المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي جابرُ بنُ عبد الله – رضي الله عنه – عن خطبة رسول الله ﷺ في الحجِّ يوم عَرَفةَ أنه قال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»؛ أي: إنَّ سَفْكَ دمائِكم، وأَخْذَ أموالِكم بغيرِ حقٍّ حرامٌ عليكم، «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا»؛ أي: مُتأكِّدةُ التَّحريمِ كحُرمةِ يومِ عرَفةَ، «فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»؛ أي: ذي الحِجَّةِ، «فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»؛ أي: مكَّةَ المكرَّمة. «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»؛ أي: ما ابتدعوه وأَحدَثُوه، والشَّرائعُ الَّتي شرَعوها في الحجِّ وغيرِه قبل الإسلام، «تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»؛ أي: مردودٌ وباطلٌ، «وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ»؛ أي: متروكةٌ، لا قِصاصَ فيها، ولا دِيَةَ، ولا كفَّارةَ، «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ»؛ أي: أُبْطِلُه وأترُكُه «مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ»؛ أي: ابنِ عبدِ الْمُطَّلبِ، «كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ»، وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يَحُبو بين البُيوت، فأصابه حجَرٌ في حربِ بني سعدٍ مع قبيلةِ هُذَيلٍ، فقتلَتْه قبيلةُ هُذَيلٍ. «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ»؛ أي: الزائدُ على رأسِ المالِ متروك ومردودٌ، «وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»؛ أي: أوَّلُ ربًا أردُّه كلَّه هو رِبَانا، رِبَا عبَّاسِ بنِ عبد المُطَّلبِ. «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ»، بإنصافِهنَّ ومراعاةِ حقوقهنَّ؛ «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ»؛ أي: بعَهْدِه، «وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»؛ أي: أن استحلالَكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن، «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ»؛ أي: ولكم عليهنَّ: ألَّا يُدخِلْنَ بيوتَكم أحدًا تكرَهون دُخولَه في بيوتِكم، «فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»؛ أي: فإن فعَلْنَ ذلك بدونِ رِضاكم، فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ شديد، «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»؛ أي: ولهنَّ عليكم النَّفقةُ مِن الْمَأكَل والْمَشرَب، والسُّكْنى والْمَلْبَسِ، على قدْرِ كفايتِهنَّ، مِن غيرِ سرَفٍ ولا تقتيرٍ، أو باعتبارِ حالِكم فقرًا وغنًى.
«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»؛ أي: وقد ترَكْتُ فيكم الذي لن تَضِلُّوا بعد تركي إيَّاه فيكم، أو بعد التَّمسُّكِ به والعمَلِ بما فيه، إن اعتصَمْتُم به في الاعتقادِ والعملِ، وهو القُرْآنُ الكريم، ولم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتمِلٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ. «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»؛ أي: ستُسألون عن تبليغي إياكم الرسالة وعَدمِه، فبأيِّ شيءٍ تُجيبون؟ (قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ)؛ أي: قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيْتَ الأمانةَ، ونصَحْتَ الأمَّةَ.
(فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: فأشار بَسَّبابته يرفَعُها إلى السَّماءِ، ويَقْلِبُها ويردُّها إلى النَّاسِ، ويقولُ: «اللَّهمَّ اشهَدْ»؛ أي: على عبادِك، بأنَّهم أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغْتُ.
الشرح المفصَّل للحديث
إن النبيَّ ﷺ كان حريصًا أيَّما حِرْصٍ على تبليغ رسالة ربِّه، ومن ثَمَّ كان حريصًا في حَجَّة الوداع أن يذكر كثيرًا من أحكام الإسلام، وأن يُشهِد المسلمين أنه بلَّغ رسالة ربِّه، وقد روى جابرُ بنُ عبدِ الله – رضي الله عنه – ما فعله الرسول ﷺ في هذه الحَجَّة في حديث طويل، نذكر منه خُطبته ﷺ يومَ عرفةَ، التي قال فيها: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ»؛ أي: إنَّ سَفْكَ دمائِكم، وأَخْذَ أموالِكم بغيرِ حقٍّ حرام عليكم، «كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا»؛ أي: مُتأكِّدةُ التَّحريمِ كحُرمةِ يومِ عرَفةَ، «فِي شَهْرِكُمْ هَذَا»؛ أي: ذي الحِجَّةِ «فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»؛ أي: مكَّةَ المكرَّمة.
"قوله: «إن دماءكم وأموالكم» أراد أموال بعضِكم على بعض، إنما ذَكَره مختصَرًا؛ اكتفاءً بعِلم المخاطَبين، حيث جعل «أموالكم» قرينة «دماءكم»، وإنما شبَّه ذلك في التحريم بيومِ عرفةَ، وبذي الحِجَّة، وبالبَلَد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرَّمةٌ أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحُرمة تلك الأشياء التي شبَّه بتحريمها الدماء والأموال. وهذا من تشبيه ما لم تَجْرِ به العادة بما جَرَت به العادة؛
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٌ﴾
كانوا يَستبِيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأَشهُر الحُرُم، ويحرِّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمة يومكم وشهركم وبلدكم" [1].
