اﻷحاديث
ذَا الجَدِّ: أي: الغَنيَّ ذا الغِنى، والجَدُّ: الغِنى والحظُّ.
قِيلَ وَقَالَ: أَي: فضول مَا يتحدَّث بِهِ المتجالِسون، من قَوْلهم: قيل كَذَا، وَقَالَ فلَان كَذَا[1].
إِضَاعَة المَالِ: إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعًا[2].
وَأْد البَنَاتِ: هو أن تُدفَن الْبِنْتُ حَيَّةً كما كانوا يفعلون في الجاهلية[3].
مَنْعٍ وَهَاتِ؛ أي: مَنَع ما عليه إعطاؤه، وطَلَب ما ليس له[4].
المراجع
- "الفائق في غريب الحديث والأثر" للزمخشريِّ (3/ 231).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 408).
- "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم" للحميديِّ (ص: 422).
- النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 365).
عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ، قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى المُغِيرَةِ رضي الله عنهما: اكْتُبْ إِلَيَّ مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: [إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ]؛ أي: كان يقول عَقِب التسليم من كلِّ صلاة. «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ»؛ أي: لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحدَه، ولا شريكَ له في أفعاله وصفاته وعبادته. «لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»؛ أي: لله تعالى الْمُلْكُ المطلَق كلُّه في الدنيا والآخرة، وله الحمد كلُّه وجميع أصناف المحامد في الأولى والآخرة، وهو سبحانه القادرُ على فعل كلِّ شيء، إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن، فيكون. «اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»؛ أي: لا يستطيع أحدٌ أن يمنع عطاءً أو رزقًا أو قضاءً لأحد من خلقك، ولا يُعطي أحدًا أردتَ مَنعَه. «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ»؛ أي: ولا ينفع صاحبَ الحظِّ حظُّه، ولا صاحبَ الغنى غِناه؛ إنما يَنفَعه العمل بطاعتك.
وَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّه: «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ»؛ أي: كان ينهى عن الخَوْضِ في أحاديثِ الناس وحكاياتهم التي لا فائدة منها، وعن كثرةِ السؤال عمَّا لم يقع ولا تدعو إليه حاجة، وما لا يَعنِيه من أحوال الناس، وعن إضاعة المال في صَرفه في غير مصارفه الشرعية، أو صرفه على المعاصي والشهوات. «وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ»؛ أي: وكانالشرح المفصَّل للحديث ينهى عن الإساءة إلى الأمَّهات، وعدم الإحسان إليهن، وإيذائهن؛ وذلك لعظم حقَّهن على الأبناء. «وَوَأْدِ البَنَاتِ»؛ أي: دفَنْهن أحياءً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهةً في إنجاب البنات. «وَمَنْعٍ وَهَاتِ»؛ أي: حرَّم عليكم منعَ ما عليكم إعطاؤه، وطَلَب ما ليس لكم أخذه.
الشرح المفصَّل للحديثأمر الله سبحانه وتعالى المسلمين بعبادته
قال تعالى:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}
[العنكبوت: 56]
وشَرَع لهم عددًا من العبادات يتقرَّبون بها إليه، من بينها الصلاةُ
قال تعالى:
{ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}
[البقرة: 43]
فهي عمادُ الدين ورُكْنُه، وأوَّل ما يُحاسَب عليه العبد يوم القيامة، علَّمهم النبيُّ ﷺ كيفية أدائها، والقيام بحقوقها؛
عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ مَالِكِ بْنِ الحُوَيْرِثِ، قَالَ:
أَتَيْنَا النَّبِيَّ ﷺ، وَنَحْنُ شَبَبَةٌ مُتَقَارِبُونَ، فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً، فَظَنَّ أَنَّا اشْتَقْنَا أَهْلَنَا، وَسَأَلَنَا عَمَّنْ تَرَكْنَا فِي أَهْلِنَا، فَأَخْبَرْنَاهُ، وَكَانَ رَفِيقًا رَحِيمًا، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ، فَعَلِّمُوهُمْ وَمُرُوهُمْ، وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ»
[1].
وفي الحديث الذي معنا، يُرسل معاويةُ بنُ أبي سفيانَ - رضي الله عنهما - إلى والِيه على الكوفة، المغيرةِ بنِ شُعبةَ أن أَرسِل إليَّ كتابًا بحديث سمعتَه من فمِ رسول الله ﷺ، فكتَب إليه المغيرةُ يعلِّمه بعضًا من الأذكار المسنونة التي تُقال بعد الصلوات الخمس، وفيه: أن رسول الله كان يقول عَقِب كلِّ صلاة: «لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ»؛ أي: لا معبودَ بحقٍّ إلا اللهُ وحدَه جلَّ في عُلاه، ولا شريكَ له في أفعاله وصفاته وعبادته، فـ"قوله: «لا شريك له»، تأكيدٌ لقوله: «وحدَه»؛ لأن المتَّصِف بالوحدانية لا شريكَ له"[2]. «لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»؛ أي: لله تعالى الْمُلْكُ المطلَق، وله جميع أصناف المحامد كلِّها في الأولى والآخرة، وحَمْدُ أهل السماء والأرض، فهو المستحِقُّ لها وحدَه، وهو سبحانه القادرُ على فعل كلِّ شيء، له القدرةُ الظاهرة والباطنة في السموات والأرض، «اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»؛ أي: لا يستطيع أحدٌ أن يمنع عطاءً أو رزقًا أو قضاءً لأحد من خلقك، ولا يُعطي أحدًا أردتَ مَنعَه، وذلك نظيرُ حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أن رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الاقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ»[3]، فكلُّ عطاء أو منعٍ إنما يكون بإذن الله وأمره، «وَلا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ»؛ أي: لا ينفع صاحبَ الحظِّ حظُّه، ولا صاحبَ الغنى غِناه، "والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غِناه
وهذا كقوله تعالى:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}
[سبأ:37]
وقوله:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}
[الشعراء:88][4]
فلا ينفع الإنسانَ إلا عملُه الصالح، وكتب المغيرةُ أيضًا إلى معاويةَ رضي الله عنهما أن النبيَّ ﷺ: «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ»؛ أي: كان ينهى عن الخَوْضِ في أحاديثِ الناس وحكاياتهم التي لا فائدة منها، وكثرةِ السؤال عمَّا لم يقع ولا تدعو إليه حاجة، وما لا يَعنِيه من أحوال الناس، وصَرف المال في غير مصارفه الشرعية، والاستعانة به على المعاصي والشهوات، «وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقُوقِ الأُمَّهَاتِ»؛ أي: وكان ينهى عن الإساءة إلى الأمَّهات، وعدم الإحسان إليهن، وإيذائهن؛ وذلك لعظم حقَّهن على الأبناء، و"قيل: خصَّ الأمَّهاتِ بالذكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، وليُنَبِّه على أن بِرَّ الأمِّ مقدَّم على بِرِّ الأب في التلطُّف والحُنوِّ، ونحوِ ذلك"[5]، «وَوَأْدِ البَنَاتِ»؛ أي: دفَنْهن أحياءً، وقد كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك كراهةً فيهن
قال تعالى:
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}
[النحل: 58]
«وَمَنْعٍ وَهَاتِ»؛ أي: منع ما أَمَر الله بإعطائه، وطَلَب ما لا يستحقُّ أخذه، "أي: حرَّم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وطَلَب ما ليس لكم أخذه، وقيل: نهيٌ عن منع الواجب من ماله، وأقواله، وأفعاله، وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها، ونهيٌ عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق، وتكليفه إيَّاهم بالقيام بما لا يجب عليهم، وهذا من أسمج الخلال"[6].
المراجع
- رواه البخاريُّ (6008)، ومسلم (674).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (6/ 133).
- رواه الترمذيُّ (2516)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه عبد الحقِّ في "الأحكام الوسطى" (4/ 285)، والألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1317).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (7/ 417).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (5/ 68).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3157).
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «لا شريك له»، تأكيدٌ لقوله: «وحدَه»؛ لأن المتَّصِف بالوحدانية لا شريكَ له"[1].
قال ابن رجب رحمه الله: "قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عن بعض أصحابه: علامة حبِّ اللّه كثرة ذِكره؛ فإنّك لن تحبَّ شيئًا إلّا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصليُّ: المحبُّ للّه لا يَغفُل عن ذكر اللّه طرفة عين. قال ذو النّون: من اشتغل قلبه ولسانه بالذّكر، قذف اللّه في قلبه نور الاشتياق إليه. قال إبراهيم بن الجُنيد: كان يقال: من علامة المحبِّ للّه دوام الذّكر بالقلب واللّسان، وقلَّما وَلِع المرء بذكر اللّه عزّ وجلّ إلّا أفاد منه حبَّ اللّه. وكان بعض السّلف يقول في مناجاته: إذا سئم البطّالون من بِطالتهم، فلن يسأم محبُّوك من مناجاتك وذكرك. قال أبو جعفر الْمُحوَّليُّ: وليُّ اللّه المحبُّ للّه لا يخلو قلبه من ذكر ربِّه، ولا يسأم من خدمته"[2].
قال ابن القيم رحمه الله: "الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي، والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنَّعماء والإحسان والأيادي، وأنه ثلاثة أنواع أيضًا: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة"[3].
قال مالكُ بنُ دِينَارٍ رحمه الله: "ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب"[4].
قال ابن بطال رحمه الله: "اختلف العلماء في إضاعة المال، فقال سعيدُ بنُ جبير: إضاعة المال أن يَرزُقَكَ الله رزقًا فتُنفِقه فيما حرَّم الله عليك. وكذلك قال مالك. قال المهلَّب: وقيل: إضاعة المال: السَّرف في إنفاقه وإن كان فيما يَحِلُّ"[5].
قال القاضي عياض رحمه الله: "قيل: هي مسألةُ الناس أموالَهم، وقيل: كثرة البحث عن أخبار الناس وما لا يعني، وقيل: يُحتمَل كثرة سؤال النبيِّ صلي الله عليه وسلم عما لم يَأذَن فيه
قال الله تعالى:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ }
[المائدة: 101]
وقيل: يُحتمَل النهيُ عن التنطُّع والسؤال عمَّا لم ينزل من المسائل، ويُحتمَل كثرة السؤال للناس عن أحوالهم حتى يدخل الحرج عليهم فيما يريدون سَتْرَه منها"[6].
قال ابن حجر رحمه الله: "حَمَله الأكثر على الإسراف في الإنفاق، وقيَّده بعضهم بالإنفاق في الحرام، والأقوى أنه ما أُنفق في غير وجهه المأذون فيه شرعًا، سواءٌ كانت دينيةً أو دنيوية، فمُنِع منه؛ لأنَّ الله تعالى جعل المال قيامًا لمصالح العباد، وفي تبذيرها تفويتٌ تلك المصالح، إما في حقِّ مضيِّعها، وإما في حقِّ غيره، ويُستثنى من ذلك كثرةُ إنفاقه في وجوه البرِّ؛ لتحصيل ثواب الآخرة، ما لَمْ يفوِّت حقًّا أُخرويًا أهمَّ منه"[7].
قال ابن بطال رحمه الله: "قوله: «ومنع وهات» يعنى: أن يَمنَع الناس خيرَه ورِفده، ويَأخُذَ منهم رِفدهم. وقال مالك في قوله: «قيل وقال»: وهو الإكثار من الكلام والإرجاف؛ نحو قول الناس: أَعطَى فلانٌ كذا ومَنَع كذا، والخوض فيما لا يَعني. وقال أبو عبيد في قوله: «قيل وقال»: كأنه قال من قول وقيل، يقال: قلتُ قولاُ وقيلاً وقالاً، وقرأ ابن مسعود: [ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَالَ الحَقِّ] يعنى: قَوْلَ الحقِّ. وأما «كثرة السؤال» فقال مالك: لا أدري أهو ما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؛ فقد كَرِه رسول الله المسائل وعابَها، أو هو مسألة الناس أموالهم"[8].
قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: "للإيمان أصولٌ وفروعٌ؛ فمن أصوله: الإقرارُ باللسان مع اعتقاد القلب بما نطق به اللسانُ من الشهادة بأنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به عن ربِّه حقٌّ من البعث بعد الموت، والإيمان بملائكة الله، وكتبه، ورسله، وكل ما أحكمه الله في كتابه، ونقلَتْه الكافَّةُ عن النبيِّ ﷺ من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، وسائر الفرائض. وبعد هذا فكلُّ عملٍ صالحٍ فهو من فروع الإيمان؛ فبرُّ الوالِدَين من الإيمان، وأداءُ الأمانة من الإيمان، وحُسنُ العهد من الإيمان، وحُسنُ الجِوار من الإيمان، وتوقيرُ الكبير من الإيمان، ورحمةُ الصغير، حتى إطعامُ الطعام وإفشاءُ السلام من الإيمان، فهذه الفروعُ مَن ترَك شيئًا منها لم يكُن ناقصَ الإيمان بتركها كما يكون ناقصَ الإيمان بارتكاب الكبائر، وترك عمل الفرائض"[9].
قال ابن رجب رحمه الله: "والمعنى: لا ينفع ذا الغنى منك غِناه
وهذا كقوله تعالى:
{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}
[سبأ:37]
وقوله:
{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}
[الشعراء:88][10].
قال ابن حجر رحمه الله: "قيل: خصَّ الأمَّهاتِ بالذكر؛ لأن العقوق إليهن أسرعُ من الآباء؛ لضعف النساء، وليُنَبِّه على أن بِرَّ الأمِّ مقدَّم على بِرِّ الأب في التلطُّف والحُنوِّ، ونحوِ ذلك"[11].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "أي: حرَّم عليكم منع ما عليكم إعطاؤه، وطَلَب ما ليس لكم أخذه، وقيل: نهيٌ عن منع الواجب من ماله، وأقواله، وأفعاله، وأخلاقه من الحقوق اللازمة فيها، ونهيٌ عن استدعاء ما لا يجب عليهم من الحقوق، وتكليفه إيَّاهم بالقيام بما لا يجب عليهم، وهذا من أسمج الخلال"[12].
المراجع
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (6/ 133).
- جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 516).
- مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 528، 529).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 201).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 408).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 531).
- "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 282).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (7/ 417).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (5/ 68).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3157).
يروي أبو مُوسَـى الأشعريُّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، أنه قَالَ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْـحَيِّ وَالْـمَيِّتِ»: شبَّه ﷺ حالة البيت الذي يُذكر الله فيه بالإنسان الحيِّ، الذي يتمتَّع بروحه، ويبتهج ويَسعَد، ويَضِجُّ بالحياة والحركة، والسعادة والبهجة، وشبَّه حالةَ البيت الذي لا يُذكَر الله تعالى فيه بحالة الميِّت، ساكنِ الحركة، لا رُوح فيه، ولا يَقترِب أحد منه؛ بل يستوحشون منه، ويَهرُبون من دخوله.
وقال ﷺ: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ، وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالـمَيِّتِ»، وكذلك شبَّه ﷺ الذي يذكر ربَّه بالحيِّ، والذي لا يذكر ربَّه بالميت لا رُوح فيه.
الشرح المفصَّل للحديث:من أساليب تعليم النبِّي ﷺ لأصحابه أن يَضرِب لهم الأمثال ليفهموا مُراده، وفي هذا الحديث يَضرِب النبيُّ ﷺ المثل ليقرِّب أهميته في الأذهان، ويرسِّخها في النفوس، فشبَّه حالة البيت الذي يُذكر الله فيه بالإنسان الحيِّ، الذي يتمتَّع بروحه، ويبتهج ويَسعَد، ويَضِجُّ بالحياة والحركة، والسعادة والبهجة، ويشبِّه حالة البيت الذي لا يُذكَر الله تعالى فيه بحالة الميِّت، ساكنِ الحركة، لا رُوح فيه، ولا يَقترِب أحد منه؛ بل يستوحشون منه، ويَهرُبون من دخوله، وإذا كان هذا حالَ البيت، فحالُ الإنسان الذي يَذكُر الله مثلُ حال البيت الذي يُذكَر فيه الله، وحالُ الإنسان الذي لا يَذكُر الله مثلُ حال البيت الميِّت.
فالذي يَذكُر الله تعالى قد أحيا الله قلبَه بذكره، وشَرَح له صدره، فكان كالحيِّ، وأما الذي لا يَذكُر الله فإنه لا يطمئنُّ قلبه، ولا يَنشرِح صدره للإسلام، فهو كمَثَل الميِّت، وهذا مَثَلٌ ينبغي للإنسان أن يَعتبِر به، وأن يَعلَم أنه كلَّما غَفَل عن ذِكر اللهِ - عزَّ وجلَّ - فإنه يقسو قلبه، وربما يموت قلبه، والعياذ بالله[1].
و"الذي يوصَف بالحياة والموت حقيقةً هو السَّاكنُ لا السَّكَنُ، وأن إطلاق الحَيِّ والمَيِّت في وصف البيت إِنَّما يُراد به ساكنُ البيت، فشَبَّه الذاكرَ بِالْحَيِّ الذي ظاهرُه مُتزيِّنٌ بنور الحياة، وباطنُه بنور المعرفة، وغيرَ الذاكر بالبيت الذي ظاهرُه عاطلٌ، وباطنُه باطلٌ، وقيل: مَوقعُ التشبيه بِالْحَيِّ والميِّت لِما في الْحَيِّ من النفع لمن يُواليه، والضُّرِّ لمن يُعاديه، وليس ذلك في المَيِّت"[2].
وقد "شبَّه الذاكرَ بالحيِّ الذي تزيَّن ظاهرُه بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرُّف التامِّ فيما يُريد، وباطنُه منوِّر بنور العلم والفَهم والإدراك، كذلك الذاكرُ مزيَّن ظاهرُه بنور العمل والطاعة، وباطنُه بنور العلم والمعرفة، فقلبُه مستقِرٌّ في حظيرة القُدس، وسِرُّه في مِخْدَع الوصل، وغير الذاكر عاطلٌ ظاهرُه، وباطلٌ باطنه"[3].
والذكرُ هو استحضار القلب لعظمة الله، وللخوف من اليوم الآخر، وجَرَيان اللسان بالثناء على الله تعالى بما ثبت شرعًا من أسمائه أو صفاته، أو بطَلَب غُفرانه وفضله. وله معنًى أشمل وأعمُّ؛ حيث يَشمَل كلَّ عمل صالح؛ من صلاة وزكاة وسُنن وطَلَب عِلم وذِكر أحوال، وذِكر مُطلَق وذكر مقيَّد.
وقد أمرنا الله تعالى به في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرً}
[الأحزاب: 41]
وقوله:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}
[البقرة: 152]
ومدح الذاكرين في قوله:
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
[الأحزاب: 35]
وأمر به نبيَّه ﷺ في قوله:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}
[الأعراف: ٢٠٥]
والمراد بالذكر: الإتيانُ بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها، والإكثارُ منها؛ مثل الباقيات الصالحات، وهي: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وما يَلتحِق بها من الْحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة، ويُطْلَق ذكر اللَّه أيضًا، ويراد به المواظبَةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومدارسة العلم، والتنفُّل بالصلاة، ثم الذكرُ يقع تارةً باللسان، ويؤجَر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترَط أن لا يقصد به غير معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب، فهو أكملُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأخلص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال[4].
والذِّكْرُ لَذَّةُ قلوب العارفين
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
[الرعد: 28]
فـ"ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب"[5].
ولرسول الله ﷺ أحاديثُ أخرى في فضل الذكر؛ منها قوله:
«ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مَليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم، ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذكرُ اللهِ»[6].
وفي الحديث القدسيِّ يقول الله تعالى:
«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي، إِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ، ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ، ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ هُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[7].
وأنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله، إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: «لا يَزَالُ لسانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»[8].
وهو عبادةٌ سهلةٌ لا تحتاج إلى تهيئة كحاجة الصلاة للتهيئة بالوضوء، ولا تحتاج إلى هيئة معيَّنة مثل حركات الصلاة، فالذكر يكون على كلِّ حال، قيامًا أو قعودًا أو على جَنْب
كما في قوله تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ 190 الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}
[آل عمران: 190، 191]
ورغم هذه السهولة، فإنها لا تتأتَّى إلا لمن كان قلبُه عامرًا بالإيمان.
وفوائدُ الذكر دنيويًّا وأخرويًّا كثيرة جدًّا، يجمعها أنه - على اختصاص كلِّ ذكرٍ بفضلٍ - يُشعِر بالصلة القويَّة بالله تعالى وبمعيَّته، ومقرِّبٌ من الله، ومريحٌ للنَّفْس، ونافعٌ للبدن، وجالبٌ لكلِّ خيرٍ، وحافظٌ من كلِّ شرٍّ، ورافعٌ للدرجات، وماحٍ للسيِّئات، وقد جمع الإمام ابن القيم $ في كتابه "الوابل الصيِّب" أكثرَ من سبعين فائدةً للذِّكر، مما ذكره فيها: يَطرُد الشيطان ويَقمَعه ويكسره - يُرضي الرحمن عزَّ وجلَّ - يُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب - يَجلِب للقلب الفرح والسرور والبسط - يقوِّي القلب والبدن - ينوِّر الوجه والقلب - يَجلِب الرزق - يكسو الذاكر المهابةَ والحلاوة والنَّضرة - ينال الذاكرُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ - يُورِث الذاكرَ المراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان. وغير ذلك الكثير من الفوائد التي ذكرها ابن القيم في كتابه.
وذكرُ الله متنوِّعٌ؛ فقد يكون مطلَقًا يجوز في كلِّ وقت؛ مثل قراءة القرآن، وهو أفضل الذكر، وفيه بكلِّ حرف حسنةٌ، والحسنة بعشْر أمثالها. ومثل التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار، والثناء على الله تعالى بأسمائه وصفاته.
وقد يكون بالذكر المقيَّد بأحوال خاصة؛ مثل ذِكر دخول المسجد، والخروج من المسجد، والذكر بعد الصلاة، وذكر دخول البيت، والخروج من البيت، وذكر النوم، وذكر الاستيقاظ من النوم، وذكر النَّظر في الْمِرآة، وذكر لُبس الثوب، وذكر بَدء الطعام، وذكر الفراغ من الطعام، وذكر شُرب الماء، وذكر رؤية الهلال، وذكر طُلوع الأماكن المرتفعة، وذكر النزول من الأماكن المرتفعة، وذكر دخول الخَلاء، وذكر الخروج من الخلاء، وغيرها من أذكار الأحوال.
وللذكر آداب منها: إخلاصُ النيَّة الذي هو شرطُ قَبول كلِّ عمل، والحرصُ على حضور القلب، ويُستحبُّ الوضوء ونظافة المكان، واستقبال القِبلة إن تهيَّأ، ويمكِن قطع الذكر لترديد الأذان، أو لإرشاد الضالِّ عن الطريق، أو لردِّ السلام، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكَر، ثم يعود إلى ذكره.
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 517).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1722).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
- رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
- رواه مسلم (2675).
- رواه أحمد (18167)، وابن ماجه (3793)، والترمذيُّ (3375)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1491).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "مَثَلُ الذي يَذكُر اللهَ، والذي لا يذكر الله كمَثَل الحيِّ والميِّت؛ وذلك لأن الذي يَذكُر الله تعالى قد أحيا الله قلبَه بذِكره، وشَرَح له صدرَه، فكان كالحيِّ، وأما الذي لا يذكُر الله، فإنه لا يطمئنُّ قلبُه - والْعِيَاذُ بالله - ولا يَنشِرح صدره للإسلام، فهو كمَثَل الميِّت، وهذا مَثَلٌ ينبغي للإنسان أن يَعتبِر به، وأن يعلم أنه كلَّما غَفَل عن ذِكر الله - - عزَّ وجلَّ - - فإنه يقسو قلبُه، وربما يموت قلبُه، والعياذ بالله!"[1].
قال ابن حجر رحمه الله: "الذي يوصَف بالحياة والموت حقيقةً هو السَّاكنُ لا السَّكَنُ، وأن إطلاق الحَيِّ والمَيِّت في وصف البيت إِنَّما يُراد به ساكنُ البيت، فشَبَّه الذاكرَ بِالْحَيِّ الذي ظاهرُه مُتزيِّنٌ بنور الحياة، وباطنُه بنور المعرفة، وغيرَ الذاكر بالبيت الذي ظاهرُه عاطلٌ، وباطنُه باطلٌ، وقيل: مَوقعُ التشبيه بِالْحَيِّ والميِّت لِما في الْحَيِّ من النفع لمن يُواليه، والضُّرِّ لمن يُعاديه، وليس ذلك في المَيِّت"[2].
قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «مَثَلُ الْبَيْتِ الَّذِي يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، وَالْبَيْتِ الَّذِي لَا يُذْكَرُ اللهُ فِيهِ، مَثَلُ الْـحَيِّ وَالْـمَيِّتِ». فيه النَّدب إلى ذكر اللّه تعالى في البيت، وأنّه لا يُخلَى من الذّكر، وفيه جواز التّمثيل، وفيه أنّ طول العمر في الطّاعة فضيلة، وإن كان الميّت ينتقل إلى خير؛ لأنّ الحيَّ يستلحق به ويَزيد عليه بما يفعله من الطّاعات"[3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "شبَّه الذاكرَ بالحيِّ الذي تزيَّن ظاهرُه بنور الحياة وإشراقها فيه، وبالتصرُّف التامِّ فيما يُريد، وباطنُه منوِّر بنور العلم والفَهم والإدراك، كذلك الذاكرُ مزيَّن ظاهرُه بنور العمل والطاعة، وباطنُه بنور العلم والمعرفة، فقلبُه مستقِرٌّ في حظيرة القُدس، وسِرُّه في مِخْدَع الوصل، وغير الذاكر عاطلٌ ظاهرُه، وباطلٌ باطنه"[4].
قال ابن القيم رحمه الله: "الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي، والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنَّعماء والإحسان والأيادي، وأنه ثلاثة أنواع أيضًا: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة"[5].
قال محمدُ بن عليٍّ الولويُّ رحمه الله: "المراد بالذِّكر: الإتيانُ بالألفاظ التي وَرَد الترغيبُ في قولها، والإكثارِ منها؛ مثل الباقيات الصالحات، وهي: "سبحانَ اللَّه، والحمدُ للَّه، ولا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ"، وما يَلتحِق بها من الحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة، ويُطْلَق ذكرُ اللَّهِ أيضًا، ويُراد به المواظبةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءةِ الحديث، ومُدارسة العلم، والتنفُّلِ بالصلاة، ثم الذِّكرُ يقع تارةً باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترط أن لا يَقصِد به غيرَ معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب فهو أَكمَلُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونَفْيِ النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأَخلَص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال"[6].
قال مالكُ بنُ دِينَارٍ رحمه الله: "ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب"[7].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 517).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 210، 211).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (6/ 68).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1722).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
شَرَائِع: جمع شريعة، وهي: مَوْرِدُ الناس للاستقاء، وسُمِّيَت بذلك لوضوحها وظهورها، وشَرَعَ الله لنا كذا، يَشْرَعُه: أَظهَره وأَوْضَحه[1].
