​ المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه سَمِع رَسُولَ اللهِ  يَقول: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»: المعنى: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يَعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولدها وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعٍ وتسعين رحمةً؟!

الشرح المفصَّل للحديث

اللهُ سبحانَهُ وتعالى أرْحمُ الراحمينَ، وأكرَمُ الأكرَمينَ، ورحمتُه سبحانه عمَّتِ السم‍واتِ والأرضَ؛ وهيَ لا تقتصِرُ على الإنسانِ فحسبُ، بلْ وسِعَت كلَّ شيءٍ، حتَّى الحيوانَ والطيرَ. 

وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ سَعةَ رحمة الله ۵، فيُخبر أنه: «جَعَلَ اللهُ الرَّحمَةَ في مِائَةِ جُزْءٍ»، والرحمةُ صفة ثابتة لله ۵، وصف بها نفْسه، فهو سبحانه الرحمنُ الرحيم، والرحمةُ أيضًا صفةٌ يوصَف بها المخلوق، وللخالق سبحانه من الوصف ما يَليق بكماله، وللمخلوق ما يَتناسب معه، وتعالى سبحانه عن أن يُشبه خلقه، أو يُشبهه شيءٌ من خَلْقه.

وأصلُ الرحمة أنها رِقَّةٌ في النفْس، تبعث على سَوق الخير لِمَن تتعدَّى إليه[1]. وحاشاه سبحانه أن يعتريَه ضعفٌ، أو نقصٌ، أو رقَّةٌ كما هو الحال في وصف الرحمة بالنسبة للمخلوقات.

واختلف العلماء في الرحمة المذكورة هنا، هل المراد بها الرحمة التي خلقها الله  في نفوس مخلوقاته، أو رحمته سبحانه؟ فقيل: إن الرحمة المشار إليها في هذا الحديث هي الرحمةُ التي خَلَقها اللهُ ، وأودعها سبحانه في نفوس خَلْقه؛ إذ رحمته سبحانه صفةٌ أزليةٌ لا يُمكِن أن تكون مخلوقةً، ولا يُمكِن تجزئتُها.

هذه الرحمةُ هي رحمتُه سبحانه التي خَلَقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفْسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التباعات التي كانت بينَهم في الدنيا، وقد يجوز هذا في تلك الرحمة المخلوقة فيهم، بخلاف رحمته سبحانه التي وَسِعت كلَّ شيء، والتي لا يجوز أن تكون مخلوقةً، وهي صفةٌ من صفات ذاته تعالى، لم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفْسه هي التي عند ملائكته المستغفِرين لِمَن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليلٌ على أن في نفوس الملائكة رحمةً على أهل الأرض[2]

وقيل: إن الرحمةَ المشارَ إليها في الحديث هي رحمتُه سبحانه وتعالى، وإنما ذكَرَها على هذه الصورة من باب التمثيل وتقريب المعاني للأفهام؛ فـ"رحمة الله غير متناهيةٍ، لا مِائة، ولا مِائتان؛ لكنها عبارةٌ عن القُدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقُدرة صفةٌ واحدةٌ، والتعلُّق غير مُتناهٍ، فحصرُه في مائة على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفَهم، وتقليلًا لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى"[3].

و"رحمةُ الله لا نهاية لها، فلم يُرِد بما ذكره تحديدًا؛ بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافَّة المربوبين في الدنيا"[4].

وقيل: إن المقصود رحمةُ الله ، والمرادُ بهذه الأجزاء المائة متعلَّق الرحمة، وهي النِّعم والمنافع، ولا يصحُّ التجزئة إلا لها، بخلاف الرحمة ذاتها التي هي صفتُه سبحانه، فلا يمكِن أن تتجزَّأ[5]

وأما عن جَعْلِه سبحانه الرحمة مائةَ جزء، فإن المراد بالعدد التكثيرُ لا النصُّ على العدد بعَينه، وقيل: فيه إشارةٌ إلى عدد درجات الجنة المائة الواردة في الحديث: «إن في الجنة مائةَ درجة، أعدَّها اللهُ للمجاهدين في سبيل الله»[6]، فكانت كلُّ رحمة مقابلَ درجة من درجات الجنة؛ إذ الجنةُ لا يدخلها أحدٌ إلا برحمة الله ، فمَن أصابته رحمةٌ واحدةٌ كان في الدرجة الأُولى، ومَن أصابته أكثرُ كان في درجة من الجنة بمثل ما أصابه من رحمة الله [7].

ويُحتمَل أن المراد بالأجزاء الْمِائة أنواعُ الرحمة[8] وعليه؛ فالمعنى: جعل الله الرحمةَ مِائة نوع، فجعل سبحانه في الأرض نوعًا واحدًا منها، وأمسك البقيةَ لعباده المؤمنين يوم القيامة؛ فـ"مُقتضى هذا الحديث أن الله عَلِم أن أنواع النعم التي يُنعم بها على خلقه مِائة نوع، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة"[9]. 

وقوله ﷺ:

«فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا»

هو تفصيلٌ بعد إجمال، والمعنى: أمسك سبحانه عنده تسعةً وتسعين جزءًا يرحم بها عبادَه المؤمنين يوم القيامة، وأرسل في خلقه كلِّهم جزءًا واحدًا يتراحمون به فيما بينهم في الدنيا. وفيه إشارةٌ لسَعة رحمة الله ، أو عظم الرحمة التي أوجدها اللهُ عزَّ وجلَّ، وأرادها بخَلقه؛ فـ"هذه الأحاديثُ من أحاديث الرجاء والبِشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلامُ، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟![10]. 

 ثم يسوق ﷺ مثلًا لعظمة هذه الرحمة وسَعتها،

فيقول:

"فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»،

والحافرُ بالنسبة للفرس هو بمنزل الظِّلف من البقر، والخُفِّ من الجَمَل[11]

وضرَبَ رسولُ اللهِ ﷺ المثلَ بالفرسِ؛ "لأنَّها كانَت أكثرَ الحيوَانات المألُوفةِ التِي يُشاهدُ الناسُ حركتَها معَ ولدِها، ولِما في الفرَسِ مِنَ الِخفَّةِ والسُّرعةِ في التنقُّلِ، ومعَ ذلكَ تَتجنَّبُ أَنْ يصِلَ الضرَرُ مِنهَا إِلى ولدِهَا"[12]، والمعنى: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولده وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف بتسعةٍ وتسعين؟! 

