108 - أقسامُ النَّاسِ مع الوَحْي

عن أبي موسى الأشعريِّ، عن النبيِّ ﷺ قال:«مَثَلُ ما بعَثَني اللهُ به من الهُدى والعِلم، كمَثَل الغَيث الكثيرِ أصاب أرضًا: فكان منها نَقِيَّةٌ، قبِلَت الماءَ، فأنبتَت الكَلَأَ والعُشبَ الكثير، وكانت منها أجادبُ، أمسكت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها الناسَ، فشَرِبوا وسَقَوْا وزرعوا، وأصابت منها طائفةٌ أخرى، إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثَلُ مَن فَقُه في دِين الله، ونفَعه ما بعَثَني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبَلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به» متفق عليه.

عناصر الشرح

غريب الحديث:

الغَيث: المطرُ[1].

قِية: طيِّبةٌ[2].

الكلأ: نباتُ الأرض اليابس والرَّطْب[3].

العُشْب: نباتُ الأرض الرَّطْب[4].

أجادبُ: الأرض الصُّلبة غير الخِصبة التي تُمسِكُ الماء فلا تتشرَّبه سريعًا[5].

قِيعان: جمع القاع، وهو الأرض المستوية الملْساءُ التي لا تُنبت[6].

فَقُه: صار فقيهًا، والفقهُ هو الفَهْم[7].

المراجع

  1. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 176).
  3. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
  4. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
  5. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (1/ 242): «الأجادب: صلاب الأرض التي تُمسِك الماء فلا تَشرَبه سريعًا. وقيل: هي الأرض التي لا نباتَ بها، مأخوذ من الجَدْب، وهو القحْط».
  6.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 177).
  7. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 465).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو موسى الأشعريُّ، عن النبيِّ ﷺ أنه قال:«مَثَلُ ما بعَثَني اللهُ به من الهُدى والعِلم كمَثَل الغَيث الكثيرِ أصاب أرضًا»: يضرب النبيُّ ﷺ مَثَلاً للهُدى والعلم الذي أرسله اللهُ به بالمطر الكثير الذي أصاب أرضًا، وهذه الأرضُ ثلاثة أقسام: الأول منها: «فكان منها نَقِيَّةٌ، قبِلَت الماءَ، فأنبتَت الكلأَ والعُشبَ الكثير» فكانت أرضًا نقيةً، شَرِبت الماء فأنبتت نباتًا كثيرًا. والقسم الثاني: «وكانت منها أجادبُ، أمسكت الماءَ، فنفعَ اللهُ بها الناسَ، فشَرِبوا وسَقَوْا وزرعوا» فكانت أرضًا جَدْباءَ غيرَ خِصبة، لم تشرب الماء؛ ولكنها أمسكته، فانتفع الناس بالماء الذي لم تنتفع هي به ولم تَرْوَ به، فشربوا وسَقَوا وزرعوا أراضيَهم. والقسم الثالث: «وأصابت منها طائفةٌ أخرى، إنما هي قِيعانٌ لا تُمسِك ماءً ولا تُنبتُ كلأً» وهذه الأرض ملساءُ لا تُمسك ماء فينتفع به الناس، ولا تَرْوى هي فتُنبت، فلا تنتفع بالماء ولا تنفع الناس.

قال ﷺ: «فذلك مثَلُ مَن فَقُه في دِين الله، ونفَعه ما بعَثَني الله به فعَلِم وعَلَّم» وذلك مَثَلُ القسم الأول، ويدخل فيه القسم الثاني، فهما ينفعان الناس. «ومَثلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبَلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به» وذلك مَثَلُ القسم الثالث الذي لم يَقبَل الهدى ولم ينفع الناس. 

الشرح المفصَّل للحديث:

خلَق الله الناس متفاوتِينَ في العقول والأفهام، وفي الطِّباع والأخلاق، وكذا في القُدرة على العطاء، ويظهر هذا التفاوتُ في تعامل كلِّ إنسان مع هدايات الله التي جاءته على لسان المرسَلين، وآياته سبحانه التي بثَّها في الآفاق.

وقد كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناس تربيةً وتعليمًا وقُدرةً على الإيضاح والبيان، وكان أحرصَ الناس على هداية جميع البشر والأخذ بأيديهم إلى صلاح العاجل والآجل، ومِن ثمَّ اتَّخَذ ﷺ جميعَ الوسائل المتاحة في التربية والتعليم والإرشاد؛ ليقوم بهدايات الله التي جاء بها إلى جميع الناس على تنوُّعهم واختلافهم.