أَتَشَبَّثُ بِه: أي: أتعلَّق به[2].
المراجع
- "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيوميِّ (1/ 310).
- "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 829).
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ)؛ أي: إن الفرائض والسُّنن التي شَرَعها الله تعالى قد كَثُرت عليَّ. «فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ»؛ أي: فأخبرني عن شيء من النوافل – بعد أن أُؤدِّي فرائضي – يسيرٍ، وأجرُه عظيم، ألتزم به.
قال ﷺ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»؛ أي: داوِمْ على ذكر الله - عزَّ وجلَّ - بالليل والنهار، وليكن لسانُكَ غضًّا طَرِيًّا بذكر الله تعالى؛ فالذكرُ عمل يسير، وفضلُه كبير، وجزاؤه عظيم من الله سبحانه وتعالى.
الشرح المفصَّل للحديث:إن ذِكْرَ الله عزَّ وجلَّ من أجلِّ القُربات، وأحبِّ العبادات إلى ربِّ البريَّات، فيه حياةُ القلب، وطُمأنينة النفس، وراحة البال، هو جنَّة المؤمنين، ونور الصادقين، وطريق السالكين، لم يَزَلِ الله يَأمُر به عباده تَزْكيةً لقلوبهم، وتثبيتًا لإيمانهم، ورِفعةً في درجاتهم.
وفي الحديث الصحيح: (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا): ولم يُعرَف اسم هذا الرجل، وفي رواية: "أن أعرابيًّا"، ويُفهَم منها أنه من أهل البادية، (قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ): وشرائع: جمع شريعة، و"الشريعة: ما شَرَع الله وأَظهَره لعباده من الفرائض والسُّنن"[1]، والظاهر أن المراد بها هنا النوافل؛ إذ لا يُتصوَّر أن يكون الكلام على الفرائض؛ أي: يا رسول الله، إن النوافل قد كَثُرَت عليَّ، حتى عَجَزْتُ عن القيام بها كلِّها، (فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ)؛ أي: فأَنبِئْني وأَعلِمْني بشيء جامعٍ يسير، يُدِرُّ عليَّ الخير الكبير، أتمسَّك به، ويكون عِوَضًا لي عن تقصيري؛ "ليَسهُل عليه أداؤها، أو ليحصل به فضل ما فات منها من غير الفرائض، ولم يُرِدِ الاكتفاءَ به عن الفرائض والواجبات"[2].
قال ﷺ: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»؛ أي: داوِمْ على ذكر الله عزَّ وجلَّ بالليل والنهار، ولا يزال لسانك غضًّا طَرِيًّا بذكره، فأرشده النبيُّ ﷺ إلى الذكر لسهولته، ومنافعه العظيمة، وثوابه الكبير.
وقد أمرنا الله تعالى بالإكثار من ذكره
فقال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
[الأحزاب:41]
وذِكْرُه سببٌ لغُفران الذنوب، والأجرِ الكبير
قال تعالى:
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}
[الأحزاب: 35]
كما أن ذِكْرَ الله عزَّ وجلَّ من أحبِّ الأعمال إليه، وأرفعها في الدرجات، وأفضلُ من صَدَقة الذهب والفضة؛ عن أبي الدرداء قال:
قال رسول الله ﷺ:
«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُم؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»[3].
وسببٌ من أسباب التيسير والتوفيق، والفلاح في الدنيا والآخرة
قال تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45]
وذِكْرُ الله عزَّ وجلَّ هو الغنيمة الباردة، التي تُدخِل صاحبها الجنَّة بلا تعب أو مشقَّة، يَقدِر كلُّ إنسان على الإتيان بها في أيِّ وقت، وعلى كلِّ حال
قال تعالى:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ}
[آل عمران: 191]
ولكن لا يوفَّق إليه إلَّا قلبٌ عامر بالإيمان، وذِكْرُ الله مِنحةٌ للفقراء الصالحين؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:
جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالُوا: ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلَا، وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا، وَيَعْتَمِرُونَ، وَيُجَاهِدُونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، قَالَ: «أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ، إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ؟ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ»، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا، فَقَالَ بَعْضُنَا: نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: تَقُولُ: «سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ»[4].
وذِكْرُ الله طمأنينة للقلب، وسكينة للنفس
قال تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
[الرعد: 28]
وهو فرق بين الحيِّ والميِّت، ففيه حياة القلب، وراحة البال؛ فعن أبي موسى الأشعريِّ، قال:
قال رسول الله ﷺ:
«مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لاَ يَذْكُرُ رَبَّهُ، مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ»[5]
وله لذَّةٌ لا يُدانيها لذَّةٌ؛ فما تلذَّذ المتلذِّذون بمثلِ ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مُؤْنةً منه، ولا أعظمَ لذَّةً، ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب.
والبُعْدُ عن ذكر الله عزَّ وجلَّ من أسباب قسوة القلب، وما أُذِيبت القلوب القاسية بمثل ذكر الله تعالى. قال رجل للحسن البصريِّ رحمه الله: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أَذِبْه بالذِّكْر. وقد حذَّرَنا الله تبارك وتعالى من ترك الذكر
قال تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ}
[الزمر: 22]
أي: فالعذابُ الشديد لمن جَفَت قلوبهم، وأَعرَضت عن ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وأفضلُ الذكر على الإطلاق قراءة القرآن الكريم؛ قال سفيان الثَّوريُّ رحمه الله: سمعنا أنَّ قراءة القرآن أفضلُ الذِّكر إذا عمل به
وقال تعالى:
{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}
[الفرقان: 33]
فخيرُ ما ينبغي للعبد أن يَذكُر به ربَّه، مُدَاومة النظر في كتابه، وتعاهده، وفَهم معانيه، ولا شيء أرغبُ في ذكر الله على الدوام من ذكر الله للعبد إذا ذكره
قال تعالى:
{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
[البقرة: 152]
وفي الحديث القدسيِّ: عن أبي هريرة، قال:
قال رسول الله ﷺ:
«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»[6]
فإن لم يكن لهؤلاء الذاكرين شرفٌ إلا أن الله يَذكُرهم، لكَفَاهم.
والذكر بمعناه العامِّ: " الإتيان بالألفاظ التي وَرَد الترغيب في قولها، والإكثار منها؛ مثل الباقيات الصالحات، وهي: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر"، وما يلتحق بها من الحَوْقَلة، والبَسْمَلة، والحَسْبَلة، والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة، ويُطْلَق ذِكْرُ اللَّه أيضًا، ويُراد به المواظبة على العمل بما أَوْجبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءة الحديث، ومُدارَسة العلم، والتنفُّل بالصلاة، ثم الذكرُ يقع تارةً باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يُشترط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترط أن لا يُقصَد به غير معناه، وإن انضاف إلى النطق الذكرُ بالقلب فهو أكملُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضار معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم اللَّه تعالى، ونفي النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح، من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأَخلَص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغ الكمال"[7].
وأفضلُ أوقات النهار للذكر: الفجرُ، والعصرُ؛ ولهذا أمرَنا ربُّ العزَّة عزَّ وجلَّ بالذكر فيهما في مواضعَ متعدِّدةٍ في كتابه
قال تعالى:
{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}
[آل عمران: 41]
وقال تعالى:
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}
[الأحزاب: 42]
وقال تعالى:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ}
[الروم: 17]
وأفضلُ ما فُعِل في هذين الوقتين من الذكر: صلاةُ الفجر وصلاة العصر.
وللذِّكْرِ درجاتٌ ثلاث: تارةً بالقلب واللسان، وتارةً بالقلب، وتارةً باللسان فقط، ولا شكَّ أن الذكر بالقلب واللسان أفضلُ الدرجات؛ ففيها انشغال اللسان بالذِّكر، وحضور القلب، ويليها الذكرُ بالقلب؛ فهي داعية إلى مراقبة الله عزَّ وجلَّ، ويليها الذِّكر باللسان؛ ففيها تعويد للإنسان على الذكر.
وقد شَرَع النبيُّ ﷺ لأمَّته من الأذكار ما يملأ وقتهم، ويحصِّنهم بها من سوء القضاء، ويَرفَع بها الدرجات، ويهيِّئُهم للعبادات، فلا تكاد تَجِدُ وقتًا من الأوقات، ولا حالاً من الأحوال، إلا وفيه ذكر مأثور عن النبيِّ ﷺ، ففي الصباح أذكار معلومة، وفي المساء أوراد مخصوصة، وعند الدخول إلى المنزل والخروج منه، وعند لبس الثياب، وعند النظر في المرآة، وعند صعود مكان مرتفع أو النزول منه، وغير ذلك من الأوقات والأحوال.
ومن أهمِّ ما ينبغي على الوالدينِ تحفيظُ أولادهم للأدعية والأذكار الواردة عن النبيِّ ﷺ، وتعويدُهم على استخدامها في حياتهم اليومية؛ فيعلِّمانِهم أذكار الصباح والمساء، والأدعية التي تقال عند الاستيقاظ من النوم، وعند الأكل والشُّرب، والسَّفَر، وعند دخول المسجد والخروج منه، وغيرها، والتدرُّج في ذلك حتى يحفظها الأبناء عن ظَهْرِ قَلب، ويُداوِمون عليها؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ، وحبًّا له، وتمسُّكًا بهَدْيِه.
وللذِّكْرِ فوائدُ عظيمةٌ، ومنافعُ كبيرة، ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه الماتع "الوابل الصيب" تَزيد على السبعين فائدةً[8]، هَاكَ بعضًا منها رجاءَ إصابتها، وحصول بركتها: يَطرُد الشيطان ويَقمَعه ويكسره - يُرضي الرحمن عزَّ وجلَّ - يُزيل الهمَّ والغمَّ عن القلب - يَجلِب للقلب الفرح والسرور والبسط - يقوِّي القلب والبدن - ينوِّر الوجه والقلب - يَجلِب الرزق - يكسو الذاكر المهابةَ والحلاوة والنَّضرة - ينال الذاكرُ محبَّة الله عزَّ وجلَّ - يُورِث الذاكرَ المراقبة حتى يُدخله في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان - قوت القلب والروح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته - يُزيل الوَحشة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى.
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1739).
- " كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه" لنور الدين السنديِّ (2/ 418).
- رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).
- رواه البخاريُّ (843)، ومسلم (595).
- رواه البخاريُّ (6407)، ومسلم (779).
- رواه مسلم (2675).
- " البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج " للولويِّ (16/ 159)
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 41).
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «إن شرائع الإسلام»: الشريعةُ مَورِد الإبل على الماء الجاري، وفي الشريعة ما شَرَع الله لعباده من الدين؛ أي: سنَّه لهم، وافترضَه عليهم، والتنكيرُ في «شيء» للتقليل المتضمِّن لمعنى التعظيم... معناه: أخبرني بعمل يسير مستجلِبٍ لثواب كثير، فأُلازِم عليه، وأعتصِم به، ولم يُرد بقوله: «كَثُرت عليَّ» أنه يَترُك ذلك رأسًا، ويشتغل بغيره فحسبُ؛ وإنما أراد أنه بعد أداء ما افتُرض عليه يتشبَّث بما يستغني به عن سائر ما لم يُفترَض عليه، وعدَّى «كَثُرت» بـ «على» تضمينًا لمعنى غَلَبَتِها إيَّاه وعَجْزِه عنها"[1].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "رطوبة اللسان عبارةٌ عن سهولة جَرَيانه، كما أن يَبَسه عبارةٌ عن ضدِّه، ثم إنَّ جريان اللِّسان حينئذٍ عبارةٌ عن مُداومة الذكر قبل ذلك، فكأنَّه قيل: دَاوِمْ الذِّكر"[2].
قال ابن رجب رحمه الله: "قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عن بعض أصحابه: علامة حبِّ اللّه كثرة ذِكره؛ فإنّك لن تحبَّ شيئًا إلّا أكثرت ذكره. وقال فتح الموصليُّ: المحبُّ للّه لا يَغفُل عن ذكر اللّه طرفة عين. قال ذو النّون: من اشتغل قلبه ولسانه بالذّكر، قذف اللّه في قلبه نور الاشتياق إليه. قال إبراهيم بن الجُنيد: كان يقال: من علامة المحبِّ للّه دوام الذّكر بالقلب واللّسان، وقلَّما وَلِع المرء بذكر اللّه عزّ وجلّ إلّا أفاد منه حبَّ اللّه. وكان بعض السّلف يقول في مناجاته: إذا سئم البطّالون من بِطالتهم، فلن يسأم محبُّوك من مناجاتك وذكرك. قال أبو جعفر الْمُحوَّليُّ: وليُّ اللّه المحبُّ للّه لا يخلو قلبه من ذكر ربِّه، ولا يسأم من خدمته"[3].
قال العباد: "هذا الحديث فيه حرصُ الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم على الخير، وسؤالهم عن أمور الدين، وعن الأمور الجامعة التي يحصِّلون فيها الأجور العظيمة، وهي أعمال خفيفة ويسيرة لا مشقَّة فيها؛ بل عَمَلها يسير، وفضلها كبير، وجزاؤها عظيم من الله سبحانه وتعالى، فهو يسأل ويقول: «إن شرائع الإسلام كثُرت عليَّ» والمقصود من ذلك: النوافل، وإلا فإن الفرائض يتعيَّن على كلِّ مسلم أن يأتيَ بها؛ ولكن السائل يسأل عن الشيء الذي يمكِنه أن يعتنيَ به، وأن يحرص عليه فيما يتعلَّق بالنوافل، فهو يطلب أن يدُلَّه على باب منها يتمسَّك به، يكون جامعًا للخير، ومحصِّلاً للأجر"[4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "مَثَلُ الذي يَذكُر اللهَ، والذي لا يذكر الله كمَثَل الحيِّ والميِّت؛ وذلك لأن الذي يَذكُر الله تعالى قد أحيا الله قلبَه بذِكره، وشَرَح له صدرَه، فكان كالحيِّ، وأما الذي لا يذكُر الله، فإنه لا يطمئنُّ قلبُه، ولا يَنشِرح صدره للإسلام، فهو كمَثَل الميِّت، وهذا مَثَلٌ ينبغي للإنسان أن يَعتبِر به، وأن يعلم أنه كلَّما غَفَل عن ذِكر الله - عزَّ وجلَّ - فإنه يقسو قلبُه، وربما يموت قلبُه، والعياذ بالله!"[5].
قال ابن القيم رحمه الله: "الذّكر ثلاثة أنواع: ذكر الأسماء والصّفات ومعانيها، والثّناء على اللّه بها، وتوحيد اللّه بها، وذكرُ الأمر والنّهي، والحلال والحرام، وذكرُ الآلاء والنَّعماء والإحسان والأيادي، وأنه ثلاثة أنواع أيضًا: ذكر يتواطأ عليه القلب واللّسان، وهو أعلاها، وذكر بالقلب وحده وهو في الدّرجة الثّانية، وذكر باللّسان المجرَّد، وهو في الدّرجة الثّالثة"[6].
قال محمدُ بن عليٍّ الولويُّ رحمه الله: "المراد بالذِّكر: الإتيانُ بالألفاظ التي وَرَد الترغيبُ في قولها، والإكثارِ منها؛ مثل الباقيات الصالحات، وهي: "سبحانَ اللَّه، والحمدُ للَّه، ولا إلهَ إلا اللَّهُ، واللَّهُ أكبرُ"، وما يَلتحِق بها من الحَوْقَلة والبَسْمَلة والحَسْبَلة والاستغفار، ونحوِ ذلك، والدعاء بخيرَيِ الدنيا والآخرة، ويُطْلَق ذكرُ اللَّهِ أيضًا، ويُراد به المواظبةُ على العمل بما أَوجَبه، أو نَدَب إليه؛ كتلاوة القرآن، وقراءةِ الحديث، ومُدارسة العلم، والتنفُّلِ بالصلاة، ثم الذِّكرُ يقع تارةً باللسان، ويؤجر عليه الناطق، ولا يُشترَط استحضاره لمعناه؛ ولكن يُشترط أن لا يَقصِد به غيرَ معناه، وإن انضاف إلى النُّطق الذكرُ بالقلب فهو أَكمَلُ، فإن انضاف إلى ذلك استحضارُ معنى الذكر، وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى، ونَفْيِ النقائص عنه، ازداد كمالًا، فإن وقع ذلك في عمل صالح من صلاة، أو جهاد، أو غيرهما، ازداد كمالًا، فإن صحَّح التوجُّهَ، وأَخلَص للَّه تعالى في ذلك، فهو أبلغُ الكمال"[7].
قال مالكُ بنُ دِينَارٍ رحمه الله: "ما تَلَذَّذَ المتلَذِّذون بِمِثْلِ ذكرِ الله - عزَّ وجلَّ - فليس شيءٌ من الأعمال أخفَّ مؤنةً منه، ولا أعظم لذَّةً ولا أكثرَ فرحةً وابتهاجًا للقلب"[8].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1739).
- "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 829).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 516).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (36/ 5).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 517).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 403).
- "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (16/ 159).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص 81).
الطَّهُورُ: بفتح الطاء هو اسمٌ للماء الذي يُتطَهَّر به[1]؛ كالوَضُوء لِما يُتوضَّأ به، أو الطَّهور: هو الطاهر الْمُطَهِّر. والطُّهُورُ: بضمِّ الطاء بمعنى التطهُّر؛ أي: التنظُّف والتنزُّه[2]
الحِلُّ: أي: الحَلالُ.
مَيْتَتُه: يُريد حيوانَ البَحر إذا مات فيه.
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 147).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 739).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ (أن رجلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟)؛ أي: إنَّنا نَركَبُ السُّفَنَ في البَحرِ، ونحمِلُ معنا القليلَ مِن الماءِ الذي يَكفي للشُّربِ فقط، فإنِ استخدَمْنا ماءَ الشُّربِ للوُضوءِ، نَفِدَ ولم نَجِدْ ما نَشرَبُه؛ فهل يَجوزُ لنا أنْ نَتوضَّأَ مِن ماءِ البحرِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»؛ أي: أجاب رسولُ الله ﷺ أن ماء البحر طاهر مُطهِّر، يَصِحُّ التوضُّؤ به والاغتسال، وزاد إفادةً أن مَيتة البحر حلال، فلا تحتاج حيواناته - التي لا تعيش إلا فيه - إلى ذَبْحٍ وتَذكِية.
الشرح المفصَّل للحديثإن الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -
قال تعالى:
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ﴾
[البقرة: 222]،
وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]؛ "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة.
والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته[2]"
وإنّ هذا الحديثَ لعظيمٌ، وهو أصلٌ من أصول الطّهارة، ومشتمِل على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّةٍ. قال الشّافعيُّ: "هذا الحديث نصف علم الطَّهارة"[3]
وفي الحديث يروي أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه -:
(أن رجلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟)؛
أي: إنَّ الرجل سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: إنا نَركَبُ السُّفَنَ في البَحرِ، ونحمِلُ معنا القليلَ مِن الماءِ الذي يَكفي للشُّربِ فقط، فإنِ استخدَمْنا ماءَ الشُّربِ للوُضوءِ، نَفِدَ ولم نَجِدْ ما نَشْرَبُه؛ فهل يَجوزُ لنا أنْ نَتوضَّأَ من ماءِ البحرِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»؛ أي: فأجاب رسولُ اللهِ ﷺ: «هو»؛ أي: البَحرُ، «الطَّهورُ ماؤُه»؛ أي: ماؤُه طاهِرٌ مُطهِّرٌ، يَصِحُّ التوضُّؤ والاغتسال به، ثم زاد إفادةً في الجواب بقوله: «الحِلُّ مَيتتُه»: «الحِلُّ» هو مصدر حَلَّ الشَّيءُ ضِدُّ حَرُم[4]؛ أي: حلالٌ أكْلُ ما يَخرُجُ منه؛ مِن أسماكٍ وحِيتانٍ وغيرِها، فكلُّ ما خرَج مِن البحرِ حلالٌ، وكذا كلُّ ما طَفا مِن مَيتاتِ الماءِ، فكلُّه مباحٌ؛ فقد
قال تعالى:
(أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ)
[المائدة: ٩٦]
فظاهرُ القُرآنِ والحَديثِ إباحةُ مَيتاتِ البحرِ كلِّها، والمرادُ منها كلُّ ما يَعيش في البحرِ؛ فكلُّ ذلك حلالٌ بأنواعِه، ولا حاجةَ إلى ذَبحِه، سواءٌ يُؤكَلُ مِثلُه في البَرِّ كالبقَرِ والغنَمِ، أوْ لا يُؤكَلُ كالكَلبِ، والكلُّ سَمَكٌ وإنِ اختَلَفتِ الصُّورُ.
و"الطَّهور اسم للماء الذي يُتطهَّر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهرًا في نفسه، مطهِّرًا لغيره؛ لأن عُدولهم عن صيغة (فاعل) إلى (فَعول) أو (فعيل)؛ لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابر وصَبور، وشاكر وشَكور، كذلك في طاهر وطَهور، والشَّيء إذا كان طاهرًا في نفسه، لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهرُ منه، حتى يَصِفه بطَهور لزيادة، وإذا نقلنا الطاهر إلى طَهور، لم يكن إلا لزيادة معنى، وذلك المعنى ليس إلَّا التطهير"[5]
"قوله: «هو الطَّهور» وهو عند الشَّافعيَّة: المطهِّر، وبه قال أحمدُ، وحكى بعضُ أصحاب أبي حنيفةَ عن مالكٍ، وبعضُ أصحاب أبي حنيفةَ أنَّ الطَّهور هو الطَّاهر، واحتجَّ الأوَّلون بأنَّ هذه اللَّفظة جاءت في لسان الشَّرع للمطهِّر؛
كقوله تعالى:
( مَآءٗ طَهُورٗا )
[الفرقان: 48]،
وأيضًا السَّائل إنّما سأل النّبيَّ ﷺ عن التَّطهُّر بماء البحر، لا عن طَهَارته، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُه ﷺ في بئر بُضاعةَ: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ»؛ لأنّهم إنّما سألوه عن الوضوءِ به"[6]
و"في الحديث فوائدُ؛ منها: أن التوضُّؤ بماء البحر يَجُوز مع تغيُّر طَعْمِه ولَونه، ومنها أن الطَّهور هو المطهِّر؛ لأنه ﷺ سُئل عن تطهير ماء البحر، لا عن طهارته، ولولا أنهم عَرَفوه من الطَّهور، لكان لا يزول إشكالهم بقوله: «هو الطَّهور ماؤه». وقيل: الطَّهورُ ما يتكرَّر منه التَّطْهِير؛ كالصَّبور والشَّكور، وهو قول مالك، جوَّز الوضوء بالماء المستعمَل. ومنها أن حُكم جميع حيوان البحر إذا ماتت سواءٌ في الحِلِّ؛
لقوله تعالى:
(أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ)
[المائدة: ٩٦]"[7]
"فأفاد ﷺ أنّ ماء البحر طاهر مطهِّر، لا يَخرُج عن الطُّهُوريَّة بحال، إلَّا إذا تغيَّر أحد أوصافه، ولم يُجِبْ ﷺ بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض؛ بل أجاب بهذا اللَّفظ ليُقرِنَ الحُكم بعِلَّته، وهي الطُّهوريَّة المتناهية في بابها، وكأنَّ السَّائل لَمَّا رأى ماء البحر خالَفَ المياه بمُلوحة طَعمه، ونَتن ريحه، توهَّم أنَّه غيرُ مراد من
قوله تعالى:
( فَٱغۡسِلُواْ )
[المائدة: 6]
أي: بالماء المعلوم، إرادته من
قوله:
( فَٱغۡسِلُواْ )ﱠ
[المائدة: 6]
أو أنَّه لَمَّا عرف من
قوله تعالى:
( وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا )
[الفرقان: 48]
ظنَّ اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده ﷺ الحُكم، وزاده حُكمًا لم يسأل عنه، وهو حِلُّ الْمَيتة[8]"
"فإن قيل: لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بنعم حين قالوا: (أفنتوضَّأ به؟)؟ قلنا: لأنّه يَصِير مقيَّدًا بحال الضَّرورة، وليس كذلك، وأيضًا فإنّه يُفهَم من الاقتصار على الجواب بنعم أنّه إنّما يُتوضَّأ به فقط، ولا يُتطهَّر به لبقيَّة الأحداث والأنجاس"[9]
و"في الحديث جواز الطّهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء إلّا ابنَ عبد البرِّ، وابنَ عمر، وسعيدَ بنَ المسيِّب[10]"
"وكان من ظاهر الجواب عن سؤاله أن يُقال: نعم، فأَطنَب وزاد في الجواب، وأَخرَج الجُملتين مُخرَج الحَصر، حيث عرَّف خَبَرَيْهما؛ يعني: ماء البحر لسَعته وغَزَارته حُكْمُه حُكم سائر المياه في طُهُوريَّته، وحِلِّ مَيْتَتِه، لا يتجاوز إلى النجاسة والحُرمة، فأَعلَمَ هذا الجواب بأن الزيادة على ما يَقتَضي الحالُ ذِكْرَه من شأن الهادي المرشِد، والحكيم العارف بالأدواء والدواء"[11]
"قوله: «الحلُّ مَيْتَته» فيه دليلٌ على حِلِّ جميع حيوانات البحر، حتّى كلبِه وخِنزيرِه وثُعبانه، وهو المصحَّح عند الشّافعيَّة، وفيه خلاف. ومن فوائد الحديث: مشروعيّةُ الزّيادة في الجواب على سؤال السّائل لقصر الفائدة، وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاريُّ لذلك بابًا فقال: باب من أجاب السّائل بأكثرَ ممَّا سأله. فكأنّه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبيّةً عن السّؤال؛ لأنّ حالة السَّفر تقتضي ذلك[12]"
"وفي حديث الباب دليلٌ على أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وعَلِم أنّ للسّائل حاجةً إلى ذِكر ما يتَّصِل بمسألته، استُحِبَّ تعليمه إيَّاه، ولم يكن ذلك تكلُّفًا لِما لا يَعنيه؛ لأنّه ذَكَر الطَّعَام وهم سألوه عن الماء؛ لِعلمه أنّهم قد يَعُوزهم الزّاد في البحر"[13]
فإنه ﷺ "لَمَّا عَرَف اشتباه الأمر على السَّائل في ماء البحر، أَشفَق أن يَشتبِه عليه حُكم مَيْتَته، وقد يُبتلى بها راكب البحر، فعقَّب الجوابَ عن سؤاله ببيان حُكم الْمَيتة... وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجاء في الجواب بأكثرَ ممَّا سُئل عنه؛ تَتْمِيمًا للفائدة، وإفادةً لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكَّد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحُكم كما هنا؛ لأنَّ من توقَّف في طُهوريَّة ماء البحر، فهو عن العِلم بحِلِّ مَيْتَته مع تقدُّم تحريم الْمَيتة أشدُّ توقُّفًا، ثمَّ المراد ما مات فيه من دوابِّه ممّا لا يَعيش إلّا فيه، لا ما مات فيه مُطلَقًا؛ فإنَّه وإن صَدَق عليه لُغةً أنَّه مَيْتةُ بحرٍ، فمعلومٌ أنّه لا يُراد إلَّا ما ذَكَرْناه، وظاهرُه حِلُّ كلِّ ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخِنْزير[14]"
المراجع
- رواه مسلم (223).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 19).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20، 21).
