ المحرَّمة ما يُفسِد العقولَ من الأشربة، فصان بتحريمها العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، فحرَّم الله تعالى الخمرَ، بيعَها وشُربها؛

    قال تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

    [المائدة: 90]

    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:

    سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ»، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا

    [1].

    وقد لعن النبيُّ ﷺ في الخَمْرِ عشَرةً؛

    فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

    «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ»

    [2].

    أما حديثُ الباب، فهو أصلٌ في تحريم جميع المسكِرات المغطِّية للعقل: (عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْرِبَةٍ تُصْنَعُ بِهَا، فَقَالَ: «وَمَا هِيَ؟» قَالَ: البِتْعُ وَالمِزْرُ، فَقُلْتُ (أي: سعيد بن أبي بردة) لِأَبِي بُرْدَةَ: مَا البِتْعُ؟ قَالَ: نَبِيذُ العَسَلِ، وَالمِزْرُ نَبِيذُ الشَّعِيرِ): فـ"من الأشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول الله ﷺ أبا موسى الأشعريَّ إليه: البِتْعُ، وهو نَبِيذ العسل، والْمِزْرُ: وهو نبيذ الشعير، وقد سأل أبو موسى رضي الله عنه رسول الله ﷺ عن هذين الشرابين، فأجابه بجواب جامع يشملهما ويشمل غيرهما، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أَسكَر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال؛ ولهذا لما سُئل ابن عباس عن الباذَق - وهو نوع من الشراب - قال: سَبَقَ مُحَمَّدٌ رضي الله عنه البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [3]، وقد ذكر ابن سِيدَه في "المحكَم" أنَّ الباذَق من أسماء الخمر" [4]، وذلك يعني: أن الشريعة في عموماتها وكليَّاتها يدخل فيها ما كان معروفًا، وما ليس بمعروف.

    فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» فأجابه النبيُّ ﷺ بجواب جامع يشمل كلَّ الأشربة، لا هذين الشرابين فقط، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أسكر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال؛ فهذا الجواب من جوامع كلم النبيِّ ﷺ، يَدخُل فيه المسؤول عنه وغير المسؤول عنه، وأن القضية معلَّقة بالإسكار، فكلُّ ما أَسكَر فإنه حرام، سواءٌ كان من الشَّعير، أو من العسل، أو من العنب، أو من التَّمْر، أو من أيِّ شيء، وسواءٌ كان جامدًا أو سائلًا أو مسحوقًا أو غير مسحوق، كلُّ ذلك حرام؛ لأن الأمر علِّق بالإسكار.

    و"الخمرُ ما خامَر العقلَ وغطَّاه، فكلُّ ما كان كذلك داخلٌ تحت قوله ﷺ: «كلُّ مسكر حرام»، وكلُّ شيء أسكر كثيرُه فقليلُه حرام، وإنما حرِّم القليل الذي لا يُسكِر؛ لأنه ذريعةٌ إلى الْمُسكِر، وهذا من باب سدِّ الذرائع، ومنع الأشياء التي توصل إلى الغايات، فالقليل وإن كان لا يُسكِر فإنه حرام، وسواءٌ كان ذلك من العنب أو غيرها، وقد جاء عن بعض علماء الكوفة أنَّ القليل الذي لا يسكِر إذا لم يكن من العنب، فشربُه سائغ، وهذا غير صحيح؛ لأنَّه ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث جابر وغيره - رضي الله عنهم - أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [5]، وهذا لفظ عامٌّ يَشمَل كلَّ مسكِر، سواءٌ كان من العِنَب أو غيرها" [6].

    والحديث دليل على أنّ علَّة التّحريم الإسكارُ، فاقتضى ذلك أنّ كلَّ شراب وُجِد فيه الإسكارُ حَرُم تناوُل قليله وكثيره.

    هذا وكان أوَّلُ ما حرِّمت الخمر عند حضور وقت الصّلاة لَمّا صلّى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخَلَط في قراءته، فنَزَل قوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

    [النساء: 43]

    وكان منادي رسول اللّه ﷺ ينادي: (لا يَقرَب الصّلاةَ سَكْرانُ)، ثمّ إنّ اللّه حرَّمها على الإطلاق بقوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾

    [المائدة: 90، 91] [7].

    وذكر سبحانه في قوله:

    ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ﴾

    [المائدة: 91]

    علَّة تحريم الخمر والْمَيسِر، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سَكَر اختلَّ عقله، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بلغ إلى القتل [8].

    وقد أخبر سبحانه أنّ الشّيطان يَصُدُّ بالخمر والميسر عن ذكر اللّه وعن الصّلاة؛ فإنّ السّكران يزول عقله أو يختلُّ، فلا يستطيع أن يَذكُر اللّه، ولا أن يصلّيَ [9].

    قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويَذكُروه، ويعبدوه، ويُطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربِّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكْر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضْطرَّهم إليه، ولا قِوَامَ لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب [10].

    فلا جَرَم أن الخمر أمُّ الخبائث، فمن شربها قَتَل النّفس وزنا، وربّما كفر بالله تعالى والعياذ بالله.


    المراجع

    1. رواه مسلم (1587).

    2. رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2357): حسن صحيح.

    3. رواه البخاريُّ (5598).

    4. "فتح القوي المتين" للعباد (ص: 146، 147).

    5. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (5530).

    6. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).

    7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).

    8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).

    9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).

    10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 457).



    النقول

    قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا الحديث أصل في تحريم تناول جميع المسكِرات، المغطِّية للعقل، وقد ذكر اللّه في كتابه العلَّة المقتَضِية لتحريم المسكِرات، وكان أوّل ما حُرِّمت الخمر عند حضور وقت الصّلاة لَمّا صلّى بعض المهاجرين، وقرأ في صلاته، فخَلَط في قراءته، فنزل

    قوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَقْرَبُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾

    [النساء: 43]،

    وكان منادي رسول اللّه ﷺ ينادي: (لا يَقْرَبُ الصّلاةَ سكرانُ)، ثمّ إنّ اللّه حرّمها على الإطلاق

    بقوله تعالى:

    ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴿٩٠﴾ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَٰنُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَٰوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِى ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلَوٰةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ﴾

    [المائدة: 90، 91]

    فذَكَر سبحانه عِلَّةَ تحريم الخمر والميسر، وهو القمار، وهو أنّ الشّيطان يوقِع بينهم العداوة والبغضاء، فإنّ من سكر اختلَّ عقلُه، فربّما تسلَّط على أذى النّاس في أنفسهم وأموالهم، وربّما بلغ إلى القتل، وهي أمُّ الخبائث، فمن شربها قَتَل النّفس وزنا، وربّما كفر. وقد رُوي هذا المعنى عن عثمانَ وغيره، ورُوي مرفوعًا أيضًا، ومن قامَر فربّما قُهِر، وأُخِذ ماله قهرًا، فلم يبقَ له شيء، فيشتدُّ حِقده على من أخذ ماله. وكلُّ ما أدَّى إلى إيقاع العداوة والبغضاء كان حرامًا، وأخبر سبحانه أنّ الشّيطان يَصُدُّ بالخمر والميسر عن ذكر اللّه وعن الصّلاة، فإنّ السّكران يزول عقله أو يختلُّ، فلا يستطيع أن يذكر اللّه، ولا أن يصلِّيَ، ولهذا قال طائفة من السّلف: إنّ شارب الخمر تمرُّ عليه ساعة لا يعرف فيها ربَّه، واللّه سبحانه إنّما خَلَق الخلق ليعرفوه، ويذكروه، ويعبدوه، ويطيعوه، فما أدَّى إلى الامتناع من ذلك، وحال بين العبد وبين معرفة ربّه وذكره ومناجاته، كان محرَّمًا، وهو السُّكر، وهذا بخلاف النَّوم، فإنّ اللّه تعالى جبل العباد عليه، واضطرَّهم إليه، ولا قِوَام لأبدانهم إلّا به؛ إذ هو راحة لهم من السّعي والنَّصَب" [1].

    قال ابن حجر رحمه الله: " فأجاب بقوله: «كلّ مسكر حرام» وهذه الرّواية تفسير المراد بقوله في حديث الباب: «كلّ شراب أسكر» وأنّه لم يُرِد تخصيص التّحريم بحالة الإسكار؛ بل المراد أنّه إذا كانت فيه صلاحية الإسكار، حَرُم تناوله، ولو لم يَسكَر المتناوِل بالقَدْر الّذي تناوَله منه، ويؤخذ من لفظ السّؤال أنّه وَقَع عن حكم جنس البِتْع، لا عن القدر المسكِر منه؛ لأنّه لو أراد السّائل ذلك لقال: أخبرني عمَّا يَحِلُّ منه وما يَحرُم. وهذا هو المعهود من لسان العرب إذا سألوا عن الجنس قالوا: هل هذا نافع أو ضارٌّ مثلًا؟ وإذا سألوا عن القَدر قالوا: كم يؤخذ منه؟ وفي الحديث أنّ المفتيَ يُجيب السّائل بزيادة عمَّا سأل عنه إذا كان ذلك ممّا يحتاج إليه السّائل، وفيه تحريم كلِّ مسكِر، سواء كان متَّخذًا من عصير العنب أو من غيره. قال المازريُّ: أجمعوا على أنّ عصير العنب قبل أن يشتدَّ حلال، وعلى أنّه إذا اشتدَّ وغلى وقَذَف بالزَّبَد، حَرُم قليله وكثيره، ثمّ لو حصل له تخلُّل بنفسه، حلَّ بالإجماع أيضًا، فوقع النَّظَر في تبدُّل هذه الأحكام عند هذه المتَّخَذات، فأشعر ذلك بارتباط بعضها ببعض، ودلَّ على أنّ علّة التّحريم الإسكار، فاقتضى ذلك أنّ كلَّ شراب وُجِد فيه الإسكار حَرُم تناول قليله وكثيره. انتهى. وما ذكره استنباطًا ثبت التّصريح به في بعض طرق الخبر؛ فعند أبي داود والنّسائيِّ، وصحَّحه ابن حبَّان من حديث جابر قال: قال رسول اللّه ﷺ: «ما أسكر كثيره فقليله حرام»" [2].

    قال ابن رجب رحمه الله: "والمقصودُ أن النَّبِيَّ ﷺ قال: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَكُلُّ مَا أَسْكَرَ عَنِ الصَّلَاةِ فَهُوَ حَرَامٌ»، وقد تَواتَرت الأحاديث بذلك عن النّبيِّ ﷺ، فخرَّجا في الصّحيحينِ

    عن ابن عمرَ، عن النّبيِّ ﷺ قال:

    «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» ولفظُ مسلمٍ: «وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»،

    وخَرَّج أيضًا من حديث عائشةَ أن النَّبِيَّ ﷺ سُئل عن الْبِتْعِ، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ»، وفي رواية لمسلمٍ: «كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ حَرَامٌ»، وقد صحَّح هذا الحديثَ أحمدُ ويحيى بنُ مَعينٍ وأصحابه واحتجَّا به، ونقل ابن عبد البرِّ إجماع أهل العلم بالحديث على صحَّته، وأنّه أثبت شيء يُروى عن النّبيِّ ﷺ في تحريم المسكِر. وأمّا ما نقله بعض فقهاء الحنفيّة عن ابن معين من طَعْنِه فيه، فلا يَثبُت ذلك عنه" [3].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "(كلُّ شرابٍ أَسكَر فهو حرام)، ولو لم يَسكَرِ المتناوِلُ بالقدر الذي تناوله منه، وعند أبي داودَ والنسائيِّ وصحَّحه ابن حبَّانَ عن جابر قال ﷺ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ». وفي ذلك جوازُ القياس باطّراد العلَّة، وعلى هذا فيَحرُم جميع الأنبذة المسكِرة، وبذلك قال الشافعية والمالكية والحنابلة والجمهور، وقال أبو المظفّر السمعانيُّ: وقياس النبيذ على الخمر بعلَّة الإسكار والإطراب من أجلى الأَقْيِسَة وأَوضحِها، والمفاسد التي في الخمر توجد في النبيذ، وقال الحنفية: نقيع التمر والزبيب وغيرهما من الأنبذة إذا غلى واشتدَّ حَرُم، ولا يُحَدُّ شاربه حتى يَسكَر، ولا يَكفُر مستحِلُّه، وأما الذي من ماء العنب فحرام، ويَكفُر مستحِلُّه؛ لثبوت حرمته بدليل قطعيٍّ، ويُحَدُّ شاربه، وقد ثبتت الأخبار عن النبيِّ ﷺ في تحريم المسكِر، وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصحُّ في حلِّ النَّبيذ الذي يُسكِر كثيرُه عن الصحابة ولا عن التابعين شيءٌ، إلا عن إبراهيم النَّخَعِيِّ، ويَدخُل في قوله: (كل مسكر حرام) حشيشة الفقراء وغيرها، وقد جزم النوويُّ وغيره بأنها مسكِرة" [4].

    قال العباد: "من الأشربة التي كانت تُستعمل في اليمن عندما بعث رسول الله ﷺ أبا موسى الأشعريَّ إليه: البِتْعُ، وهو نَبِيذ العسل، والْمِزْرُ: وهو نبيذ الشعير، وقد سأل أبو موسى رضي الله عنه رسول الله ﷺ عن هذين الشرابين، فأجابه بجواب جامع يشملهما ويشمل غيرهما، فقال: «كلُّ مسكر حرام»، فأناط النَّبيُّ ﷺ التحريم بالإسكار، فدلَّ على أنَّ ما أسكر من الأشربة حرام، وما لم يُسكِر فإنَّه حلال، وفي صحيح البخاريِّ عن أبي الجُوَيْرية قال: سألتُ ابن عباس عَنِ البَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ ﷺ البَاذَقَ: «فَمَا أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ» قَالَ: الشَّرَابُ الحَلاَلُ الطَّيِّبُ، قَالَ: «لَيْسَ بَعْدَ الحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلَّا الحَرَامُ الخَبِيثُ» [5]، وقد ذكر ابن سِيدَه في "المحكَم" أنَّ الباذق من أسماء الخمر.

    وقد كان رسول الله ﷺ في أول الأمر حرَّم الانتباذ في أوعية معيَّنة، كما جاء ذلك في حديث وفد عبد القيس [6]، ثم إنَّه ﷺ جاء عنه ما يَنسَخ ذلك في حديث بُريدةَ بنِ الحُصيب - رضي الله عنه - حيث قال: قال رسول الله ﷺ: «نهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها، ونهيتُكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتُكم عن النبيذ إلَّا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلِّها، ولا تشربوا مسكِرًا» [7]. وكلُّ ما أسكر فهو حرام، سواءٌ كان شرابًا أو طعامًا، وسواء كان سائلًا أو جامدًا أو دقيقًا أو ورقًا أو غيرَ ذلك، فإنَّ كلَّ ذلك داخلٌ تحت قوله ﷺ: «كلُّ مسكر حرام»" [8].

    قال ابن رجب رحمه الله: "وخرَّج مسلم من حديث أبي الزُّبير عن جابر عن النّبيِّ ﷺ قال: «كلُّ مسكر حرام»، وإلى هذا القول ذهب جمهور علماء المسلمين من الصّحابة والتّابعين ومن بعدَهم من علماء الأمصار، وهو مذهب مالك والشّافعيِّ واللّيث والأوزاعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ ومحمّدِ بنِ الحسن وغيرهم، وهو ممَّا اجتمع على القول به أهل المدينة كلُّهم. وخالف فيه طوائف من علماء أهل الكوفة، وقالوا: إنّ الخمر إنّما هي خمر العِنَب خاصّةً، وما عداها فإنّما يَحرُم منه القَدر الّذي يُسكِر، ولا يَحرُم ما دونه، وما زال علماء الأمصار يُنكرون ذلك عليهم، وإن كانوا في ذلك مجتهدين مغفورًا لهم، وفيهم خلق من أئمّة العلم والدِّين" [9].

    قال العباد: "الخمرُ ما خامر العقل وغطَّاه، فكلُّ ما كان كذلك داخلٌ تحت قوله : «كلُّ مسكر حرام»، وكلُّ شيء أسكر كثيرُه فقليلُه حرام؛ وذلك سدًّا للذريعة الموصلة إلى المسكِر، وسواء كان ذلك من العنب أو غيرها، وقد جاء عن بعض علماء الكوفة أنَّ القليل الذي لا يسكِر إذا لم يكن من العنب، فشربُه سائغ، وهذا غير صحيح؛ لأنَّه ثبت عن رسول الله ﷺ من حديث جابر وغيره رضي الله عنهم أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال: «ما أسكر كثيرُه فقليلُه حرام» [10] ، وهذا لفظ عامٌّ يَشمَل كلَّ مسكِر، سواء كان من العنب أو غيرها" [11].



    المراجع

    1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 456، 457).

    2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 42، 43).

    3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 459).

    4. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (8/ 316).

    5. رواه البخاريُّ (5598).

    6. رواه البخاريُّ (53)، ومسلم (23).

    7. رواه مسلم (977).

    8. "فتح القوي المتين" للعباد (ص: 146، 147).

    9. جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 460).

    10. أخرجه أحمد (5648)، وأبو داود (3681)، والترمذيُّ (1865)، وابن ماجه (3393)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (5530).

    11. "فتح القوي المتين" للعباد (ص 147).




    غريب الحديث

    بِحَسْبِ: حَسْب بمعنى: كفى، قال سِيبَوَيْهِ: وأما حَسْبُ، فمعناها الاكتفاء، ومررتُ بِرَجُل حسْبُك من رجل؛ أَي: كافيك [1].

    أُكُلَات: بضمتين، والأُكْلَة بالضمِّ: اللُّقمة [2].

    يُقِمْنَ: مِن أقام الشيءَ، إذا حَفِظَه عن السُّقوط [3].

    صُلْبَهُ: الصُّلْبُ: الظَّهر، وهو عَظْمُ الفَقَارِ المتصِّل في وَسَطِ الظَّهْرِ [4].

    فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ؛ أي: إن كان لا بدَّ من التجاوز عمَّا ذكر [5].



    المراجع

    1. "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سِيدَه (3/ 206).

    2. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3251).

    3. "شرح مصابيح السنة" للكرمانيِّ (5/ 402).

    4. "العين" للخليل بن أحمد الفراهيديِّ (7/ 127).

    5. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 44).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي الْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِي كَرِبَ رضي الله عنه، أنه سَمِع رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ»؛ أي: لا يملأ الإنسانُ وعاءً شرًّا من بَطْنِه. «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»؛ أي: يكفي المرءَ أُكُلاتٌ صغيرة يَسُدُّ بها جُوعَه، ويَحفَظ بها جَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويُقِيمُه ويقوِّيه. «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»؛ أي: فإن كان لابدَّ متجاوِزًا ما يكفي حاجته من الطعام، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه.

    الشرح المفصَّل للحديث

    خَلَق الله الإنسان وأَرشَده إلى ما فيه نفعُه وصَلاحُه، واستقامةُ حياته، فهو أدرى به من نفسه التي بين جَنْبَيه؛

    قال تعالى:

    ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ﴾

    [الملك: 14]،

    وأَمَره بالاقتصاد والاعتدال في أموره وحياته؛

    قال تعالى:

    ﴿وَكُلُوا وَٱشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوٓا ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ﴾

    [الأعراف: 31]،

    وعن عبد الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ - رضي الله عنهما – قال:

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كُلُوا، وَتَصَدَّقُوا، وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ، وَلَا مَخِيلَةٍ»

    [1]،

    وإذا كان الطبُّ الدنيويُّ يعالج الأمراض بعد وقوعها، فإن الطبَّ النبويَّ، والوحيَ الإلهيَّ، يعلِّمنا كيف نَقِي أنفسنا، ونحافظ عليها من الوقوع في مثل هذه الأمراض، وذلك من خلال الاعتدال في الطعام والشراب.

    وفي هذا الحديث يُرشد النبيُّ ﷺ إلى أصل من أصول الطبِّ، يَحفَظ على الإنسان حياته وصحَّته، ألا وهو التقليل من الأكل، وعدم المبالغة في الطعام الذي يُوصِله إلى الشِّبَع المفرِط، فيُقعِده عن العبادات والطاعات، وتَأْدِيَة ما أوجبه الله عليه في دينه، ويُصيبه بالكسل والتُّخَمَة، والأمراض المهلِكة عاجلاً أو آجلاً، قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بُنيَّ، إذا امتلأت الْمَعِدة، نامت الفكرة، وخَرَست الحكمة، وقَعَدت الأعضاء عن العبادة" [2].

    لذا؛ حذَّرنا النبيُّ ﷺ من خطورة امتلاء الْمَعِدة بالطعام، فقال: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ»؛ أي: لا يملأ الإنسانُ وعاءً شرًّا وأخبَثَ من بطنه، فـ"جعل البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها" [3]، فالبطنُ إذا امتلأ أفضى إلى فساد دِين الْمَرء ودُنياه، وأوقعه في المعاصي والشهوات، فشهوةُ البطن من أعظم المهلِكات، وهي التي أخرجت آدمَ - عليه السلام - وحوَّاء من الجَّنة؛ إذ نُهيا عن الأكل من الشجرة، فوسوس إليهما الشيطان، وغلبت عليهما شهوتهما حتى أكلا منها؛

    قال تعالى:

     ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَٰنُ قَالَ يَٰٓـَٔادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍۢ لَّا يَبْلَىٰ ﴿١٢٠﴾ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰٓ ءَادَمُ رَبَّهُۥ فَغَوَىٰ﴾

    [طه: 120- 121].

    ثم بيَّن النبيُّ ﷺ للمسلم كيف يملأ بطنه؟ وأنه يكفيه من ذلك ما يقوِّي به ظَهره، فقال ﷺ: «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ»؛ أي: يكفي المرء أُكُلات صغيرة يَسُدُّ بها رَمَقه وجُوعه، ويَحفَظ بها نفسه وجَسَده أن يَضعُف أو يَسقُط، ويتقوَّى بها على العبادات والطاعات المختلفة، وهذا دَيْدَنُ النبيِّ ﷺ، هو وأصحابه ﷺ، فقد مات ﷺ ولم يَشبَع من طعام الشَّعير؛

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:

    أَنَّهُ مَرَّ بِقَوْمٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ - أي مَشْويَّة - فَدَعَوْهُ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ»

    [4]،

    فقِلَّة الأكل من محاسن الرجال، وكَثْرتُه مَذَمَّة للإنسان، "وقد كانت العرب تمتدح بقلَّة الأكل، وذلك معروفٌ في أشعارها؛ فكيف بأهل الإيمان؟! وأما من عَظُمت الدنيا في عينه من كافر وسَفِيه، فإنما همَّتُه في شِبَع بطنه، ولذَّة فَرْجِه" [5]. لذا؛ قال تعالى في حقِّ الكفار:

    ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾

    [الحجر: 3].