وفي هذا الحديث يَضربُ ﷺ مثالًا بليغًا يُصوِّر فيه ما جاء به من عند الله من الهدى، والرشاد، والعلم النافع في الدارينِ، وموقف الناس منه؛ فيشبِّهُ ﷺ ما بُعث به من «الهدى» وهو الدلالات الموصِّلة إلى الغاية[1]، وهي معرفةُ الله عزَّ وجلَّ، والقيامُ له بحقِّ العُبودية، و«العلم» وهو علمُ الشريعة المستمَدُّ من الوحيِ كتابًا وسُنَّةً، يُشبِّههما ﷺ بالمطر الغزير الذي يأتي الناس حالَ حاجتهم إليه، وقد عبَّر ﷺ عن المطر بلفظ الغيث؛ ليبيِّن حاجةَ الناس إليه، وعدم استغنائهم عنه، واضطرارهم إليه، وهذا هو حالُ الناس مع الغَيث

قال تعالى:

﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾

[الشورى: 28]

"وقد كان الناس قبل المبعَث قد امتُحِنوا بموت القلوب، ونُضوب العلم حتى أصابهم الله برحمةٍ من عنده"[2]، ووجه الشَّبَه بين الهدى والعلم الذي جاء به النبيُّ ﷺ، وبينَ الغَيث النازل من السماء: أن الغيثَ به حياةُ البلد الميت، وكذا العلمُ به حياةُ القلب الميِّت[3]، وفي قوله ﷺ: «مَثَلُ ما بعثني اللهُ به من الهدى والعلم» بيانُ أن كل ما جاء به النبيُّ ﷺ، ونطق به إنما هو وحيٌ من الله عزَّ وجلَّ

قال الله تعالى:

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ﴾

[النجم: 3، 4]

ويُشبِّهُ ﷺ المخاطَبين بهذا الوحي بأنواع مختلفة من الأرض، أوَّلها: الأرضُ «النقية»، وهي الطيبةُ الخِصبة المنبِتةُ للزرع، الخاليةُ من الآفات المهلِكةِ له، فهذه الأرضُ لَمَّا نزل عليها الغَيث تشرَّبَت الماءَ، وأخرجت النباتَ الكثيرَ، رَطْبًا ويابسًا، وهو ما عبَّر عنه رسولُ الله ﷺ بقوله: «فكان منها نَقية، قبِلت الماء، فأنبتَت الكلأَ والعُشب الكثيرَ»، وهذا النوعُ من الأرض هو مِثْلُ العالِم المتفقِّه في دين الله عزَّ وجلَّ، المنتفع بعلمه في صلاح نفْسه، والمعلِّم لغيره[4]، وهو ما أشار إليه رسولُ الله ﷺ بقوله: «فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دين الله ونفَعه ما بعثني اللهُ به، فعَلِم وعلَّم»، وهذا الصِّنف من الناس هم الأعْلى في الدرجة، والأرْقى في الهداية. 

وأما النوع الثاني من الأرض، فهي الأجادبُ، وهي الأرضُ الصُّلبةُ الممسكةُ للماء، غيرُ قابلة للزراعة والإنبات؛ ولكنها بمثابة خزَّانات للماء، تُمسكه فينتفع به الناس في الشُّرب وسُقْيا الماشية والدوابِّ والزَّرع، وقد أوجز ﷺ هذا المعنى بقوله: «وكانت منها أجادبُ، أمسكت الماءَ، فنفع اللهُ بها الناس، فشربوا وسقَوْا وزرعوا»، وهذا النوع من الأرض يُشبهُ نوعًا من الناس منحهم اللهُ القُدرةَ على الحفظ؛ ولكنها دون القُدرة على الفَهْم والعمل أيضًا.

فالنوع الثاني من الناس لهم قلوبٌ حافظةٌ؛ لكن ليست لهم أفهامٌ ثاقبةٌ، ولا رسوخَ لهم في العقل يستنبطون به المعانيَ والأحكامَ، وليس عندهم اجتهادٌ في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتيَ طالبٌ محتاجٌ متعطِّشٌ لِما عندهم من العلم أهلٌ للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم، فينتفعُ به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم[5].