وإن جريمة قتل المؤمن، ليست مجرَّد قتل بغير حقٍّ لنفس فحسبُ؛ ولكنها كذلك جريمة قتل للوَشِيجة العزيزة والرابطة الوُثقى التي أنشأها الله بين المسلم والمسلم، إنها تنكُّر للإيمان ذاته، وللعقيدة نفسها، ولقد توعَّد الله القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الْمُقيم في نار جهنَّمَ يومَ القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه، فالقتلُ وسفك الدماء المعصومة جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها. لذا؛ توعَّد الله فاعلَها قائلًا:
﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾
وعن الأحنف بن قَيس، عن النَّبيِّ ﷺ قال:
«إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»
والقتلُ مِن أعظم الكبائر، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعُدوانًا؛
﴿مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِىٓ إِسْرَٰٓءِيلَ أَنَّهُۥ مَن قَتَلَ نَفْسًۢا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍۢ فِى ٱلْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًا ۚ ﴾
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ...»
الحديث [3]. وهو إزهاقُ النَّفس المعصومة بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان، «إلا بالحقِّ»؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو رِدَّةً.
وعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ﷺ يَقُولُ:
«كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى الله أَنْ يَغْفِرَهُ؛ إِلَّا الرَّجُلُ يَقْتُلُ المُؤْمِنَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ الرَّجُلُ يَمُوتُ كَافِرًا»
أي: يُرجى أن يَغفِر الله أيَّ ذنب مهما كان كبيرًا، ويُستثنى من مغفرة الذنوب قتلُ المؤمن العمد، والكفرُ بالله تعالى، وإن كان القتلُ في مشيئة الله تعالى، إن شاء غفره.
وكذلك حرَّم اللهُ تعالى أكلَ أموال الناس بالباطل،
«كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»
﴿وَلَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ وَتُدْلُوا بِهَآ إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَٰلِ ٱلنَّاسِ بِٱلْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
وعن أبي هُريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله ﷺ:
«أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِمَا رَزَقْنَٰكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»
قَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ رحمه الله: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام" [7]. وسُئل أحمدُ بنُ حنبلٍ رحمه الله: بمَ تَلين القلوب؟ ثم أطرَقَ ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: بأكل الحلال [8]. وقال وَهْب بن مُنبِّه رحمه الله: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه" [9].
ثم قال ﷺ: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ»؛ أي: ما ابتدعوه وأَحدَثُوه، والشَّرائعُ الَّتي شرَعوها في الحجِّ وغيرِه قبل الإسلام، «تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ»؛ أي: مردودٌ وباطلٌ، «وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ»؛ أي: متروكةٌ، لا قِصاصَ فيها، ولا دِيَةَ، ولا كفَّارةَ، «وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ»؛ أي: أضَعُه وأترُكُه «مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ»؛ أي: ابنِ عبدِ الْمُطَّلبِ، «كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ»؛ وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حجَرٌ في حربِ بني سعدٍ مع قبيلةِ هُذَيلٍ، فقتلَتْه قبيلةُ هُذَيلٍ.
"ثم أَتبَعه بما يؤكِّده تعميمًا من قوله: «ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع»؛ أي: أبطلتُ ذلك، وتَجَافَيْتُ عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدميَّ. قولُه: «دم ابن ربيعة»: الجمهورُ: اسمُه إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِب، قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر. وربيعةُ بنُ الحارث صَحِب رسول الله ﷺ، وروى عنه، وكان أسنَّ من العبَّاس، توفِّي في خلافة عمرَ - رضي الله عنه - وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورِباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكنَ في قلوب السامعين، وأسدَّ لأبواب الطَّمَع في الترخيص. وقولُه: «من دمائنا»: أراد به أهل الإسلام، لا ذَوي القَرابة منه؛ أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحقُّ أهل الإسلام وِلايتها بأهل بيتي" [10].
«أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أضع دَمُ ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سعد فقتلته هُذَيل، وربا الجاهلية موضوعة، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»
في هذه الجملة إبطالُ أفعالِ الجاهليَّة وبُيوعها الَّتي لم يتَّصِل بها قَبْضٌ، وأنّه لا قصاصَ في قتلها، وأنّ الإمام وغيرَه ممّن يَأمُر بمعروف أو ينهى عن مُنكَر، ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهلِه؛ فهو أقربُ إلى قَبول قوله، وإلى طِيب نفسِ مَن قَرُب عهدُه بالإسلام. وأمّا قولُه ﷺ: «تحت قدميّ»، فإشارةٌ إلى إبطاله، وأمّا قوله ﷺ: «وإنّ أوّل دم أضع دم ابن ربيعة» فقال المحقِّقون والجمهور: اسم هذا الابن إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبد المطّلب، وقيل: اسمُه حارثة، وقيل: آدم. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وهو تصحيف، وقيل: اسمُه تمَّام، وممَّن سمَّاه (آدَم) الزُّبَير بنُ بكَّار. قال القاضي عياض: ورواه بعضُ رُواة مسلم: «دم ربيعة بن الحارث» قال: وكذا رواه أبو داود، قيل: هو وهمٌ، والصواب: (ابن ربيعة)؛ لأنّ ربيعة عاش بعد النّبيِّ ﷺ إلى زمن عمرَ بنِ الخطَّاب، وتأوَّله أبو عُبيد، فقال: (دم ربيعة)؛ لأنّه وَليُّ الدَّم، فنَسَبه إليه. قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر، قاله الزُّبيرُ بنُ بكَّار" [11].