النقول
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الطَّهور اسم للماء الذي يُتطهَّر به، ولا يجوز إلا أن يكون طاهرًا في نفسه، مطهِّرًا لغيره؛ لأن عُدولهم عن صيغة (فاعل) إلى (فَعول) أو (فعيل)؛ لزيادة معنى؛ لأن اختلاف الأبنية لاختلاف المعاني، فكما لا يجوز التسوية بين صابر وصَبور، وشاكر وشَكور، كذلك في طاهر وطَهور، والشَّيء إذا كان طاهرًا في نفسه، لا يجوز أن يكون من جنسه ما هو أطهرُ منه، حتى يَصِفه بطَهور لزيادة، وإذا نقلنا الطاهر إلى طَهور، لم يكن إلا لزيادة معنى، وذلك المعنى ليس إلَّا التطهير. فإن قيل: بناء الطَّهور من (طَهُر يَطهُر طهارةً)، وهو لازم، فكيف يجوز تَعْدِيَتُه بتطهير غيره؟ قلنا: النظر في هذه اللفظة أدَّى إلى أن فيه معنى التطهير؛ لأنه لا يجوز إطلاقه على الماء الذي ليس بمطهِّر؛ لأن العرب لا تسمِّي الشيء الذي لا يقع به التطهير طَهورًا، فمن هذا الوجه يَجِبُ أن يُعلَم، لا من التَّعَدِّي واللُّزوم[1]"
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «هو الطَّهور» وهو عند الشَّافعيَّة: المطهِّر، وبه قال أحمدُ، وحكى بعضُ أصحاب أبي حنيفةَ عن مالكٍ، وبعضُ أصحاب أبي حنيفةَ أنَّ الطَّهور هو الطَّاهر، واحتجَّ الأوَّلون بأنَّ هذه اللَّفظة جاءت في لسان الشَّرع للمطهِّر؛
كقوله تعالى:
( مَآءٗ طَهُورٗا )
[الفرقان: 48]،
وأيضًا السَّائل إنّما سأل النّبيَّ ﷺ عن التَّطهُّر بماء البحر، لا عن طَهَارته، ويدلُّ على ذلك أيضًا قولُه ﷺ في بئر بُضاعةَ: «إنَّ الماءَ طَهُورٌ»؛ لأنّهم إنّما سألوه عن الوضوءِ به. قال في "الإمام شرح الإلمام": فإن قيل: لِمَ لَمْ يُجِبْهُمْ بنعم حين قالوا: (أفنتوضَّأ به؟)؟ قلنا: لأنّه يَصِير مقيَّدًا بحال الضَّرورة، وليس كذلك، وأيضًا فإنّه يُفهَم من الاقتصار على الجواب بنعم أنّه إنّما يُتوضَّأ به فقط، ولا يُتطهَّر به لبقيَّة الأحداث والأنجاس...
قال في "البدر المنير": في الحديث جواز الطّهارة بماء البحر، وبه قال جميع العلماء إلّا ابنَ عبد البرِّ، وابنَ عمر، وسعيدَ بنَ المسيِّب". وتعريف الطَّهور باللّام الجنسيَّة المفيدة للحصر لا ينفي طُهوريَّة غيره من المياه؛ لوقوع ذلك جوابًا لسؤال من شَكَّ في طُهوريَّة ماء البحر من غير قصد للحصر، وعلى تسليم أنَّه لا تخصيصَ بالسَّبب، ولا يُقصَر الخطاب العامُّ عليه، فمفهوم الحصر المفيد لنفي الطُّهوريَّة عن غير مَائه عمومٌ مخصَّص بالمنطوقات الصّحيحة الصَّريحة القاضية باتِّصاف غيره بها"[2]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال رسول اللّه ﷺ في البحر؛ أي: في حُكمه، والبحرُ الماء الكثير، أو المالح فقط، كما في القاموس، وهذا اللَّفظ ليس من مَقُوله ﷺ؛ بل مقولُه: «هو الطَّهور» بفتح الطَّاء، هو الْمَصدَر، واسمُ ما يُتطهَّر به، أو الطَّاهر المطهِّر كما في القاموس. وفي الشّرع: يُطلَق على المطهِّر، وبالضَّمِّ مصدرٌ، وقال سيبويهِ: إنّه بالفتح لهما، ولم يَذكُرْه في القاموس بالضَّمِّ. «ماؤه»: هو فاعل المصدر، وضميرُ (ماؤه) يقتضي أنّه أُريد بالضَّمير في قوله: «هو الطَّهور». البحر؛ يعني: مكانه؛ إذ لو أُريد به الماء لَمَا احتِيج إلى قوله: «ماؤه»؛ إذ يَصير في معنى طَهُور ماؤه في الماء. و«الحلُّ» هو مصدر حَلَّ الشَّيءُ ضِدُّ حَرُم، ولفظ الدَّارَقُطْنيِّ: الحَلال مَيْتَتُه، هو فاعلٌ أيضًا"[3]
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وكان من ظاهر الجواب عن سؤاله أن يُقال: نعم، فأَطنَب وزاد في الجواب، وأَخرَج الجُملتين مُخرَج الحَصر، حيث عرَّف خَبَرَيْهما؛ يعني: ماء البحر لسَعته وغَزَارته حُكْمُه حُكم سائر المياه في طُهُوريَّته، وحِلِّ مَيْتَتِه، لا يتجاوز إلى النجاسة والحُرمة، فأعلم هذا الجواب بأن الزيادة على ما يَقتَضي الحالُ ذِكْرَه من شأن الهادي المرشِد، والحكيم العارف بالأدواء والدواء[4]"
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «الحلُّ مَيْتَته» فيه دليلٌ على حِلِّ جميع حيوانات البحر، حتّى كلبِه وخِنزيرِه وثُعبانه، وهو المصحَّح عند الشّافعيَّة، وفيه خلاف. ومن فوائد الحديث: مشروعيّةُ الزّيادة في الجواب على سؤال السّائل لقصر الفائدة، وعدم لزوم الاقتصار، وقد عقد البخاريُّ لذلك بابًا فقال: باب من أجاب السّائل بأكثرَ ممَّا سأله. فكأنّه سأله عن حالة الاختيار، فأجابه عنها، وزاد حالة الاضطرار، وليست أجنبيّةً عن السّؤال؛ لأنّ حالة السَّفر تقتضي ذلك. قال الخطّابيُّ: وفي حديث الباب دليلٌ على أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وعَلِم أنّ للسّائل حاجةً إلى ذِكر ما يتَّصِل بمسألته، استُحِبَّ تعليمه إيَّاه، ولم يكن ذلك تكلُّفًا لِما لا يَعنيه؛ لأنّه ذَكَر الطَّعَام وهم سألوه عن الماء؛ لِعلمه أنّهم قد يَعُوزهم الزّاد في البحر. انتهى"[5]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "فأفاد ﷺ أنّ ماء البحر طاهر مطهِّر، لا يَخرُج عن الطُّهُوريَّة بحال، إلَّا ما سيأتي من تخصيصه بما إذا تغيَّر أحد أوصافه، ولم يُجِبْ ﷺ بقوله: نعم، مع إفادتها الغرض؛ بل أجاب بهذا اللَّفظ ليُقرِنَ الحُكم بعِلَّته، وهي الطُّهوريَّة المتناهية في بابها، وكأنَّ السَّائل لَمَّا رأى ماء البحر، خالَفَ المياه بمُلوحة طَعمه، ونَتن ريحه، توهَّم أنَّه غيرُ مراد من
قوله تعالى:
ﱠ( فَٱغۡسِلُواْ )ﱠ
[المائدة: 6]؛
أي: بالماء المعلوم، إرادته من
قوله:
( فَٱغۡسِلُواْ)
[المائدة: 6]،
أو أنَّه لَمَّا عرف من
قوله تعالى:
( وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ طَهُورٗا )
[الفرقان: 48]،
ظنَّ اختصاصه، فسأل عنه، فأفاده ﷺ الحُكم، وزاده حُكمًا لم يسأل عنه، وهو حِلُّ الْمَيتة. قال الرَّافعيُّ: لَمَّا عرف اشتباه الأمر على السَّائل في ماء البحر، أَشفَق أن يَشتبِه عليه حُكم مَيْتَته، وقد يُبتلى بها راكب البحر، فعقَّب الجوابَ عن سؤاله ببيان حُكم الْمَيتة. قال ابنُ العربيِّ: وذلك من محاسن الفتوى؛ أن يُجاء في الجواب بأكثرَ ممَّا سُئل عنه؛ تَتْمِيمًا للفائدة، وإفادةً لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكَّد ذلك عند ظهور الحاجة إلى الحُكم كما هنا؛ لأنَّ من توقَّف في طُهوريَّة ماء البحر، فهو عن العِلم بحِلِّ مَيْتَته مع تقدُّم تحريم الْمَيتة أشدُّ توقُّفًا، ثمَّ المراد ما مات فيه من دوابِّه ممّا لا يَعيش إلّا فيه، لا ما مات فيه مُطلَقًا؛ فإنَّه وإن صَدَق عليه لُغةً أنَّه مَيْتةُ بحرٍ، فمعلومٌ أنّه لا يُراد إلَّا ما ذَكَرْناه، وظاهرُه حِلُّ كلِّ ما مات فيه، ولو كان كالكلب والخِنْزير[6]"
قال الطِّيبيُّ :رحمه الله "في الحديث فوائدُ؛ منها: أن التوضُّؤ بماء البحر يَجُوز مع تغيُّر طَعْمِه ولَونه، ومنها أن الطَّهور هو المطهِّر؛ لأنه ﷺ سُئل عن تطهير ماء البحر، لا عن طهارته، ولولا أنهم عَرَفوه من الطَّهور، لكان لا يزول إشكالهم بقوله: «هو الطَّهور ماؤه». وقيل: الطَّهورُ ما يتكرَّر منه التَّطْهِير؛ كالصَّبور والشَّكور، وهو قول مالك، جوَّز الوضوء بالماء المستعمَل. ومنها أن حُكم جميع حيوان البحر إذا ماتت سواءٌ في الحِلِّ؛
لقوله تعالى:
(أُحِلَّ لَكُمۡ صَيۡدُ ٱلۡبَحۡرِ)
[المائدة: ٩٦]"[7]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "وأمّا ما وقع في كلام كثير من الأصوليّين أنّ الجواب يجب أن يكون مطابقًا للسّؤال، فليس المرادُ بالمطابقة عَدَمَ الزّيادة؛ بل المراد أنّ الجواب يكون مفيدًا للحُكم المسؤول عنه. وللحديث فوائدُ غير ما تَقدَّم، قال ابن الملقِّن: إنّه حديث عظيم، أصلٌ من أصول الطّهارة، مشتمِل على أحكامٍ كثيرة، وقواعدَ مهمَّةٍ. قال الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قال الشّافعيُّ: هذا الحديث نصف علم الطَّهارة. وفيه من الفوائد: أن المفتيَ ينبغي له أن يَزيد المستفتيَ الحُكم الذي يحتاج إليه؛ فإن هذا السائل سأل عن حُكم ماء البحر، والذي يسأل عن ماء البحر، يحتاج إلى معرفة حُكم الميتة، فزاده النبيُّ ﷺ بيان حُكم أكل الميتة في البحر، فقال: «هو الطَّهور ماؤه، الحِلُّ مَيْتته»[8]"
قال ابن القيم رحمه الله: "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة، والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[9]
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 29، 30).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 19).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 30، 31).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 20، 21).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 830).
- "نيل الأوطار" للشوكانيّ (1/ 31).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
إنّ الله سبحانه وتعالى هو الأوَّل الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعدَه شيء، والظاهر الذي ليس فوقَه شيء، والباطِن الذي ليس دونه شيء، المتَّصِف بصفات الجلال والكمال، وقد أخبرنا النّبيُّ ﷺ عن بداية الخلق ونهايته؛ لأننا لا نستطيع علم ذلك إلا عن طريق الخبر الصحيح في الكتاب والسنَّة؛ حتّى نستشعر عظمة الله تعالى وقُدرته سبحانه.
وفي هذا الحديث يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ)؛ أي: أنه دخل على النّبيّ ﷺ ذاتَ مرَّة في المسجد النّبويِّ، وقبل دخوله عَقَل ناقته بالباب؛ أي: رَبَطها بحبل يُسمَّى العِقال، (فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ)؛ أي: في ذلك اليوم جاء إلى النّبيِّ ﷺ ناس من قبيلة بني تميم، فتلقَّاهم النّبيُّ ﷺ بالبِشْرِ والبشارة بما يشرح الصُّدور.
فَقَالَ ﷺ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»؛ أي: اقبلوا منّي ما يقتضي أن تُبشَّروا إذا أخذتم به بالجنَّة؛ كالفقه في الدّين، والعمل به.
"قوله: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» في رواية أبي عاصم: «أبشروا يا بني تميم»، والمراد بهذه البشارة أنّ من أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه، وقال الكرمانيُّ: بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما"[1].
(قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ)؛ أي: أعطنا من المال؛ فقد مالوا إلى طلب الدنيا، فكان جُلُّ اهتمامهم بالدّنيا، لم يفهموا من البُشرى إلَّا العطاء المادِّيَّ فقط، "وهو دالٌّ على إسلامهم، وإنّما راموا العاجل، وسببُ غَضَبه ﷺ استشعارُه بقلَّة عِلمهم؛ لكونهم علَّقوا آمالهم بعاجل الدّنيا الفانية، وقدَّموا ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل لهم ثواب الآخرة الباقية. قال الكرمانيُّ: دلَّ قولهم: (بشّرتنا) على أنّهم قَبِلوا في الجُملة؛ لكن طلبوا مع ذلك شيئًا من الدُّنيا، وإنّما نفى عنهم القَبول المطلوب، لا مُطلَق القبول، وغَضِب حيث لم يهتمُّوا بالسّؤال عن حقائق كلمة التّوحيد والمبدأ والْمَعاد، ولم يَعتنُوا بضبطها، ولم يسألوا عن موجباتها والموصِّلات إليها. قال الطِّيبيُّ: لَمَّا لم يكن جُلُّ اهتمامهم إلّا بشأن الدّنيا، قالوا: (بشّرتنا فأعطنا)، فمن ثمّ قال: «إذ لم يقبلها بنو تميم»"[2].
(ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ)؛ أي: ثمّ دخل عليه ناس من أهل اليمن، وهم الأشعريُّون، وهم قبيلة من اليمن، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، (قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ) منك هذه البشرى. (قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟)؛ أي: فإنما جئناك نسألك عن هذا الوجود، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالَم، فشَرَعَ النّبيُّ ﷺ يحدِّث عن بَدء الخلق، والعرش، وهو الظّاهر، ويُحتمَل أن يكونوا سألوا عن أوَّل جنس المخلوقات، فعلى الأوَّل يقتضي السّياق أنّه أخبر أنَّ أوَّل شيء خُلِق منه السّماواتُ والأرض، وعلى الثّاني يقتضي أنّ العرش والماء تقدَّم خَلْقُهما قبل ذلك.
قَالَ ﷺ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ»؛ أي: فأخبر أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء ولا العرش ولا غيرهما.
"قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره»، وفي رواية: «ولم يكن شيء قبله»، وفي رواية غير البخاريِّ: «ولم يكن شيء معه»، والقصّة متَّحِدة، فاقتضى ذلك أنَّ الرّواية وقعت بالمعنى، ولعلَّ راويَها أَخَذَها من قوله ﷺ في دعائه في صلاة اللّيل من حديث ابن عبّاس: «أنت الأوَّل فليس قبلك شيء»؛ لكنَّ رواية الباب أصرحُ في العَدَم، وفيه دلالة على أنّه لم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى"[3].
قوله ﷺ: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله - وهو أعلى المخلوقات وأكبرها وأعظمها، وصفه الله تعالى في كتابه بأنّه عظيم، وبأنّه كريم، وبأنه مجيد.
"وأمَّا العرش، فالأخبار تدلُّ على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنّه ليس نِسبتُه إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض؛
قال اللّه تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ
[غافر: ٧]
،
وقال سبحانه:
وَالْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
[الحاقة: ١٧]
فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين...
قال تعالى:
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
[الزمر: ٧٥]
فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ
[غافر: ٧]
وأيضًا فقد أخبر أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ
كماقال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ
[هود: ٧]
وقد ثبت في صحيح البخاريّ وغيره عن عمران بن حصين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، وفي رواية له: «كان اللّه ولم يكن شيء قبلَه، وكان عرشه على الماء، ثمّ خلق السّموات والأرض، وكتب في الذّكر كلَّ شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان اللّه ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثمّ كتب في الذّكر كلّ شيء» وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى متمدِّح بأنّه ذو العرش؛
كقوله سبحانه:
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
[غافر: ١٥] [4].
وقال النَّبِيُّ ﷺ: «إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ، وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الفَيْضُ - أَوِ القَبْضُ - يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ»[5].
هذا، وإن الله تعالى مستوٍ على عرشه، وعرشُه فوق سماواته، وهو بائنٌ من خلقه جلَّ وعلا، فهو العليُّ الأعلى، فوق جميع مخلوقاته سبحانه وتعالى، وهذا ما دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنَّة، وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدَهم من أهل القرون المفضَّلة. و"إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء"[6].
قوله ﷺ: «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»؛ أي: وأنّه كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[7]. والمراد تحديد وقت الكتابة في اللوح المحفوظ أو غيره، لا أصل التقدير؛ فإن ذلك أزليٌّ لا أوَّلَ له، «وعرشه على الماء»؛ أي: قبل خلق السموات والأرض.
ومما ورد في بَدْءِ الخلق: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»[8].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ، يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا قَالَ:
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينﱠ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ
[الأعراف: ١٧٢ – ١٧٣][9].
"يُخبِر تعالى أنّه استخرج ذرِّيَّة بني آدَمَ من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أنّ اللّه ربُّهم ومَلِيكهم، وأنّه لا إله إلّا هو، كما أنّه تعالى فَطَرهم على ذلك وجَبَلهم عليه"[10].
و"في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء؛ أحدهما: أن معنى أخذه ذريَّة بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قَرْن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين
كما قال تعالى:
كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
[الأنعام: ١٣٣]
وقال:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ
[الأنعام: ١٦٥]
ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله:
وَأَشۡهَدَهُمۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ
أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نُصِب لهم من الأدلَّة القاطعة بأنه ربُّهم المستحقُّ منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه؛ فمعنى (قالوا بلى)؛ أي: قالوا ذلك بلسان حالهم لظهور الأدلَّة عليه. الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦﱠ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكِّرةً بذلك الميثاق الذي نَسِيَه الكلُّ، ولم يولَد أحدٌ منهم وهو ذاكرٌ له، وإخبار الرسل به يَحصُل به اليقين بوجوده، وهذا الوجه الأخير يدلُّ له الكتاب والسنَّة"[11].
قوله ﷺ: «وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»؛ أي: ثم خلق السموات والأرض.
"قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش. قوله: «وكان عرشُه على الماء، وكتب في الذّكر كلَّ شيء، وخلق السّماوات والأرض»، ولم يقع بلفظ (ثمّ) إلَّا في ذِكر خلق السّماوات والأرض، وقد روى مسلم من حديث عبد اللّه بنِ عمَرْوٍ مرفوعًا: «إنَّ اللّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّماواتِ والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماء»[12]، وهذا الحديث يؤيِّد رواية من روى «ثمّ خلق السّماوات والأرض» باللّفظ الدّالِّ على التّرتيب"[13].
فـ"أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم، وقد روى أحمدُ والتِّرمذيُّ، وصحَّحه من حديث أبي رزين العقيليِّ مرفوعًا: «أنّ الماء خُلِق قبل العرش»، وروى السُّدِّيُّ في تفسيره بأسانيدَ متعدِّدةٍ: «أنّ اللّه لم يَخلُق شيئًا ممّا خلق قبل الماء»، وأمّا ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، فيُجمَع بينه وبين ما قبلَه بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خلق، وأمّا حديث: «أوّل ما خلق اللّه العقل»، فليس له طريقٌ ثَبْت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التّقدير الأخير هو تأويله، واللّه أعلم. وحكى أبو العلاء الهمدانيُّ أنّ للعلماء قولين في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ قال: والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ"[14].
قال عمران: (فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ)؛ أي: شَرَدت، (فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ)؛ أي: فانطلقتُ وراءها فإذا هي يَحُول بيني وبين رؤيتها السراب، وهو ما يُرى نِصْفَ النهار في الفلاة كأنه ماءٌ، دون أن يكون هناك شيء. (فَوَاللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا)؛ أي: ولم أقم من مجلس رسول الله ﷺ إذ فاتني سماع ما تحدَّث به عن بَدْءِ الخلق والعرش.
"قوله: (فواللّه لوددتُ أنّي كنت تركتها) في التّوحيد: (أنّها ذهبت ولم أقم)؛ يعني: لأنّه قام قبل أن يُكمل النّبيُّ ﷺ حديثه في ظنِّه، فتأسَّف على ما فاته من ذلك. وفيه ما كان عليه من الحرص على تحصيل العلم"[15].
"وفي الحديث جوازُ السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده. وفيه أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك؛ بل مع القدرة"[16].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
- "فتح الباري" لابن حجر (13/ 409).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
- رواه البخاريُّ (7419)، ومسلم (993).
- "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
- رواه مسلم (2653).
- رواه البخاريُّ (3194)، ومسلم (2751).
- رواه أحمد (2455)، والنسائيُّ (11127)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (1701).
- "تفسير ابن كثير" (3/ 500).
- "أضواء البيان" للشنقيطيِّ (2/ 42-43).
- رواه مسلم (2653).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَعَقَلْتُ نَاقَتِي بِالْبَابِ)؛ أي: ربطتها بحبل في باب المسجد. (فَأَتَاهُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ»)؛ أي: اقبلوا البشارة، وأراد بها ما يُجازى به المسلمون، وما تصير إليه عاقبتهم من الفوز بالجنة. (قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَأَعْطِنَا، مَرَّتَيْنِ)؛ أي: أعطنا من المال؛ فقد مالوا إلى طلب الدنيا. (ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، فَقَالَ: «اقْبَلُوا البُشْرَى يَا أَهْلَ اليَمَنِ، إِذْ لَمْ يَقْبَلْهَا بَنُو تَمِيمٍ»، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ): قبلوا بشارة النبيِّ ﷺ بالجنة. (قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟)؛ أي: نسألك عن هذا الوجود، وكأنهم سألوا عن أحوال هذا العالَم.
قَالَ ﷺ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ»؛ أخبر ﷺ أنّه كان الله سبحانه وتعالى في الأزل متفرِّدًا وحدَه، ولم يكن شيء غيره، لا الماء ولا العرش ولا غيرهما. «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ»؛ أي: عرش الرّحمن الذي استوى عليه - جلَّ جلاله – وصفه الله تعالى في كتابه بأنه عظيم وكريم ومجيد. «وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ»؛ أي: وأنّه تعالى كتب في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة. «وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»؛ أي: ثم خلق السموات والأرض.
(فَنَادَى مُنَادٍ: ذَهَبَتْ نَاقَتُكَ يَا بْنَ الحُصَيْنِ، فَانْطَلَقْتُ، فَإِذَا هِيَ يَقْطَعُ دُونَهَا السَّرَابُ)؛ أي: فانطلقتُ وراءها، فإذا هي يَحُول بيني وبين رؤيتها السراب، وهو ما يُرى نِصْفَ النهار كأنه ماءٌ، دون أن يكون هناك شيء. (فَوَاللَّهِ، لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ تَرَكْتُهَا)؛ أي: ولم أقم من مجلس رسول الله ﷺ إذ فاتني سماع ما تحدَّث به عن بَدْءِ الخلق والعرش.
النقولقال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (جاء نفر من بني تميم)؛ يعني: وفدَهم، قوله: «أبشروا» بهمزة قطع، من البشارة، قوله: فقالوا بشَّرتنا. القائل ذلك منهم الأقرعُ بنُ حابسٍ، ذَكَره ابن الجوزيِّ. قوله: فتغيَّر وجهه؛ إمّا للأسف عليهم كيف آثروا الدّنيا؟! وإمّا لكونه لم يحضره ما يُعطيهم فيتألَّفهم به، أو لكلٍّ منهما. قوله: فجاءه أهل اليمن. هم الأشعريُّون، قوم أبي موسى، وقد أورد البخاريُّ حديث عِمرانَ هذا وفيه ما يُستأنَس به لذلك، ثمّ ظهر لي أنّ المراد بأهل اليمن هنا نافعُ بنُ زيدٍ الحِمْيَريُّ مع من وفد معه من أهل حِمْيَرَ، وقد ذكرت مستنَد ذلك في باب قدوم الأشعريِّين وأهل اليمن، وأنّ هذا هو السِّرُّ في عطف أهل اليمن على الأشعريِّين، مع أنّ الأشعريِّين من جُملة أهل اليمن لَمّا كان زمان قدوم الطّائفتين مختلفًا، ولكلٍّ منهما قصَّة غير قصَّة الآخرين، وقع العطف. قوله: «اقبلوا البُشرى»؛ أي: اقبلوا منّي ما يقتضي أن تُبشَّروا إذا أخذتم به بالجنَّة؛ كالفقه في الدّين، والعمل به. قوله: «إذ لم يقبلها» في الرّواية الأخرى: «أن لم يقبلها» وهو بفتح (أن)؛ أي: من أجل تركهم لها، ويُروى بكسر (إن). قوله: فأخذ النّبيُّ ﷺ يحدِّث بدء الخلق والعرش؛ أي: عن بَدء الخلق، وعن حال العرش، وكأنّه ضمَّن (يحدِّث) معنى (يذكر)، وكأنّهم سألوا عن أحوال هذا العالم، وهو الظّاهر، ويُحتمَل أن يكونوا سألوا عن أوَّل جنس المخلوقات، فعلى الأوَّل يقتضي السّياق أنّه أخبر أنَّ أوَّل شيء خُلِق منه السّماواتُ والأرض، وعلى الثّاني يقتضي أنّ العرش والماء تقدَّم خَلْقُهما قبل ذلك، ووَقَع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ: نسألك عن أوّل هذا الأمر. قوله: قالوا: (جئنا نسألك) كذا للكشميهنيِّ، ولغيره: (جئناك لنسألك)، وزاد في التّوحيد: ونتفقَّه في الدِّين، وكذا هي في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الّتي أشرتُ إليها آنِفًا. قوله: (عن هذا الأمر)؛ أي: الحاضر الموجود، والأمر يطلَق ويُراد به المأمور، ويُراد به الشَّأن والحُكم والحثُّ على الفعل غير ذلك"[1].