وأما النوع الثالث من الأرض، فهي «قِيعانٌ»، وهي الأرض السَّبِخةُ الْمُجدِبةُ التي «لا تمسِكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً»، فهي أرضٌ غير صالحةٍ للزراعة في ذاتها، لا تنتفعُ بما ينزلُ عليها من الغَيث بأن تُنبت زرعًا، ولا هي تنفعُ غيرَها في إمساك الماء وحفظه، فهي أسوأُ أنواع الأرض، وقد ضربها ﷺ مثلًا لفئة من الناس، قال فيهم: «مَثَلُ مَن لم يرفَعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبَل هُدى الله الذي أُرسِلتُ به»، وهم نوعٌ من الناس ليست لهم قلوبٌ حافظةٌ، ولا أفهامٌ واعيةٌ، فإذا سمعوا العلمَ لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم[6]، فقد جاءهم الهدى والعلم من ربِّهم، فلا هم انتفَعوا به في أنفسهم، ولا هم نفَعوا غيرهم، وهؤلاء هم الكافرون والفاسقون، والباعث على عدم انتفاعهم بما جاءهم من عند الله هو الكِبرُ الذي حملهم على ردِّ ما جاءهم من عند الله وعدم قَبوله، وهذا معنى قوله ﷺ: «مَن لم يرفع بذلك رأسًا» يعني: تكبَّرَ ولم يَقبل الدين، يقال: لم يرفَعْ فلان رأسه بهذا؛ أي: لم يلتفتْ إليه من غاية تكبُّره"[7].

ثم ختم النبيُّ ﷺ الحديثَ بقولِه: «فذلك مثَلُ مَن فَقُه في دِين الله، ونفَعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومَثلُ مَن لم يرفعْ بذلك رأسًا، ولم يَقبلْ هُدى الله الذي أُرسِلْتُ به»، فذكر النبيُّ ﷺ في تقسيم الأرض ثلاثة أقسامٍ، "وفي تقسيم الناس باعتبار قَبول العلم قسمَين: أحدهما مَن فَقُه ونَفَع الغَير، والثاني مَن لم يرفعْ به رأسًا، وإنما ذَكَره كذلك؛ لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه يُنتَفع به، والثاني هو ما لا يُنتفَع به، وكذلك الناس قسمانِ: مَن يَقبل ومَن لا يَقبل. وهذا يوجِب جَعْل الناس في الحديث على قسمَين: مَن يُنتفَع به، ومَن لا يُنتفَع، وأما في الحقيقة، فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يَقبل من العلم بقَدْر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم مَن يَقبل ويبلِّغ، ومنهم مَن لا يَقبل"[8]. 

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني (1/ 176).
  2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (2/ 80).
  3. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للطِّيبيِّ (2/ 616).
  4. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 45- 46).
  5. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
  6. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (15/ 46).
  7. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للطِّيبيِّ (2/ 616).
  8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (2/ 79).


النقول:

قال ابن بطال رحمه الله: "قال المهلّب: فيه ضرب الأمثال في الدين، والعلم، والتعليم. وفيه: أنه لا يَقبَل ما أَنزَل اللهُ من الهدى والدين إلا مَن كان قلبُه نَقيًّا من الإشراك والشكِّ؛ فالتي قَبِلَت العلم والهُدى كالأرض المتعطِّشة إليه، فهي تنتفع به، فتحيا فتُنبت، فكذلك هذه القلوب البريئة من الشكِّ والشرك، المتعطِّشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وَعَت العلم، حَيَتْ به، فعَمِلت وأنبتت بما تحيا به أرماق الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاج إليه. ومن الناس مَن قلوبُهم متهيئةٌ لقَبول العلم؛ لكنها ليس لها رسوخ؛ فهي تَقبَل وتُمسك حتى يأتيَ متعطِّش فيَرْوَى منها، ويَرِدُ على مَنهَل يحيا به، وتسقى به أرض نقيَّة فتُنبت وتُثمر، وهذه حال من يَنقُل العلم ولا يعرفه ولا يفهمه. ومنها قيعانٌ؛ يعني: قلوبًا تسمع الكلام، فلا تحفظه، ولا تفهمه، فهي لا تنتفع به، ولا تُنبت شيئًا؛ كالسِّباخ المالحة التي لا تُمسك الماء ولا تُنبت كلأً... وقوله: (أجادب) جمع (جَدْب) على غير لفظه، وكان القياس أن يكون جمع (أجدب) لو قيل، وقد جاء مثل هذا كثير، قالوا: محاسن جمع حَسَن، وكان القياس أن يكون جمع محسن لو قيل. وقالوا: متشابه جمع شبه على غير لفظه، وكان القياس أن يكون مُشتبه"[1]. 