المراجع

  1. "التحرير والتنوير" لابن عاشور (26/ 24).
  2.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 213- 214) بتصرُّف يسير.
  3.  "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  4. "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (8/ 78).
  5.  انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للصنعانيِّ (5/ 267).
  6.  رواه البخاريُّ (2790).
  7.  انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  8.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 253)
  9.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432).
  10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68).
  11.  انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد علي بن علان الصديقي (4/ 322).
  12.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432) بتصرُّف يسير.
النقول

قال ابن بطَّال رحمه الله : "قال المهلَّبُ: هذه الرحمةُ هي رحمتُه سبحانه التي خَلَقها لعباده، وجعلها في نفوسهم، والتي أمسك عند نفْسه هي ما يتراحمون به يوم القيامة، ويتغافرون من التباعات التي كانت بينَهم في الدنيا، وقد يجوز هذا في تلك الرحمة المخلوقة فيهم، بخلاف رحمته سبحانه التي وَسِعت كلَّ شيء، والتي لا يجوز أن تكون مخلوقةً، وهي صفةٌ من صفات ذاته تعالى، لم يزل موصوفًا بها، فهي التي يرحمهم بها زائدًا على الرحمة التي جعلها لهم، وقد يجوز أن تكون الرحمة التي أمسكها عند نفْسه هي التي عند ملائكته المستغفرين لمَن في الأرض؛ لأن استغفارهم لهم دليلٌ على أن في نفوس الملائكة رحمةً على أهل الأرض"[1]

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "ورحمة الله غير متناهيةٍ، لا مِائة، ولا مِائتان؛ لكنها عبارةٌ عن القُدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقُدرة صفةٌ واحدةٌ، والتعلُّق غير مُتناهٍ، فحصرُه في مائة على سبيل التمثيل؛ تسهيلًا للفَهم، وتقليلًا لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى[2].

قال الطِّيبيُّ  رحمه الله: "رحمةُ الله لا نهاية لها، فلم يُرِد بما ذكره تحديدًا؛ بل تصويرًا للتفاوت بين قسط أهل الإيمان منها في الآخرة، وقسط كافَّة المربوبين في الدنيا"[3]

قال القرطبيُّ  رحمه الله: "مُقتضى هذا الحديث أن الله عَلِم أن أنواع النعم التي يُنعم بها على خلقه مِائة نوع، فأنعمَ عليهم في هذه الدنيا بنوع واحدٍ، انتظمت به مصالحهم، وحصلتْ به مرافقهم، فإذا كان يوم القيامة كمل لعباده المؤمنين ما بَقِيَ، فبلغتْ مِائة"[4] 

قال النوويُّ  رحمه الله: "هذه الأحاديثُ من أحاديث الرجاء والبِشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار الْمَبنيَّة على الأكدار: الإسلام، والقرآن، والصلاة، والرحمة في قلبه، وغير ذلك مما أنعمَ اللهُ تعالى به، فكيف الظنُّ بمِائة؟!"[5].

قال بدر الدين العينيُّ  رحمه الله: "قَوْله: «مائَة جُزْء» ويروى: «فِي مائَة جُزْء»، وَكلمَة (فِي) في هذه الرِّوَايَة زائدة كما فِي قوله: (وَفِي الرَّحْمَن للضُّعفاء كافٍ)؛ أي: الرّحمن لهم كافٍ. قوله: «فأمسك عنده» وفي رواية عطاء: «وأخَّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، قيل: رحمة الله غير متناهية، لا مائة ولا مائتان. وأجيب بأن الرّحمة عبارة عن القدرة المتعلّقة بإيصال الخير، والقدرة صفة واحدة، والتعلّق غير متناهٍ، فحصره في مائة على سبيل التّمثيل؛ تسهيلاً للفَهم، وتقليلاً لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده. قوله: «وأنزل في الأرض»، كان القياس أن يقال: إلى الأرض؛ ولكن حروف الجرّ ينوب بعضها عن بعض، وفيه تضمين، والغرض منه المبالغة؛ يعني: أنزلها منتشرةً في جميع الأرض. فإن قلت: ما الحكمة في تعيين المائة من بين الأعداد، ولم تجر عادة العرب إلَّا في السّبعين؟ قلت: أجيب بأنّه أطلق هذا العدد الخاصَّ لإرادة التكثير والمبالغة، والسّبعون من أجزاء المائة، وقيل: ثبت أن نار الآخرة تفضل نار الدّنيا بتسعة وستّين جزءًا، فإذا قوبل كلّ جزء برحمة، زادت الرحمات ثلاثين جزءًا، فيؤخذ منه أن الرّحمة في الآخرة أكثر من النِّقمة فيها، ويؤيّده قوله: غلبت رحمتي غضبي. قوله: «يتراحم الخلق» بالراء من التفاعل الّذي يشترك فيه الجماعة. قوله: «حتّى ترفع الفرس حافرها». الحافر للفرس كالظِّلف للشاة، وخصَّ الفرس بالذكر لأنّها أشدُّ الحيوان المألوف الّذي يعاين المخاطبون حركتها مع ولدها، ولما في الفرس من الخفّة والسرعة في التنقُّل، ومع ذلك تتجنَّب أن يصل الضّرر منها إلى ولدها، وفي رواية عطاء: فبها يتعاطفون وبها يتراحمون، وبهذا يعطف الوحش والطير بعضها على بعض. قوله: «أن تصيبه» كلمة (أن)، مصدريّة؛ أي: خشية الإصابة"[6]

