غريب الحديث

أحدَثَ: أي: ابتدع.

أمْرنا: أي: ديننا.

ردٌّ: أي: مردود لا يُلتفت إليه.

المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي أم المؤمنين عائشةُ - رضيَ اللهُ عنها - عن رسول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَن أحدَثَ في أمْرِنا هذا ما ليس فيه، فهو رَدٌّ»؛ أي: مَنِ ابتدع في دين الإسلام وشريعته ما ليس منه، فبدعتُه مردودةٌ عليه، ولا يُلتفت إليها.

الشرح التفصيليُّ

انحراف الديانات السابقة على الإسلام من مسيحية ويهودية جاء بسبب التزيُّد فيها، وابتداع ما ليس منها، فانحرفت شيئًا فشيئًا حتى خالفت الأصل الذي نزلت من أجله، وما الأصنامُ التي عُبِدت في الجاهلية إلَّا تحريفٌ وتزيُّد أضلَّ به الشيطانُ النفوس.

 وفي هذا الحديث تحذير من فعل ذلك في الإسلام، فيقول الرسول ﷺ: «مَنْ أحدَث»؛ أي: مَن ابتدع بدعةً لم يقُل بها الرسول ﷺ. «في أمرِنا هذا»؛ أي: في دين الإسلام. «ما ليس منه»؛ أي: لم يشهد له أصل من أصول الإسلام. «فهو ردٌّ»؛ أي: مردودٌ؛ لا يُلتفت إليه على الإطلاق.

وهذا الحديث على إيجازه مهمٌّ جدًّا حيث قيل عنه[2]: "هذا الحديث مما ينبغي حفظُه وإشهارُه في إبطال المنكرات، وإشاعة الاستدلال به لذلك"، و"هذا الحديث معدودٌ من أصول الدين وقاعدة من قواعده"، و"هذا الحديث يصحُّ أن يسمَّى نصف أدلَّة الشرع".

وقد جاءت الآيات القرآنية الكثيرة التي تحذِّر من البدع،

ومنها قوله تعالى:

﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾

[الأنعام: 153].

وعن مجاهد في قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ﴾. قال: "البِدَع والشُّبهات"[3]

وقوله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾

[الأنعام: 159]

و"الآية في أهل البِدَع والأهواء والفِتَن، ومن جرى مَجرَاهم من أمَّة محمد عليه الصلاة والسلام؛ أي: فرَّقوا دين الإسلام"[4] 

ومنها قوله تعالى:

﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

[آل عمران: 105 – 107].

قال قتادة في قوله تعالى:

﴿كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا﴾:

"يعني: أهل البدع"[5]

 وعن ابن عباس في قوله:

﴿ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾،

قال: "تَبْيَضُّ وجوه أهل السنَّة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البِدعة"[6]

وكان رسول الله ﷺ يقول في مقدِّمات خُطَبه: «مَنْ يهدِهِ اللهُ فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضللْ فلا هاديَ لهُ، وخيرُ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ، وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ»[7]

والبِدْعَة هي: الإتيان بأمر يتعلَّق بالاعتقاد أو العبادة، سواءٌ كان أمرًا قَوليًّا أو فعليًّا، أو ترك أمر بنِيَّة التقرُّب بذلك التَّرْك، أو نسبة تحريمه إلى الدين، كلُّ ذلك بغير دليل شرعيٍّ يخصُّ ذلك الأمر داخلًا في عموم طلبه، أو المنع منه، ثم يكون الأمر مطلوبًا طلبًا مطلَقًا فيُقيِّده العامل بعدد، أو وقت، أو كيفيَّة لم يَرِد بها دليل، فذلك كلُّه يَدخُل في البدعة؛ ولكنه هنا يكون بدعةً إضافية، وحين لا يكون مطلوبًا أصلًا يسمَّى بدعة حقيقية.

وتنقسم البدع إلى بِدَع اعتقادية وبِدَع عملية، والبِدَعُ الاعتقاديةُ هي اعتقاد ما لم يَعتقِدْه الرسول ولا أصحابه؛ مثل بِدْعةِ نَفْيِ القَدَر، والبدعُ العملية مثل التعبُّد بما لم يتعبَّد به الرسول وأصحابه؛ مثل دعاء غير الله، والذَّبح لغير الله، والنَّذر لغير الله، وهي كفرٌ، ومنها ما ليس بكفر؛ مثل الأوراد والحَضَرات التي لا تشتمل على شِرك.

ومن نماذج البدع الحديثة: الاحتفال بالْمَولد النبويِّ، والجهر بالنِّيَّة في الصلاة، والاحتفال بالإسراء والمعراج، والاحتفال بالهجرة النبوية، واختصاص شهر رجب بعبادات، والتزيُّد في الأذكار وتقييدها بعددٍ لم يَرِد به نصٌّ، والتوسُّل بالموتى، والصلاة في مساجد بُنِيَت على مقابرَ، والمصافحة عقب الصلاة، وغيرها من البدع التي تخالف أصول الإسلام.

وأسباب الوقوع في البدع كثيرة، منها: الجهلُ بمصادر الأحكام الشرعية، والجهلُ باللغة العربية وأساليبها في التعبير والإبانة، ومتابعةُ الهوى، وتقديمُ العقل على الشرع ونصوصِه، وتقليدُ غير المسلمين، وغيرُها من الأسباب.

ونتائج هذه البدع التي حذَّر منها الحديث الشريف وَخِيمةٌ على الفرد وعلى الأمَّة، فهي سببُ تفرُّق الأمَّة وحدوث الخلافات بينها، وانحراف العقيدة الصحيحة التي تركَنا عليها رسولُ الله ﷺ، وانتقال الأمَّة من العزَّة التي تحقِّقها لها العقيدة الصحيحة، إلى الخنوع والخضوع والتذلُّل والتنازل، وتغيير الولاء للإسلام والغَيرة عليه، إلى الولاء لرؤوس البِدَع.

وبسبب هذه المخاطر على الفرد وعلى الأمَّة كان التحذير الشديد في القرآن والسنَّة من هذه البدع، وكانت مقاومة علماء هذه الأمَّة لها مقاومة شديدة على مرِّ الأزمان.

المراجع

  1. انظر :الاعتصام (1 / 75). وما بعدها ودليل الفالحين لطرق الصالحين لابن علان الصديقي (325/1)
  2. الاعتصام (1 / 77).
  3. السابق.
  4.  "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية الأندلسي (5/ 410، 411).
  5.  الاعتصام (1/75).
  6.  السابق.
  7.  رواه مسلم (6/156).

النقول:

قال ابن رجب : " وبهذا يُعلَم معنى ما روى الإمام أحمدُ أنّ أصول الإسلام ثلاثة أحاديث: حديث: «الأعمال بالنّيّات»، وحديث: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ،»، وحديث: «الحلال بيّن والحرام بيّن»؛ فإنّ الدّين كلَّه يرجع إلى فعل المأمورات، وترك المحظورات، والتّوقُّف عن الشُّبهات، وهذا كلُّه تضمَّنه حديث النُّعمان بن بشير.

وإنّما يتمُّ ذلك بأمرين؛ أحدهما: أن يكون العمل في ظاهره على موافقة السّنَّة، وهذا هو الّذي تضمَّنه حديث عائشة: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه، فهو ردّ»، والثّاني: أن يكون العمل في باطنه يُقصَد به وجه اللّه عزّ وجلّ، كما تضمَّنه حديث عمر: «الأعمال بالنّيّات»، وقال الفُضيل في

قوله تعالى:

ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ ﱠ

[الملك: 2]

قال: أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صَوَابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان للّه عزّ وجلّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة... وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"[1]

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هذا ما ليس مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي الرّواية الثّانية: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ». قال أهل العربيّة: الرّدُّ هنا بمعنى المردود، ومعناه: فهو باطل غير معتدٍّ به، وهذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهو من جوامع كلمه ﷺ؛ فإنّه صريح في ردِّ كلِّ البدع والمخترعات، وفي الرّواية الثّانية زيادة، وهي أنّه قد يعاند بعض الفاعلين في بدعة سَبق إليها، فإذا احتُجَّ عليه بالرّواية الأولى، يقول: أنا ما أحدثتُ شيئًا، فيُحتَجُّ عليه بالثّانية الّتي فيها التّصريح بردِّ كلِّ المحدثات، سواء أحدثها الفاعل أو سبق بإحداثها، وفي هذا الحديث دليل لمن يقول من الأصوليّين: إنّ النّهيَ يقتضي الفساد، ومن قال: لا يقتضي الفساد يقول: هذا خبر واحد ولا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمَّة، وهذا جواب فاسد، وهذا الحديث ممّا ينبغي حفظه واستعماله في إبطال المنكَرات، وإشاعة الاستدلال به"[2]

قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديثُ أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أنّ حديث: «الأعمال بالنّيّات» ميزان للأعمال في باطنها، فكما أنّ كلّ عمل لا يُراد به وجه اللّه تعالى، فليس لعامله فيه ثواب، فكذلك كلُّ عمل لا يكون عليه أمر اللّه ورسوله، فهو مردود على عامله، وكلُّ من أحدث في الدّين ما لم يأذن به اللّه ورسوله، فليس من الدّين في شيء، فهذا الحديث بمنطوقه يدلُّ على أنّ كلَّ عمل ليس عليه أمر الشّارع، فهو مردود، ويدلُّ بمفهومه على أنّ كلّ عمل عليه أمره فهو غير مردود، والمراد بأمره هاهنا: دينُه وشرعه؛ كالمراد بقوله في الرّواية الأخرى: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ»؛ فالمعنى إذًا: أنّ من كان عمله خارجًا عن الشّرع ليس متقيِّدًا بالشّرع، فهو مردود. وقوله: «ليس عليه أمرنا» إشارة إلى أنّ أعمال العاملين كلّهم ينبغي أن تكون تحت أحكام الشّريعة، وتكون أحكام الشّريعة حاكمةً عليها بأمرها ونهيها، فمن كان عمله جاريًا تحت أحكام الشّرع موافقًا لها، فهو مقبول، ومن كان خارجًا عن ذلك، فهو مردود"[3]

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«وإيّاكم ومحدثات الأمور»: عطفٌ على قوله: فعليكم؛ للتّقرير والتّوكيد؛ أي: احذروا عن الأمور الّتي أُحدثت على خلاف أصل من أصول الدّين، واتّقوا إحداثها. «فإنّ كلَّ محدثة بدعة»؛ أي: في الشّريعة. «وكلّ بدعة»: بنصب كلّ، وقيل: برفعه. «ضلالة»: إلّا ما خُصَّ، وقد تقدَّم"[4]

 قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ ﷺ : (تمسَّكوا بها)؛ أي: تمسَّكوا بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين، (عضُّوا عليها بالنواجذ)، والنواجذ: أقصى الأضراس، وهو كناية عن شدَّة التمسُّك، فإذا تمسَّك الإنسان بيديه بالشيء وعضَّ عليه بأقصى أسنانه، فإنه يكون ذلك أشدَّ تمسُّكًا مما لو أمسكه بيد واحدة، أو بيدين بدون عضِّ، فهذا يدلُّ على أن النبيَّ أمرنا أن نتمسَّك أشدَّ التمسُّك بسنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعده عليه الصلاة والسلام. ثم قال النبيُّ  ﷺ  بعد أن أمر باتِّباع سنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، وحثَّ على التمسُّك بها، والعضِّ عليها بالنواجذ، قال: (وإياكم ومحدثاتِ الأمور)؛ يعني: أحذِّركم من محدثات الأمور؛ أي: من الأمور المحدثة، وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأمور المحدَثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه: المحدثاتِ في دين الله؛ وذلك لأن الأصل فيما يَدين به الإنسان ربَّه، ويتقرَّب به إليه، الأصل فيه المنع والتحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر اللهُ - عزَّ وجلَّ - على من يحلِّلون ويحرِّمون بأهوائهم؛

فقال تعالى:

وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ لَا يُفۡلِحُونَ ﱠ

[النحل: 116]

وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن به؛

فقال:

أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ وَلَوۡلَا كَلِمَةُ ٱلۡفَصۡلِ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۗ وَإِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ

[الشورى: 21]

وقال:

قُلۡ أَرَءَيۡتُم مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ لَكُم مِّن رِّزۡقٖ فَجَعَلۡتُم مِّنۡهُ حَرَامٗا وَحَلَٰلٗا قُلۡ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمۡۖ أَمۡ عَلَى ٱللَّهِ تَفۡتَرُونَ ﱠ

[يونس: 59]

أما الأمور العادية وأمور الدنيا، فهذه لا يُنكَر على مُحْدَثاتِها إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، أو كان داخلًا في قاعدة عامة تدلُّ على التحريم، فمثلًا السيارات والدبَّابات وما أشبهها، لا نقول: إن هذه محدَثة لم توجد في عهد الرسول ، فلا يجوز استعمالها؛ لأن هذه من الأمور الدنيوية، الثياب وأنواعها، لا نقول: لا تُلبَس إلا ما كان يلبسه الصحابة، البَسْ ما شئتَ مما أحلَّ الله لك؛ لأن الأصلَّ الحلُّ، إلا ما نصَّ الشرع على تحريمه؛ كتحريم الحرير والذهب على الرجال، وتحريم ما فيه الصورة، وما أشبه ذلك"[5]

قال ابن القيم رحمه الله: "قال عبدُ اللّه بنُ مسعود: "اتَّبِعوا ولا تبتدعوا؛ فقد كُفِيتُم؛ فإنَّ كلَّ مُحدَثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال أيضًا: "إنّا نقتدي ولا نبتدي، ونتَّبِع ولا نبتدع، ولن نضلَّ ما تمسَّكنا بالأثر" وقال: "إيّاكم والتّبدُّعَ، وإيّاكم والتّنطُّعَ، وإيّاكم والتّعمُّقَ، وعليكم بالدّين العتيق"، وقال أيضًا: "وإيّاكم والمحدثاتِ؛ فإنّ شرَّ الأمور مُحدَثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة"، وقال: "اتَّبِعْ ولا تبتدع؛ فإنّك لن تضلَّ ما أَخذتَ بالأثر"، وقال ابن عبّاس: "كان يُقال: عليكم بالاستقامة والأثر، وإيّاكم والتّبدُّعَ". قال شُريح: "إنّما أقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سَبَقنا إليه غيركم، حدَّثتُكم به". قال إبراهيم النَّخَعيُّ: "لو بلغني عنهم - يعني الصّحابة - أنّهم لم يجاوزوا بالوضوء ظُفْرًا ما جاوزتُه به، وكفى على قوم وزرًا أن تُخالف أعمالهم أعمال أصحاب نبيِّهم " قال عمر بن عبد العزيز: "إنّه لم يبتدع النّاس بدعةً إلّا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة منها، والسّنَّة ما استنَّها إلّا مَن علم ما في خلافها من الخطأ والزَّلَل والحُمق والتّعمُّق، فارضَ لنفسك ما رَضِيَ القوم"، وقال أيضًا: "قف حيث وقف القوم، وقُل كما قالوا، واسكت كما سكتوا؛ فإنّهم عن عِلْم وقفوا، وببصر ناقد كفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى" أي: فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم حدث بعدهم، فما أحدثه إلّا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، وإنّهم لهم السّابقون، ولقد تكلّموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصّر، ولا فوقهم مجسّر، ولقد قصّر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا، وإنّهم فيما بين ذلك لعلى هدًى مستقيم"[6]

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة، وهي كقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه عن عائشة ڤ: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[7]؛ فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"[8]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "فقوله صلوات الله وسلامه عليه: (وإياكم ومحدثات الأمور) يعني في دين الله، وفيما يتعبَّد به الإنسان لربِّه، ثم قال: (فإن كل بدعة ضلالة) يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة، وإن ظنَّ صاحبها أنها خير، وأنها هدى، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بُعدًا. وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كلُّ بدعة ضلالة) يشمل ما كان مبتدَعًا في أصله، وما كان مبتدَعًا في وصفه. فمثلًا: لو أن أحدًا أراد أن يَذكُر الله بأذكار معيَّنة بصفتها أو عددها، بدون سنَّة ثابتة عن رسول الله ، فإنا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر؛ ولكن نُنكر ترتيبه على صفة معيَّنة بدون دليل. فإن قال قائل: ما تقولون في قول عمر - رضي الله عنه - حين أمر أُبيَّ بنَ كعب وتميمًا الداريَّ - رضي الله عنهما - أن يقوما بالناس في رمضان في تراويحهم، وأن يجتمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا أوزاعًا، فخرج ذاتَ ليلة والناس خلف إمامهم فقال: (نعمتِ البدعة هذه)، فأثنى عليها ووصفها بأنها بدعة، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: (كل بدعة ضلالة). قلنا: إن هذه البدعة ليست بدعةً مُبْتَدأة؛ لكنها بدعة نسبية؛ وذلك لأن النبيَّ ﷺ صلَّى بأصحابه ثلاث ليال أو أربع ليال في رمضان، يقوم بهم، ثم تخلَّف في الثالثة أو الرابعة، وقال: (إني خشيت أن تُفرَض عليكم) فصار الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنَّة سنَّها النبيُّ ﷺ؛ ولكن تركها خوفًا من أن تُفرَض علينا. ثم بَقِيت الحال على ما هي عليه، يصلِّي الرجلان والثلاثة والواحد على حِدَةٍ؛ في خلافة أبي بكر، وفي أول خلافة عمرَ - رضي الله عنهما - جمع الناس على إمام واحد، فصار هذا الجمعُ بدعةً بالنسبة لتركه في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر، وفي أول خلافة عمر - رضي الله عنهما - فهذه بدعة نسبية، وإن شئت فقل: إنها بدعة إضافية، يعني بالنسبة لترك الناس لها هذه المدَّةَ آخِرَ حياة الرسول ، وخلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ثم إنه بعد ذلك استؤنفت هذه الصلاة، وإلا فلا شكَّ أن قول الرسول : (كل بدعة ضلالة) عامٌّ، وهو صادر من أفصح الخلق، وأنصح الخلق - عليه الصلاة والسلام - وهو كلام واضح، كلُّ بدعة مهما استحسنها مبتدِعها، فإنها ضلالة"[9]

قال ابن رجب رحمه الله: "المراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا"[10]

قال القاضي عياض رحمه الله: "البدعة هذه كلُّ ما أُحدِث بعد النبي ﷺ فهو بدعة، والبدعة فعلُ ما لم يُسبق إليه، فما وافق أصلًا من السنَّة يُقاس عليها فهو محمود، وما خالف أصول السُّنن فهو ضلالة. ومنه قوله: «كل بدعة ضلالة»"[11]

قال ابن حجر رحمه الله: "ووجه التّحذير أنّ الّذي يُحدث البدعة قد يتهاون بها؛ لخفَّة أمرها في أوّل الأمر، ولا يَشعُر بما يترتَّب عليها من المفسدة، وهو أن يَلحَقه إثم من عمل بها مِن بعدِه، ولو لم يكن هو عَمِل بها؛ بل لكونه كان الأصلَ في إحداثها"[12]

 قال النوويُّ : "من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة: هذان الحديثان صريحان في الحثِّ على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سنِّ الأمور السّيّئة، وأنّ من سنَّ سُنّةً حسنةً كان له مثل أجر كلّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سنَّةً سيّئةً كان عليه مثل وزر كلّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأنّ من دعا إلى هدًى كان له مثل أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواء كان ذلك الهدى والضّلالة هو الّذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. قوله ﷺ: «فعمل بها بعده» معناه: إن سنَّها، سواء كان العمل في حياته، أو بعد موته، والله أعلم"[13]

المراجع

1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 16).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 176، 177).

4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/  252، 253).

5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 284، 285).

6. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 115).

7. رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).

9. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 285، 287).

10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).

11. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 81).

12. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 302).

13. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 226، 227).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عن رَسُول اللَّهِ  أنه قال: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ»؛ أي: ليس هناك في أيام العام أيامٌ تَفضُل الأعمال الصالحة والطاعات فيها أيامَ العشر الأولى من شهر ذي الحجَّة.

[قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟]: يسألون: حتى ولو كان العملُ الصالح في غير هذه الأيام هو الجهادَ في سبيل الله؟

 قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»؛ فأجابهم بأنه حتى الجهاد لا يَفضُل الأعمال الصالحة في هذه العشر، واستثنى حالة فريدة، وهي أن يخرج المسلم مجاهدًا في سبيل الله بنفسه وماله، ثم يُقتَل ويؤخذ مالُه؛ فهذا أفضل من العمل الصالح في أيام العشْرِ، وإذا وقع هذا العمل في أيام العشر تضاعَف فضلُه.

الشرح المفصَّل للحديث

 إن من مظاهر الربوبية لله - عزَّ وجلَّ - تعظيمَ ما يشاء من الخلق والأيام والأوقات والأماكن التي يختارها سبحانه، وإن مِن عظيم لُطف الله تعالى بعباده المؤمنين أن جَعَل لبعض الأزمنة والأماكن فضائلَ ومزايا ليست لغيرها؛ فجَعَل يومَ عرفةَ خيرَ أيَّام العام، ويومَ الجُمُعة أفضلَ أيام الأسبوع، وجعل الكعبةَ أفضلَ البقاع، وشهرَ رمضان أفضلَ الشهور، وليلةَ القَدْر أفضلَ الليالي.

    وقد جعل الله في تلك الأوقات والأماكن من الفَوز العظيم والفلاح الْمُبين ما يُحفِّز الإنسانَ على العمل، واغتنام تلك النَّفَحات المباركة.

    وهذا الحديث يدلُّ على اختيار الأيام العَشَرة الأُوَلِ مِن ذي الحِجَّةِ، وتخصيصها بالمزايا والفضائل، وهو اختيار ربَّانيٌّ، وتخصيص إلهيٌّ؛ حيث ينفرد سبحانه بتعظيم ما يشاء من خلقه، وما يختار من الزمان والمكان، فهو الذي يفعل ما يشاء لحِكمة يعلمها سبحانه.

يقول ﷺ:

«مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ»

يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ: فمن رحمة الله تعالى وفضله على عباده المؤمنين أن مَنَّ عليهم بأيام العشر من ذي الحِجَّة الْمُبارَكة، حيث يُضاعِفُ لهم فيها الأجرَ على الطاعات، ويُكرمهم فيها بجَزيلَ الثَّوابِ؛ رَحمةً منه وكرَمًا.

ويُرشد النبيُّ صلي الله عليه وسلم في هذا الحديث إلى فَضْلِ العملِ الصَّالحِ في العَشْرِ الأُوَلِ من شهر ذي الحِجَّةِ، ويُبيِّن أنَّ أجْرَ العمل الصَّالحِ فيها يُضاعَفُ ما لا يُضاعَفُ في سائرِ أيَّامِ العام؛ فعلى المسلم أن يحرص أشدَّ الحرص على أن يغتنمها بالإكثار من الطاعات والأعمال الصالحة فيها.

فينبغي للمؤمن أن يغتنم هذه النفحاتِ الكريمةَ بأن يستقبلها بالتوبة إلى الله تعالى، وأن يبرأ إلى الله تعالى من كلِّ المعاصي والآثام التي يرتكبها، وأن يجتنب كلَّ ما نهى الله تعالى عنه ورسولُه؛ فالذنوب والمعاصي تُقسِّي القلب وتُبعده عن الله تعالى، وتَحرِم الإنسان فضلَ ربِّه.

وينبغي للمؤمن أن يستقبل هذه الأيامَ الكريمة ونفحاتِها بالنيَّة الخالصة، والقلب الصافي، والعزم الأكيد على اغتنامها، والسعي لنَيل رضا الله تعالى، وليحرصْ على اغتنام هذه الْمَكرُمات والفضائل والنَّفحات قبل أن تفوته، فلا يحصِّل إلا الحسرة والنَّدَم.

"والذي يَظهَر أن السببَ في امتياز عَشْرِ ذي الحِجَّة لمكان اجتماع أُمَّهات العبادة فيه، وهي الصلاةُ والصيام والصدقة والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيره" [1].

"وهذا العشْرُ مشتمِل على يوم عرفةَ الّذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادةَ قال: سُئل رسول اللّه صلي الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفةَ، فقال: «أَحْتَسِبْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ» [2]، ويَشتمِل على يوم النّحر الّذي هو يوم الحجِّ الأكبر، وقد ورد في حديث أنّه أفضل الأيام عند اللّه [3].وبالجُملة، فهذا العشْر قد قيل: إنّه أفضل أيام السّنة، كما نُطق به الحديث، ففضَّله كثير على عشْرِ رمضانَ الأخير؛ لأنّ هذا يُشرَع فيه ما يُشرَع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحجِّ فيه. وقيل: ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، الّتي هي خير من ألف شهر. وتوسَّط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل؛ وبهذا يجتمع شمل الأدلَّة، واللّه أعلم"[4].

ومِن أعظم الأعمال الصالحة والطاعاتِ في عشر ذي الحِجَّة: ذِكرُ اللهِ تعالى، وأعظمُ الذِّكرِ قِراءةُ القُرآنِ، والتَّهليلُ، والتَّكبيرُ، والتَّحميدُ؛

فعن ابْنِ عُمَرَ عن النبيِّ ﷺ قال:

«ما مِن أيَّامٍ أعظمُ عِندَ اللهِ، ولا أحَبُّ إليه، مِن العَملِ فيهنَّ مِن هذه الأيَّامِ العَشْرِ؛ فأَكْثِروا فيهِنَّ مِن التَّهليلِ، والتَّكبيرِ، والتَّحْمِيد»

[5].

ومن الأعمال الصالحة فيها: الصيام؛ فقد "اسْتُدِلَّ بهذا الحديث على فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لانْدِرَاجِ الصَّوم في العمل، وَاسْتُشْكِلَ بتحريم الصوم يَوْمَ العيد، وأُجيب بأنه محمولٌ على الغالب" [6].

"وممن كان يصوم العشْرَ عبدُ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما – وذَكَرَ الحسن وابن سيرين وقتادةُ فضل صيامه، وهو قول أكثرِ العلماء أو كثير منهم... وكان ابن سيرين يكره أن يُقال: صام العَشْرَ؛ لأنه يوهِم دخول يوم النحر فيه؛ وإنما يُقال: صام التِّسع؛ ولكن الصيام إذا أُضيف إلى العشر، فالمراد صيام ما يجوز صومه منه" [7].

"وأما استحبابُ الإكثار من الذكر فيها، فقد دلَّ عليه قولُ الله عزَّ وجلَّ:

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}

[الحج: 28]؛

فإن الأيامَ المعلوماتِ هي أيام العشر عند جمهور العلماء"[8].

وروى البخاريُّ في صحيحه:

"وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا"

[9].

    فعلى المؤمن أن يغتنم هذه الأيام في إحسان الفَرائض والواجِبات، والإكثار من كلِّ أعْمالِ البِرِّ والمَعروفِ، والتزوُّد من التَّطوُّعِ في العِباداتِ؛ من صلاة النوافل، وقيام الليل، والصيام – خاصَّةً صيامَ يوم عرفة – والإكثار من الصدقة، والإكثار من قراءة القرآن، والإكثار من الدعاء، والحرص على الصلاة في جماعة، وعلى الوقوف في الصفِّ الأوَّل في الجماعة، وهَلُمَّ جرًّا.

    وليعلمِ المسلم أن كلَّ فرض أدَّاه في العَشرِ هو أفْضلُ مِن فرْضٍ أدَّاه في غيرِها من أيام السنة، وكذلك النَّفْلُ في العَشرِ أفضلُ مِن النَّفْلِ في غيرِها، وذلك يَشمَلُ أيضًا ترْكَ المنهيَّاتِ والمنكَراتِ؛ فمَنْ ترَكَ المعصيةَ في هذه العشر كان أجْرُه أفضلَ من تَركِه للمَعصيةِ في غيرِها.

فسأل الصَّحابةُ - رضي الله عنهم - عن الجهاد في غير عَشْرِ ذي الحِجَّة، «قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟»؛ فهل العملُ الصَّالحُ في هذه الأيام العشَرة يَفضُلُ الجهاد؟  فالجهاد ذِرْوةُ سَنام الإسلام، وهو من أفضل الأعمال الصالحة، وله الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله تعالى.

فأجابهم قَالَ: «وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ»؛ أي: نَعم؛ يَفضُلُ العَمَلُ الصَّالحُ في هذِه الأيَّامِ العَشَرةِ الجِهادَ في غَيرِها من أيام السنة، واستثنى حالةً فريدة، وهو أن يكون رجُلٌ خرَجَ مُخاطِرًا بنفْسِه ومالِه في سَبيلِ اللهِ، ففَقَدَ مالَه، وفاضَتْ رُوحُه في سَبيلِ اللهِ؛ فالجِهادُ بهذه الصُّورةِ الفريدة هو الذي يَفضُلُ العَملَ الصالح في هذه الأيَّامِ العشْرِ؛ فالجهاد ذِرْوَة سنام الإسلام، وله قَدْرُه في دين الإسلام وشَرَفُه الذاتيُّ الذي لا يرتبط بزمان ولا مكان.

"وفي الحديث تعظيمُ قَدْرِ الجهاد، وتفاوتُ درجاته، وأن الغاية القُصوى فيه بَذْلُ النفس لله، وفيه تفضيلُ بعض الأزمنة على بعضٍ؛ كالأمكنة، وفضلُ أيام عَشْرِ ذي الحِجَّة على غيرها من أيَّام السنة، وتَظهَر فائدة ذلك فيمن نَذَرَ الصيام، أو علَّق عملًا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أَفرَد يومًا منها، تعيَّن يومُ عرفةَ؛ لأنه على الصحيح أفضلُ أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع، تعيَّن يوم الجمعة؛ جمعًا بين حديث الباب، وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا:

«خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ»

[10]" [11].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).
  2. رواه مسلم (1162).
  3. في الحديث الذي أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1549) عن النبيِّ ﷺ أَنَّه قال: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» ويوم القَرِّ: الحادي عشر من ذي الحجِةَّ..
  4. "تفسير ابن كثير" (5/ 415، 416).
  5. رواه أحمد (5446)، وصحَّحه شعيب الأرنؤوط.
  6. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).
  7. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 262).
  8. لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 263). 
  9. "صحيح البخاريِّ" (2/ 20).
  10. رواه مسلم (854).
  11. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).


النقول

قال ابن كثير رحمه الله: : "وهذا العشْرُ مشتمِل على يوم عرفةَ الّذي ثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادةَ قال: سُئل رسول اللّه ﷺ عن صيام يوم عرفةَ، فقال: «أَحْتَسِبْ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْآتِيَةَ» [1]، ويَشتمِل على يوم النّحر الّذي هو يوم الحجِّ الأكبر، وقد ورد في حديث أنّه أفضل الأيام عند اللّه [2].وبالجُملة، فهذا العشْر قد قيل: إنّه أفضل أيام السّنة، كما نُطق به الحديث، ففضَّله كثير على عشْرِ رمضانَ الأخير؛ لأنّ هذا يُشرَع فيه ما يُشرَع في ذلك، من صيام وصلاة وصدقة وغيره، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحجِّ فيه. وقيل: ذاك أفضل لاشتماله على ليلة القدر، الّتي هي خير من ألف شهر. وتوسَّط آخرون فقالوا: أيام هذا أفضل، وليالي ذاك أفضل؛ وبهذا يجتمع شمل الأدلَّة، واللّه أعلم" [3].

قال ابن حجر العسقلانيُّ رحمه الله: "والذي يَظهَر أن السببَ في امتياز عَشْرِ ذي الحِجَّة لمكان اجتماع أُمَّهات العبادة فيه، وهي الصلاةُ والصيام والصدقة والحجُّ، ولا يتأتَّى ذلك في غيره" [4].

قال ابن القيم رحمه الله: "سُئل [شيخ الإسلام ابن تيمية] عن عشْر ذي الحِجَّة، والعشْر الأواخر من رمضان، أيُّهما أفضل؟ فقال: "أيام عشْرِ ذي الحِجَّة أفضلُ من أيام العشْرِ من رمضانَ، والليالي العشْرُ الأواخر من رمضانَ أفضلُ من ليالي عشر ذي الحجة". وإذا تأمَّل الفاضل اللبيب هذا الجواب، وَجَده شافيًا كافيًا، فإنه ليس من أيَّام العملُ فيها أحبُّ إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيهما يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية، وأما ليالي عشر رمضانَ، فهي ليالي الإحياء التي كان رسولُ الله صلي الله عليه وسلم يُحييها كلَّها، وفيها ليلةٌ خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل، لم يمكِنْه أن يُدْليَ بحُجَّة صحيحة" [5].

قال ابن حجر العسقلانيُّ رحمه الله: "وفي الحديث تعظيمُ قَدْرِ الجهاد، وتفاوتُ درجاته، وأن الغاية القُصوى فيه بَذْلُ النفس لله، وفيه تفضيلُ بعض الأزمنة على بعضٍ؛ كالأمكنة، وفضلُ أيام عَشْرِ ذي الحِجَّة على غيرها من أيَّام السنة، وتَظهَر فائدة ذلك فيمن نَذَرَ الصيام، أو علَّق عملًا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أَفرَد يومًا منها، تعيَّن يومُ عرفةَ؛ لأنه على الصحيح أفضلُ أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع، تعيَّن يوم الجمعة؛ جمعًا بين حديث الباب، وبين حديث أبي هريرة مرفوعًا: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فيه الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ» رواه مسلم [6]، أشار إلى ذلك كلِّه النوويُّ في شرحه، وقال الدَّاوُدِيُّ: لم يُرِدْ - عليه الصلاةُ والسلامُ - أَنَّ هذه الأيامَ خَيْرٌ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ؛ لأنه قد يكون فيها يَوْمُ الْجُمُعَةِ؛ يعني: فَيَلْزَمُ تفضيلُ الشيء على نفْسه، وَتُعُقِّبَ بِأَنَّ الْمُراد أَنَّ كلَّ يوم من أَيَّامِ العَشْرِ أفضلُ من غيره من أيام السنة، سواءٌ كان يَوْمَ الْجُمُعَةِ أم لا، ويَوْمُ الْجُمُعَةِ فيه أَفْضَلُ من الْجُمُعَةِ في غيره؛ لاجتماع الفَضلينِ فيه، وَاسْتُدِلَّ به على فَضْلِ صِيَامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِانْدِرَاجِ الصَّوم في العمل، وَاسْتُشْكِلَ بتحريم الصوم يَوْمَ العيد، وأُجيب بأنه محمولٌ على الغالب" [7].

قال ابن رجب رحمه الله: "وممن كان يصوم العشْرَ عبدُ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - وقد تقدَّم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذِكْرُ فضل صيامه، وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم... وكان ابن سيرين يكره أن يُقال: صام العَشْرَ؛ لأنه يوهِم دخول يوم النحر فيه؛ وإنما يُقال: صام التسع؛ ولكن الصيام إذا أُضيف إلى العشر، فالمراد صيام ما يجوز صومه منه" [8].

قال ابن رجب رحمه الله:: "وأما استحبابُ الإكثار من الذكر فيها، فقد دلَّ عليه

قولُ الله عزَّ وجلَّ:

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ}

[الحج: 28]؛

فإن الأيامَ المعلوماتِ هي أيام العشر عند جمهور العلماء"[9].

قال ابن تيمية رحمه الله: "أفضلُ أيّام الأسبوع يومُ الجمعة باتّفاق العلماء، وأفضل أيّام العام هو يوم النَّحر، وقد قال بعضهم: يومُ عرفةَ، والأوّل هو الصّحيح؛ لأنّ في السُّنن

عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: 

«أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ»

[10] [11]

لأنّه يومُ الحجِّ الأكبر في مذهب مالك والشّافعيِّ وأحمدَ؛ كما ثبت في الصّحيح

عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال:

«يَوْمُ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ»

[12]

وفيه من الأعمال ما لا يُعمل في غيره؛ كالوقوف بمزدلِفة، ورمي جمرة العقبة وحدَها، والنّحر، والحَلْق، وطواف الإفاضة، فإنّ فعل هذه فيه أفضل بالسُّنَّة، واتِّفاق العلماء، واللّه أعلم" [13]

المراجع

1. رواه مسلم (1162).

2. في الحديث الذي أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1549) عن النبيِّ ﷺ أَنَّه قال: «أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ» ويوم القَرِّ: الحادي عشر من ذي الحجِةَّ..

3."تفسير ابن كثير" (5/ 415، 416).

4. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).

5. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 162).

6. رواه مسلم (854).

7. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 460).

8. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 262).

9. "لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 263).

10. يوم القَرِّ: أول أيام التشريق، وهو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.

11. أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1549).

12. أخرجه البخاريُّ (3177)، ومسلم (1347).

13."مجموع الفتاوى" (25/ 288)


المعنى الإجماليُّ للحديث:

روي مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ رضي الله عنه ، عن النَّبِيِّ : «الْعِبَادَةُ»؛ أي: ثَوَابُ العبادة مع الاستقامة والاستدامة عليها. «فِي الْهَرْجِ»؛ أي: زَمَنَ احتدام الفِتنة، وكثرة القتل، واختلاط أمر الناس.

«كَهَجْرَةٍ إِلَيَّ»؛ أي: مثلُ ثَواب الهجرة إلى النبيِّ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.


الشرح المفصَّل للحديث:

  الفتن بلاءٌ عظيم يَبتلي الله به هذه الأمَّة، وقد أخبرَنا النبيُّ بحدوثها قبلَ وقوعها، وهذا من دلائل نبوَّته، ومعجزة ظاهرة له، وَقَعت كما أخبر بها؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»[1] أي: الفتن، وفي الحديث دلالةٌ على أن زيادة الفتن وشُيوعها وظهورها من علامات قُرب الساعة، نسأل الله السلامة والثبات، وقد فسَّرها النبيُّ بالقتل أيضًا كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ العَمَلُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قَالُوا: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: «القَتْلُ القَتْلُ»[2].

ووجَّهَنا ربُّ العزَّة - عزَّ وجلَّ - إلى الصبر والصلاة عند مواجهة الْمُلِمَّات والشدائد والفتن؛

فقال تعالى:

واستعينوا بالصبر والصلاة 

[البقرة: 45]

وأرشَدَنا النبيُّ لِمَا ينبغي على المسلم عَمَلُه حين حدوثها؛ حتى يَسلَم من شرِّها بإذن الله، فأمَرَنا بالاستعانة بالعبادة في مواجهة هذه الفتن، وأن ثوابها وقتَ الفِتَن يَعدِل ثواب الهجرة.

فقال «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ»؛ أي: أداء العبادات، والطاعات، والمحافظة عليها، وقتَ الفتن، واختلاط الأمور، وكثرة القتل بين الناس، فعبادةُ الله في زمن كَثُرت فيه الفتن، واستَعَرَتْ فيه الشَّهَوات، وعمَّ فيه الفساد، تُعَدُّ هجرةً خالصة إلى الله تعالى ورسوله.

والعبادةُ: اسم جامع لكل ما يحبُّه الله ويرضاه، من صلاة وصدقة وصيام وحجٍّ، وبرٍّ وصلة وإحسان، وأمر بالمعروف ونهيٍ عن المنكر، وغيرها من أنواع العبادات، فهي الغاية التي خَلَقَنا الله من أجلها؛

قال تعالى:

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

[الذاريات: 56]

،

وقال تعالى:

﴿ وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ ﴾

[الأنبياء: 25].

قوله «كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»؛ أي: في كثرة الثواب؛ يعني: كثواب الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة قبل فتح مكة، أو يُقال: المهاجر في الأول كان قليلًا؛ لعدم تمكُّن أكثر الناس من ذلك، فهكذا العابد في الهرْج قليل.

"وجهُ تمثيله بالهجرة أن الزمن الأوَّل كان الناس يَفِرُّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن، تعيَّن على المرء أن يَفِرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويَهجُر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحدُ أقسام الهجرة"[3].

هذا؛ وقد ارتفعت منزلة العبادة في الفتنة، وعَلَت مكانتها، حتى تساوت بالهجرة؛ لأسباب متعدِّدة، ذكرها العلماء في ثنايا شروحهم، وهي كالتالي: 

السبب الأول: إذا عَمَّت الفتن اشتغلت القلوب، وإذا تعبَّد حينئذٍ متعبِّدٌ، دلَّ على قُوَّة اشتغال قلبه بالله - عزَّ وَجلَّ - فيَكْثُر أجره[4].