قال القاضي عياض رحمه الله: "هذا بديع في الشَّبه وتقسيم الكلام، ويدلُّ بعضه على بعض، وجاء الترتيب بعدُ مُجمَلاً، وردُّه ردًّا واحدًا مرتَّبًا على ما قبله، ولعله آخِر في كلام واحد، وهو من بديع الإيجاز والبلاغة، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض: اثنان منها محمودان، ثم جاء بكلام واحد تضمَّن لما جاء به اثنان منها محمودان، وذلك قوله: «فذلك مَثَلُ مَن فَقُه في دين الله ونفعه الله بما بعثي به، فعَلِم وعلَّم»، فهذان مثالا المثالين الأولين على ترتيبها في التقديم والتأخير. والأول: مثل الأرض التي قَبِلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فانتفعت بالريِّ وأكثر في نفسها وأنفع الناس بالرعيِ لما أنبتته، وهذا كالذي يفقه في نفسه، وعَلِم ما يَحمِله، وعلَّمه الناس. والثاني: من يَحمِل ما تحمَّله ولم يُفتَح له بالتفقُّه فيه؛ لكنه حفظ ما يَحمِله، وعَمِل منه بما يُسِّر له، وبلغه غيره، فهذا مثل الذي أمسكت الماء، وإليه يرجع قوله: «فشرب الناس وسقوا». وقوله بعد هذا: «ورعوا» راجع إلى الأول؛ إذ ليس في هذا المثال أنها أنبتت شيئًا، وهو مِثل جمع الْمَثَلين. والثالث: من لم يَهتبِل بما بلغه، ولا رفع به رأسًا، ولا قَبِله؛ كالقيعان والصفا التي لا تُنبت ولا تُمسك ماء. وقوله: «قبلت الماء»: كذا رُوِّيناه هنا بالباء بواحدة بغير خلاف. واختَلف فيه الرواية في صحيح البخاريِّ عن شيوخه، ففي بعضها (قيَّلت) بياء باثنتين تحتها مشدَّدة، فزعم الأصيليُّ وغيُره أنه تصحيف. وقال غيره: بل هو صواب، ومعناه بمعنى: قيَّلت؛ أي: شربت. والقيل: الشُّرب نصف النهار، وقيَّلت الإبل: شربت قائلة. وقال غيره: معناه: جمعت وحبست ورويت، فهي بمعنى قيَّلت أيضًا. قال أبو عبيد البكريُّ فيما قرأتُه بخطه: قال أبو بكر: تَقيَّل الماء بالمكان المنخفض: اجتمع فيه. قال الإمام: وقوله: «سقوا ورعوا»: يقال: سَقَيت وأسقيت بمعنى واحد. 

وقوله: «رعوا»، قال الإمام: يقال: رعت الماشية النبات: أكلته، وأرعاها الله؛ أي: أنبت لها ما ترعاه. وقوله: «ومنها أجادب». قال الخطابيُّ: الأجادب: صلاب الأرض التي تُمسك الماء فلا يُسرع إليه النضوب. قال الأصمعيُّ: الأجادب من الأرض: ما لم يُنبت الكلأ"[2].