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "«جعل الله الرحمة مائة جزء»، وفي حديث سلمان عند مسلم: «إن الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كلُّ رحمة طِبَاقَ ما بين السماء والأرض» الحديثَ. وخَلَق؛ أي: اخترع وأَوْجَد بقوله. «كل رحمة طباقَ...» إلى آخره. التعظيم والتكثير، ولأبي ذر «في مائة جزء» بزيادة (في). قال في "الكواكب": هي ظرفية يتمُّ المعنى بدونها، أو متعلِّقة بمحذوف، وفيه نوع مبالغة، حيث جعلها مظروفًا لها؛ يعني: بحيث لا يفوت منها شيءٌ، ورحمة الله غير متناهية، لا مِائة ولا مائتان؛ لكنها عبارة عن القدرة المتعلِّقة بإيصال الخير، والقدرة صفة واحدة، والتعلُّق غير متناهٍ، فحصرُه في مائة في سبيل التمثيل؛ تسهيلاً للفَهم، وتقليلاً لما عندنا، وتكثيرًا لما عنده سبحانه وتعالى، وهل المراد بالمائة التكثير والمبالغة أو الحقيقة؟ فيُحتمل أن تكون مناسبةً لعدد دَرَج الجنةِ، والجنة هي على الرحمة، فكانت كلُّ رحمة بإزاء درجة، وقد ثبَت أنه لا يَدخُل أحد الجنة إلا برحمة الله، فمن نالته منها رحمة واحدةٌ، كان أدنى أهل الجنة منزلةً، وأعلاهم مَن حصلت له جميع الأنواع من الرحمة. «فأمسك» تعالى «عنده تسعة وتسعين جزءًا»، ولمسلم من رواية عطاء عن أبي هريرة: «وأخّر عنده تسعة وتسعين رحمة»، «وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا». القياس: وأنزل إلى الأرض؛ لكن حروف الجرّ يقوم بعضها مقام بعض، أو فيه تضمينُ فِعل، والغَرَضُ منه المبالغة؛ يعني: أنزل رحمة واحدة منتشرة في جميع الأرض، وفي رواية عطاء: أنزل منها رحمة واحدة بين الجنِّ والإنس والبهائم، «فمن ذلك الجزء تتراحم الخلق» بالراء والحاء المهملة «حتى ترفع الفرس حافرها» هو كالظِّلْفِ للشَّاة. «عن ولدها؛ خشية أن تصيبه»؛ أي: خشيةَ الإصابة. وفي رواية عطاء: فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يعطف الوحش على ولده. وفي حديث سلمان: فبها تَعطِف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، وزاد أنه يُكملها يوم القيامة مِائةَ رحمة بالرحمة التي في الدنيا"[7].

قال محمد خليل هرَّاس  رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعف وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العِزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصِفين بها، وأمرهم أن يتواصوا بها؟!

وقوله:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: ٧]

من كلام اللّه عزّ وجلّ حكايةً عن حملة العرش والّذين حوله، يتوسّلون إلى اللّه عزّ وجلّ بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسّلات الّتي يُرجى معها الإجابة. ونصب قوله:

رَحْمَةً وَعِلْمًا

على التّمييز المحوّل عن الفاعل، والتّقدير: وسعت رحمتك وعلمك كلَّ شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين؛ كما

قال تعالي

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

[الأعراف: ١٥٦]،

وقوله تعالى:

كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَ

[الأنعام: ٥٤]؛

أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد"[8].

قال ابن عثيمين  رحمه الله: "وقوله:

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛ لأن الله يقول:

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ

[النحل: 97]،

والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة: قوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾ﱠ

[الأحزاب: 43]

. (ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: ﱡ

رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا

[غافر: 7]

 نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة[9]

قال ابن القيم  رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:

﴿ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ﴾

[الأحزاب: 43]

﴿ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفٞ رَّحِيمٞﱠ  ﴾

[التوبة: 117]

 ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته[10].

 قال ابن عثيمين  رحمه الله: قوله:

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمۡ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَﱠ﴾

[الأنعام: ٥٤]

 (كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛

وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍﱠ

[فاطر: 45]

 لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى"[11].

قال ابن القيم  رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة؛ فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ وأنزل علينا كتابه، وعصمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمي، وأرشدنا من الغيِّ، وبرحمته عرَّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عَرَفنا به أنه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكِفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخَّر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل والدَّرِّ، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان. فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمتُه، واشتقَّ لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معانيَ خطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وَسِع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقَّه من صفته وتسمَّى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز، والستر والإمهال، والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلويِّ والسُّفليِّ بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخَرُ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها؛ فبرحمته خُلقت، وبرحمته عمِّرت بأهلها، وبرحمته وَصَلوا إليه، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجبت عن خلقه بالنور، ولو كُشِف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دَوَامُ التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتَّع كلُّ واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته.

ومن رحمته أن خلق مائة رحمة، كلُّ رحمة منها طِبَاقَ ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوَام العالم ونظامه"[12]

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 213- 214) بتصرف يسير.
  2. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19)
  3. مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (8/ 78)
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (10/ 432).
  5. شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 68).
  6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (22/ 101، 102).
  7. إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 19).
  8. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107)
  9. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248 - 251).
  10. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).
  11. شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).
  12. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481 - 483).


المعنى الإجماليُّ للحديث

(يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا. (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التُّراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة. (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يُعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟

فَقَالَ ﷺ: «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: فعلَّمه النبيُّ ﷺ أن ما فعله خطأ، وعلَّمه الصواب؛ فقال له: إنما كان يكفيك أن تَفعَل هكذا.

(ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.

الشرح المفصَّل للحديث

إن التيمُّم يرفَعُ الحدَث رَفْعًا مؤقَّتًا إلى حينِ وُجودِ الماء، ويُبيح فعل الصَّلاةِ والطَّواف وغيرِها من العِبادات، وهو رُخصةٌ شَرَعها اللهُ تعالى لعِبادِه عندَ فَقْدِ الماءِ، أو العجزِ عن استِعمالِه؛ تيسيرًا عليهم، وإن الله تعالى يحبُّ أن تؤتى رُخَصُه؛

عن ابن عُمَرَ، قال:

قال رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ»

[1]،

"واختُلف هل التّيمُّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"[2]

و"التّيمُّمُ في اللّغة وفي كلام العرب: القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها"[3]

"واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهو خَصِيصةٌ خصَّ اللّه تعالى بها هذه الأمَّة"[4]

فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً»

[5]

وقد روت السيدة عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن سبب نزول آية التيمُّم، قَالَتْ:

خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الجَيْش، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسِ وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنَ التَّحَرُّكِ إِلَّا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا البَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا العِقْدَ تَحْتَهُ

[6]

وفي هذا الحديث يروي عمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنهما قال: (بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي حَاجَةٍ فَأَجْنَبْتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، يُقال: أَجنَب الرَّجُل صارَ جُنبًا، (فَلَمْ أَجِدِ الْمَاءَ، فَتَمَرَّغْتُ فِي الصَّعِيدِ كَمَا تَمَرَّغُ الدَّابَّةُ)؛ أي: فتقلَّبتُ في التراب على الأرض كما تتقلَّب الدابَّة، "وَإِنَّمَا فعل هذا لأنه رأى التُّرَاب بَدَلًا عن الماء، فاسْتَعْمله في جَمِيع الْبَدَن، فأما الصَّعِيدُ، فهو التُّرَاب؛ قاله عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة. وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه... فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفةَ وأحمدَ فيه رِوَايتانِ"[7]

"وفي الحديث جوازُ الاجتهاد في زمان النبيِّ ﷺ عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد"[8]

قوله: (ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ)؛ أي: حتى يعلِّمني أصَوَابٌ ما فعلتُ أم خطأ؟

فَقَالَ : «إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَقُولَ بِيَدَيْكَ هَكَذَا»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. ثم بيَّنه بقوله: (ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى الْيَمِينِ، وَظَاهِرَ كَفَّيْهِ، وَوَجْهَهُ)؛ أي: كان يَكفِيكَ أن تَضرِب الأرضَ ضَرْبةً واحدة، ثم تمسح الكفَّيْنِ، ثم تمسح بهما وجهك وكفَّيك.

"استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له ﷺ الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها ﷺ بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء"[9]

"والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره ﷺ للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء"[10]

و"التيمُّم الصحيح مثلما قال الله:

عزَّ وجلَّ:

 وأن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم   

[المائدة: ٦]

المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه؛ كما في الصحيحين أن النبيَّ ﷺ قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».

ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طُهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ ﷺ طهورًا"[11]

"وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.

وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ ﷺ. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى"[12]

"وقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الاقتصارُ في التَّيَمُّم على الوجه والكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وداود، وقال أبو حنيفةَ والشافعيُّ في الجديد: لا يُجْزِيه إِلَّا أن يمسح إلى الْمِرْفَقين. ولا يختلف أصحابُنا في جواز الأمرين؛ إنما اختلفوا في المسنون: فقال القاضي أبو يعلى: المسنون أن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بواحدة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جاز. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أحمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للوَجْه والكَفَّيْن. وقال أبو الوفاء بنُ عقيل: ظاهرُ كلام أحمدَ يدلُّ على أن المسح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ"[13]

"وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعض الفقهاء بعدم إجزاء غيره؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتَيْ تيمُّمه ﷺ من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفَساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود"[14]

"وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار له، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أحمد والشافعيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق باليد؛

لقَوْله تَعَالَى:

  ٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ 

[المائدة: ٦]،

 و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ اليد ونفخُها، فالمراد به تخفيف ما تعلَّق باليد؛ فإنه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية"[15]

"وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ ﷺ لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض"[16]

المراجع

  1.  رواه أحمد (5866) وغيره، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1059): حسن صحيح.
  2.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  3.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  4. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  5.  رواه البخاريُّ (335)، ومسلم (521).
  6.  رواه البخاري (334)، مسلم (367).
  7.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 344).
  8.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 222).
  9.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140).
  10.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 320).
  11.  "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (6/22).
  12.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140، 141).
  13. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 344، 345).
  14.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 141).
  15.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 345).
  16.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 223).

النقول

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "التّيمُّمُ في اللّغة: القَصْدُ. قال الأزهريُّ: التّيمُّم في كلام العرب القَصْدُ، يُقال: تَيَمَّمْتُ فُلَانًا وَتَأَمَّمْتُهُ وَيَمَّمْتُهُ وَأَمَمْتُهُ؛ أَيْ: قَصَدْتُهُ. وفي الشّرع: القَصْدُ إلى الصَّعيد لمسح الوجهِ واليدَيْنِ بنيَّة استباحة الصَّلاة ونحوِها؛ قاله في الفتح. واعلم أنَّ التّيمُّم ثابت بالكتاب والسُّنَّة والإجماع. وهي خَصِيصة خصَّص اللّه تعالى بها هذه الأمَّة. قال في الفتح: واختُلف هل التّيمّم عزيمةٌ أو رخصة؟ وفصَّل بعضهم فقال: هو لعَدَم الماء عزيمةٌ، وللعُذر رخصة"[1]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قال: (بَعَثني رسول اللّه ﷺ في حاجة فأجنبتُ)؛ أي: صرتُ جُنُبًا، وقدَّمنا أنّه يُقال: أَجنَب الرّجل صارَ جُنبًا، ولا يُقال: اجتَنَب، وإن كَثُر في لسان الفقهاء. (فلم أجد الماء فتَمَرَّغت)، وفي لفظ: (فتمَعَّكتُ)، ومعناه: تقلّبتُ (في الصّعيد كما تتمرَّغ الدّابَّة ثمّ أتيت النّبيّ ﷺ فذكرت له ذلك فقال: «إنّما كان يكفيك أن تقول»؛ أي: تَفعَل، والقولُ يُطلَق على الفعل؛ كقولهم: قال بيدِه هكذا. «بيدَيْك هكذا»: بيَّنه بقوله: «ثمّ ضرب بيدَيه الأرض ضربةً واحدةً، ثمّ مسح الشّمال على اليمين، وظاهر كفَّيه، ووجهه» متّفق عليه بين الشّيخين، واللّفظ لمسلم"[2]

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحديث يدلُّ على مشروعيَّة التّيمُّم للصّلاة عند عَدَم الماء من غير فرق بين الجُنُب وغيره، وقد أجمع على ذلك العلماء، ولم يُخالف فيه أحدٌ من الخَلَف ولا من السَّلَف إلَّا ما جاء عن عمرَ بنِ الخطَّاب وعبدِ اللّه بن مسعود، وحُكِيَ مثلُه عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ من عدم جوازه للجُنُب، وقيل: إنَّ عمرَ وعبدَ اللّه رَجَعا عن ذلك. وقد جاءت بجوازه للجُنُب الأحاديث الصّحيحة. وإذا صلَّى الجُنُب بالتّيمُّم ثمَّ وجد الماء، وَجَب عليه الاغتسال بإجماع العلماء، إلَّا ما يُحكى عن أبي سلمةَ بنِ عبد الرّحمن الإمامِ التّابعيِّ أنّه قال: لا يَلزَمُه، وهو مَذهَب متروك بإجماع مَن بَعدَه ومن قَبلَه، وبالأحاديث الصّحيحة المشهورة في أمره ﷺ للجُنُب بغَسل بَدَنه إذا وَجَد الماء"[3]

قال ابن باز رحمه الله: "التيمُّم الصحيح مثل ما

قال الله عزَّ وجلَّ:

  وأن كُنتُم مَّرۡضَىٰٓ أَوۡ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوۡ جَآءَ أَحَدٞ مِّنكُم مِّنَ ٱلۡغَآئِطِ أَوۡ لَٰمَسۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَلَمۡ تَجِدُواْ مَآءٗ فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدٗا طَيِّبٗا فَٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم ﱠ

[المائدة: ٦]

المشروع ضربةٌ واحدة للوجه والكفَّين، وصفةُ ذلك أنه يَضرِب التراب بيدَيه ضربةً واحدة، ثم يَمسَح بهما وجهه وكفَّيه، كما في الصحيحين أن النبيَّ ﷺ قال لعمَّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه: «إنما يَكفِيكَ أن تقول بيدَيك هكذا، ثم ضَرَب بيدَيه الأرضَ، ومسح بهما وجهَه وكفَّيه».