    فإن جاوز ما يُقيم به صُلبه، فلابدَّ له من تحقيق التوازن بين الطعام والشراب والنَّفَس؛ قال ﷺ: «فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»؛ أي: فإن كان لابدَّ مستزيدًا من الطعام، ومتجاوِزًا ما يكفي حاجته، فليَقْسِمْه إلى ثلاثة أثلاث: ثُلث لأَكله، وثُلث لشَرابه، وثُلث لنَفَسِه، وفي هذه القسمة بيانٌ لحِكمة النبيِّ ﷺ في توجيهه للمسلمين، وإرشاده إلى وسيلة من وسائل الحفاظ على النَّفْس، وخُلُوِّها من الأمراض، "وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع، فامتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبَدَن، هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًّا، وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شَرِب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبيِّ ﷺ من اللبن حتى قال: «والذي بَعَثك بالحقِّ لا أجد له مَسلكًا» [6]، وأَكَل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شَبِعوا" [7].


    المراجع

    1. رواه النسائيُّ (2559)، وابن ماجه (3605)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".

    2.  "إحياء علوم الدين" للغزاليِّ (3/ 82).

    3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).

    4. رواه البخاريُّ (5414).

    5. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 347).

    6. رواه البخاريُّ (6452).

    7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).



    النقول

    قال الحارثيُّ رحمه الله: "حدَّثني بعض العلماء قال: ذكرتُ لبعض الفلاسفة من أطبَّاء أهل الكتاب قولَ النبيِّ : ثُلث طعام، وثُلث شَراب، وثُلث نفس، فتعجَّب منه واستحسَنَه وقال: ما سمعتُ كلامًا في قلَّة الأكل أحكمَ من هذا، وإنه لكلام حكيم، ثم قال: جَهِدَتِ الأطبَّاء من الفلاسفة أن يقولوا مثل هذا في التقلُّل من الأكل، فلم يهتدوا إليه، فأكثرُ ما قالوا: لا تَقعُد على طعامك حتى تشتهيَه وتَرفَع يدك عنه وأنت تشتهيه، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع، ويَرفَع قبل الشِّبَع، ومنهم من قال: لا يأكل إلَّا بعد الجوع المفرِط، ولا يَشبَع شديدًا، وإنما كان مُراده هذا الذي ذكره نبيُّكم" [1].

    قال ابن رجب رحمه الله: "هذا الحديث أصل جامع لأصول الطبِّ كلِّها، وقد رُوي أن ابن ماسوَيْهِ الطبيبَ لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: لو استَعمَل الناس هذه الكلمات، سَلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت المارستانات ودكاكين الصيادلة، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داء التُّخَم" [2]. 

    قال ابن حجر رحمه الله: "ومن أمثلة جوامع الكَلِم من الأحاديث النبوية: حديثُ عائشةَ: «كلُّ عمل ليس عليه أمرنا فهو رد»، وحديث: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» متَّفَق عليهما، وحديث أبي هريرة: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، وحديث المقدام: «ما ملأ بن آدم وعاء شرًّا من بطنه»، الحديث أخرجه الأربعة، وصحَّحه ابن حبَّانَ والحاكم، إلى غير ذلك مما يكثر بالتتبُّع" [3].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "جعل البطن أوَّلاً وِعاءً كالأوعية التي تُتَّخَذ ظروفًا لحوائج البيت؛ تَوْهينًا لشأنه، ثم جَعَله شرَّ الأوعية؛ لأنها استُعمِلت فيما هي له، والبَطن خُلِق لأن يتقوَّم به الصُّلْبُ بالطعام، وامتلاؤه يُفضي إلى الفساد في الدين والدنيا، فيكون شرًّا منها" [4].

    قال ابن عبد البر رحمه الله: "وقد كانت العرب تمتدح بقلَّة الأكل، وذلك معروفٌ في أشعارها؛ فكيف بأهل الإيمان؟! وأما من عَظُمت الدنيا في عينه من كافر وسفيه، فإنما همَّتُه في شِبَع بطنه، ولذَّة فَرْجِه" [5].

    قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أنفع ما للبَدَن والقلب؛ فإن البطن إذا امتلأ من الطعام، ضاق عن الشراب، فإذا وَرَد عليه الشراب، ضاق عن النَّفَس، وعَرَض له الكَرب والتَّعَب بحِمْله، بمنزلة حامل الحِمل الثقيل، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب، وكَسَل الجوارح عن الطاعات، وتحرُّكها في الشهوات التي يستلزمها الشِّبَع، فامتلاء البطن من الطعام مُضِرٌّ للقلب والبَدَن، هذا إذا كان دائمًا أو أكثريًّا، وأما إذا كان في الأحيان، فلا بأس به، فقد شَرِب أبو هريرة رضي الله عنه بحضرة النبيِّ ﷺ من اللبن حتى قال: «والذي بَعَثك بالحقِّ لا أجد له مَسلكًا» [6]، وأَكَل الصحابة بحضرته مِرارًا حتى شَبِعوا" [7].


    المراجع

    1. "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 285).

    2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 468).

    3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (13/ 248).

    4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3292).

    5. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 347).

    6. رواه البخاريُّ (6452).

    7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 17).


    غريب الحديث:

    الغَيث: المطرُ[1].

    قِية: طيِّبةٌ[2].

    الكلأ: نباتُ الأرض اليابس والرَّطْب[3].

    العُشْب: نباتُ الأرض الرَّطْب[4].

    أجادبُ: الأرض الصُّلبة غير الخِصبة التي تُمسِكُ الماء فلا تتشرَّبه سريعًا[5].

    قِيعان: جمع القاع، وهو الأرض المستوية الملْساءُ التي لا تُنبت[6].

    فَقُه: صار فقيهًا، والفقهُ هو الفَهْم[7].

    المراجع

    1. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
    2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 176).
    3. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
    4. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
    5. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 242): «الأجادب: صلاب الأرض التي تُمسِك الماء فلا تَشرَبه سريعًا. وقيل: هي الأرض التي لا نباتَ بها، مأخوذ من الجَدْب، وهو القحْط».
    6.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 177).
    7. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 465).


    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو موسى الأشعريُّ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال:«مَثَلُ ما بعَثَني اللهُ به من الهُدى والعِلم كمَثَل الغَيث الكثيرِ أصاب أرضًا»: يضرب النبيُّ ﷺ مَثَلاً للهُدى والعلم الذي أرسله اللهُ به بالمطر الكثير الذي أصاب أرضًا، وهذه الأرضُ ثلاثة أقسام: الأول منها: «فكان منها نَقِيَّةٌ، قبِلَت الماءَ، فأنبتَت الكلأَ والعُشبَ الكثير» فكانت أرضًا نقيةً، شَرِبت الماء فأنبتت نباتًا كثيرًا. والقسم الثاني: «وكانت منها أجادبُ، أمسكت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها الناسَ، فشَرِبوا وسَقَوْا وزرعوا» فكانت أرضًا جَدْباءَ غيرَ خِصبة، لم تشرب الماء؛ ولكنها أمسكته، فانتفع الناس بالماء الذي لم تنتفع هي به ولم تَرْوَ به، فشربوا وسَقَوا وزرعوا أراضيَهم. والقسم الثالث: «وأصابت منها طائفةٌ أخرى، إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبتُ كلأً» وهذه الأرض ملساءُ لا تُمسك ماء فينتفع به الناس، ولا تَرْوى هي فتُنبت، فلا تنتفع بالماء ولا تنفع الناس.

    قال ﷺ: «فذلك مثَلُ مَن فَقُه في دِين الله، ونفَعه ما بعَثَني الله به فعَلِم وعَلَّم» وذلك مَثَلُ القسم الأول، ويدخل فيه القسم الثاني، فهما ينفعان الناس. «ومَثلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبَلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به» وذلك مَثَلُ القسم الثالث الذي لم يَقبَل الهدى ولم ينفع الناس. 

    الشرح المفصَّل للحديث:

    خلَق الله الناس متفاوتِينَ في العقول والأفهام، وفي الطِّباع والأخلاق، وكذا في القُدرة على العطاء، ويظهر هذا التفاوتُ في تعامل كلِّ إنسان مع هدايات الله التي جاءته على لسان المرسَلين، وآياته سبحانه التي بثَّها في الآفاق.

    وقد كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناس تربيةً وتعليمًا وقُدرةً على الإيضاح والبيان، وكان أحرصَ الناس على هداية جميع البشر والأخذ بأيديهم إلى صلاح العاجل والآجل، ومِن ثمَّ اتَّخَذ ﷺ جميعَ الوسائل المتاحة في التربية والتعليم والإرشاد؛ ليقوم بهدايات الله التي جاء بها إلى جميع الناس على تنوُّعهم واختلافهم.

    وفي هذا الحديث يَضربُ ﷺ مثالًا بليغًا يُصوِّر فيه ما جاء به من عند الله من الهدى، والرشاد، والعلم النافع في الدارينِ، وموقف الناس منه؛ فيشبِّهُ ﷺ ما بُعث به من «الهدى» وهو الدلالات الموصِّلة إلى الغاية[1]، وهي معرفةُ الله عزَّ وجلَّ، والقيامُ له بحقِّ العُبودية، و«العلم» وهو علمُ الشريعة المستمَدُّ من الوحيِ كتابًا وسُنَّةً، يُشبِّههما ﷺ بالمطر الغزير الذي يأتي الناس حالَ حاجتهم إليه، وقد عبَّر ﷺ عن المطر بلفظ الغيث؛ ليبيِّن حاجةَ الناس إليه، وعدم استغنائهم عنه، واضطرارهم إليه، وهذا هو حالُ الناس مع الغَيث

    قال تعالى:

    ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾

    [الشورى: 28]

    "وقد كان الناس قبل المبعَث قد امتُحِنوا بموت القلوب، ونُضوب العلم حتى أصابهم الله برحمةٍ من عنده"[2]، ووجه الشَّبَه بين الهدى والعلم الذي جاء به النبيُّ ﷺ، وبينَ الغَيث النازل من السماء: أن الغيثَ به حياةُ البلد الميت، وكذا العلمُ به حياةُ القلب الميِّت[3]، وفي قوله ﷺ: «مَثَلُ ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم» بيانُ أن كل ما جاء به النبيُّ ﷺ، ونطق به إنما هو وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ

    قال الله تعالى:

    ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾

    [النجم: 3، 4]

    ويُشبِّهُ ﷺ المخاطَبين بهذا الوحي بأنواع مختلفة من الأرض، أوَّلها: الأرضُ «النقية»، وهي الطيبةُ الخِصبة المنبِتةُ للزرع، الخاليةُ من الآفات المهلِكةِ له، فهذه الأرضُ لَمَّا نزل عليها الغَيث تشرَّبَت الماءَ، وأخرجت النباتَ الكثيرَ، رَطْبًا ويابسًا، وهو ما عبَّر عنه رسولُ الله ﷺ بقوله: «فكان منها نَقية، قبِلت الماء، فأنبتَت الكلأَ والعُشب الكثيرَ»، وهذا النوعُ من الأرض هو مِثْلُ العالِم المتفقِّه في دين الله عزَّ وجلَّ، المنتفع بعلمه في صلاح نفْسه، والمعلِّم لغيره[4]، وهو ما أشار إليه رسولُ الله ﷺ بقوله: «فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دين الله ونفَعه ما بعثني اللهُ به، فعَلِم وعلَّم»، وهذا الصِّنف من الناس هم الأعْلى في الدرجة، والأرْقى في الهداية. 

    وأما النوع الثاني من الأرض، فهي الأجادبُ، وهي الأرضُ الصُّلبةُ الممسكةُ للماء، غيرُ قابلة للزراعة والإنبات؛ ولكنها بمثابة خزَّانات للماء، تُمسكه فينتفع به الناس في الشُّرب وسُقْيا الماشية والدوابِّ والزَّرع، وقد أوجز ﷺ هذا المعنى بقوله: «وكانت منها أجادبُ، أمسكت الماءَ، فنفع اللهُ بها الناس، فشربوا وسقَوْا وزرعوا»، وهذا النوع من الأرض يُشبهُ نوعًا من الناس منحهم اللهُ القُدرةَ على الحفظ؛ ولكنها دون القُدرة على الفَهْم والعمل أيضًا.

    فالنوع الثاني من الناس لهم قلوبٌ حافظةٌ؛ لكن ليست لهم أفهامٌ ثاقبةٌ، ولا رسوخَ لهم في العقل يستنبطون به المعانيَ والأحكامَ، وليس عندهم اجتهادٌ في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتيَ طالبٌ محتاجٌ متعطِّشٌ لِما عندهم من العلم أهلٌ للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفعُ به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم[5].

    وأما النوع الثالث من الأرض، فهي «قِيعانٌ»، وهي الأرض السَّبِخةُ الْمُجدِبةُ التي «لا تمسِكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً»، فهي أرضٌ غير صالحةٍ للزراعة في ذاتها، لا تنتفعُ بما ينزلُ عليها من الغَيث بأن تُنبت زرعًا، ولا هي تنفعُ غيرَها في إمساك الماء وحفظه، فهي أسوأُ أنواع الأرض، وقد ضربها ﷺ مثلًا لفئة من الناس، قال فيهم: «مَثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبَل هُدى الله الذي أُرسِلتُ به»، وهم نوعٌ من الناس ليست لهم قلوبٌ حافظةٌ، ولا أفهامٌ واعيةٌ، فإذا سمعوا العلمَ لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم[6]، فقد جاءهم الهدى والعلم من ربِّهم، فلا هم انتفَعوا به في أنفسهم، ولا هم نفَعوا غيرهم، وهؤلاء هم الكافرون والفاسقون، والباعث على عدم انتفاعهم بما جاءهم من عند الله هو الكِبرُ الذي حملهم على ردِّ ما جاءهم من عند الله وعدم قَبوله، وهذا معنى قوله ﷺ: «مَن لم يرفع بذلك رأسًا» يعني: تكبَّرَ ولم يَقبل الدين، يقال: لم يرفَعْ فلان رأسه بهذا؛ أي: لم يلتفتْ إليه من غاية تكبُّره"[7].

    ثم ختم النبيُّ ﷺ الحديثَ بقولِه: «فذلك مثَلُ مَن فَقُه في دِين الله، ونفَعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثلُ مَن لم يرفعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به»، فذكر النبيُّ ﷺ في تقسيم الأرض ثلاثة أقسامٍ، "وفي تقسيم الناس باعتبار قَبول العلم قسمَين: أحدهما مَن فَقُه ونَفَع الغَير، والثاني مَن لم يرفعْ به رأسًا، وإنما ذَكَره كذلك؛ لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه يُنتَفع به، والثاني هو ما لا يُنتفَع به، وكذلك الناس قسمانِ: مَن يَقبل ومَن لا يَقبل. وهذا يوجِب جَعْل الناس في الحديث على قسمَين: مَن يُنتفَع به، ومَن لا يُنتفَع، وأما في الحقيقة، فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يَقبل من العلم بقَدْر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم مَن يَقبل ويبلِّغ، ومنهم مَن لا يَقبل"[8]. 

    المراجع

    1. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني (1/ 176).
    2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (2/ 80).
    3. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للطِّيبيِّ (2/ 616).
    4. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 45- 46).
    5. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
    6. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
    7. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للطِّيبيِّ (2/ 616).
    8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (2/ 79).


    النقول:

    قال ابن بطال رحمه الله: "قال المهلّب: فيه ضرب الأمثال في الدين، والعلم، والتعليم. وفيه: أنه لا يَقبَل ما أَنزَل اللهُ من الهدى والدين إلا مَن كان قلبُه نَقيًّا من الإشراك والشكِّ؛ فالتي قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطِّشة إليه، فهي تنتفع به، فتحيا فتُنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشكِّ والشرك، المتعطِّشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم، حَيَتْ به، فعَمِلت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه. ومن الناس مَن قلوبُهم متهيئةٌ لقَبول العلم؛ لكنها ليس لها رسوخ؛ فهي تَقبَل وتُمسك حتى يأتيَ متعطِّش فيَرْوَى منها، ويَرِدُ على مَنهَل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتُنبت وتُثمر، وهذه حال من يَنقُل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. ومنها قيعانٌ؛ يعني: قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهي لا تنتفع به، ولا تُنبت شيئًا؛ كالسِّباخ المالحة التي لا تُمسك الماء ولا تُنبت كلأً... وقوله: (أجادب) جمع (جَدْب) على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع (أجدب) لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حَسَن، وكان القياس أن يكون جمع محسن لو قيل. وقالوا: متشابه جمع شبه على غير لفظه، وكان القياس أن يكون مُشتبه"[1]. 

    قال القاضي عياض رحمه الله: "هذا بديع في الشَّبه وتقسيم الكلام، ويدلُّ بعضه على بعض، وجاء الترتيب بعدُ مُجمَلاً، وردُّه ردًّا واحدًا مرتَّبًا على ما قبله، ولعله آخِر في كلام واحد، وهو من بديع الإيجاز والبلاغة، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض: اثنان منها محمودان، ثم جاء بكلام واحد تضمَّن لما جاء به اثنان منها محمودان، وذلك قوله: «فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دين الله ونفعه الله بما بعثي به، فعَلِم وعلَّم»، فهذان مثالا المثالين الأولين على ترتيبها في التقديم والتأخير. والأول: مثل الأرض التي قَبِلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فانتفعت بالريِّ وأكثر في نفسها وأنفع الناس بالرعيِ لما أنبتته، وهذا كالذي يفقه في نفسه، وعَلِم ما يَحمِله، وعلَّمه الناس. والثاني: من يَحمِل ما تحمَّله ولم يُفتَح له بالتفقُّه فيه؛ لكنه حفظ ما يَحمِله، وعَمِل منه بما يُسِّر له، وبلغه غيره، فهذا مثل الذي أمسكت الماء، وإليه يرجع قوله: «فشرب الناس وسقوا». وقوله بعد هذا: «ورعوا» راجع إلى الأول؛ إذ ليس في هذا المثال أنها أنبتت شيئًا، وهو مِثل جمع الْمَثَلين. والثالث: من لم يَهتبِل بما بلغه، ولا رفع به رأسًا، ولا قَبِله؛ كالقيعان والصفا التي لا تُنبت ولا تُمسك ماء. وقوله: «قبلت الماء»: كذا رُوِّيناه هنا بالباء بواحدة بغير خلاف. واختَلف فيه الرواية في صحيح البخاريِّ عن شيوخه، ففي بعضها (قيَّلت) بياء باثنتين تحتها مشدَّدة، فزعم الأصيليُّ وغيُره أنه تصحيف. وقال غيره: بل هو صواب، ومعناه بمعنى: قيَّلت؛ أي: شربت. والقيل: الشُّرب نصف النهار، وقيَّلت الإبل: شربت قائلة. وقال غيره: معناه: جمعت وحبست ورويت، فهي بمعنى قيَّلت أيضًا. قال أبو عبيد البكريُّ فيما قرأتُه بخطه: قال أبو بكر: تَقيَّل الماء بالمكان المنخفض: اجتمع فيه. قال الإمام: وقوله: «سقوا ورعوا»: يقال: سَقَيت وأسقيت بمعنى واحد. 

    وقوله: «رعوا»، قال الإمام: يقال: رعت الماشية النبات: أكلته، وأرعاها الله؛ أي: أنبت لها ما ترعاه. وقوله: «ومنها أجادب». قال الخطابيُّ: الأجادب: صلاب الأرض التي تُمسك الماء فلا يُسرع إليه النضوب. قال الأصمعيُّ: الأجادب من الأرض: ما لم يُنبت الكلأ"[2].

    قال النوويُّ رحمه الله: "أَمَّا الْغَيْثُ فهو المطر، وأمَّا العُشْبُ والكَلأ والحشيش فكلُّها أسماء للنّبات؛ لكنَّ الحشيش مختصٌّ باليابس، والعُشْبُ، والكَلَا مقصورًا، مختصَّان بالرَّطْب، والكَلأُ بالهمز يقع على اليابس والرَّطْب، وقال الْخَطَّابِيُّ وابن فارسٍ: الْكَلَأُ يَقَعُ على اليابِس، وهذا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وأمّا الأجادبُ، فهي الأرض التي لا تُنبت كلأً، وقال الخطَّابيُّ: هي الأرض الّتي تُمسك الماء، فلا يُسرع فيه النُّضُوب. قال ابن بَطَّالٍ وصاحبُ الْمَطَالِعِ وَآخرون: هو جمع جَدْب على غير قِيَاس، كما قالوا في (حَسَن) جمعُه (محاسن)، والقياسُ أنّ (محاسن) جمع مُحْسِن، وكذا قالوا: (مُشَابِه) جمع (شَبَه)، وقياسُه أن يكون جمع (مُشبَّه)، وقال الخطّابيُّ: وقال بعضُهم: (أحادب) بالحاء المهملة والدّال، قال: وليس بشيء، قال: وقال بعضهم: (أجارد) بالجيم والرّاء والدّال. قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدتْه الرّواية. قال الأصمعيُّ: الأجارد من الأرض ما لا يُنبت الكلأ. معناه: أنّها جرداءُ هَزْرةٌ لا يَستُرها النّبات. قال: وقال بعضُهم: إنّما هي (أَخَاذَات) بالخاء والذّال المعجمتين وبالألف، وهو جمع أَخَاذة، وهي الغَدِير الّذي يُمسك الماء، وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه الّتي ذكرها الخطّابيُّ، فجعلها رواياتٍ منقولةً، وقال القاضي في الشّرح: لم يَرِد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلّا بالدّال المهملة من الجَدْب، الّذي هو ضِدُّ الخِصْب، قال: وعليه شرح الشّارحون. وأمّا القِيعان، فبكسر القاف، جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: الّتي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث كما صرَّح به ﷺ ويُجمَع أيضًا على أَقْوُع وأَقْواع، والقِيعة بكسر القاف بمعنى القاع. قال الأصمعيُّ: قاعة الدار ساحتُها، وأما الفِقْه في اللغة فهو الفَهم. يقال منه: فَقِه بكسر القاف يَفقَه فقَهًا بفتحها؛ كفَرِح يفرح فَرَحًا، وقيل: المصدر فِقْهًا بإسكان القاف، وأمّا الفقه الشّرعيُّ فقال صاحب العين والهرويُّ وغيرهما: يقال منه: فَقُه بضمِّ القاف. وقال ابن دُرَيْدٍ: بكسرها كالأوَّل، والمراد بقوله ﷺ «فقه في دين اللّه» هذا الثّاني، فيكون مضمومَ القاف على المشهور. وعلى قول ابن دريد بكسرها، وقد رُوي بالوجهين، والمشهور الضّمُّ. وأمّا قوله ﷺ: «فكانت منها طائفة طيّبة قبلت الماء» فهكذا هو في جميع نسخ مسلم: «طائفة طيّبة»، ووقع في البخاريِّ: «فكان منه نقيَّة قَبِلت الماء» بنون مفتوحة ثمّ قافٍ مكسورة ثمّ ياءٍ مثنّاة من تحتُ مشدَّدة، وهو بمعنى طيِّبة، هذا هو المشهور في روايات البخاريِّ، ورواه الخطّابيُّ وغيره (ثَغْبة) بالثّاء المثلَّثة والغين المعجمة والباء الموحَّدة، قال الخطّابيُّ: هو مُستنقَع الماء في الجبال والصّخور، وهو الثَّغْب أيضًا، وجمعُه ثُغْبان. قال القاضي وصاحب المطالع: هذه الرّواية غلط من النّاقلين، وتصحيف وإحالة للمعنى؛ لأنّه إنّما جُعلت هذه الطّائفة الأولى مَثَلًا لما يُنبت، والثَّغْبة لا تُنبت. وأمّا قوله ﷺ: «سَقَوا» فقال أهل اللّغة: سَقَى وأسْقَى بمعنًى، لغتان، وقيل: سَقَاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سَقْيًا. وأمّا قوله ﷺ: «ورَعَوا»، فهو بالرّاء، من الرَّعْي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاريِّ: «وزَرَعوا»، وكلاهما صحيح، واللّه أعلم. أمّا معاني الحديث ومقصودُه، فهو تمثيل الهدى الّذي جاء به ﷺ بالغيث، ومعناه أنّ الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك النّاس، فالنّوع الأوّل من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيا بعد أن كان ميتًا، ويُنبت الكلأ فتنتفع بها النّاس والدّوابُّ والزّرع وغيرها، وكذا النّوع الأوّل من النّاس، يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلِّمه غيره، فينتفع وينفع. والنّوع الثّاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها؛ لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها النّاس والدّوابُّ، وكذا النّوع الثّاني من النّاس لهم قلوب حافظة؛ لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعانيَ والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطّاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتّى يأتيَ طالب محتاج متعطِّش لما عندهم من العلم، أهل للنّفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بَلَغهم. والنّوع الثّالث من الأرض السِّباخ الّتي لا تُنبت ونحوُها، فهي لا تنتفع بالماء ولا تُمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النّوع الثّالث من النّاس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم، واللّه أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم: منها ضربُ الأمثال، ومنها فضل العلم والتّعليم وشدَّة الحثِّ عليهما، وذمُّ الإعراض عن العلم، واللّه أعلم"[3].