قال النوويُّ رحمه الله: "أَمَّا الْغَيْثُ فهو المطر، وأمَّا العُشْبُ والكَلأ والحشيش فكلُّها أسماء للنّبات؛ لكنَّ الحشيش مختصٌّ باليابس، والعُشْبُ، والكَلَا مقصورًا، مختصَّان بالرَّطْب، والكَلأُ بالهمز يقع على اليابس والرَّطْب، وقال الْخَطَّابِيُّ وابن فارسٍ: الْكَلَأُ يَقَعُ على اليابِس، وهذا شَاذٌّ ضَعِيفٌ، وأمّا الأجادبُ، فهي الأرض التي لا تُنبت كلأً، وقال الخطَّابيُّ: هي الأرض الّتي تُمسك الماء، فلا يُسرع فيه النُّضُوب. قال ابن بَطَّالٍ وصاحبُ الْمَطَالِعِ وَآخرون: هو جمع جَدْب على غير قِيَاس، كما قالوا في (حَسَن) جمعُه (محاسن)، والقياسُ أنّ (محاسن) جمع مُحْسِن، وكذا قالوا: (مُشَابِه) جمع (شَبَه)، وقياسُه أن يكون جمع (مُشبَّه)، وقال الخطّابيُّ: وقال بعضُهم: (أحادب) بالحاء المهملة والدّال، قال: وليس بشيء، قال: وقال بعضهم: (أجارد) بالجيم والرّاء والدّال. قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدتْه الرّواية. قال الأصمعيُّ: الأجارد من الأرض ما لا يُنبت الكلأ. معناه: أنّها جرداءُ هَزْرةٌ لا يَستُرها النّبات. قال: وقال بعضُهم: إنّما هي (أَخَاذَات) بالخاء والذّال المعجمتين وبالألف، وهو جمع أَخَاذة، وهي الغَدِير الّذي يُمسك الماء، وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه الّتي ذكرها الخطّابيُّ، فجعلها رواياتٍ منقولةً، وقال القاضي في الشّرح: لم يَرِد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلّا بالدّال المهملة من الجَدْب، الّذي هو ضِدُّ الخِصْب، قال: وعليه شرح الشّارحون. وأمّا القِيعان، فبكسر القاف، جمع القاع، وهو الأرض المستوية، وقيل: الملساء، وقيل: الّتي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث كما صرَّح به ﷺ ويُجمَع أيضًا على أَقْوُع وأَقْواع، والقِيعة بكسر القاف بمعنى القاع. قال الأصمعيُّ: قاعة الدار ساحتُها، وأما الفِقْه في اللغة فهو الفَهم. يقال منه: فَقِه بكسر القاف يَفقَه فقَهًا بفتحها؛ كفَرِح يفرح فَرَحًا، وقيل: المصدر فِقْهًا بإسكان القاف، وأمّا الفقه الشّرعيُّ فقال صاحب العين والهرويُّ وغيرهما: يقال منه: فَقُه بضمِّ القاف. وقال ابن دُرَيْدٍ: بكسرها كالأوَّل، والمراد بقوله ﷺ «فقه في دين اللّه» هذا الثّاني، فيكون مضمومَ القاف على المشهور. وعلى قول ابن دريد بكسرها، وقد رُوي بالوجهين، والمشهور الضّمُّ. وأمّا قوله ﷺ: «فكانت منها طائفة طيّبة قبلت الماء» فهكذا هو في جميع نسخ مسلم: «طائفة طيّبة»، ووقع في البخاريِّ: «فكان منه نقيَّة قَبِلت الماء» بنون مفتوحة ثمّ قافٍ مكسورة ثمّ ياءٍ مثنّاة من تحتُ مشدَّدة، وهو بمعنى طيِّبة، هذا هو المشهور في روايات البخاريِّ، ورواه الخطّابيُّ وغيره (ثَغْبة) بالثّاء المثلَّثة والغين المعجمة والباء الموحَّدة، قال الخطّابيُّ: هو مُستنقَع الماء في الجبال والصّخور، وهو الثَّغْب أيضًا، وجمعُه ثُغْبان. قال القاضي وصاحب المطالع: هذه الرّواية غلط من النّاقلين، وتصحيف وإحالة للمعنى؛ لأنّه إنّما جُعلت هذه الطّائفة الأولى مَثَلًا لما يُنبت، والثَّغْبة لا تُنبت. وأمّا قوله ﷺ: «سَقَوا» فقال أهل اللّغة: سَقَى وأسْقَى بمعنًى، لغتان، وقيل: سَقَاه: ناوله ليشرب، وأسقاه: جعل له سَقْيًا. وأمّا قوله ﷺ: «ورَعَوا»، فهو بالرّاء، من الرَّعْي، هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاريِّ: «وزَرَعوا»، وكلاهما صحيح، واللّه أعلم. أمّا معاني الحديث ومقصودُه، فهو تمثيل الهدى الّذي جاء به ﷺ بالغيث، ومعناه أنّ الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك النّاس، فالنّوع الأوّل من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيا بعد أن كان ميتًا، ويُنبت الكلأ فتنتفع بها النّاس والدّوابُّ والزّرع وغيرها، وكذا النّوع الأوّل من النّاس، يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلِّمه غيره، فينتفع وينفع. والنّوع الثّاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها؛ لكن فيها فائدة، وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها النّاس والدّوابُّ، وكذا النّوع الثّاني من النّاس لهم قلوب حافظة؛ لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعانيَ والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطّاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتّى يأتيَ طالب محتاج متعطِّش لما عندهم من العلم، أهل للنّفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بَلَغهم. والنّوع الثّالث من الأرض السِّباخ الّتي لا تُنبت ونحوُها، فهي لا تنتفع بالماء ولا تُمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النّوع الثّالث من النّاس، ليست لهم قلوب حافظة، ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به، ولا يحفظونه لنفع غيرهم، واللّه أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم: منها ضربُ الأمثال، ومنها فضل العلم والتّعليم وشدَّة الحثِّ عليهما، وذمُّ الإعراض عن العلم، واللّه أعلم"[3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«مَثَل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا» الغيث: يعني المطر، فكانت هذه الأرض ثلاثة أقسام: قسم رياض: قَبِلت الماء، وأنبتت العُشب الكثير والزرع، فانتفع الناس بها، وقسم آخَرُ قيعان: أمسكت الماء وانتفع الناس به، فأسقَوا منه ورَوَوا منه، والقسم الثالث: أرض سَبِخة: ابتلعت الماء ولم تُنبِت الكلأ.