ويُشترَط أن يكون التراب طاهرًا، ولا يُشرع مسح الذراعين؛ بل يكفي مسح الوجه والكفَّين للحديث المذكور. ويقوم التيمُّم مقام الماء في رفع الحدث على الصحيح، فإذا تيمَّم صلَّى بهذا التيمُّم النافلةَ والفريضة الحاضرة والمستقبَلة، ما دام على طهارة، حتى يُحدِث أو يَجِد الماء إن كان عادمًا له، أو حتى يستطيع استعماله إذا كان عاجزًا عن استعماله، فالتيمُّم طهور يقوم مقام الماء كما سمَّاه النبيُّ ﷺ طهورًا"[4]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "استعمل عمّارٌ القياس، فرأى أنّه لَمَّا كان التّراب نائبًا عن الغُسل، فلا بدَّ من عمومه للبَدَن، فأبان له ﷺ الكيفيّة الّتي تُجزئه، وأراه الصّفة المشروعة، وأَعلَمه أنّها فُرضت عليه، ودلَّ أنّه يكفي ضربةٌ واحدة، ويكفي في اليدَين مسحُ الكفَّين، وأنّ الآية مُجمَلة بيَّنها ﷺ بالاقتصار على الكفَّين، وأفاد أنّ التّرتيب بين الوجه والكفَّين غير واجب، وإن كانت الواو لا تُفيد التّرتيب، إلّا أنّه قد ورد العطف في رواية للبخاريِّ للوجهِ على الكفَّين بـ(ثُمَّ)، وفي لفظ لأبي داود: «ثمّ ضرب بشِماله على يمينه، وبيمينه على شماله على الكفَّين، ثمّ مسح وجهه» وفي لفظ للإسماعيليِّ ما هو أوضحُ من هذا: «إنّما يكفيك أن تضرب بيدَيْكَ على الأرض، ثمّ تَنْفُضَهما، ثمّ تمسح بيمينك على شمالك، وبشمالك على يمينك، ثمّ تمسح على وجهك». ودلَّ أنّ التَّيمُّم فرض من أَجنَب ولم يَجِدِ الماء"[5]

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وَقد دلَّ حديث عمَّار هذا على أنه يجوز الِاقْتِصَارُ فِي التَّيَمُّم على الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ بضَربة واحدة، وهو قولُ مالك وَدَاوُد، وقال أَبُو حنيفةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيد: لَا يُجْزِيه إِلَّا أَن يمسح إِلَى الْمِرْفَقين. وَلَا يخْتَلف أَصْحَابُنا في جَوَاز الْأَمريْنِ؛ إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي الْمَسْنُون: فَقَالَ القَاضِي أَبُو يعلى: الْمسنون أَن يَضْرب ضربتين، يَمسَح بِوَاحِدَة وَجهَه وبالأخرى يَدَيْهِ إلى الْمِرْفَقين، فإن ضَرَب ضَرْبَة فمسح بها وجهَه وكفَّيه جَازَ. وقال أبو الخطَّاب الكلواذانيُّ: بل الْمَسنون عندَ أَحْمدَ ضَرْبَةٌ واحدة للْوَجْه والكَفَّيْنِ. وقال أبو الْوَفَاء بنُ عقيل: ظَاهرُ كلام أَحْمدَ يدلُّ على أَن الْمَسْح إلى الْمِرْفَقين جائز، وليس بمستحَبٍّ"[6]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقد اختُلف في كمِّيَّة الضّربات، وقدر التّيمُّم في اليدين، فذهب جماعة من السَّلف ومَن بعدهم إلى أنّها تكفي الضَّربة الواحدة، وذهب إلى أنّها لا تكفي الضّربة الواحدة جماعةٌ من الصّحابة ومَن بعدهم، وقالوا: لا بدَّ من ضربتينِ، والذّاهبون إلى كفاية الضَّربة جمهورُ العلماء وأهلُ الحديث؛ عملًا بحديث عمَّارٍ؛ فإنّه أصحُّ حديث في الباب، وحديث الضَّربتين لا يَقْوى على معارضته. قالوا: وكلُّ ما عدا حديثَ عمّارٍ فهو ضعيف أو موقوف.

وأمّا قَدْرُ ذلك في اليدين، فقال جماعة من العلماء وأهل الحديث: إنّه يكفي في اليدينِ الرّاحتان، وظاهرُ الكفَّين؛ لحديث عمّار هذا، وقد رُوِيَت عن عمّارٍ روايات بخلاف هذا؛ لكنّ الأصحَّ ما في الصّحيحين، وقد كان يُفتي به بعد موت النّبيِّ ﷺ. وقال آخرون: إنّها تجب ضربتانِ، ومسح اليدين مع الْمِرفَقين؛ لحديث ابن عمر، والأصحُّ فيه أنّه موقوف، فلا يقاوم حديث عمّار المرفوع الوارد للتّعليم، ومن ذلك اختلافُهم في التّرتيب بين الوجه واليدين، وحديث عمّار كما عرفتَ قاضٍ بأنّه لا يَجِب، وإليه ذهب من قال بالضَّربتين، إلا أنّه قال: لا بدَّ من التّرتيب بتقديم الوجه على اليدين، واليُمنى على اليسرى"[7]

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله ﷺ: «إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بكفَّيه الأرض ونَفَخ فيهما»، يُحتجُّ به في نفض اليدين، وقد أجاز مالك النَّفْضَ الخفيف في ذلك، وهو قول الكوفيين. وقوله: (فمسح بها وجَهه وكفَّيه): في ظاهره حُجَّةٌ لمن يرى الفرض ضربةً واحدةً، وهو قول بعض أصحابنا، ودليلُ قول مالكٍ، وأنه لا إعادة على مَن فَعَله، أو يُعيد في الوقت، وأن الضَّربة الثانية عنده سنَّةٌ، وجمهور العلماء على أنه لا يُجزيه إِلا ضربتان، وهو قول بعض أصحابنا، وَجَعله بعضهم قول مالك، ويَحتجُّ بها أيضًا من يقول: التيمُّم إلى الكُوعينِ، وهو قول جماعة من العلماء وفقهاء أصحاب الحديث، وبعض أصحابنا، وتأوَّلوها على رواية ابن القاسم عن مالك فيمن صلَّى بذلك أنه يُعيد في الوقت، والمعروف من مذهب مالك أن فَرْضه إلى الْمِرفَقين، وهو قول أكثرِ أئمَّة الفتوى والسلف. وقوله في الرواية الأخرى: «يمسح الشمال على اليمين وظاهِر كفّه»: تفسيرٌ لصفة المسح وعمومه"[8]

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "قَوله: (فتمرَّغت فِي الصَّعِيد كَمَا تتمرَّغ الدَّابَّة)، وَإِنَّمَا فعل هَذَا لِأَنَّهُ رأى التُّرَاب بَدَلًا عَن الْمَاء، فَاسْتَعْملهُ فِي جَمِيع الْبَدَن، فَأَما الصَّعِيد، فهو التُّرَاب؛ قَالَه عَليٌّ وَابْنُ مَسْعُود واللغويون، منهم الْفرَّاء وأبو عُبيد والزجَّاج وابن قُتَيْبَة.