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "«مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا» الغيث: يعني المطر، فكانت هذه الأرض ثلاثة أقسام: قسم رياض: قَبِلت الماء، وأنبتت العُشب الكثير والزرع، فانتفع الناس بها، وقسم آخَرُ قيعان: أمسكت الماء وانتفع الناس به، فأسقَوا منه ورَوَوا منه، والقسم الثالث: أرض سَبِخة: ابتلعت الماء ولم تُنبِت الكلأ.

    فهكذا الناس بالنسبة لما بُعث الله به النبيُّ ﷺ من العلم والهدى، منهم من فَقِه في دين الله، فعِلَم وعلَّم، وانتفع الناس بعلمه، وانتفع هو بعِلمِه، وهذا كمَثَل الأرض التي أَنبَتَت العُشب والكلأ، فأمل الناس منها، وأكلت منها مواشيه. والقسم الثاني: في قوم حملوا الهدى، ولكن لم يفقهوا في هذا الهدى شيئًا؛ بمعنى: أنهم كانوا رواةً للعلم والحديث؛ لكن ليس عندهم فقه، فهؤلاء مثلهم مثل الأرض التي حفظت الماء، واستقى الناس منه، وشربوا منه؛ لكن الأرض نفسها لم تُنبت شيئًا؛ لأن هؤلاء يَرْوون أحاديثَ وينقلونها؛ ولكن ليس عندهم فيها فقه وفَهم. والقسم الثالث: من لم يرفع بما جاء به النبيُّ ﷺ من العلم والهدى رأسًا، وأعرض عنه، ولم يبالِ به، فهذا لم ينتفع بما جاء به النبيُّ ﷺ ولم ينفع غيره، فمثله كمثل الأرض التي بلعت الماء ولم تُنبِت شيئًا. وفي هذا الحديث دليل على أن من فَقِه في دين الله، وعَلَّم من سنَّة رسول الله ﷺ ما يعلم، فإنه خير الأقسام؛ لأنه عَلِم وفَقِه لينتفع وينفع الناس، ويليه مَن عَلِم؛ ولكن لم يَفقَه، يعني روى الحديث وحَمَله؛ لكن لم يفقه منه شيئًا، وإنما هو رواية فقط، يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان. والقسم الثالث: لا خير له، رجلٌ أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبيُّ ﷺ؛ ولكنه لم يرفع به رأسًا ولم ينتفع به، ولم يَعلَمه الناس، فكان - والعياذ بالله - كمثل الأرض السَّبِخة التي ابتلعت الماء ولم تُنبت شيئًا للناس، ولم يبقَ الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به"[4].

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي هذا الحديث دليل على حسن تعليم الرسول ﷺ، ذلك بضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال الحسية يقرِّب المعانيَ العقلية؛ أي: ما يُدرَك بالعقل يقرِّبه ما يدرك بالحِسِّ، وهذا مشاهَد؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفهم، فإذا ضربتَ له مثلاً محسوسًا فَهِم وانتفع

    ولهذا قال الله تعالى:

    { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

    [العنكبوت: 43]

    وقال تعالى:

    {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}

     [الروم: 58]

    فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم"[5].

    قال ابن القيم رحمه الله: "شبَّه العلم والهدى الّذي جاء به بالغيث؛ لِمَا يحصل بكلِّ واحد منهما من الحياة والنفع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد؛ فإنّها بالعلم والمطر، وشبَّه القلوب بالأراضي الّتي يقع عليها المطر؛ لأنها المحلُّ الّذي يُمسك الماء فيُنبت سائر أنواع النّبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم، فيُثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثمّ قسَّم النّاس إلى ثلاثة أقسام بحسَب قبولهم واستعدادهم لحفظه، وفَهم معانيه، واستنباط أحكامه، واستخراج حكمه وفوائده، أحدُها أهل الحفظ والفَهم الّذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيَه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحِكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض الّتي قَبِلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وهذا هو الفَهم فيه، والمعرفة والاستنباط، فإنّه بمنزلة إنبات الكلأ والعُشب بالماء، فهذا مَثَل الحفَّاظ الفقهاء أهل الرّواية والدراية. القسم الثّاني: أهل الحفظ الّذين رُزقوا حفظَه ونقلَه وضبطه، ولم يرزقوا تفقُّهًا في معانيه، ولا استنباطًا، ولا استخراجًا لوجوه الحكم والفوائد منه؛ فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يُرزق فيه فَهمًا خاصًّا عن الله؛ كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضى الله عنه: إلّا فَهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه. والنّاس متفاوتون في الفَهم عن الله ورسوله أعظمَ تفاوت؛ فرُبَّ شخص يفهم من النّصِّ حُكمًا أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة او مائتين؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض الّتي أمسكت الماء للنّاس، فانتفعوا به، هذا يشرب منه، وهذا يسقي، وهذا يزرع، فهؤلاء القسمان، هم السّعداء، والأوَّلون أرفع درجةً، وأعلى قدرًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. القسم الثّالث: الّذين لا نصيب لهم منه، لا حفظًا ولا فَهمًا، ولا رواية ولا دراية؛ بل هم بمنزلة الأرض الّتي هي قيعان لا تُنبت ولا تُمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأوّلان اشتركا في العلم والتعليم، كلٌّ بحسب ما قَبِله، ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيَه وأحكامه وعلومه، والقسم الثّالث لا علم ولا تعليم؛ فهم الّذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شرٌّ من الأنعام، وهم وقود النّار؛ فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التّنبيه على شرف العلم والتعليم، وعِظَم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنّسبة فيه إلى شقيِّهم وسعيدهم، وتقسَّم سعيدهم إلى سابق مقرَّب، وصاحب يمين مقتصد، وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر؛ بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم، فهم بمنزلة الأرض الّتي فقدت الغيث. قال الإمام أحمد: النّاس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطّعام والشراب؛ لأن الطّعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرّةً أو مرّتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.

    وقد قال تعالى:

    { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}

    [الرعد: ١٧]

    شبَّه سبحانه العلم الّذي أنزله على رسوله بالماء الّذي أنزله من السّماء؛ لِمَا يحصل لكلّ واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثمّ شبَّه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا كثيرًا كوَادٍ عظيم يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير إنّما يسع علمًا قليلاً كواد صغير إنّما يسع ماء قليلاً، فقال: ﭐﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪﲫ  ﱠ هذا مَثَل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنّه يُستخرَج منها زَبَدُ الشُّبهات الباطلة، فيطفو على وجه القلب، كما يَستخرج السّيل من الوادي زبدًا يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه راب يطفو ويعلو على الماء لا يستقرُّ في أرض الوادي، كذلك الشُّبهات الباطلة إذا أخرجها العلم رَبَت فوق القلوب وطَفَت فلا تستقرُّ فيه؛ بل تُجفى وتُرمى فيستقرُّ في القلب ما ينفع صاحبَه، والنّاس من الهدى ودين الحقِّ كما يستقرُّ في الوادي الماء الصافي، ويذهب الزّبد جفاءً، وما يعقل عن الله أمثاله إلّا العالمون، ثمّ ضرب سبحانه لذلك مثلاً آخر فقال: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} يعني أن ممّا يوقد عليه بنو آدم من الذّهب والفضّة والنحاس والحديد يخرج منه خَبَثه، وهو الزّبد الّذي تُلقيه النّار وتخرجه من ذلك الجوهر؛ بسبب مخالطتها؛ فإنّه يقذف ويُلقى به ويستقرُّ الجوهر الخالص وحده، وضرب سبحانه مثلاً بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلاً بالنّار لما فيها من الإضاءة والإشراف والإحراق؛ فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، وتُحرق خبثها وشبهاتِها وشهواتها وسخائمها، كما تحرق النّار ما يُلقى فيها وتميِّز جيّدها من زَبَدها، كما تميّز النّار الخبث من الذّهب والفضّة والنحاس ونحوه منه، فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العِبَر والعلم"[6].

    قال ابن بطال رحمه الله: «اعلمْ أنه لا يَقبل ما أنزل اللهُ من الهدى والدين إلا مَن كان قلبُه نقيًّا من الإشراك والشك، فالتي قبِلت العلم والهدى كالأرض المتعطِّشة إليه، فهي تنتفعُ به فتَحْيا فتُنبِت. فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطِّشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وعَتِ العلمَ حَيَتْ به، فعمِلت، وأنبتت بما تَحْيا به أرماقَ الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاجُ إليه»[7].

    قال ابن تيمية رحمه الله: "وَفِي حَدِيثِ كميل بنِ زيادٍ عن عليٍّ رضي اللّه عنه قال: القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها. وبلغنا عن بعض السَّلَف قال: القلوب آنية اللّه في أرضه، فأَحَبُّها إلى اللّه تعالى أرقُّها وأصفاها. وهذا مَثَل حسن؛ فإنّ القلب إذا كان رقيقًا ليّنًا، كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورَسَخ العلم فيه، وثَبَت وأثَّر، وإن كان قاسيًا غليظًا، كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا. ولا بدَّ مع ذلك أن يكون زكيًّا صافيًا سليمًا حتّى يزكوَ فيه العلم ويُثمر ثمرًا طيّبًا، وإلّا فلو قَبِل العلم وكان فيه كَدَر وخَبَث، أفسد ذلك العلم، وكان كالدَّغَل في الزّرع، إن لم يَمنَع الحَبَّ من أن يَنبُت، منعه من أن يزكوَ ويَطِيب، وهذا بيِّن لأولي الأبصار.

    وتلخيص هذه الجملة: أنّه إذا استُعمل في الحقِّ فله وجهان: وجه مُقبِل على الحقِّ، ومن هذا الوجه يقال له: وعاء وإناء؛ لأنّ ذلك يستوجب ما يُوعى فيه ويوضع فيه، وهذه الصّفة صفة وجود وثبوت. ووجه مُعرِض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له: زكيٌّ وسليم وطاهر؛ لأنّ هذه الأسماء تدلُّ على عدم الشّرِّ، وانتفاء الخَبَث والدَّغَل، وهذه الصّفة صفة عدم ونفيٍ. وبهذا يتبيَّن أنّه إذا صُرِف إلى الباطل، فله وجهان كذلك: وجهُ الوجود أنّه مُنصرِف إلى الباطل مشغول به، ووجه العدم أنّه مُعرِض عن الحقِّ غيرُ قابل له"[8].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "معنى قوله ﷺ: «مَن لم يرفع بذلك رأسًا»: يعني: تكبَّرَ ولم يَقبل الدين، يقال: لم يرفَعْ فلان رأسه بهذا؛ أي: لم يلتفتْ إليه من غاية تكبُّره"[9].

    قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله:"وفي تقسيم الناس باعتبار قَبول العلم قسمَين: أحدهما مَن فَقُه ونَفَع الغَير، والثاني مَن لم يرفعْ به رأسًا، وإنما ذَكَره كذلك؛ لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه يُنتَفع به، والثاني هو ما لا يُنتفَع به، وكذلك الناس قسمانِ: مَن يَقبل ومَن لا يَقبل. وهذا يوجِب جَعْل الناس في الحديث على قسمَين: مَن يُنتفَع به، ومَن لا يُنتفَع، وأما في الحقيقة، فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يَقبل من العلم بقَدْر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم مَن يَقبل ويبلِّغ، ومنهم مَن لا يَقبل"[10]. 

    المراجع

    1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 163، 164).
    2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 248، 249).
    3. "شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 46، 48).
    4. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 294، 295).
    5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 295).
    6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 60، 61).
    7. "شرح صحيح البخاري لابن بطال" ابن بطال (1/ 163).
    8. "مجموع الفتاوى" (9/ 315، 316).
    9. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" الطيبي (2/ 616).
    10. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (2/ 79).


    غريب الحديث:

    الرِّيَاءُ: مصدر راءَى، فاعَلَ، ومصدرُه يأتي على بناء مُفَاعَلة وفِعَال، وهو مهموز العَين؛ لأنّه من الرُّؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياءً، وحقيقتُه لغةً: أن يُرِيَ غيرَه خلاف ما هو عليه [1]

    المراجع

    1.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 660).

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي محْمُودُ بْنُ لَبِيدٍ رضِي الله عنه عن رَسُولِ اللَّهِ ‏ﷺ  أنه قال: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ»، قالوا: وما الشِّركُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «الرِّياءُ»: جعل النبيُّ ﷺ الرياءَ من الشرك الأصغر، الذي هو أخوفُ ما يخاف علينا؛ لأنه قد يَدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحبُّ أن تُمدَح بالتعبُّد لله؛ فالرياء هو إظهارُ الشخصِ العبادةَ لقصد رؤية الناس، فيَحمَدونه عليها.

    قوله ﷺ: «يقولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ - لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!»: دليلٌ على أن الله - عزَّ وجلَّ - يُحبط أعمالهم تلك، ولا يُجازيهم بها.

    الشرح المفصَّل للحديث

    يُبيِّن النبيُّ  في هذا الحديث أمرًا خطيرًا، وذَنبًا من مُحبِطات الأعمال، وهو الرياء، وقد سمَّاه النبيُّ  شِركًا لخطورته.

    وقد حرَص النبيُّ  على استرعاء أسماع المخاطَبين، فجذب انتباههم بقوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم»، فكأنه يُثير حفيظتَهم إلى معرفة ذلك الأمر الجَلَل.

    وقوله: «الشرك الأصغر» يدُلُّ على أن الشركَ شِركَان: أكبرُ، وهو الذي يَخرُج به المرءُ عن مسمَّى الإسلام، وشركٌ أصغرُ، وهو ما كان من قَبيل المعاصي التي مَنْشَؤُها طاعةُ غير الله، أو خوفُه، أو رجاؤه، أو تعظيمه، كما ورد في النصِّ على أمور أنها من الشرك؛ كالحَلِف بغير الله، وعلى مَن قال: ما شاء الله وشئتَ، وكذلك التشاؤم، وإتيان الكهَّان، والرُّقى المكروهة، وغير ذلك مما لا يُنافي التوحيدَ منافاةً مطلقةً[1]

    على أن هذه الأمور قد تكون من الشرك الأكبر؛ فإن الإنسان إذا حلَف بغير الله معتقدًا تعظيمَه، وكذلك لو صدَّق الكُهَّان في زعمهم أنهم يعلمون الغيب، والرياء كذلك إنْ كان في كلِّ أعماله، أو كان الرياء في أصل الاعتقاد، وكذلك إن ظنَّ أن التمائم والرُّقى هي التي تمنع الضرَّ، وتكشف المرض[2]

    وقد اختلف العلماء في الشرك الأصغر: هل يدخُل تحت المشيئة كغيره من الذنوب، ويكون المراد

    بقوله تعالى:

    ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ﴾

    [النساء: 48]

    مقصورًا على الشِّرك الأكبر فحسبُ؟ أم يدخل فيه كلُّ ما يُسمَّى شِركًا، فلا يغفره الله إلا بالتوبة؟ وعلى القولَينِ فصاحب الشرك الأصغر على خطرٍ عظيم، فينبغي عليه أن يُبادر إلى التوبة والإنابة[3]

    والرياء: مشتَقٌّ من الرؤية، والمراد أن يُظهر الإنسانُ العبادةَ ليراها الناس فيحمَدوه عليها، فإذا صلَّى الإنسان، أو تصدَّق، أو قام الليل، أو جاهد في سبيل الله، يُريد أن يرى الناس فِعله، كان مُرائيًا[4]

    ويُطلَق الرياء كذلك على كل ما يفعله الإنسان يُريد أن يَسمعَه غيرُه؛ كالصيام وقراءة القرآن؛ فالإنسان إن قرأ القرآن يُريد أن يَسمعَه الناسُ، كان مُرائيًا كذلك، وإن كان لا عَلاقة للرؤية بها، وإنما أُطلِق الرياء على الكل تغليبًا؛ كما يقال لأبي بكر وعمر: العُمَران[5]

    وينقسم الرياء باعتبار الإسلام والشرك إلى قسمين:

    القسم الأول: الرياء الذي يدخل في أصل الاعتقاد، وهذا شركٌ أكبرُ؛

    قال تعالى:

    ﴿ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤۡتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلۡقَيِّمَةِ  ﴾

    [البينة: 5].

    القسم الثاني: وهو لِمَن سَلِم له عَقْد الإيمان من الشرك، ولحِقه شيءٌ من الرياء في بعض أعماله، فليس ذلك بمُخرِج من الإيمان إلا أنه مذمومٌ فاعلُه؛ لأنه أشرك في بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربِّه، فحُرِم ثوابَ عمله ذلك، وهذا الشرك الأصغر الذي سمَّاه النبيُّ [6]

    والرياء إن كان من القسم الثاني، فهو من حيث إبطالُهُ العبادةَ ينقسم قسمين:

    القسم الأول: أن يكون في أصل العبادة؛ كأن يكونَ ما قام للصلاة – مثلًا - إلا ليُرائيَ بها الناس، فهذا عمله باطلٌ مردودٌ؛

    قال الله تعالى:

    ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾

    [البقرة: 264]،

    وقال أيضًا:

    ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا﴾  

    [النساء: 142]

    وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

    قال رسول الله ﷺ:

    «قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، مَن عَمِل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركتُه وشِرْكَه»

    [7]

    القسم الثاني: أن يكون أصلُ العمل لله، وإنما طرأ عليه الرياء؛ كأن يقومَ الرجُل يُصلي، ثم يرى أُناسًا يَنظُرون إليه، فيُطيل الركوعَ والسجودَ ونحوَ ذلك. فهذا على حالَينِ:

    الحال الأُولى: أن يدافع ذلك الرياء، فهذا لا يَضرُّه.

    الحال الثانية: أن يَسترسل معه ويَستمر، فهذا يُبطل فِعله[8]

    وقوله : «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لهم يومَ القِيامةِ إذا جُزِيَ الناسُ بأعمالِهم: اذْهَبوا إلى الذين كنتُم تُراؤون في الدُّنيا، فانظُروا هل تَجِدون عِندَهُم جزاءً؟!» دليلٌ على أن الله - عزَّ وجلَّ - يُحبط

     أعمالهم تلك، ولا يُجازيهم بها. وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضِي الله عنه، أن النبيَّ   قال: «إن أول الناس يُقْضى يومَ القيامة عليه رجُلٌ استُشهِدَ، فأُتِيَ به، فعرَّفه نِعَمَهُ فعرَفها، قال: فما عملتَ

     فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدْتُ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: جَريءٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحبَ على وجهه حتى أُلْقِيَ في النار. ورجُلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمه، وقرأ القرآنَ، فأُتِيَ به

     فعرَّفه نعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه، وقرأتُ فيكَ القرآن. قال: كذبتَ؛ ولكنكَ تعلَّمتَ العلم ليُقال: عالِمٌ، وقرأتَ القرآن ليُقال: هو قارئٌ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِب

     على وجهه حتى أُلقي في النار. ورجُل وسَّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله، فأُتي به فعرَّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنْفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ؛ ولكنكَ فعلتَ ليُقال: هو جَوَادٌ، فقد قيل، ثم أُمِرَ به فسُحِبَ على وجهه، ثم أُلْقيَ في النار»[9]

    وعند مسلمٍ أيضًا 

    عن ابن عباس رضِي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:

    «مَن سَمَّع سَمَّع اللهُ به، ومَن رَاءَى رَاءَى اللهُ به»

    [10].

    ومعناه: مَن رَاءى بعمله وسمَّعه الناس؛ ليُكرموه ويُعظِّموه ويَعتَقدوا خيره، سَمَّع الله به يوم القيامة الناسَ وفَضَحَه. وقيل: معناه: مَن أراد بعمله الناسَ، أسمعه اللهُ الناسَ، وكان ذلك حظَّه منه [11]

    وإنما جعل النبيُّ الرياءَ وغيرَه من الشرك الأصغر أخوفَ ما يخاف علينا؛ لأنه قد يدخُل في قلب الإنسان من غير شعور؛ لخفائه وتطلُّع النفْس إليه؛ فإن كثيرًا من النفوس تُحب أن تُمدَح بالتعبُّد لله [12]

    المراجع

    1.  انظر: "التوحيد" لابن رجب (ص: 23)، "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص: 115).
    2.  انظر: "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" لابن عثيمين (6/ 357).
    3.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 207).
    4.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (3/ 410)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 615).
    5.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 117).
    6.  انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 113).
    7.  رواه مسلم (2985).
    8.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 118).
    9.  رواه مسلم (1905).
    10.  رواه مسلم (2986).
    11.  "شرح صحيح مسلم" للنووي (18/ 116).
    12.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 125).