السبب الثاني: أن المتمسِّك بالعبادة في ذلك الوقت، والمنقطع إليها المعتزل عن الناس، أجرُه كأجر المهاجِر إلى النبيِّ ؛ لأنَّه يناسبه من حيث إن المهاجر قد فرَّ بدينه عمَّن يَصُدُّه عنه إلى الاعتصام بالنبيِّ ، وكذلك هذا المنقطِع للعبادة فرَّ من الناس بدينه إلى الاعتصام بعبادة ربِّه، فهو على التحقيق قد هاجر إلى ربِّه، وفرَّ من جميع خلقِه[5].

السبب الثالث: أن الناس يَغْفُلون عنها ويَشْتَغلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد[6].

السبب الرابع: أن الناس في زمن الفتن يتَّبِعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويَعبُد ربَّه، ويتَّبِع مَرَاضيَه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله مؤمنًا به، متَّبِعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه[7].

السبب الخامس: أن العبادة في وقت غفلة الناس شاقَّة وشديدة على النفوس؛ لأن النفوس تقتدي بما تشاهده، والناس كأسراب القَطَا يتْبَع بعضهم بعضًا، فإذا كَثُرت الغفلة تأسَّى بهم عموم الناس، فتشقُّ العبادات على نفوس الصالحين، فإذا قاموا بها على أكمل وجه، كانت منزلتهم بمنزلة من هاجر من مكَّةَ إلى المدينة

المراجع

  1.  رواه البخاريُّ (7062)، ومسلم (2672).
  2. رواه البخاريُّ (6037)، ومسلم (157).
  3. "فيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناويِّ (4/ 373)
  4.  كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (2/ 42
  5. المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 309).
  6. شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 88).
  7. لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" لابن رجب (ص: 132).




النقول

قال ابن العربيِّ رحمه الله : "وجهُ تمثيله بالهجرة أن الزمن الأوَّل كان الناس يَفِرُّون فيه من دار الكفر وأهله، إلى دار الإيمان وأهله، فإذا وقعت الفتن، تعيَّن على المرء أن يَفِرَّ بدينه من الفتنة إلى العبادة، ويَهجُر أولئك القوم، وتلك الحالة، وهو أحدُ أقسام الهجرة"[1].

قال ابن رجب رحمه الله: "«العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ»، وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتّبِعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسَّك بدينه، ويَعبُد ربَّه، ويتَّبِع مَرَاضيَه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله   مؤمنًا به، متَّبِعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه. ومنها أن المفرد بالطاعة من أهل المعاصي والغفلة قد يَدفَع البلاء عن الناس كلِّهم، فكأنه يحميهم ويدافع عنهم. قال بعض السلف: ذاكرُ الله في الغافلين كَمَثل الذي يحمي الفئة المنهزِمة، ولولا مَن يذكر الله في غفلة الناس لهَلَك الناس. وقد قيل في تأويل

وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض

وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض

[البقرة: 251]

: إنه يَدخُل فيها دفعُه عن العصاة بأهل الطاعة، وجاء في الأثر: إن الله يدفع بالرجل الصالح عن أهله وولده وذُرِّيَّته ومَن حولَه"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «العبادة في الفتنة كالهجرة إليَّ»؛ أي في احتدام الفتنة، واختلاط أمر الناس، فيُحمل أنه في آخر الزمان الذي أنذر به في الحديث بقوله: "ويَكثُر الهرْج"، ويُحتمَل أنه عمومًا في كلِّ وقت، وفضِّل الانعزال حينئذ لعبادة الله"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ : «الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ»: الْمُرَادُ بِالْهَرْجِ هُنَا: الْفِتْنَةُ وَاخْتِلَاطُ أُمُورِ النَّاسِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ فَضْلِ الْعِبَادَةِ فِيهِ أَنَّ الناس يَغفُلون عنها، ويشتغلون عنها ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد"[4].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«العبادة»؛ أي: ثوابُها مع الاستقامة والاستدامة عليها، «في الهرج»؛ أي: زمنَ الفتنة، ووقتَ المحاربة بين المسلمين. «كهجرة إليَّ» أي: قبل فتح مكّة، ومن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وفيه دليلٌ على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله عزَّ وجلَّ كما كان طائفةٌ من السلف يستحبُّون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة؛ ولذلك فضِّل القيام في وسَط الليل المشمول بالغفلة لأكثر الناس فيه عن الذكر؛ ولهذا المعنى كان النبيُّ يريد أن يؤخِّر العشاء إلى نصف الليل، وإنما علَّل ترك ذلك لخشية المشقَّة على الناس، ولَمَّا خَرَج على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم: «ما ينتظرها أحدٌ من أهل الأرض غيركم»، وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرُّد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجَد فيه ذاكرٌ له؛ ولهذا وَرَد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة، وسبب ذلك أنه ذِكْرٌ في موطن الغفلة بين أهل الغفلة... وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائدُ؛ منها: أنه يكون أخفى، وإخفاءُ النوافل وإسرارها أفضلُ، لا سيَّما الصيامُ؛ فإنه سرٌّ بين العبد وربِّه؛ ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياءٌ، وقد صام بعض السلف أربعين سنةً لا يَعلَم به أحدٌ، كان يخرُج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدَّق بهما ويصوم، فيظنُّ أهله أنه أَكَلهما، ويظنُّ أهل السوق أنه أَكَل في بيته، وكانوا يستحبُّون لمن صام أن يُظهر ما يُخفي به صيامه؛ فعن ابن مسعود أنه قال: إذا أصبحتم صيامًا، فأصبحوا مدَّهنين، وقال قتادة: يُستحبُّ للصائم أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غَبرة الصيام، وقال أبو التياح: أدركت أبي ومشيخة الحيِّ إذا صام أحدُهم ادَّهَن ولَبِس صالح ثيابه"[6].

قال ابن تيمية رحمه الله: "والعبادةُ هي الغاية الّتي خَلق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه؛ كما

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[الذاريات: 56]

وبها أَرسَل الرُّسل، وأنزل الكتب، وهي اسم يَجمَع كمال الحبِّ للّه ونهايتَه، وكمالَ الذُّلِّ للّه ونهايتَه؛ فالحبُّ الخَليُّ عن ذُلٍّ، والذُّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادة ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تَصلُح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها"[7].

قال ابن رجب رحمه الله: "الخلق إنما خُلقوا ليؤمروا بالعبادة؛ كما قالَ:

قال تعالي

وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

[الذاريات: ٥٦]

وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده"[8].

قال ابن تيمية رحمه الله: "العبادة: هي اسم جامع لكلِّ ما يحبُّه اللّه ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظّاهرة؛ فالصّلاةُ والزّكاة والصّيام والحجُّ، وصِدق الحديث وأداء الأمانة، وبرُّ الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمرُ بالمعروف والنّهيُ عن المنكَر، والجهادُ للكفّار والمنافقين، والإحسانُ إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السّبيل والمملوك من الآدميِّين والبهائم، والدّعاءُ والذِّكْرُ والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حبُّ اللّه ورسوله، وخشية اللّه والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصَّبْرُ لحُكمه، والشُّكر لنِعَمه، والرّضا بقضائه، والتّوكُّلُ عليه، والرّجاء لرحمته، والخوفُ لعذابه، وأمثالُ ذلك، هي من العبادة للّه؛ وذلك أن العبادة لله هي الغاية المحبوبة له والْمَرْضِيَّة له، الّتي خَلق الخلق لها؛ كما

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[الذاريات: 56]

وبها أَرسَل جميع الرُّسل[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "والهجرةُ بمعنى الترك والهجرةِ إلى الشـيء: الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشـرع: تركُ ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا"[10].

قال ابن رجب رحمه الله: "وأصل الهجرة: هِجْران بلد الشِّرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان المهاجرون قبل فتح مكَّةَ يهاجرون منها إلى مدينة النّبيِّ ﷺ، وقد هاجر من هاجَر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النّجاشيِّ، فأخبر ﷺ أنّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النّيَّات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا للّه ورسوله، ورغبةً في تعلُّم دين الإسلام، وإظهار دينه حيث كان يَعجِز عنه في دار الشِّرك، فهذا هو المهاجر إلى اللّه ورسوله حقًّا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنّه حصل له ما نواه من هجرته إلى اللّه ورسوله. ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشّرط على إعادته بلفظه؛ لأنّ حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدّنيا والآخرة. ومن كانت هجرته من دار الشّرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوّل تاجر، والثّاني خاطب، وليس واحد منهما بمهاجر. وفي قوله: «إلى ما هاجر إليه» تحقير لما طلبه من أمر الدّنيا، واستهانة به، حيث لم يذكر بلفظه. وأيضًا فالهجرة إلى اللّه ورسوله واحدة فلا تعدُّد فيها؛ فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشّرط. والهجرة لأمور الدّنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارةً، ومحرَّمة تارةً، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدّنيا لا تنحصر؛ فلذلك قال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه»؛ يعني: كائنًا ما كان"[11].

المراجع

  1. "فيض القدير" للمناويِّ (4/ 373)
  2.  "فيض القدير" للمناويِّ (4/ 373)
  3. إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 509).
  4. شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 88).
  5. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3387)
  6. لطائف المعارف" لابن رجب (ص: 131).
  7.  "مجموع الفتاوى" (10/ 19).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
  9. مجموع الفتاوى" (10/ 149، 150).
  10. فتح الباري" لابن حجر (1/16).
  11. ) "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 72، 73).


غريب الحديث

الْهَرْج: الفتنة في آخر الزمان، وقيل: القتال والاختلاط فيه، وأصلُ الهَرْج الكثرة في الشيء[1]

الْهِجْرَة: الاسم من الْهَجْر، ضدُّ الوصل، ثم غَلَب على الخروج من أرض إلى أرض، وترك الأولى للثانية[2].

المراجع

  1. ينظر: "جمهرة اللغة" لابن دريد (1/ 469)، "تهذيب اللغة" للهرويِّ (6/ 31)، "الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية" لأبي نصر الفارابيِّ (1/ 350)، "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (4/ 159).
  2. النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 244).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي اللَّه عنهمَا - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»: يخبر النبيُّ ﷺ أن المسلم الحقَّ الكاملَ الإسلامِ، هو الذي يَكُفُّ أَذَى لسانه ويَدِه عن المسلمين، فلا يَصِلُ منه إليهم إلَّا الخيرُ والمعروف، وأن المهاجر الحقَّ الممدوحَ هو الذي هَجَر ما نهى الله عنه من المعاصي والآثام.

الشرح المفصَّل للحديث

إن "الدين كلَّه خُلُقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين" [1]، لذا؛ كانت كثيرٌ من أحاديث النبيِّ ﷺ تدور حول توجيه المسلم الحقِّ، الذي يحرص على الالتزام بالإسلام الكامل، إلى التّحلّي بالآداب والأخلاق الإسلاميَّة، التي تُوثِّق الأُلْفة والمودَّة بين المسلمين.

ففي هذا الحديث

يقول النَّبِيُّ ﷺ:

«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»

أي: إن المسلم الحقَّ الكاملَ الجامعَ لخصال الإسلام هو من لم يؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل.

وقول النَّبِيِّ ﷺ "يقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ، فمن لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجبِ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ، فإن أذى المسلم حرامٌ باللسان وباليد، فأذى اليدِ: الفعل، وأذى اللسانِ: القول" [2].

والإسلام يُطلَق على معانٍ كثيرة؛ فيُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت»، ويُطلَق الإسلامُ على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده». سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد، فهو قد كَفَّ لسانه، وكفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء، وربَّما يَستسهِلُ إطلاقَ لسانِه؛

ولهذا قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:

«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ فِي النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!»

[3].

فاللِّسان من أشدِّ الجوارح خطرًا على الإنسان؛ ولهذا إذا أصبح الإنسان، فإن الجوارح: اليديْنِ والرِّجلين والعَينين، كلُّ الجوارح تكفِّر اللسان، وكذلك أيضًا الفَرْج؛ لأن الفرج فيه شهوةُ النكاح، واللسان فيه شهوة الكلام، وقلَّ من سَلِم من هاتين الشهوتينِ. فالمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه؛ أي: كفَّ عنهم، لا يَذكُرُهم إلا بخير، فهو رجلٌ مسالِم، إذا سَمِع السوء حَفِظ لسانه، وليس كما يفعل بعض الناس إذا سمع السُّوء في أخيه المسلم، طار به فَرحًا، وطار به في البلاد نَشْرًا؛ فإن هذا كما في الحديث ليس بمسلم.

والمسلم من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم [4].

"وليس المرادُ نفيَ أصلِ الإسلام عمَّن لم يكن بهذه الصِّفة؛ بل هذا كما يُقال: العِلْمُ ما نَفَع، أو العَالِمُ زَيْدٌ؛ أي: الكامل، أو المحبوب، وكما يُقال: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبل؛ فكلُّه على التَّفضيل لا للحَصْرِ، ويدلُّ على ما ذكرناه من معنى الحديث قولُه: أيُّ المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ثمَّ إنَّ كمال الإسلام والمسلم متعلِّق بخصال أُخَرَ كثيرةٍ، وإنّما خصَّ ما ذَكَرَ لِمَا ذَكَرناه من الحاجة الخاصَّة" [5].

و"الإسلام في الشرع على ضربين؛ أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدَّمُ، حَصَل معه الاعتقاد أو لم يَحصُل، وإيَّاه قَصَد بقوله تعالى:

﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾

[الحجرات: 14]،

والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعل، واستسلامٌ لله في جميع ما قضى وقدَّر،

كما ذَكَر عن إبراهيم - عليه السلام -:

﴿إِذْ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾

[البقرة: ١٣١]"  [6].

وقد عُلِم من هذا الحديث أن من لم يَسلَم الناس من لسانه أو يده، فليس بمسلمٍ حقًّا، فمن كان ليس لهم همٌّ إلا القيل والقالَ في عباد الله، وأكلَ لحومهم وأعراضهم، فهذا ليس بمسلم حقًّا، وكذلك من كان ليس لهم همٌّ إلا الاعتداءَ على الناس بالضَّرب، وأخذ المال، وغير ذلك مما يتعلَّق باليد، فإنه ليس بمسلم حقًّا.

وقد خصَّ النبيُّ ﷺ اللّسان واليد؛ لكثرة أخطائهما وأضرارهما؛ فإنَّ معظم الشُّرور تَصدُر عنهما؛ فاللّسانُ يَكذِب، ويغتاب، ويسبُّ، ويشهد بالزُّور، واليدُ تضرب، وتقتل، وتَسرِق، وهلم جرًّا.

وقدَّم اللّسان على اليد؛ لأنّ الإيذاء به أكثرُ وأسهل، وأشدُّ نكايةً، ويعمُّ الأحياء والأموات جميعًا.

قول النَّبِيِّ ﷺ: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»؛ فالمهاجرُ الممدوحُ هو الذي جمع إلى هِجران وَطَنه وعشيرته هِجْرانَ ما حرَّم الله تعالى عليه؛ فمجرَّد هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليست بهجرة تامَّة كاملة؛ فالمهاجر بحقٍّ هو الّذي لم يقف عند الهجرة الظّاهرة، فترك دار الحرب إلى دار الأمن؛ بل هو من هجر كلَّ ما نهى الله عنه.

وهذا توضيح وتوسيع لمعنى الهجرة الممدوحة في الشرع، يُعلِم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط، ويُعلِم من حَزِن على فوات الهجرة ولم يدركها أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه. 

"فأصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه؛ لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه. والهجرةُ عند الإطلاق في السنَّة إنما تَنصرِف إلى هِجران بلد الشِّرك إلى دار الإسلام؛ رغبةً في تعلُّم الإسلام، والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصل الهجرة: أن يَهجُر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيَدخُل في ذلك هِجرانُ بلد الشِّرك رغبةً في دار الإسلام، وإلا فمجرَّدُ هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامَّةٍ كاملة؛ بل الهجرة التامَّة الكاملة: هِجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه" [7].

ففي الحديث "أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العَرَبُ، والمالُ الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضلُ المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداءَ حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جَمَع إلى هجرانِ وطنه هجرانَ ما حرَّم الله عليه" [8].

المراجع

1.  "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).

2.  "فتح الباري" لابن رجب (1/ 37، 38).

3. رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 512، 513).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 10).

6.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 442).

7.  "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).

8. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441).



النقول

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: يُريد المسلمَ المستكمِلَ لأُمور الإسلام خلاف قول المرجئة. والمرادُ بهذا الحديث الحضُّ على ترك أذى المسلمين باللسان واليد، والأذى كلِّه؛ ولهذا قال الحسن البصريُّ: الأبرارُ هم الذين لا يُؤذون الذَّرَّ والنَّمل. وقوله: «والمهاجر مَن هَجَر ما نهى الله عنه». قال أبو الزناد: لَمَّا انقطعت الهِجرة وفَضْلُها، حَزِن على فواتها من لم يدركها من أصحاب الرسول ﷺ، فأَعلمَهم أن المهاجر على الحقيقة من هَجَر ما نهى الله عنه، وقال غيره: أَعلَم المهاجرين أنه واجبٌ عليهم أن يلتزموا هَجْرَ ما نهى الله عنه، ولا يتَّكِلوا على الهجرة فقط" [1].

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده»؛ معناه: من لم يُؤذِ مسلمًا بقول ولا فعل، وخصَّ اليدَ بالذِّكر لأنَّ معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لِما ذَكَرناه، واللّه تعالى أعلم. وقوله ﷺ: «مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده»، قالوا: معناه: المسلمُ الكامِلُ، وليس المرادُ نفيَ أصلِ الإسلام عن من لم يكن بهذه الصِّفة؛ بل هذا كما يُقال: العِلْمُ ما نَفَع، أو العَالِمُ زَيْدٌ؛ أي: الكامل، أو المحبوب، وكما يُقال: النَّاسُ العَرَبُ، والمالُ الإبل؛ فكلُّه على التَّفضيل لا للحَصْرِ، ويدلُّ على ما ذكرناه من معنى الحديث قولُه: أيُّ المسلمين خير؟ قال: «من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ثمَّ إنَّ كمال الإسلام والمسلم متعلِّق بخصال أُخَرَ كثيرةٍ، وإنّما خصَّ ما ذَكَرَ لِمَا ذَكَرناه من الحاجة الخاصَّة، واللّه أعلم" [2].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «المسلم من سلم المسلمون»، فإن قلتَ: إذا سَلِم المسلمون منه، يَلزَم أن يكون مسلمًا، وإن لم يأتِ بسائر الأركان؟ قلتُ: هذا واردٌ على سبيل المبالغة؛ تعظيمًا لترك الإيذاء؛ كأن ترك الإيذاء هو نفس الإسلام الكامل، وهو محصور فيه على الادِّعاء كرماد... أراد أن المسلم الممدوح والمهاجِرَ مَن هذه صِفَتُه، لا أن الإسلام ينتفي عمَّن لم يكن بهذه الصفة، فهو كقولهم: الناس العَرَبُ، والمالُ الإبل، يريدون أن الأفضل منهما ذلك، وكذلك أفضلُ المسلمين مَن جَمَع إلى أداء حقوق الله تعالى أداء حقوق المسلمين، والكفَّ عن أعراضهم، وأفضل المهاجرين من جَمَع إلى هجرانِ وطنه هجرانَ ما حرَّم الله عليه. وأقول: تحقيقُه أن التعريف في المسلم والمهاجر للجِنس، قال ابن جنِّي: مِن عادتهم أن يُوقِعوا على الشيء الذي يخصُّونه بالمدح اسم الجنس، ألا ترى كيف سمَّوُا الكعبة بالبيت؟ وكتاب سيبويه بالكتاب؟

كلُّ اسم نوع فإنه يُستعمَل على وجهين؛ أحدهما: دلالة على المسمَّى، وفصلًا بينه وبين غيره. والثاني: لوجود المعنى المختصِّ به، وذلك هو الذي يُمدَح به؛ وذلك أن كلَّ ما أَوْجَده الله في هذا العالم جعله صالحًا لفعل خاصٍّ، ولا يَصلُح لذلك العملِ سِواه؛ كالفَرَسِ للعَدْوِ الشديد، والبَعِيرِ تَقطَع الفَلاة البعيدة؛ والإنسانِ ليَعلَم ويَعمَل بحسَبه، وكلُّ شيء لم يوجد كاملًا لِما خُلِق له لم يستحِقَّ اسمَه مُطلَقًا؛ بل قد ينتفي عنه؛ كقولهم: فلانٌ ليس بإنسان؛ أي: لا يوجد فيه المعنى الذي خُلِق لأجله من العِلم والعَمَل؛ فعلى هذا إذا وجدتَ مسلمًا يؤذي المسلمين بلسانه ويده، فقلتَ له: لستَ بمسلِمٍ، عَنَيْتَ أنك لستَ بكامل فيما تحلَّيْتَ به من حِلْيَة الإسلام، وهذا معنى قول محيي السنَّة: إن الإسلام يُنفَى عمَّن ليس بصفته" [3].