وقال الشَّافِعِيُّ: لا يقع اسم (الصَّعِيد) إِلَّا على تُرَاب ذي غُبَار؛ فعلى هذا لا يجوز التَّيَمُّم إِلَّا بِالتُّرَابِ، وهو قَول أَحْمدَ وَالشَّافِعِيِّ ودَاوُدَ. وقال أَبُو حنيفة ومالك: يجوز بجميع أجزاء الأرض كالنورة والجصِّ والزَّرنيخ وَغَيرِه. وزاد مالكٌ فقال: ويجوز بالحَشِيش والشَّجر؛ فعلى هذا يكون الصَّعِيد عندهما ما تَصاعَد على وَجه الأرض، سَوَاءٌ كان تُرَابًا أَو غَيرَه، ولا خلاف أنه إِذا ضَرَب بيَده على الطِّين أنه لا يُجْزِيه، وَقد سلَّم خَصْمُنا بُرادة الذَّهَب وَالْفِضَّة، والصفر والنُّحاس، والدَّقيق وسحيق الزّجاج، والجوَّهر والصَّندل، ونحاتة الْخشب، وَنَحْو ذَلِك، فَأَمَّا الرَّمْلُ فلأبي حنيفَةَ وَأحمدَ فِيهِ رِوَايتانِ"[9]

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وفي حديث عمّار دلالة على أنّ المشروع هو ضرب التّراب، وقال بعدم إجزاء غيره الهادويّة وغيرهم؛ لحديث عمّار هذا، وحديث ابن عمر، وقال الشّافعيُّ: يُجزئ وضع يده في التُّراب؛ لأنّ في إحدى روايتي تيمُّمه ﷺ من الجدار، أنّه وضع يده. وفي رواية أيٍّ من حديث عمّار للبخاريِّ: «وضرب بكفَّيه الأرض ونفخ فيهما، ثمّ مسح بهما وجهه وكفَّيه»؛ أي: ظاهرهما كما سلف، وهو كاللّفظ الأوّل، إلّا أنّه خالفه بالتّرتيب وزيادة النّفخ، فأمّا نفخ التّراب فهو مندوب. وقيل: لا يُندَب، وهذا التّيمُّم وارد في كفاية التّراب للجُنُب الفاقد للماء، وقد قاسُوا عليه الحائض والنُّفساء، وخالف فيه ابن عمر وابن مسعود"[10]

قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه جواز الاجتهاد في زمان النبيِّ ﷺ عند الضرورة والبُعد منه؛ كما قال معاذٌ - رضي الله عنه - له: (أجتهد رأيي)، واستعمال القياس؛ لأنه لَمَّا رأى آية التيمُّم في الوضوء في بعض الأعضاء - إذ كان الوضوء مختصًّا ببعض الأعضاء - وكان طُهر الجنابة لعموم الجسد، استعمل التيمُّم بالتراب في جميع الجسد"[11]

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "وقولُه: (ونَفَض يَدَيْهِ). وَفِي لفظ: «يَكْفِيكَ أَن تضرب بيديك الأَرْض ثمَّ تَنفُخ»: يَحْتَجُّ به مَن يرى جَوَاز الضَّرْب على حَجَر لَا غُبَار لَهُ، وهو مَذْهَب أبي حنيفةَ ومالك. وعند أَحْمد وَالشَّافِعِيِّ: لا بدَّ من غُبَار يَعلَق بِالْيَدِ؛

لقَوْله تَعَالَى:

ٱمۡسَحُواْ بِوُجُوهِكُمۡ وَأَيۡدِيكُم مِّنۡهُۚ ﱠ

[المائدة: ٦]،

و"من" للتَّبْعِيض. وَأما نفضُ الْيَد ونفخُها، فَالْمُرَاد بِهِ تَخْفيُف مَا تعلَّق بِالْيَدِ؛ فإنَّه قد تعلَّق بها الكثير، والنفخ لا يَدفَع الْخَفِيف، وبه تقع الكفاية"[12]

قال القاضي عياض رحمه الله: "وفيه من الفقه أَنَّ المتأوِّل المجتهد لا إعادةَ عليه؛ لأن النبيَّ ﷺ لم يأمر عمَّارًا بالإعادة، وإن كان خطَّأ اجتهادَه؛ لأنه إنما ترك هيئة الطهارة، وقد جاء بها على غير هَيئتها، وأكمل مما يلزمه. وقوله: (فنفض يدَيه فنفخ فيهما): حُجَّة لمن أجاز نفض اليدين من التراب، وهو قول مالك والشافعيِّ، دون استقصاء لما فيهما من التراب؛ لكن لخشية ما يضرُّ به من ذلك من كثرته بتلويث وجهه، أو مُصادفة رُقاق حجرٍ فيه يُؤذيه ونحوه، وكان ابن عمر لا ينفُض"[13]

المراجع

  1.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 319).
  2.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140).
  3.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (1/ 320).
  4.  "مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز" (6/22).
  5.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140).
  6.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 344، 345).
  7. "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 140، 141).
  8.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 222).
  9.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 344).
  10.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 141).
  11.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 222).
  12.  "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (1/ 345).
  13.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 223).

غريب الحديث

تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي: أي: عَفَا عنهم، مِن: جَازَه يَجُوزه، إذا تَعدَّاه وعَبَر عليه[1].

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 314).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ  أنه قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ»؛ أي: إن الله تعالى تجاوز بفضله ورحمته عن أمَّة محمَّدٍ ، بعدم مؤاخذته لعباده بما حدَّثوا به أنفسهم، ما لم تَنطِق به ألسنتهم، أو تَعمَله جوارحهم، ورَفَع الحساب والعقاب عن وساوس الصدر، وخواطر النفس من الشرِّ، ما لم يتعدَّ ذلك إلى الفعل، فهذه الخواطر مَعْفُوٌّ عنها.