فهكذا الناس بالنسبة لما بُعث الله به النبيُّ ﷺ من العلم والهدى، منهم من فَقِه في دين الله، فعِلَم وعلَّم، وانتفع الناس بعلمه، وانتفع هو بعِلمِه، وهذا كمَثَل الأرض التي أَنبَتَت العُشب والكلأ، فأمل الناس منها، وأكلت منها مواشيه. والقسم الثاني: في قوم حملوا الهدى، ولكن لم يفقهوا في هذا الهدى شيئًا؛ بمعنى: أنهم كانوا رواةً للعلم والحديث؛ لكن ليس عندهم فقه، فهؤلاء مثلهم مثل الأرض التي حفظت الماء، واستقى الناس منه، وشربوا منه؛ لكن الأرض نفسها لم تُنبت شيئًا؛ لأن هؤلاء يَرْوون أحاديثَ وينقلونها؛ ولكن ليس عندهم فيها فقه وفَهم. والقسم الثالث: من لم يرفع بما جاء به النبيُّ ﷺ من العلم والهدى رأسًا، وأعرض عنه، ولم يبالِ به، فهذا لم ينتفع بما جاء به النبيُّ ﷺ ولم ينفع غيره، فمثله كمثل الأرض التي بلعت الماء ولم تُنبِت شيئًا. وفي هذا الحديث دليل على أن من فَقِه في دين الله، وعَلَّم من سنَّة رسول الله ﷺ ما يعلم، فإنه خير الأقسام؛ لأنه عَلِم وفَقِه لينتفع وينفع الناس، ويليه مَن عَلِم؛ ولكن لم يَفقَه، يعني روى الحديث وحَمَله؛ لكن لم يفقه منه شيئًا، وإنما هو رواية فقط، يأتي في المرتبة الثانية في الفضل بالنسبة لأهل العلم والإيمان. والقسم الثالث: لا خير له، رجلٌ أصابه من العلم والهدى الذي جاء به النبيُّ ﷺ؛ ولكنه لم يرفع به رأسًا ولم ينتفع به، ولم يَعلَمه الناس، فكان - والعياذ بالله - كمثل الأرض السَّبِخة التي ابتلعت الماء ولم تُنبت شيئًا للناس، ولم يبقَ الماء على سطحها حتى ينتفع الناس به"[4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي هذا الحديث دليل على حسن تعليم الرسول ﷺ، ذلك بضرب الأمثال؛ لأن ضرب الأمثال الحسية يقرِّب المعانيَ العقلية؛ أي: ما يُدرَك بالعقل يقرِّبه ما يدرك بالحِسِّ، وهذا مشاهَد؛ فإن كثيرًا من الناس لا يفهم، فإذا ضربتَ له مثلاً محسوسًا فَهِم وانتفع

ولهذا قال الله تعالى:

{ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}

[العنكبوت: 43]

وقال تعالى:

{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ}

 [الروم: 58]