    النقول

    قال ابن القيم رحمه الله: "فأما نجاسة الشرك فهي نوعان: نجاسة مغلَّظة، ونجاسة مخفَّفة، فالمغلَّظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عزَّ وجلَّ، فإن الله لا يغفر أن يشرك به. والمخفَّفة: الشرك الأصغر؛ كيسير الرياء، والتصنُّع للمخلوق، والحلِف به، وخوفه، ورجائه"[1]

    قال الصنعانيُّ رحمه الله: "الرِّيَاءُ: مصدر راءَى، فاعَلَ، ومصدرُه يأتي على بناء مُفَاعَلة وفِعَال، وهو مهموز العَين؛ لأنّه من الرُّؤية، ويجوز تخفيفها بقلبها ياءً، وحقيقتُه لغةً: أن يُرِيَ غيرَه خلاف ما هو عليه، وشرعًا: أن يفعل الطّاعةَ، ويَترُك المعصية، مع ملاحظة غير اللّه، أو يُخبر بها، أو يحبَّ أن يطّلع عليها لمقصد دنيويٍّ من مال أو نحوه، وقد ذمَّه اللّه في كتابه، وجعله من صفات المنافقين في

    قوله:

    ﴿إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗ﴾  

    [النساء: 142]"[2]

    قال ابن قدامة رحمه الله: "اعلم أنَّ أصلَ الرِّياء: حُبُّ الجاهِ والمنزلة، وإذا فُصِّلَ رَجَعَ إلى ثلاثةِ أُصولٍ، وهي: حُبُّ لذَّةِ الحمدِ، والفرارُ من ألم الذمِّ، والطمعُ فيما في أيدي الناس"[3]

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "والشرك على نوعين؛ النوع الأول: شركٌ أكبرُ مُخرِج عن الْمِلَّة، وهو كلُّ شِرْكٍ أَطلَقه الشارعُ وهو مُنافٍ للتوحيد منافاةً مُطلَقة؛ مثل أن يَصرِف شيئًا من أنواع العبادة لغير الله، بأن يُصلِّيَ لغير الله، أو يَذبَح لغير الله، أو يَنذِر لغير الله، أو أن يدعوَ غيرَ الله تعالى؛ مثل أن يدعوَ صاحبَ قَبْرٍ، أو يدعوَ غائبًا لإنقاذه من أمر لا يَقدِر عليه إلا الحاضر. وأنواعُ الشرك معلومةٌ فيما كَتَبه أهلُ العلم. النوع الثاني: الشركُ الأصغر وهو كلُّ عَمَل قَوليٍّ، أو فِعْليٍّ، أَطلَق عليه الشارع وَصْفَ الشرك؛ لكنه لا ينافي التوحيد منافاةً مُطلَقة؛ مثل: الحَلِف بغير الله؛ فالحالف بغير الله الذي لا يعتقد أن لغير الله تعالى من العَظَمة ما يُماثِل عظمة الله، مُشرِكٌ شركًا أصغرَ، ومثل الرياء، وهو خطير؛ قال فيه النبيُّ  ﷺ: «أخوفُ ما أخاف عليكم الشركُ الأصغرُ»، فسُئِل عنه، فقال: «الرياء»، وقد يَصِل الرياء إلى الشرك الأكبر، وقد مثَّل ابنُ القيِّم رحمه الله للشرك الأصغر بيسير الرياء، وهذا يدلُّ على أن كثير الرياء قد يصل إلى الشرك الأكبر، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن 

    قوله تعالى:

    ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا﴾

    [النساء: 48]،

    يشمل كلَّ شرك ولو كان أصغرَ، فالواجبُ الحَذَرُ من الشرك مُطلَقًا؛ فإن عاقبته وخيمة"[4]

    قال ابن قدامة المقدسيُّ رحمه الله: "واعلم: أن الرياء مشتَقٌّ من الرؤية، والسُّمعة مشتقَّة من السَّمَاع، فالمرائي يُري الناسَ ما يَطلُب به الحَظْوة عندهم، وذلك أقسام؛ الأول: الرياء في الدين، وهو أنواع؛ أحدها: أن يكون من جهة البَدَن، بإظهار النُّحول والصَّفار؛ ليُريَهم بذلك شدَّة الاجتهاد، وغَلَبة خوف الآخرة... النوع الثاني: الرياء من جهة الزيِّ؛ كالإطراق حالة المشيِ، وإبقاء أثر السجود على الوجه، وغلظ الثياب، ولُبس الصُّوف... لتنصرف إليه الأعين بالتمييز بتلك العادة. وهؤلاء طبقات، منهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاح... وطبقة أخرى: يطلبون القَبول عند أهل الصلاح، وعند أهل الدنيا من الملوك والأمراء والتجَّار... والنوع الثالث: الرياء بالقول، ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، وإظهار غزارة العلم والدلالة على شدة العناية بأحوال السلف، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن؛ ليدلَّ بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك. والنوع الرابع: الرياء بالعمل، كمرآة المصلِّي بطول القيام، وتطويل الركوع والسجود، وإظهار الخشوع، ونحو ذلك... والنوع الخامس: المراءاة بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلَّف أن يستزير عالِمًا أو عابدًا؛ ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، وإن أهل الدين يتردَّدون إليه، ويتبركون به، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ، ليقال: لَقِيَ شيوخًا كثيرة، واستفاد منهم، فيباهى بذلك، فهذه مجامع ما يرائي به المراؤون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.

    ومنهم من يطلب مجرَّد الجاه، وكم من عابدٍ اعتزل في جبل، وراهبٍ انزوى إلى دير، مع قطع طمعهم من مال الناس؛ لكنه يحب مجرَّد الجاه! ومنهم من يكون قصده المال، ومنهم من قصده الثناء وانتشار الصيت"[5]

    قال ابن تيمية رحمه الله: "والشرك له شُعَب تكبِّره وتنمِّيه، كما أن الإيمان له شُعب تكبِّره وتنمِّيه، وإذا كان كذلك، فإذا تقابلت الدعوتان، فمن قيل: إنه مشرك أَوْلى بالوعيد ممن قيل فيه: إنه ينتقص الرسول، فإن هذا إن كان مشركًا الشركَ الأكبر، كان مخلَّدًا في النار، وكان شرًّا من اليهود والنصارى، وإن كان مشركًا الشرك الأصغر، فهو أيضًا مذمومٌ ممقوت مستحِقٌّ للذمِّ والعقاب،  وقد يقال: الشرك لا يُغفَر منه شيء، لا أكبر ولا أصغر، على مقتضى عموم القرآن، وإن كان صاحب الشرك الأصغر يموت مسلمًا؛ لكن شركه لا يُغفَر له؛ بل يعاقب عليه، وإن دخل بعد ذلك الجنة"[6]

    قال النوويُّ رحمه الله: «معناه: مَن رَاءى بعمله وسمَّعه الناس؛ ليُكرموه ويُعظِّموه ويَعتَقدوا خيره، سَمَّع الله به يوم القيامة الناسَ وفَضَحَه. وقيل: معناه: مَن أراد بعمله الناسَ، أسمعه اللهُ الناسَ، وكان ذلك حظَّه منه»[7]

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "واعلم أن الشرك خَفيٌّ جِدًّا، وقد خافه خليل الرحمن وإمام الحُنفاء؛

    كما حكي الله عنه:

    وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ رَبِّ ٱجۡعَلۡ هَٰذَا ٱلۡبَلَدَ ءَامِنٗا وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ

    [إبراهيم: 35]

     وتأمَّل قوله: (واجنبني)، ولم يقل: (وامنعني)؛ لأن معنى (اجنبني)؛ أي: اجعلني في جانب، وعبادة الأصنام في جانب، وهذا أبلغ من (امنعني)؛ لأنه إذا كان في جانب، وهي في جانب، كان أبعدَ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: «أَدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ  ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ [8]"[9]

    قال ابن بطَّال رحمه الله: "والرياء ينقسم قسمين: فإن كان الرياء في عَقد الإيمان، فهو كفر ونفاق، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، فلا يصحُّ أن يُخاطَب بهذا الحديث، وإن كان الرياء لمن سلم له عَقْد الإيمان من الشرك، ولحِقه شيءٌ من الرياء في بعض أعماله، فليس ذلك بمُخرِج من الإيمان إلا أنه مذمومٌ فاعلُه؛ لأنه أشرك في بعض أعماله حَمْدَ المخلوقين مع حَمْدِ ربِّه، فحُرِم ثوابَ عمله ذلك [10] 

     

    قال ابن قدامة المقدسيِّ رحمه الله: "فإن قيل: هل الرياء حرام، أم مكروه، أم مباح؟

    فالجواب: أن فيه تفصيلاً، وهو إما أن يكون بالعبادات، أو بغيرها، فإن كان الرياء بالعبادات، فهو حرام، فإن المرائيَ بصلاته وصدقته وحجَّته، ونحو ذلك، عاصٍ آثمٌ؛ لأنه يقصد بذلك غير الله تعالى المستحقِّ للعبادة وحدَه، فالمرائي بذلك في سخط الله.

    وأما إن كان بغير العبادات، فهو كطلب المال على ما تقدَّم، لا يَحرُم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد؛ ولكن كما يمكِن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورة، فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام في قوله:


    {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}

    [يوسف: 55]

    ولا نقول بتحريم الجاه وإن كَثُر، إلا إذا حمل صاحبَه على ما لا يجوز على نحو ما ذكرنا في المال.

    وأما سَعَة الجاه من غير حرص على طلبه، ومن غير اغتمام بزواله وإن زال، فلا ضرر فيه؛ إذ لا جاه أوسع من جاه رسول الله   وعلماء الدين بعده، ولكن انصراف الهمم إلى طلب الجاه نقصان في الدين، ولا يوصف بالتحريم.

    وتحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس، إنما هو ليراه الناس، وكذلك كل تجمُّل لأجلهم لا يقال: إنه منهيٌّ عنه.

    وقد تختلف المقاصد بذلك، فإن أكثر الناس يحبُّون أن لا يُرَوا بعين نقص في حال، وفى أفراد مسلم، من حديث ابن مسعود - رضى الله عنه -

    عن النبيِّ ﷺ أنه قال:

    «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ»

    [11]

     ومن الناس من يؤثر إظهار نعمة الله عليه، وقد أمر رسول الله  بذلك" [12]

    قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن كان له وِرْدٌ مشروع من صلاة الضُّحى أو قيام ليل أو غير ذلك، فإنّه يصلِّيه حيث كان، ولا ينبغي له أن يَدَع وِرْدَه المشروع لأجل كونه بين النّاس، إذا علم اللّه من قلبه أنّه يفعله سرًّا للّه مع اجتهاده في سلامته من الرّياء ومفسدات الإخلاص"[13]

    قال ابن رجب رحمه الله: "أوَّل من تُسعَّر به النار من الموحِّدين العباد المراؤون بأعمالهم، وأوَّلهم العالم، والمجاهد، والمتصدِّق للرياء؛ لأن يَسِير الرياء شرك، ما نظر المرائي إلى الخلق بعمله إلا لجهله بعظمة الخالق"[14]

    قال ابن حَزْمٍ : "لإبليس في ذمِّ الرياء حِبالَةٌ؛ وذلك أنه رُبَّ ممتنعٍ مِن فِعل خيرٍ خوفَ أن يُظَنَّ به الرياء"[15]

    قال ابن رجب رحمه الله: " إذا عَمِل العبد العمل للَّه خالصًا، ثم ألقى اللَّه له الثناءَ الْحَسَنَ في قلوب المؤمنين بذلك، ففرِح بفضل اللَّه ورحمته، واستبشر بذلك، لم يَضُرَّه ذلك"[16]

    المراجع

    1.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 59).
    2.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 660).
    3.  "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسيِّ (ص: 222).
    4.  "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص 115، 116).
    5. "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص214 - 217).
    6.  "تلخيص كتاب الاستغاثة (الرد على البكري)" لابن تيمية (1/ 300، 301)
    7.  "شرح صحيح مسلم" للنوويِّ (18/ 116).
    8.  رواه البخاريُّ (36).
    9.  "شرح كشف الشبهات ويليه شرح الأصول الستة" لابن عثيمين (ص 117).
    10.  انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 113).
    11.  رواه مسلم (91).
    12.  "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة المقدسي (ص217 - 218).
    13. مجموع الفتاوى (23/ 174).
    14.  "كلمة الإخلاص" لابن رجب (ص39).
    15.  "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" لابن حزم (ص 16).
    16.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/83).

    غريب الحديث:

    خَصلة: شُعبة، وجزءٌ، أو حالة[1]

    فَجَر: الفجور في الخصومة، والفجور: الْمَيلُ عن الحقِّ، والاحتيالُ في ردِّه[2]

    المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 38).
    2.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي عبدِ الله بن عمرٍو رضي الله عنه عن النبيِّ ، أنه قال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا»؛ أي: أربعُ خصال من خصال النِّفاق والمنافقين، إذا اجتمعت في الإنسان واتَّصف بها، كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه إحدى هذه الخصال، كانت فيه صفة من صفات المنافقين إلى أن يتركها، وهي:

    «إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»: إذا خان من ائْتَمَنه. «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ»؛ أي: أخبر بغير الحقيقة عمدًا من غير عُذر. «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»: وإذا غَدَر بمن عاهَده. «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»: وإذا فَجَر في خصومته.

    الشرح المفصَّل للحديث:

    النفاقُ من أخطر الأمراض التي تُصيب الأفرادَ والجماعاتِ، ومن ثمَّ حذَّر منه الإسلامُ أشدَّ تحذير، وبيَّن صفاتِ المنافقين كي يَحذَرَهم المؤمنُ، ويحافظ على نفْسه من أن يتلبَّس بشيء من أخلاقهم.

    وفي هذا الحديث يَذكُر النبيُّ ﷺ أربعَ علامات من علامات المنافقين، ومن حُسنِ تَعلِيمِ النبيِّ ﷺ لأصحابه تقريبُ المرادِ باستخدام شَتَّى الوسائلِ التَّعليميَّة؛ ومن ذلك استخدامُ العددِ والإشارةِ والتَّوْضِيحِ، فيقول ﷺ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا»؛ أي: أربعُ خصال مَن كنَّ فيه كان منافقًا، وقوله «خَالِصًا»؛ أي: شديدَ الشَّبَه بالمنافقين بسبب هذه الخصال؛ لغَلَبتها عليه، ولكونها صارت عنده خُلقًا، وعادةً، ودَيْدنًا له[1]

    والنفاق: هو أن يُظهر المرء خلافَ ما يُبطِن، وينقسم إلى قسمين: نفاق في الاعتقاد، ونفاقٍ في العمل، "والنفاقُ لغةً: مخالفةُ الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاقُ الكفر، وإلا فهو نفاقُ العمل، ويدخُلُ فيه الفعلُ والتركُ، وتتفاوتُ مراتبُه"[2]، والمقصودُ في هذا الحديث هو نفاقُ العمل دونَ الاعتقاد، فقد تقع هذه الخصالُ من المؤمن الصادق، ومن ثمَّ فقد تلبَّس بذنب، واتَّصَف بخَصلة من خصال المنافقين، وعليه أن يُراجع نفْسه، ويُصحِّح مسارَه. فـ"معناه أن هذه الخِصال خِصال نفاق، وصاحبها شبيهٌ بالمنافقين في هذه الخصال، ومُتخلِّق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يُبطن خلافه، وهذا المعنى موجودٌ في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقُه في حقِّ مَن حدَّثه، ووعده، وائتمنه، وخاصَمه، وعاهَده من الناس، لا أنه منافقٌ في الإسلام، فيُظهره وهو يُبطن الكفرَ، ولم يُرِدِ النبيُّ ﷺ بهذا أنه منافقٌ نفاقَ الكفار المخلَّدين في الدرك الأسفل من النار"[3]

    و"يُحتمَل أن يكونَ هذا الخطابُ مختصًّا بأبناء زمانه ﷺ؛ فإنه ﷺ علم بنور الوحي بواطنَ أحوالهم، وميَّز بين مَن آمَن به صدقًا، ومَن أذعَنَ له نفاقًا، وأراد تعريفَ أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حَذَر منهم، ولم يُصرِّحْ بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليمٌ أن منهم مَن سيتوب، فلم يَفضَحْهم بين الناس، ولأن عدمَ التعيين أوقَعُ في النصيحة، وأجلَبُ للدعوة إلى الإيمان، وأبعدُ عن النفور والمخاصَمة. ويُحتمَل أن يكون هذا الخطابُ عامًّا لينزجِرَ الكلُّ عن هذه الخصال على آكَد وجهٍ؛ إيذانًا بأنها طلائعُ النفاق الذي هو أقبحُ القبائح؛ كأنه كفر مموَّهٌ باستهزاءٍ، وخداع مع ربِّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب. فعُلم من ذلك أنها منافيةٌ لحال المسلمين، فينبغي للمسلم ألَّا يرتعَ حولَها؛ فإن مَن رتَعَ حول الحمى يوشكُ أن يقَعَ فيه، ويُحتمل أن يكون المراد بالمنافق العُرفيَّ، وهو مَن يُخالف سرُّه علنَه مُطلقًا"[4]

    وقد ورد في رواية أُخرى ذِكْر ثلاث علامات للنفاق بدلَ أربع؛ قال ﷺ: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[5]، ولا تَعارُضَ بين الروايتَين، وقد حصل بجمع الروايتَين خمسُ علامات للنفاق، وهي: الكذبُ في الحديث، والغدرُ في المعاهدات، والخُلفُ في الوعد، والفجورُ في المخاصمة، والخيانةُ في الأمانة.

    وقد دفع العلماءُ التعارُضَ بين الروايات بأقوال؛ منها: احتمالُ أنه ﷺ استجدَّ له العلمُ بخصالهم ما لم يكن عنده، فأخبر مرَّةً بالأقلِّ، ثم بالأكثر[6]. فـ"ليس بين الحديثَين تعارضٌ؛ لأنه لا يَلزَمُ من عدِّ الخَصلة المذمومة الدالَّة على كمال النفاق كَوْنُها علامةً على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلاماتُ دالَّاتٍ على أصل النفاق، والخَصلة الزائدة إذا أُضيفت إلى ذلك كَمَل بها خُلوصُ النفاق"[7]. وقيل: "الأَوْلى في الجواب أن يقال: إن كلَّ واحدة من الخَمس علامةٌ من علامات النفاق؛ بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثرُ من ذلك؛ إذ منها الْمَلَق، وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بُغضهم وكراهيتهم، فالأربعُ إذا اجتمعت في شخص كان منافقًا خالصًا، وإذا وُجِدت فيه خصلةٌ منها كان فيه خصلةٌ من النفاق، وهناك غير هذه الأربع ما هو من علامات النفاق، أما رواية: «آية المنافق ثلاث» فهي على تقدير "مِنْ"؛ أي: من آيات المنافق الكثيرة ثلاث، والمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيهُ على ما عداها من خصال النفاق"[8]

    وقوله ﷺ: «وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا»، الخصلةُ هي الخَلَّةُ والصِّفة، والمعنى: مَن كانت فيه صفةٌ من هذه الصفات الأربع، كانت فيه صفة من صفات المنافقين حتى يتركها[9]

    وأول هذه الخصال: «إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»؛ أي: إذا وُضعت عنده أمانةٌ خانها بأن تصرَّف فيها تصرُّفًا غير مشروع[10]، "وخيانة الأمانة ظلمٌ لصاحبها، ونزعٌ للثقة من نفوس الناس بخائنها، وهي نوعٌ من السرقة، وقد فسَّروا الخيانة بأنها التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ بل تشمل الشرائعَ التي جعلها اللهُ في يدنا أماناتٍ نُعلِّمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل؛ ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً في

    قوله تعالى:

    ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ) 

    [الأنفال: 27]"[11]

    وأشدُّ الناسِ فضيحةً يوم القيامة الخائنونَ؛ فلكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «لكلِّ غادر لواءٌ يُنصَب بغَدْرته يوم القيامة»[12]، فالخائنُ وإن انْدَسَّ بين الناسَ، وإن عرف كَيفَ يرتِّب ويدبِّر أمورَه بحيث لا يُفتَضَحُ أمامَ عباد الله، فأين يذهب يوم القيامة؟!

    ومن خصال النفاق التي ذكَرَها رسولُ الله ﷺ: «وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ»؛ أي: أخبر بغير الحقيقة عمدًا من غير عُذر[13]، وقد أمر اللهُ - عزَّ وجلَّ - ورسوله ﷺ بالصدق، وأكَّدا عليه؛

    يقول الله - عزَّ وجلَّ -:

    ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )

    [التوبة: 119]،

    وقال ﷺ: «إن الصدقَ يَهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يَهدي إلى الجنة، وإن الرجُلَ لَيصدُقُ حتى يكون صدِّيقًا، وإن الكذبَ يَهدي إلى الفجور، وإن الفجورَ يَهدي إلى النار، وإن الرجُلَ لَيكذبُ حتى يُكتَب عند الله كذَّابًا»[14]

    أما الخَصلةُ الثالثة، فقال ﷺ: «وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ»؛ أي: يَنقُضُ العهدَ ابتداءً. وإذا حالف تركَ الوفاء[15]، والغدرُ محرمٌ "لا سيَّما إذا كان الغادرُ من أصحاب الولاية العامَّة؛ لأن ضرر غَدره يتعدَّى إلى خَلْق كثير. وقيل: لأنه غيرُ مضطرٍّ إلى الغدر لقُدرته على الوفاء. والغدرُ محرَّمٌ بشتَّى صوره، سواءٌ أكان مع فرد أم جماعة، وسواءٌ أكان مع مسلم، أم ذمِّيٍّ، أم معاهَد"[16]، وفي تأكيد الوفاء بالعهد  

    قال تعالى:

    (وَلَا تَقۡرَبُواْ مَالَ ٱلۡيَتِيمِ إِلَّا بِٱلَّتِي هِيَ أَحۡسَنُ حَتَّىٰ يَبۡلُغَ أَشُدَّهُۥۚ وَأَوۡفُواْ بِٱلۡعَهۡدِۖ إِنَّ ٱلۡعَهۡدَ كَانَ مَسۡـُٔولٗا )

    [الإسراء: 34].

    وأما الخَصلة الرابعة، فقال ﷺ: «وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»، والفجور في الخصومة هو الْمَيل عن الحقِّ، وقولُ الباطل[17]، فـ"الفجور في الخصومة، والفجورُ الْمَيل عن الحقِّ، والاحتيالُ في ردِّه"[18]، "ويعني بالفجور أن يخرج عن الحقِّ عمدًا حتى يصيرَ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا...، فإذا كان الرجُلُ ذا قُدرة عند الخصومة - سواءٌ كانت خصومتُه في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويُخيِّل للسامع أنه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويُخرجه في صورة الباطل - كان ذلك من أقبح المحرَّمات، ومن أخبَث خصال النفاق"[19]

    المراجع

    1.  انظر "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويِّ (1/ 463).
    2. انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 89).
    3.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47).
    4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
    5.  رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
    6.  انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 251).
    7.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
    8.  "فتح المنعم بشرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 221).
    9.  انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 224).
    10.  انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 128).
    11.  "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
    12.  رواه البخاريُّ (3188)، ومسلم (1735).
    13.  انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 128).
    14.  أخرجه البخاريُّ (6094)، ومسلم (2607).
    15.  انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 129).
    16.  "كنوز رياض الصالحين" لمجموعة باحثين (9/ 547).
    17. "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 120)
    18.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
    19.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 486).