قال ابن رجب رحمه الله: "وأما رواية (المسلم)، فيقتضي حَصْرَ المسلم فيمن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمرادُ بذلك المسلمُ الكامِلُ الإسلامِ، فمن لم يَسلَم المسلمون من لسانه ويده، فإنه ينتفي عنه كمال الإسلام الواجبِ، فإن سلامة المسلمين من لسان العبد ويده واجبةٌ، فإن أذى المسلم حرامٌ باللسان وباليد، فأذى اليدِ: الفعل، وأذى اللسانِ: القول. والظاهر: أن النبيَّ ﷺ إنما وصف بهذا في هذا الحديث لأن السائل كان مسلِمًا قد أتى بأركان الإسلام الواجبة لله عزَّ وجلَّ، وإنما يَجهَل دخول هذا القدر الواجب من حقوق العباد في الإسلام، فبيَّن له النبيُّ ﷺ ما جَهِله" [4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "والْمُسْلِمُ يُطلَق على معانٍ كثيرة؛ منها: المستسلمُ، الْمُستسلِمُ لغَيره يُقال له: مسلم، ومنه على أحد التفسيرين

قوله تعالى:

﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾

[الحجرات: 14]،

أي: قولوا: اسْتَسْلَمْنا، ولم نقاتلكم، والقول الثاني في الآية: إن المراد بالإسلام الإسلامُ لله - عزَّ وجلَّ - وهو الصحيح.

والمعني الثاني يُطلَق الإسلامُ على الأصول الخمسة التي بيَّنها النبيُّ ﷺ لجبريلَ حين سَأَله عن الإسلام، فقال: «أن تَشهَدَ أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدًا رسولُ الله، وتُقِيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضانَ، وتَحُجَّ البيت». ويُطلَق الإسلامُ على السلامة؛ يعني: أن يَسلَم الناسُ من شرِّ الإنسان، فيُقال: أَسلَم بمعنى: دَخَل في السِّلْم؛ أي: الْمُسالمة للناس، بحيث لا يؤذي الناسَ، ومنه هذا الحديث: «المسلِمُ مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده». سَلِم المسلمون من لسانه، فلا يَسُبُّهم، ولا يَلْعَنُهم، ولا يَغتابُهم، ولا يَنُمُّ بينهم، ولا يسعى بينهم بأيِّ نوع من أنواع الشرِّ والفساد، فهو قد كَفَّ لسانه، وكفُّ اللسان من أشدِّ ما يكون على الإنسان، وهو من الأمور التي تَصعُب على الْمَرْء، وربَّما يَستسهِلُ إطلاقَ لسانِه؛

ولهذا قال النبيُّ ﷺ لمعاذِ بنِ جبلٍ:

«أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا رسول اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نفسه، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِه؟ِ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ في النَّارِ - أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!» 

[5].

فاللِّسان من أشدِّ الجوارح خطرًا على الإنسان؛ ولهذا إذا أصبح الإنسان، فإن الجوارح: اليديْنِ والرِّجلين والعَينين، كلُّ الجوارح تكفِّر اللسان، وكذلك أيضًا الفَرْج؛ لأن الفرج فيه شهوةُ النكاح، واللسان فيه شهوة الكلام، وقلَّ من سَلِم من هاتين الشهوتينِ. فالمسلمُ من سلم المسلمون من لسانه؛ أي: كفَّ عنهم، لا يَذكُرُهم إلا بخير، ولا يسبُّ، ولا يغتاب، ولا يَنُمُّ، ولا يحرِّش بين الناس، فهو رجلٌ مسالِم، إذا سَمِع السوء حَفِظ لسانه، وليس كما يفعل بعض الناس، إذا سمع السُّوء في أخيه المسلم، طار به فَرحًا، وطار به في البلاد نَشْرًا؛ فإن هذا ليس بمسلم. الثاني: من سَلِم المسلمون من يده، فلا يعتدي عليهم بالضَّرب، أو الجَرح، أو أخذ المال، أو ما أَشبَه ذلك، قد كفَّ يده لا يأخذ إلا ما يستحقُّه شرعًا، ولا يعتدي على أحد، فإذا اجتمع للإنسان سلامة الناس من يده ومن لسانه، فهذا هو الْمُسلم" [6].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقوله: «والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه»، فأصل الهجرة: هِجْرانُ الشرِّ، ومباعدتُه لطَلَب الخَير، ومحبَّته، والرغبة فيه. والهجرةُ عند الإطلاق في كتاب السنَّة إنما تَنصرِف إلى هِجران بلد الشِّرك إلى دار الإسلام؛ رغبةً في تعلُّم الإسلام، والعمل به، وإذا كان كذلك، فأصل الهجرة: أن يَهجُر ما نهاه الله عنه من المعاصي، فيَدخُل في ذلك هِجرانُ بلد الشِّرك رغبةً في دار الإسلام، وإلا فمجرَّدُ هجرة بلد الشِّرك مع الإصرار على المعاصي ليس بهجرة تامَّةٍ كاملة؛ بل الهجرة التامَّة الكاملة: هِجرانُ ما نهى الله عنه، ومن جملة ذلك: هجران بلد الشرك مع القدرة عليه" [7].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الإسلام في الشرع على ضربين؛ أحدهما دون الإيمان، وهو الاعتراف باللسان، وبه يُحقَن الدَّمُ، حَصَل معه الاعتقاد أو لم يَحصُل، وإيَّاه قَصَد بقوله تعالى:

﴿۞ قَالَتِ ٱلْأَعْرَابُ ءَامَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوٓا أَسْلَمْنَا﴾

[الحجرات: 14]،

والثاني: فوق الإيمان، وهو أن يكون مع الاعتراف اعتقادٌ بالقلب، ووفاءٌ بالفعل، واستسلامٌ لله في جميع ما قضى وقدَّر،

كما ذَكَر عن إبراهيم - عليه السلام -:

﴿إِذْ قَالَ لَهُۥ رَبُّهُۥٓ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ﴾

[البقرة: ١٣١] [8].

قال ابن رجب رحمه الله: "وإنّ الإسلام الكاملَ الممدوحَ يَدخُل فيه ترك المحرَّمات؛ كما قال ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وإذا حَسُن الإسلام، اقتضى تركَ ما لا يعني كلَّه من المحرَّمات والمشتبِهات والمكروهات، وفضولِ المباحات التي لا يحتاج إليها؛ فإنَّ هذا كلَّه لا يعني المسلم إذا كَمُل إسلامُه، وبلغ إلى درجة الإحسان، وهو أن يعبد اللّه تعالى كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه، فإنَّ اللّه يراه، فمن عبد اللّه على استحضار قُربه ومشاهدته بقلبه، أو على استحضار قُرب اللّه منه واطِّلاعه عليه، فقد حَسُن إسلامه، ولَزِم من ذلك أن يَترُك كلَّ ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه" [9].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وعُلِم من هذا الحديث أن من لم يَسلَم الناس من لسانه أو يده، فليس بمسلمٍ، فمن كان ليس لهم همٌّ إلا القيل والقالَ في عباد الله، وأكلَ لحومهم وأعراضهم، فهذا ليس بمسلم، وكذلك من كان ليس لهم همٌّ إلا الاعتداءَ على الناس بالضَّرب، وأخذ المال، وغير ذلك مما يتعلَّق باليد، فإنه ليس بمسلم. هكذا أخبر النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - وليس إخبار النبيِّ ﷺ لمجرَّد أن نَعلَم به فقط؛ بل لنَعلَم به ونَعمَل به، وإلَّا فما الفائدةُ من كلام لا يُعمَل به، إذن؛ فاحرِص إن كنتَ تريد الإسلام حقًّا على أن يَسلَم الناس من لسانك ويدك؛ حتى تكون مسلمًا حقًّا" [10].

المراجع

1.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 62، 63).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 10).

3.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 441، 442).

4.  "فتح الباري" لابن رجب (1/ 37، 38).

5.  رواه أحمد (22665)، وابن ماجهْ (3973)، والترمذيُّ (2616)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 511- 513).

7. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 39).

8.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (2/ 442).

9.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 289).

10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 513).



غريب الحديث

التيمُّن: الابتداء باليمين.

تنعُّله: لُبس النَّعل.

ترجُّله: تَسرِيح الشَّعْرِ ودَهْنُه.

المعنى الإجماليُّ للحديث

قالت عَائِشَةُ رضي الله عنها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وتَرَجُّلِهِ، وطُهُورِهِ، وفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ»؛ أي: كان النبيُّ ﷺ يُعجبه الابتداء باليمين في لُبس نَعْلِه، وفي تسريح شَعرِه، وفي الطُّهور: يَبدَأ باليمين، وكذلك في شأنه الكريم والشريف كلِّه، أما ما كان بضدِّه؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخُفِّ، وما أشبَهَ ذلك، فيُستحَبُّ التياسُر فيه.

الشرح المفصَّل للحديث

فضَّل الله بعض الأماكن على بعضٍ، وبعضَ الأزمان على بعضٍ، وبعضَ الجهات على بعضٍ، ومن ذلك تفضيل اليمين على الشمال؛ فقد سمَّى الله أصحاب الجنَّة أصحاب اليمين، وسمَّى أصحاب النار أصحاب الشمال، وأن المؤمنَ الذي سيَدخُل الجنَّة يَأخُذ كتابه بيَمينه، وغيرَه يَأخُذه بشماله.

ولَمَّا جُعِلت القوَّة في اليمين، خُصَّ باليمين الأفضلُ فالأفضل، فكان الرسول ﷺ يقدِّم أهل اليمين، ويخصُّ الجانب الأيمنَ؛ لفَضْلِه [1].

ولذلك؛ كان النبيُّ ﷺ يُعجبه الابتداء باليمين في لُبس نَعْلِه، فيَلبَس اليُمنى قبل اليُسرى، وفي تسريح شَعرِه، فيَبدَأ بالشِّقِّ الأيمن من رأسه ولحيته، وفي الطُّهور: يَبدَأ باليد اليُمنى، والرِّجل اليُمنى في الوضوء، وبالشِّقِّ الأيمن في الغُسل، وقولُها: "وفي شأنه كلِّه" عامٌّ مخصوص؛ فإن دخول الخلاء والخروج من المسجد، يُبدَأ فيهما باليَسار، وكذلك ما يُشابههما [2].

ويَدخُل في عموم قولها: "وفي شأنه كلِّه": حالةُ اللِّباس، والأكل، والشُّرب، والأخذ، والعطاء، والاكتحال، والسِّواك، وتقليم الأظفار، وقصُّ الشارب، ونَتْفُ الإبِط، وحَلْقُ الرأس، والمصافَحة، واستلامُ الحَجَر، وما أَشبَه ذلك [3].

و"هذه قاعدة مستمِرَّة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلُبْسِ الثوب والسراويلِ والخُفِّ، ودخول المسجد، والسِّواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقصِّ الشارب، وترجيل الشعر - وهو مَشْطُه - ونتف الإبط، وحلقِ الرأس، والسلامِ من الصلاة، وغَسل أعضاء الطهارة، والخروجِ من الخلاء، والأكلِ، والشُّرب، والمصافحة، واستلامِ الحجر الأسود، وغيرِ ذلك مما هو في معناه - يُستحبُّ التيامُن فيه. وأما ما كان بضدِّه؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخُفِّ، وما أشبَهَ ذلك، فيُستحَبُّ التياسُر فيه، وذلك كلُّه بكرامة اليمين وشَرَفِها، والله أعلم" [4].

واستعمال الشمال في الطعام والشراب خُلق الشيطان؛ ففي الحديث:

«إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطانَ يأكل بشماله، ويَشرَب بشماله»

[5].

فينبغي على المسلم أن يبدأ باليمين في كلِّ أموره، وأن يتنبَّه لذلك، وألَّا يستهين به؛ فهو سنَّة نبيِّنا ﷺ، وفي اتِّباعه كلُّ خيرٍ في الدنيا والآخرة.

المراجع

  1. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 363).
  2. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 91).
  3. "العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام" لابن العطَّار (1/ 104).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/160).
  5. رواه مسلم (2020).
النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "هذه قاعدة مستمِرَّة في الشرع، وهي أن ما كان من باب التكريم والتشريف؛ كلُبْسِ الثوب والسراويلِ والخُفِّ، ودخول المسجد، والسِّواك، والاكتحال، وتقليم الأظفار، وقصِّ الشارب، وترجيل الشعر - وهو مَشْطُه - ونتف الإبط، وحلقِ الرأس، والسلامِ من الصلاة، وغَسل أعضاء الطهارة، والخروجِ من الخلاء، والأكلِ، والشُّرب، والمصافحة، واستلامِ الحجر الأسود، وغيرِ ذلك مما هو في معناه - يُستحبُّ التيامُن فيه. وأما ما كان بضدِّه؛ كدخول الخلاء، والخروج من المسجد، والامتخاط، والاستنجاء، وخلع الثوب والسراويل والخفِّ، وما أشبَهَ ذلك، فيُستحَبُّ التياسُر فيه، وذلك كلُّه بكرامة اليمين وشَرَفِها، والله أعلم" [1].

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "لَمَّا جُعِلت القوَّة في اليمين، خُصَّ باليمين الأفضلُ فالأفضل، فكان الرسول ﷺ يقدِّم أهل اليمين، ويَخُصُّ الجانب الأيمنَ؛ لفَضْلِه" [2].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "التَّنَعُّلُ: لُبْسُ النَّعْلِ. وَالتَّرَجُّلُ: تَسْرِيحُ الشَّعْرِ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: شَعْرٌ مُرَجَّلٌ؛ أَيْ: مُسَرَّحٌ. وَقَالَ كُرَاعٌ: شَعْرٌ رَجْلٌ وَرَجِلٌ، وَقَدْ رَجَّلَهُ صَاحِبُهُ: إذَا سَرَّحَهُ وَدَهَنَهُ، وَمَعْنَى التَّيَمُّنِ فِي التَّنَعُّلِ: الْبُدَاءَةُ بِالرِّجْلِ الْيُمْنَى. وَمَعْنَاهُ فِي التَّرَجُّلِ: الْبُدَاءَةُ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِن الرَّأْسِ فِي تَسْرِيحِهِ وَدَهْنِهِ. وَفِي الطُّهُورِ: الْبُدَاءَةُ باليد الْيُمْنى وَالرِّجل اليمنى في الوضوء، وبالشِّقِّ الأيمن في الغُسْل. وَالْبُدَاءَةُ باليمنى عند الشافعيِّ من الْمُسْتحَبَّات، وإن كان يقول بوجوب الترتيب؛ لأنهما كالعُضو الواحد، حيث جُمِعا في لفظ القرآن الكريم،

حيث قال عَزَّ وَجَلَّ

{أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}

[الأعراف: 124].

وقولها: "وفي شأنه كُلِّه" عامٌّ يُخَصُّ؛ فإن دخول الخلاء والخروجَ من المسجد، يُبدأ فيهما باليسار؛ وكذلك ما يُشابههما" [3].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/160).
  2. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 363).
  3. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 91).

الشرح الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟)؛ أي: مَن أَوْلى الناس بحُسن المعاملة وطِيب المعاشرة، والإحسانِ إليه والبِرِّ به؟ فأجابه النَّبيُّ بأن قَالَ: «أُمُّكَ»، ثمَّ سأله الرجل قَالَ: (ثُمَّ مَنْ؟)؛ أي: ثمَّ مَن يلي الأمَّ في هذا الحَقِّ؟ فأجابه النبيُّ ﷺ بالإجابةِ نفسِها قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»: أوصاه النبيُّ ﷺ بالأمِّ ثَلاثَ مرَّاتٍ، مؤكِّدًا فضلَها وحقَّها في البِرِّ وحسن الْمُعاملةِ، ثمَّ سأله الرابعةَ (قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»): وهكذا كرَّر النبيُّ ﷺ حقَّ الأمِّ ثلاث مرات، وذكَر حقَّ الأبِ مرَّةً واحدةً، وما كان ذلك تَقليلًا مِن حقِّ الأبِ؛ وإنَّما هو تأكيدٌ على عِظَمِ حقِّ الأمِّ؛ لكثرةِ أفضالِها على ولدِها، وعظم ما تحمَّلَتْه مِن مَشاقَّ ومتاعبَ جِسميةٍ ونفسيَّة أثناءَ حمْلِها به، ووضْعِها وإرضاعِها له، وخِدمتِها وشَفقتِها عليه. وفي رواية لمسلم قال: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»؛ أي: ثم الأقرب فالأقرب من ذَوي القُربى لهم حقٌّ في البرِّ وحُسن المعاملة بعد الأمِّ والأب.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد حثَّ الإسلام على برِّ الوالدينِ، وجعله من أعلى مراتب الدين، ونهى عن عقوقهما، وجعله من أكبر الكبائر؛ فجاء الأمرُ ببِرِّ الوالدَين في القرآن الكريم في أكثرَ من موضعٍ؛

قال تعالى:

﴿۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوٓا إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّۢ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾    

[الإسراء: 23، 24]

وقال تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾.

[لقمان: 14]

وحقُّ الوالدَين متعقِّب لحقِّ الله عزَّ وجلَّ؛ 

كما قال تعالى:

﴿أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ﴾ 

[لقمان:14].

وبرُّ الوالدين من أحب الأعمال إلى الله تعالى؛

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:

سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبيل اللهِ»

[1].

وذلك لعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما.

وإن كنتَ تريد الجنَّةَ، فحافظ على والديكَ؛  

فعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول:

«الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَأَضِعْ ذَلِكَ الْبَابَ، أَوِ احْفَظْهُ»

[2].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ»، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا، فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ»

[3].

ومعنى (رَغِم أنفه)؛ أي: خاب وخَسِر وضاعت منه فرصة لدخول الجنة ما حصَّلها الذي يُدرك والدَيْهِ أو أحدهما عند كبرهما ولم يَبَرَّهما.

وفي برِّ الوالدين وصلة الأرحام بركة العُمر، وزيادة الرزق؛

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ:

«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ، وَأَنْ يُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»

[4].

وفي الحديث يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ» قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ»، وفي رواية لمسلم قال: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ»

وفيه "تأكيد حقِّ الأمِّ وأمانة مَبرَّتها على مَبرَّة الأب؛ لكثرة تكلُّفها له من الحمل، ومشقَّة الوضع، ومعاناة الرضاع والتربية، ثم الأب، ثم تنزيل ذلك في القرابة على الأقرب فالأقرب، وفيه تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفَّى كلُّ أحد حقَّه على قدر قُرباه وحُرمته ورَحِمه" [5].

و"في هذا الحديث دليل على أن محبَّة الأمِّ والشَّفَقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبَّة الأب؛ لأنه كرَّر الأمَّ ثلاثَ مرَّات، وذكر الأب في المرَّة الرابعة فقط، وإذا تؤمِّل هذا المعنى، شهد له العيان؛ وذلك أن صعوبة الحَمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازلَ يخلو منها الأب" [6].

وفي الحديث "الحثُّ على برِّ الأقارب، وأنَّ الأمَّ أحقُّهم بذلك، ثمّ بعدها الأب، ثمّ الأقرب فالأقرب" [7].