ثم قال ﷺ: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ»؛ أي: الزائدُ على رأسِ المالِ متروك ومردودٌ، «وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»؛ أي: أوَّلُ ربًا أردُّه كلَّه هو رِبَانا، رِبَا عبَّاسِ بنِ عبد المُطَّلبِ.
"قولُه ﷺ في الرِّبا: «إنّه موضوعٌ كلُّه»؛ معناه: الزّائد على رأس المال؛ كما قال اللّه تعالى:
﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمﱠ﴾
وهذا الّذي ذكرتُه إيضاحٌ، وإلَّا فالمقصود مفهومٌ من نفس لفظ الحديث؛ لأنّ الرّبا هو الزِّيادة، فإذا وُضِع الرِّبا، فمعناه: وَضْعُ الزّيادة، والمرادُ بالوضع الرَّدُّ والإبطال" [12].
و"من تأمَّل أبوابَ الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛
﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ﴾
غضبًا على أهله" [13].
وقد ذكر النَّبِيُّ ﷺ الربا من الموبقات في الحديث:
«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَأَكْلُ الرِّبَا...»
«وأكل الربا»: هُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، وهو تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والأصلُ في معناه الزيادة، يقال: رَبا الشيء إذا زاد، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:
﴿يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾
وقال سبحانه:
﴿ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ فَمَن
جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾
ثم قال ﷺ: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ»، بإنصافِهنَّ ومراعاةِ حقوقهنَّ؛ «فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ»؛ أي: بعَهْدِه، «وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ»؛ أي: أن استحلالَكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن، «وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ»؛ أي: ولكم عليهنَّ: ألَّا يُدخِلْنَ بيوتَكم أحدًا تكرَهون دُخولَه في بيوتِكم، «فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ»؛ أي: فإن فعَلْنَ ذلك بدونِ رِضاكم، فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ شديد.
وهذا كقوله تعالى:
﴿وَٱلَّٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهْجُرُوهُنَّ فِى ٱلْمَضَاجِعِ وَٱضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾
فإذا تمرَّدت المرأة على زوجها، وعَصَت أمرَه، سَلَك معها طرق الوعظ، أو الهجر في المضجع، أو الضرب، ويُشترَط في الضرب أن يكون غيرَ مبرِّح؛ أي: غير مؤثِّر، بالسِّواك ونحوه؛ فليس الغرَضُ إيذاءَ المرأة ولا إهانتها؛ وإنما إشعارها بأنها مخطئة في حقِّ زوجها، وأن لزوجها الحقَّ في إصلاحها وتقويمها.
«وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»؛ أي: ولهنَّ عليكم النَّفقةُ مِن الْمَأكَل والْمَشرَب، والسُّكْنى والْمَلْبَسِ، على قدْرِ كفايتِهنَّ، مِن غيرِ سرَفٍ ولا تقتيرٍ، أو باعتبارِ حالِكم فقرًا وغنًى.
"قوله ﷺ: «فاتّقوا اللّه في النّساء؛ فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللّه» فيه الحثُّ على مراعاة حقِّ النّساء، والوصيّة بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقوله ﷺ: «أخذتموهنّ بأمان اللّه» هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها: (بأمانة اللّه).
«واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه»،
قيل: معناه:
﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾
وقيل: المراد: كلمة التّوحيد، وهي (لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه ﷺ)؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغَير مسلم، وقيل: المراد بإباحة اللّه والكلمة
﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾
وهذا الثّالث هو الصّحيح، وقيل: المراد بالكلمة الإيجابُ والقَبول، ومعناه على هذا: بالكلمة الّتي أمر اللّه تعالى بها، واللّه أعلم.
قوله ﷺ: «ولكم عليهنّ أن لا يُوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرِّح»، قيل: المراد بذلك: أن لا يَسْتَخْلِين بالرِّجال، ولم يُرِد زِناها؛ لأنّ ذلك يوجِب إقامة الحدِّ عليها، ولأنّ ذلك حرامٌ مع من يَكرُهه الزّوج ومن لا يَكرُهه، وكانت عادةُ العرب حديثَ الرّجال مع النّساء، ولم يكن ذلك عَيْبًا ولا ريبةً عندهم، فلمَّا نزلت آية الحجاب، نُهوا عن ذلك. والمختارُ: أنّ معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواءٌ كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأةً أو أحدًا من محارم الزّوجة؛ فالنّهيُ يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء؛ أنّها لا يَحِلُّ لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا مَحْرَمٍ ولا غيره في دخول منزل الزّوج؛ إلّا من عَلِمتْ أو ظنَّت أنّ الزّوج لا يَكرَهه؛ لأنّ الأصل تحريمُ دخول منزل الإنسان حتّى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذْنِ في ذلك، أو عُرِف رضاه باطَّرِاد العُرْفِ بذلك، ونحوه، ومتى حصل الشَّكُّ في الرّضا، ولم يترجَّح شيءٌ، ولا وُجِدت قرينةٌ، لا يَحِلَّ الدّخولُ ولا الإذن، واللّه أعلم. وأما الضّرب المبرِّح فهو الضّرب الشّديد الشَّاقُّ، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاقٍّ، وفي هذا الحديث إباحةُ ضرب الرّجل امرأتَه للتّأديب، فإنْ ضَرَبها الضَّرْبَ المأذونَ فيه فماتت منه، وجبت دِيَتُها على عاقلة الضَّارب، ووجبت الكفَّارة في ماله.
«ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»
فيه وجوب نَفَقة الزّوجة وكِسوتها، وذلك ثابتٌ بالإجماع" [15]
"قوله: «فاتقوا الله في النساء» عطفٌ من حيث المعنى على قوله: «إن دماءكم وأموالكم»؛ يعني: فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء... قوله: «بأمان الله»؛ أي: بعهده، وهو ما عُهِد إليهم من الرِّفق بهن، والشَّفَقة عليهن. قوله: «بكلمة الله» المعنى: أن استحلالكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن.
قوله: «غير مبرِّح» هو من برَّح به الشَّوق تبريحًا، إذا اشتدَّ عليه بحيث جَهده، وبُرَحَاء الوحيِ شدَّته. وفيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضَرَبها الضربَ المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدِّيَة على العاقلة، والكفَّارة على الضارب" [16].
هذا وإنه منذ خلق الله الإنسان وهو يقوم بعمارة الأرض، مشاركةً بين الرجل والمرأة، كلٌّ منهما يقوم بدوره؛ فالله - سبحانه وتعالى - خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً، وجعل بينهما مودَّة ورحمة؛ حتى يعيش الجنس البشريُّ على طهارة ونقاء.
فالمرأة هي عماد الأسرة والمجتمَع، وهي مصنع الحياة، منذ أن ينشأ الجنين في بطنها، وهي التي تصنع الحياة في بيتها، وهي التي تنظّم حياة الأسرة وترتّبها، والرجل له القَوامة؛
﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ ٱللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍۢ وَبِمَآ أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَٰلِهِمْ ۚ فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُ ۚ﴾
فإن الصورة الطبيعية للمجتمع أن تتكوَّن لَبِناته من الأسرة، التي هي عبارة عن أب وأمٍّ وأولاد، لكلٍّ منهم حقوقٌ، وعليه واجبات، وهكذا تسير الحياة منذ بداية الخليقة، فتُعمَّر الأرض، وتستمرُّ الحياة عليها.
فللمرأة حقوق على زوجها، كما أن له حقوقًا عليها؛
﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِى عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
والآية تدلُّ على أن للرجل حقًّا زائدًا نَظِيرَ قَوَامته ومسؤوليته في الإنفاق وغيره.
وقد ذكر النبيُّ ﷺ، أن متاع الدنيا المرأة الصالحة؛ قَالَ:
«الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»
وقد أمر الله تعالى في كتابه بالإحسان إلى الزوجة، وإكرامها، ومعاشرتها بالمعروف، حتى عند انتفاء المحبَّة القلبية؛
﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾
«لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ».
وقولُهُ: «يَفْرَكْ» معناه: يُبغضُ.
وقد وردت أحاديثُ كثيرةٌ صحيحة في الوصيّة بالنساء وبيان حقوقهنّ، والتّحذير من التّقصير
في ذلك، منها:
عن عمرو بن الأحوص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله ﷺ يقول في حَجَّة الوداع:
«أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا؛ فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ، وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا، أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا، وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ، فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ، وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ، أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ»
ومعنى قوله ﷺ: «استوصوا بالنساء»؛ أي: تَوَاصَوْا فيما بينكم بالإحسان إليهن. «عَوَانٌ عِنْدَكُمْ»؛ أي: أسرى في أيديكم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاء؛ فَإِنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ»
«ضِلَع»: أَحَد عظام الصدر، والمعنى أن في خُلُقهن عِوَجًا من أصل الخِلقة. «أعوج شيء في الضلع أعلاه»؛ أي: أنها خُلِقت من أعوجِ أجزاء الضِّلَع، وكذلك المرأةُ عِوَجُها الشديد في خُلقها وفِكرها، فلا يتهيَّأ الانتفاع بها إلا بالصبر على تعوُّجها. «تُقِيمه»؛ أي: تَجعَله مستقيمًا. «كسرتَه»؛ أي: وكذلك المرأةُ إن أردتَ منها الاستقامة التامَّة في الخُلق، أدَّى الأمر إلى طلاقها.
وقد أوصى النبيُّ ﷺ بالإحسان إلى الزوجة وإكرامها؛ بل جعل خير الناس من يُحسِن إلى أهله،
«خيرُكُم خيرُكُم لأهْلِهِ، وأنا خيرُكُم لأهْلِي»
ومن أجمل ما ذكره النبيُّ ﷺ في شأن الإحسان إلى الزوجة: أن إطعام الزوج لزوجته، ووضعَ اللُّقمة في فِيها، له في ذلك أجر، فقال:
«وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ»
﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُوا ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلْآخِرَ وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيرًا﴾
فعلى المؤمن أن يتَّبِع هَدْيَ النبيِّ ﷺ، ومنه تعاملُه مع زوجاته أمَّهات المؤمنين، فقد كان ﷺ حَسَنَ العِشْرة للناس جميعًا، ولزوجاته وأهل بيته خاصةً، وكان النبيُّ ﷺ يتعاهد أهله بالتعليم والتوجيه والرعاية والدلالة على الخير.