فضرب الأمثال من أحسن طرق التعليم ووسائل العلم"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "شبَّه العلم والهدى الّذي جاء به بالغيث؛ لِمَا يحصل بكلِّ واحد منهما من الحياة والنفع والأغذية والأدوية وسائر مصالح العباد؛ فإنّها بالعلم والمطر، وشبَّه القلوب بالأراضي الّتي يقع عليها المطر؛ لأنها المحلُّ الّذي يُمسك الماء فيُنبت سائر أنواع النّبات النافع، كما أن القلوب تعي العلم، فيُثمر فيها ويزكو وتظهر بركته وثمرته، ثمّ قسَّم النّاس إلى ثلاثة أقسام بحسَب قبولهم واستعدادهم لحفظه، وفَهم معانيه، واستنباط أحكامه، واستخراج حكمه وفوائده، أحدُها أهل الحفظ والفَهم الّذين حفظوه وعقلوه وفهموا معانيَه، واستنبطوا وجوه الأحكام والحِكم والفوائد منه، فهؤلاء بمنزلة الأرض الّتي قَبِلت الماء، وهذا بمنزلة الحفظ، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وهذا هو الفَهم فيه، والمعرفة والاستنباط، فإنّه بمنزلة إنبات الكلأ والعُشب بالماء، فهذا مَثَل الحفَّاظ الفقهاء أهل الرّواية والدراية. القسم الثّاني: أهل الحفظ الّذين رُزقوا حفظَه ونقلَه وضبطه، ولم يرزقوا تفقُّهًا في معانيه، ولا استنباطًا، ولا استخراجًا لوجوه الحكم والفوائد منه؛ فهم بمنزلة من يقرأ القرآن ويحفظه، ويراعي حروفه وإعرابه، ولم يُرزق فيه فَهمًا خاصًّا عن الله؛ كما قال عليُّ بنُ أبي طالب رضى الله عنه: إلّا فَهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه. والنّاس متفاوتون في الفَهم عن الله ورسوله أعظمَ تفاوت؛ فرُبَّ شخص يفهم من النّصِّ حُكمًا أو حكمين، ويفهم منه الآخر مائة او مائتين؛ فهؤلاء بمنزلة الأرض الّتي أمسكت الماء للنّاس، فانتفعوا به، هذا يشرب منه، وهذا يسقي، وهذا يزرع، فهؤلاء القسمان، هم السّعداء، والأوَّلون أرفع درجةً، وأعلى قدرًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. القسم الثّالث: الّذين لا نصيب لهم منه، لا حفظًا ولا فَهمًا، ولا رواية ولا دراية؛ بل هم بمنزلة الأرض الّتي هي قيعان لا تُنبت ولا تُمسك الماء، وهؤلاء هم الأشقياء، والقسمان الأوّلان اشتركا في العلم والتعليم، كلٌّ بحسب ما قَبِله، ووصل إليه، فهذا يعلم ألفاظ القرآن ويحفظها، وهذا يعلم معانيَه وأحكامه وعلومه، والقسم الثّالث لا علم ولا تعليم؛ فهم الّذين لم يرفعوا بهدى الله رأسًا، ولم يقبلوه، وهؤلاء شرٌّ من الأنعام، وهم وقود النّار؛ فقد اشتمل هذا الحديث الشريف العظيم على التّنبيه على شرف العلم والتعليم، وعِظَم موقعه، وشقاء من ليس من أهله، وذكر أقسام بني آدم بالنّسبة فيه إلى شقيِّهم وسعيدهم، وتقسَّم سعيدهم إلى سابق مقرَّب، وصاحب يمين مقتصد، وفيه دلالة على أن حاجة العباد إلى العلم كحاجتهم إلى المطر؛ بل أعظم، وأنهم إذا فقدوا العلم، فهم بمنزلة الأرض الّتي فقدت الغيث. قال الإمام أحمد: النّاس محتاجون إلى العلم أكثر من حاجتهم إلى الطّعام والشراب؛ لأن الطّعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرّةً أو مرّتين، والعلم يحتاج إليه بعدد الأنفاس.

وقد قال تعالى:

{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}

[الرعد: ١٧]

شبَّه سبحانه العلم الّذي أنزله على رسوله بالماء الّذي أنزله من السّماء؛ لِمَا يحصل لكلّ واحد منهما من الحياة ومصالح العباد في معاشهم ومعادهم، ثمّ شبَّه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا كثيرًا كوَادٍ عظيم يسع ماء كثيرًا، وقلب صغير إنّما يسع علمًا قليلاً كواد صغير إنّما يسع ماء قليلاً، فقال: ﭐﱡﭐ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪﲫ  ﱠ هذا مَثَل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط القلوب بشاشته، فإنّه يُستخرَج منها زَبَدُ الشُّبهات الباطلة، فيطفو على وجه القلب، كما يَستخرج السّيل من الوادي زبدًا يعلو فوق الماء، وأخبر سبحانه أنه راب يطفو ويعلو على الماء لا يستقرُّ في أرض الوادي، كذلك الشُّبهات الباطلة إذا أخرجها العلم رَبَت فوق القلوب وطَفَت فلا تستقرُّ فيه؛ بل تُجفى وتُرمى فيستقرُّ في القلب ما ينفع صاحبَه، والنّاس من الهدى ودين الحقِّ كما يستقرُّ في الوادي الماء الصافي، ويذهب الزّبد جفاءً، وما يعقل عن الله أمثاله إلّا العالمون، ثمّ ضرب سبحانه لذلك مثلاً آخر فقال: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} يعني أن ممّا يوقد عليه بنو آدم من الذّهب والفضّة والنحاس والحديد يخرج منه خَبَثه، وهو الزّبد الّذي تُلقيه النّار وتخرجه من ذلك الجوهر؛ بسبب مخالطتها؛ فإنّه يقذف ويُلقى به ويستقرُّ الجوهر الخالص وحده، وضرب سبحانه مثلاً بالماء لما فيه من الحياة والتبريد والمنفعة، ومثلاً بالنّار لما فيها من الإضاءة والإشراف والإحراق؛ فآيات القرآن تحيي القلوب كما تحيا الأرض بالماء، وتُحرق خبثها وشبهاتِها وشهواتها وسخائمها، كما تحرق النّار ما يُلقى فيها وتميِّز جيّدها من زَبَدها، كما تميّز النّار الخبث من الذّهب والفضّة والنحاس ونحوه منه، فهذا بعض ما في هذا المثل العظيم من العِبَر والعلم"[6].