وقد "تردَّد بعض العلماء في الجَدِّ والأخ، والأكثر على تقديم الجَدِّ، قالوا: يقدَّم الجَدُّ ثمّ الأخُ، ثمّ يقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بواحد، ثمّ تقدَّم القرابة من ذَوي الرَّحِم، ويقدَّم منهم المحارم على مَن ليس بمَحرَم، ثمّ سائر العَصَبات، ثمّ المصاهَرة ثمّ الولاء، ثمّ الجار، وأشار ابن بطَّال إلى أنّ التّرتيب حيث لا يمكِن إيصال البرِّ دَفْعةً واحدةً، وهو واضح، وجاء ما يدلُّ على تقديم الأمِّ في البرِّ مطلَقًا، وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيُّ وصحَّحه الحاكم من حديث عائشة 

قالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:

«أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ»

[8]" [9].

"وأجمع العلماء على أنّ الأمَّ والأب آكَدُ حُرمةً في البِرِّ ممّن سواهما، وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله ﷺ: «ثمّ أدناك أدناك»، فقيل: يُستحبُّ أن تقدَّم في البرِّ الأمُّ، ثمَّ الأبُ، ثمّ الأولاد، ثمّ الأجداد والجَدَّات، ثمّ الإخوة والأخوات، ثمّ سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعمَّات والأخوال والخالات، ويُقدَّم الأقربُ فالأقرب، ويقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بأحدهما، ثمّ بذي الرَّحِم غير الْمَحرَم؛ كابن العمِّ وبنته، وأولاد الأخوال والخالات، وغيرهم، ثمّ بالمصاهرة، ثمّ بالمولى من أعلى وأسفل، ثمّ الجار، ويقدَّم القريبُ البعيدُ الدّار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخَرَ قدِّم على الجار الأجنبيِّ، وألحقوا الزّوج والزَّوجة بالمحارم، واللّه أعلم" [10].

"وقد اختلف العلماء فيما بين الأب والأمِّ، فقيل: يجب أن يكون بِرُّهما سواءً، وقيل: إن حقَّ الأمِّ آكَدُ، وأن لها ثُلثَيِ البِرَّ. أما الأجداد فلا يَبلُغون مبلغ الآباء؛ فقد سُلب اسم الأبوَّة عنهم في الحقيقة،

ولقوله تعالى:

﴿أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا﴾    

[الإسراء: 23]،

ولو كان حُكْمُ الأجداد حُكْمَ الآباء، لقاله بلفظ الجمع. وذهب أهل العلم إلى لُزومِ برِّ الأجداد، وتقديمهم، وقُرْبهم من برِّ الآباء، وقد رأى مالك وأصحابه أنه لا يُقتصُّ من الجَدِّ في ابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا يُشَكُّ في قصده قتلَه كالأب سواءً. وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنهما، لا يجوز كالآباء، وكذلك اختلفوا في تغليظ الدِّيَة عليه في عمدِ قتلِه، وفى قطعهم في السَّرِقة من مال فقرائهم" [11].

"وهذا كله تفسير لقوله تعالى:

﴿۞ وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ﴾

[النساء: 36]،

وقوله تعالى:

  ﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ﴾ 

[الإسراء: 26]،

فجعل سبحانه حقَّ ذي القُربى يلي حقَّ الوالدينِ، كما جعله النبيُّ  ﷺ سواء بسواء، وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقًّا على قَرابته، وأمر بإتيانه إيَّاه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النَّفَقة، فلا ندري أيُّ حقٍّ هو؟ وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القُربى. ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا، وهو قادر على سدِّ خَلَّته، وستر عَوْرته، ولا يُطعمه لُقمة، ولا يستر له عورة إلَّا بأن يُقرضه ذلك في ذمَّته" [12].

وللوالدين كثير من حقوق البر والإحسان المعلومة، ومن أهمِّها حقُّ الوالدين في استئذانهما للجهاد غير الفريضة؛ فعن عبدِالله بنِ عمرٍو – رضي الله عنهما – قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الجِهَادِ، فَقَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ» [13]؛ أي: ابذل جَهْدَك في إرضائهما وبِرِّهما، والإحسان إليهما، فيُكتَب لك أجر الجهاد في سبيل الله تعالى.

و"هذا كلُّه دليل لعِظَم فضيلة برِّهما، وأنّه آكَدُ من الجهاد، وفيه حُجَّة لِما قاله العلماء أنّه لا يجوز الجهاد إلّا بإذنهما إذا كانا مسلمينِ، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركينِ لم يُشترَط إذنهما عند الشّافعيِّ ومن وافَقَه، وشَرَطه الثَّوريُّ، هذا كلُّه إذا لم يَحضُر الصَّف ويتعيَّن القتال، وإلّا فحينئذ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببرِّ الوالدينِ، وأنّ عقوقهما حرامٌ من الكبائر" [14].

ولعظم حقِّ الأبوين؛ لا يقوم ولدٌ بما لأبيه عليه من حقٍّ ولا يُكافِئه بإحسانه به إلَّا أن يصادفه مملوكًا فيُعتقه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله ﷺ: «لَا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِدًا، إِلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا، فَيَشْتَرِيَهُ، فَيُعْتِقَهُ» [15].

ولا ينتهي بر الوالدين بموتهما؛

فعن أبي أُسَيْدٍ قال:

بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ بَقِيَ عَلَيَّ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِهِمَا أَبَرُّهُمَا بِهِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعَةٌ: الصَّلاَةُ عَلَيْهِمَا، وَالاِسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا رَحِمَ لَكَ إِلاَّ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَهُوَ الَّذِي بَقِيَ عَلَيْكَ مِنْ بِرِّهِمَا بَعْدَ مَوْتِهِمَا»

[16].



المراجع

1.  رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).

2. رواه أحمد (28061)، وابن ماجه (3663)، والترمذيُّ (1900)، وقال: هذا حديث صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2486).

3. رواه مسلم (2551).

4. رواه أحمد (13434)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2488).

5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5).

6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 189).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).

8. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.

9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).

10. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).

11. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5 - 7).

12. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 484).

13. رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).

14. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 104).

15. رواه مسلم (1510).

16. رواه أحمد (16156)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (35)، وأبو داود (5142)، وابن ماجه (3664)، والحاكم (4/154)، وصحَّحه الحاكم ووافقه الذهبيُّ، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1482).




النقول

قال ابن بطال رحمه الله: "في هذا الحديث دليل على أن محبَّة الأمِّ والشَّفَقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثة أمثال محبَّة الأب؛ لأنه - عليه السلام - كرَّر الأمَّ ثلاثَ مرَّات، وذكر الأب في المرَّة الرابعة فقط، وإذا تؤمِّل هذا المعنى، شهد له العيان؛ وذلك أن صعوبة الحَمل، وصعوبة الوضع، وصعوبة الرضاع والتربية، تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها دون الأب، فهذه ثلاث منازلَ يخلو منها الأب" [1].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفيه الحثُّ على برِّ الأقارب، وأنَّ الأمَّ أحقُّهم بذلك، ثمّ بعدها الأب، ثمّ الأقرب فالأقرب. قال العلماء: وسبب تقديم الأمِّ كثرةُ تَعَبها عليه، وشَفَقتها، وخِدمتها، ومعاناة المشاقِّ في حمله، ثمّ وضعه ثمّ إرضاعه ثمّ تربيته وخدمته وتمريضه، وغير ذلك، ونقل الحارث المحاسبيُّ إجماع العلماء على أنّ الأمَّ تفضَّل في البرِّ على الأب، وحكى القاضي عياض خلافًا في ذلك، فقال الجمهور بتفضيلها، وقال بعضهم: يكون بِرُّهما سواءً. قال: ونَسَب بعضهم هذا إلى مالك، والصّواب الأوّل؛ لصريح هذه الأحاديث في المعنى المذكور واللّه أعلم. قال القاضي: وأجمعوا على أنّ الأمَّ والأب آكَدُ حُرمةً في البِرِّ ممّن سواهما. قال: وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله ﷺ: «ثمّ أدناك أدناك»، قال أصحابنا: يُستحبُّ أن تقدَّم في البرِّ الأمُّ، ثمَّ الأبُ، ثمّ الأولاد، ثمّ الأجداد والجَدَّات، ثمّ الإخوة والأخوات، ثمّ سائر المحارم من ذوي الأرحام؛ كالأعمام والعمَّات والأخوال والخالات، ويُقدَّم الأقربُ فالأقرب، ويقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بأحدهما، ثمّ بذي الرَّحِم غير الْمَحرَم؛ كابن العمِّ وبنته، وأولاد الأخوال والخالات، وغيرهم، ثمّ بالمصاهرة، ثمّ بالمولى من أعلى وأسفل، ثمّ الجار، ويقدَّم القريبُ البعيدُ الدّار على الجار، وكذا لو كان القريب في بلد آخَرَ قدِّم على الجار الأجنبيِّ، وألحقوا الزّوج والزَّوجة بالمحارم، واللّه أعلم" [2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "لكنه تأكيد حقِّ الأمِّ وأمانة مَبرَّتها على مَبرَّة الأب؛ لكثرة تكلُّفها له من الحمل، ومشقَّة الوضع، ومعاناة الرضاع والتربية، ثم الأب، ثم تنزيل ذلك في القرابة على الأقرب فالأقرب، وفيه تنزيل الناس منازلهم، وأن يوفَّى كلُّ أحد حقَّه على قدر قُرباه وحُرمته ورَحِمه" [3].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن بطّال: مقتضاه أن يكون للأمِّ ثلاثة أمثال ما للأب من البِرِّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثمّ الوضع، ثمّ الرَّضاع، فهذه تنفرد بها الأمُّ، وتشقى بها، ثمّ تشارك الأب في التّربية، وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُۥ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍۢ وَفِصَٰلُهُۥ فِى عَامَيْنِ﴾

  [لقمان: 14]،

فسوَّى بينهما في الوصاية، وخصَّ الأمَّ بالأمور الثّلاثة. قال القرطبيُّ: المراد أنّ الأمَّ تستحقُّ على الولد الحظَّ الأوفر من البرِّ، وتقدَّم في ذلك على حقِّ الأب عند المزاحمة، وقال عياض: وذهب الجمهور إلى أنَّ الأمَّ تفضَّل في البرِّ على الأب، وقيل: يكون برُّهما سواءً، ونقله بعضهم عن مالك، والصّواب الأوّل. قلت: إلى الثّاني ذهب بعض الشّافعيّة؛ لكن نقل الحارث المحاسبيُّ الإجماع على تفضيل الأمِّ في البرِّ، وفيه نظر، والمنقول عن مالك ليس صريحًا في ذلك" [4].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقد اختلف العلماء فيما بين الأب والأمِّ، فقيل: يجب أن يكون بِرُّهما سواءً، وتأوَّل أن هذا اختيار مالك، ومذهبُه، وروى الليثُ أن حقَّ الأمِّ آكَدُ، وأن لها ثُلثَيِ البِرَّ. وذكر المحاسبيُّ أن تفضيل الأمِّ على الأب في البِرِّ إجماع العلماء. ولا خلاف أن الآباء والأمَّهات آكَدُ حرمةً في البِرِّ ممَّن عَدَاهما. وتردَّد بعضهم بين الأجداد والإخوة؛ لقوله: «ثم أدناك فأدناك». قال الإمام أبو بكر الطرطوشيُّ: ولم أجد نصًّا للعلماء في الأجداد، والذى عندي أنهم لا يَبلُغون مبلغ الآباء، واستدلَّ بسلب اسم الأبوَّة عنهم في الحقيقة،

ولقوله تعالى:

﴿أَحَدُهُمَآ أَوْ كِلَاهُمَا﴾    

[الإسراء: 23]،

ولو كان حُكْمُ الأجداد حُكْمَ الآباء، لقاله بلفظ الجمع، ولقوله: «أمك، ثم أباك فأدناك»، وفى حديث آخَرَ: «أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك، ثم أدناك فأدناك»، قال: فتقبل - عليه الصلاة والسلام – الجواب، ورتَّب الإخوة بعد الآباء. واحتجَّ أيضًا بقوله:

﴿كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا﴾    

[الإسراء: 24]،

قال: والتربية لا تكون إلا للوالدينِ.

قال القاضي: والذي عندي خلاف ما ذهب إليه كلِّه، والمعروف من قول مالك ومَن وافَقَه من أهل العلم من أصحابه وغيرهم لُزومُ برِّ الأجداد، وتقديمُهم، وقُرْبُهم من برِّ الآباء. وقد رأى مالك وأصحابه أنه لا يُقتصُّ من الجَدِّ في ابن ابنه إلا أن يفعل به ما لا يُشَكُّ في قصده قتلَه كالأب سواءً. وكذلك قالوا في الجهاد بغير إذنهما، لا يجوز كالآباء.

وكذلك اختلفوا في تغليظ الدِّيَة عليه في عمدِ قتلِه، وفى قطعهم في السَّرِقة من مال فقرائهم، وأما الحديث الذى احتجَّ به من قوله: «أمك وأباك، وأختك وأخاك ومولاك»، فهو حُجَّة عليه؛ لأنه لَمَّا لم يَذكُر الأجداد، وقد ذكر الموالي، دلَّ أنهم داخلون في عموم الآباء" [5].

قال النوويُّ رحمه الله: "هذا كلُّه دليل لعِظَم فضيلة برِّهما، وأنّه آكَدُ من الجهاد، وفيه حُجَّة لِما قاله العلماء أنّه لا يجوز الجهاد إلّا بإذنهما إذا كانا مسلمينِ، أو بإذن المسلم منهما، فلو كانا مشركينِ لم يُشترَط إذنهما عند الشّافعيِّ ومن وافَقَه، وشَرَطه الثَّوريُّ، هذا كلُّه إذا لم يَحضُر الصَّف، ويتعيَّن القتال، وإلّا فحينئذ يجوز بغير إذن، وأجمع العلماء على الأمر ببرِّ الوالدينِ، وأنّ عقوقهما حرامٌ من الكبائر" [6].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله - عليه السلام - للذي قال له: أُبايعُك على الهجرة والجهاد، وقوله له: أبتغى الأجر: «ارجعْ إلى والدَيْكَ، فأَحْسِنْ صُحْبتَهما»، وفى الحديث الآخر: «وفيهما فجاهد»: يحتمل أن هذا كان بعد الفتح وسُقوط فرض الهجرة والجهاد، وظُهور الدين، أو كان ذلك من الأعراب وغيره، كانت تجب عليه الهجرة، فرجَّح برَّ والدَيْهِ وعظيم حقِّهما، وكثرة الأجر على بِرِّهما، وأن ذلك أفضل من الجهاد، وحسبُك بهذا، ولم يرَ أهل العلم الجهاد إلا بإذنهما. واختُلف إذا كانا مشركينِ، فقال الثوريُّ: هما كالمسلمينِ. وقال الشافعيُّ: له الغزو بغير إذنهما. قال أهل العلم: وهذا ما لم يتعيَّن فرضه ويَلزَم النَّفِير، وهذا لا إذنَ فيه لهما، ولا خلاف في وجوب برِّ الوالدين، وأن عقوقهما من الكبائر" [7].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال عياض: تردَّد بعض العلماء في الجَدِّ والأخ، والأكثر على تقديم الجَدِّ. قلت: وبه جزم الشّافعيّة، قالوا: يقدَّم الجَدُّ ثمّ الأخُ، ثمّ يقدَّم من أدلى بأبوينِ على من أدلى بواحد، ثمّ تقدَّم القرابة من ذَوي الرَّحِم، ويقدَّم منهم المحارم على مَن ليس بمَحرَم، ثمّ سائر العَصَبات، ثمّ المصاهَرة ثمّ الولاء، ثمّ الجار، وأشار ابن بطَّال إلى أنّ التّرتيب حيث لا يمكِن إيصال البرِّ دَفْعةً واحدةً، وهو واضح، وجاء ما يدلُّ على تقديم الأمِّ في البرِّ مطلَقًا، وهو ما أخرجه أحمد والنّسائيُّ وصحَّحه الحاكم من حديث عائشة قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الْمَرْأَةِ؟ قَالَ: «زَوْجُهَا»، قُلْتُ: فَأَيُّ النَّاسِ أَعْظَمُ حَقًّا عَلَى الرَّجُلِ؟ قَالَ: «أُمُّهُ» [8]" [9].

قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا كله تفسير لقوله تعالى:

﴿وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾

[النساء: 36]،

وقوله تعالى:

﴿وَءَاتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُۥ﴾

[الإسراء: 26]

فجعل سبحانه حقَّ ذي القُربى يلي حقَّ الوالدينِ، كما جعله النبيُّ  ﷺ سواء بسواء، وأخبر سبحانه أن لذي القربى حقًّا على قَرابته، وأمر بإتيانه إيَّاه، فإن لم يكن ذلك حقَّ النَّفَقة، فلا ندري أيُّ حقٍّ هو؟ وأمر تعالى بالإحسان إلى ذي القُربى. ومن أعظم الإساءة أن يراه يموت جوعًا وعُرْيًا، وهو قادر على سدِّ خَلَّته، وستر عَوْرته، ولا يُطعمه لُقمة، ولا يستر له عورة إلَّا بأن يُقرضه ذلك في ذمَّته" [10].


المراجع

1.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 189).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 102، 103).

3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5).

4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).

5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 5 - 7).

6. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 104).

7. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 7).

8. رواه النسائيُّ (9103)، والحاكم (7244) وصحَّحه.

9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 402).

10. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 484).



المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو سَعيدٍ الخدريُّ وأَبو هُرَيْرة - رضيَ اللَّه عَنْهُمَا - عن النَّبيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ»؛ أي: لا يصيب المسلمَ أيُّ نوع من الابتلاء مهما قلَّ؛ كتَعَبٍ. «وَلا وَصَبٍ»؛ أي: ولا وجعٍ دائم ولازم. «وَلا هَمٍّ، وَلا حَزَنٍ، وَلا أَذًى، وَلا غمٍّ»؛ أي: ولا يُصيبه شيءٌ يُهِمُّه أو يُحْزِنه أو يُؤذِيه أو يَغُمُّه. «حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها»؛ أي: حتى أقلُّ شيء كالشوكة يُشاكها المسلم. «إِلَّا كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه»؛ أي: ليس يُصيبه شيءٌ من ذلك إلا جعله الله كفَّارةً له، يمحو به من ذنوبه وخطاياه.


الشرح المفصَّل للحديث:

في هذا الحديث يوضِّح النبيُّ ﷺ صورةً من صور فضل الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، فيبيِّن أنه ما يُصيب المسلمَ من ابتلاءٍ، أيًّا كانت صورتُه، من مرضٍ دائم ومستمِرٍّ لصاحبه، أو تَعَبٍ يَشعُر به الإنسانُ، أو ما يَحصُل له من همٍّ يملأ قلبَه، أو حُزْنٍ على فقد شيء، أو لما أصابه، وثوابُ ذلك أن يكفِّر الله بها من سيِّئاته، فتكون تلك الأوجاع سببًا في غفران ذنوبه ومَحْوِها، وهذا من تطهير الله تعالى للمؤمن بما يَبتَليه به من أمور الدنيا؛ حتى يُنقِّيَه من ذنوبه، فيلقى الله خاليًا منها، فيُنعِم عليه من فضله.

والمرادُ بتكفير الذنب: سَتْرُه، ومحوُ أثره المترتِّب عليه من استحقاق العقوبة[1]، وفيه دلالة على أن الأمراض ونحوَها تَرفَع الدرجاتِ، كما تَحُطُّ الخطيئاتِ، فتجمع بين الاثنين، كما هو رأي الجمهور.