"وكانت سيرتُه ﷺ مع أزواجه حُسنَ المعاشرة، وحُسن الخُلق، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه، تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حِجرها، ويقرأ القرآن ورأسُه في حِجرها، وربما كانت حائضًا، وكان من لُطفه وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّن زوجه عائشة رضي الله عنها من اللَّعِب، ويُريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرَّةً، وكان إذا أراد سَفَرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سَهْمُها خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئًا" [23].
«وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللهِ»
أي: وقد ترَكْتُ فيكم الذي لن تَضِلُّوا بعد تركي إيَّاه فيكم، أو بعد التَّمسُّكِ به والعمَلِ بما فيه، إن اعتصَمْتُم به في الاعتقادِ والعملِ، وهو القُرْآنُ الكريم، ولم يذكُرِ السُّنَّةَ؛ لأنَّ القُرْآنَ مُشتملٌ على العملِ بها، فيَلزَمُ مِن العملِ بالكتابِ العملُ بالسُّنَّةِ.
"قوله: «لن تضلُّوا بعده»؛ أي: بعد التمسُّك به، والعمل بما فيه، و«كتاب» بدل أو بيان لـ«ما»، وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام – أعني: «وقد تركت فيكم» الكلام السابق - تعميمٌ بعد التخصيص" [24].
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾
ففي القرآن شفاء، وفي القرآن رحمة، لمن خالطت قلوبَهم بشاشةُ الإيمان، فأشرقت وتفتَّحت لتَلقى ما في القرآن من روح وطمأنينة وأمان.
وإنَّ لتعلُّمِ القرآن والعملِ به فضلًا عظيمًا، وقد ذكر النبيُّ في أحاديثَ كثيرةٍ ذلك، منها:
عَنْ عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال:
«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ»
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ خَلْقِهِ» قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ»
وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ...»
أي: تَنْتَفِعُ به إِنْ تَلَوْتَه وَعَمِلْتَ به، وإِلَّا فهو حُجَّةٌ عليك.
«إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»
ثم قال ﷺ: «وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»؛ أي: ستُسألون عن تبليغي إيَّاكم الرسالةَ وعَدمِه، فبأيِّ شيءٍ تُجيبون؟ (قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ)؛ أي: قالوا: نشهَدُ أنَّك قد بلَّغْتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيْتَ الأمانةَ، ونصَحْتَ الأمَّةَ.
(فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللهُمَّ، اشْهَدْ، اللهُمَّ، اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)؛ أي: فأشار بَسَّبابته يرفَعُها إلى السَّماءِ، وينكُتُها إلى النَّاسِ، والنَّكْتُ: ضربُ رأسِ الأناملِ إلى الأرضِ، ويقولُ: «اللَّهمَّ اشهَدْ»؛ أي: على عبادِك، بأنَّهم أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغْتُ.
"قوله: «وأنتم تسألون عني» عطف على مقدَّر؛ أي: قد بلَّغت ما أُرسلت به إليكم جميعًا، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تُسألون عن ذلك يوم القيامة: هل بلَّغكم محمدٌ جميع ما أمر به أن يبلَّغ إليكم؟
﴿۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾
أي: إن لم تبلِّغ الجميع،
﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ﴾
لأنك كتمتَ شيئًا مما أُنزل إليك، فما بلَّغتَ جميع ما أُنزل إليك، والفاء في قوله: «فما أنتم قائلون؟» يدلُّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيِّ شيء تُجيبونه؟ ومن ثَّم طابق جوابهم السؤال، فأَتَوا بالألفاظ الجامعة؛ أي: بلَّغتَ ما أُنزِل إليكَ، وأدَّيْتَ ما كان عليك، وزِدْتَ على ذلك بما نصحتنا من السُّنن، والآداب، وغير ذلك" [31].
"قوله: «فقال بإصبعه السّبَّابة يرفعها إلى السّماء، وينكتها إلى النّاس: اللّهمّ اشهد»، (يَنْكُتُها إلى الناس) معناه: يَقلِبها ويَردُّها إلى النّاس مشيرًا إليهم" [32].
1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).
2. رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
3. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
4. رواه النسائيُّ (3984)، وصححه الألبانيُّ في "الصحيحة" (511).
5. رواه مسلم (2564).
6. رواه مسلم (1015).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
8. "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزيِّ (ص 269).
9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965).
11. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 182، 183).
12. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183).
13. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).
14. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
15. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183، 184).
16. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965، 1966).
17. رواه مسلم (1467).
18. رواه مسلم (1469).
19. رواه الترمذيُّ (1163)، وابن ماجه (1851)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
20. رواه البخاريُّ (3331)، ومسلم (1468).
21. رواه ابن ماجه (1977)، والترمذيُّ (3895) وقال: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1924).
22. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).
23. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 146).
24. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966).
25. رواه البخاريُّ (5027).
26. رواه أحمد (6799)، وأبو داود (1464)، والترمذيُّ (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1317): "إسناده حسن صحيح، وصحَّحه ابن حبان والحاكم والذهبيُّ".
27. رواه مسلم (244).
28. رواه أحمد (12279)، والنسائيُّ (7977)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1432).
29. رواه مسلم (223).
30. رواه مسلم (817).
31. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966).
32. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 184).