الشرح المفصَّل للحديث

 إن الشريعة الإسلامية الغرَّاء مَبْنيَّة على رفع الحرج، والتيسير على المؤمنين في العبادات والمعاملات

قال تعالى:

{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ }

[الحج: 78]

وقال تعالى:

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}

[البقرة: 185]

وعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه،

أن النبيَّ صلي الله عليه وسلم قال: «إِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ»

[1]،

وهذا التيسير والتخفيف مبنيٌّ على مراعاة ضعف الإنسان، وكثرة أعبائه وأشغاله

قال تعالى:

{ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا }

[النساء: 28]

كما أنها تجاوزت عن الأخطاء التي قد يقع فيها المسلمون دون تعمُّد أو قصد

قال تعالى:

{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}

[الأحزاب: 5]. 

وفي هذا الحديث الشريف يبيِّن النبيُّ مَظهَرًا من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده، وفضله على أمَّة محمَّدٍ ، ألا وهو عدم مؤاخذته لعباده بما حدَّثوا به أنفسهم، ما لم تنطق به ألسنتهم، أو تَعمَله جوارحهم، ورفع الحساب والعقاب عن وساوس الصدر، وخواطر النفس من الشرِّ ما لم يتعدَّ ذلك إلى الفعل، وأن هذه الخواطر من الأمور الْمَعْفُوِّ عنها، فلا يترتَّب عليها إثمٌ أو عقاب، فـ"الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقِرَّ ويستمِرَّ عليه صاحبُه، فمَعفوٌّ عنه باتِّفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الله تجاوز لأمَّتي ما حدَّثت به أنفسَها ما لم تتكلَّم به أو تعمل». قال العلماء: المراد به الخواطرُ التي لا تستقِرُّ، قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطر غِيبةً أو كُفْرًا أو غيرَه، فمن خطر له الكفرُ مجرَّد خَطَرانٍ من غير تعمُّد لتحصيله، ثم صَرَفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه، وفي الحديث الصحيح أنهم قالوا: يا رسولَ الله، يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: «ذلكَ صريحُ الإيمان»[2]"[3]. وفي ذلك تخفيفٌ ورحمة بالأمَّة المحمَّدية

قال تعالى:

{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}

[التوبة: 128]

فإذا مرَّت الفكرة على خاطر الإنسان دون استقرار، لم يَأثَم؛ بَيْدَ أنه لو عَزَم على فعل معصية، وعَقَد النيَّة على ذلك، أَثِم على نيَّته وعَزْمِه؛

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ،

فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»

[4]،

فـ"لو أنه حدَّث نفسَه بمعصية، لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية، فإنه يَخرُج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب؛ فإنَّ عَقْدَ النيَّة على الفعل من عمل القلب، فحينئذ يَأثَم بنيَّة السرِّ"[5].

وقد أُوحِيَ إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم في بداية التشريع أن المؤمنين مؤاخَذون بما تُخفيه نفوسُهم، وما تُضمِره صدورهم، فلما اشتدَّ ذلك على الصحابة - رضوان الله عليهم – وخافوا؛ لعدم استطاعتهم التحرُّز من ذلك، أوحى الله إلى نبيِّه أنه لا يكلِّف نفسًا فوق استطاعتها، فهَدَأت نفوس الصحابة  بذلك وسَكَنت، وفَرِحوا فَرَحًا شديدًا؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة: 284] قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ ﷺ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ»، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ، نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى فَأَنْزَلَ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ}  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ}  [البقرة: 286] قَالَ: «نَعَمْ» {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]  قَالَ: «نَعَمْ»

[6]. 

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (220).
  2. رواه مسلم (132).
  3. "الأذكار" للنوويِّ (ص: 345).
  4. رواه البخاريُّ (6491)، ومسلم (131).
  5. " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 488).
  6. رواه مسلم (125).



النقول

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قوله: «إن الله تجاوز عن أمتى ما حدَّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلَّم»، فجعل ما لم يَنطِق به اللسانُ لَغوًا لا حُكم له، حتى إذا تكلَّم به، يقع الجزاء عليه، ويَلزَم المتكلِّم"[1].

قال النوويُّ رحمه الله: "الخواطر وحديث النفس إذا لم يستقِرَّ ويستمِرَّ عليه صاحبُه، فمَعفوٌّ عنه باتِّفاق العلماء؛ لأنه لا اختيار له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه، وهذا هو المراد بما ثبت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: «إن الله تجاوز لأمَّتي ما حدَّثت به أنفسَها ما لم تتكلَّم به أو تعمل». قال العلماء: المراد به الخواطرُ التي لا تستقِرُّ، قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطر غِيبةً أو كُفْرًا أو غيرَه، فمن خطر له الكفرُ مجرَّد خَطَرانٍ من غير تعمُّد لتحصيله، ثم صَرَفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه، وفي الحديث الصحيح أنهم قالوا: يا رسولَ الله، يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: «ذلكَ صريحُ الإيمان»[2]"[3].

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "لو أنه حدَّث نفسَه بمعصية، لم يؤاخذ، فأما إذا عزم على المعصية، فإنه يَخرُج عن تحديث النفس، ويصير من أعمال القلب؛ فإنَّ عَقْدَ النيَّة على الفعل من عمل القلب، فحينئذ يَأثَم بنيَّة السرِّ"[4].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: " وحديث النّفس يَخرُج عن الوُسْع، نعم الاسترسال مع النّفس في باطل أحاديثها يُصيِّر العبدَ عازمًا على الفعل، فيُخاف منه الوقوع فيما يَحرُم، فهو الّذي ينبغي أن يسارع بقطعه إذا خَطَر"[5].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحمد لله، رَفَع الحرج عن كلِّ ما حدَّثت به نفسك؛ لكنك ما رَكَنْتَ إليه، ولا عَمِلْتَ، ولا تكلَّمت، فهو معفوٌّ عنه، حتى ولو كان أكبرَ من الجبال؛ فاللهمَّ لك الحمد، حتى إن الصحابة - رضي الله عنهم - قالوا: يا رسول الله، نجد في نفوسنا ما نحبُّ أن نكون حمَمَةً – يعني: فحمة محترقة - ولا نتكلَّم به، قال: «ذاك صريح الإيمان»؛ يعني: ذاك هو الإيمان الخالص؛ لأن الشيطان لا يُلقي مثلَ هذه الوساوس في قلب خَرِب، في قلب فيه شكٌّ؛ إنما يتسلَّط الشيطان - أعاذنا الله منه - على قلبٍ مؤمن خالصٍ ليُفسده.