المراجع

  1. طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (3/ 238)


النقول

قال الملا علي القاري رحمه الله : "«مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ»: (ما) نافية، و(من) زائدة للاستغراق في قوله: «من نصب، ولا وصب»: بفتحتين فيهما، والأوّل التَّعَب والألم الّذي يصيب البدن من جراحة وغيرها، والثّاني الألم اللّازم، والسَّقَم الدّائم على ما يُفهَم من النّهاية. «ولا همّ، ولا حزن»: بضمِّ الحاء وسكون الزّاي، وبفتحهما. «ولا أذًى، ولا غمّ»: (لا) لتأكيد النّفي في كلّها. قال ابن حجر: الأذى كلُّ ما لا يلائم النّفسَ، فهو أعمُّ من الكلِّ، والظّاهر أنّه مختصٌّ بما يتأذّى الإنسان من غيره كما أشار إليه

قوله تعالى:

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا ۚ

[آل عمران: 186]

والهمُّ الّذي يُهِمُّ الرّجل؛ أي: يُذيبه، من هَمَمْتُ الشَّحْمَ إذا أذبتُه، والحَزَن هو الّذي يَظهَر منه في القلب خشونة. يقال: مكان حَزَن؛ أي: خَشِن، فالهمُّ أخصُّ، والغمُّ هو الحَزَن الّذي يَغُمُّ الرّجل؛ أي: يُصيّره بحيث يَقرُب أن يُغمى عليه، فالهمُّ والحَزَن ما يُصيب القلب من الألم بفوت محبوب، إلّا أنّ الغمَّ أَشَدُّها، والحَزَن أسهلها، وقيل: الهمُّ يختصُّ بما هو آتٍ، والحَزَن بما فات. قال مِيرَكُ: روى التّرمذيُّ أنّ وكيعًا قال: لم يُسمَع في الهمِّ أن يكون كفَّارةً إلّا في هذا الحديث"[1].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«ما يصيب المسلم من نَصَب» تَعَب، «ولا وَصَب» مرضٍ، أو مرض دائم ملازم، «ولا همٍّ» بفتح الهاء وتشديد الميم، «ولا حزن» بفتحتين، ولغير أبي ذرٍّ (ولا حُزْنٍ) بضمٍّ فسُكونٍ. قال في الفتح: هما من أمراض الباطن؛ ولذلك ساغ عطفهما على الوصب. انتهى. وقيل: الهمُّ يختصُّ بما هو آتٍ، والحَزَنُ بما مضى. «ولا أذًى» يَلحَقُه من تعدِّي الغَير عليه، «ولا غَمٍّ» بالغين المعجَمة، وهو ما يضيِّق على القلب، وقيل: إن الهمَّ يَنشَأ عن الفِكر فيما يُتوقَّع حصوله مما يُتَأذَّى به، والحَزَنُ يَحدُث لفَقْدِ ما يشقُّ على المرء فَقْدُه، والغمُّ كَرْبٌ يَحدُث للقلب بسبب ما حصل"[2].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«حَتَّى الشَّوْكَةُ»: بالرّفع، (حتّى) ابتدائيّة، والجُملة بعد الشّوكة خبرُها، وبالجرِّ، فحتّى عاطفة، أو بمعنى (إلى) ممّا بعدها حال. وقال الزّركشيُّ: بالنّصب على أنّه مفعول فعل مقدَّر؛ أي: حتّى يجد الشّوكةَ. «يشاكها»: الكشَّاف: شكَّت الرّجل شوكةٌ: أُدخِلت في جسده شوكة، وشِيكَ على ما لم يُسَمَّ فاعله، يُشاك شوكًا. اهـ. قيل: فيه ضمير المسلم أقيم مقام فاعله، و(ها) ضمير الشّوكة؛ أي: حتّى الشّوكة يُشاك المسلم تلك الشَّوكة؛ أي: تُجرَح أعضاؤه بشوكة، والشَّوكة هاهنا المرَّة من شاكَه، ولو أراد واحدة النّبات لقال: يُشاك بها، والدّليل على أنّها المرَّة من المصدر جعلُها غايةً للمعاناة، فلا معنى لقول الطِّيبيِّ، وتابعه ابن حجر: أنّ الضّمير في يُشاك مفعوله الثّاني. «إلّا كفّر اللّه بها»؛ أي: بمقابلتها أو بسببها. «من خطاياه»؛ أي: بعضها، والاستثناء من أعمِّ الأحوال المقدَّرة. وفيه تنبيه على أنّ السّالك إن عجز عن مرتبة الرّضا، وهي التّلذُّذ بحلاوة البلاء، أن لا يفوته تجرُّع مرارة الصّبر في حبّ المولى؛ فإنّه ورد: الْمُصاب من حُرم الثّواب"[3].

قال المباركفوري رحمه الله: "«إِلَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ»: ظاهرُه تَعميمُ جميع السيئات؛ لكن الجمهور خَصُّوا ذلك بالصغائر؛ لحديث: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعة إلى الجُمُعة، ورمضان إلى رمضان، كفَّاراتٌ لما بينهن ما اجتُنبت الكبائر»[4]، فحملوا الْمُطلَقاتِ الواردةَ في التفكير عَلَى هَذَا الْمُقَيَّدِ"[5].

المراجع

  1. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
  2. شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (8/ 340)
  3. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1128).
  4. رواه مسلم (233).
  5. تحفة الأحوذي" للمباركفوري (4/ 35).


غريب الحديث

من نَصَب: أي تَعَب.

ولا وَصَب: الوَصَبُ هو دَوَامُ الوجع ولزومه[1]

ولا همٍّ ولا حزنٍ: هما من أمراض الباطن؛ ولذلك ساغ عطفهما على الوَصَب، والهمُّ هو الحَزَن الذي يُذيب الإنسان، والحَزَن: خشونةٌ في النفس لِما يَحصُل فيها من الغَمِّ، فعلى هذا؛ الهمُّ أخصُّ وأبلغ من الحَزَن، وقيل: الهمُّ يختصُّ بما هو آتٍ، والحَزَنُ بما مضى[2]

ولا أذى: هو أعمُّ مما تقدَّم، وقيل: هو خاصٌّ بما يَلحَق الشخصَ من تَعدِّي غيره عليه[3]

ولا غم: الغمُّ من أمراض الباطن، وهو ما يضيِّق على القلب.

حتى الشوكةُ يُشاكها؛ أي: يُصاب بها، وحقيقةُ قوله: (يُشاكها) أن يُدخِلها غيرُه في جَسَده[4]

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 190).
  2. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 373)، "فتح الباري" لابن حجر (10/ 106).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 106).
  4. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (8/ 341).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه ، عن النَّبِيِّ أنه قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أَيْ: كلُّ البَشَر كَثِيرُو الْخَطَأِ. «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: وخيرُهم من يُسارع في التوبة، فكما هو كثير الخطأ، فهو كثير التوبة.

الشرح المفصَّل للحديث

خلق الله تعالى الخَلْقَ لغايات عظيمة، وحِكَم جليلة، من أجلِّها عبادةُ الله عزَّ وجلَّ وتوحيده؛

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[الذاريات: 56]

وقال تعالى:

﴿ وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ﴾

[الأنبياء: 25]

فالإنسان مأمور بمعرفة الله، وتوحيده، وعبادته، وأَودَع الله في كل إنسان خَلَقَه القُدرة على فعل الخير والشرِّ؛

قال تعالى:

﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن﴾

[البلد: 10]؛

أي: دَلَلْناه على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَركْنا له حرية الاختيار بينهما، و

قال تعالى

﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾

[الشمس: 7-8]

أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة، فمن اتَّبَع الرُّسُل، واستقام على نهجهم، أفلح ونجا؛

قال تعالى:

﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ﴾

[طه: 123]

إلا أن الإنسان وهو سائر في طريقه إلى الله، معرَّض للوقوع في الذنوب والمعاصي والأخطاء؛ إذ النقصُ من جملة صفاته؛

قال تعالى:

﴿وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا﴾

[النساء: 28]

وإذا كان الأمر كذلك، فإن الله قد فتح لعباده باب التوبة من الذنوب والمعاصي، فما كان الله ليَخْلُق عباده بهذه الصفات إلا لحكمة بليغة هو يَعلَمها، وهي: أن يَعبُد المسلم ربَّه بالتوبة والإنابة والرجوع إليه؛ ففي حديث أنسٍ رضي الله عنه يقرِّر النبيُّ سنَّة من سنن الله في خلقه، وهي أن كلَّ بني آدمَ يَقَع في الذنوب والمعاصي، فإذا ما وقعوا فيها، فباب التوبة مفتوح، فليبادروا بها.

يقول «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أي: كثيرو الخطأ، وخطَّاء من صِيَغ المبالغة، والمراد بالخطأ: المعصيةُ عَمْدًا ومطلَقًا، ويَدخُل فيها الصغائر والكبائر، والأنبياءُ معصومون من الوقوع في الكبائر، وقد يَقَع من بعضهم بعضُ الصغائر على الراجح من أقوال أهل العلم؛ إلا أنهم سُرعانَ ما يتوبون إلى الله ويستغفرونه، ودليل ذلك

قوله تعالى:

﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ 121 ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ﴾

[طه: 121-122]

و"القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمِديُّ أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قولُ أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء؛ بل هو لم يَنقُل عن السَّلف والأئمَّة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"[1]

وإذا كان الإنسان بطبعه كثيرَ المعاصي، فإن ذلك ليس مبرِّرًا له على الإطلاق في الاسترسال في الذنوب والمعاصي، فهو مأمورٌ بتصحيح ذنبه؛ ولذلك جاءت الجملة الثانية من الحديث تُرشده إلى طريق الخلاص والتوبة من المعاصي، فقال «وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»؛ أي: والخيرية والأفضلية إنما تكون للرّجَّاعين والتائبين والمستغفرين، إلى الله بالتوبة من المعصية إلى الطاعة، فكلَّما أذنب أحدهم، أَحدَث توبةً إلى الله تعالى، وبادَرَ إلى طلب المغفرة من الله تعالى، فهذه صفة من صفات المتَّقِين؛

قال تعالى: 

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

 [آل عمران: 135]،

"فأثنى على المستغفِرين، وفي ضِمْنِ ثنائه بالاستغفار لوَّح بالأمر به، كما قيل: إن كلَّ شيء أَثنى اللهُ على فاعله، فهو آمِرٌ به، وكلَّ شيء ذَمَّ فاعلَه، فهو ناهٍ عنه"[2]

  وعلى المسلم إذا ما أَذنَب أن يُسارع إلى التوبة، ولا يَيْئَس من رحمة الله - عزَّ وجلَّ - فاليأس من رحمة الله صفة من صفات الكافرين وأهل الضلال؛

قال تعالى:

﴿ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون﴾

[يوسف: 87]

قال تعالى:

﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ﴾

[الحجر: 56]

 فـ"اليأس من رحمة الله فيه تكذيب القرآن؛

 إذ يقول وقولُه الحقُّ:

﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾

[الأعراف: 156]"[3]

ومهما كانت الذنوبُ، فإن الله يغفرها جميعًا، ويتوب على أصحابها إذا تابوا؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ:

«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ»

[4]،

وفي الحديث دلالة على أن العبد الصالح كلَّما قارَف ذنبًا، عاد مسرِعًا تائبًا من ذنبه، منيبًا إلى ربِّه، لا أنه مُصِرٌّ على الذنوب، وذلك معنى

قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾

[النساء: 17]

 فإذا تاب المذنبون، وأنابوا إلى ربهم، قَبِل توبتهم، وفتح لهم أبواب رحمته؛

قال تعالى:

﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾

[الشورى: 25]

       وبالإصرار على الذنوب وإن كانت صغيرةً، فإنها تتحوَّل إلى كبائرَ، "اعلم أن الصغيرة تَكبُر بأسباب، منها: الإصرارُ، والمواظبة؛ ولذلك قيل: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، فكبيرةٌ واحدة تَنصرِم ولا يَتبَعها مثلُها، لو تصوّر ذلك، كان العفوُ عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها، ومثال ذلك: قَطَرات من الماء تقع على الحَجَر على تَوَالٍ فتؤثِّر فيه، وذلك القدرُ من الماء لو صُبَّ عليه دَفْعةً واحدة لم يؤثِّر"[5].

لذا؛ حذَّرنا النبيُّ من المداوَمَة على فعل الصغائر؛ لأن فيها هلاكًا للعبد؛

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:

«إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ»

[6]

وحذَّر الْمُصِرِّين على الصغائر بالوَيْلِ والعذاب الشديد؛

فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو بْنِ الْعَاص رضي الله عنهما،

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ»

[7]

 وباب التوبة مفتوح لا يُغلِقه الله في وجه عباده ما لم تَبلُغ الرُّوح الحُلْقوم؛

فعَنْ ابْنِ عُمَر رَضِيَ الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»

[8]

 فالله عزَّ وجلَّ يَقبَل توبة عبده ما لم يَحضُره الموت، أو تَطلُع الشمس من مغربها؛

قال تعالى:

﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ﴾

[النساء: 18].

ويَفرَح الله بتوبة عبده، أكثرَ من فرح رجل وجد طعامه وشرابه في الصحراء بعدما فَقَدهما، وأَشرَف على الهلاك؛

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْن مَسْعُود قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ:

«للَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ، مَعَهُ رَاحِلَتُهُ، عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ، فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمَّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ، فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَاللهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ»

[9]

والتوبةُ سببٌ كافٍ لنَيل محبَّة الله تعالى؛ قال عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222]،

وفي الحديث أن النبيَّ كان يستغفر في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً؛

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:

«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً».

[10]

   وللتوبة شروطٌ حتى تُقبَل، هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعَزْمُ على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.

فضائل التوبة: 

أولاً: التوبة سببٌ لنَيل محبَّة الله تعالى؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222].

ثانيًا: التوبة سبب لنور القلب ومحوِ أثر الذنب؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ؛ ﴿كَلَّا ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: 14]»

[11]

ثالثًا: التوبة سبب لتكفير السيِّئات، وغفران الذنوب؛

قال تعالى:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

[الفرقان: 70].

رابعًا: التوبة سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار؛

قال تعالى:

﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا﴾

[مريم: 60].

خامسًا: التوبة سبب لنزول الغَيث، وزيادة القوَّة؛

قال تعالى

﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ﴾

[هود: 52].

سادسًا: التوبة سبب للتوفيق والفلاح؛

قال تعالي

﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾

[النور:33]

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 320).
  3. "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (5/ 160).
  4. رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
  5. إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/ 32).
  6. رواه أحمدُ (22808)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.
  7. رواه أحمدُ (6541)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد" (ص: 151).
  8. رواه أحمد (6160)، والترمذيُّ (3537)، وابن ماجه (4253) وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3143).
  9.  رواه البخاريُّ (6308)، ومسلم (2744).
  10.  رواه البخاريُّ (6307).
  11. رواه الترمذيُّ (3334)، وابن ماجه (4244)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.


النقول

قال الطِّيبيُّ رحمه الله : "«خطَّاء» يقال: رجل خطَّاء، إذا كان ملازمًا للخطايا، غيرَ تارك لها، وهو من أَبْنِيَة المبالغة. أقول: إن أُرِيد بلفظ الكلِّ الكلُّ من حيث هو كلٌّ، كان تغليبًا؛ لأن فيهم الأنبياءَ، وليسوا مبالِغين في الخطأ، وإن أريد به الاستغراقُ، وأن كلَّ واحد خطَّاء، فلا يستقيم إلا على التوزيع، كما تقول: هو ظلَّام لعَبِيده؛ أي: يَظلِم كل أَحَدٍ واحد، فهو ظالم بالنسبة إلى كلِّ أحد، وظلَّام بالنسبة إلى المجموع، وإذا قلتَ: هو ظلَّام لعبده، كان مبالِغًا في الظُّلم.

فيه تعميم جميع بني آدم، حتى الأنبياء؛ لكنهم خُصُّوا منه لكونهم معصومين، واختلفوا في أنهم معصومون عن الصغائر والكبائر، أم عن الكبائر؟ فمن قال: هم غير معصومين عن الصغائر، استدلُّوا بعصيان آدَمَ، وكذب إبراهيم عليهما السلام، ومن قال: هم معصومون عن الصغائر أيضًا، حَمَلوا زَلَّاتِ الأنبياء على النسيان والخطأ، وهذا هو الأَوْلى؛ لِمَا فيه من تعظيم الأنبياء، وقد أُمِرنا بتعظيمهم. أقول: إخراجُه الأنبياءَ من هذا الحديث بالنظر إلى بناء المبالَغة، وإثبات الخطأ لهم بالنظر إلى التوزيع"[1].

قال الملا علي القاري  رحمه الله: "«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ»؛ أي: كثيرُ الخطأ، أَفرَد نظرًا إلى لفظ الكلِّ، وفي رواية: (خطَّاؤون)؛ نظرًا إلى معنى الكلِّ. قيل: أراد الكلَّ من حيث هو كلٌّ، أو كلُّ واحد، وأمّا الأنبياء - صلوات اللّه عليهم - فإمّا مخصوصون عن ذلك، وإمّا أنّهم أصحاب صغائرَ، والأوّل أَوْلى؛ فإنّ ما صدر عنهم من باب ترك الأَولى، أو من قَبيل "حسنات الأبرار سيّئات المقرَّبين"، أو يقال: الزّلّات المنقولة عن بعضهم محمولة على الخطأ والنّسيان من غير أن يكون لهم قصد إلى العصيان. «وخير الخطّائين التّوّابون»؛ أي: الرّجَّاعون إلى اللّه بالتّوبة من المعصية إلى الطّاعة، أو بالإنابة من الغفلة إلى الذِّكر، أو بالأَوْبة من الغَيْبة إلى الحضور"[2].

 قال المناويُّ  رحمه الله: "«كل بني آدم خطَّاء» بشدِّ الطاء والتنوين. يقال: رجل خطَّاء إذا كان ملازمًا للخطأ، وهو من أبنية المبالغة. «وخير الخطَّائين التوَّابون» يعني أن العبد لا بدَّ أن يجريَ عليه ما سَبَق به القَدَرُ؛ فكأنه قال: لا بدَّ لك من فعل الذنوب والخطايا؛ لأن ذلك مكتوبٌ عليك، فأحدِثْ توبةً؛ فإنه لا يؤتى العبد من فعل المعصية وإن عَظُمت؛ وإنما يُؤتى من ترك التوبة وتأخيرها؛ فإن الله غفور يحبُّ التوَّابين"[3]

قال الصنعانيُّ  رحمه الله: "«كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاؤونَ»؛ أي: كثيرو الخطأ؛ إذ هو صيغة مبالغة، «وخير الخطّائين التّوّابون»، أخرجه التّرمذيُّ وابن ماجه وسنده قويٌّ، والحديث دالٌّ على أنّه لا يخلو من الخطيئة إنسان؛ لِما جُبل عليه هذا النّوع من الضّعف وعدم الانقياد لمولاه في فعل ما إليه دعاه، وترك ما عنه نهاه؛ ولكنّه تعالى بلُطفه فتح باب التّوبة لعباده، وأخبر أنّه خير الخطّائين التّوّابون المكثِرون للتّوبة على قدر كثرة الخطأ. وفي الأحاديث أدلَّة على أنّ العبد إذا عصى اللّه وتاب، تاب اللّه عليه، ولا يزال كذلك، ولن يَهلِك على اللّه إلّا هالك"[4]

قال ابن القيم  رحمه الله: "من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[5].

قال ابن عثيمين  رحمه الله: "«يَا عِبَادي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ»؛ أي: تجانبون الصواب؛ لأن الأعمال إما خطأٌ وإما صواب، فالخطأ مجانَبةُ الصواب، وذلك إما بترك الواجب، وإما بفعل المحرَّم. وقوله: بِالَّليْلِ الباء هنا بمعنى: (في)... «وَأَنَا أَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا»؛ أي: أسترُها وأتجاوز عنها مهما كَثُرت، ومهما عَظُمت؛ ولكن تحتاج إلى الاستغفار. «فَاستَغفِرُونِي أَغْفِر لَكُم»؛ أي: اطلبوا مغفرتي، إما بطلب المغفرة؛ كأن يقول: اللهم اغفر لي، أو أستغفر الله وأتوب إليه. وإما بفعل ما تكون به المغفرة، فمن قال: سبحان الله وبحمده مائة مرة غُفرت خطاياه ولو كانت مثلَ زبَد البحر"[6]

قال ابن دقيق العيد  رحمه الله: "وقوله: «إنكم تخطئون بالليل والنهار» في هذا الكلام من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل والنهار في الطاعة؟! فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة. وكيف يَحسُن بالمؤمن أن يخطئ سرًّا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وأنا أغفر الذنوب جميعًا»، فذَكَر الذنوب بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا» وإنما قال ذلك قبل أمره؛ إيمانًا بالاستغفار؛ لئلا يَقنَط أحد من رحمة الله لعظم ذنب ارتكبه"[7]

قال ابن تيميَّة  رحمه الله: "القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمِديُّ أن هذا قولُ أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قولُ أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء؛ بل هو لم يَنقُل عن السَّلف والأئمَّة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"[8].