النقول
قال النوويُّ رحمه الله:
«إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكم هذا»
معناه: متأكِّدةُ التَّحريمِ شديدتُه، وفي هذا دليلٌ لضرب الأمثال، وإلحاق النَّظير بالنَّظير قياسًا.
«أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أضع دَمُ ابن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سعد فقتلته هُذَيل، وربا الجاهلية موضوعة، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»
في هذه الجملة إبطالُ أفعالِ الجاهليَّة وبُيوعها الَّتي لم يتَّصِل بها قَبْضٌ، وأنّه لا قصاصَ في قتلها، وأنّ الإمام وغيرَه ممّن يَأمُر بمعروف أو ينهى عن مُنكَر، ينبغي أن يبدأ بنفسه وأهلِه؛ فهو أقربُ إلى قَبول قوله، وإلى طِيب نفسِ مَن قَرُب عهدُه بالإسلام. وأمّا قولُه ﷺ: «تحت قدميّ»، فإشارةٌ إلى إبطاله، وأمّا قوله ﷺ: «وإنّ أوّل دم أضع دم ابن ربيعة» فقال المحقِّقون والجمهور: اسم هذا الابن إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبد المطّلب، وقيل: اسمُه حارثة، وقيل: آدم. قال الدَّارَقُطْنيُّ: وهو تصحيف، وقيل: اسمُه تمَّام، وممَّن سمَّاه (آدَم) الزُّبَير بنُ بكَّار. قال القاضي عياض: ورواه بعضُ رُواة مسلم: «دم ربيعة بن الحارث» قال: وكذا رواه أبو داود، قيل: هو وهمٌ، والصواب: (ابن ربيعة)؛ لأنّ ربيعة عاش بعد النّبيِّ ﷺ إلى زمن عمرَ بنِ الخطَّاب، وتأوَّله أبو عُبيد، فقال: (دم ربيعة)؛ لأنّه وَليُّ الدَّم، فنَسَبه إليه. قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البُيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر، قاله الزُّبيرُ بنُ بكَّار" [1].
قال السهيليُّ رحمه الله: "من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛ ولذلك قال تعالى:
﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ﴾
غضبًا على أهله" [2].
قال النوويُّ رحمه الله: "قولُه ﷺ في الرِّبا: «إنّه موضوعٌ كلُّه»؛ معناه: الزّائد على رأس المال؛ كما قال اللّه تعالى:
﴿وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ﴾
وهذا الّذي ذكرتُه إيضاحٌ، وإلَّا فالمقصود مفهومٌ من نفس لفظ الحديث؛ لأنّ الرّبا هو الزِّيادة، فإذا وُضِع الرَّبا، فمعناه: وَضْعُ الزّيادة، والمرادُ بالوضع الرَّدُّ والإبطال" [3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «إن دماءكم وأموالكم» أراد أموال بعضِكم على بعض، إنما ذَكَره مختصَرًا؛ اكتفاءً بعِلم المخاطَبين، حيث جعل «أموالكم» قرينة «دماءكم»، وإنما شبَّه ذلك في التحريم بيومِ عرفةَ، وبذي الحِجَّة، وبالبَلَد؛ لأنهم كانوا يعتقدون أنها محرَّمةٌ أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيهه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيدٌ لحُرمة تلك الأشياء التي شبَّه بتحريمها الدماء والأموال. وهذا من تشبيه ما لم تَجْرِ به العادة بما جَرَت به العادة، كما في قوله تعالى:
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُۥ ظُلَّةٌ﴾
كانوا يَستبِيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأَشهُر الحُرُم، ويحرِّمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرَّمةٌ عليكم أبدًا كحُرمة يومكم وشهركم وبلدكم، ثم أَتبَعه بما يؤكِّده تعميمًا من قوله: «ألا كلُّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع»؛ أي: أبطلتُ ذلك، وتَجَافَيْتُ عنه، حتى صار كالشيء الموضوع تحت قدميَّ. قولُه: «دم ابن ربيعة»: الجمهورُ: اسمُه إياسُ بنُ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِب، قالوا: وكان هذا الابنُ المقتول طفلًا صغيرًا يحبو بين البيوت، فأصابه حَجَر في حربٍ كانت بين بني سعد وبني ليثِ بنِ بكر. وربيعةُ بنُ الحارث صَحِب رسول الله ﷺ، وروى عنه، وكان أسنَّ من العبَّاس، توفِّي في خلافة عمرَ - رضي الله عنه - وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورِباها بين أهل الإسلام بأهل بيته؛ ليكون أمكنَ في قلوب السامعين، وأسدَّ لأبواب الطَّمَع في الترخيص. وقولُه: «من دمائنا»: أراد به أهل الإسلام، لا ذَوي القَرابة منه؛ أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحقُّ أهل الإسلام وِلايتها بأهل بيتي" [4].