    النقول

    قال النوويُّ : "هذا الحديث ممّا عدَّه جماعة من العلماء مشكِلًا من حيث إنّ هذه الخصال توجد في المسلم المصدِّق الّذي ليس فيه شكٌّ، وقد أجمع العلماء على أنّ من كان مصدِّقًا بقلبه ولسانه، وفعل هذه الخصال، لا يُحكَم عليه بكفر، ولا هو منافق يخلَّد في النّار؛ فإنّ إخوة يوسف ﷺ جمعوا هذه الخصال، وكذا وُجد لبعض السّلف والعلماء بعضُ هذا أو كلُّه، وهذا الحديث ليس فيه - بحمد اللّه تعالى - إشكال؛ ولكن اختلف العلماء في معناه؛ فالّذي قاله المحقّقون والأكثرون وهو الصّحيح المختار: أنّ معناه أنّ هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال، ومتخلِّق بأخلاقهم؛ فإنّ النّفاق هو إظهار ما يبطن خلافَه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حقِّ من حدَّثه ووعده وائتمنه وخاصَمه وعاهده من النّاس، لا أنّه منافق في الإسلام، فيُظهره وهو يُبطن الكفر، ولم يُرِدِ النّبيُّ ﷺ بهذا أنّه منافق نفاق الكفّار المخلَّدين في الدّرك الأسفل من النّار" [1]

    قال ابن عثيمين : "قوله: «أربع من كن فيه»؛ أي: من اتَّصَف بهن، كان منافقًا خالصًا؛ لأنه أتى بجميع الأعمال التي يتَّصِف بها المنافقون، والعياذ بالله، والمراد بالنفاق هنا النفاق العمليُّ الذي يكون عليه أهل النفاق العَقَديِّ، وليس نفاقَ الاعتقاد؛ لأن نفاق الاعتقاد نفاق كفر، والعياذ بالله؛ وهو الذي يُظهر الإسلام ويُبطِن الكفر، أما هؤلاء الذين يتَّصِفون بهذه الصفات، فإنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانًا حقيقيًّا؛ ولكنهم يستعملون هذه الصفاتِ وفيها شيء من النفاق"[2]

    قال ابن حجر : "والنفاقُ لغةً: مخالفةُ الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاقُ الكفر، وإلا فهو نفاقُ العمل، ويدخُلُ فيه الفعلُ والتركُ، وتتفاوتُ مراتبُه"[3]

    قال الطِّيبيُّ : "هذا القول إنما خرج على سبيل الإنذار للمرء المسلم، والتحذير له أن يعتاد هذه الخصال، فيُفضي به إلى النفاق، لا أن من نَدَر منه هذه الخصال، أو فعل شيئًا من ذلك من غير اعتياد أنه منافق. والنفاق ضربان؛ أحدهما: أن يُظهر صاحبُه الإيمان وهو مُسِرٌّ للكفر؛ كالمنافقين على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، والثاني: ترك المحافظة على حدود أمور الدين سرًّا، ومراعاتها علنًا، فهذا سمِّي منافقًا؛ ولكنه نفاقٌ دون نفاق، كما قال ﷺ: «سِبابُ المسلم فسوق، وقتاله كفر»؛ وإنما هو كفر دون كفر"[4]

    قال النوويُّ : "وَقَوْلُهُ ﷺ: «كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا» معناه: شديدُ الشَّبَه بالمنافقين؛ بسبب هذه الخصال. قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبةً عليه، فأمّا من يَندُر ذلك منه، فليس داخلًا فيه؛ فهذا هو المختار في معنى الحديث، وقد نقل الإمام أبو عيسى التّرمذيُّ - رضي اللّه عنه - معناه عن العلماء مطلَقًا، فقال: إنّما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل، وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الّذين كانوا في زمن النّبيِّ ﷺ فحدَّثوا بإيمانهم وكذبوا، واؤتُمِنوا على دينهم فخانوا، ووعدوا في أمر الدّين ونصره فأخلفوا، وفَجَروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيدِ بنِ جُبير وعطاء بن أبي رباح، ورجع إليه الحسن البصريُّ رحمه اللّه بعد أن كان على خلافه، وهو مرويٌّ عن ابن عباس وابن عمر رضي اللّه عنهم، ورَوَياه أيضًا عن النّبيِّ ﷺ. قال القاضي عياض رحمه اللّه: وإليه مال كثير من أئمَّتنا، وحكى الخطّابيُّ رحمه اللّه قولًا آخر: أنّ معناه التّحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال الّتي يخاف عليه أن تُفضيَ به إلى حقيقة النّفاق، وحكى الخطّابيُّ رحمه اللّه أيضًا عن بعضهم أنّ الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النّبيُّ ﷺ لا يواجههم بصريح القول، فيقول: فلان منافق؛ وإنّما كان يشير إشارةً كقوله ﷺ: «ما بال أقوام يفعلون كذا» واللّه أعلم"[5]

    قال ابن حجر : "ليس بين الحديثَين تعارضٌ؛ لأنه لا يَلزَمُ من عدِّ الخَصلة المذمومة الدالَّة على كمال النفاق كَوْنُها علامةً على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلاماتُ دالَّاتٍ على أصل النفاق، والخَصلة الزائدة إذا أُضيفت إلى ذلك كَمَل بها خُلوصُ النفاق"[6]

    قال موسى شاهين لاشين: "الأَوْلى في الجواب أن يقال: إن كلَّ واحدة من الخَمس علامةٌ من علامات النفاق؛ بل الخمس من علامات النفاق، فهي أكثرُ من ذلك؛ إذ منها الْمَلَق، وإظهار الرضا والإعجاب بالرؤساء مع بُغضهم وكراهيتهم، فالأربعُ إذا اجتمعت في شخص كان منافقًا خالصًا، وإذا وُجِدت فيه خصلةٌ منها كان فيه خصلةٌ من النفاق، وهناك غير هذه الأربع ما هو من علامات النفاق، أما رواية: «آية المنافق ثلاث» فهي على تقدير "من"؛ أي: من آيات المنافق الكثيرة ثلاث، والمقصود من هذه الخصال المذكورة التنبيهُ على ما عداها من خصال النفاق"[7]

    قال محمد عبد العزيز الخولي: "وخيانة الأمانة ظلمٌ لصاحبها، ونزعٌ للثقة من نفوس الناس بخائنها، وهي نوعٌ من السرقة، وقد فسَّروا الخيانة بأنها التصرُّفُ في الأمانة بغير وجه شرعيٍّ؛ كبَيعها، أو جَحدها، أو انتقاصها، أو التهاون في حفظها. والأمانة تشمل كلَّ ما اؤتُمِن عليه الإنسان من مال، أو عِرض، أو حقٍّ؛ بل تشمل الشرائعَ التي جعلها اللهُ في يدنا أماناتٍ نُعلِّمها للناس، ونقوم على حفظها بالعمل، ولذلك سمَّى اللهُ تعالى مخالفةَ كتابه وسُنَّة رسوله خيانةً في

    قوله تعالى:

    ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوٓاْ أَمَٰنَٰتِكُمۡ وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ) 

    [الأنفال: 27]"[8]

    قال ابن رجب : "ويعني بالفجور أن يخرج عن الحقِّ عمدًا حتى يصيرَ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا...، فإذا كان الرجُلُ ذا قُدرة عند الخصومة - سواءٌ كانت خصومتُه في الدين أو في الدنيا - على أن ينتصر للباطل، ويُخيِّل للسامع أنه حقٌّ، ويوهن الحقَّ، ويُخرجه في صورة الباطل - كان ذلك من أقبح المحرَّمات، ومن أخبَث خصال النفاق"[9]

    قال النوويُّ : "وأمّا قوله ﷺ في الرّواية الأولى: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا»، وفي الرّواية الأخرى: «آية المنافق ثلاث»، فلا منافاة بينهما؛ فإنّ الشّيء الواحد قد تكون له علامات، كلُّ واحدة منهنّ تَحصُل بها صفته، ثمّ قد تكون تلك العلامة شيئًا واحدًا، وقد تكون أشياءَ واللّه أعلم. وقوله ﷺ: «وإذا عاهد غدر» هو داخل في قوله: «وإذا اؤتمن خان»، وقوله ﷺ: «وإن خاصم فجر»؛ أي: مال عن الحقّ وقال الباطل والكذب. قال أهل اللّغة: وأصل الفجور الميل عن القصد. وقوله ﷺ: «آية المنافق»؛ أي: علامته ودلالته. وقوله ﷺ: خَلَّة وخَصلة، هو بفتح الخاء فيهما، وإحداهما بمعنى الأخرى"[10]

    قال الطِّيبيُّ : "قوله: «أربع»، يُحتمَل أن يكون هذا مختصًّا بأبناء زمانه؛ فإنه ﷺ علم بنور الوحي بواطنَ أحوالهم، وميَّز بين مَن آمَن به صدقًا، ومَن أذعَنَ له نفاقًا، وأراد تعريفَ أصحابه على حالهم؛ ليكونوا على حَذَر منهم، ولم يُصرِّحْ بأسمائهم؛ لأنه عليه الصلاة السلام عليمٌ أن منهم مَن سيتوب، فلم يَفضَحْهم بين الناس، ولأن عدمَ التعيين أوقَعُ في النصيحة، وأجلَبُ للدعوة إلى الإيمان، وأبعدُ عن النفور والمخاصَمة. ويُحتمَل أن يكون هذا الخطابُ عامًّا لينزجِرَ الكلُّ عن هذه الخصال على آكَد وجهٍ؛ إيذانًا بأنها طلائعُ النفاق الذي هو أقبحُ القبائح؛ كأنه كفر مموَّهٌ باستهزاءٍ، وخداع مع ربِّ الأرباب، ومُسبِّب الأسباب. فعُلم من ذلك أنها منافيةٌ لحال المسلمين، فينبغي للمسلم ألَّا يرتعَ حولَها؛ فإن مَن رتَعَ حول الحمى يوشكُ أن يقَعَ فيه، ويُحتمل أن يكون المراد بالمنافق العُرفيَّ، وهو مَن يُخالف سرُّه علنَه مُطلقًا"[11]

    قال ابن تيمية : " والنّفاقُ له شُعَب ودعائمُ، كما أنّ للإيمان شُعبًا ودعائمَ؛ ففي الصّحيحين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان»، وفيهما أيضًا أنّه قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان»[12]

    قال ابن تيمية : "والإيمان يَزيد ويَنقُص، ويجتمع في العبد إيمان ونفاق؛ كما ثبت عنه في الصّحيح أنّه قال: «أربع من كنّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهنّ كانت فيه خصلة من النّفاق حتّى يدعها: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، وإذا ائتمن خان»"[13]

    المراجع

    1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 46، 47).
    2.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 163).
    3.  انظر "فتح الباري" لابن حجر (1/ 89).
    4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
    5.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 47، 48).
    6.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 90).
    7.  "فتح المنعم بشرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 221).
    8.  "الأدب النبوي" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 18).
    9.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 486).
    10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 48).
    11.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 509).
    12.  "مجموع الفتاوى" (3/ 216).
    13.  "مجموع الفتاوى" (7/ 616).النقول

    غريب الحديث:

    حَرَج: إثْم أو ضِيق.

    فليتبوَّأ: من التَّبَوُّء، وهو اتِّخاذ الْمَنْزِل.

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، عن النَّبِيِّ ﷺ، أنه قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»؛ أي: بلِّغوا عني ولو آيةً من كتاب الله، وبلِّغوا الناسَ بما أَقُول، وبما أَفعَل، وبجميع سنَّتي. «وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ»؛ أي: عن أحوالهم، وعمَّا وَقَع لهم من أحداث، «وَلا حَرَجَ»؛ أي: ولا إثم أو ضِيق.

    قوله ﷺ: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ أي: من نَسَب إلى الرسول ﷺ شيئًا لم يَقْلُه، وكَذَب عليه متعمِّدًا، يَعلَم أنه كاذبٌ، فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار.

    الشرح المفصَّل للحديث:

    إن تبليغَ شرائع الدين، والدعوة إلى الله تعالى، هي أشرفُ الأعمال وأعظمها، وهي مَهمَّة الأنبياء والرسل - عليهم السلام - ومن أكبر النِّعَم على المرء أن يحظى بشرف تبليغ دين الله، والدعوة إليه تعالى، ويكفي شرفًا مَن يبلِّغ ما جاء به المصطفى ﷺ أنه يدخل في قوله تعالى:

    {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}ﱠ

    [فصلت: 33]

    وهذا استفهام تقريريٌّ؛ أي: لا أحدَ أحسنُ قولًا ممن دعا إلى الله مع العمل الصالح الذي يُصدِّق قوله، ومع استسلامه لله تعالى منكِرًا ذاته، فتصبح دعوته خالصةً لله تعالى، ليس له فيها إلا التبليغ.

    إن الدعوة إلى الله تعالى تكليف لكلِّ المسلمين، كلٌّ حسب طاقته ومَقدِرته؛ فقد أمرهم الله أن يَدْعوا إليه، ويكفي الداعيةَ شرفًا وجزاءً وكرمًا من الله أن يكون من المفلِحين

    قال تعالى:

    {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

    [آل عمران: 104]

    "والمقصودُ من هذه الآية أن تكون فِرْقةٌ من الأمَّة مُتَصدِّيَةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كُلِّ فرد من الأُمَّة بحَسَبِه"[1].

    وفي هذا الحديث يقول النبيُّ ﷺ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً»؛ أي: بلِّغوا الناسَ عني ولو آيةً من كتاب الله، وبلِّغوهم بجميع سنَّتِي، و(لو) هنا للتقليل؛ فلا يقول الإنسان: أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنتُ عالِمًا كبيرًا؛ بل يبلِّغ ولو آيةً، بشرط أن يكون قد عَلِمها، وأنها من كلام الرسول ﷺ.

    وهذا توجيهٌ إلى أن الدعوة إلى الله تعالى من أيسر الأمور، فيُمكِنك ممارستُها في كلِّ أحوالك؛ فليس شرطًا أن يقوم بها العلماء، أو المختصُّون، أو الْمُدرَّبون، أو مَن وظيفتُهم الدعوة؛ بل يَسهُل أن يقوم بها كلُّ مسلم، حتى لو نَشَر آيةً، أو حديثًا، أو ذِكرًا، فيؤجَر على ذلك.

    فيأمر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث المسلمَ بتبليغ ولو آيةً واحدة؛ حتى يُسارع كلُّ مسلم إلى تبليغ ما بَلَغه من الشرع مهما قلَّ، وحتمًا سيَصِل كلُّ ما جاء به ﷺ إذا فَعَل كلُّ مسلم ذلك.

    وقد "قال: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصَونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديثُ الذي لا شيء فيه مما ذُكِر أَوْلى"[2].

    إن الدعوةَ إلى الله تعالى هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رُسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أَمَروا، وهي البَلاغ والإنذار؛ تبليغُ الناس رسالة الإسلام، ودعوتهم إلى الإيمان بالله وحده، وإخلاص العبادة له، وإنذارُ المنحرفين عن دينه بأن لهم عذابًا أليمًا؛ فبالدعوة تستقيم أمور الخَلق وتصلح مَعايشُهم، ويتوجَّه المذنِب إلى التوبة، والعاصي إلى الطاعة، والكافرُ إلى الإسلام، وبالدعوة يكون المسلم في رحاب رضوان الله تعالى.

    وإن كانت الدعوةُ واجبةً على كلِّ مسلم، ويَسهُلُ القيام بها بمجرَّد تبليغ ما يَعلَمه مهما قلَّ، فإنه لا بدَّ للدعوة إلى الله تعالى من داعية يمتثل وجوبها، ويَعرِف شرفَها، فيحمل همَّ دعوته، ويعرف ماهيَّتها وغايتها، والمطلوبَ منه في طريق الدعوة، وما يجب عليه من التحلِّي بالأخلاق الحسنة والشِّيم الكريمة؛ فإنه كالسراج المنير يمحو ظلماتِ الكفر والضلال والمعاصي.

    وإذا كانت الدعوةُ هي إخبارَ الناس بدينهم، وهذا لا يكون إلا بعلم وتثبُّت وحُجَّة مقنِعة، كان لا بدَّ أن تكون هناك علومٌ تُعين الداعية على إبلاغ الرسالة للناس، علومٌ دينية ودنيوية تؤهِّل الداعية، وتُنير له صراط دعوة الناس إلى ربهم؛ أي: إن الدعوة هي نداء الناس، وحثُّهم على الدخول في دين الله تعالى بكل وسيلة ممكِنة، والارتقاء بالدعاة، ورفع مستواهم العلميِّ والأخلاقيِّ، ويَكفيهم بِشارة النبيِّ ﷺ لهم إذ يقول: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ، وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ، حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الحُوتَ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْر»[3]. 

    وقد ذكر الله تعالى كيفية الدعوة في قوله تعالى:

    {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}

    [النحل: 125]

    "أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[4].

    وليس مقصودُ الحديث تبليغَ أيِّ شيء لأيِّ أحد؛ فالدعوة تحتاج إلى بصيرة

    كما قال تعالى:

    {قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}

    [يوسف: 108]

    بصيرة في كلِّ أمور الدعوة، ومنها مراعاةُ حال المدعوِّين ومستواهم العقليِّ، فما يُناسب شخصًا قد لا يُناسب آخَرَ، وما يَفهَمه أحدُ المدعوِّين قد لا يفهمه مدعوٌّ آخَرُ؛ قال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: "حَدِّثُوا النَّاسَ بما يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّون أن يُكذَّبَ اللَّهُ ورسولُه؟!"[5]. 

    وفي الآية "قول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثَّقَلين: الإنسِ والجنِّ، آمرًا له أن يُخبر النَّاس: أنَّ هذه سبيلُه؛ أي: طريقُه ومَسلَكُه وسنَّتُه، وهي الدَّعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك، ويَقِين وبُرْهان، هو وكلُّ من اتَّبَعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللّه ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان شرعيٍّ وعقليٍّ"[6].

    هذا وإن الغاية العظمى من الدعوة للإسلام ما قاله رِبْعِيُّ بْنُ عَامِرٍ: "اللَّهُ ابتَعَثَنا لنُخرِجَ مَن شاء من عبادة العباد إلى عبادة اللَّه، ومن ِضيق الدُّنيا إلى سَعَتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، فأَرسَلنا بدينه إلى خَلقِه لندعوَهم إليه"[7].

    فإن على العبد المؤمن أن يتحيَّن كلَّ فرصة سانحةٍ؛ لكي يسابق بالخيرات، ويزاحم الآخرين بالطاعات، ويدعو إلى ذلك، فينال أجره وأجورهم؛ فيكفي الداعيةَ جزاءً وأجرًا دخولُه في قوله ﷺ:

    «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»[8].

    وفي قوله ﷺ:

    «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ»[9].

    وفي قوله ﷺ:

    «فواللهِ، لَأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ»[10].

    قوله ﷺ: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؛ أي: لا ضِيقَ عليكم في الحديث عنهم؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجْرُ عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدِّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار.

    "وقوله: ولا حَرَج، قرينةٌ على أنه ليس بواجب، ولا هو للنَّدْبِ، وقال الكرمانيُّ: الأمر للإباحة؛ إذ لا وجوب ولا نَدْبَ فيه بالإجماع"[11].

    وقيل: المرادُ رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الشَّنيعة؛ نحوُ قولِهم:

    {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}

    [المائدة: 24]

    وقولهم:

    {اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

    [الأعراف: ١٣٨]

    وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما وَرَد في القرآن والحديث الصَّحيح.

    وقيل: المراد جواز التّحدُّثِ عنهم بأيِّ صورة وَقَعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التّحدُّث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإنَّ الأصل في التّحدُّث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك؛ لقُرب العهد.

    قال مالكٌ رحمه الله: الْمُراد جوازُ التحدُّث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَنٍ، أمَّا ما عُلِم كَذِبُه، فلا. وقال الشّافعيُّ رحمه الله: من المعلوم أنّ النّبيَّ ﷺ لا يُجيز التّحدُّث بالكذب؛ فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمَّا ما تجوِّزونه، فلا حرج عليكم في التّحدُّث به عنهم، وهو نَظِير قوله: «إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولم يُرِدِ الإذْنَ ولا المنع من التّحدُّث بما يَقطَع بصدقه [12].

    قوله ﷺ: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ أي: من نَسَب إلى الرسول ﷺ شيئًا لم يَقْلُه، وكَذَب عليه متعمِّدًا، يَعلَم أنه كاذبٌ، فليتبوَّأ مقعده من النار. والمراد بالأمر هنا الخَبَر؛ بمعنى: فقد تبوَّأ مقعده من النار؛ أي: فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار؛ لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس؛ الكَذِب على الرسول كَذِب على الله - عزَّ وجلَّ - ثم هو كَذِب على الشريعة؛ لأن ما يُخبِر به الرسول ﷺ من الوحيِ، هو من شريعة الله، وكذلك يُقال: الكَذِب على العالِم ليس كالكذب على عامَّة الناس؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلِّغون شريعة الله إرثًا لرسول الله ﷺ، فإذا كذبتَ عليهم، فقلت: قال العالم فلان كذا وكذا، وأنت تكذب، فهذا إثمُه عظيم؛ حيث إن بعضَ الناس إذا أراد أن يَكُفُّ الناسَ عن شيء، قال: قال العالم فلان: هذا حرامٌ. وهو يَكذِب؛ لأنه يعلم أن الناس، إذا نُسِب العلم إلى العالم فلان، قَبِلوه، فيَكذِب، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس[13].

    المراجع

    1. "تفسير ابن كثير" (2/ 91).
    2. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 665).
    3. رواه الترمذيُّ (2685)، وقال: هذا حديثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
    4. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 444).
    5. رواه البخاريُّ (127).
    6. "تفسير ابن كثير" (4/ 422).
    7. "البداية والنهاية" لابن كثير (7/ 39).
    8. رواه مسلم (2674).
    9. رواه مسلم (1893).
    10. رواه البخاريُّ (2942)، ومسلم (2406).
    11. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 46).
    12. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498، 499).
    13. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).


    النقول:

    قال ابن عثيمين رحمه الله: "«بلِّغوا عني ولو آية»: «بلِّغوا عني»؛ يعني: بلِّغوا الناس بما أَقُول، وبما أَفعَل، وبجميع سنَّتِه - عليه الصلاة والسلام - بلِّغوا عني ولو آيةً من كتاب الله، و(لو) هنا للتقليل؛ يعني لا يقول الإنسان: أنا لا أبلِّغ إلا إذا كنتُ عالِمًا كبيرًا؛ لا، إنما يبلِّغ الإنسان ولو آيةً، بشرط أن يكون قد عَلِمها، وأنها من كلام الرسول ﷺ؛ ولهذا قال في آخر الحديث: «ومن كَذَب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النار»، من كَذَب على الرسول متعمِّدًا يَعلَم أنه كاذبٌ، فليتبوَّأ مقعده من النار. هنا اللام للأمر؛ لكن المراد بالأمر هنا الخَبَر؛ يعني: فقد تبوَّأ مقعده من النار، والعياذ بالله؛ أي: فقد استحقَّ أن يكون من ساكني النار؛ لأن الكذب على الرسول ليس كالكذب على واحد من الناس؛ الكَذِب على الرسول كَذِب على الله - عزَّ وجلَّ - ثم هو كَذِب على الشريعة؛ لأن ما يُخبِر به الرسول ﷺ من الوحيِ، هو من شريعة الله، وكذلك يُقال: الكَذِب على العالم ليس كالكذب على عامَّة الناس؛ يعني مثلًا تقول: فلان كذا، وكذا قال: هذا حرامٌ، هذا حلالٌ، هذا واجبٌ، هذا سنَّة، وأنت تكذب، هذا أيضًا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء يبلِّغون شريعة الله إرثًا لرسول الله ﷺ، فإذا كذبتَ عليهم؛ إذ قال العالم فلان كذا وكذا، وأنت تكذب، فهذا إثمُه عظيم، نسأل الله العافية. بعضُ الناس - والعياذ بالله - إذا اشتهى شيئًا، يَكُفُّ الناسَ عنه، قال: قال العالم فلان: هذا حرامٌ. هو يَكذِب؛ لكن يَعرِف أن الناس إذا نُسِب العلم إلى فلان قَبِلوه، فيَكذِب، وهذا أشدُّ من الكذب على عامَّة الناس"[1].