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «اقبلوا البشرى يا بني تميم» في رواية أبي عاصم: «أبشروا يا بني تميم»، والمراد بهذه البشارة أنّ من أسلم نجا من الخلود في النّار، ثمّ بعد ذلك يترتَّب جزاؤه على وَفْقِ عملِه، إلا أن يعفوَ اللّه، وقال الكرمانيُّ: بشَّرهم رسول اللّه ﷺ بما يقتضي دخول الجنَّة، حيث عرَّفهم أصول العقائد الّتي هي المبدأ والْمَعاد وما بينهما، كذا قال، وإنّما وقع التَّعريف هنا لأهل اليمن، وذلك ظاهر من سياق الحديث، ونقل ابن التّين عن الدّاوديِّ قال في قول بني تميم: (جئناك لنتفقَّه في الدّين): دليلٌ على أنّ إجماع الصّحابة لا ينعقد بأهل المدينة وحدها، وتعقَّبه بأنّ الصّواب أنّه قول أهل اليمن، لا بني تميم، وهو كما قال ابن التّين؛ لكن وقع عند ابن حبَّانَ من طريق أبي عبيدة بنِ معنٍ عن الأعمش بهذا السَّند ما نصُّه: (دَخَل عليه نفر من بني تميم، فقالوا: يا رسول اللّه، جئناك لنتفقَّه في الدّين، ونسألك عن أوّل هذا الأمر)، ولم يذكر أهلَ اليمن، وهو خطأ من هذا الرّاوي؛ كأنّه اختصر الحديث فوقع في هذا الوهم. قوله: (قالوا: بشَّرتنا فأعطنا) زاد في رواية حفص مرَّتين، وزاد في رواية الثّوريِّ عن جامع في المغازي: (فقالوا: أما إذا بشَّرتنا فأعطنا)، وفيها: (فتغيَّر وجهه)، وفي رواية أبي عوانة عن الأعمش عند أبي نعيم في المستخرج: (فكأنّ النّبيَّ ﷺ كره ذلك)، وفي أخرى في المغازي من طريق سفيان أيضًا: (فرُؤِي ذلك في وجهه)، وفيها: (فقالوا: يا رسول اللّه، بشَّرتنا)، وهو دالٌّ على إسلامهم، وإنّما راموا العاجل، وسببُ غَضَبه ﷺ استشعارُه بقلَّة عِلمهم؛ لكونهم علَّقوا آمالهم بعاجل الدّنيا الفانية، وقدَّموا ذلك على التّفقُّه في الدّين الّذي يحصِّل لهم ثواب الآخرة الباقية. قال الكرمانيُّ: دلَّ قولهم: (بشّرتنا) على أنّهم قَبِلوا في الجملة؛ لكن طلبوا مع ذلك شيئًا من الدُّنيا، وإنّما نفى عنهم القَبول المطلوب، لا مُطلَق القبول، وغَضِب حيث لم يهتمُّوا بالسّؤال عن حقائق كلمة التّوحيد والمبدأ والْمَعاد، ولم يَعتنُوا بضبطها، ولم يسألوا عن موجباتها والموصِّلات إليها. قال الطِّيبيُّ: لَمَّا لم يكن جُلُّ اهتمامهم إلّا بشأن الدّنيا، قالوا: (بشّرتنا فأعطنا)، فمن ثمّ قال: «إذ لم يقبلها بنو تميم». قوله: (فدخل ناس من أهل اليمن)، في رواية حفص: (ثمّ دخل عليه)، وفي رواية أبي عاصم: (فجاءه ناس من أهل اليمن)، قوله: (قالوا: قبلنا)، زاد أبو عاصم وأبو نعيم: (يا رسول الله)، وكذا عند ابن حبّان من رواية شيبان بن عبد الرّحمن عن جامع. قوله: (جئناك لنتفقّه في الدّين، ولنسألك عن أوّل هذا الأمر) ما كان هذه الرّواية أتمّ الرّوايات الواقعة عند المصنِّف، وحذف ذلك كلّه في بعضها أو بعضه، ووقع في رواية أبي معاوية عن الأعمش عند الإسماعيليِّ: (قالوا: قد بشَّرتنا فأخبرنا عن أوّل هذا الأمر كيف كان)، ولم أعرف اسم قائل ذلك من أهل اليمن. قال الطِّيبيُّ: قولُه: «ولم يكن شيء قبله» حال، وفي المذهب الكوفيِّ: خبر، والمعنى يساعده؛ إذ التّقدير: كان اللّه منفرِدًا، وقد جوَّز الأخفش دخول الواو في خبر كان وأخواتها؛ نحوُ (كان زيد وأبوه قائم) على جعل الجملة خبرًا مع الواو؛ تشبيهًا للخبر بالحال، ومال التّوربشتيُّ إلى أنّهما جملتان مستقلَّتان. وقال الطِّيبيُّ: لفظة (كان) في الموضعين بحسب حال مدخولها، فالمراد بالأوّل الأزليَّة والقِدَم، وبالثّاني الحدوث بعد العَدَم، ثمّ قال: فالحاصل أنّ عطف قوله: (وكان عرشه على الماء)، على قوله: (كان اللّه) من باب الإخبار عن حصول الجُملتين في الوجود، وتفويض التّرتيب إلى الذِّهن. قالوا: وفيه بمنزلة (ثمّ)، وقال الكرمانيُّ: قوله: «وكان عرشه على الماء» معطوف على قوله: «كان اللّه»، ولا يلزم منه المعيَّة؛ إذ اللّازم من الواو العاطفة الاجتماع في أصل الثُّبوت، وإن كان هناك تقديم وتأخير. قال غيره: ومن ثمَّ جاء قوله: «ولم يكن شيء غيره» لنفي توهُّم المعيَّة. قال الرّاغب: (كان) عبارة عمَّا مضى من الزّمان؛ لكنّها في كثير من وصف اللّه تعالى تُنبئ عن معنى الأزليَّة
كقوله تعالى:
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا .
قال: وما استُعمِل منه في وصف شيء متعلِّقًا بوصف له هو موجود فيه فللتَّنبيه على أنّ ذلك الوصف لازم له، أو قليل الانفكاك عنه
كقوله تعالى:
وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًاﱠ
[الإسراء: ٢٧]
وقوله:
وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا ﱠ
[الإسراء: ٦٧]
وإذا استُعمِل في الزَّمن الماضي، جاز أن يكون الْمُستعمَل على حاله، وجاز أن يكون قد تغيَّر؛ نحوُ: كان فلان كذا ثمَّ صار كذا. واستُدلَّ به على أنّ العالم حادث؛ لأنّ قوله: «ولم يكن شيء غيره» ظاهر في ذلك؛ فإنّ كلَّ شيء سوى اللّه وُجِد بعد أن لم يكن موجودًا. قوله: (أدرك ناقتك فقد ذهبت)، في رواية أبي معاوية: (انحلَّت ناقتك من عقالها) وزاد في آخر الحديث: (فلا أدري ما كان بعد ذلك)؛ أي: ممّا قاله رسول اللّه ﷺ تكملةً لذلك الحديث. قوله: (لوددت أنّها قد ذهبت ولم أَقُم) الودُّ المذكور تسلَّط على مجموع ذَهابها وعدم قيامه، لا على أحدهما فقط؛ لأنّ ذهابها كان قد تحقَّق بانفلاتها، والمراد بالذَّهاب الفقد الكلِّيُّ"[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وأمَّا العرش، فالأخبار تدلُّ على مباينته لغيره من المخلوقات، وأنّه ليس نِسبتُه إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض
قال اللّه تعالى:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﱠ
[غافر: ٧]
وقال سبحانه:
الْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَائِهَا ۚ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
[الحاقة: ١٧]
فأخبر أنّ للعرش حَمَلةً اليومَ، ويومَ القيامة، وأنّ حَمَلته ومن حوله يسبِّحون ويستغفرون للمؤمنين. ومعلوم أنّ قيام فَلَك من الأفلاك بقُدرة اللّه تعالى؛ كقيام سائر الأفلاك، لا فرق في ذلك بين كُرَةٍ وكرة، وإن قدِّر أنَّ لبعضها ملائكةً في نفس الأمر تَحمِلها، فحُكْمُه حكم نظيره
قال تعالى:
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ
[الزمر: ٧٥]
فذكر هنا أنّ الملائكة تَحُفُّ من حول العرش، وذكر في موضِعٍ آخَرَ أنّ له حَمَلةً، وجَمَع في موضع ثالث بين حَمَلته ومَن حولَه فقال:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُﱠ
[غافر: ٧]
وأيضًا فقد أخبر أنّ عرشه كان على الماء قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ
كما قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِﱠ
[هود: ٧].
وقد ثبت في صحيح البخاريّ وغيره عن عمران بن حصين عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ»، وفي رواية له: «كان اللّه ولم يكن شيء قبلَه، وكان عرشه على الماء، ثمّ خلق السّموات والأرض، وكتب في الذّكر كلَّ شيء»، وفي رواية لغيره صحيحة: «كان اللّه ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء، ثمّ كتب في الذّكر كلّ شيء» وثبت في صحيح مسلم عن عبد اللّه بن عمرو عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «إنّ اللَّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّمواتِ والأرضَ بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»، وهذا التّقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى متمدِّح بأنّه ذو العرش
كقوله سبحانه:
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
[غافر: ١٥] [3].
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «كان اللّه ولم يكن شيء غيره»، في الرّواية الآتية في التّوحيد: «ولم يكن شيء قبله»، وفي رواية غير البخاريِّ: «ولم يكن شيء معه»، والقصّة متَّحِدة، فاقتضى ذلك أنَّ الرّواية وقعت بالمعنى، ولعلَّ راويَها أَخَذَها من قوله ﷺ في دعائه في صلاة اللّيل من حديث ابن عبّاس: «أنت الأوَّل فليس قبلك شيء»؛ لكنَّ رواية الباب أصرحُ في العَدَم، وفيه دلالة على أنّه لم يكن شيء غيره، لا الماء، ولا العرش، ولا غيرهما؛ لأنّ كلَّ ذلك غير الله تعالى، ويكون قولُه: «وكان عرشه على الماء»؛ معناه: أنّه خَلَق الماءَ سابقًا، ثمَّ خلق العرش على الماء، وقد وقع في قصَّة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ بلفظ: «كان عرشه على الماء، ثمّ خَلَق القَلَم فقال: اكتُبْ ما هو كائن، ثمّ خلق السّماواتِ والأرضَ وما فيهنّ»، فصرَّح بترتيب المخلوقات بعد الماء والعرش. قوله: «وكان عرشُه على الماء، وكتب في الذّكر كلَّ شيء، وخلق السّماوات والأرض»، ولم يقع بلفظ (ثمّ) إلَّا في ذِكر خلق السّماوات والأرض، وقد روى مسلم من حديث عبد اللّه بنِ عمَرْوٍ مرفوعًا: «أنّ اللّه قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يَخلُق السّماواتِ والأرض بخمسين ألفَ سنةٍ، وكان عرشُه على الماء»[4]، وهذا الحديث يؤيِّد رواية من روى «ثمّ خلق السّماوات والأرض» باللّفظ الدّالِّ على التّرتيب"[5].
قال ابن كثير رحمه الله: "يُخبِر تعالى أنّه استخرج ذرِّيَّة بني آدَمَ من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أنّ اللّه ربُّهم ومَلِيكهم، وأنّه لا إله إلّا هو، كما أنّه تعالى فَطَرهم على ذلك وجَبَلهم عليه"[6].
قال ابن حجر رحمه الله: "وقع في بعض الكتب في هذا الحديث: «كان اللّه ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»، وهي زيادة ليست في شيء من كتب الحديث، نبَّه على ذلك العلَّامة تقيُّ الدّين بنُ تيمية، وهو مسلَّم في قوله: «وهو الآن...» إلى آخره، وأمّا لفظ: «ولا شيء معه»، فرواية الباب بلفظ: «ولا شيء غيره» بمعناها، ووقع في ترجمة نافعِ بنِ زيدٍ الحِمْيَريِّ المذكور: «كان اللّه لا شيء غيره» بغير واو. قوله: «وكان عرشه على الماء»، قال الطِّيبيُّ: هو فصل مستقِلٌّ؛ لأنّ القديم من لم يَسبِقه شيء، ولم يعارضه في الأوَّليَّة؛ لكن أشار بقوله: «وكان عرشه على الماء» إلى أنّ الماء والعرش كانا مبدأَ هذا العالم؛ لكونهما خُلِقا قبل خلق السّماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلّا الماء، ومحصِّل الحديث أنّ مُطلَق قوله: «وكان عرشه على الماء» مقيَّد بقوله: «ولم يكن شيء غيره»، والمراد بـ(كان) في الأوَّل الأَزَليَّة، وفي الثّاني: الحدوث بعد العَدَم، وقد روى أحمدُ والتِّرمذيُّ، وصحَّحه من حديث أبي رزين العقيليِّ مرفوعًا: «أنّ الماء خُلِق قبل العرش»، وروى السُّدِّيُّ في تفسيره بأسانيدَ متعدِّدةٍ: «أنّ اللّه لم يَخلُق شيئًا ممّا خلق قبل الماء»، وأمّا ما رواه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه من حديث عبادةَ بنِ الصّامت مرفوعًا: «أوّل ما خلق اللّه القلم، ثمّ قال: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة»، فيُجمَع بينه وبين ما قبلَه بأنّ أوَّليَّة القَلَم بالنّسبة إلى ما عدا الماءَ والعرش أو بالنّسبة إلى ما منه صَدَر من الكتابة؛ أي: أنّه قيل له: اكتب أوّل ما خلق، وأمّا حديث: «أوّل ما خلق اللّه العقل»، فليس له طريقٌ ثَبْت، وعلى تقدير ثبوته، فهذا التّقدير الأخير هو تأويله، واللّه أعلم. وحكى أبو العلاء الهمدانيُّ أنّ للعلماء قولين في أيِّهما خُلِق أوَّلًا: العرش أو القلم؟ قال: والأكثر على سَبْق خلق العرش، واختار ابن جرير ومن تَبِعه الثّانيَ"[7].
قال ابن باز رحمه الله: "إن أهل السنَّة والجماعة من أصحاب الرسول ﷺ والتابعين لهم بإحسان مجمِعون على أن الله في السماء، وأنه فوق العرش، وأن الأيديَ تُرفَع إليه سبحانه كما دلَّت على ذلك الآيات والأحاديث الصحيحة، كما أجمعوا أنه سبحانه غنيٌّ عن العرش وعن غيره، وأن جميع المخلوقات كلها فقيرة إليه، كما أجمعوا أنه سبحانه في جهة العُلْوِ فوق العرش، وفوق جميع المخلوقات، وليس في داخل السموات - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا - بل هو سبحانه وتعالى فوق جميع المخلوقات، وقد استوى على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ولا يشابه خلقه في ذلك، ولا في شيء من صفاته، كما قال الإمام مالك رحمه الله لَمَّا سُئل عن الاستواء، قال: (الاستواء معلوم، والكَيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء"[8].
قال الشنقيطيُّ رحمه الله: "في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء؛ أحدهما: أن معنى أخذه ذريَّة بني آدم من ظهورهم: هو إيجاد قَرْن منهم بعد قرن، وإنشاء قوم بعد آخرين؛
كما قال تعالى:
كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ
[الأنعام: ١٣٣]
وقال:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ
[الأنعام: ١٦٥]
ونحو ذلك من الآيات، وعلى هذا القول فمعنى قوله:
أَلَسۡتُ بِرَبِّكُمۡۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ
أن إشهادهم على أنفسهم إنما هو بما نُصِب لهم من الأدلَّة القاطعة بأنه ربُّهم المستحقُّ منهم لأن يعبدوه وحده، وعليه؛ فمعنى (قالوا بلى)؛ أي: قالوا ذلك بلسان حالهم لظهور الأدلَّة عليه. الوجه الآخر في معنى الآية: أن الله أخرج جميع ذرية آدم من ظهور الآباء في صورة الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم بلسان المقال: ﱡ ﱢ ﱣﱤ ﱥ ﱦﱠ، ثم أرسل بعد ذلك الرسل مذكِّرةً بذلك الميثاق الذي نَسِيَه الكلُّ، ولم يولَد أحدٌ منهم وهو ذاكرٌ له، وإخبار الرسل به يَحصُل به اليقين بوجوده، وهذا الوجه الأخير يدلُّ له الكتاب والسنَّة"[9].
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث جواز السّؤال عن مبدأ الأشياء، والبحث عن ذلك، وجواز جواب العالم بما يَستحضِره من ذلك، وعليه الكفُّ إن خَشِيَ على السّائل ما يَدخُل على معتقَده. وفيه أنّ جنس الزّمان ونوعَه حادثٌ، وأنّ اللّه أوجد هذه المخلوقاتِ بعد أن لم تكن، لا عن عجز عن ذلك؛ بل مع القدرة، واستنبط بعضهم من سؤال الأشعريِّين عن هذه القصّة أنّ الكلام في أصول الدّين، وحدوث العلم، مستمِرَّان في ذُرِّيَّتهم، حتّى ظهر ذلك منهم في أبي الحسن الأشعريِّ، أشار إلى ذلك ابن عساكر. قوله: (فنادى منادٍ) في الرّواية الأخرى: (فجاء رجل، فقال يا عمرانُ) ولم أقف على اسمه في شيء من الرّوايات. قوله: (ذهبت ناقتك يا بن الحصين)؛ أي: انفلتت، ووقع في الرّواية الأولى: (فجاء رجل، فقال: يا عمرانُ، راحلتَكَ)؛ أي: أدرك راحلتَكَ، فهو بالنَّصب، أو ذهبت راحلتُك، فهو بالرّفع، ويؤيِّده الرّواية الأخرى، ولم أقف على اسم هذا الرّجل. وقوله: (تفلَّتت)؛ أي: شَرَدت. قوله: (فإذا هي يَقطَع - بفتح أوّله - دونَها السَّرابُ – بالضّمِّ)؛ أي: يَحُول بيني وبين رؤيتها، والسَّراب بالمهمَلة معروف، وهو ما يُرى نهارًا في الفَلاة كأنّه ماءٌ. قوله: (فواللّه لوددتُ أنّي كنت تركتها) في التّوحيد: (أنّها ذهبت ولم أقم)؛ يعني: لأنّه قام قبل أن يُكمل النّبيُّ ﷺ حديثه في ظنِّه فتأسَّف على ما فاته من ذلك. وفيه ما كان عليه من الحرص على تحصيل العلم"[10].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 288، 289).
- "فتح الباري" لابن حجر(13/ 409، 410).
- "مجموع الفتاوى" (6/ 550، 551).
- رواه مسلم (2653).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "تفسير ابن كثير" (3/ 500).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 289).
- "مجموع فتاوى ومقالات متنوعة للشيخ ابن باز" (2/105).
- "أضواء البيان" للشنقيطيِّ (2/ 42-43).
- "فتح الباري" لابن حجر (6/ 290).
(الوَضُوء) بفتح الواو: اسم للماء، و(الوُضوء) بضمِّ الواو: اسم لفعل التوضُّؤ[1]
المراجع
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 80).
المعني الاجمالي للحديث
(يروي حُمْرَانُ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ دَعَا بِوَضُوءٍ)؛ أي: طلب إناءً فيه ماءٌ لكي يتوضَّأ به، (فَتَوَضَّأ،َ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) والكف: راحة اليد مع الأصابع (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ)؛ أي: أدار الماء في فَمِه ثم أخرجه، (وَاسْتَنْثَرَ)؛ أي: أخرج من أنفه الماء الذي استنشقه، (ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ) المرفق: هو مِفصَل العَضُد من الذراع، ويدخل في الغَسْل (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى المرفق ثلاث مرات، (ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ)؛ أي: أمَرَّ يده على رأسه مبلولة بالماء، (ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والكعبان عظمان بارزان في أسفل الساق ويدخلان في الغسل (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى الكعبين، (ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ r تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) ؛ أي مثل فعل وضوئي هذا، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ») حديث النفس: هو الوساوس والخطرات، والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا؛ أي: فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذَّر السلامة منها، «غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ أي: ستر الله ما سبق من ذنبه ومعصيته، وتجاوز عنه. وزاد مسلم في رواية: «وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً»؛ أي: أن الغفران قد حصل له بالوضوء، فثواب صلاته ومشيه زيادة في الفضل.
الشرح المفصل للحديثكان الصّحابة - رضوان الله عليهم - يحرصون أشدَّ الحرص على تبليغ الشرع، ونقل السُّنَّة، وتعليم الناس دينهم، ونشر صحيح الدّين وتعاليم النبيّ ﷺ، ومن أهمِّ الأمور التي حرصوا على نقلها وتبليغها الوضوءُ، فهو من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليه تتوقَّف صحَّةُ الصلاة، وحُسن كثير من الطاعات، وقد أخبر تعالى أن الطهارة تجلب محبَّة اللهِ تعالى؛
قال تعالى:
( إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ )
[البقرة: 222]
، وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]؛ "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسْبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة.
والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[2]
وقد جاء الأمر بالوضوء في الكتاب والسنَّة؛
قال تعالى:
( يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا قُمۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ فَٱغۡسِلُواْ وُجُوهَكُمۡ وَأَيۡدِيَكُمۡ إِلَى ٱلۡمَرَافِقِ وَٱمۡسَحُواْ بِرُءُوسِكُمۡ وَأَرۡجُلَكُمۡ إِلَى ٱلۡكَعۡبَيۡنِۚ )
[المائدة: 6].
وإن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، ففيه يروي التابعيُّ (حُمْرَانُ، مَوْلَى عُثْمَانَ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - دَعَا بِوَضُوءٍ)؛ أي: طلب إناءً فيه ماءٌ لكي يتوضَّأ به، حيث (الوَضُوء) بفتح الواو: اسم للماء، أما (الوُضوء) بضمِّ الواو، فهو اسم لفعل التوضُّؤ، (فَتَوَضَّأ،َ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ) والكفُّ: راحة اليد مع الأصابع، و"قوله: (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). هذا دليل على أن غَسْلَهما في أوَّل الوُضوءِ سُنَّةٌ، وَهُوَ كذلك باتِّفاق العلماء"[3]
(ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ مَضْمَضَ)؛ بأن أدخل الماء في فمه وحرّكه وأداره ثمّ ألقاه لغسله غسلًا جيّدًا، ثمّ ألقى الماء وأخرجه من فمه، و"قوله: (ثمّ مضمض) مقتضٍ للتّرتيب بين غسل اليدين والمضمضة"[4]
(وَاسْتَنْثَرَ)؛ "قال جمهور أهل اللغة والفُقهاءُ والمحدِّثون: الِاسْتِنْثَارُ هو إخراجُ الماء من الأنف بعد الاستنشاق"[5]، والاستنشاق أن يجذب الماء بريح أنفه لإيصاله إلى أعلى الأنف والخياشيم، والاستنثار إخراجه؛ لينظّف أنفه ممّا به من الأذى.
(ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، وحدُّ الوجه من منابت شعر الرّأس إلى أسفل الذّقن، ومن شحمتَيِ الأُذنين يمينًا ويسارًا، والمراد: تعميم الوجه كلِّه بالماء. "وقوله: (ثلاثًا)، يُفيد استحباب هذا العدد في كلِّ ما ذُكِر فيه"[6]
"وكان ﷺ يمسح أُذُنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرَهما وباطنهما، ولم يَثبُت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدًا؛ وإنما صحَّ ذلك عن ابن عمر، ولم يصحَّ عنه في مسح العُنق حديثٌ البتَّةَ"[7]
و"قوله: (ثمّ غسل وجهه) دليل على التّرتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق، وتأخُّره عنهما، فيؤخذ منه التّرتيب بين المفروض والمسنون، وقد قيل في حِكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: إنّ صفات الماء ثلاث - أعني: المعتبرة في التّطهير -: لون يُدرَك بالبصر، وطعم يُدرَك بالذَّوق، ورِيح يُدرَك بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَّتان ليُختبَر حال الماء، قبل أداء الفرض به، وبعض الفقهاء رأى التّرتيب بين المفروضات، ولم يَرَه بين المفروض والمسنون، كما بين المفروضات"[8]
(ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ) المرفق: هو مِفصَل العَضُد من الذراع، ويدخل في الغسل؛ فالمعنى: ثم غسل يده اليمنى مع المرفق. (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى المرفق ثلاث مرات، وفيه "تقديم اليمنى على اليسرى، والتّعبير بكلمة (ثمّ)، وكذا في الرجلين أيضًا"[9]
(ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ)؛ أي: أمَرَّ يده على رأسه مبلولة بالماء، ثمّ مسح برأسه، والمسح دون الغسل وأقلّ منه، والمراد بالرّأس: منابت شعر الرّأس، ولم يُشرع غسل الرأس كباقي الأعضاء لِما في غسله من المشقَّة الشديدة، لاسيَّما أيام الشتاء، وهذا من التخفيف على العباد والرحمة بهم، ولم يكرَّر مسحه في الأحاديث التي وصفت وضوء النبيِّ ﷺ فاختُلف هل يمسح مرة واحدة أو ثلاثًا؟ على قولين. "والصحيح أنه ﷺ لم يكرِّر مسح رأسه؛ بل كان إذا كرَّر غَسْلَ الأعضاء، أَفرَد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحًا، ولم يصحَّ عنه ﷺ خلافُه البتَّةَ؛ بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح؛ كقول الصحابي: (توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وكقوله: (مسح برأسه مرتين)، وإما صريح غير صحيح"[10]
واختُلف في مسح الرأس: هل يُجزئ مسح بعض الرأس، أو لا بدَّ من مسحه كلِّه؟
و"قوله: (ثمّ مسح رأسه) ظاهره: استيعاب الرّأس بالمسح؛ لأنّ اسم (الرّأس) حقيقة في العضو كلِّه، والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح"[11]
"واتَّفَق مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة على أن الرأس لا يجزئ مَسحه إلا بِماء جديد يأخذه له المتوضِّئ كما يأخذه لسائر الأعضاء، ومن مَسح رأسه بما فَضَل من البَلل في يديه من غَسْل ذراعيه، لم يُجْزِه. وقال الْأَوْزَاعِيُّ وجماعةٌ من التابعين: يُجزئه"[12]
والأصل أن المرأة كالرجل في مسح الرأس ما دام أنه لم يَرِدْ حديث يفرِّق بينهما.
(ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ) والكعبان عظمان بارزان في أسفل الساق يُغسلان (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ)؛ أي: إلى الكعبين، و"قوله: (ثلاثًا) يدلُّ على استحباب التَّكرار في غسل الرّجلين ثلاثًا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرِّجل كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في بعض الرّوايات: (فغسل رجليه حتّى أنقاهما)، ولم يذكر عددًا، فاستُدلَّ به لهذا المذهب، وأكَّد من جهة المعنى بأنّ الرِّجل لقُربها من الأرض في المشي عليها، يَكثُر فيها الأوساخ والأدران، فيُحال الأمر فيها على مجرَّد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرّواية الّتي ذُكر فيها العدد زائدة على الرّواية الّتي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّن، والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد" [13]
"والأصل في الواجب غَسْلُ الأعضاء مرَّةً مرَّةً، والزّيادة عليها سُنَّة؛ لأن الأحاديث الصّحيحة وردت بالغسل ثلاثًا ثلاثًا، ومرَّةً مرَّة، ومرَّتين مرّتين، وبعض الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا، وبعضها مرَّتين مرَّتين، وبعضها مرَّة مرَّة، فالاختلاف على هذه الصّفة دليل الجواز في الكلِّ، فإن الثّلاث هي الكمال، والواحدة تُجزئ"[14]
"وصحَّ عنه - عليه السلام - أنه توضَّأ مرَّةً مرَّة، ولم يَزِد على ثلاث؛ بل أخبر أن «مَنْ زَادَ عَلَيْهَا، فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»، فالْمُوَسْوِس مسيءٌ متعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله ﷺ، فكيف يتقرَّب إلى الله بما هو مسيء به متعدٍّ فيه لحدوده؟!"[15]
أما الْمُوالاة بين أعضاء الوضوء، فهي واجبة، "ويُوالي بين أعضائه، فإن فرَّق تفريقًا يسيرًا لم يضرَّ؛ لأنه لا يمكِن الاحتراز منه"[16]
قال صالح ابن الإمام أحمد : "سألت أبي عن الرَّجُل يَنسى مَسح رأسه حتى يُصلي. قال: إن كان قد جفَّ الوضوء، أعاد الوضوء كله، وإن كان لم يَجفَّ، مَسح رأسه وغسل رجليه"[17]
"وفي ضبط التفريق الكثير والقليل: أنه إذا مَضى بين العُضوينِ زَمنٌ يَجفُّ فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلَّا فقليل، ولا اعتبارَ بتأخُّر الجفاف بسبب شدَّة البرد، ولا بتسارُعه لشدَّة الحرِّ، ولا بحال الْمَبْرود والْمَحْموم، ويُعتبر التفريق مِن آخر الفعل الْمَأْتِيِّ به من أفعال الوضوء، حتى لو غَسل وجهه ويديه، ثم اشتغل لحظة، ثم مَسح رأسه بعد جَفاف الوجه وقبل جَفاف اليد، فتفريق قليل، وإذا غَسَل ثلاثًا ثلاثًا، فالاعتبار مِن الغَسْلةِ الأخيرة"[18]
وقد قال ﷺ:
«إن أمتي يُدْعَوْن يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فلْيَفْعَل»
[19]
(ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا) ؛ أي مثل فعل وضوئي هذا، فأظهر عثمان - رضي الله عنه - أنّ وضوءه كان محاكاةً ومطابقةً لوضوء النبيِّ ﷺ وتعليمًا لمن حوله، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ») بأن يؤدّيهما بإخلاص وخشوع وطمأنينة، «لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ» حديث النفس: هو الوساوس والخطرات، والمراد به هنا ما كان في شؤون الدنيا؛ أي: فلا يسترسل في ذلك، وإلا فالأفكار يتعذَّر السلامة منها؛ فـ"حديث النّفس يعمُّ الخواطر المتعلِّقة بالدّنيا، والخواطر المتعلِّقة بالآخرة، والحديث محمول - واللّه أعلم - على ما يتعلَّق بالدّنيا؛ إذ لا بدَّ من حديث النّفس فيما يتعلَّق بالآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، ولا نريد بما يتعلَّق بأمر الآخرة كلَّ أمر محمود، أو مندوب إليه؛ فإنّ كثيرًا من ذلك لا يتعلَّق بأمر الصّلاة، وإدخاله فيها أجنبيٌّ عنها، وقد رُوِيَ عن عمر - رضي اللّه عنه - أنّه قال: "إنّي لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة" أو كما قال، وهذه قُربة؛ إلّا أنّها أجنبيّة عن مقصود الصّلاة"[20]
"قوله: (ولا يحدِّث فيهما نفسه) إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النّفس، وهي على قسمين؛ أحدهما: ما يَهجُم هجمًا يتعذَّر دفعه عن النّفس، والثّاني: ما تسترسل معه النّفس، ويمكِن قَطْعُه ودفعه، فيمكِن أن يُحمَل هذا الحديث على هذا النّوع الثّاني، فيخرج عنه النّوع الأوّل؛ لعُسر اعتباره، ويَشهَد لذلك لفظة (يحدّث نفسه) فإنّه يقتضي تكسُّبًا منه وتفعُّلًا لهذا الحديث"[21]
«غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»؛ أي: غَفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه من الصّغائر دون الكبائر والمظالم؛ لأنّ المظالم لا بد أن تُرَدَّ، والكبائر لا بدَّ لها من توبة.
"قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» ظاهره العُموم في جميع الذّنوب، وقد خصُّوا مثله بالصّغائر، وقالوا: إنّ الكبائر إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكأنّ المستند في ذلك أنّه وَرَد مقيَّدًا في مواضعَ؛
كقوله ﷺ:
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ
[22]
، فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[23]
و"هذا الثّواب الموعود به يترتَّب على مجموع أمرين؛ أحدُهما: الوضوء على النّحو المذكور، والثّاني: صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث؛ فالثّواب المخصوص يترتَّب على مجموع الأمرين، ومطلَق الثّواب قد يحصل بما دون ذلك"[24]
وزاد مسلم في رواية: «وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً»؛ "أي: أن الوضوء لَمَّا كفَّر ذنوبه، كانت صلاتُه - وإن كانت فريضةً – نافلةً؛ أي: زائدة له في الأجر على كفَّارة الذنوب، والنافلةُ: الزيادةُ في كلام العرب؛ أي: لم يبقَ له ما تكفِّر، فإما أن تكون مُدَّخرةً تكفِّرُ ما بعدها أو تُرفع له بها درجات"[25]
"ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذب مختلَق لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[26]
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الوضوء، منها:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»
[27]
وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لوقتهن وَأتمَّ ركوعَهنَّ وخُشُوعَهنَّ، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»
[28].
وعن عثمانَ بنِ عفَّانَ رضي الله عنه قال:
سَمعتُ رسول الله ﷺيقول: «ما من امرئٍ مسلمٍ تحضُرُه صلاة مكتوبةٌ، فيُحسن وُضوءَها، وخشوعها، وركوعها، إلا كانت كفَّارةً لِما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهرَ كلَّه»
[29]
المراجع
- رواه مسلم (223).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
- "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81).
- "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 82).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81، 82).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 186).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 83، 84).
- "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 132).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 8).
- "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 127).
- "المهذَّب" للشيرازي (1/478).
- "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح" (1/ 167).
- "المجموع شرح المهذَّب" للنووي (1/ 453).
- رواه البخاريُّ (136)، ومسلم (246)، وانظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
- رواه مسلم (233).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84 - 86).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 18).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- رواه مسلم (251).
- رواه أحمد (23080)، وابن ماجه (1401)، وأبو داود (425) وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب (370).
- رواه مسلم (228).
النقول
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "(الوضوء) بفتح الواو: اسم للماء، وبضمِّها: اسم للفعل على الأكثر. وإذا كان بفتح الواو اسمًا للماء - كما ذكرناه - فهل هو اسم لمطلَق الماء، أو للماء بقيد كونه متوضَّئًا به، أو مُعَدًّا للوضوء به؟ فيه نظر يحتاج إلى كشف. وينبني عليه فائدة فقهيّة، وهو أنّه في بعض الأحاديث الّتي استُدلَّ بها على أنّ الماء المستعمل طاهر، قول جابر: "فصبَّ عليَّ من وَضوئه"، فإنّا إن جعلنا "الوَضوء" اسمًا لمطلَق الماء، لم يكن في قوله: "فصبَّ عليَّ من وَضوئه" دليلٌ على طهارة الماء المستعمَل؛ لأنّه يصير التّقدير: فصبَّ عليَّ من مائه. ولا يلزم أن يكون ماؤه هو الّذي استُعمل في أعضائه؛ لأنّا نتكلَّم على أنّ "الوَضوء" اسم لمطلَق الماء، وإذا لم يلزم ذلك، جاز أن يكون المراد بوَضوئه: فضلة مائه الّذي توضَّأ ببعضه، لا ما استعمله في أعضائه، فلا يبقى فيه دليل من جهة اللّفظ على ما ذكر من طهارة الماء المستعمَل، وإن جعلنا "الوَضوء" بالفتح: الماء مقيَّدًا بالإضافة إلى الوُضوء بالضّمّ؛ أعني: استعماله في الأعضاء، أو إعداده لذلك، فهاهنا يمكِن أن يقال: فيه دليل؛ لأنّ "وَضوءه" بالفتح متردِّد بين مائه الْمُعَدِّ للوُضوء بالضَّمِّ، وبين مائه المستعمل في الوضوء، وحمله على الثّاني أولى؛ لأنّه الحقيقة، أو الأقرب إلى الحقيقة، واستعماله بمعنى المعدِّ مجاز، والحمل على الحقيقة أو الأقرب إلى الحقيقة أَوْلى"[1]
قال النوويُّ رحمه الله:"قوله: (فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ). هذا دليل على أن غَسْلَهما في أوَّل الوُضوءِ سُنَّةٌ، وَهُوَ كذلك باتِّفاق العلماء، وقوله: (ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ). قال جمهور أهل اللغة والفُقهاءُ والمحدِّثون: الِاسْتِنْثَارُ هو إخراجُ الماء من الأنف بعد الاستنشاق"[2]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ تمضمض) مقتضٍ للتّرتيب بين غسل اليدين والمضمضة، وأصل هذه اللّفظة مُشعِر بالتّحريك، ومنه: (مضمض النُّعاس في عينيه)، واستُعملت في هذه السُّنَّة – أعني: المضمضة في الوضوء - لتحريك الماء في الفم، وقال بعض الفقهاء: المضمضة: أن يجعل الماء في فيه ثمّ يمجُّه - هذا أو معناه - فأدخل المجَّ في حقيقة المضمضة. فعلى هذا؛ لو ابتلعه، لم يكن مؤدِّيًا للسُّنَّة، وهذا الّذي يَكثُر في أفعال المتوضِّئين، ويمكِن أن يكون ذَكَر ذلك بناءً على أنّه الأغلب والعادة، لا أنّه يتوقَّف تأدِّي السُّنَّة على مجِّه، واللّه أعلم"[3]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل وجهه) عطف بكلمة (ثمّ)؛ لأنّها تقتضي التّرتيب والْمُهلة، فإن قلت: ما الحكمة في تأخير غسل الوجه عن المضمضة والاستنشاق؟ قلت: ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء؛ لأن اللّون يُدرَك بالبصر، والطعم يُدرَك بالفم، والرّيح يُدرَك بالأنف، فقدَّم الأقوى منها، وهو الطَّعم، ثمّ الرّيح، ثمّ اللّون"[4]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل وجهه) دليل على التّرتيب بين غسل الوجه والمضمضة والاستنشاق، وتأخُّره عنهما، فيؤخذ منه التّرتيب بين المفروض والمسنون، وقد قيل في حِكمة تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه المفروض: إنّ صفات الماء ثلاث - أعني: المعتبرة في التّطهير -: لون يُدرَك بالبصر، وطعم يُدرَك بالذَّوق، ورِيح يُدرَك بالشَّمِّ، فقُدِّمت هاتان السُّنَّتان ليُختبَر حال الماء، قبل أداء الفرض به، وبعض الفقهاء رأى التّرتيب بين المفروضات، ولم يَرَه بين المفروض والمسنون، كما بين المفروضات"[5]
قال ابن القيم رحمه الله: "وكان يمسح أُذُنيه مع رأسه، وكان يمسح ظاهرَهما وباطنهما، ولم يَثبُت عنه أنه أخذ لهما ماء جديدًا؛ وإنما صحَّ ذلك عن ابن عمر، ولم يصحَّ عنه في مسح العُنق حديثٌ البتَّةَ، ولم يُحفظ عنه أنه كان يقول على وضوئه شيئًا غير التسمية، وكلُّ حديث في أذكار الوضوء الذي يُقال عليه، فكذب مختلَق لم يقل رسول الله ﷺ شيئًا منه، ولا علَّمه لأمَّته، ولا ثَبَت عنه غير التسمية في أوَّله، وقوله: «أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين» في آخره"[6]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ويديه إلى المرفقين). المرفق فيه وجهان؛ أحدُهما: بفتح الميم وكسر الفاء، والثّاني: عكسُه، لغتان. وقوله: (إلى المرفقين)، ليس فيه إفصاح بكونه أدخلهما في الغسل، أو انتهى إليهما، والفقهاء اختلفوا في وجوب إدخالهما في الغسل، فمذهب مالك والشّافعيِّ: الوجوب، وخالف زفر وغيره، ومنشأ الاختلاف فيه: أنّ كلمة (إلى) المشهور فيها: أنّها لانتهاء الغاية، وقد تَرِد بمعنى (مع)، فمن النّاس من حملها على مشهورها، فلم يُوجب إدخال المرفقين في الغسل، ومنهم من حملها على معنى (مع)، فأوجب إدخالها، وقال بعض النّاس: يفرَّق بين أن تكون الغاية من جنس ما قبلها أو لا،
فإن كانت من الجنس دخلت؛ كما في آية الوضوء، وإن كانت من غير الجنس لم تَدخُل؛ كما في قوله
عزّ وجلّ:
ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ إِلَى ٱلَّيۡلِۚ
[البقرة: 187]
وقال غيره: إنّما دخل المرفقان ههنا؛ لأنّ (إلى) ههنا غاية للإخراج، لا للإدخال، فإنّ اسم (اليد) ينطلق على العضو إلى الْمَنْكِب، فلو لم تَرِد هذه الغاية، لوجب غسل اليد إلى المنكِب، فلمّا دخلت، أَخرَجت عن الغسل ما زاد على المرفق، فانتهى الإخراج إلى المرفق، فدخل في الغسل. وقال آخرون: لَمّا تردَّد لفظ (إلى) بين أن تكون للغاية، وبين أن تكون بمعنى (مع)، وجاء فعل رسول اللّه ﷺ أنّه (أدار الماء على مرفقيه)، كان ذلك بيانًا للمُجمَل، وأفعال الرّسول ﷺ في بيان الواجب المجمَل محمولة على الوجوب، وهذا عندنا ضعيف؛ لأنّ (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية، مجاز بمعنى (مع)، ولا إجمال في اللّفظ بعد تبيُّن حقيقته، ويدلُّ على أنّها حقيقة في انتهاء الغاية: كثرة نصوص أهل العربيّة على ذلك، ومن قال: إنّها بمعنى (مع) فلم ينصَّ على أنّها حقيقة في ذلك، فيجوز أن يريد المجاز"[7]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (ويديه إلى المرفقين)؛ أي: كل واحدة، كما جاء هكذا مبيَّنًا في رواية معمر عن الزُّهْريِّ، وكذا في رواية مسلم من طريق يونس، وفيهما تقديم اليمنى على اليسرى، والتّعبير في كلٍّ منهما بكلمة (ثمّ)، وكذا في الرجلين أيضًا. قوله: (ثمّ مسح برأسه) وفي الرّوايتين المذكورتين، وفي الرّوايتين المذكورتين، ثمّ مسح رأسه بلا باء الجرِّ، والفرق بينهما أن في الأول لا يقتضى استيعاب المسح، بخلاف الثّاني. قوله: (نحو وضوئي هذا). قال النّوويُّ: إنّما قال: (نحو وضوئي)، ولم يقل: (مثل)؛ لأن حقيقة مُماثلته لا يقدر عليها غيره، وفيه نظر؛ لأنّه جاء في رواية البخاريِّ في الرقاق من طريق المعاذ بن عبدالرّحمن عن حمران عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، ولفظه: (من توضَّأ مثل هذا الوضوء)، وجاء في رواية مسلم أيضًا، من طريق زيد بن أسلم عن حمران: (من توضَّأ مثل وضوئي هذا)، والتّقدير: مثل وضوئي، وكلُّ واحد من لفظة (نحو ومثل) من أداة التّشبيه، والتشبيه لا عموم له، سواء قال: (نحو وضوئي هذا)، أو (مثل وضوئي)، فلا يلزم ما ذكره النّوويُّ. وقال بعضهم: فالتعبير بـ(نحو) من تصرُّف الرواة؛ لأنّها تُطلَق على الْمِثلية مجازًا، ليس بشيء؛ لأنّه ثبت في اللّغة مجيء (نحو) بمعنى (مثل). يقال: هذا نحو ذاك؛ أي: مثله"[8]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ مسح رأسه) ظاهره: استيعاب الرّأس بالمسح؛ لأنّ اسم (الرّأس) حقيقة في العضو كلِّه، والفقهاء اختلفوا في القدر الواجب من المسح، وليس في الحديث ما يدلُّ على الوجوب؛ لأنّه في آخره إنّما ذكر ترتيب ثواب مخصوص على هذه الأفعال، وليس يلزم من ذلك عدم الصِّحَّة عند عدم كلِّ جزء من تلك الأفعال، فجاز أن يكون ذلك الثّواب مرتَّبًا على إكمال مسح الرّأس، وإن لم يكن واجبًا إكمالُه، كما يترتَّب على المضمضة والاستنشاق، وإن لم يكونا واجبينِ عند كثير من الفقهاء، أو الأكثرين منهم،
فإن سلك سالك ما قدَّمناه في المرفقين، من ادِّعاء الإجمال في الآية، وأنّ الفعل بيان له، فليس بصحيح؛ لأنّ الظّاهر من الآية مبيَّن، إمّا على أن يكون المراد مطلقَ المسح، على ما يراه الشّافعيُّ؛ بناءً على أنّ مقتضى الباء في الآية التّبعيض، أو غير ذلك، أو على أنّ المراد الكلُّ، على ما قاله مالك؛ بناءً على أنّ اسم (الرّأس) حقيقة في الجملة، وأنّ (الباء) لا تعارض ذلك، وكيفما كان، فلا إجمال"[9]
قال الترمذيُّ رحمه الله: "قد رُوي من غير وَجْه هذا الحديثُ عن عبد الله بن زيد وغيره أن النبيَّ ﷺ أخَذ لِرَأسه ماء جديدًا، والعملُ على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا أن يأخذ لرأسه ماء جديدًا"[10]
قال ابن عبدالبر رحمه الله: "واتَّفَق مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة على أن الرأس لا يجزئ مَسحه إلا بِماء جديد يأخذه له المتوضِّئ كما يأخذه لسائر الأعضاء، ومن مَسح رأسه بما فَضَل من البَلل في يديه من غَسْل ذراعيه، لم يُجْزِه. وقال الْأَوْزَاعِيُّ وجماعةٌ من التابعين: يُجزئه"[11]
قال ابن قدامة رحمه الله: "ويَمسح رأسه بماءٍ جديد غيرِ ما فَضَل عن ذراعيه، وهو قول أبي حنيفة والشافعيِّ، والعملُ عليه عند أكثر أهل العلم، قاله الترمذيُّ، وجَوَّزَه الحسنُ وعُرْوَةُ والأوزاعيُّ؛ لِمَا ذكرنا من حديث عثمانَ، ويتخرَّجُ لنا مثل ذلك إذا قلنا: إن الْمُستعمَلَ لا يَخْرُجُ عن طُهُورِيَّتِه، سِيَّمَا الْغَسْلةُ الثانية والثالثة"[12]
قال ابن القيم رحمه الله: "والصحيح أنه لم يكرِّر مسح رأسه؛ بل كان إذا كرَّر غَسْلَ الأعضاء، أَفرَد مسح الرأس، هكذا جاء عنه صريحًا، ولم يصحَّ عنه ﷺ خلافُه البتَّةَ؛ بل ما عدا هذا إما صحيح غير صريح؛ كقول الصحابي: (توضَّأ ثلاثًا ثلاثًا)، وكقوله: (مسح برأسه مرتين)، وإما صريح غير صحيح"[13]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثمّ غسل كلتا رجليه) صريح في الرّدِّ على الرّوافض في أنّ واجب الرّجلين المسح، وقد تبيَّن هذا من حديث عثمان، وجماعة وصفوا وضوء رسول اللّه ﷺ، ومن أحسن ما جاء فيه: حديثُ عمرو بن عَبَسة - بفتح العين والباء - أنّ رسول اللّه ﷺ قال: «ما منكم من أحد يقرِّب وضوءه - إلى أن قال - ثمّ يغسل رجليه، كما أمره اللّه عزّ وجلّ»، فمن هذا الحديث، انضمَّ القَول إلى الفعل، وتبيَّن أنّ المأمور به الغسل في الرّجلين"[14]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "إن هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، والأصل في الواجب غسل الأعضاء مرَّةً مرَّةً، والزّيادة عليها سنَّة؛ لأن الأحاديث الصّحيحة وردت بالغسل ثلاثًا ثلاثًا، ومرَّةً مرَّة، ومرَّتين مرّتين، وبعض الأعضاء ثلاثًا ثلاثًا، وبعضها مرَّتين مرَّتين، وبعضها مرَّة مرَّة، فالاختلاف على هذه الصّفة دليل الجواز في الكلِّ، فإن الثّلاث هي الكمال، والواحدة تجزئ"[15]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ثلاثًا) يدلُّ على استحباب التّكرار في غسل الرّجلين ثلاثًا، وبعض الفقهاء لا يرى هذا العدد في الرّجل، كما في غيرها من الأعضاء، وقد ورد في بعض الرّوايات: (فغسل رجليه حتّى أنقاهما)، ولم يذكر عددًا، فاستدلَّ به لهذا المذهب، وأكَّد من جهة المعنى بأنّ الرِّجل لقُربها من الأرض في المشي عليها، يَكثُر فيها الأوساخ والأدران، فيُحال الأمر فيها على مجرَّد الإنقاء من غير اعتبار العدد، والرّواية الّتي ذُكر فيها العدد زائدة على الرّواية الّتي لم يُذكَر فيها، فالأخذ بها متعيِّن، والمعنى المذكور لا ينافي اعتبار العدد، فليعمل بما دلَّ عليه لفظ (مثل)" [16]
قال صالح ابن الإمام أحمد رحمه الله: "سألت أبي عن الرَّجُل يَنسى مَسح رأسه حتى يُصلي. قال: إن كان قد جفَّ الوضوء، أعاد الوضوء كله، وإن كان لم يَجفَّ، مَسح رأسه وغسل رجليه"[17]
قال الشيرازيُّ رحمه الله: "ويُوالي بين أعضائه، فإن فرَّق تفريقًا يسيرًا لم يضرَّ؛ لأنه لا يمكِن الاحتراز منه"[18]
قال النوويُّ رحمه الله: "وفي ضبط التفريق الكثير والقليل أربعة أوجه؛ الصحيح الذي قَطع به المصنِّف والجمهور: أنه إذا مَضى بين العُضوينِ زَمنٌ يَجفُّ فيه العضو المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص، فهو تفريق كثير، وإلَّا فقليل، ولا اعتبارَ بتأخُّر الجفاف بسبب شدَّة البرد، ولا بتسارُعه لشدَّة الحرِّ، ولا بحال الْمَبْرود والْمَحْموم، ويُعتبر التفريق مِن آخر الفعل الْمَأْتِيِّ به من أفعال الوضوء، حتى لو غَسل وجهه ويديه، ثم اشتغل لحظة، ثم مَسح رأسه بعد جَفاف الوجه وقبل جَفاف اليد، فتفريق قليل، وإذا غَسَل ثلاثًا ثلاثًا، فالاعتبار مِن الغَسْلةِ الأخيرة"[19]
قال ابن قدامة رحمه الله: "والْمُوالاة الواجبة أن لا يَترك غَسْلَ عضو حتى يمضيَ زمن يَجفُّ فيه العضو الذي قبله في الزمان المعْتَدِل؛ لأنه قد يُسْرِع جفافُ العضو في بعض الزمان دون بعض، ولأنه يُعتبر ذلك فيما بين طرفَيِ الطهارة. وقال ابن عقيل في رواية أخرى: "إنّ حَدَّ التفريق المبطِل ما يَفحُش في العادة؛ لأنه لم يُحَدَّ في الشرع، فيُرجع فيه إلى العادة"... وإن نَشفتْ أعضاؤه لاشتغاله بِواجِب في الطهارة أو مسنون، لَم يُعَدَّ تفريقًا"[20]
قال ابن القيم رحمه الله: "وصحَّ عنه - عليه السلام - أنه توضَّأ مرَّةً مرَّة، ولم يَزِد على ثلاث؛ بل أخبر أن «مَنْ زَادَ عَلَيْهَا، فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ»، فالْمُوَسْوِس مسيءٌ متعدٍّ ظالم بشهادة رسول الله ﷺ، فكيف يتقرَّب إلى الله بما هو مسيء به متعدٍّ فيه لحدوده؟!"[21]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (نحو وضوئي هذا): لفظة (نحو) لا تطابق لفظة (مثل)؛ فإنّ لفظة (مثل) يقتضي ظاهرها المساواة من كلِّ وجه، إلّا في الوجه الّذي يقتضي التّغاير بين الحقيقتين، بحيث يُخرجهما عن الوَحْدة، ولفظة (نحو)
لا تُعطي ذلك، ولعلّها استُعملت بمعنى الْمِثل مجازًا، أو لعلّه لم يترك ممّا يقتضي المثليّة إلّا ما لا يقدح في المقصود. يَظهَر في الفعل المخصوص أنّ فيه أشياءَ مُلْغاةً عن الاعتبار في المقصود من الفعل، فإذا تُركت هذه الأشياء، لم يكن الفعل مماثلًا حقيقةً لذلك الفعل، ولم يقدح تركها في المقصود منه، وهو رفع الحدث، وترتُّب الثّواب؛ وإنّما احتجنا إلى هذا وقلنا به؛ لأنّ هذا الحديث ذكر لبيان فعل يُقتدى به، ويحصل الثّواب الموعود عليه، فلا بدَّ أن يكون الوضوء المحكيُّ المفعول محصِّلًا لهذا الغرض؛ فلهذا قلنا: إمّا أن يكون استعمل (نحو) في حقيقتها، مع عدم فوات المقصود، لا بمعنى (مثل)، أو يكون ترك ما عُلم قطعًا أنّه لا يُخِلُّ بالمقصود، فاستعمل (نحو) في (مثل) مع عدم فوات المقصود، واللّه أعلم.
ويمكِن أن تقال: إنّ الثّواب يترتَّب على مقارنة ذلك الفعل؛ تسهيلًا وتوسيعًا على المخاطَبين، من غير تضييق وتقيُّد بما ذكرناه أوّلًا، إلّا أنّ الأوّل أقرب إلى مقصود البيان.