قال النوويُّ رحمه الله:
«فاتّقوا اللّه في النّساء؛ فإنّكم أخذتموهنّ بأمان اللّه»
فيه الحثُّ على مراعاة حقِّ النّساء، والوصيّة بهنّ، ومعاشرتهنّ بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصيّة بهنّ وبيان حقوقهنّ، والتّحذير من التّقصير في ذلك، وقد جمعتها أو معظمها في رياض الصّالحين، وقوله ﷺ: «أخذتموهنّ بأمان اللّه» هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها: (بأمانة اللّه). قوله ﷺ: «واستحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه»، قيل: معناه:
﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾
وقيل: المراد: كلمة التّوحيد، وهي (لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه ﷺ)؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغَير مسلم، وقيل: المراد بإباحة اللّه والكلمة قولُه تعالى:
﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾
وهذا الثّالث هو الصّحيح، وبالأوّل قال الخطّابيُّ والهرويُّ وغيرُهما، وقيل: المراد بالكلمة الإيجابُ والقَبول، ومعناه على هذا: بالكلمة الّتي أمر اللّه تعالى بها، واللّه أعلم. قوله ﷺ: «ولكم عليهنّ أن لا يُوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرِّح»، قال المازِريُّ: قيل: المراد بذلك: أن لا يَسْتَخْلِين بالرِّجال، ولم يُرِد زِناها؛ لأنّ ذلك يوجِب جَلْدها، ولأنّ ذلك حرامٌ مع من يَكرُهه الزّوج ومن لا يَكرُهه، وقال القاضي عياض: كانت عادةُ العرب حديثَ الرّجال مع النّساء، ولم يكن ذلك عَيْبًا ولا ريبةً عندهم، فلمَّا نزلت آية الحجاب، نُهوا عن ذلك. هذا كلام القاضي، والمختارُ: أنّ معناه أن لا يأذنَّ لأحد تكرهونه في دخول بيوتكم، والجلوس في منازلكم، سواءٌ كان المأذون له رجلًا أجنبيًّا أو امرأةً أو أحدًا من محارم الزّوجة؛ فالنّهيُ يتناول جميع ذلك، وهذا حكم المسألة عند الفقهاء؛ أنّها لا يَحِلُّ لها أن تأذن لرجل أو امرأة ولا مَحْرَمٍ ولا غيره في دخول منزل الزّوج؛ إلّا من عَلِمت أو ظنَّت أنّ الزّوج لا يَكرَهه؛ لأنّ الأصل تحريمُ دخول منزل الإنسان حتّى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذْنِ في ذلك، أو عُرِف رضاه باطَّرِاد العُرْفِ بذلك، ونحوه، ومتى حصل الشَّكُّ في الرّضا، ولم يترجَّح شيءٌ، ولا وُجِدت قرينةٌ، لا يَحِلَّ الدّخولُ ولا الإذن، واللّه أعلم. وأما الضّرب المبرِّح فهو الضّرب الشّديد الشَّاقُّ، ومعناه: اضربوهن ضربًا ليس بشديد ولا شاقٍّ، والبَرْحُ المشقَّة، والْمُبَرِّح بضمّ الميم وفتح الموحّدة وكسر الرّاء، وفي هذا الحديث إباحةُ ضرب الرّجل امرأتَه للتّأديب، فإنْ ضَرَبها الضَّرْبَ المأذونَ فيه فماتت منه، وجبت دِيَتُها على عاقلة الضَّارب، ووجبت الكفَّارة في ماله.
«ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف»
فيه وجوب نَفَقة الزّوجة وكِسوتها، وذلك ثابتٌ بالإجماع" [5].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «فاتقوا الله في النساء» عطفٌ من حيث المعنى على قوله: «إن دماءكم وأموالكم»؛ يعني: فاتقوا الله في استباحة الدماء، وفي نهب الأموال، وفي النساء، وهي من عطف الإنشائيِّ على الإخباريِّ بالتأويل... وفي رواية المصابيح: «واتقوا» بالواو، وكلاهما جائزان. قوله: «بأمان الله»؛ أي: بعهده، وهو ما عُهِد إليهم من الرِّفق بهن، والشَّفَقة عليهن. قوله: «بكلمة الله» قيل: هي قوله تعالى:
﴿فَٱنكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ﴾
وقيل: هي الإيجاب والقبول؛ لأن الله تعالى أَمَر بها، وقيل: هي قوله تعالى:
﴿فَإِمْسَاكٌۢ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌۢ بِإِحْسَٰنٍۢ ۗ ﴾
وهو قول الخطابيِّ، وقيل: كلمة التوحيد؛ إذ لا تَحِلُّ مسلمةٌ لغير مسلم، والأول هو الأَوْجَه. المعنى: أن استحلالكم فروجَهن، وكونهن تحت أيديكم، إنما كان بعهد الله وحُكمه، فإن نقضتُم عهدَه، وأَبطلتُم حُكمه، انتقم منكم لهن. قوله: «أن لا يوطئن فرشكم»؛ أي: لا يأذنَّ لأحد من الرجال أن يتحدَّث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب، لا يَرَون ذلك عَيبًا، ولا يَعُدُّونه رِيبةً، إلى أن نزلت آية الحجاب، وليس المرادُ بوَطء الفراش نفسَ الزنا؛ لأن ذلك محرَّم على الوجوه كلِّها، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه، ولو كان ذلك لم يكن الضربُ فيه ضربًا غير مبرِّح؛ وإنما كان فيه الحدُّ، والضرب المبرِّح هو الشديد.