    قال ابن حجر رحمه الله: "الآيةُ في اللُّغة تُطلَق على ثلاثةِ مَعانٍ: العلامة الفاصلة، والأُعجوبة الحاصلة، والبليَّة النَّازلة؛ فمن الأوَّل:

    قوله تعالى:

    {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}

    [مريم: ١٠]

    ومن الثّاني: (إن في ذلك لآيةً)، ومن الثّالث: جَعَل الأميرُ فلانًا اليومَ آيةً، ويَجمَع بين هذه المعاني الثّلاثة أنّه قيل لها: آيةٌ؛ لدلالتها وفصلها وإبانتها، وقال في الحديث: «ولو آيةً»؛ أي: واحدةً؛ ليُسارع كلُّ سامع إلى تبليغ ما وقع له من الآيِ ولو قَلَّ؛ ليتَّصِل بذلك نقلُ جميع ما جاء به ﷺ"[2].

    قال البيضاويُّ رحمه الله: "قال: «ولو آيةً»، ولم يقل: ولو حديثًا؛ لأنَّ الأمر بتبليغ الحديث يُفهَم من هذا بطريق الأَوْلَوية؛ فإنَّ الآياتِ مع انتشارها وكثرة حَمَلتها، وتكفُّل الله سبحانه بحفظها، وصونها عن الضياع والتحريف، إذا كانت واجبةَ التبليغ، فالحديث الذي لا شيء فيه مما ذُكر أَوْلى"[3].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»؛ أي: لا ضِيقَ عليكم في الحديث عنهم؛ لأنّه كان تَقدَّم منه ﷺ الزَّجر عن الأخذ عنهم، والنَّظَر في كُتبهم، ثمَّ حَصَل التّوسُّع في ذلك، وكأنَّ النّهيَ وقع قبل استقرار الأحكام الإسلامية، والقواعد الدّينية؛ خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمّا زال المحذور، وقع الإذن في ذلك؛ لِما في سماع الأخبار التي كانت في زمانهم من الاعتبار. وقيل: معنى قوله: «لا حرج»: لا تَضِيق صدوركم بما تسمعونه عنهم من الأعاجيب؛ فإنّ ذلك وَقَع لهم كثيرًا. وقيل: لا حرج في أن لا تحدِّثوا عنهم؛ لأنّ قوله أوّلًا: حدِّثوا، صيغة أمر تقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وأنّ الأمر فيه للإباحة بقوله: «ولا حرج»؛ أي: في ترك التَّحديث عنهم. وقيل: المرادُ رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الشَّنيعة؛ نحوُ قولِهم:

    {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} 

    [المائدة: 24]

    وقولهم:

    {اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

    [الأعراف: ١٣٨]

    وقيل: المراد ببني إسرائيل أولادُ إسرائيلَ نفسِه، وهم أولادُ يعقوبَ، والمرادُ: حدِّثوا عنهم بقصَّتهم مع أخيهم يوسفَ، وهذا أبعدُ الأوجهِ، وقال مالكٌ: الْمُراد جوازُ التحدُّث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَنٍ، أمَّا ما عُلِم كَذِبُه، فلا، وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم بمثل ما وَرَد في القرآن والحديث الصَّحيح، وقيل: المراد جواز التّحدُّث عنهم بأيِّ صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التّحدُّث عنهم بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإنَّ الأصل في التّحدُّث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك؛ لقُرب العهد، وقال الشّافعيُّ: من المعلوم أنّ النّبيَّ ﷺ لا يُجيز التّحدُّث بالكذب؛ فالمعنى: حدِّثوا عن بني إسرائيل بما لا تعلمون كَذِبَه، وأمَّا ما تجوِّزونه، فلا حرج عليكم في التّحدُّث به عنهم، وهو نَظِير قوله: «إذا حدَّثكم أهلُ الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم»، ولم يُرِدِ الإذْنَ ولا المنع من التّحدُّث بما يَقطَع بصدقه"[4].

    قال العينيُّ رحمه الله: "قولُه: «وحدِّثوا عن بني إسرائيل» يعني: ممَّا وقع لهم من الأمور العجيبة والغريبة، وقيل: المراد ببني إسرائيل أولاد إسرائيلَ نفسِه، وهم أولاد يعقوب، والمراد: حدِّثوا عنهم بقصَّتهم مع أخيهم يوسف، وهذا بعيدٌ وفيه تضييق. وقال مالكٌ: المراد جواز التحديث عنهم بما كان من أمرٍ حَسَن، وأما ما عُلِم كَذِبُه فلا. وقيل: المعنى: حدِّثوا عنهم مثلَ ما وَرَد في القرآن والحديث الصّحيح، وقيل: المراد جواز التحدُّث عنهم بأيِّ صورة وقعت من انقطاع أو بلاغ؛ لتعذُّر الاتِّصال في التحديث عنهم، بخلاف الأحكام الإسلامية؛ فإن الأصل في التحديث بها الاتِّصال، ولا يتعذَّر ذلك لقُرب العهد. قولُه: «ولا حرج»؛ أي: ولا ِضيق عليكم في الحديث عنهم، وإنّما قال: ولا حرج؛ لأنَّه كان قد تَقدَّم منه ﷺ الزَّجر عن الأخذ عنهم والنَّظر في كتبهم، ثمَّ حصل التّوسُّع في ذلك، وكان النّهيُ قبل استقرار الأحكام الشّرعيّة والقواعد الدّينيّة خشيةَ الفتنة، ثمَّ لَمَّا زال المحذور، وَقَع الإذن في ذلك؛ لِما في ذلك من الاعتبار عند سماع الأخبار التي وقعت في زمانهم. وقيل: لا حرج؛ أي: لا تَضِيق صدوركم بما سمعتموه عنهم من الأعاجيب؛ فإن ذلك وقع لهم كثيرًا. وقيل: لا حَرَج في أن لا تحدِّثوا عنهم؛ لأن قوله أولًا: حدِّثوا، صيغة أمر يقتضي الوجوب، فأشار إلى عدم الوجوب، وإن الأمر فيه للإباحة، بقوله: ولا حرج؛ أي: في ترك التحديث عنهم. وقيل: الْمُراد رفعُ الحرج عن حاكي ذلك؛ لِما في أخبارهم من الألفاظ الْمُسْتَبْشَعة؛ نحو قولهم:

    {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ}

    [المائدة: 24]

    وقولهم:

    {اجْعَلْ لَنَا إِلَٰهًا}

    [الأعراف: ١٣٨]

    قولُه: صيغة أمر يقتضي الوجوب. ليس ذلك على إطلاقه؛ وإنّما الأمر إنّما يقتضي الوجوبَ بصيغته إذا تجرَّد عن القرائن، وهنا قوله: ولا حرج، قرينةٌ على أنه ليس بواجب، ولا هو للنَّدْبِ، وقال الكرمانيُّ: الأمر للإباحة؛ إذ لا وجوب ولا نَدْبَ فيه بالإجماع"[5].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ومن كذَّب عليَّ متعمِّدًا»: قد اتَّفق العلماء على تغليظ الكَذِب على رسول اللّه ﷺ وأنّه من الكبائر، حتّى بالَغ الشَّيخ أبو محمَّد الجُوَينيُّ فحَكَم بكُفر من وقع منه ذلك، وكلامُ القاضي أبي بكرِ بنِ العربيِّ يَميل إليه، وجَهِل من قال من الكرَّاميَّة وبعض المتزهِّدة أنَّ الكذب على النّبيِّ ﷺ يجوز فيما يتعلَّق بتقوية أمر الدِّين، وطريقة أهل السّنَّة والتّرغيب والتّرهيب، واعتَلُّوا بأنّ الوعيد ورَدَ في حقِّ من كَذَب عليه، لا في الكَذِب له، وهو اعتلال باطل؛ لأنّ المراد بالوعيد مَن نَقَل عنه الكَذِب، سواءٌ كان له أو عليه، والدِّين بحمد اللّه كاملٌ غير محتاج إلى تقويته بالكذب"[6].

     قال العينيُّ رحمه الله: "قوله: «ومن كَذَب عليَّ» إلى آخره، قد مرَّ نحوُه في كتاب العلم في: باب إثم من كذب على النّبيِّ ﷺ، فإن البخاريَّ روى في هذا الباب عن خمسة من الصَّحابة، وهم: عليُّ بنُ أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، والزُّبير بنُ العوَّام، وأنسُ بنُ مالكٍ، وسَلَمةُ بنُ الأكوع، وأبو هريرة. وروى أيضًا في الجنائز في: باب ما يُكرَه من النِّياحة. عن المغيرة، وروى أيضًا ههنا عن عبد الله بن عمرو. قوله: «فليتبوَّأ» بكسر اللّام هو الأصل، وبالسُّكون هو المشهور، وهو أمر من التَّبوُّء، وهو اتِّخاذ المباءة؛ أي: المنزل. وقال الجوهريُّ: تبوَّأتُ منزلًا؛ أي: نَزَلته"[7].

    قال ابن كثير رحمه الله: "والمقصودُ من هذه الآية أن تكون فِرْقة من الأمَّة مُتَصدِّيَةً لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبًا على كُلِّ فرد من الأُمَّة بحَسَبِه"[8].

    قال ابن تيمية رحمه الله: "الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أَمَروا"[9]. 

    قال ابن القيِّم رحمه الله: "أَطلَق الحِكْمةَ ولم يقيِّدْها بوصف الحَسَنة؛ إذ كلُّها حَسَنةٌ، ووصفُ الحُسْن لها ذاتيٌّ، وأمَّا الموعظة، فقيَّدها بوصف الإحسان؛ إذ ليس كلُّ موعظة حسنةً، وكذلك الجَدَلُ، قد يكون بالتي هي أحسن، وقد يكون بغير ذلك"[10].

    قال ابن كثير رحمه الله: "قول الله تعالى لعبده ورسوله إلى الثَّقَلين: الإنسِ والجنِّ، آمرًا له أن يخبر النَّاس: أنَّ هذه سبيله؛ أي: طريقُه ومسلكه وسنَّتُه، وهي الدَّعوة إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، يدعو إلى اللّه بها على بصيرة من ذلك، ويَقِين وبُرْهان، هو وكلُّ من اتَّبَعه، يدعو إلى ما دعا إليه رسول اللّه ﷺ على بصيرة ويقين وبرهان شرعيٍّ وعقليٍّ"[11].

    المراجع

    1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 431).
    2. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498).
    3. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 665).
    4. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 498، 499).
    5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 45، 46).
    6. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 499).
    7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (16/ 46).
    8. "تفسير ابن كثير" (2/ 91).
    9. "مجموع الفتاوى" (15/ 157).
    10. "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 444). 
    11. "تفسير ابن كثير" (4/ 422).


    غريب الحديث:

    نضَّر الله: أصلُ النضارة: حُسنُ الوجه والبريق فيه، والمعنى: نعَّم الله وجمَّل وحسَّن[1].

    المراجع

    1. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 71): "نَضَرَهُ ونَضَّرَهُ وأَنْضَرَهُ؛ أي: نعَّمه. ويُرْوى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل: حُسن الوجه، والبريقُ، وإنما أراد حُسن خُلقه وقدره".


    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي زيدُ بنُ ثابتٍ، أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: «نضَّر اللهُ امرأً سَمِعَ منَّا حديثًا، فحفِظَه حتى يُبلِّغَه»؛ أي: جعله الله ذا نضارة وجمال وحُسن؛ لحرصه على حفظ حديثه ﷺ وتبليغه للناس. «فرُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ ليس بفقيهٍ»؛ أي: فربما كان حافظُ الحديث ليس بفقيهٍ، وربما يوصِله إلى من هو أفقهُ منه، لذا؛ بحرص حفَّاظ الحديث على التبليغ والأداء، سيصل الحديث حتمًا إلى الأفقه القادر على استنباط المعاني والأحكام.

    الشرح المفصَّل للحديث:

    إن أقوال رسول الله ﷺ وأفعاله هي وحيٌ من الله - عزَّ وجلَّ - أوْحاه الله إليه؛ ليهتديَ به البشرُ، فتستقيمَ لهم حياتهم وأُخراهم، وقد حثَّ النبيُّ ﷺ أصحابَه ومَن بعدَهم على الحفظ والبلاغ عنه ﷺ؛ لينتشر دين الله عزَّ وجلَّ، وليبقى الخير في الناس إلى يوم الدين، ووعَد مَن يفعل ذلك حُسنَ الجزاء في الدارينِ.

    وفي هذا الحديث يدعو رسول الله ﷺ أمَّتَه إلى نشر العلم عنه، ويُرغِّبهم في ذلك، فيقول ﷺ: «نضَّر اللهُ امرأً سَمعَ منا حديثًا، فحفِظه حتى يُبلِّغَه»، والتعبير هنا جاء عن طريق الدعاء بصيغة الماضي، "والذي يُشعرُ بتأكيد وقوع الطلب وتحقُّقه، كما لو كان قد حصل المطلوب فِعلًا عند الدعاء، وذلك أدْعى لدقَّة التبليغ، والحرص عليه"[1]، وقيل: قوله ﷺ: «نضَّر اللهُ امرأً» هو إخبارٌ وليس دعاءً، يعني: جعله اللهُ ذا نَضْرةٍ[2]، وجاء قوله ﷺ: «امرأً» بصيغة النكرة؛ ليفيدَ العموم، والمعنى: كساه الله الحُسنَ والجمالَ والبهاءَ ورِفعةَ القَدْر، وخصَّ بها كلَّ إنسان، سواءٌ أكان من الصحابة، أو من بعدهم عبر الزمان، وسواءٌ أكان من الرجال أو النساء، يَسمعُ منه ﷺ  أو ممَّن يَرْوي عن النبي ﷺ حديثًا ويحفظُه ويُبلِّغه كما سَمِعه.

    وقوله ﷺ: «فحفِظه حتى يُبلِّغَه»، الحفظ هو الاستيعابُ بالعقل والقلب، وقد يكون بالكتابة، وكلاهما يَشمَله الحديثُ[3]، وفي رواية عن عبد الله بن مسعود: «فبلَّغه كما سَمِعَ»[4]، وفيه إشارةٌ لإتقان السماع والحفظ، والأمانة في النقل، "ولا يضرُّ في ذلك الرواية بالمعنى، وذلك للعارف بمؤدَّى الألفاظ والمراد بها، ويُحتمَل أن تختصَّ الدعوةُ بمَن أدَّى باللفظ؛ لِما فيه من مزيد الاعتناء والتوجُّه، حتى حفظ لفظه واستحضره"[5]، وقد توعَّد النبيُّ ﷺ مَن زاد في كلامه ﷺ ما ليس فيه، أو انتقص منه ما هو فيه، عامدًا متعمدًا - سوءَ العاقبة من الله عزَّ وجلَّ؛ فعن أبي هريرةَ

    عن النبيِّ ﷺ قال:

    «مَن كذَب عليَّ متعمِّدًا، فليتبوَّأْ مقعدَه من النار»[6]. 

    وقوله: «فرُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقهُ منه، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ ليس بفقيهٍ»، كلمة (رُبَّ) تُستعمل للتقليل والتكثير، والمعنى: أن كثيرًا - أو قليلًا - ما يكون الراوي حاملُ العلم فَقيهًا، يعني: عالِمًا فاهمًا، فيحفظه ويُبلِّغُه إلى من هو أكثرُ فِقهًا منه، فيستنبط منه المعانيَ والأحكام، ويولِّد منه من العلوم والأسرار، ما لا يَفهمه ولا يستطيعه الحامل المبلِّغُ، أو أدَّاه وبلَّغه إلى مَن يَصير أفقهَ منه. وأحيانًا - قلَّ ذلك أو كثُر - ما يكون الناقل للخبر ليس عالِمًا أو فقيهًا؛ ولكنه قادرٌ على الحفظ والنقل، فيحفظ، وينقُل العلم إلى غيره من العلماء والفقهاء ممن منَحَهم الله القدرةَ على الفَهْم والاستنباط، فالفقهُ ليس شرطًا في راوي الحديث؛ وإنما شرطه الحفظُ وسلامةُ النقل، وعلى الفقيه التفهُّم والتدبُّر[7].

    وقوله ﷺ: «فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه»، تنبيهٌ على فائدة التبليغ، وأن المبلَّغ قد يكون أفهمَ من المبلِّغ، فيحصُل له في تلك المقالة ما لم يحصُل للمبلِّغ، أو يكون المعنى: أن المبلَّغ قد يكون أفقهَ من المبلِّغ، فإذا سَمع تلك المقالةَ حمَلها على أحسن وجوهها، واستنبط فِقهها، وعلِم المراد منها[8].

    ولا يقلِّل قوله ﷺ: «فرُبَّ حاملِ فِقه إلى مَن هو أفقهُ منه» مِن قَدْر الناقل ومكانته؛ فقد يكون في التابعين مَن يمتاز على بعض الصحابة، بكونه أفقهَ منه، وأفهمَ منه فيما بلَّغه له عنه ﷺ، وكذا فيمَن بعدهم، ولا بِدَع في ذلك؛ فإنه قد يكون في المفضول مزايا لا تكون في الفاضل، ولا شكَّ أن مَن جمعَ بين الحفظ والبلاغ والفقه قد حاز الفضلَ كلَّه، وهذا عطاءُ الله عزَّ وجلَّ، وفضلٌ يمنحه مَن يشاء

    كما قال ﷺ:

    «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»[9].

    المراجع

    1. "كنوز رياض الصالحين"، مجموعة باحثين برئاسة: حمد بن ناصر العمار (16/ 496).
    2. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 306).
    3. انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوي (7/ 347).
    4. رواه الترمذيُّ (2657).
    5. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد بن علان الصديقي (7/ 182).
    6. رواه البخاريُّ (1291)، ومسلم (3).
    7. انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوي (7/ 348).
    8. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 72).
    9. رواه البخاريُّ (71)، ومسلم (1037).


    النقول:

    قال ابن الأثير رحمه الله: "نَضَرَهُ ونَضَّرَهُ وأَنْضَرَهُ؛ أي: نعَّمه. ويُرْوى بالتخفيف والتشديد من النضارة، وهي في الأصل: حُسن الوجه، والبريقُ، وإنما أراد حُسن خُلقه وقَدْره"[1]

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وإنما خصَّ حافِظَ سُنَّته ومبلِّغها بهذا الدعاء؛ لأنه سعى في نضارة العلم، وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يُناسب حاله في المعاملة"[2].

    قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "قال الشيخ: قوله: «نضَّر الله» معناه: الدعاء له بالنضارة، وهي النعمة والبهجة. يقال: بتخفيف الضاد وتثقيلها، وأجودُهما التخفيف. وفي قوله: «رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» دليلٌ على كراهة اختصار الحديث لمن ليس بالمتناهي في الفقه؛ لأنه إذا فعل ذلك، فقد قطع طريق الاستنباط والاستدلال لمعاني الكلام من طريق التفهُّم، وفي ضمنه وجوب التفقُّه والحثِّ على استنباط معاني الحديث، واستخراج المكنون من سرِّه"[3].

    قال ابن تيمية رحمه الله: "وفي هذا دعاءٌ منه لمن بلَّغ حديثه وإن لم يكن فقيهًا، ودعاء لمن بلَّغه وإن كان المستمع أفقهَ من المبلِّغ؛ لِما أُعطي المبلِّغون من النُّضرة؛ ولهذا قال سفيانُ بنُ عُيينةَ: لا تجد أحدًا من أهل الحديث إلّا وفي وجهه نَضرة؛ لدعوة النّبيِّ ﷺ. يقال: نَضَر ونَضُر، والفتح أفصح. ولم يزل أهل العلم في القديم والحديث يعظِّمون نَقَلة الحديث حتّى قال الشّافعيُّ رضي اللّه عنه: إذا رأيتُ رجلًا من أهل الحديث فكأنّي رأيتُ رجلًا من أصحاب النّبيِّ ﷺ وإنّما قال الشّافعيُّ هذا؛ لأنّهم في مقام الصّحابة من تبليغ حديث النّبيِّ ﷺ. وقال الشّافعيُّ أيضًا: أهل الحديث حفظوا؛ فلهم علينا الفضل؛ لأنّهم حفظوا لنا"[4].

    قال ابن القيم رحمه الله: "الْمرتبَة الرَّابِعَة تبليغه وبثُّه فِي الأمَّة ليحصل بِهِ ثَمَرَته ومقصوده، وَهُوَ بثُّه فِي الأمَّة، فَهُوَ بِمَنْزِلَة الْكَنْز المدفون فِي الأرض الَّذِي لَا يُنْفَق مِنْهُ، وَهُوَ معرَّض لذَهابه؛ فَإِن الْعلم مَا لم يُنْفَق مِنْهُ وَيُعلَّم، فَإِنَّهُ يُوشك أن يَذهَب، فَإِذا أُنفِق مِنْهُ، نما وزكا على الإنفاق... فَإِن النَّضْرة هِيَ الْبَهْجَة وَالْحُسن الَّذِي يُكساه الْوَجْهُ من آثَار الإيمان، وابتهاج الْبَاطِن بِهِ، وَفَرح الْقلب وسروره والتذاذه بِهِ، فتظهر هَذِه الْبَهْجَة وَالسُّرُور والفرحة نَضَارةً على الْوَجْه؛ وَلِهَذَا يجمع لَهُ سُبْحَانَهُ بَين الْبَهْجَة وَالسُّرُور والنضرة

    كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:

    {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} 

    [الإنسان: ١١]

    فالنضرةُ فِي وُجُوههم، وَالسُّرُور فِي قُلُوبهم؛ فالنعيم وَطيب الْقلب يَظْهَر نضارةً فِي الْوَجْه

    كَمَا قَالَ تَعَالَى:

    {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}

     [المطففين: ٢٤]

    والمقصود أن هذه النَّضرةَ في وجه من سَمِع سنَّة رسول الله، ووعاها، وحفظها، وبلَّغها؛ فهي أثر تلك الحلاوة والبهجة والسُّرور الّذي في قلبه وباطنه. وقوله: «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه» تنبيه على فائدة التّبليغ، وأن المبلَّغ قد يكون أفهمَ من المبلِّغ، فيحصل له في تلك المقالة ما لم يحصل للمبلِّغ، أو يكون المعنى أن المبلَّغ قد يكون أفقهَ من المبلِّغ، فإذا سمع تلك المقالة، حملها على أحسن وجوهها، واستنبط فِقهها، وعَلِم المراد منها"[5].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "والنضرة: الحُسن والرَّونق، والمعنى: خصَّه الله تعالى بالبهجة والسرور؛ لأنه سعى في نضارة العلم، وتجديد السُّنَّة، فجازاه في دعائه له بما يناسب حاله في المعاملة. وأيضًا فإن من حفظ ما سَمِعه وأدَّاه كما سمعه من غير تغيير، كأنه جعل المعنى غضًّا طريًّا، وخصَّ الفقه بالذكر دون العلم؛ إيذانًا بأنَّ الحامل غيرُ عارٍ عن العلم؛ إذ الفقهُ علم بدقائق العلوم المستنبَطة من الأقيسة، ولو قال: (غير عالم)، لَزِم جَهْله. وقوله: «ربّ» وُضِعت للتقليل، فاستُعيرت في الحديث للتكثير. وقوله: «إلى من هو أفقه منه» صفة لدخول (رُبَّ) استُغني بها عن جوابها؛ أي: رُبَّ حامل فقه أدَّاه إلى من هو أفقهُ منه لا يَفقَه ما يَفقَهه المحمول إليه[6].