قال ابن بطال رحمه الله: «اعلمْ أنه لا يَقبل ما أنزل اللهُ من الهدى والدين إلا مَن كان قلبُه نقيًّا من الإشراك والشك، فالتي قبِلت العلم والهدى كالأرض المتعطِّشة إليه، فهي تنتفعُ به فتَحْيا فتُنبِت. فكذلك هذه القلوب البريئة من الشك والشرك، المتعطِّشة إلى معالم الهدى والدين، إذا وعَتِ العلمَ حَيَتْ به، فعمِلت، وأنبتت بما تَحْيا به أرماقَ الناس المحتاجين إلى مثل ما كانت القلوب الواعية تحتاجُ إليه»[7].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وَفِي حَدِيثِ كميل بنِ زيادٍ عن عليٍّ رضي اللّه عنه قال: القلوب أوعية، فخيرُها أوعاها. وبلغنا عن بعض السَّلَف قال: القلوب آنية اللّه في أرضه، فأَحَبُّها إلى اللّه تعالى أرقُّها وأصفاها. وهذا مَثَل حسن؛ فإنّ القلب إذا كان رقيقًا ليّنًا، كان قبوله للعلم سهلًا يسيرًا، ورَسَخ العلم فيه، وثَبَت وأثَّر، وإن كان قاسيًا غليظًا، كان قبوله للعلم صعبًا عسيرًا. ولا بدَّ مع ذلك أن يكون زكيًّا صافيًا سليمًا حتّى يزكوَ فيه العلم ويُثمر ثمرًا طيّبًا، وإلّا فلو قَبِل العلم وكان فيه كَدَر وخَبَث، أفسد ذلك العلم، وكان كالدَّغَل في الزّرع، إن لم يَمنَع الحَبَّ من أن يَنبُت، منعه من أن يزكوَ ويَطِيب، وهذا بيِّن لأولي الأبصار.

وتلخيص هذه الجملة: أنّه إذا استُعمل في الحقِّ فله وجهان: وجه مُقبِل على الحقِّ، ومن هذا الوجه يقال له: وعاء وإناء؛ لأنّ ذلك يستوجب ما يُوعى فيه ويوضع فيه، وهذه الصّفة صفة وجود وثبوت. ووجه مُعرِض عن الباطل، ومن هذا الوجه يقال له: زكيٌّ وسليم وطاهر؛ لأنّ هذه الأسماء تدلُّ على عدم الشّرِّ، وانتفاء الخَبَث والدَّغَل، وهذه الصّفة صفة عدم ونفيٍ. وبهذا يتبيَّن أنّه إذا صُرِف إلى الباطل، فله وجهان كذلك: وجهُ الوجود أنّه مُنصرِف إلى الباطل مشغول به، ووجه العدم أنّه مُعرِض عن الحقِّ غيرُ قابل له"[8].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "معنى قوله ﷺ: «مَن لم يرفع بذلك رأسًا»: يعني: تكبَّرَ ولم يَقبل الدين، يقال: لم يرفَعْ فلان رأسه بهذا؛ أي: لم يلتفتْ إليه من غاية تكبُّره"[9].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله:"وفي تقسيم الناس باعتبار قَبول العلم قسمَين: أحدهما مَن فَقُه ونَفَع الغَير، والثاني مَن لم يرفعْ به رأسًا، وإنما ذَكَره كذلك؛ لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه يُنتَفع به، والثاني هو ما لا يُنتفَع به، وكذلك الناس قسمانِ: مَن يَقبل ومَن لا يَقبل. وهذا يوجِب جَعْل الناس في الحديث على قسمَين: مَن يُنتفَع به، ومَن لا يُنتفَع، وأما في الحقيقة، فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يَقبل من العلم بقَدْر ما يعمل به، ولم يبلغ درجة الإفادة، ومنهم مَن يَقبل ويبلِّغ، ومنهم مَن لا يَقبل"[10]. 

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 163، 164).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 248، 249).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 46، 48).
  4. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 294، 295).
  5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 295).
  6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 60، 61).
  7. "شرح صحيح البخاري لابن بطال" ابن بطال (1/ 163).
  8. "مجموع الفتاوى" (9/ 315، 316).
  9. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" الطيبي (2/ 616).
  10. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (2/ 79).


مشاريع الأحاديث الكلية