والنهيُ يتناول الرجال والنساء جميعًا، وهكذا المسألةُ عند الفقهاء؛ لأنها لا يَحِلُّ لها أن تَأْذَن لرجل ولا امرأة، مَحْرَم وغيرها في دخول منزل الزوج، إلا مَن عَلِمت أو ظنَّت أن الزوج لا يَكرَهه؛ لأن الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممَّن أَذِن له في الإذن، أو عرف رضاه بالظنِّ، أو العُرف، ومتى حصل الشكُّ في الرضا، لا يحلَّ الدخول ولا الإذن. وظاهر قوله: «أن لا يوطئن فرشكم أحدًا» مُشعِر بالكناية عن الجماع، فعبَّر به عن عدم الإذن مُطلَقًا تغليظًا وتشديدًا.
قوله: «غير مبرِّح» هو من برَّح به الشَّوق تبريحًا، إذا اشتدَّ عليه بحيث جَهده، وبُرَحَاء الوحيِ شدَّته. وفيه إباحة ضربها للتأديب، فلو ضَرَبها الضربَ المأذون فيه فماتت منه، وجبت الدِّيَة على العاقلة، والكفَّارة على الضارب" [6].
قال ابن القيم رحمه الله: "وكانت سيرته ﷺ مع أزواجه حُسنَ المعاشرة، وحُسن الخُلق، وكان يسرِّب إلى عائشة بناتِ الأنصار يلعبن معها، وكان إذا هَوِيت شيئًا لا محذورَ فيه، تابعها عليه، وكانت إذا شربت من الإناء، أخذه فوضع فمَه في موضع فَمِها وشَرِب، وكان إذا تعرَّقت عَرْقًا - وهو العظمُ الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها، وكان يتَّكِئ في حِجرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها، وربما كانت حائضًا، وكان من لُطفه ﷺ وحُسن خُلقه مع أهله أنه يمكِّن زوجه عائشة رضي الله عنها من اللعب، ويُريها الحبشة وهم يلعبون في مسجده، وهي متَّكِئة على مَنكِبَيه تنظر، وسابَقَها في السَّفَر على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة، وكان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتُهن خرج سهمها خرج بها معه، ولم يقضِ للبواقي شيئًا [7].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله: «فقال بإصبعه السّبَّابة يرفعها إلى السّماء، وينكتها إلى النّاس: اللّهمّ اشهد» هكذا ضبطناه (يَنْكُتُها) بعد الكاف تاء مثنَّاة فوقُ، قال القاضي: كذا الرّواية بالتّاء المثنَّاة فوقُ، قال: وهو بعيدُ المعنى، قال: قيل: صَوَابُه (يَنْكُبُها) بباء موحَّدة. قال: ورُوِّيناه في سُنن أبي داود بالتاء المثنَّاة من طريق ابن الأعرابيِّ، وبالموحَّدة من طريق أبي بكر التّمَّار، ومعناه: يَقلِبها ويَردُّها إلى النّاس مشيرًا إليهم، ومنه (نَكَب كِنانته) إذا قَلَبها. هذا كلام القاضي" [8].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «لن تضلُّوا بعده»؛ أي: بعد التمسُّك به، والعمل بما فيه، و«كتاب» بدل أو بيان لـ «ما»، وفي التفسير بعد الإبهام تفخيم لشأن القرآن، وفي تعقيب هذا الكلام – أعني: «وقد تركت فيكم» الكلام السابق - تعميمٌ بعد التخصيص. قوله: «وأنتم تسألون عني» عطف على مقدَّر؛ أي: قد بلَّغت ما أُرسلت به إليكم جميعًا، غير تارك لشيء مما بعثني الله به، وأنتم تُسألون عن ذلك يوم القيامة: هل بلَّغكم محمدٌ جميع ما أمر به أن يبلَّغ إليكم؟
﴿۞ يَٰٓأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ ﴾
أي: إن لم تبلِّغ الجميع
﴿فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُۥ ۚ﴾
لأنك كتمتَ شيئًا مما أُنزل إليك، فما بلَّغتَ جميع ما أُنزل إليك، والفاء في قوله: «فما أنتم قائلون؟» يدلُّ على هذا المحذوف؛ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأيِّ شيء تُجيبونه؟ ومن َثَّم طبق جوابهم السؤال، فأَتَوا بالألفاظ الجامعة؛ أي: بلَّغتَ ما أُنزِل إليكَ، وأدَّيْتَ ما كان عليك، وزِدْتَ على ذلك بما نصحتنا من السُّنن، والآداب، وغير ذلك.
قوله: «فقال»؛ أي: أشار. وقوله: «يرفعها إلى السماء» حالٌ إما من فاعل «قال»، أو من «السبَّابة»؛ أي: رافعًا إيَّاها، أو مرفوعةً. قوله: «ويَنْكُبُها» هي بالباء الموحَّدة من تحتُ؛ أي: يُمِيلها إليهم، من نَكَبْتُ الإناء نَكبًا، ونَكَّبتُها تنكيبًا، إذا أماله كبه.
وضبطناه بالتاء المثنَّاة من فوقُ. قال القاضي عياض: كذا الروايةُ، وقال: وهو بعيد المعنى، وقيل: صوابُه بالباء الموحَّدة، ورُوِّينا في سنن أبي داود بالتاء المثنَّاة من طريق ابن الأعرابيِّ، وبالموحَّدة من طريق أبي بكر التمَّار، ومعناه: يردُّها، ويَقلِبها إلى الناس مشيرًا إليهم" [9].
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 182، 183).
2. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183).
4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1964، 1965).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183، 184).
6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1965، 1966).
7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 146).
8. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 184).
9. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1966، 1967).