    قال الملا علي القاري رحمه الله: "«نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا»: قال التُّورِبِشْتِيُّ: النَّضرة: الحُسن والرَّونق، يتعدَّى ولا يتعدَّى، ورُوي مخفَّفًا ومثقَّلًا.اهـ. وقال النّوويُّ: التّشديد أكثر، وقال الأبهريُّ: روى أبو عبيدة بالتّخفيف، وقال: هو لازم ومتعدٍّ، ورواه الأصمعيُّ بالتّشديد، وقال: المخفَّف لازمٌ والتّشديد للتَّعدية، وعلى الأوَّل للتّكثير والمبالغة. اهـ. والمعنى: خصَّه اللّه بالبهجة والسّرور لِما رُزق بعلمه ومعرفته من القدر والمنزلة بين النّاس في الدّنيا ونعمه في الآخرة، حتّى يرى عليه رَونق الرَّخاء والنِّعمة، ثمّ قيل: إنّه إخبار؛ يعني: جعله ذا نضرة، وقيل: دعاء له بالنّضرة، وهي البهجة والبهاء في الوجه من أثر النّعمة، وقيل: المراد هنا النَّضرة من حيث الجاهُ والقَدْر، كما جاء: اطلبوا الحوائج من حِسان الوجوه؛ أي: ذَوي الأقدار من النّاس؛ لأنّه جدَّد بحفظه ونقله طراوة الدّين، فجازاه في دعائه بما يُناسب عمله. قلت: لا مَنْعَ من الجميع، والإخبار أولى من الدّعاء، واللّه أعلم. قيل: وقد استجاب اللّه دعاءه؛ فلذلك تجد أهل الحديث أحسنَ النّاس وجهًا وأجملهم هيئةً. ورُوي عن سفيانَ بنِ عُيينةَ أنّه قال: ما من أحد يطلب الحديث إلّا وفي وجهه نضرة؛ أي: بهجة صوريّة أو معنويّة. «سمع مقالتي»؛ أي: حديثي. «فحفظها»؛ أي: بالقلب أو بالكتابة، وأَغرَب ابن حجر حيث قال: فحفظها بلسانه. «ووعاها»؛ أي: دام على حفظها ولم يَنسَها. قيل: بالتَّكرار والتِّذكار إذا حفظها لئلّا ينسى، وقيل: بالرّواية والتّبليغ، فيكون عطفًا. «وأدّاها»: عليه تفسيريًّا؛ أي: أوصلها إلى النّاس وعلمها، وفيه إشارة إلى الفُسحة في الأداء، حيث لم يوجبه معجَّلًا، وأغرب ابن الملك فقال: معنى حفظها؛ أي: عمل بموجبها؛ فإنّ الحفظ قد يُستعار للعمل

    قال تعالى:

    {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ}

    [التوبة: 112]

    أي: العاملون بفرائضه. اهـ. وفي المصابيح: «وأدّاها كما سمعها». وفي الأربعين: «سمع مقالتي فوعاها فأدَّاها كما سمعها»؛ أي: غضًّا طريًّا من غير تحريف وتغيير من زيادة ونقصان، أو من غير تغيير للفظها ولا معناها، فيكون تنبيهًا على الوجه الأكمل، فلا ينافي جواز الرّواية بالمعنى على ما عليه الجمهور، مع أنّ التّشبيه يلائم هذا المعنى؛ لأنّ المثليّة تارةً تكون بحسب اللّفظ والمعنى، والمدار على المعاني الأصليّة دون المحسِّنات اللّفظيّة، لا سيَّما عند الضّرورة حيث نَسِي اللّفظ بخصوصه وتذكَّر المعنى بعمومه، فلو لم يعبِّر عنه بلفظ آخر، فات المقصود الأصليُّ؛ لأنّ ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترَك كلُّه، ومحلُّ بسط هذه المسائل علم أصول الحديث. «فربَّ»: استُعيرت للتّكثير، وقيل: استعماله فيه حقيقة أيضًا. «حامل فقه»؛ أي: علم. «غير فقيه»: بالجرّ صفة حامل، وقيل: بالرّفع، فتقديره هو غيرُ فقيه، يعني: لكن يحصل له الثّواب لنفعه بالنّقل. «وربّ حامل فقه»: قد يكون فقيهًا ولا يكون أفقهَ، فيحفظه ويبلّغه «إلى من هو أفقه منه»: فيستنبط منه ما لا يفهمه الحامل، أو إلى من يصير أفقه منه إشارةً إلى فائدة النّقل والدّاعي إليه"[7].

    قال السنديُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ» بمنزلة التّعليل؛ لِما يُفهَم من الحديث أنّ التّبليغ مطلوب، والمراد بحامل الفقه حافظُ الأدلَّة الّتي يُستنبَط منها الفقه. «غير فقيه»؛ أي: غير قادر على استنباط الفقه من تلك الأدلّة. «إلى من هو أفقه»؛ أي: هو فقيه أيضًا؛ لكنّه يَحمِل الفقه إلى أفقهَ منه، بأن كان الّذي يسمع منه أفقهَ منه وأقدر على استنباطه[8].

    قال ابن القيم رحمه الله: "وقوله ﷺ: «فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه»، تنبيهٌ على فائدة التبليغ، وأن المبلَّغ قد يكون أفهمَ من المبلِّغ، فيحصُل له في تلك المقالة ما لم يحصُل للمبلِّغ، أو يكون المعنى: أن المبلَّغ قد يكون أفقهَ من المبلِّغ، فإذا سَمع تلك المقالةَ حمَلها على أحسن وجوهها، واستنبط فِقهها وعلِم المراد منها"[9].

    المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 71).
    2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 683).
    3. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 187).
    4. "مجموع الفتاوى" (1/ 11).
    5. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 72).
    6. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 4).
    7. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 306).
    8. "حاشية السِّنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 102).
    9. "مفتاح دار السعادة" ابن القيم (1/ 72).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي جابرُ بنُ عبد الله – رضي الله عنه –  عن خطبة رسول الله ﷺ في الحجِّ يوم عَرَفةَ أنه قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»؛ أي: إنَّ سَفْكَ دمائِكم، وأَخْذَ أموالِكم بغيرِ حقٍّ حرامٌ عليكم، «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا»؛ أي: مُتأكِّدةُ التَّحريمِ كحُرمةِ يومِ عرَفةَ، «فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»؛ أي: ذي الحِجَّةِ، «فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»؛ أي: مكَّةَ المكرَّمة. «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»؛ أي: ما ابتدعوه وأَحدَثُوه، والشَّرائعُ الَّتي شرَعوها في الحجِّ وغيرِه قبل الإسلام، «تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»؛ أي: مردودٌ وباطلٌ، «وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ»؛ أي: متروكةٌ، لا قِصاصَ فيها، ولا دِيَةَ، ولا كفَّارةَ، «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ»؛ أي: أُبْطِلُه وأترُكُه «مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ»؛ أي: ابنِ عبدِ الْمُطَّلبِ، «كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ»، وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يَحُبو بين البُيوت، فأصابه حجَرٌ في حربِ بني سعدٍ مع قبيلةِ هُذَيلٍ، فقتلَتْه قبيلةُ هُذَيلٍ. «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ»؛ أي: الزائدُ على رأسِ المالِ متروك ومردودٌ، «وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»؛ أي: أوَّلُ ربًا أردُّه كلَّه هو رِبَانا، رِبَا عبَّاسِ بنِ عبد المُطَّلبِ. «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ»، بإنصافِهنَّ ومراعاةِ حقوقهنَّ؛ «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ»؛ أي: بعَهْدِه، «وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»؛ أي: أن استحلالَكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن، «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ»؛ أي: ولكم عليهنَّ: ألَّا يُدخِلْنَ بيوتَكم أحدًا تكرَهون دُخولَه في بيوتِكم، «فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»؛ أي: فإن فعَلْنَ ذلك بدونِ رِضاكم، فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ شديد، «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»؛ أي: ولهنَّ عليكم النَّفقةُ مِن الْمَأكَل والْمَشرَب، والسُّكْنى والْمَلْبَسِ، على قدْرِ كفايتِهنَّ، مِن غيرِ سرَفٍ ولا تقتيرٍ، أو باعتبارِ حالِكم فقرًا وغنًى.

    «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»؛ أي: وقد ترَكْتُ فيكم الذي لن تَضِلُّوا بعد تركي إيَّاه فيكم، أو بعد التَّمسُّكِ به والعمَلِ بما فيه، إن اعتصَمْتُم به في الاعتقادِ والعملِ، وهو القُرْآنُ الكريم، ولم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتمِلٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ. «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»؛ أي: ستُسألون عن تبليغي إياكم الرسالة وعَدمِه، فبأيِّ شيءٍ تُجيبون؟ (قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ)؛ أي: قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيْتَ الأمانةَ، ونصَحْتَ الأمَّةَ.

    (فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: فأشار بَسَّبابته يرفَعُها إلى السَّماءِ، ويَقْلِبُها ويردُّها إلى النَّاسِ، ويقولُ: «اللَّهمَّ اشهَدْ»؛ أي: على عبادِك، بأنَّهم أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغْتُ.


    الشرح المفصَّل للحديث

    إن النبيَّ كان حريصًا أيَّما حِرْصٍ على تبليغ رسالة ربِّه، ومن ثَمَّ كان حريصًا في حَجَّة الوداع أن يذكر كثيرًا من أحكام الإسلام، وأن يُشهِد المسلمين أنه بلَّغ رسالة ربِّه، وقد روى جابرُ بنُ عبدِ الله – رضي الله عنه – ما فعله الرسول في هذه الحَجَّة في حديث طويل، نذكر منه خُطبته يومَ عرفةَ، التي قال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»؛ أي: إنَّ سَفْكَ دمائِكم، وأَخْذَ أموالِكم بغيرِ حقٍّ حرام عليكم، «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا»؛ أي: مُتأكِّدةُ التَّحريمِ كحُرمةِ يومِ عرَفةَ، «فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»؛ أي: ذي الحِجَّةِ «فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»؛ أي: مكَّةَ المكرَّمة.

    "قوله: «إن دماءكم وأموالكم» أراد أموال بعضِكم على بعض، إنما ذَكَره مختصَرًا؛ اكتفاءً بعِلم المخاطَبين، حيث جعل «أموالكم» قرينة «دماءكم»، وإنما شبَّه ذلك في التحريم بيومِ عرفةَ، وبذي الحِجَّة، وبالبَلَد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرَّمةٌ أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحُرمة تلك الأشياء التي شبَّه بتحريمها الدماء والأموال. وهذا من تشبيه ما لم تَجْرِ به العادة بما جَرَت به العادة؛

    كما في قوله تعالى: 

     ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٌ﴾ 

      [الأعراف: ١٧١]

    كانوا يَستبِيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأَشهُر الحُرُم، ويحرِّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمة يومكم وشهركم وبلدكم" [1].

    وإن جريمة قتل المؤمن، ليست مجرَّد قتل بغير حقٍّ لنفس فحسبُ؛ ولكنها كذلك جريمة قتل للوَشِيجة العزيزة والرابطة الوُثقى التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته، وللعقيدة نفسها، ولقد توعَّد الله  القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الْمُقيم في نار جهنَّمَ يومَ القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه، فالقتلُ وسفك الدماء المعصومة جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها. لذا؛ توعَّد الله فاعلَها قائلًا:

    ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾

    [النساء: 93]

    وعن الأحنف بن قَيس، عن النَّبيِّ قال:

    «إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»

    [2]

    والقتلُ مِن أعظم الكبائر، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعُدوانًا؛

    قال تعالى:

    ﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا ۚ ﴾

    [المائدة: ٣٢]

    وقال النَّبِيُّ ﷺ:

    «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ...»

    الحديث [3]. وهو إزهاقُ النَّفس المعصومة بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان، «إلا بالحقِّ»؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو رِدَّةً.

    وعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ:

    «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»

    [4]

    أي: يُرجى أن يَغفِر الله أيَّ ذنب مهما كان كبيرًا، ويُستثنى من مغفرة الذنوب قتلُ المؤمن العمد، والكفرُ بالله تعالى، وإن كان القتلُ في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفره. 

    وكذلك حرَّم اللهُ تعالى أكلَ أموال الناس بالباطل،

    وقد قال رسول الله ﷺ:

    «كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»

    [5]

    وقال تعالى:

    ﴿وَلَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾

    [البقرة: ١٨٨].

    وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ:

    «أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِمَا رَزَقْنَٰكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»

    [6].

    قَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ رحمه الله: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام" [7]. وسُئل أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله: بمَ تَلين القلوب؟ ثم أطرَقَ ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: بأكل الحلال [8]. وقال وَهْب بن مُنبِّه رحمه الله: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه" [9].

    ثم قال ﷺ: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»؛ أي: ما ابتدعوه وأَحدَثُوه، والشَّرائعُ الَّتي شرَعوها في الحجِّ وغيرِه قبل الإسلام، «تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»؛ أي: مردودٌ وباطلٌ، «وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ»؛ أي: متروكةٌ، لا قِصاصَ فيها، ولا دِيَةَ، ولا كفَّارةَ، «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ»؛ أي: أضَعُه وأترُكُه «مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ»؛ أي: ابنِ عبدِ الْمُطَّلبِ، «كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ»؛ وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حجَرٌ في حربِ بني سعدٍ مع قبيلةِ هُذَيلٍ، فقتلَتْه قبيلةُ هُذَيلٍ.

    "ثم أَتبَعه بما يؤكِّده تعميمًا من قوله: «ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع»؛ أي: أبطلتُ ذلك، وتَجَافَيْتُ عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدميَّ. قولُه: «دم ابن ربيعة»: الجمهورُ: اسمُه إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِب، قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر. وربيعةُ بنُ الحارث صَحِب رسول الله ﷺ، وروى عنه، وكان أسنَّ من العبَّاس، توفِّي في خلافة عمرَ - رضي الله عنه - وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورِباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكنَ في قلوب السامعين، وأسدَّ لأبواب الطَّمَع في الترخيص. وقولُه: «من دمائنا»: أراد به أهل الإسلام، لا ذَوي القَرابة منه؛ أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحقُّ أهل الإسلام وِلايتها بأهل بيتي" [10].

    "قولُه ﷺ:

    «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أضع دَمُ ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سعد فقتلته هُذَيل، وربا الجاهلية موضوعة، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»

    في هذه الجملة إبطالُ أفعالِ الجاهليَّة وبُيوعها الَّتي لم يتَّصِل بها قَبْضٌ، وأنّه لا قصاصَ في قتلها، وأنّ الإمام وغيرَه ممّن يَأمُر بمعروف أو ينهى عن مُنكَر، ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهلِه؛ فهو أقربُ إلى قَبول قوله، وإلى طِيب نفسِ مَن قَرُب عهدُه بالإسلام. وأمّا قولُه ﷺ: «تحت قدميّ»، فإشارةٌ إلى إبطاله، وأمّا قوله ﷺ: «وإنّ أوّل دم أضع دم ابن ربيعة» فقال المحقِّقون والجمهور: اسم هذا الابن إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبد المطّلب، وقيل: اسمُه حارثة، وقيل: آدم. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وهو تصحيف، وقيل: اسمُه تمَّام، وممَّن سمَّاه (آدَم) الزُّبَير بنُ بكَّار. قال القاضي عياض: ورواه بعضُ رُواة مسلم: «دم ربيعة بن الحارث» قال: وكذا رواه أبو داود، قيل: هو وهمٌ، والصواب: (ابن ربيعة)؛ لأنّ ربيعة عاش بعد النّبيِّ ﷺ إلى زمن عمرَ بنِ الخطَّاب، وتأوَّله أبو عُبيد، فقال: (دم ربيعة)؛ لأنّه وَليُّ الدَّم، فنَسَبه إليه. قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر، قاله الزُّبيرُ بنُ بكَّار" [11].

    ثم قال ﷺ: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ»؛ أي: الزائدُ على رأسِ المالِ متروك ومردودٌ، «وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»؛ أي: أوَّلُ ربًا أردُّه كلَّه هو رِبَانا، رِبَا عبَّاسِ بنِ عبد المُطَّلبِ.

    "قولُه ﷺ في الرِّبا: «إنّه موضوعٌ كلُّه»؛ معناه: الزّائد على رأس المال؛ كما قال اللّه تعالى:

    ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمﱠ﴾

    [البقرة: ٢٧٩]،

    وهذا الّذي ذكرتُه إيضاحٌ، وإلَّا فالمقصود مفهومٌ من نفس لفظ الحديث؛ لأنّ الرّبا هو الزِّيادة، فإذا وُضِع الرِّبا، فمعناه: وَضْعُ الزّيادة، والمرادُ بالوضع الرَّدُّ والإبطال" [12].

    و"من تأمَّل أبوابَ الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

    ولذلك قال تعالى:

    ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ﴾

    [البقرة: 279]

    غضبًا على أهله" [13].

    وقد ذكر النَّبِيُّ ﷺ الربا من الموبقات في الحديث:

    «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَأَكْلُ الرِّبَا...»

    الحديث [14]. 

    «وأكل الربا»: هُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، وهو تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والأصلُ في معناه الزيادة، يقال: رَبا الشيء إذا زاد، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:

    ﴿يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾   

    [البقرة: 276]،

    وقال سبحانه:

    ﴿ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ فَمَن
    جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾

    [البقرة: 275].

    ثم قال ﷺ: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ»، بإنصافِهنَّ ومراعاةِ حقوقهنَّ؛ «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ»؛ أي: بعَهْدِه، «وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»؛ أي: أن استحلالَكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن، «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ»؛ أي: ولكم عليهنَّ: ألَّا يُدخِلْنَ بيوتَكم أحدًا تكرَهون دُخولَه في بيوتِكم، «فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»؛ أي: فإن فعَلْنَ ذلك بدونِ رِضاكم، فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ شديد.

    وهذا كقوله تعالى:

    ﴿وَٱلَّٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾

    [النساء: 34]

    فإذا تمرَّدت المرأة على زوجها، وعَصَت أمرَه، سَلَك معها طرق الوعظ، أو الهجر في المضجع، أو الضرب، ويُشترَط في الضرب أن يكون غيرَ مبرِّح؛ أي: غير مؤثِّر، بالسِّواك ونحوه؛ فليس الغرَضُ إيذاءَ المرأة ولا إهانتها؛ وإنما إشعارها بأنها مخطئة في حقِّ زوجها، وأن لزوجها الحقَّ في إصلاحها وتقويمها.

    «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»؛ أي: ولهنَّ عليكم النَّفقةُ مِن الْمَأكَل والْمَشرَب، والسُّكْنى والْمَلْبَسِ، على قدْرِ كفايتِهنَّ، مِن غيرِ سرَفٍ ولا تقتيرٍ، أو باعتبارِ حالِكم فقرًا وغنًى.

    "قوله ﷺ: «فاتّقوا اللّه في النّساء؛ فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللّه» فيه الحثُّ على مراعاة حقِّ النّساء، والوصيّة بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقوله ﷺ: «أخذتموهنّ بأمان اللّه» هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها: (بأمانة اللّه).

    قوله ﷺ:

    «واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه»،

    قيل: معناه:

    قوله تعالى:

    ﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾

    [البقرة: ٢٢٩]،

    وقيل: المراد: كلمة التّوحيد، وهي (لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه ﷺ)؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغَير مسلم، وقيل: المراد بإباحة اللّه والكلمة

    قولُه تعالى:

    ﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ

    [النساء: ٣]،

    وهذا الثّالث هو الصّحيح، وقيل: المراد بالكلمة الإيجابُ والقَبول، ومعناه على هذا: بالكلمة الّتي أمر اللّه تعالى بها، واللّه أعلم.

    قوله ﷺ: «ولكم عليهنّ أن لا يُوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرِّح»، قيل: المراد بذلك: أن لا يَسْتَخْلِين بالرِّجال، ولم يُرِد زِناها؛ لأنّ ذلك يوجِب إقامة الحدِّ عليها، ولأنّ ذلك حرامٌ مع من يَكرُهه الزّوج ومن لا يَكرُهه، وكانت عادةُ العرب حديثَ الرّجال مع النّساء، ولم يكن ذلك عَيْبًا ولا ريبةً عندهم، فلمَّا نزلت آية الحجاب، نُهوا عن ذلك. والمختارُ: أنّ معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواءٌ كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأةً أو أحدًا من محارم الزّوجة؛ فالنّهيُ يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء؛ أنّها لا يَحِلُّ لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا مَحْرَمٍ ولا غيره في دخول منزل الزّوج؛ إلّا من عَلِمتْ أو ظنَّت أنّ الزّوج لا يَكرَهه؛ لأنّ الأصل تحريمُ دخول منزل الإنسان حتّى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذْنِ في ذلك، أو عُرِف رضاه باطَّرِاد العُرْفِ بذلك، ونحوه، ومتى حصل الشَّكُّ في الرّضا، ولم يترجَّح شيءٌ، ولا وُجِدت قرينةٌ، لا يَحِلَّ الدّخولُ ولا الإذن، واللّه أعلم. وأما الضّرب المبرِّح فهو الضّرب الشّديد الشَّاقُّ، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاقٍّ، وفي هذا الحديث إباحةُ ضرب الرّجل امرأتَه للتّأديب، فإنْ ضَرَبها الضَّرْبَ المأذونَ فيه فماتت منه، وجبت دِيَتُها على عاقلة الضَّارب، ووجبت الكفَّارة في ماله.

    قوله ﷺ:

    «ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»

    فيه وجوب نَفَقة الزّوجة وكِسوتها، وذلك ثابتٌ بالإجماع" [15]

    "قوله: «فاتقوا الله في النساء» عطفٌ من حيث المعنى على قوله: «إن دماءكم وأموالكم»؛ يعني: فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء... قوله: «بأمان الله»؛ أي: بعهده، وهو ما عُهِد إليهم من الرِّفق بهن، والشَّفَقة عليهن. قوله: «بكلمة الله» المعنى: أن استحلالكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن.

