المعنى الإجماليُّ للحديث
قال حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رضي الله عنه: قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: أخبرني يا رسول الله عن أشياءَ كنتُ أتعبَّد، وأتقرَّب بها إلى الله في الجاهلية قبل أن أُسلِم. (مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ، وَصِلَةِ رَحِمٍ، فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَجْرٍ؟)؛ أي: فكنتُ أتعبَّد بالصَّدَقات، وعِتْقِ الرِّقاب، وصلة الأرحام، فهل سيُثِيبُني الله تعالى عليها بعد أن أسلمتُ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»؛ أي: إنك مُثابٌ ومَجزيٌّ على ما قدَّمتَ من أعمال الخير والبِرِّ قبلَ أن تُسلِم.
الشرح المفصَّل للحديث
خَلَق الله الخلق، وأراد لهم النجاة، فأرسل إليهم رسلاً يوجِّهونهم إلى عبادة الله وحده؛
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
وضَمِن لهم الجنَّة إذا استجابوا لأوامره، وانتَهَوْا عن نَواهيه؛
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وقد كان الصحابةُ - رضوان الله عليهم - أحرصَ الناس على مُلازمة النبيِّ ﷺ، والاستفادة من عِلمه، وسؤاله عن الأمور التي تُشكِل عليهم، ولا يَعرِفون لها جوابًا، وفي الحديث الذي معنا: يَسأل الصحابيُّ الجليل حكيمُ بنُ حزامٍ رضي الله عنه النبيَّ ﷺ عن أعمال الخير التي كان يَفعَلها في الجاهلية، وذلك قبل أن يَشرَح الله صدره للإسلام، هل يعود نفعُها عليه؟ وهل له فيها من أجر وثواب؟ فقد كان كثيرَ الصَّدقة على الفقراء والمساكين، وكثيرًا ما كان يحرِّر العبيد من مواليهم، ويُعتِقهم لوجه الله تعالى، فقد أَعتَق مِائة رقبة في الجاهلية، وتصدَّق بحِمل مِائة بَعِير لوجه الله تعالى قبل أن يُسلم، ففي بعض روايات الحديث: "أنّ حكيمَ بنَ حِزام، أعتق في الجاهليّة مِائةَ رقبةٍ، وحَمَل على مِائة بَعِير، ثمّ أَعتَق في الإسلام مِائة رقبة، وحمل على مِائة بعير"، وأنه رضي الله عنه قال أيضًا: "فوالله، لا أَدَعُ شيئًا صنعتُه في الجاهليّة، إلّا فعلتُ في الإسلام مِثْلَه[1]
إضافةً إلى أنه كان يَصِل الأرحام، ويَزُور الأقارب ويتفقَّدُهم ويتعاهَدُهم بالسؤال عن أحوالهم، وهذه الأعمال من جملة الأعمال الصالحة التي دعا إليها الإسلام، ورغَّب بها، وجعل عليها الثوابَ الكبير، والأجرَ العظيم.
فيُجيبه النبيُّ ﷺ بقوله: «أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْ خَيْرٍ»؛ أي: إنك مُثابٌ ومَجزيٌّ على ما قدَّمتَ من أعمال الخير والبِرِّ قبلَ أن تُسلِم، و"معنى هذا الحديث: أن كلَّ مُشرِك أَسلَم، أنه يُكتَب له أجرُ كلِّ خير عَمِله قبل إسلامه، ولا يُكتَب عليه بشيء من سيِّئاته؛ لأن الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك؛ وإنما كُتِب له الخير؛ لأنه إنما أراد به وجهَ الله؛ لأنهم كانوا مقرِّين بالله، إلَّا أن عِلْمَهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شِركهم، فلمَّا أَسلَموا تفضَّل الله عليهم، فكَتَب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيِّئات؛
«ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمَن بنبيِّه، وآمَن بمحمَّد»
فالكافرُ إذا أَسلَم، فإنه يُمحى عنه كلُّ سيِّئة؛
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
وعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»
ويَشهَد لذلك أيضًا:
حديثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه وهو في سَكَرات الموت، قال:
"فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي، أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي، قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»
وذهب بعض العلماء إلى تأويل هذا الحديث، حيث إن "ظاهره: أن الخير الذي أَسلَفه كُتِب له، والتقديرُ: أَسلَمتَ على قَبول ما سَلَف لك من خير، وقال الحربيُّ: معناه: ما تَقَدَّم لك من الخير الذي عَمِلتَه هو لك، كما تقول: أسلمتُ على أن أحوز لنفسي ألف درهم، وأما من قال: إن الكافر لا يُثاب، فحَمَل معنى الحديث على وجوه أخرى: أحدها: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بذلك الطَّبع في الإِسلام، وتكون تلك العادةُ تمهيدًا لك، ومعونةً على فعل الخير والطاعات، والثاني: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ بذلك ثناءً جميلًا، فهو باقٍ عليك في الإِسلام، والثالث: أنه لا يَبعُد أن يُزاد في حسناته التي يَفعَلها في الإِسلام، ويَكثُر أجرُه لِما تقدَّم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر: إنَّهُ إذًا كَانَ يَفْعَلُ الخَيْرَ، فَإنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْه بِهِ، فلا يَبعُد أن يُزاد هذا في الأجور"[6]، وأضافوا وجهًا رابعًا: أن: "معناه: ببَرَكة ما سَبَق لك من خير؛ هَدَاك الله إلى الإسلام؛ أي: سَبَق لك عند الله من الخير ما حَمَلك على فعله في جاهليَّتِكَ، وعلى خاتمة الإسلام لك، وأن من ظَهَر منه خيرٌ في مُبتَدَئِه، فهو دليلٌ على سَعَادة أُخراه وحُسن عاقبته"[7]
والرأي الراجحُ هو أن الخير الذي أَسلَفه من أَسلَم كُتِب له؛ إذ تضافرت نصوص الكتاب والسنَّة على تبديل سيِّئات من تاب من العصاة إلى حسنات؛
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا
فمن باب أولى قَبولُ أعمال الكفَّار الذين قَصَدوا بها وجه الله تعالى إذا أَسلَموا، والله تعالى أعلى وأعلم.