هذا الثّواب الموعود به يترتَّب على مجموع أمرين؛ أحدُهما: الوضوء على النّحو المذكور، والثّاني: صلاة ركعتين بعده بالوصف المذكور بعده في الحديث، والمرتَّب على مجموع أمرين لا يَلزَم ترتُّبه على أحدهما إلّا بدليل خارج. وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء، وعليهم في ذلك هذا السّؤال الّذي ذكرناه،
ويُجاب عنه بأنّ كون الشّيء جزءًا ممّا يترتَّب عليه الثّواب العظيم كافٍ في كونه ذا فضل، فيَحصُل المقصود من كون الحديث دالًّا على فضيلة الوضوء، ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثّواب المخصوص، وحصول مطلَق الثّواب؛ فالثّواب المخصوص يترتَّب على مجموع الوضوء على النّحو المذكور، والصّلاة الموصوفة بالوصف المذكور، ومطلق الثّواب قد يحصل بما دون ذلك"[22]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (لا يحدث فيهما)؛ أي: في الرّكعتين، قال القاضي عياض: يريد بحديث النّفس الحديث المجتلَب والمكتسَب، وأما ما يقع في الخاطر غالبًا، فليس هو المرادَ. وقال بعضهم: هذا الّذي يكون من غيره قصد يرجى أن تُقبَل معه الصّلاة، ويكون دون صلاة من لم يحدِّث نفسه بشيء؛ لأن النّبيَّ ﷺ إنّما ضمن الغفران لِمُراعي ذلك؛ لأنّه قلَّ مَن تَسلَم صلاته من حديث النّفس، وإنّما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خَطَرات الشّيطان ونَفْيها عنه، ومحافظته عليها؛ حتّى لا يشتغل عنها طَرْفة عَين، وسَلِم من الشّيطان باجتهاده وتفريغه قلبَه. قيل: ويُحتمَل أن يكون المراد به إخلاصَ العمل لله تعالى، ولا يكون لطلب الجاه، وأن يُراد ترك العُجب بأن لا يرى لنفسه منزلة رفيعة بأدائها؛ بل ينبغي أن يَحقِر نفسه كي لا تغترَّ فتتكبَّر. وُيقال: إن كان المراد به أن لا يخطر بباله شيء من أمور الدّنيا، فذلك صعب، وإن كان المراد به أنه بعد خطوره به لا يستمرُّ عليه، فهو عمل المخلِصين. قلت: التّحقيق فيه أن حديث النّفس قسمان: ما يَهجُم عليها ويتعذَّر دفعها، وما يسترسل معها ويمكِن قطعه، فيُحمَل الحديث عليه دون الأول لعُسر اعتباره. وقوله: (يحدِّث) من باب التفعيل، وهو يقتضي التكسُّب من أحاديث النّفس، ودفع هذا ممكِن، وأما ما يَهجُم من الخطرات والوساوس، فإنّه يتعذَّر دفعه فيُعفى عنه، ونقل القاضي عياض عن بعضهم بأن المراد: من لم يحصل له حديث النّفس أصلًا ورأسًا، وردَّه النّوويُّ فقال: الصّواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرَّة، ثمّ حديث النّفس يعمُّ الخواطر الدّنيويّة والأخروية، والحديث محمول على المتعلِّق بالدنيا فقط، وقد جاء في رواية في هذا الحديث، ذكره الحكيم التّرمذيُّ في كتاب الصّلاة، تأليفه: (لا يحدِّث فيهما نفسه بشيء من الدّنيا، ثمّ دعا إليه، إلَّا استُجيب له). انتهى. فإذا حدَّث نفسه فيما يتعلَّق بأمور الآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، أو في أمر محمود أو مندوب إليه، لا يضرُّ ذلك، وقد ورد عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: "لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة"، أو كما قال"[23]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: (ولا يحدِّث فيهما نفسه) إشارة إلى الخواطر والوساوس الواردة على النّفس، وهي على قسمين؛ أحدهما: ما يَهجُم هجمًا يتعذَّر دفعه عن النّفس، والثّاني: ما تسترسل معه النّفس، ويمكِن قَطْعُه ودفعه، فيمكِن أن يُحمَل هذا الحديث على هذا النّوع الثّاني، فيخرج عنه النّوع الأوّل؛ لعُسر اعتباره، ويَشهَد لذلك لفظة (يحدّث نفسه) فإنّه يقتضي تكسُّبًا منه وتفعُّلًا لهذا الحديث، ويمكِن أن يُحمَل على النّوعين معًا، إلّا أنّ العُسر إنّما يجب دَفْعه عمَّا يتعلَّق بالتّكاليف، والحديث إنّما يقتضي ترتُّب ثواب مخصوص على عمل مخصوص، فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثّواب، ومن لا، فلا، وليس ذلك من باب التّكاليف حتّى يَلزَم رفع العُسر عنه. نعم، لا بدَّ وأن تكون تلك الحالة ممكِنةَ الحصول – أعني: الوصف المرتَّب عليه الثّواب المخصوص - والأمر كذلك؛ فإنّ المتجرِّدين عن شواغل الدّنيا، الّذين غلب ذكر اللّه - عزَّ وجلَّ - على قلوبهم وغمرها، تحصل لهم تلك الحالة، وقد حُكي عن بعضهم ذلك"[24]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (غُفر له ما تقدَّم من ذنبه) يعني: من الصّغائر دون الكبائر، كذا هو مبيَّن في مسلم، وظاهر الحديث يعمُّ جميع الذّنوب؛ ولكنه خُصَّ بالصغائر، والكبائرُ إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكذلك مظالم العباد، فإن قيل: حديث عثمان - رضي الله تعالى عنه - الآخر الّذي فيه: (خرجت خطاياه من جسده حتّى تخرج من تحت أظفاره) مرتَّب على الوضوء وحده، فلو لم يكن المراد بما تقدَّم من ذنبه في هذا الحديث العموم في الصّغائر والكبائر، لكان الشّيء مع غيره كالشيء لا مع غيره، فإن فيه الوضوء والصّلاة، وفي الأول الوضوء وحده، وذلك لا يجوز. أُجيب: بأن قوله: (خرجت خطاياه) لا يدلُّ على خروج جميع ما تقدَّم له من الخطايا، فيكون بالنّسبة إلى يومه، أو إلى وقت دون وقت، وأما قوله: (ما تقدَّم من ذنبه) فهو عامٌّ بمعناه، وليس له بعض متيقَّن؛ كالثلاثة في الجَمع؛ أعني: الخطايا، فيُحمَل على العموم في الصّغائر. وقال بعضهم: وهو في حقِّ من له كبائرُ وصغائر، ومن ليس له إلاّ صغائر كفِّرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفِّفت عنه منها بمقدار ما لصاحب الصّغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يُزاد في حسناته بنظير ذلك. قلت: الأقسام الثّلاثة الأخيرة غير صحيحة، أما الّذي ليس له إلّا صغائر، فله كبائر أيضًا؛ لأن كل صغيرة تحتها صغيرة فهي كبيرة، أما الّذي ليس له إلاّ كبائر، فله صغائر؛ لأن كل كبيرة تحتها صغيرة، وإلَّا لا يكون كبيرة، وأما الّذي ليس له إلاّ صغائر فله كبائر أيضًا؛ لأن ما فوق الصّغيرة الّتي ليس تحتها صغيرة، فهي كبائر. فافهم"[25]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "حديث النّفس يعمُّ الخواطر المتعلِّقة بالدّنيا، والخواطر المتعلِّقة بالآخرة، والحديث محمول - واللّه أعلم - على ما يتعلَّق بالدّنيا؛ إذ لا بدَّ من حديث النّفس فيما يتعلَّق بالآخرة؛ كالفكر في معاني المتلوِّ من القرآن العزيز، والمذكور من الدّعوات والأذكار، ولا نريد بما يتعلَّق بأمر الآخرة كلَّ أمر محمود، أو مندوب إليه؛ فإنّ كثيرًا من ذلك لا يتعلَّق بأمر الصّلاة، وإدخاله فيها أجنبيٌّ عنها، وقد رُوِيَ عن عمر - رضي اللّه عنه - أنّه قال: "إنّي لأجهِّز الجيش وأنا في الصّلاة" أو كما قال، وهذه قُربة؛ إلّا أنّها أجنبيّة عن مقصود الصّلاة"([26]).
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قوله: «غُفر له ما تقدَّم من ذنبه» ظاهره العُموم في جميع الذّنوب، وقد خصُّوا مثله بالصّغائر، وقالوا: إنّ الكبائر إنّما تكفَّر بالتّوبة، وكأنّ المستند في ذلك أنّه وَرَد مقيَّدًا في مواضعَ؛
كقوله ﷺ:
«الصلَواتُ الخَمسُ، وَالجُمُعَة إِلى الجُمُعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَينَهُنَّ مَا اجتَنَبَ الكَبَائِرَ»
[27]،
فجعلوا هذا القيد في هذه الأمور مقيِّدًا للمطلق في غيرها"[28]
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «وكانت صلاتُه نافِلةً له»؛ أي: أن الوضوء لَمَّا كفَّر ذنوبه، كانت صلاتُه - وإن كانت فريضةً – نافلةً؛ أي: زائدة له في الأجر على كفَّارة الذنوب، والنافلةُ: الزيادةُ في كلام العرب؛ أي: لم يبقَ له ما تكفِّر، فإما أن تكون مُدَّخرةً تكفِّرُ ما بعدها أو تُرفع له بها درجات"[29]
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقَوله: «كَانَت صلَاته ومشيه إِلَى الْمَسْجِد نَافِلَة»؛ أي: أن الغفران قد حصل له بالوضوء، فثواب صلاته ومشيه زيادة في الفضل"[30]
قال ابن القيم رحمه الله: "فالجنة لا يَدخُلها خبيث، ولا من فيه شيء من الخُبث؛ فمن تطهَّر في الدنيا، ولَقِي الله طاهرًا من نجاساته، دَخَلها بغير معوِّق، ومن لم يتطهَّر في الدنيا، فإن كانت نجاسته عينيةً كالكافر، لم يَدخُلها بحال، وإن كانت نجاستُه كَسبيةً عارضةً، دَخَلها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسة، ثم يَخرُج منها، حتى إن أهل الإيمان إذا جازوا الصراط، حُبِسوا على قنطرة بين الجنَّة والنار، فيُهَذَّبون ويُنَقَّوْنَ من بقايا بَقِيت عليهم، قَصُرت بهم عن الجنَّة، ولم توجب لهم دخولَ النار، حتى إذا هذِّبوا ونُقُّوا، أُذِن لهم في دخول الجنة، والله سبحانه بحِكمته جعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[31]
المراجع
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 80).
- "شرح النووي على مسلم" (3/ 105).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 6).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 81، 82).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 187، 188).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 82، 83).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 83، 84).
- "سنن الترمذي" (1/ 90).
- "الاستذكار" لابن عبد البر (1/ 132).
- "المغني" لابن قدامة (1/ 96).
- "زاد المعاد" لابن القيم (1/ 186).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 8).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84).
- "مسائل الإمام أحمد رواية ابنه أبي الفضل صالح" (1/ 167).
- "المهذَّب" للشيرازي (1/478).
- "المجموع شرح المهذَّب" للنووي (1/ 453).
- "المغني" لابن قدامة (1/ 102).
- "إغاثة اللهفان" لابن القيم (1/ 127).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 84 - 86).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (3/ 7، 8).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 86).
- رواه مسلم (233).
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 87).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 18).
- "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزي (1/ 160، 161).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
الله واسع العطاء، عظيم الجُود، عمَّت نِعَمه سبحانه جميعَ الخلائق، فليس للعباد سواه، ولا نجاةَ لهم إلا بالتعلُّق ببابه، والتزام شَرْعه، وسؤاله العفْوَ والعافيةَ في الدنيا والآخرة.
وفي هذا الحديث القدسيِّ جانبٌ من نِعَم الله على عباده، والـحديثُ القدسيُّ: هو ما يرويه النبيُّ ﷺ عن ربِّه تبارك وتعالى بالمعنى، وألفاظُه من عند النبيِّ ﷺ، ومِن ثَمَّ فلا يُتعبَّد بتلاوة ألفاظه، ولا يُتحدَّى به كما هو الشأن بالنسبة للقرآن؛ إذ القرآنُ الكريم لفظه ومعناه من قِبَل الله ، وهو معجِزٌ، ونحن مأمورون بتلاوته[1].
وهذا الـحديث يدور حولَ سِتَّة أمور:
أمَّا الأوَّل: فهو نهيُ الـعباد عن التَّظالم؛ أي: أن يَظلِم بعضُهم بعضًا.
يقول الله سبحانه: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَـمُوا»، والنداء بقوله تعالى: «يَا عِبَادِي» إشارةٌ إلى أن جميع الخَلْق عبادُ الله إما شرعًا وإما قهْرًا، أما المؤمنون فهم عِباد الله الذين استجابوا لأمره، والنداءُ له هنا فيه نوعٌ من اللُّطف والإيناس، وأما الكفار فهم مخاطَبون أيضًا بهذا الحديث؛ لدخولهم تحت العبودية لله قهْرًا
قال تعالى:
﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا﴾
[مريم: 93].
وقوله تعالى: «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»؛ أي: تقدَّستُ وتعاليتُ عن الظلم، والظلمُ مستحيلٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى؛ إذ الظُّلم هو مجاوَزة الحد، والتصرُّف في غير الْمُلك، وكيف يجاوز سبحانه حدًّا، وليس فوقه مَن يُطيعه؟! وكيف يتصرَّفُ في غير مُلْك غيرِه والعالَمُ كلُّه في مُلْكه وسلطانه؟!
وأصلُ التحريم في اللغة: المنْعُ، فسمَّى سبحانه تقدُّسَه وتعاليَه عن الظلم تحريمًا؛ لمشابهتِه للممنوع في أصل عدم الشيء[2].
فاللهُ منزَّهٌ عن الظُّلم
قال تعالى:
﴿وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾
[ق: 29]
وقال تعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾
[النساء: 40]
فهو وحْدَه الـعدلُ؛ وبالـعدل أمَر عباده، وحرَّم أن يظلم بعضهم بعضًا، وقوله: «وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَـمُوا»؛ أي: لا تتظالموا، يعني: لا يظلِم بعضكم بعضًا[3]. والمعنى: "أنه تعالى حرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كلِّ عبد أن يظلمَ غيرَه، مع أن الظلم في نفْسه محرَّم مطلقًا. والظلم نوعانِ: أحدهما: ظُلم النفْس، وأَعظَمُه الشِّركُ، ثم يَليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائر. والثاني: ظُلم العبد لغيره"[4].
وتتَجلَّى محاسنُ الشريعة الإسلاميَّة في أبهى صورها في أمر الله سبحانه و تعالى بالـعدْل، حتى مع الطَّائفة التي نختلِف معها اختلافًا يؤدِّي إلى أشدِّ الـبُغض والـكراهية، يفرِض علينا الـقرآنُ الـكريمُ ألَّا يَحمِلنا بُغضُنا لبعض الناس على عدم الـعدل معهم وإعطائهم حقوقَهم؛
قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
[المائدة: 8].
وتوعَّد اللهُ الظالمين بالانتقام الـعاجل في الدُّنيا، والـحرمان من نِعَم الله ، والـعذاب الأليم يومَ الـقيامة.
وأمَّا الأمرُ الثَّاني الذي يُنوِّه به هذا الحديثُ، فهو افتقارُ العباد إلى الله في كلِّ أحوالهم؛ قال تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ؛ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ».
ومعنى قوله: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ» أنَّ الـعِباد "لو تُركوا مع الـعادات، وما تقْتَضيه الطِّباع من الْمَيل إلى الراحات، وإهمال النَّظر الــمؤدِّي إلى الــمعرفة، لغلَبَت عليهم الـعاداتُ والطِّباعُ، فضلُّوا عن الـحقِّ؛ فهذا هو الضلال الــمقصود في الـحديث؛ لكن مَن أراد الله تعالى توفيقَه، ألْهمَه إعمالَ الـفِكر الــمؤدِّي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول ﷺ، وأعانه على الـوصول إلى ذلك، وعلى الـعمل بمقتضاه، وهذا هو الـهدى الذي أمَرنا الله بسؤاله.
أو قد يكون الــمقصودُ بالضلال هنا الـحالَ التي كان الناسُ عليها قبلَ إرسال الرُّسل، من الشِّرك، والـكفر، والـجهالات، وغير ذلك، فأرسل اللهُ إليهم الرُّسلَ ليُزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضَّلال، ويبيِّن لهم مرادَ الـحقِّ منهم في حالهم، ومآل أمرهم؛ فمَن نبَّهه الـحقُّ وبصَّره وأعانه، فهو الــمهتدي، ومَن لم يفعل اللهُ به ذلك، بَقِيَ على ذلك الضَّلال"[5].
ولا تعارُضَ بين هذا الحديث وبين ما رواه أبو هريرةَ عن رسول الله ﷺ: «ما مِن مولودٍ إلا يُولَد على الفِطرة...»[6]؛ إذ الضلالُ المشارُ إليه في هذا الحديث هو الضلالُ الطارئُ على الفِطرة، المغيِّر لها[7].
وقوله سبحانه: «فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ»؛ أي: اطلُبوا مني الهدايةَ أهْدِكم، ومِن الحِكم في ذلك: أن يَعلم العبدُ أنه طلَب الهداية مِن مولاه فهداه، ولو هداه قبلَ أن يسألَه لم يبعُدْ أن يقول: إنما أُوتيتُه على عِلم عندي[8].
أما عن أنواع الهداية التي يَنْبغي أن يطلبَها العبد من ربِّه دومًا فـ"الهدايةُ نوعانِ: هدايةٌ مُجمَلةٌ، وهي الهداية للإسلام والإيمان، وهي حاصلةٌ للمؤمن، وهدايةٌ مفصَّلةٌ، وهي هدايةٌ إلى معرفة تفاصيل أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانته على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليْلًا ونهارًا؛ ولهذا أمر الله عباده أن يقرؤوا في كلِّ ركعة من صلاتهم قولَه:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
[الفاتحة: 6][9].
وكافتقار العباد إلى الله سبحانه و تعالى في الهداية، كذا هم مفتقرون إليه سبحانه في الطعام والكساء وسائر شؤون حياتهم؛ قال تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ».
وفي هذا البيان "تنبيهٌ على فَقْرنا وعَجْزنا عن جَلْب منافعنا، ودَفْع مَضارِّنا بأنفُسنا إلَّا أن ييسِّرَ الله ذلك لنا، بأن يخلُقَ ذلك لنا، ويُعينَنا عليه، ويصرِف عنَّا ما يضرُّنا"[10].
فاللهُ وحْدَه هو الـهادي إلى الطريق الــمستقيم، وهو الذي يُطعِمنا ويَسقينا بحَوْله وقوَّته وحْدَه سبحانه.
وحتى الــمَلْبَسُ الذي يواري عَورةَ الإنسان قد تكفَّل اللهُ به؛ فنحن نعيشُ في رِعاية الله، ونفتقرُ دائمًا إلى عنايته؛ في الـهداية إلى طريق الـحقِّ، وفي الــمأكل والــمشرب، وفي الــملبس الذي يستُرُ أجسادنا.
وفي معنى قوله تعالى: «يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ؛ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ؛ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ»، يعني: أنه سبحانه خلَق الخلقَ كلَّهم ذوي فَقرٍ إلى الطعام؛ فكلُّ طاعم كان جائعًا حتى يُطعِمه اللهُ بسَوق الرِّزق إليه وتصحيح الآلات التي هيَّأها له، فلا يظُنَّ ذو الثروة أن الرزقَ الذي في يدِه وقد رفَعه إلى فِيه، أطعَمه إيَّاه أحدٌ غير الله تعالى، وفيه أيضًا أدبٌ للفقراء؛ كأنه قال: لا تَطلُبوا الطعام من غيري؛ فإن هؤلاء الذين تَطلبون منهم أنا الذي أُطعمهم، «فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ»، وكذلك ما بعده في أمرِ الكِساء[11].
وأمَّا الأمرُ الثَّالثُ الذي يُنوِّه به هذا الحديثُ، فبَيانُ سَعةِ مَغفرةِ اللهِ:
قال تعالى: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، كلمةُ «تُخْطِئُونَ»؛ أي: تفْعَلونَ ما تأْثَمونَ عليه[12]، وأما الاستغفارُ فهو طلَبُ المغفرة من الله، والعبد أحوجُ شيء إليه؛ لأنه يخطئ بالليل والنهار[13].
و"في هذا الكلام من التوبيخِ ما يَسْتحي منه كلُّ مؤمن؛ وذلك أن اللهَ خلَقَ الليل ليُطاع فيه، ويُعبَد بالإخلاص، حيث تسلَمُ الأعمال فيه غالبًا من الرِّياء والنفاق، أفلا يَستحي المؤمن ألَّا يُنفِق الليل في الطاعة؟! والنهار فإنه جُعِل مشهودًا من الناس، فيَنْبغي من كلِّ فطِن أن يُطيع الله فيه أيضًا، ولا يتظاهر بين الناس بالمخالَفة"[14].
فعلى المسلم أن يُبادر بالتوبة والاستغفار والمسارعة في الصالحات؛ فاللهُ واسعُ الــمغفرة، يبسُط يده باللَّيل ليتوبَ مُسيءُ النهار، ويَبسُط يده بالنهار ليتوب مُسيءُ الليل، ويغفرُ جميع الذُّنوب ولا يُبالي؛ كأنَّ اللهَ تعالى قال: وكيف يَحسُن بالمؤمن أن يُخطِئ سرًّا أو جهرًا؛ لأنه سبحانه وتعالى قد قال بعد ذلك: «وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا؛ فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»، فذكَر الذنوبَ بالألف واللام التي للتعريف، وأكَّدها بقوله: «جميعًا»، وإنما قال ذلك قبل أمرِه بالاستغفار في قوله: «فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ»؛ لئلا يَقنطَ أحدٌ من رحمة الله لعِظَم ذنْب ارتكبه[15].
وأمَّا الأمرُ الرابعُ الذي اشتمل عليه الحديثُ، فهو بيانُ عجزِ الـعباد عن النَّفع والضرِّ، وبيان غِنى الله عن عباده:
يقول سُبحانه: «يَا عِبَادِي، إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي»، ومعناه: "أن العباد لا يقدِرون أن يوصلوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا؛ فإن اللهَ تعالى في نفْسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعود نفْعُها إليه؛ وإنما هم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم؛ وإنما هم يتضرَّرون بها
قال الله تعالى:
﴿ وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ۚ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا﴾
[آل عمران: 176][16]
فاللهُ وحْدَه هو مَن يملك النَّفعَ والضرَّ.
ثمَّ يقول اللهُ : «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»، وفي هذا البيان "إشارة إلى أن مُلْكه سبحانه لا يَزيدُ بطاعة العباد، ولو كانوا كلُّهم بَرَرةً أتقياءَ، قلوبهم على قلب أتْقى رجُل منهم، ولا يَنقُص مُلْكُه سبحانه بمعصية العاصين، ولو كان الجنُّ والإنس كلُّهم عُصاةً فَجَرةً، قلوبُهم على قَلْب أفجرِ رجُلٍ منهم، فإنه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه، وله الكمالُ المطلَق في ذاته وصفاته وأفعاله، فمُلْكُه مُلكٌ كاملٌ، لا نقْصَ فيه بوجه من الوجوه"[17]، فلا يَزيد ملكُه سبحانه بطاعة الطائع، ولا يَنقُصُ بمعصية العاصي؛ وذلك "لأنه مرتبطٌ بقُدرته وإرادته، وهما باقيتانِ ذاتيَّتانِ، لا انقطاعَ لهما،
هذا الحديثُ من الأحاديث العَقَديَّة التي يَنبَني عليها أحْكامُ التوحيد، وهي تدخُل في باب الأسماء والصفات؛ فلله سبحانه الأسماءُ الحُسنى والصفات العُلى.
وفي الحديث إرشادٌ من النبيِّ ﷺ إلى الفَضل العظيم والثواب الجَزيل، فمَن أحْصى تلك الأسماءَ دخَل الجنَّة؛ "وفيه: «من أحصاها دخل الجنة»؛ أي: من أتى عليها حصرًا وتَعدادًا وعلمًا وإيمانًا، فدعا اللهَ بها، وذكره وسبَّحه وأثنى بها عليه - استحقَّ بذلك أن يدخل الجنة. وإنما ذكر دخوله الجنة على صيغة الماضي؛ تحقيقًا لذلك، وتنبيهًا على أن ذلك، وإن لم يكن بعدُ، فإنه في حكم الكائن" [1].
وأسماءُ الله - عزَّ وجلَّ - أكثرُ من أن تُحصى أو تُحفَظ، وليست أسماؤه تسعةً وتسعين اسمًا فحسبُ؛ بل المقصودُ هنا بيانُ تعظيم تلك الأسماء، وأنَّ مَن أحصاها دخل الجنة، وقد ثبَت أن الله عز وجلَّ له أسماءٌ أخرى لم يطَّلع عليها أحدٌ من الناس؛ كما في حديث ابن مسعود قال: قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ وَحَزَنٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، وَابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هَمَّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحًا»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: «أَجَلْ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ»[2].
وقد "اتَّفَق العلماءُ على أن هذا الحديث ليس فيه حصرٌ لأسمائه سبحانه وتعالى؛ فليس معناه أنه ليس له أسماءٌ غير هذه التسعة والتسعين؛ وإنما مقصودُ الحديث أن هذه التسعة والتسعين مَن أحصاها دخَل الجنة، فالمرادُ الإخبارُ عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبارُ بحصر الأسماء"[3].
وفي قوله: «مائةً إلا واحدًا» تأكيدٌ وحرصٌ على ذلك من النبيِّ ﷺ؛ لئلا يلتبسَ ذلك على مستمعٍ أو قارئٍ.
أما الإحصاءُ الذي به يَدخُل العبدُ الجنةَ، فقيل: هو الحفظُ
ومنه قوله تعالى:
﴿وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ ﴾
[يس: 12]
فيكون المرادُ منه: مَن حفِظ تلك الأسماءَ دخلَ الجنةَ. وقيل: الإحصاءُ: العَدُّ
ومنه قوله تعالى:
﴿لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ﴾
[الجن: 28]
والمعنى: أن يُحصيَها في الدعاء بها، فيدعوَ بجميع الأسماء، بما ناسَب حالَه، فيقول: يا غفورُ اغفرْ لي، يا رزَّاقُ ارزُقْني، وهكذا.
وقيل: أطاقها وعمِل بها
ومنه قوله تعالى:
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ
[المزمل: 20]
والمعنى: أطاق القيامَ بحقِّ هذه الأسماء، والعمل بمقتضاها؛ فإذا علِم أن الله تعالى هو الرزاقُ، كان على ثقة ويقين من أنه سيرزقُه، وإحصاءُ اسم الله تعالى الرحيم أن يرجوَ رحمتَه... وهكذا، كذلك فإن ما كان من أسماء الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداءُ بالله تعالى فيه من أسمائه؛ كالرحيم، والكريم، والعفوِّ، والغفور، والشكور، والتوَّاب، وشِبهها، فإن اللهَ تعالى يحبُّ أن يرى على عبده حُلاها، ويرضى له معناها، والاقتداء به تعالى فيها. وما كان منها لا يليقُ بالعبد معناها؛ كالله، والأحد، والقدير، والجبَّار، والمتكبِّر، والعظيم، والعزيز، والقويِّ، وشبهها، فإنه يجِبُ على العبد الإقرارُ بها، والتذلُّلُ والإشفاقُ منها. وما كان بمعنى الوعيد؛ كشديد العقاب، وعزيزٍ ذي انتقام، وسريع الحساب، وشبهها، فإنه يجِبُ على العبد الوقوفُ عند أمره، واجتنابُ نَهيه، واستشعارُ خشيته عزَّ وجلَّ، من أجلها؛ خوفَ وعيده وشديد عقابه، وقيل: معنى ذلك ختمُ القرآن وتلاوتُه كله؛ لأنه مُستَوفٍ لهذه الأسماء[4].