    قوله: «غير مبرِّح» هو من برَّح به الشَّوق تبريحًا، إذا اشتدَّ عليه بحيث جَهده، وبُرَحَاء الوحيِ شدَّته. وفيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضَرَبها الضربَ المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدِّيَة على العاقلة، والكفَّارة على الضارب" [16].

    هذا وإنه منذ خلق الله الإنسان وهو يقوم بعمارة الأرض، مشاركةً بين الرجل والمرأة، كلٌّ منهما يقوم بدوره؛ فالله - سبحانه وتعالى - خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وجعل بينهما مودَّة ورحمة؛ حتى يعيش الجنس البشريُّ على طهارة ونقاء.

    فالمرأة هي عماد الأسرة والمجتمَع، وهي مصنع الحياة، منذ أن ينشأ الجنين في بطنها، وهي التي تصنع الحياة في بيتها، وهي التي تنظّم حياة الأسرة وترتّبها، والرجل له القَوامة؛

    قال الله تعالى:

    ﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ۚ

    [النساء: 34].

    فإن الصورة الطبيعية للمجتمع أن تتكوَّن لَبِناته من الأسرة، التي هي عبارة عن أب وأمٍّ وأولاد، لكلٍّ منهم حقوقٌ، وعليه واجبات، وهكذا تسير الحياة منذ بداية الخليقة، فتُعمَّر الأرض، وتستمرُّ الحياة عليها.

    فللمرأة حقوق على زوجها، كما أن له حقوقًا عليها؛

    قال تعالى:

    ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ  وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾

    [البقرة: 228]

    والآية تدلُّ على أن للرجل حقًّا زائدًا نَظِيرَ قَوَامته ومسؤوليته في الإنفاق وغيره.

    وقد ذكر النبيُّ ﷺ، أن متاع الدنيا المرأة الصالحة؛ قَالَ:

    «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»

    [17].

    وقد أمر الله تعالى في كتابه بالإحسان إلى الزوجة، وإكرامها، ومعاشرتها بالمعروف، حتى عند انتفاء المحبَّة القلبية؛

    قال تعالى:

    ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾

    [النساء: 19].

    وقَالَ ﷺ:

    «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ».

    [18]

    وقولُهُ: «يَفْرَكْ» معناه: يُبغضُ.

    وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ صحيحة في الوصيّة بالنساء وبيان حقوقهنّ، والتّحذير من التّقصير 

    في ذلك، منها:

    عن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول في حَجَّة الوداع:

    «أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»

    [19].

    ومعنى قوله ﷺ: «استوصوا بالنساء»؛ أي: تَوَاصَوْا فيما بينكم بالإحسان إليهن. «عَوَانٌ عِنْدَكُمْ»؛ أي: أسرى في أيديكم.

    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

    «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاء؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»

    [20].

    «ضِلَع»: أَحَد عظام الصدر، والمعنى أن في خُلُقهن عِوَجًا من أصل الخِلقة. «أعوج شيء في الضلع أعلاه»؛ أي: أنها خُلِقت من أعوجِ أجزاء الضِّلَع، وكذلك المرأةُ عِوَجُها الشديد في خُلقها وفِكرها، فلا يتهيَّأ الانتفاع بها إلا بالصبر على تعوُّجها. «تُقِيمه»؛ أي: تَجعَله مستقيمًا. «كسرتَه»؛ أي: وكذلك المرأةُ إن أردتَ منها الاستقامة التامَّة في الخُلق، أدَّى الأمر إلى طلاقها.

    وقد أوصى النبيُّ ﷺ بالإحسان إلى الزوجة وإكرامها؛ بل جعل خير الناس من يُحسِن إلى أهله،

    فقال ﷺ:

    «خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي»

    [21]

    ومن أجمل ما ذكره النبيُّ ﷺ في شأن الإحسان إلى الزوجة: أن إطعام الزوج لزوجته، ووضعَ اللُّقمة في فِيها، له في ذلك أجر، فقال:

    «وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»

    [22].

    وقد قال تعالى:

    ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا﴾  

    [الأحزاب: ٢١]،

    فعلى المؤمن أن يتَّبِع هَدْيَ النبيِّ ، ومنه تعاملُه مع زوجاته أمَّهات المؤمنين، فقد كان حَسَنَ العِشْرة للناس جميعًا، ولزوجاته وأهل بيته خاصةً، وكان النبيُّ يتعاهد أهله بالتعليم والتوجيه والرعاية والدلالة على الخير.

    "وكانت سيرتُه مع أزواجه حُسنَ المعاشرة، وحُسن الخُلق، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه، تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حِجرها، ويقرأ القرآن ورأسُه في حِجرها، وربما كانت حائضًا، وكان من لُطفه  وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّن زوجه عائشة رضي الله عنها من اللَّعِب، ويُريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرَّةً، وكان إذا أراد سَفَرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سَهْمُها خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئًا" [23].

    ثم قال ﷺ:

    «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»

    أي: وقد ترَكْتُ فيكم الذي لن تَضِلُّوا بعد تركي إيَّاه فيكم، أو بعد التَّمسُّكِ به والعمَلِ بما فيه، إن اعتصَمْتُم به في الاعتقادِ والعملِ، وهو القُرْآنُ الكريم، ولم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتملٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ.

    "قوله: «لن تضلُّوا بعده»؛ أي: بعد التمسُّك به، والعمل بما فيه، و«كتاب» بدل أو بيان لـ«ما»، وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام – أعني: «وقد تركت فيكم» الكلام السابق - تعميمٌ بعد التخصيص" [24].

    قال تعالى:

    ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ 

    [الإسراء: 82].

    ففي القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبَهم بشاشةُ الإيمان، فأشرقت وتفتَّحت لتَلقى ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.

    وإنَّ لتعلُّمِ القرآن والعملِ به فضلًا عظيمًا، وقد ذكر النبيُّ في أحاديثَ كثيرةٍ ذلك، منها:

    عَنْ عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال:

    «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

    [25].

    وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

    «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»

    [26].

    وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

    «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ»

    [27].

    وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

    «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ خَلْقِهِ» قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»

    [28].

    وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

    «... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ...»

    [29]

    أي: تَنْتَفِعُ به إِنْ تَلَوْتَه وَعَمِلْتَ به، وإِلَّا فهو حُجَّةٌ عليك.

    قال ﷺ:

    «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»

    [30].

    ثم قال ﷺ: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»؛ أي: ستُسألون عن تبليغي إيَّاكم الرسالةَ وعَدمِه، فبأيِّ شيءٍ تُجيبون؟ (قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ)؛ أي: قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيْتَ الأمانةَ، ونصَحْتَ الأمَّةَ.

    (فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: فأشار بَسَّبابته يرفَعُها إلى السَّماءِ، وينكُتُها إلى النَّاسِ، والنَّكْتُ: ضربُ رأسِ الأناملِ إلى الأرضِ، ويقولُ: «اللَّهمَّ اشهَدْ»؛ أي: على عبادِك، بأنَّهم أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغْتُ.

    "قوله: «وأنتم تسألون عني» عطف على مقدَّر؛ أي: قد بلَّغت ما أُرسلت به إليكم جميعًا، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تُسألون عن ذلك يوم القيامة: هل بلَّغكم محمدٌ جميع ما أمر به أن يبلَّغ إليكم؟

    كما قال الله تعالى:

    ﴿۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ  وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾

    [المائدة: ٦٧]؛

     أي: إن لم تبلِّغ الجميع،

    ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ﴾

    لأنك كتمتَ شيئًا مما أُنزل إليك، فما بلَّغتَ جميع ما أُنزل إليك، والفاء في قوله: «فما أنتم قائلون؟» يدلُّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيِّ شيء تُجيبونه؟ ومن ثَّم طابق جوابهم السؤال، فأَتَوا بالألفاظ الجامعة؛ أي: بلَّغتَ ما أُنزِل إليكَ، وأدَّيْتَ ما كان عليك، وزِدْتَ على ذلك بما نصحتنا من السُّنن، والآداب، وغير ذلك" [31].

    "قوله: «فقال بإصبعه السّبَّابة يرفعها إلى السّماء، وينكتها إلى النّاس: اللّهمّ اشهد»، (يَنْكُتُها إلى الناس) معناه: يَقلِبها ويَردُّها إلى النّاس مشيرًا إليهم" [32].

    المراجع

    1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).

    2. رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).

    3. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).

    4. رواه النسائيُّ (3984)، وصححه الألبانيُّ في "الصحيحة" (511).

    5. رواه مسلم (2564).

    6. رواه مسلم (1015).

    7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).

    8. "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزيِّ  (ص 269).

    9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).

    10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965).

    11. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 182، 183).

    12. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183).

    13.  "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

    14. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).

    15. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183، 184).

    16. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965، 1966).

    17. رواه مسلم (1467).

    18. رواه مسلم (1469).

    19. رواه الترمذيُّ (1163)، وابن ماجه (1851)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

    20. رواه البخاريُّ (3331)، ومسلم (1468).

    21. رواه ابن ماجه (1977)، والترمذيُّ (3895) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1924).

    22. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).

    23. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 146).

    24. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966).

    25. رواه البخاريُّ (5027).

    26. رواه أحمد (6799)، وأبو داود (1464)، والترمذيُّ (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1317): "إسناده حسن صحيح، وصحَّحه ابن حبان والحاكم والذهبيُّ".

    27. رواه مسلم (244).

    28. رواه أحمد (12279)، والنسائيُّ (7977)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1432).

    29. رواه مسلم (223).

    30. رواه مسلم (817).

    31. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966).

    32. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 184).






    النقول

    قال النوويُّ رحمه الله:

    "قوله ﷺ:

    «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكم هذا»

    معناه: متأكِّدةُ التَّحريمِ شديدتُه، وفي هذا دليلٌ لضرب الأمثال، وإلحاق النَّظير بالنَّظير قياسًا.

    قولُه ﷺ:

    «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أضع دَمُ ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سعد فقتلته هُذَيل، وربا الجاهلية موضوعة، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»

    في هذه الجملة إبطالُ أفعالِ الجاهليَّة وبُيوعها الَّتي لم يتَّصِل بها قَبْضٌ، وأنّه لا قصاصَ في قتلها، وأنّ الإمام وغيرَه ممّن يَأمُر بمعروف أو ينهى عن مُنكَر، ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهلِه؛ فهو أقربُ إلى قَبول قوله، وإلى طِيب نفسِ مَن قَرُب عهدُه بالإسلام. وأمّا قولُه ﷺ: «تحت قدميّ»، فإشارةٌ إلى إبطاله، وأمّا قوله ﷺ: «وإنّ أوّل دم أضع دم ابن ربيعة» فقال المحقِّقون والجمهور: اسم هذا الابن إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبد المطّلب، وقيل: اسمُه حارثة، وقيل: آدم. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وهو تصحيف، وقيل: اسمُه تمَّام، وممَّن سمَّاه (آدَم) الزُّبَير بنُ بكَّار. قال القاضي عياض: ورواه بعضُ رُواة مسلم: «دم ربيعة بن الحارث» قال: وكذا رواه أبو داود، قيل: هو وهمٌ، والصواب: (ابن ربيعة)؛ لأنّ ربيعة عاش بعد النّبيِّ ﷺ إلى زمن عمرَ بنِ الخطَّاب، وتأوَّله أبو عُبيد، فقال: (دم ربيعة)؛ لأنّه وَليُّ الدَّم، فنَسَبه إليه. قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر، قاله الزُّبيرُ بنُ بكَّار" [1].

    قال السهيليُّ رحمه الله: "من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛ ولذلك قال تعالى:

    ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ﴾

     [البقرة: 279]

    غضبًا على أهله" [2].

    قال النوويُّ رحمه الله: "قولُه ﷺ في الرِّبا: «إنّه موضوعٌ كلُّه»؛ معناه: الزّائد على رأس المال؛ كما قال اللّه تعالى:

    ﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ﴾

    [البقرة: ٢٧٩]،

    وهذا الّذي ذكرتُه إيضاحٌ، وإلَّا فالمقصود مفهومٌ من نفس لفظ الحديث؛ لأنّ الرّبا هو الزِّيادة، فإذا وُضِع الرَّبا، فمعناه: وَضْعُ الزّيادة، والمرادُ بالوضع الرَّدُّ والإبطال" [3].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «إن دماءكم وأموالكم» أراد أموال بعضِكم على بعض، إنما ذَكَره مختصَرًا؛ اكتفاءً بعِلم المخاطَبين، حيث جعل «أموالكم» قرينة «دماءكم»، وإنما شبَّه ذلك في التحريم بيومِ عرفةَ، وبذي الحِجَّة، وبالبَلَد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرَّمةٌ أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحُرمة تلك الأشياء التي شبَّه بتحريمها الدماء والأموال. وهذا من تشبيه ما لم تَجْرِ به العادة بما جَرَت به العادة، كما في قوله تعالى:

    ﴿وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٌ﴾

    [الأعراف: ١٧١]،

    كانوا يَستبِيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأَشهُر الحُرُم، ويحرِّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمة يومكم وشهركم وبلدكم، ثم أَتبَعه بما يؤكِّده تعميمًا من قوله: «ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع»؛ أي: أبطلتُ ذلك، وتَجَافَيْتُ عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدميَّ. قولُه: «دم ابن ربيعة»: الجمهورُ: اسمُه إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِب، قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر. وربيعةُ بنُ الحارث صَحِب رسول الله ﷺ، وروى عنه، وكان أسنَّ من العبَّاس، توفِّي في خلافة عمرَ - رضي الله عنه - وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورِباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكنَ في قلوب السامعين، وأسدَّ لأبواب الطَّمَع في الترخيص. وقولُه: «من دمائنا»: أراد به أهل الإسلام، لا ذَوي القَرابة منه؛ أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحقُّ أهل الإسلام وِلايتها بأهل بيتي" [4].

    قال النوويُّ رحمه الله:

    "قوله ﷺ:

    «فاتّقوا اللّه في النّساء؛ فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللّه»

    فيه الحثُّ على مراعاة حقِّ النّساء، والوصيّة بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصيّة بهنّ وبيان حقوقهنّ، والتّحذير من التّقصير في ذلك، وقد جمعتها أو معظمها في رياض الصّالحين، وقوله ﷺ: «أخذتموهنّ بأمان اللّه» هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها: (بأمانة اللّه). قوله ﷺ: «واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه»، قيل: معناه:

    قوله تعالى:

    ﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾

    [البقرة: ٢٢٩]،

    وقيل: المراد: كلمة التّوحيد، وهي (لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه ﷺ)؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغَير مسلم، وقيل: المراد بإباحة اللّه والكلمة قولُه تعالى:

    ﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ

    [النساء: ٣]

    وهذا الثّالث هو الصّحيح، وبالأوّل قال الخطّابيُّ والهرويُّ وغيرُهما، وقيل: المراد بالكلمة الإيجابُ والقَبول، ومعناه على هذا: بالكلمة الّتي أمر اللّه تعالى بها، واللّه أعلم. قوله ﷺ: «ولكم عليهنّ أن لا يُوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرِّح»، قال المازِريُّ: قيل: المراد بذلك: أن لا يَسْتَخْلِين بالرِّجال، ولم يُرِد زِناها؛ لأنّ ذلك يوجِب جَلْدها، ولأنّ ذلك حرامٌ مع من يَكرُهه الزّوج ومن لا يَكرُهه، وقال القاضي عياض: كانت عادةُ العرب حديثَ الرّجال مع النّساء، ولم يكن ذلك عَيْبًا ولا ريبةً عندهم، فلمَّا نزلت آية الحجاب، نُهوا عن ذلك. هذا كلام القاضي، والمختارُ: أنّ معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواءٌ كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأةً أو أحدًا من محارم الزّوجة؛ فالنّهيُ يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء؛ أنّها لا يَحِلُّ لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا مَحْرَمٍ ولا غيره في دخول منزل الزّوج؛ إلّا من عَلِمت أو ظنَّت أنّ الزّوج لا يَكرَهه؛ لأنّ الأصل تحريمُ دخول منزل الإنسان حتّى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذْنِ في ذلك، أو عُرِف رضاه باطَّرِاد العُرْفِ بذلك، ونحوه، ومتى حصل الشَّكُّ في الرّضا، ولم يترجَّح شيءٌ، ولا وُجِدت قرينةٌ، لا يَحِلَّ الدّخولُ ولا الإذن، واللّه أعلم. وأما الضّرب المبرِّح فهو الضّرب الشّديد الشَّاقُّ، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاقٍّ، والبَرْحُ المشقَّة، والْمُبَرِّح بضمّ الميم وفتح الموحّدة وكسر الرّاء، وفي هذا الحديث إباحةُ ضرب الرّجل امرأتَه للتّأديب، فإنْ ضَرَبها الضَّرْبَ المأذونَ فيه فماتت منه، وجبت دِيَتُها على عاقلة الضَّارب، ووجبت الكفَّارة في ماله.

    قوله ﷺ:

    «ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»

    فيه وجوب نَفَقة الزّوجة وكِسوتها، وذلك ثابتٌ بالإجماع" [5].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «فاتقوا الله في النساء» عطفٌ من حيث المعنى على قوله: «إن دماءكم وأموالكم»؛ يعني: فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء، وهي من عطف الإنشائيِّ على الإخباريِّ بالتأويل... وفي رواية المصابيح: «واتقوا» بالواو، وكلاهما جائزان. قوله: «بأمان الله»؛ أي: بعهده، وهو ما عُهِد إليهم من الرِّفق بهن، والشَّفَقة عليهن. قوله: «بكلمة الله» قيل: هي قوله تعالى:

    ﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ

    [النساء: ٣]،

    وقيل: هي الإيجاب والقبول؛ لأن الله تعالى أَمَر بها، وقيل: هي قوله تعالى:

    ﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾

    [البقرة: ٢٢٩]

    وهو قول الخطابيِّ، وقيل: كلمة التوحيد؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغير مسلم، والأول هو الأَوْجَه. المعنى: أن استحلالكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن. قوله: «أن لا يوطئن فرشكم»؛ أي: لا يأذنَّ لأحد من الرجال أن يتحدَّث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، لا يَرَون ذلك عَيبًا، ولا يَعُدُّونه رِيبةً، إلى أن نزلت آية الحجاب، وليس المرادُ بوَطء الفراش نفسَ الزنا؛ لأن ذلك محرَّم على الوجوه كلِّها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان ذلك لم يكن الضربُ فيه ضربًا غير مبرِّح؛ وإنما كان فيه الحدُّ، والضرب المبرِّح هو الشديد.

    والنهيُ يتناول الرجال والنساء جميعًا، وهكذا المسألةُ عند الفقهاء؛ لأنها لا يَحِلُّ لها أن تَأْذَن لرجل ولا امرأة، مَحْرَم وغيرها في دخول منزل الزوج، إلا مَن عَلِمت أو ظنَّت أن الزوج لا يَكرَهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذن، أو عرف رضاه بالظنِّ، أو العُرف، ومتى حصل الشكُّ في الرضا، لا يحلَّ الدخول ولا الإذن. وظاهر قوله: «أن لا يوطئن فرشكم أحدًا» مُشعِر بالكناية عن الجماع، فعبَّر به عن عدم الإذن مُطلَقًا تغليظًا وتشديدًا.

    قوله: «غير مبرِّح» هو من برَّح به الشَّوق تبريحًا، إذا اشتدَّ عليه بحيث جَهده، وبُرَحَاء الوحيِ شدَّته. وفيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضَرَبها الضربَ المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدِّيَة على العاقلة، والكفَّارة على الضارب" [6].

    قال ابن القيم رحمه الله: "وكانت سيرته ﷺ مع أزواجه حُسنَ المعاشرة، وحُسن الخُلق، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه، تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حِجرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا، وكان من لُطفه ﷺ وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّن زوجه عائشة رضي الله عنها من اللعب، ويُريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة، وكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمها خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئًا [7].

     قال النوويُّ رحمه الله: "قوله: «فقال بإصبعه السّبَّابة يرفعها إلى السّماء، وينكتها إلى النّاس: اللّهمّ اشهد» هكذا ضبطناه (يَنْكُتُها) بعد الكاف تاء مثنَّاة فوقُ، قال القاضي: كذا الرّواية بالتّاء المثنَّاة فوقُ، قال: وهو بعيدُ المعنى، قال: قيل: صَوَابُه (يَنْكُبُها) بباء موحَّدة. قال: ورُوِّيناه في سُنن أبي داود بالتاء المثنَّاة من طريق ابن الأعرابيِّ، وبالموحَّدة من طريق أبي بكر التّمَّار، ومعناه: يَقلِبها ويَردُّها إلى النّاس مشيرًا إليهم، ومنه (نَكَب كِنانته) إذا قَلَبها. هذا كلام القاضي" [8].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «لن تضلُّوا بعده»؛ أي: بعد التمسُّك به، والعمل بما فيه، و«كتاب» بدل أو بيان لـ «ما»، وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام – أعني: «وقد تركت فيكم» الكلام السابق - تعميمٌ بعد التخصيص. قوله: «وأنتم تسألون عني» عطف على مقدَّر؛ أي: قد بلَّغت ما أُرسلت به إليكم جميعًا، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تُسألون عن ذلك يوم القيامة: هل بلَّغكم محمدٌ جميع ما أمر به أن يبلَّغ إليكم؟

    كما قال الله تعالى: 

    ﴿۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾

    [المائدة: ٦٧]

     أي: إن لم تبلِّغ الجميع 

    ﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ﴾

    لأنك كتمتَ شيئًا مما أُنزل إليك، فما بلَّغتَ جميع ما أُنزل إليك، والفاء في قوله: «فما أنتم قائلون؟» يدلُّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيِّ شيء تُجيبونه؟ ومن َثَّم طبق جوابهم السؤال، فأَتَوا بالألفاظ الجامعة؛ أي: بلَّغتَ ما أُنزِل إليكَ، وأدَّيْتَ ما كان عليك، وزِدْتَ على ذلك بما نصحتنا من السُّنن، والآداب، وغير ذلك.

    قوله: «فقال»؛ أي: أشار. وقوله: «يرفعها إلى السماء» حالٌ إما من فاعل «قال»، أو من «السبَّابة»؛ أي: رافعًا إيَّاها، أو مرفوعةً. قوله: «ويَنْكُبُها» هي بالباء الموحَّدة من تحتُ؛ أي: يُمِيلها إليهم، من نَكَبْتُ الإناء نَكبًا، ونَكَّبتُها تنكيبًا، إذا أماله كبه.

    وضبطناه بالتاء المثنَّاة من فوقُ. قال القاضي عياض: كذا الروايةُ، وقال: وهو بعيد المعنى، وقيل: صوابُه بالباء الموحَّدة، ورُوِّينا في سنن أبي داود بالتاء المثنَّاة من طريق ابن الأعرابيِّ، وبالموحَّدة من طريق أبي بكر التمَّار، ومعناه: يردُّها، ويَقلِبها إلى الناس مشيرًا إليهم" [9].


    المراجع

    1. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 182، 183).

    2. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

    3. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183).

    4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).

    5. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183، 184).

    6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965، 1966).

    7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 146).

    8.  "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 184).

    9. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966، 1967).