قال الغزاليُّ  رحمه الله: "اعلم أن الصغيرة تَكبُر بأسباب، منها: الإصرارُ، والمواظبة؛ ولذلك قيل: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع استغفار، فكبيرةٌ واحدة تَنصرِم ولا يَتبَعها مثلُها، لو تصوّر ذلك، كان العفوُ عنها أرجى من صغيرة يواظب العبد عليها، ومثال ذلك: قَطَرات من الماء تقع على الحَجَر على تَوَالٍ فتؤثِّر فيه، وذلك القدرُ من الماء لو صُبَّ عليه دَفْعةً واحدة لم يؤثِّر"[9]

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1847، 1848).
  2. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1622).
  3. فيض القدير" للمناويِّ (5/ 16).
  4. سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 653).
  5. الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
  6. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 240، 241).
  7.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 89، 90).
  8. مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319).
  9. إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/ 32).


غريب الحديث

خَطَّاء: الخطأ: الذَّنْبُ والإثم، وخطَّاء صيغة مبالغة، وأخطأ يُخطئ: إذا سَلَك سبيل الخطأ عَمْدًا أو سَهْوًا [1]

التَّوَّابُونَ: تاب: عاد إلى الله ورجع وأناب، وتاب الله عليه؛ أي: عاد عليه بالمغفرة، وتوَّاب صيغة مبالغة [2]

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 44).
  2. "تهذيب اللغة" للأزهريِّ (14/ 236).


المعنى الإجماليُّ للحديث

قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ؛ أي: كان  يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارةُ هي طَلَب الخَير.

يَقُولُ ﷺ: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلة. «ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: ليدعُ بعد انتهائه من الصلاة بطَلَب الخير من الله العليم بما هو خير له. «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ»؛ أي: أطلب منك بقدرتك أن تجعل لي قُدرة عليه. «وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: وأطلب أن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» فإنك تقدر على كلِّ شيء، ولا أقدر إلا على ما تُقدِرني عليه، وأنت علَّام الغُيوب، ولا أعلم إلا ما تُعلِمني إيَّاه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: فاقدُرْ هذا الأمر أن يكون لي ميسَّرًا، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأَبعِدْه عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إيَّاه. «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدِّر لي الخيرَ دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر. «قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يسمِّي الأمر الذي يَستخير من أجله في أثناء دعائه.

الشرح المفصَّل للحديث

إذا كان المؤمنُ يؤمن أنه لا يَعلَمُ الغَيبَ إلَّا اللهُ تعالى، ولا يُقدِّرُ الخيرَ والشَّرَّ للعَبْدِ سواه، فإنَّ عليه أن يرُدَّ الأمور كلَّها إلى الله، وأن يتبرَّأ من حَوله وقوَّته وقُدرته وعِلمه إلى حَول الله وقوَّته وقُدرته وعِلمه، وينبغي له أن لا يَقصِد شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألَه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا بذِلَّة العبودية له، واتِّباعًا لسُنَّة نبيِّه ﷺ في الاستخارة.

إن الاستخارة هي توحيد خالص لله تعالى، وإيمان به، فيها إقرارُ العبد بضَعفه وعُبوديَّته وعَجزه علمًا وقُدرة، وتوكُّلُه على خالقه ومدبِّر أمرِه، واستعانتُه به، واللجوءُ إليه، وتفويضُه الأمرَ إليه، واستقسامُه بقُدرته وعلمه وحُسن اختياره له، وفيها الرضا بالله ربًّا، والرضا باختياره مهما كان.

لذا؛ كانت الاستخارةُ من أجلِّ أسباب سعادة العبد في دينه ودنياه؛

فعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ قال: قال رسول الله ﷺ:

«مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ اسْتِخَارَتُهُ اللَّهَ، وَمِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ تَرْكُهُ اسْتِخَارَةَ اللهِ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ»

[1].

و"المقدور يكتنفه أمران: الاستخارة قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه؛ فمن سعادة العبد أن يجمع بينهما"[2].

لذا؛ كان النبيُّ ﷺ يعلِّم الصحابة دعاءَ الاستخارة كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات؛ فهذا أبو أيُّوبَ الأنصاريُّ رضي الله عنه أراد الخِطبة،

فيروي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ لَهُ:

«اكْتُمِ الْخِطْبَةَ، ثُمَّ تَوَضَّأْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ، وَصَلِّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكَ، ثُمَّ احْمَدْ رَبَّكَ وَمَجِّدْهُ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، فَإِنْ رَأَيْتَ لِي فِي فُلاَنَةَ، تُسَمِّيهَا بِاسْمِهَا، خَيْرًا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا خَيْرًا لِي مِنْهَا فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَآخِرَتِي، فَاقْضِ لِي بِهَا، أَوْ قَالَ: فَاقْدُرْهَا لِي»

[3].

ويروي أنسٌ - رضي الله عنه - في قصة زواج النبيِّ ﷺ من زينبَ بنتِ جحشٍ، وفيه قالت: «ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُوَامِرَ ربِّي، فقامت إلى مسجدها» [4].

وفي هذا الحَديثِ بَيانٌ لهدي النبيِّ ﷺ في صَلاةِ الاستِخارةِ في كُلِّ الأُمور، وأهميتِها، وعنايتِه بها، وتعليمها للصحابة الكرام، وتحفيظهم دعاءها كما يعلِّمهم القرآن؛

حيثُ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما يقول:

«كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ»

أي: كان يعلِّمهم صلاة الاستخارة ويحفِّظهم دعاءها، كما كان يحفِّظهم القرآن، والاستخارة هي طلب الخير.

فـ"إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ ﷺ، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية"[5].

قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم؛ يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه، وأن لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه. لذا؛

رُوِيَ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:

«ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعْله»

[6].

وفي قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد، مرغَّب فيه. 

يَقُولُ ﷺ:

«إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ»؛

أي: إِذا قَصَد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك، وهو في حَيرة، فليُصلِّ ركعتين نافلةً.

والاستخارة عبارةٌ عن صلاة ودعاء؛ فالصلاة هي ركعتانِ من غير الصلوات المفروضة، ويصحُّ أن تكون سنَّةً راتبة، أو تحيَّةَ مسجد، أو صلاة ضُحًى على الراجح من قولَيِ العلماء، أما استخارةُ الحائض والنُّفَساء، فتكون بالدعاء دون الصلاة.

"قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور.

قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه ﷺ إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك"[7].

ولا تُصلَّى الاستخارة وقتَ نهيٍ؛ إلَّا في أمر يَفُوت ولا يمكِن استدراكه، فتكون من ذوات الأسباب التي يجوز فعلها في أوقات النهيِ.

"أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ ﷺ إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء[8].

«ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيرِي وشرِّي.

"قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ[ثمّ] المقتضية للتّراخي.

قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. استخار اللّه: طلب منه الخَير. وخار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. وقوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك»"[9].

قوله: «وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، وأن تَمُنَّ عليَّ من فضلك العظيم. «فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحدَه. «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي»؛ أي: إن كنتَ تَعلَم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني وحياتي ومستقبَلي وآخرتي. «أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ» وهذا شكٌّ من الراوي؛ أي: دنياي وآخرتي، أو ما يكون من أمري في الحال والاستقبال. «فَاقْدُرْهُ لِي، وَيَسِّرْهُ لِي، ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ»؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، ويسِّرْه لي، ثم بارك لي فيه. «وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ - فَاصْرِفْهُ عَنِّي، وَاصْرِفْنِي عَنْهُ»؛ أي: إن كنت تعلم أنه شرٌّ لي في ديني وحياتي ومستقبلي وآخرتي، فأبعده عني، وأبعدني عنه، وجنِّبني إياه.

"قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ"[10].

ولذلك قال: «وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ، ثُمَّ أَرْضِنِي»؛ أي: قدرِّ لي الخير دائمًا، حيث كان، ثم اجعلني راضيًا بما تقدِّر؛ "لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له"[11].

«قَالَ: وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك.

"فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرارَ بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ"[12].

وما نَدِم مَن استخار الخالق، وشاوَرَ المخلوقين، وتثبَّت في أمره؛ فـ"الاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأيِ والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شرٌّ؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة"[13].

"والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا خلاف في ذلك، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء؟ قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ ﷺ «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا»، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء.

وينبغي أن يفعل المرء بعد الاستخارة ما يَنشرِح له صدرُه، ولا ينبغي أن يعتمد على انشراحٍ كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه"[14].

فعلامة الخيرة بعد الاستخارة انشراح الصدر، وتَيسُّر الأمر، وعلامةُ انتفاء الخِيَرة عَدَمُ انشراح الصدر، وتعسُّر الأمر، فإن لم يظهر شيءٌ من تلك العلامات، فعلى العبد أن يستفتح ربَّه بتَكرار الاستخارة والاستشارة، فإن لم يظهر له شيء بعد هذا التَّكرار، فليفعل ما يراه، بعد استشارة أهل الصلاح؛ فتلك هي الخِيَرة.

"ثم بعد الصلاة ودعاء الاستخارة إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة مَيْلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ ﷺ: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ ﷺ أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ"[15].

قال عبد اللّه بن عمر: "إنّ الرجل ليَسْتَخيرُ اللّه، فيختار له، فيَسخَط على ربِّه، فلا يَلبَثُ أن يَنظُر في العاقبة، فإذا هو قد خار له"[16].

المراجع

  1. رواه أحمد (1444)، وضعفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع وزيادته" (5300).
  2. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 28).
  3. رواه أحمد (23994)، والطبرانيُّ في "المعجم الكبير" (3901)، وقال ابن حجر في "نتائج الأفكار" (4/ 63): هذا حديث حسنٌ من هذا الوجه، صحيحٌ لشواهده.
  4. رواه مسلم (1428).
  5. "مجموع الفتاوى" (10/ 663).
  6. رواه الترمذيُّ (3604) بلفظ: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ». وضعَّفه الألبانيُّ في "الجامع الصغير وزيادته" (10413).
  7. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 88).
  8. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 161).
  9. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89).
  10. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89).
  11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89).
  12. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (2/ 405).
  13. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 159).
  14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89، 90).
  15. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 162، 163).
  16. "شفاء العليل" لابن القيم (ص: 94).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: [باب الدعاء عند الاستخارة] هي [اسْتِفْعَالٌ] من الخَير، أو من الخِيَرة، بكسر أوَّله وفتح ثانيه، بوزن العِنَبة، اسمٌ من قولك: خار اللهُ له. واستخار اللهَ: طلبَ منه الخِيَرة، وخار اللهُ له: أعطاه ما هو خيرٌ له، والمرادُ طَلَبُ خير الأمرين لمن احتاج إلى أحدهما"[1].

قال ابن تيمية رحمه الله: "إذا عنَّ للإنسان جهةٌ، فليَسْتَخِرِ الله تعالى فيها الاستخارةَ المتلقَّاة عن معلِّم الخيرِ ﷺ، فإن فيها من البَرَكة ما لا يُحاط به، ثم ما تيسَّر له، فلا يتكلَّف غيره إلَّا أن يكون منه كراهةٌ شرعية"[2].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "فِقْهُ هذا الحديث أنه يَجِبُ على المؤمن رَدُّ الأمور كلِّها إلى الله، وصَرْفُ أَزِمَّتها، والتبرُّؤ من الحَوْل والقوَّة إليه، وينبغي له أن لا يَرُوم شيئًا من دقيق الأمور وجَلِيلها، حتى يستخيرَ اللهَ فيه، ويَسألُه أن يَحمِلَه فيه على الخير، ويَصرِف عنه الشرَّ؛ إذعانًا بالافتقار إليه في كلِّ أمر، والتزامًا لذِلَّة العبودية له، وتبرُّكًا باتِّباع سُنَّة نبيِّه ﷺ في الاستخارة؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمهم السورة من القرآن؛ لشدَّة حاجتهم إلى الاستخارة في الحالات كلِّها؛ كشِدَّة حاجتهم إلى القراءة في كلِّ الصَّلَوات، وفى هذا الحديث حُجَّةٌ على القَدَرية الذين يزعمون أن الله تعالى لا يَخلُق الشرَّ، تعالى الله عَّما يَفتَرُون، وقد أبان النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الله تعالى هو المالك للشرِّ، والخالقُ له؛ إذ هو الْمَدْعوُّ لصَرْفِه عن العبد، ومُحَال أن يسأله العبد أن يَصرِف عنه ما يَملِكه العبد من نفسه، وما يَقدِر على اختراعه دون تقدير الله عليه"[3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "والاستخارة مع الله، والمشاورة مع أهل الرأي والصلاح، وذلك أن الإنسان عنده قصور أو تقصير، والإنسان خُلِق ضعيفًا، فقد تُشكِل عليه الأمور، وقد يتردَّد فيها، فماذا يصنع؟ لنفرض أنه همَّ بسفَر وتردَّد هل هو خير أم شر؟ أو همَّ أن يشتريَ سيَّارةً أو بيتًا، أو أن يُصاهر رجلاً يتزوَّج ابنته، أو ما أشبه ذلك؛ ولكنه متردِّد، فماذا يصنع؟ نقول: له طريقتان؛ الطريق الأول: استخارة ربِّ العالمين عزَّ وجلَّ الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. الطريق الثاني: استشارة أهل الرأي والصلاح والأمانة"[4].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «في الأمور كلّها» دليلٌ على العموم، وأنّ المرء لا يَحتقِر أمرًا لصِغَره، وعدمِ الاهتمام به، فيَترُك الاستخارة فيه، فرُبَّ أمرٍ يستخفُّ بأمره، فيكون في الإقدام عليه ضررٌ عظيم، أو في تركه؛ ولذلك قال ﷺ: «ليسأل أحدكم ربَّه حتّى في شِسْعِ نَعله»[5]. قوله: «كما يعلِّمنا السُّورة من القرآن» فيه دليلٌ على الاهتمام بأمر الاستخارة، وأنّه متأكَّد مرغَّب فيه. قال العراقيُّ: ولم أَجِدْ مَن قال بوجوب الاستخارة مستدِلًّا بتشبيه ذلك بتعليم السُّورة من القرآن، كما استدلَّ بعضُهم على وجوب التّشهُّد في الصّلاة بقول ابن مسعود: "كان يعلِّمنا التّشهُّد كما يعلِّمنا السّورة من القرآن". فإن قال قائل: إنّما دلَّ على وجوب التّشهُّد الأمرُ في قوله: «فليقل: التّحيّات للّه» الحديث، قلنا: وهذا أيضًا فيه الأمر بقوله: «فليركع ركعتين ثمّ ليقل»، فإن قال: الأمرُ في هذا تعلَّق بالشَّرط، وهو قوله: «إذا همّ أحدكم بالأمر»، قلنا: إنّما يؤمَر به عند إرادة ذلك، لا مُطلَقًا؛ كما قال في التّشهُّد: «إذا صلَّى أحدكم فليقل: التّحيَّات»، قال: وممّا يدلُّ على عدم وجوب الاستخارة الأحاديثُ الصّحيحة الدّالَّة على انحصار فرض الصَّلاة في الخمس من قوله: هل عليَّ غيرُها؟ قال: «لا؛ إلّا أن تطوَّع»، وغير ذلك. انتهى. وفيه ما قدَّمنا لك في باب تحيَّة المسجد"[6].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فِي الْأُمُور كلهَا» يَعْنِي: فِي دَقِيق الْأُمُور وجَلِيلها؛ لِأَنَّهُ يجب على الْمُؤمن ردُّ الأمور كلِّها إلى الله عزَّ وجل، والتبرُّؤ من الْحَول وَالْقُوَّة إليه. قوله: كان النَّبِيُّ ﷺ، يعلِّمنا الاستخارة ويقول: «إِذا همَّ أحدُكم بِالْأَمر»؛ أي: إِذا قصد الْإِتْيَان بِفعل أَو ترك. قَوْله: «فَلْيقل» جَوَاب [إِذا]، المتضمِّن معنى الشَّرْط؛ فلذلك دخلت فيه الفاء. قَوْله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الْخِيرَة ملتبِّسًا بعلمك بخَيري وشرِّي، ويُحتمَل أَن يكون الباء للاستعانة أو للقَسَم. قوله: «وأستقدرُكَ»؛ أي: أطلب الْقُدْرَة منك أَن تجعلني قَادِرًا عليه، ويُقال: استَقدَرَ اللهَ خيرًا؛ أَي: سأله أن يَقدِر له به، وفيه لَفٌّ ونَشر غير مُرَتَّب. قَوْله: «فَإنَّك تقدر وَلَا أقدر» إِشارة إلى أن الْقُدْرَة لله وحده، وكذلك الْعلمُ له وحده. قوله: «إن كنت تعلم» إلى آخره، قيل: كلمة [إن] للشَّكِّ، ولا يجوز الشَّكُّ في كون اللهِ عالِمًا. وأُجيب بأن الشّكَّ في أن علمه متعلِّق بالخير أو الشّرِّ، لا في أصل العِلم. قوله: «في معاشي» زاد أبو داود في روايته [ومعادي]، والمراد بمعاشه حياته، وبمعاده آخرته. قوله: «أو قال» شكٌّ من الرّاوي، أو ترديد منه، والمراد بينهما يُحتمَل أن يكون العاجل والآجل مذكورينِ بدلَ الألفاظ الثّلاثة، وأن يكون بَدَلَ الأخيرين. قيل: كيف يخرج الدّاعي به عن عهدة التقصِّي حتّى يكون جازمًا بأنّه قال كما قال رسول الله ﷺ، وأجيب بأنّه يدعونه ثلاثَ مرَّات، يقول تارة: في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، وأُخرى: في عاجلي وآجلي، وثالثة: في ديني وعاجلي وآجلي. قوله: «فاقدره لي» بضمِّ الدّال وكسرها؛ أي: اجعله مقدورًا لي، أو قدِّرْه لي، وقيل: معناه: يسِّرْه لي. قوله: «رضِّني»؛ أي: اجعلني راضيًا بذلك. قوله: «ويسمِّي»؛ أي: يعيِّن حاجته؛ مثل أن يقول: إن كنت تَعلَم أن هذا الأمر من السّفر أو التّزوُّج أو نحو ذلك"[7].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «فليركع ركعتين»: فيه أنَّ السُّنَّة في الاستخارة كونُها ركعتين، فلا تُجزئ الرّكعةُ الواحدة، وهل يجزئ في ذلك أن يصلِّيَ أربعًا أو أكثرَ بتسليمة، يُحتمَل أن يُقال: يُجزئ ذلك؛ لقوله في حديث أبي أيُّوب «ثمَّ صلِّ ما كَتَب اللَّه لك» فهو دالٌّ على أنّها لا تضرُّ الزّيادة على الرَّكعتين، ومفهومُ العدد في قوله: «فليركع ركعتين» ليس بحُجَّة على قول الجمهور. قوله: «من غير الفريضة» فيه أنَّه لا يحصل التّسنُّن بوقوع الدُّعاء بعد صلاة الفريضة، والسُّننِ الرّاتبة، وتحيَّةِ المسجد، وغير ذلك من النَّوافل. وقال النّوويُّ في "الأذكار": إنّه يحصل التَّسنُّن بذلك، وتُعُقِّب بأنّه ﷺ إنّما أَمَره بذلك بعدَ حصول الهمِّ بالأمرِ، فإذا صلَّى راتبةً أو فريضةً، ثمَّ همَّ بأمرٍ بعد الصّلاة، أو في أثناء الصّلاة، لم يَحصُل بذلك الإتيان بالصّلاة المسنونة عند الاستخارة. قال العراقيُّ: إن كان همُّه بالأمر قبل الشّروع في الرَّاتبة ونحوها ثمَّ صلَّى من غير نيَّة الاستخارة، وبدا له بعد الصَّلاة الإتيان بدعاء الاستخارة، فالظّاهر حصول ذلك"[8].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «ثمّ ليَقُلْ» فيه أنّه لا يضرُّ تأخُّر دعاء الاستخارة عن الصَّلاة ما لم يَطُلِ الفصل، وأنّه لا يضرُّ الفصل بكلام آخَرَ يسير، خصوصًا إن كان من آداب الدُّعاء؛ لأنّه أتى بـ[ثمّ] المقتضية للتّراخي. قوله: «أستخيرك»؛ أي: أطلب منك الخَير أو الخِيَرة. قال صاحب المحكم: استخار اللّه: طلب منه الخير. وقال صاحب "النّهاية": خار اللّه لك؛ أي: أعطاك اللّه ما هو خيرٌ لك. قال: والخِيَرة بسكون الياء: الاسم منه. قال: فأمَّا بالفتح، فهي الاسم من قوله: اختاره اللَّه. قوله: «بعلمك»: الباء للتّعليل؛ أي: بأنَّك أعلمُ، وكذا قولُه: «بقدرتك». قولُه: «ومعاشي»: الْمَعاش والعِيشة واحدٌ، يُستعمَلان مصدرًا واسمًا، قال صاحب "الْمُحكَم": العَيش: الحياة، قال: والْمَعِيش والْمَعَاش والْمَعِيشة: ما يُؤنَس به. انتهى. قولُه: «أو قال: عاجل أمري» هو شكٌّ من الرّاوي. قولُه: «فاصرفه عنّي واصرفني عنه» هو طَلَبُ الأكملِ من وجوهِ انصراف ما ليس فيه خِيَرةٌ عنه، ولم يكتفِ بسؤال صرف أحد الأمرين؛ لأنّه قد يَصرِف اللَّهُ المستخير عن ذلك الأمر بأن يَنقطِع طلبُه له، وذلك الأمرُ الذي ليس فيه خِيَرة بطلبه؛ فربّما أدركه، وقد يَصرِف اللّه عن المستخير ذلك الأمر، ولا يَصرِف قلب العبد عنه؛ بل يبقى متطلِّعًا متشوِّقًا إلى حصوله، فلا يَطِيب له خاطر إلّا بحصوله، فلا يطمئنُّ خاطره، فإذا صُرِف كلٌّ منهما عن الآخَر، كان ذلك أكملَ؛ ولذلك قال: «واقدر لي الخير حيث كان ثمّ أرضني به»؛ لأنّه إذا قدَّر له الخير ولم يرضَ به، كان منكَّدَ العيش، آثمًا بعدم رضاه بما قدَّره اللّه له، مع كونه خيرًا له. قولُه: «ويسمِّي حاجته»؛ أي: في أثناء الدّعاء عند ذكرها بالكناية عنها في قوله: «إن كان هذا الأمر»"[9].