المراجع
- رواه مسلم (123).
- رواه مسلم (154) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 437).
- رواه البخاريُّ (41).
- رواه مسلم (121).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (1/ 308).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 416).
النقول
قال ابن بطَّال رحمه الله : "قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث: أن كلَّ مُشرِك أَسلَم، أنه يُكتَب له أجرُ كلِّ خير عَمِله قبل إسلامه، ولا يُكتَب عليه بشيء من سيِّئاته؛ لأن الإسلام يَهدِم ما قبله من الشرك؛ وإنما كُتِب له الخير؛ لأنه إنما أراد به وجه الله؛ لأنهم كانوا مقرِّين بالله، إلَّا أن عِلْمَهم كان مردودًا عليهم لو ماتوا على شِركهم، فلمَّا أَسلَموا تفضَّل الله عليهم، فكَتَب لهم الحسنات، ومحا عنهم السيِّئات؛
«ثلاثةٌ يُؤْتَوْنَ أجرَهم مرَّتين: رجلٌ من أهل الكتاب آمَن بنبيِّه، وآمَن بمحمَّد»
قال المازِريُّ رحمه الله: " ظاهرُه أن الخير الذي أَسلَفه كُتِب له، والتقديرُ: أَسلَمتَ على قَبول ما سَلَف لك من خير، وقال الحربيُّ: معناه: ما تَقَدَّم لك من الخير الذي عَمِلتَه هو لك، كما تقول: أسلمتُ على أن أحوز لنفسي ألف درهم، وأما من قال: إن الكافر لا يُثاب، فحَمَل معنى الحديث على وجوه أخرى: أحدها: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ طباعًا جميلة، وأنت تنتفع بذلك الطَّبع في الإِسلام، وتكون تلك العادةُ تمهيدًا لك، ومعونةً على فعل الخير والطاعات، والثاني: أن يكون المعنى أنك اكتسبتَ بذلك ثناءً جميلًا، فهو باقٍ عليك في الإِسلام، والثالث: أنه لا يَبعُد أن يُزاد في حسناته التي يَفعَلها في الإِسلام، ويَكثُر أجرُه لِما تقدَّم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر: إنَّهُ إذًا كَانَ يَفْعَلُ الخَيْرَ، فَإنَّهُ يُخَفَّفُ عَنْه بِهِ، فلا يَبعُد أن يُزاد هذا في الأجور"[3].
قال القاضي عياض رحمه الله: "معناه: ببَرَكة ما سَبَق لك من خير، هَدَاك الله إلى الإسلام؛ أي: سَبَق لك عند الله من الخير ما حَمَلك على فعله في جاهليَّتِكَ، وعلى خاتمة الإسلام لك، وأن من ظَهَر منه خيرٌ في مُبتَدَئِه، فهو دليلٌ على سَعَادة أُخراه وحُسن عاقبته"[4].
قال السعديُّ رحمه الله: "هذا من لُطفه تعالى بعباده، لا يَمنَعه كفرُ العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوَهم إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يُهلكهم من أسباب الغيِّ والرَّدى، فقال:
قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا
عن كفرهم وذلك بالإسلام لله وحده لا شريك له.
يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ
منهم من الجرائم"[5]
المراجع
- رواه مسلم (154) من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
- شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 437).
- "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (1/ 308).
- إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 416).
- "تفسير السعديِّ" (ص 321).
غريب الحديث
أَتَحَنَّث؛ أي: أَتَعبَّد، وأتقرَّب بها إلى الله[1].
عَتَاقَة: يُقال: أَعتقْتُ العبدَ أُعتِقُه عِتْقًا وعَتَاقة، فهو مُعتَق، وأنا مُعتِق، وعَتَقْتُه فهو عَتِيق؛ أي: حرَّرتُه فصار حرًّا[2]
سَلَفَ: السَّلَف: كلُّ عمل صالح قدَّمتُه[3].
المراجع
- "غريب الحديث" لابن الجوزيِّ (1/ 246)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 449).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 179).
- القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 820).