وقد يجوز أن يكون المعنى شاملًا لكلِّ تلك المعاني، فيكون المرادُ: مَن أحْصاها عدًّا، وحَفِظها وعمِل بها واعتقدَها، دخَل الجنة[5].
ثم أخبر النبيُّ ﷺ باسم من أسمائه تعالى، وصفةٍ من صفاته؛ وهو أنه وِترٌ، والوِتر: الفردُ، الذي
﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)﴾
[الإخلاص: 3، 4]
﴿ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾
[الإسراء: 111]
فالله سبحانه وتعالى لا شريكَ له ولا نظيرَ؛ ولذلك يحبُّ الوِترَ؛ فلذلك جعلَ الأعمالَ وِترًا؛ جعل الصلواتِ خمسًا، والطهارةَ أثلاثًا، والطوافَ سبعًا، وأيامَ التشريق ثلاثًا، والسمواتِ والأرَضين سبعًا[6].
ولمعرفة هذه الأسماء الحسنى، والعلم بها أفضالٌ كثيرة، وفوائدُ تعود على الفرد، منها[7] :
يأتي فضلها من تعلُّقها بالله تعالى، فمعرفة الله تعالى أهمُّ هدف من إرسال الرسل للبشر، كما أن أركان الإيمان تتضمَّن في رُكنها الأول أن تؤمن بالله، ولا يتمُّ الإيمان بالله إلا بمعرفة الأسماء الحسنى، ومعرفة الله تعالى بصفاته وبما فيها من أسماءِ رحمة تحبِّب فيه قلوب خَلقه، ومعرفة ما فيها من أسماء قوَّة وشدَّة تخوِّف عباده، فيَلجؤون إليه بالعبادة والطاعة والخشوع والخضوع، وما فيها من أسماء خَلْق وعَظَمة وقُدرة تجعله يَعظُم في قلوبهم، وهكذا.
يحبُّ الله تعالى هذه الأسماء، ويحبُّ أن يُدْعى بها
كما في قوله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
[الأعراف: 180]
وقوله:
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ
[الإسراء: 110]
ويحبُّ أن تؤثِّر في خَلقه.
الهَدَف من خلق البَشَر وتَسخيرِ كلِّ المخلوقات لهم، هو أن يَعرِفوه ويعبدوه، فاشتغال الإنسان بإحصائها والعلم بها اشتغالٌ بما خُلِق له.
إذا عُرفت أسماؤه الحسنى سبحانه وصفاته العُليا تبيَّن مَوطنُ الحكمة في تشريعاته وتحليله وتحريمه، وأن ذلك لا يكون إلَّا وَفْقَ أسمائه وصفاته.
تؤدِّي إلى سكون النفس، وطمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والنشاط في العبادة، والسعي نحو لقاء الله تعالى.
معرفتها تَجعَل الإنسان صابرًا على قضاء الله وقَدَره، وما ساقه للعبد؛ لعلمه بصفات الله تعالى، التي منها العدلُ والرحمة والحِكمة.
"فالسَّيرُ إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنُه عَجَبٌ، وفتحه عجبٌ! صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مُستلقٍ على فِراشه غيرُ تَعِبٍ ولا مكدودٍ، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه"[8].
وقد حاول كثيرون إحصاء تسعة وتسعين اسمًا من أسماء الله تعالى؛ ليقعوا تحت بُشرى هذا الحديث، ومنهم من اقترب من الْمُجمَع عليه، ومنهم من ابتعد وخَلَط، وسنَذكُر بعضًا من الاجتهادات فيها ومعانيها؛ لتقريب فَهمها، ولفتح الباب للتأمُّل فيها وتدبُّرها والعمل بمقتضاها، والعيش في رِحابها، ومحاولة التعرُّض لفضل هذا الحديث:
الله: وهو الاسم الأعظم الذي تفرَّد به الحقُّ سبحانه، وخصَّ به نفسه، وجعله أوَّل أسمائه، وأضافها كلَّها إليه؛ فهو علَمٌ على ذاته سبحانه.
الرَّحْمن: كثير الرَّحمة، وهو اسم مقصور على الله عزَّ وجلَّ، ولا يجوز أن يُقال: رحمن، لغير الله؛ وذلك لأن رحمته وسعت كلَّ شيء، وهو أرحم الراحمين.
الرَّحِيم: هو المنعِم أبدًا، المتفضِّل دومًا، فرحمته لا تنتهي.
المَلِك: مَلِك الملوك، له الملك، وهو مالك يوم الدين، ومليك الخلق؛ فهو المالك المطلَق.
- الْقُدُّوس: هو الطاهر المنزَّه عن العيوب والنقائص، وعن كلِ ما تحيط به العقول.
السَّلَام: هو ناشر السلام بين الأنام، وهو الذي سَلِمت ذاته من النقص والعيب والفناء.
المُؤْمِن: هو الذي سلم أولياؤه من عذابه، والذي يَصدُق عباده ما وَعَدهم.
- الْمُهَيْمِن: هو الرقيب الحافظ لكلِّ شيء، القائم على خلقه بأعمالهم، وأرزاقهم وآجالهم، والمطَّلع على خفايا الأمور، وخبايا الصدور.
الْعَزِيز: هو المنفرد بالعزة، الظاهر الذي لا يُقهَر.
الْجَبَّار: هو الذي تنفُذ مشيئته، ولا يَخرُج أحد عن تقديره، وهو القاهر لخلقه على ما أراد.
الْمُتَكَبِّر: هو المتعالي عن صفات الخلق المنفرد بالعظمة والكبرياء.
الْخَالِق: هو الفاطر المبدِع لكلِّ شيء، والمقدِّر له والموجِد للأشياء من العَدَم.
- الْبَارِئ: هو الذي خلق الخلق بقدرته، لا عن مثال سابق، القادر على إبراز ما قدَّره إلى الوجود.
الْمُصَوِّر: هو الذي صوَّر جميع الموجودات، ورتَّبها فأعطى كلَّ شيء منها صورة خاصَّة، وهيئة منفردة، يتميَّز بها على اختلافها وكثرتها.
اَلْغَفَّار: هو وحدَه الذي يَغفِر الذنوب، ويَستُر العيوب في الدنيا والآخرة.
الْقَهَّار: هو الغالب الذي قَهَر خلقه بسُلطانه وقدرته، وخضعت له الرقاب، وذلَّت له الجبابرة، وصرف خلقه على ما أراد طَوعًا وكرهًا، وعَنَت الوجوه له.
الْوَهَّاب: هو الْمُنعِم على العباد، الذي يهب بغير عِوَض، ويعطي الحاجة بغير سؤال، كثير النعم، دائم العطاء.
الرَّزَّاق: هو الذي خلق الأرزاق، وأعطى كلَّ الخلائق أرزاقها، ويَمُدُّ كلَّ كائن بما يحتاجه، ويحفظ عليه حياته ويُصلحه.
الْفَتَّاح: هو الذي يَفتَح مغلَق الأمور، ويسهِّل العسير، وبيده مفاتيح السماوات والأرض.
الْعَلِيم: هو الذي يعلم تفاصيل الأمور، ودقائق الأشياء، وخفايا الضمائر والنفوس، لا يَعزُب عنه مثقال ذرَّة، فعلمُه يحيط بجميع الأشياء.
الْقَابِضُ: الذي يَقبِض الرزق عمَّن يشاء من الخلق بعدله وحكمته.
- الْبَاسِطُ: الذي يوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده بجوده ورحمته، فهو سبحانه القابض الباسط.
الخَافِض: هو الذي يَخفِض كلَّ من طغى وتجبَّر وخرج على شريعته وتمرَّد.
الرَّافِعُ: هو الذي يرفع عباده المؤمنين بالطاعات، ويرفعهم على عدوِّهم فيَنصُرهم، وهو رافع السماوات السبع.
المُعِز:هو الذي يهب القوَّة والغَلَبة والشدَّة لمن شاء فيُعزُّه.
المُذِل: هو الذي يَنزِع القوة والغلبة والشدَّة عمن يشاء فيُذِلُّه.
- السَّمِيعُ: الذي يسمع جميع الأصوات الظاهرة والباطنة، الخَفيَّة والجَليَّة، وإحاطته التامَّة بها، يسمع إجابة السائلين والداعين والعابدين، فيُجيبهم ويُثيبهم.
الْبَصِير: هو الذي يرى الأشياء كلَّها، ظاهرها وباطنها، وهو المحيط بكلِّ شيء علمًا.
الْحَكَم: هو الذي يفصل بين مخلوقاته بما شاء، ويفصل بين الحقِّ والباطل، لا رادَّ لقضائه، ولا معقِّب لحُكمه.
العَدْل: هو الذي حرَّم الظُّلم على نفسه، وجعله على عباده محرَّمًا، فهو المنزَّه عن الظلم والجَور في أحكامه وأفعاله، الذي يعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
اللَّطِيفُ: هو البَرُّ الرفيق بعباده، يرزق وييسِّر ويحسِن إليهم، ويَرفُق بهم، ويتفضَّل عليهم.
الْخَبِيرُ: هو العليم بدقائق الأمور، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عن علمه شيء، فهو العالم بما كان وما يكون.
- الْحَلِيمُ: هو الصبور الذي يمهِل ولا يُهمِل، ويَستُر الذنوب، ويؤخِّر العقوبة، فيرزق العاصيَ كما يَرزُق الْمُطيع.
- الْعَظِيمُ: هو العظيم في كلِّ شيء، عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته، عظيمٌ في رحمته، عظيم في قدرته، عظيم في حكمته، عظيم في جَبروته وكِبريائه، عظيم في هبته وعطائه، عظيم في خبرته ولُطفه، عظيم في بِرِّه وإحسانه، عظيم في عزَّته وعدله وحمده، فهو العظيم المطلَق، فلا أحد يساويه، ولا يُدانيه.
- الْغَفُورُ: هو الساتر لذنوب عباده، المتجاوز عن خطاياهم وذنوبهم.
- الشَّكُورُ: هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيتقبَّلها ويضاعف أجرها.
- الْعَلِيُّ: هو الرفيع القَدْرِ، فلا يحيط به وصف الواصفين، المتعالي عن الأنداد والأضداد، فكلُّ معاني العلوِّ ثابتة له ذاتًا وقهرًا وشأنًا.
الْكَبِيرُ: هو العظيم الجليل ذو الكبرياء في صفاته وأفعاله، فلا يحتاج إلى شيء، ولا يُعجزه شيء
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾
- الْحَفِيظُ: هو الذي لا يَعزُب عن حفظه شيء ولو كمثقال الذرِّ؛ فحِفظُه لا يتبدَّل ولا يزول ولا يعتريه التبديل.
المُقِيت: هو المتكفِّل بإيصال أقوات الخلق إليهم، وهو الحفيظ والمقتدر والقدير والمقدِّر.
- الْحَسِيبُ: هو الكافي الذي يكفي العباد بفضله.
الجَلِيل: هو العظيم المتَّصِف بجميع صفات الكمال، والمنعوت بكمالها، المنزَّه عن كلِّ نقص.
الْكَرِيمُ: هو الكثير الخير، الجَوَاد، المعطي الذي لا يَنفَد عطاؤه، وهو الكريم المطلَق الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، المحمود بفعاله.
- الرَّقِيبُ: هو الرقيب الذي يراقب أحوال العباد، ويعلم أقوالهم، ويُحصي أعمالهم، وهو الحافظ الذي لا يَغيب عنه شيء.
- الْمُجِيبُ: هو الذي يُجيب دعاء من دعاه، وسؤال من سأله، ويقابله بالعطاء والقَبول، ولا يُسأل أحد سواه.
الْوَاسِعُ: هو الذي وَسِع رزقه جميع خَلقه، ووَسِعت رحمته كلَّ شيء، المحيط بكلِّ شيء.
اَلْحَكِيمُ: هو المحقُّ في تدبيره، اللطيف في تقديره، الخبير بحقائق الأمور، العليم بحكمه المقدور، فجميع خلقه وقضائه خير وحكمة وعدل.
الْوَدُودُ: هو المحبُّ لعباده، والمحبوب في قلوب أوليائه.
الْمَجِيدُ: هو الذي تمجَّد بفعاله، ومجَّده خَلْقُه لعظمته، والمجيد هو واسع الكرم، ووصف نفسه بالمجيد وهو متضمِّن كثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها، وسعة أفعاله، وكثرة خيره ودوامه. وتعني أيضًا البالغَ النهايةَ في المجد، الكثير الإحسان، الجزيلَ العطاءُ، العظيمَ البِرُّ.
البَاعِث: هو باعث الخلق يومَ القيامة، وباعث رسله إلى العباد، وباعث المعونة إلى العبد.
الشَّهِيدُ: هو الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء، فهو المطَّلع على كلِّ شيء مشاهد له عليم بتفاصيله.
الْحَقُّ: هو الذي يُحِقُّ الحقَّ بكلماته، ويؤيِّد أولياءه، فهو المستحقُّ للعبادة.
الْوَكِيلُ: هو الكفيل بالخلق، القائم بأمورهم؛ فمن توكَّل عليه تولَّاه وكَفَاه، ومن استغنى به، أغناه وأرضاه.
- الْقَوِيّ: هو صاحب القدرة التامَّة البالغة الكمال، غالبٌ لا يُغلَب؛ فقوَّته فوق كلِّ قوَّة، ولا يَرُدُّ قضاءه رادٌّ، يَنفُذ أمره، ويمضي قضاؤه في خلقه، شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُجَجه.
الْمَتِينُ: هو الشديد الذي لا يحتاج في إمضاء حُكمه إلى جُند أو مَدد، ولا إلى مُعين، فهو المتناهي في القوَّة، الذي لا تلحق أفعاله مشقَّة، ولا يمسُّه فيها لُغوب.
الْوَلِيُّ: هو المحبُّ الناصر لمن أطاعه، يَنصُر أولياءه، ويَقهَر أعداءه، والمتولِّي لأمور الخلائق ويَحفَظهم.
الْحَمِيدُ: هو المستحقُّ للحمد والثناء، له منتهى الحمد وأطيبُه على ذاته وصفاته، وعلى نعمه التي لا تُحصى.
الْـمُحْصِي: هو الذي أحصى كلَّ شيء بعلمه، فلا يفوته منها دقيقٌ ولا جليل.
- المُبدِئ: هو الذي أنشأ الأشياء، واخترعها ابتداءً من غير سابق مثال.
المُعِيد: هو الذي يُعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعد الممات إلى الحياة يوم القيامة.
المُحيِي: هو خالق الحياة ومعطيها لمن شاء، يُحيي الخلق من العدم، ثم يُحييهم بعد الموت.
المُمِيت: هو مقدِّر الموت على كلِّ من أماته، ولا مميت سواه، قَهَر عباده بالموت متى شاء وكيف شاء.
الْحَيُّ: هو المتَّصِف بالحياة الأبدية التي لا بداية لها ولا نهاية، فهو الباقي أَزَلاً وأبدًا، وهو الحيُّ الذي لا يموت.
الْقَيُّومُ: هو القائم بنفسه، الغنيُّ عن غيره، وهو القائم بتدبير أمر خلقه في إنشائهم ورزقهم.
الوَاجِد: هو الذي لا يُعْوِزه شيء، ولا يُعجزه شيء، يَجِد كلَّ ما يطلبه، ويُدرك كلَّ ما يريده.
المَاجِد: هو الذي له الكمال المتناهي، والعزُّ الباهي، له العزُّ في الأوصاف والأفعال، الذي يعامل العباد بالجود والرحمة.
الْوَاحِدُ: هو الفرد المتفرِّد في ذاته وصفاته وأفعاله، واحد في مُلكه لا ينازعه أحد، لا شريك له سبحانه.
- الصَّمَدُ: هو المطاع الذي لا يُقضى دونه أمر، الذي يُقصَد إليه في الحوائج، فهو مقصد عباده في مهمَّات دينهم ودنياهم.
الْقَادِرُ: هو الذي يقدر على إيجاد المعدوم، وإعدام الموجود، على قدر ما تقتضي الحكمة، لا زائدًا عليه، ولا ناقصًا عنه.
- الْمُقْتَدِرُ: هو الذي يَقدِر على إصلاح الخلائق على وجهٍ لا يَقدِر عليه غيره.
الْمُقَدِّمُ: هو الذي يقدِّم الأشياء ويَضَعُها في مواضعها، فمن استحقَّ التقديم قدَّمه.
الْمُؤَخِّرُ: هو الذي يؤخِّر الأشياء فيضعها في مواضعها، المؤخِّر لمن شاء من الفجَّار والكفَّار، وكل من يستحقُّ التأخير.
الْأَوَّلُ: هو الذي لم يسبقه في الوجود شيء، فهو أوَّل قبل الوجود.
الْآخِرُ: هو الباقي بعد فناء خلقه البقاء الأبديَّ، يفنى الكلُّ وله البقاء وحدَه، فليس بعده شيء.
الظَّاهِرُ: هو الذي ظهر فوق كلِّ شيء، وعلا عليه، الظاهر وجودُه لكثرة دلائله.
الْبَاطِنُ: هو العالم ببواطن الأمور وخفاياها، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد.
الوَالِي: هو المالك للأشياء المتصرِّف فيها بمشيئته وحكمته، يَنفُذ فيها أمره، ويجري عليها حُكمه.
الْمُتَعَالِ: هو الذي جلَّ عن إفك المفترين، وتنزَّه عن وساوس المتحيِّرين.
- الْبِرُّ: هو العَطوف على عباده ببرِّه ولُطفه، ومنَّ على السائلين بحُسن عطائه، وهو الصادق فيما وَعَد.
- التَّوَّابُ: هو الذي يوفِّق عباده للتوبة؛ حتى يتوب عليهم، ويَقبَل توبتهم، فيقابل الدعاء بالعطاء، والتوبة بغُفران الذنوب.
الْمُنْتَقِمُ: هو الذي يقسم ظهور الطغاة، ويشدِّد العقوبة على العصاة، وذلك بعد الإعذار والإنذار.
العَفُو: هو الذي يترك المؤاخذة على الذنوب، ولا يذكِّرك بالعيوب، فهو يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي.
الرَّؤُوفُ: هو المتعطِّف على المذنِبين بالتوبة، الذي جاد بلُطفه، ومَنَّ بتعطُّفه، يَستُر العيوب ثم يعفو عنها.
مَالِكُ الْمُلْكِ: هو المتصرِّف في مُلكه كيف يشاء، لا رادَّ لحُكمه، ولا معقِّب لأمره.
ذُو الْجَلَالِ والْإكْرَامِ: هو المنفرد بصفات الجلال والكمال والعظمة، المختصُّ بالإكرام والكرامة، وهو أهل لأن يُجَلَّ.
المُقسِّط: هو العادل في حُكمه، الذي ينتصف للمظلوم من الظالم، ثم يُكمل عَدْلَه فيُرضي الظالم بعد إرضاء المظلوم.
الْجَامِعُ: هو الذي جمع الكمالاتِ كلَّها، ذاتًا ووصفًا وفعلاً، الذي يجمع بين الخلائق المتماثلة والمتباينة، والذي يجمع الأوَّلين والآخرين.
الْغَنِيُّ: هو الذي لا يحتاج إلى شيء، وهو المستغني عن كلِّ ما سواه، المفتقِر إليه كلُّ من عاداه.
المُغنِي: هو مُعطي الغنى لعباده، يُغني من يشاء غناه، وهو الكافي لمن شاء من عباده.
المُعطي: هو الذي أعطى كلَّ شيء.
الضَّارُّ: هو المقدِّر للضُّرِّ على من أراد كيف أراد.
النَّافِع: المقدِّر للنفع والخير لمن أراد كيف أراد، كلُّ ذلك على مقتضى حِكمته سبحانه.
النُّورُ: هو الهادي الرشيد الذي يُرشد بهدايته من يشاء، فيُبيِّن له الحقَّ، ويُلهمه اتِّباعه، الظاهر في ذاته، المظهِر لغيره.
الْهَادِي: هو المبيِّن للخلق طريق الحقِّ بكلامه، يَهدي القلوب إلى معرفته، والنفوسَ إلى طاعته.
- الْبَدِيعُ: هو الذي لا يماثله أحدٌ في صفاته، ولا في حُكم من أحكامه، أو أمر من أموره، فهو المحدِث الموجِد على غير مِثال.
الباقي: هو وحدَه له البقاء، الدائم الوجود، الموصوف بالبقاء الأزليِّ، غير قابل للفناء؛ فهو الباقي بلا انتهاء.
الْوَارِثُ: هو الأبقى الدائم الذي يرث الخلائق بعد فناء الخَلق، وهو يرث الأرض ومن عليها.
الرَّشِيد: هو الذي أسعد من شاء بإرشاده، وأشقى من شاء بإبعاده، عظيم الحكمة، بالغ الرشاد.
الصَّبُور: هو الحليم الذي لا يعاجل العصاة بالنِّقمة؛ بل يعفو ويؤخِّر، ولا يُسرع بالفعل قبل أوانه.
المراجع
- انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتُّورِبِشْتِي (2/ 526).
- أخرجه أحمد (4318)، وابن حبان في صحيحه (972)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (10/ 136).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 5).
- انظر: "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاري) للخطَّابيِّ (2/ 1342)، "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 420)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (3/ 493).
- انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (33/ 230).
- انظر: "إكمال الْمُعلِم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 177)، "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 6).
- انظر: "تخريج أحاديث الأسماء الحسنى" لابن حجر العسقلانيِّ، "فتح الباري" لابن حجر (11/224)، "فقه الأسماء الحسنى" لعبد الرزاق بن عبد المحسن البدر، الترمذيَّ (3574).
- انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص393-394).
يروي أبو هُرَيْرَةَ عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا»: المقصودُ هنا بيانُ تعظيم تلك الأسماء، لا حصرُها، والإخبارُ عن دخول الجنة بإحصائها. «مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا»: هو تأكيد للجُملة الأولى؛ ليرفع به وهم من يتوهَّم في النُّطق أو الكتابة. «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ»؛ أي: مَن عَدَّها، وحَفِظَها ألفاظًا، وفَهِم معانيَها ومدلولاتِها، وعَمِل بمقتضياتها وأحكامها، ودعا اللهَ بها دعاءَ ثَنَاء وعبادة، ودعاءَ طَلَب ومسألة.
يقول ﷺ: «إِنَّهُ وِتْرٌ»؛ أي: فَرْدٌ؛ فاللَّه واحدٌ، لا شَبيهَ له، ولا مثيلَ، ولا شَرِيكَ. «يُحبُّ الوِتْر»؛ أَيْ: يُثيب عليه، ويَقبَله من عامله.
النقولقال ابن بطَّال رحمه الله: "قال ابن الطيِّب: وليس في الحديث دليلٌ على أن ليس لله تعالى أكثر من تسعةٍ وتسعين اسمًا؛ لكن ظاهر الحديث يقتضي من أحصى تلك التسعة وتسعين اسمًا على وجه التعظيم لله، دَخَل الجنة، وإن كان له أسماءٌ أُخَرُ. وقال أبو الحسن بن القابسيِّ - رحمه الله -: أسماء الله وصفاته لا تُعلَم إلا بالتوقيف، والتوقيفُ كتاب الله تعالى وسنَّة نبيِّه - عليه السلام - أو اتِّفاق أمَّته، وليس للقياس في ذلك مدخل، وما أجمعت عليه الأمَّة، فإنما هو عن سَمْعٍ عَلِموه من بيان الرسول. قال: ولم يُذكَر في كتاب الله لأسمائه تعالى عددٌ مسمًّى، وقد جاء حديث أبى هريرة عن النبيِّ ﷺ: «إن لله تسعةً وتسعين اسمًا»، وقد أخرج بعض الناس من كتاب الله تعالى تسعةً وتسعين اسمًا، واللهُ أعلمُ بما خرج من هذا العدد إن كان كلُّ ذلك أسماءً، أو بعضُها أسماءً وبعضُها صفاتٍ، ولا يَسلَم له ما نَقَله من ذلك. وقال الداوديُّ: لم يَثبُت عن النبيِّ ﷺ أنه نصَّ على التسعة والتسعين اسمًا"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "اتَّفَق العلماءُ على أن هذا الحديث ليس فيه حصرٌ لأسمائه سبحانه وتعالى؛ فليس معناه أنه ليس له أسماءٌ غير هذه التسعة والتسعين؛ وإنما مقصودُ الحديث أن هذه التسعة والتسعين مَن أحصاها دخَل الجنة، فالمرادُ الإخبارُ عن دخول الجنة بإحصائها، لا الإخبارُ بحصر الأسماء"[2].
قال ابن تيميَّة رحمه الله: "إن التسعة والتسعين اسمًا لم يَرِدْ في تعيينها حديثٌ صحيح عن النبيِّ ﷺ، وأشهرُ ما عند الناس فيها حديثُ الترمذيِّ، الذي رواه الوليدُ بنُ مُسلمٍ، عن شُعَيْبٍ، عن أبي حَمزةَ، وحُفَّاظُ أهل الحديث يقولون: هذه الزيادة مما جمعه الوليدُ بنُ مسلم عن شيوخه من أهل الحديث، وفيها حديثٌ ثانٍ أضعفُ من هذا، رواه ابنُ ماجهْ، وقد رُوي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف"[3] .
قال ابن الأثير رحمه الله: "أي: من أحصاها علمًا بها وإيمانًا. وقيل: أحصاها؛ أي: حَفِظها على قلبه. وقيل: أراد من استخرجها من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله؛ لأن النبيَّ ﷺ لم يَعُدَّها لهم، إلا ما جاء في رواية عن أبي هريرة، وتكلَّموا فيها. وقيل: أراد من أطاق العمل بمقتضاها؛ مثل من يعلم أنه سميع بصير، فيكفُّ لسانه وسمعه عمَّا لا يجوز له، وكذلك باقي الأسماء. وقيل: أراد من أَخطَر ببالِه عند ذكرها معناها، وتفكَّر في مدلولها معظِّمًا لمسمَّاها، ومقدِّسًا معتبِرًا بمعانيها، ومتدبِّرًا راغبًا فيها وراهبًا" [4].
قال التُّورِبِشْتِيُّ رحمه الله: "وفيه: «من أحصاها دخل الجنة»؛ أي: من أتى عليها حصرًا وتَعدادًا وعلمًا وإيمانًا، فدعا اللهَ بها، وذكره وسبَّحه وأثنى بها عليه - استحقَّ بذلك أن يدخل الجنة. وإنما ذكر دخوله الجنة على صيغة الماضي؛ تحقيقًا لذلك، وتنبيهًا على أن ذلك، وإن لم يكن بعدُ، فإنه في حكم الكائن"[5].