قال ابن القيم رحمه الله: "فتضمَّن هذا الدعاءُ الإقرار بوجوده سبحانه، والإقرارَ بصفات كماله، من كمال العِلم والقُدرة والإرادة، والإقرارَ بربوبيَّته، وتفويضَ الأمر إليه، والاستعانةَ به، والتوكُّلَ عليه، والخروجَ من عُهدة نفسه، والتبرِّي من الحَول والقوَّة إلَّا به، واعتراف العبد بعجزه عن علمه بمصلحة نفسه، وقُدرته عليها، وإرادته لها، وأن ذلك كلَّه بيد وليِّه وفاطره وإلهه الحقِّ"[10].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "أما الاستخارة فهي مع الله - عزَّ وجلَّ - يستخير الإنسان ربَّه إذا همَّ بأمر وهو لا يدري عاقبتَه، ولا يدري مستقبَلَه، فعليه بالاستخارة، والاستخارةُ معناها طلب خَيْرِ الأمرينِ، وقد أرشد النبيُّ ﷺ إلى ذلك بأن يصلِّيَ الإنسان ركعتين من غير الفريضة في غير وقت النهيِ، إلَّا في أمر يَخشى فَواتَه قبل خروج وقت النهيِ، فلا بأس أن يستخيرَ ولو في وقت النهيِ، أما ما كان فيه الأمر واسعًا، فلا يجوز أن يَستخير وقتَ النهيِ، فلا يستخير بعد صلاة العصر، وكذلك بعد الفجر حتى ترتفع الشمس مِقدارَ رُمح، وكذلك عند زوالها حتى تَزُول، لا يستخير إلا في أمر قد يفوت عليه، يصلِّي ركعتين من غير الفريضة ثم يسلِّم، وإذا سلَّم، قال: «اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك...» الدعاء، وينتهي، ثم بعد ذلك إن انشرح صدره بأحد الأمرين، بالإقدام أو الإحجام، فهذا المطلوبُ، يَأخُذ بما يَنشرِح به صدره، فإن لم ينشرح صدره لشيء، وبَقِي متردِّدًا، أعاد الاستخارة مرَّةً ثانية وثالثة، ثم بعد ذلك المشورة، إذا لم يتبيَّن له شيء بعد الاستخارة، فإنه يُشاور أهل الرأي والصلاح، ثم ما أُشير عليه به فهو الخيرُ إن شاء الله؛ لأن الله تعالى قد لا يجعل في قلبه بالاستخارة ميلاً إلى شيء معيَّن؛ حتى يستشير، فيجعل اللهُ تعالى مَيْلَ قلبِه بعد المشورة، وقد اختلف العلماء: هل المقدَّم المشورة أو الاستخارة؟ والصحيحُ أن المقدَّم الاستخارة، فقدِّم أوَّلاً الاستخارة؛ لقول النبيِّ ﷺ: «إذا همَّ أحدكم بالأمر، فليُصلِّ ركعتين...» إلى آخره، ثمَّ إذا كرَّرتَها ثلاثَ مرَّات، ولم يتبيَّن لك الأمر، فاستشِرْ، ثمَّ ما أُشير عليك به، فخُذْ به، وإنما قلنا: إنه يَستخير ثلاثَ مرَّات؛ لأن من عادة النبيِّ ﷺ أنه إذا دعا، دعا ثلاثًا، والاستخارة دعاءٌ، وقد لا يتبيَّن للإنسان خيرُ الأمرين من أوَّل مرَّةٍ؛ بل قد يتبيَّن في أوَّل مرَّة، أو في الثانية، أو في الثالثة، وإذا لم يتبيَّن، فليَستشِرْ"[11].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيّة صلاة الاستخارة، والدُّعاء عَقِيبها، ولا أعلم في ذلك خلافًا، وهل يُستحبُّ تَكرار الصّلاة والدُّعاء، قال العراقيُّ: الظّاهر الاستحبابُ. وقد ورد في حديث تَكرار الاستخارة سبعًا، رواه ابن السُّنِّيِّ من حديث أنس مرفوعًا بلفظ «إذا هممتَ بأمر، فاستخر ربَّك فيه سبع مرَّات، ثمّ انظر إلى الَّذي يسبق إلى قلبك فإنَّ الخير فيه. قال النّوويُّ في الأذكار: إسنادُه غريبٌ، فيه من لا أعرفهم. قال العراقيُّ: كلُّهم معروفون؛ ولكنَّ بعضهم معروفٌ بالضَّعف الشَّديد... فالحديث على هذا ساقط لا حجّة فيه. نعم، قد يُستدلُّ للتَّكرار بأنّ النّبيَّ ﷺ «كان إذا دعا، دعا ثلاثًا» للحديث الصّحيح، وهذا وإن كان المرادُ به تَكرارَ الدّعاء في الوقت الواحد، فالدُّعاءُ الَّذي تُسنُّ الصّلاة له، تُكرَّر الصّلاة له؛ كالاستسقاء. قال النّوويُّ: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما يَنشرِح له. فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوًى قبل الاستخارة؛ بل ينبغي للمستخير تركُ اختياره رأسًا، وإلَّا فلا يكون مستخيرًا للّه؛ بل يكون مستخيرًا لهواه، وقد يكون غيرَ صادق في طلب الخِيَرة وفي التّبرِّي من العِلم والقُدرة، وإثباتهما للّه تعالى، فإذا صَدَق في ذلك، تَبرَّأ من الحَول والقوَّة، ومن اختياره لنفسه"[12].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 183).
  2. "مجموع الفتاوى" (10/ 663).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 123).
  4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 159).
  5. رواه الترمذيُّ (3604) بلفظ: عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لِيَسْأَلْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ حَاجَتَهُ كُلَّهَا حَتَّى يَسْأَلَ شِسْعَ نَعْلِهِ إِذَا انْقَطَعَ». وضعَّفه الألبانيُّ في "الجامع الصغير وزيادته" (10413).
  6. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 88).
  7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (23/ 11، 12).
  8. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 88).
  9. نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89).
  10. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (2/ 405).
  11. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 161، 163).
  12. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 89، 90).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ»: فالإيمان له حلاوةٌ روحية نفسية قلبية، حيث انشراحُ الصدر، وطمأنينة القلب، والأُنس بالله تعالى. «مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا»: مدبِّرًا وخالقًا، ومعطيًا ومانعًا، ومُبْتليًا ومعافيًا، وآمرًا وناهيًا، ومشرِّعًا ومعبودًا بحقٍّ وحدَه سبحانه. «وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا»: مستسلمًا لله، رافعًا رايةَ الإسلام، مدافعًا عنه، مبلِّغًا رسالته. «وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا»: يرضى رضا المحبِّين المتَّبِعين، الممتثلين لطاعته، الباذلين النفسَ والنفيس في الدفاع عن سنَّته، المتشوِّقين للقائه.

الشرح المفصَّل للحديث

هذا الحديث من أصول الإسلام التي يَنبني عليها الإسلامُ، وتدورُ عليها أحكامُ التوحيد.

يُخبر النبيُّ أنه صحَّ إيمانُ العبد، واطمأنَّت به نفْسُه، وخامَر باطنَه، إذا رضيَ بالله ربًّا، وبمحمد نبيًّا، وبالإسلام دينًا؛ فهذا الرضا دليلُ ثبوت معرفته، ونفاذِ بصيرته بما رضيَ به من ذلك، ومخالطة بشاشته قلبَه[1].

وقد استخدم النبيُّ الذَّوْقَ والطَّعْمَ مع أمر قلبيٍّ، وإنْ كان الذوقُ والطعمُ إنما يدخُل مع المأكول والمشروب من باب المجاز؛ فاستُعمل بمعنى الإصابة

كقوله تعالى:

﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾  

[آل عمران: 106]

وقوله:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾

[النساء: 56]

وقوله تعالى:

﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾

[الدخان: 49]

وقوله تعالى:

﴿ فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾  

[الطلاق: 9]

مبالغةً في إيصال المعنى[2].

وطعمُ الإيمان الذي يَذوقه مَن هذه صفتُه استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رضا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله ، وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبَّة العبد ربَّه - سبحانه وتعالى - بفعل طاعته، وترك مخالفته، وما يلقاه من انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله، ومعرفة منَّة الله تعالى عليه في أن أنعم عليه بالإسلام، ونظَمَه في سِلك أمَّة محمد خيرِ الأنام، وحبَّب إليه الإيمانَ والمؤمنين، وبغَّض إليه الكفرَ والكافرين، وأنجاه من قبيح أفعالهم، وركاكة أحوالهم[3].

والرضا بالشيء: الاقتناعُ به، والاكتفاء عليه، وألَّا يطلبَ الإنسانُ معه غيرَه، فيكون الحديث عن توحيد الله - عزَّ وجلَّ - والسعيِ في طريق الإسلام وحدَه، وموافقةِ النبيِّ في أموره كلِّها[4].

والرضا على قسمين: رضًا عامٌّ، وهو التوحيد، فلا يتَّخِذ غيرَ الله ربًّا، ولا غيرَ الإسلام دينًا، ويُقِرُّ بنبوَّة محمدٍ  ورسالته. وهذا لا يخلو منه مسلم؛ إذ لا يُقبَل الإسلامُ إلا بها.

ورضًا خاصٌّ، وهو ما تكلَّم عليه أرباب القلوب؛ وقال الجُنَيد: الرضا رفع الاختيار[5].

فالرضا به ربًّا يتضمَّن توحيدَه وعبادتَه، والإنابةَ إليه، والتوكلَ عليه، وخوفَه ورجاءَه ومحبتَه، والصبرَ له وبه. والشكر على نعمه: يتضمَّن رؤيةَ كل ما منه نعمة وإحسانًا، وإن ساء عبده. 

وأيضًا: فالرضا به ربًّا يتضمَّن اتِّخاذَه معبودًا دونَ ما سواه، واتخاذَه وليًّا ومعبودًا، وإبطال عبادة كل ما سواه

وقد قال تعالى لرسوله:

﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾

 [الأنعام: 114]

وقال:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾

 [الأنعام: 14]

وقال:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾

[الأنعام: 164]

فهذا هو عين الرضا به ربًّا[6].

والرضا بالله تعالى نوعانِ؛ أحدهما: الرضا بفعل ما أَمَر به، وتَرْكِ ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تَعَدٍّ إلى المحظور

كما قال:

﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ﴾

[التوبة: 62].

وقال تعالى:

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾

  [التوبة: 59].

وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذمَّ مَن تركه بقوله:

﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾

  [التوبة: 58-59].

والنوع الثاني: الرضا بالمصائب؛ كالفقر والمرض والذُلِّ، فهذا الرضا مُستَحَبٌّ في أحد قولَيِ العلماء، وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجب، والصحيح: أن الواجب هو الصبر[7].

والرضا بمحمد رسولًا يتضمَّن شهادةَ أن محمدًا رسول الله، والرضا بما جاء به من عند الله، وقَبول ذلك بالتسليم والانشراح.

والرضا بالإسلام دينًا: يتضمن التزام عبوديته، وطاعته، وطاعة رسوله، واختيار الإسلام على سائر الأديان[8].

وهذا الرضا هو الذي عبَّر الله عنه في كتابه بقوله:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا 64 فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾  

[النساء: 64، 65]

وقوله تعالى:

﴿وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾

[التوبة: 54]

وقوله تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾  

[التوبة: 59]

فإن العِبْرةَ ليست في مجرَّد الفعل؛ بل في الرضا به، والانقياد له، وسلامة الصدر معه.

المراجع

  1. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 270).
  2. انظر: "شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن" (2/ 446).
  3. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 210)، "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 13).
  4. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 2).
  5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 210).
  6. انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 182).
  7. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 393).
  8. انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 182)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 118).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "حلاوة الإيمان: استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عرَضِ الدنيا»[1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وأقول: مجاز قوله: «ذاق طعم الإيمان» كمجاز قوله: «وجد حلاوة الإيمان»، وكذلك موقعه كموقعه على ما مرَّ؛ لأن من أحبَّ أحدًا يتحرَّى مراضيَه، ويُؤثِر رضاه على رضاء نفسه، ومقام الرضى عند أهل العرفان مقام جليل رفيع؛ روى الشيخ محيي الدين عن صاحب التحرير معنى (رضيت بالشيء): اقتنعتُ به واكتفيتُ به، ولم أطلب معه غيره؛ فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى، ولم يشرع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمدٍ ﷺ  ولا شكَّ في أن من كانت هذه صفتَه، فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمه" [2].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال صاحب التحرير رحمه الله: معنى (رضيت بالشيء): قَنَعْتُ به، واكتفَيْتُ به، ولم أَطلُب معه غيرَه؛ فمعنى الحديث: لم يَطلُب غيرَ الله تعالى، ولم يَسْعَ في غير طريق الإسلام، ولم يَسلُك إلا ما يوافق شريعة محمدٍ ﷺ ولا شكَّ في أن من كانت هذه صفتَه، فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه، وذاق طعمَه، وقال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث: صحَّ إيمانه، واطمأنَّت به نفسه، وخامَرَ باطنَه؛ لأن رضاه بالله ربًّا، وبمحمَّد نبيًّا، وبالإسلام دينًا، دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته بما رضي به من ذلك ومخالطة بشاشته قلبه؛ لأن من رضي أمرًا، سَهُل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبَه الإيمان، سَهُل عليه طاعات الله تعالى، ولذَّت له، والله أعلم"[3].

قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "الرضا بهذه الأمورِ الثلاثة على قسمَيْن: رِضًا عامٌّ، وهو ألّا يَتَّخِذَ غيرَ الله ربًّا، ولا غيرَ دين الإسلام دينًا، ولا غيرَ محمَّد ﷺ رسولًا، وهذا الرضا لا يخلو عنه مسلم؛ إذ لا يَصِحُّ التديُّنُ بدين الإسلام إلا بذلك الرضا.

والرضا الخاصُّ: هو الذي تكلَّم فيه أربابُ القلوب، وهو ينقسم على قسمَيْن: رضًا بهذه الأمور، ورضًا عن مُجْرِيها تعالى؛ كما قال أبو عبد الله بنُ خَفِيف: الرضا قسمان: رضًا به، ورضًا عنه؛ فالرضا به مدبِّرًا ، والرضا عنه فيما قضى، ، وقال أيضًا: هو سكونُ القلب إلى أحكامِ الرَّبّ، وموافقتُهُ على ما رَضِيَ واختار، وقال الجُنَيْد: الرضا رفعُ الاختيار، وقال الْمُحَاسِبِيُّ: هو سكونُ القلب تحتَ مجاري الأحكام، وقال أبو عليٍّ الرُّوذْبَارِيُّ: ليس الرضا ألَّا يُحِسَّ بالبلاء؛ إنما الرضا ألَّا يَعْتَرِضَ على الحكم. قال الشيخ - رحمه الله -: وما ذكره هؤلاءِ المشايخُ هو مبدأُ الرضا عندهم، وقد ينتهي الرضا إلى ما قاله النُّورِيُّ: هو سرورُ القلبِ بِمُرِّ القضاء. وَسُئِلَتْ رابعةُ عن الرضا، فقالتْ: إذا سرَّتْهُ المصيبةُ كما سرَّتْهُ النعمةُ" [4].

قال ابن القيم رحمه الله: "فالرضا به ربًّا يتضمَّن توحيدَه وعبادته، والإنابةَ إليه، والتوكُّل عليه، وخوفه ورجاءه ومحبَّته، والصبر له وبه. والشُّكر على نعمه: يتضمَّن رؤية كلِّ ما منه نعمة وإحسانًا، وإن ساء عبده... وأيضًا: فالرضا به ربًّا يتضمن اتِّخاذه معبودًا دون ما سواه، واتخاذه وليًّا ومعبودًا، وإبطال عبادة كلِّ ما سواه

وقد قال تعالى لرسوله:

﴿ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾  

[الأنعام: 114]

وقال:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾

 [الأنعام: 14]

وقال:

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ﴾

[الأنعام: 164]

فهذا هو عَيْنُ الرضا به ربًّا"[5].

قال ابن تيمية رحمه الله: "الرضا نوعان؛ أحدُهما: الرضا بفعل ما أَمَر به، وترك ما نهى عنه، ويتناول ما أباحه الله من غير تعدٍّ إلى المحظور

كما قال:

﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ  ﴾

[التوبة: 62]

وقال تعالى:

﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾

  [التوبة: 59].

وهذا الرضا واجب؛ ولهذا ذمَّ مَن تَرَكه بقوله:

﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ 58 وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾  

[التوبة: 58-59].

والنوع الثاني: الرضا بالمصائب؛ كالفقر والمرض والذُّلِّ، فهذا الرضا مستحَبٌّ في أحد قولَيِ العلماء، وليس بواجب، وقد قيل: إنه واجبٌ، والصحيح: أن الواجب هو الصبر[6].

قال أبو العون السفارينيُّ رحمه الله: "قِيل لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ رحمه الله: متى يَبلُغ العبد إلى مَقام الرضا؟ فقال: إذا أقام نَفْسَه على أربعة أصول في ما يعامل به رَبَّه، فيقول: إن أعطَيْتَني قَبِلْتُ، وإن مَنعْتَني رَضِيتُ، وإن تركتني عبدتُ، وإن دعوتَني أجبتُ. قال الإمام المحقِّق ابنُ القيِّم في كتابه شرح منازل السائرين: الرضا باللَّه أعلى من الرضا بما مَنَّ اللَّهُ، قال: وليس من شرط الرضا أَنْ لا يُحِسَّ بالْأَلَم، والْمَكاره؛ بل أن لا يعترض على الْحُكْم ولا يتسخَّطُه"[7].

المراجع

  1. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (2/ 13).
  2. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 446).
  3. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 2).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/128).
  5. انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 182).
  6. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 393).
  7. "لوامع الأنوار البهية" للسفارينيِّ (1/ 359).