"قال الخطَّابيُّ رحمه الله: وفيه دليلٌ على أن أشهر أسمائه: اللهُ؛ لإضافة هذه الأسماء له، وقد جاء في بعض الروايات: "إن الله هو اسمه الأعظم". قال أبو القاسم الطبريُّ: وإليه يُنسَب كلُّ اسم، وقال: الرؤوف والكريم من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرؤوف ولا الكريم، وفيه إثبات الأسماء المحصورة بهذا العدد. قال: وليس مقتضاه أنه ليس له أسماء غيرها"[6].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "فإن قال قائلٌ: كيف وجهُ إحصائها عملاً؟ قيل له: وجهُ ذلك أن ما كان من أسماء الله تعالى مما يجب على المؤمن الاقتداءُ بالله تعالى فيه من أسمائه؛ كالرحيم، والكريم، والعفوِّ، والغفور، والشكور، والتوَّاب، وشبهها، فإن اللهَ تعالى يحبُّ أن يرى على عبده حُلاها، ويرضى له معناها، والاقتداء به تعالى فيها، وما كان منها لا يليقُ بالعبد معناها؛ كالله، والأحد، والقدير، والجبَّار، والمتكبِّر، والعظيم، والعزيز، والقويِّ، وشبهها، فإنه يجِبُ على العبد الإقرارُ بها، والتذلُّلُ والإشفاقُ منها، وما كان بمعنى الوعيد؛ كشديد العقاب، وعزيزٍ ذي انتقام، وسريع الحساب، وشبهها، فإنه يجِبُ على العبد الوقوفُ عند أمره، واجتنابُ نَهيه، واستشعارُ خشيته عزَّ وجلَّ، من أجلها؛ خوفَ وعيده وشديد عقابه، وقيل: معنى ذلك ختمُ القرآن وتلاوتُه كله؛ لأنه مُستَوفٍ لهذه الأسماء[7].
قال النوويُّ رحمه الله: "الْوِتْرُ الْفَرْدُ، ومعناه في حَقِّ اللَّهِ تعالى: الواحدُ الذي لا شَرِيكَ له ولا نظير، ومعنى (يحبّ الوتر): تفضيل الوتر في الأعمال وكثير من الطاعات، فجعل الصّلاة خمسًا، والطّهارة ثلاثًا، والطّواف سبعًا، والسّعي سبعًا، ورميَ الجمار سبعًا، وأيّام التّشريق ثلاثًا، والاستنجاء ثلاثًا، وكذا الأكفان، وفي الزكاة خمسةُ أَوْسُقٍ، وخمس أَوَاقٍ من الوَرِق، ونصاب الإبل، وغير ذلك، وجعل كثيرًا من عظيم مخلوقاته وترًا، منها: السموات، والأرضون، والبحار، وأيام الأسبوع، وغير ذلك"[8].
قال ابن القيم رحمه الله: "فالسَّيرُ إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنُه عَجَبٌ، وفتحه عجبٌ! صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مُستلقٍ على فِراشه غيرُ تَعِبٍ ولا مكدودٍ، ولا مشتَّتٍ عن وطنه، ولا مشرَّدٍ عن سكنه"[9].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 141، 142).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 5).
- "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 380).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 397).
- "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتُّورِبِشْتِيِّ (2/ 526).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 175).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 420).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 6).
- انظر: "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص393-394).
غريب الحديث
أحصاها: حفِظَها، وقيل: أطاقَ العملَ بها، وقيل: عدَّها[1].
الْوِتْرُ: الفَرْدُ، وتُكْسَر وَاوُه وتُفْتَح. فاللَّه واحدٌ، لا شِبْهَ له، ولا مِثْلَ، ولا شَرِيكَ.
المراجع
- قال ابن الأثير: "أي: من أحصاها علمًا بها وإيمانًا. وقيل: أحصاها؛ أي: حَفِظها على قلبه. وقيل: أراد من استخرجها من كتاب الله تعالى وأحاديث رسوله؛ لأن النبيَّ لم يَعُدَّها لهم، إلا ما جاء في رواية عن أبي هريرة، وتكلَّموا فيها. وقيل: أراد من أطاق العمل بمقتضاها؛ مثل من يعلم أنه سميع بصير، فيكفُّ لسانه وسمعه عمَّا لا يجوز له، وكذلك باقي الأسماء. وقيل: أراد من أَخطَر ببالِه عند ذكرها معناها، وتفكَّر في مدلولها معظِّمًا لمسمَّاها، ومقدِّسًا معتبِرًا بمعانيها، ومتدبِّرًا راغبًا فيها وراهبًا". "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 397).
أَعُوذُ بِكَ: يقال: عُذْتُ به، أعوذ عَوْذًا وعِيَاذًا ومَعَاذًا؛ أي: لجأتُ إليه، والمعنى: لقد لجأتُ إلى ملجأٍ، ولُذْتُ بمَلَاذٍ[1].
أَبُوءُ: أعترف طَوْعًا، وباءَ فلانٌ بذنبه: إذا احتَمَله كُرْهًا، ولم يستطع دَفعَه[2].
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 318).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 103).
يروي شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ»؛ أي: أفضلُ صيغ الاستغفار، وأشرفُها، وأكثرُها نفعًا وثوابًا أن تقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت خالقي والمتصرِّف فيَّ، ولا معبودَ لي غيرُك. «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي. «وأنا على عهدك»؛ أي: على ما عاهدتُكَ عليه وواعدتُكَ من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك. «ووعدك»؛ أي: وعده تعالى أنه مَن مات لا يُشرك بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه، أن يدخل الجنة. «ما استطعتُ»؛ أي: قَدْرَ استطاعتي. «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ»؛ أي: ألجأ إليك، وألوذ وأستجير بك من شرِّ أعمالي. «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنت»؛ أي: أعترف طَوْعًا، وأُقِرُّ بنِعَمِكَ عليَّ التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وأعترف بذنوبي، فاغفرها لي؛ فإنه لا يغفرها غيرُك.
قال ﷺ:
«وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»
أي: من قالها في نهار أو ليل مخلصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها، ومؤمِنًا بمعانيها، ثم مات، فهو من أهل الجنة.
الشرح المفصَّل للحديث:يتقلَّب الإنسان في حياته بين نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تستوجب الحمد والشكر
قال تعالى:
{ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}
[النحل: 18]
وقال تعالى:
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
[لقمان: 20]
وبين ذُنوب يقع فيها، ومعاصٍ يقترفها، تستلزم التوبة، فإذا اقترف العبد ذنبًا، أو وقع في معصية، وأراد الاستغفار، فله أن يستغفر ربَّه بأيِّ لفظ شاء، فيقول: اللهم اغفر لي، أو يقول: أستغفر الله، أو غيرهما، فالاستغفارُ له صيغ متنوِّعة، وألفاظ كثيرة، وأفضلها على الإطلاق؛ كما قال النبيُّ ﷺ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ»؛ أي: أفضل صيغ الاستغفار، وأكثرُها نفعًا وثوابًا، و"السيِّد هنا مستعارٌ من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، كهذا الدعاء، الذي هو جامعٌ لمعاني التوبة كلِّها"[1]، «اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ»؛ أي: أنت سيِّدي، ومالكي، لا معبودَ لي غيرُك، ولا ربَّ لي سواك، «خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ»؛ أي: لا يستحقُّ أحدٌ أن أتوجَّه إليه بالعبادة غيرُك، فأنت خالقي، «وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ»؛ أي: ما عاهدتُكَ عليه وواعدتُكَ من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، "يعني العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}
[الأعراف: 172]
فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية، والوعدُ: هو ما وَعَدهم تعالى أنه مَن مات لا يُشرك منهم بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة[2]"[3]، وهذا معنًى له وجاهته، «مَا اسْتَطَعْتُ»؛ أي: أحافظ على عهدي، ووعدي، قَدْرَ استطاعتي، فلا أحد يستطيع أن يؤدِّيَ حقَّ الله عليه، ولا شكر نِعَمه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى
قال تعالى:
{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}
[النحل: 18]
ولذلك لم يكلِّف الله العباد فوق استطاعتهم
قال تعالى:
{ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}
[البقرة: 286]
وتجاوز عمَّا فوق ذلك، واشتراط الاستطاعة في ذلك معناه: الاعتراف بالعجز والتقصير عن القيام بحقوق الله، وواجباته عليَّ [4]. «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ»؛ أي: ألجأ إليك، وأستجير بك من شرِّ أعمالي، «أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنت»؛ أي: أقرُّ بنِعَمِكَ الكثيرة عليَّ، وأعترف بذنوبي، وأطلب منك المسامحة في تقصيري، وغفران ذنوبي؛ فإنه لا يغفرها غيرك
قال تعالى:
{وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
[البقرة: 199]
"اعترف أوَّلاً بأنه أَنعَم عليه، ولم يقيِّده؛ لأنه يشمل أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شُكرها، ثم بالغ فعَدَّه ذنبًا؛ مبالغةً في التقصير، وهضم النفس"[5].
«مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»؛ أي: من قالها في نهار أو ليل مخلصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها، ومؤمِنًا بمعانيها، ثم مات، فهو من أهل الجنة.
"جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو"[6]، فالذُّلُّ، والانكسار بين يدَيِ الله تعالى، يفتح على العبد أبواب الخير والفلاح، فـ"من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[7].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1844).
- يريد بذلك حديث أَبِي ذَرٍّ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي، فَأَخْبَرَنِي - أَوْ قَالَ: بَشَّرَنِي - أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ» رواه البخاريُّ (1237)، ومسلم (94).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75).
- "أعلام الحديث" للخطَّابيِّ (3/ 2237).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1845).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله ﷺ: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ» يعنى: العهد الذي أخَذَه الله على عباده في أصل خلقهم، حين أخرجهم من أصلاب آبائهم أمثال الذَّرِّ، وأشهدهم على أنفسهم:
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ}
[الأعراف: 172]
فأقرُّوا له في أصل خلقهم بالربوبية، وأذعنوا له بالوَحدانية، والوعدُ: هو ما وَعَدهم تعالى أنه مَن مات لا يُشرك منهم بالله شيئًا، وأدَّى ما افترض الله عليه أن يدخل الجنة، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يدعوَ الله تعالى أن يُمِيتَه على ذلك العهد، وأن يتوفَّاه الله على الإيمان؛ لينال ما وعد تعالى مَن وَفَى بذلك؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ في دعائه بذلك. إن أحدًا لا يقدر على الإتيان بجميع ما لله، ولا الوفاء بجميع الطاعات والشكر على النِّعَم؛ إذ نِعَمُه تعالى كثيرةٌ ولا يُحاط بها
ألا ترى قوله تعالى:
{وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً}
[لقمان: 20]
فمن يَقدِر مع هذا أن يؤدِّيَ شكر النِّعم الظاهرة، فكيف الباطنة؟! لكن قد رَفَق الله بعباده، فلم يكلِّفهم من ذلك إلا وُسْعهم، وتجاوز عمَّا فوق ذلك، وكان ﷺ يمتثل هذا المعنى في مبايعته للمؤمنين، فيقول: أبايعكم على السمع والطاعة فيما استطعتم. فإن قيل: أين لفظ الاستغفار في هذا الدعاء، وقد سمَّاه النبىُّ ﷺ سيِّد الاستغفار؟ قيل: الاستغفار في لسان العرب هو طلب المغفرة من الله تعالى وسؤاله غُفران الذنوب السالفة، والاعتراف بها، وكلُّ دعاء كان في هذا المعنى فهو استغفار، مع أن في الحديث لفظ الاستغفار، وهو قوله: «فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وقال: «من قالها موقِنًا بها» يعني: مخلِصًا من قلبه، ومصدِّقًا بثوابها؛ فهو من أهل الجنة، وهذا كمعنى قوله ﷺ: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه». وقوله: «أبوء لك بنعمتك وأبوء بذنبي» قال صاحب الأفعال: باء بالذنب: أقرَّ"[1].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «سيد الاستغفار»: السيِّد هنا مستعار من الرئيس المقدَّم، الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور بهذا الدعاء، الذي هو جامع لمعاني التوبة كلِّها؛ فالتوبةُ غاية الاعتذار. وقوله: «وأنا عبدك» يجوز أن تكون مؤكِّدة، وأن تكون مقدَّرة؛ أي: أنا عابدٌ لك. قوله: «وأنا على عهدك، ووعدك» يريد أنا على ما عاهدتُك عليه، وواعدتُك من الإيمان بك، وإخلاص الطاعة لك، وقد يكون معناه: إني مقيم على ما عاهدت إليَّ من أمرك، ومتمسِّك به، ومنتجزٌ وعدَك في المثوبة، والأجر عليه. واشتراط الاستطاعة في ذلك، معناه الاعتراف بالعجز، والقصور عن كُنْهِ الواجب من حقِّه عزَّ وجلَّ. أقول: ويجوز أن يُراد بالعهد والوعد ما في قوله:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا}
[الأعراف: ١٧٢]
قوله: «أبوء لك»؛ أي: ألتزم وأَرجِع، وأُقِرُّ، وأصَلُ البَوْء اللُّزوم، ومنه الحديث: «فقد باء أحدهما»؛ أي: أَلزَمه، ورَجَع به. أقول: "اعترف أوَّلاً بأنه تعالى أَنعَم عليه، ولم يقيِّده؛ ليشمل كل الإنعام، ثم اعتَرَف بالتقصير، وأنه لم يقم بأداء شُكرها، وعَدَّه ذنبًا؛ مبالغةً في التقصير، وهضم النفس"[2].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال: «سيد الاستغفار» يعني: أشرف الاستغفار وأفضله: «أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. مَنْ قَالَهَا حين يصبح مُوقِنًا بِهَا، ثم مَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، دخل الجَنَّة، وَمَنْ قَالَهَا حين يمسي موقنا بها ثم مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، دخل الجَنَّة». يقول: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك» فتُقِرَّ لله عزَّ وجلَّ بلسانك وبقلبك أن الله هو ربُّك المالك لك، المدبِّر لأمرك، المعتني بحالك، وأنت عبده كَوْنًا وشَرْعًا، عبدُه كونًا يفعل بك ما يشاء، إن شاء أمرضك، وإن شاء أصحَّكَ، وإن شاء أغناك، وإن شاء أفقرك، وإن شاء أضلَّكَ، وإن شاء هداك، حسبما تقتضيه حكمته عزَّ وجلَّ، وكذلك أنت عبده شرعًا تتعبَّد له بما أَمَر، تقوم بأوامره، وتنتهي عن نواهيه، تُقِرُّ بذلك: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، تُقِرُّ بأن الله خلقك، هو الذي أَوْجَدك من العَدَم، وأنك على عهده ووعده ما استطعتَ على عهده؛ لأن كل إنسان قد عاهد الله أن يَعمَل بما عَلِم، فمتى أعطاك الله علمًا، فإنه قد عَهِد إليك أن تعمل به، وعلى وعدك؛ أي: تطبيق وعدك ما وعدتَ أهل الخير من الخير، وما وعدت أهل الشرِّ من الشرِّ؛ ولكن أنا على وعدك؛ أي: في الخير؛ لأنك في هذه الكلمات تتوسَّل إلى الله عزَّ وجلَّ. «أعوذ بك من شر ما صنعت» يعني: أنت تعوذ بالله من شرِّ ما صنعتَ؛ لأن الإنسان يصنع خيرًا فيُثاب، ويَصنَع شرًّا فيُعاقَب، ويَصنَع الشرَّ فيكون سببًا لضلاله
كما قال الله تعالى:
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ}
[المائدة: ٤٩]
فأنت تتعوَّذ بالله من شرِّ ما صنعتَ، ثم «أبوء لك بنعمتك عليَّ» يعني: أعترف بنعمتك العظيمة الكبيرة التي لا أُحصيها، و«أبوء بذنبي»: أعترف به، فاغفر لي هذا الذنب، إنك أنت الغفور الرحيم، فاحرص على حفظ هذا الدعاء، وحافظ عليه صباحًا ومساءً، إن متَّ من يومكَ، فأنت من أهل الجنة، وإن متَّ من ليلتكَ، فأنت من أهل الجنَّة"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "«سيد الاسْتِغْفَار» لأن السَّيِّد في الأصل: الرئيس الّذي يُقصَد في الحوائج، ويُرجَع إليه في الأمور، ولَمّا كان هذا الدّعاء جامعًا لمعاني التّوبة كلِّها، استُعير له هذا الاسم، ولا شكَّ أن سيّد القوم أفضلهم، وهذا الدّعاء أيضًا سيد الأدعية، وهو الاستغفار. قَوْله: «سيد الاسْتِغْفَار» قيل: مَا الْحِكْمَة فِي كَونه سيد الاسْتِغْفَار؟ أُجيب بأنه وأمثاله من التعبُّديات، وَالله تعالى أعلم بذلك؛ لَكِن لَا شكَّ أن فِيه ذكرَ الله تعالى بأكمل الأوصاف، وذكر نَفسه بأنقص الحالات، وهو أقصى غايةِ التضرُّع، ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقُّها إلَّا هو"[4].
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "جَمَع ﷺ في هذا الحديث من بديع المعاني، وحُسن الألفاظ، ما يحقُّ له أنه يسمَّى سيِّد الاستغفار؛ ففيه: الإقرار لله وحده بالألوهية، والعبودية، والاعتراف بأنه الخالق، والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه، والرجاء بما وعده به، والاستعاذة من شرِّ ما جنى العبد على نفسه، وإضافة النعماء إلى موجِدِها، وإضافة الذنب إلى نفسه، ورغبته في المغفرة، واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو"[5].
قال ابن القيم رحمه الله: "من أراد الله به خيرًا، فتح له باب الذُّلِّ والانكسار، ودَوَام اللجوء إلى الله تعالى، والافتقار إليه، ورؤية عيوب نفسه، وجهلها، وعُدْوانها، ومشاهدة فضل ربِّه، وإحسانه، ورحمته، وجُوده، وبِرِّه، وغناه، وحمده"[6].
المراجع
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 75-77).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1844، 1845).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 717، 718).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 278).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 100).
- "الوابل الصيب من الكلم الطيب" لابن القيم (ص: 7).
قال حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رضي الله عنه: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: أخبرني يا رسول الله عن أشياءَ كنتُ أتعبَّد، وأتقرَّب بها إلى الله في الجاهلية قبل أن أُسلِم. (مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟)؛ أي: فكنتُ أتعبَّد بالصَّدَقات، وعِتْقِ الرِّقاب، وصلة الأرحام، فهل سيُثِيبُني الله تعالى عليها بعد أن أسلمتُ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»؛ أي: إنك مُثابٌ ومَجزيٌّ على ما قدَّمتَ من أعمال الخير والبِرِّ قبلَ أن تُسلِم.
الشرح المفصَّل للحديثخَلَق الله الخلق، وأراد لهم النجاة، فأرسل إليهم رسلاً يوجِّهونهم إلى عبادة الله وحده؛
قال تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
[الأنبياء: 25]
وضَمِن لهم الجنَّة إذا استجابوا لأوامره، وانتَهَوْا عن نَواهيه؛
قال تعالى:
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
[النساء: 13].
وقد كان الصحابةُ - رضوان الله عليهم - أحرصَ الناس على مُلازمة النبيِّ ﷺ، والاستفادة من عِلمه، وسؤاله عن الأمور التي تُشكِل عليهم، ولا يَعرِفون لها جوابًا، وفي الحديث الذي معنا: يَسأل الصحابيُّ الجليل حكيمُ بنُ حزامٍ رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن أعمال الخير التي كان يَفعَلها في الجاهلية، وذلك قبل أن يَشرَح الله صدره للإسلام، هل يعود نفعُها عليه؟ وهل له فيها من أجر وثواب؟ فقد كان كثيرَ الصَّدقة على الفقراء والمساكين، وكثيرًا ما كان يحرِّر العبيد من مواليهم، ويُعتِقهم لوجه الله تعالى، فقد أَعتَق مِائة رقبة في الجاهلية، وتصدَّق بحِمل مِائة بَعِير لوجه الله تعالى قبل أن يُسلم، ففي بعض روايات الحديث: "أنّ حكيمَ بنَ حِزام، أعتق في الجاهليّة مِائةَ رقبةٍ، وحَمَل على مِائة بَعِير، ثمّ أَعتَق في الإسلام مِائة رقبة، وحمل على مِائة بعير"، وأنه رضي الله عنه قال أيضًا: "فوالله، لا أَدَعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليّة، إلّا فعلتُ في الإسلام مِثْلَه[1]
إضافةً إلى أنه كان يَصِل الأرحام، ويَزُور الأقارب ويتفقَّدُهم ويتعاهَدُهم بالسؤال عن أحوالهم، وهذه الأعمال من جملة الأعمال الصالحة التي دعا إليها الإسلام، ورغَّب بها، وجعل عليها الثوابَ الكبير، والأجرَ العظيم.
فيُجيبه النبيُّ ﷺ بقوله: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»؛ أي: إنك مُثابٌ ومَجزيٌّ على ما قدَّمتَ من أعمال الخير والبِرِّ قبلَ أن تُسلِم، و"معنى هذا الحديث: أن كلَّ مُشرِك أَسلَم، أنه يُكتَب له أجرُ كلِّ خير عَمِله قبل إسلامه، ولا يُكتَب عليه بشيء من سيِّئاته؛ لأن الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك؛ وإنما كُتِب له الخير؛ لأنه إنما أراد به وجهَ الله؛ لأنهم كانوا مقرِّين بالله، إلَّا أن عِلْمَهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شِركهم، فلمَّا أَسلَموا تفضَّل الله عليهم، فكَتَب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيِّئات؛
كما قال ﷺ:
«ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمَن بنبيِّه، وآمَن بمحمَّد»
[2][3]
فالكافرُ إذا أَسلَم، فإنه يُمحى عنه كلُّ سيِّئة؛
قال تعالى:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
[الأنفال: 38]
وعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»
[4]،
ويَشهَد لذلك أيضًا:
حديثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وهو في سَكَرات الموت، قال:
"فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»
[5]
وذهب بعض العلماء إلى تأويل هذا الحديث، حيث إن "ظاهره: أن الخير الذي أَسلَفه كُتِب له، والتقديرُ: أَسلَمتَ على قَبول ما سَلَف لك من خير، وقال الحربيُّ: معناه: ما تَقَدَّم لك من الخير الذي عَمِلتَه هو لك، كما تقول: أسلمتُ على أن أحوز لنفسي ألف درهم، وأما من قال: إن الكافر لا يُثاب، فحَمَل معنى الحديث على وجوه أخرى: أحدها: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بذلك الطَّبع في الإِسلام، وتكون تلك العادةُ تمهيدًا لك، ومعونةً على فعل الخير والطاعات، والثاني: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ بذلك ثناءً جميلًا، فهو باقٍ عليك في الإِسلام، والثالث: أنه لا يَبعُد أن يُزاد في حسناته التي يَفعَلها في الإِسلام، ويَكثُر أجرُه لِما تقدَّم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر: إنَّهُ إذًا كَانَ يَفْعَلُ الخَيْرَ، فَإنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْه بِهِ، فلا يَبعُد أن يُزاد هذا في الأجور"[6]، وأضافوا وجهًا رابعًا: أن: "معناه: ببَرَكة ما سَبَق لك من خير؛ هَدَاك الله إلى الإسلام؛ أي: سَبَق لك عند الله من الخير ما حَمَلك على فعله في جاهليَّتِكَ، وعلى خاتمة الإسلام لك، وأن من ظَهَر منه خيرٌ في مُبتَدَئِه، فهو دليلٌ على سَعَادة أُخراه وحُسن عاقبته"[7]
والرأي الراجحُ هو أن الخير الذي أَسلَفه من أَسلَم كُتِب له؛ إذ تضافرت نصوص الكتاب والسنَّة على تبديل سيِّئات من تاب من العصاة إلى حسنات؛
قال تعالى:
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
[الفرقان: 70]
فمن باب أولى قَبولُ أعمال الكفَّار الذين قَصَدوا بها وجه الله تعالى إذا أَسلَموا، والله تعالى أعلى وأعلم.
المراجع
- رواه مسلم (123).
- رواه مسلم (154) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 437).
- رواه البخاريُّ (41).
- رواه مسلم (121).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (1/ 308).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 416).
قال ابن بطَّال رحمه الله : "قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كلَّ مُشرِك أَسلَم، أنه يُكتَب له أجرُ كلِّ خير عَمِله قبل إسلامه، ولا يُكتَب عليه بشيء من سيِّئاته؛ لأن الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك؛ وإنما كُتِب له الخير؛ لأنه إنما أراد به وجه الله؛ لأنهم كانوا مقرِّين بالله، إلَّا أن عِلْمَهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شِركهم، فلمَّا أَسلَموا تفضَّل الله عليهم، فكَتَب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيِّئات؛
كما قال ﷺ:
«ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمَن بنبيِّه، وآمَن بمحمَّد»
[1][2].
قال المازِريُّ رحمه الله: " ظاهرُه أن الخير الذي أَسلَفه كُتِب له، والتقديرُ: أَسلَمتَ على قَبول ما سَلَف لك من خير، وقال الحربيُّ: معناه: ما تَقَدَّم لك من الخير الذي عَمِلتَه هو لك، كما تقول: أسلمتُ على أن أحوز لنفسي ألف درهم، وأما من قال: إن الكافر لا يُثاب، فحَمَل معنى الحديث على وجوه أخرى: أحدها: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بذلك الطَّبع في الإِسلام، وتكون تلك العادةُ تمهيدًا لك، ومعونةً على فعل الخير والطاعات، والثاني: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ بذلك ثناءً جميلًا، فهو باقٍ عليك في الإِسلام، والثالث: أنه لا يَبعُد أن يُزاد في حسناته التي يَفعَلها في الإِسلام، ويَكثُر أجرُه لِما تقدَّم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر: إنَّهُ إذًا كَانَ يَفْعَلُ الخَيْرَ، فَإنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْه بِهِ، فلا يَبعُد أن يُزاد هذا في الأجور"[3].
قال القاضي عياض رحمه الله: "معناه: ببَرَكة ما سَبَق لك من خير، هَدَاك الله إلى الإسلام؛ أي: سَبَق لك عند الله من الخير ما حَمَلك على فعله في جاهليَّتِكَ، وعلى خاتمة الإسلام لك، وأن من ظَهَر منه خيرٌ في مُبتَدَئِه، فهو دليلٌ على سَعَادة أُخراه وحُسن عاقبته"[4].
قال السعديُّ رحمه الله: "هذا من لُطفه تعالى بعباده، لا يَمنَعه كفرُ العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوَهم إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يُهلكهم من أسباب الغيِّ والرَّدى، فقال:
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا
عن كفرهم وذلك بالإسلام لله وحده لا شريك له.
يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ
منهم من الجرائم"[5]
المراجع
- رواه مسلم (154) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
- شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 437).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (1/ 308).
- إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 416).
- "تفسير السعديِّ" (ص 321).
أَتَحَنَّث؛ أي: أَتَعبَّد، وأتقرَّب بها إلى الله[1].
عَتَاقَة: يُقال: أَعتقْتُ العبدَ أُعتِقُه عِتْقًا وعَتَاقة، فهو مُعتَق، وأنا مُعتِق، وعَتَقْتُه فهو عَتِيق؛ أي: حرَّرتُه فصار حرًّا[2]
سَلَفَ: السَّلَف: كلُّ عمل صالح قدَّمتُه[3].
المراجع
- "غريب الحديث" لابن الجوزيِّ (1/ 246)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 449).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 179).
- القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 820).