ولَمَّا قيل: إن اليهود إذا دخلوا في الصلاة لا يُوَسْوَسون، قال: وما يصنع الشيطان بقلب خرب؛ فاليهود كفَّار، قلوبُهم خَرِبة، فالشيطانُ لا يُوَسْوِس لهم عند صلاتهم؛ لأنها باطلة من أساسها، إنما الشيطان يوسوس للمسلم الذي صلاتُه صحيحة مقبولة؛ ليُفسدها، فيأتي للمؤمن صريحِ الإيمان ليُفسِد هذا الإيمان الصريح؛ ولكن - والحمد لله - من أعطاه الله تعالى طبَّ القلوب والأبدان، محمَّد  وصَف لنا لهذا طبًّا ودواءً، فأرشد إلى الاستعاذة بالله والانتهاء، فإذا أحسَّ الإنسان بشي من هذه الوساوس الشيطانية، فإنه يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولْيَنْتَهِ ويُعرِض عنها ولا يَلتفِت إليها، ويمضي فيما هو عليه، فإذا رأى الشيطان أنه لا سبيل إلى فساد هذا القلب المؤمن الخالص، نَكَص على عَقِبَيْهِ ورجع"[6].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 418).
  2. رواه مسلم (132).
  3. "الأذكار" للنوويِّ (ص: 345).
  4. " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 488).
  5. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 258، 259).
  6. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 324، 325).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عثمانُ بنُ عفَّانَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»، وفي رواية: «إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»؛ أي: إن خيرَ الناس، وأفضلَهم، وأعلاهم درجةً عند الله تعالى، مَن أَقبَل على القرآن الكريم، فتَعلَّمه تلاوةً وحِفظًا وعَملاً، فأصبح عالِمًا بمعانيه وأحكامه، ثم أقبل على تعليمه للناس، فيَنال بتعلُّمه درجة المتعلِّمين، وبتلقينه درجة العالِمين، فيكون حُجَّةً له، لا عليه.

الشرح المفصَّل للحديث:

يُخبِر النبيُّ ﷺ أن خيرَ الناس، وأفضلَهم، وأعلاهم درجةً عند الله تعالى مَن أَقبَل على القرآن الكريم، فتَعلَّمه تلاوةً وحِفظًا وعَملاً، فأصبح عالِمًا بمعانيه وأحكامه، ثم أقبل على تعليمه للناس، فيَنال بتعلُّمه درجة المتعلِّمين، وبتلقينه درجة العالِمين، فيكون حجَّةً له، لا عليه، "ولا شكَّ أن الجامع بين تعلُّم القرآن وتعليمه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامعٌ بين النفع القاصر والنفع المتعدِّي؛ ولهذا كان أفضلَ، وهو من جملة من عَنى سبحانه وتعالى بقوله:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) " [1].

[فصلت: 33]

فالخيرية لصاحب القرآن أن يجمع بين التعلُّم والتعليم، وهذا من أفضل أعمال البِرِّ والخير عند الله تعالى، وبذلك ينال صاحب القرآن العاملُ به الدرجةَ العالية عند الله تعالى

عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا»[2].

وإن "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[3].

لذا؛ كان السلف يحرصون على تعلُّم القرآن وتعليمه؛ ليرتفع شأنهم عند الله تعالى؛ فهذا أبو عبد الرحمن السُّلَميِّ، راوي الحديث عن عثمانَ - رضي الله عنه - يجلس للإقراء من عهد إمرة عثمانَ رضي الله عنه، حتى عهد الحجَّاج، ويقول: "وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا".

وكما يرفع القرآنُ من شأن صاحبه في الآخرة، يَرفَع من شأنه في الدنيا أيضًا؛ فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ، لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ، وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ، فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟ فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، فقال: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ فقال: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا. قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ  قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»[4].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).
  2. رواه أحمد (6799)، وأبو داود (1464)، والترمذيُّ (2914)، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (1317): "إسناده حسن صحيح، وصحَّحه ابن حبان والحاكم والذهبيُّ".
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  4. رواه مسلم (817).


النقول:

قال ابن بطال رحمه الله: "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[1].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«خَيْرُكُمْ»؛ أي: يا معشرَ القُرَّاء، أو يا أيّتها الأمّة؛ أي: أفضلكم كما في رواية. «من تعلّم القرآن»؛ أي: حقَّ تعلُّمه، «وعلَّمه»؛ أي: تعليمه، ولا يتمكَّن من هذا إلّا بالإحاطة بالعلوم الشّرعيّة، أصولها وفروعها مع زوائد العوارف القرآنيّة وفوائد المعارف الفوقانيّة، ومثل هذا الشّخص يُعَدُّ كاملًا لنفسه، مكمِّلًا لغيره؛ فهو أفضل المؤمنين مطلقًا، ولذا؛ ورد عن عيسى - عليه الصّلاة والسّلام -: "من عَلِم وعَمِل وعلَّم يُدعى في الملكوت عظيمًا"، والفرد الأكمل من هذا الجنس هو النّبيُّ ﷺ ثمّ الأشبه فالأشبه، وأدناه فقيه الكتاب، واللّه أعلم بالصّواب. وقال الطِّيبيُّ: "أي: خير النّاس باعتبار التّعلُّم والتّعليم من تعلَّم القرآن وعلَّمه"، وقال مِيرَكُ رحمه اللّه: "أي: من خيركم؛ لورود ذلك المعلِّم والمتعلِّم أيضًا". قلت: كلُّ ما ورد داخل في المعلِّم والمتعلِّم، كلُّ الصَّيد في جوف الفِرا، ولا يُتوهَّم أنّ العمل خارج عنهما؛ لأنّ العلم إذا لم يكن مورِثًا للعمل، فليس علمًا في الشّريعة؛ إذ أجمعوا على أنّ من عصى اللّه فهو جاهل، مع أنّه قيل للإمام أحمدَ: إلى متى العلم، فأين العمل؟ قال: عِلْمُنا عَمَل. ثمّ الخطاب عامٌّ لا يختصُّ بالصّحابة، كذا قيل، ولو خصَّ بهم فغيرهم بالطَّريق الأَولى، والقرآن يُطلَق على كلِّه وبعضه، ويصبح إرادة المعنى الثّاني هنا باعتبار أنّ من وجد منه التّعلُّم والتّعليم، ولو في آية، كان خيرًا ممَّن لم يكن كذلك، ووجه خيريّته يُعلَم من الحديث الصّحيح: «أهل القرآن هم أهل اللّه وخاصّته»[2]، والحاصل أنّه إذا كان خيرُ الكلام كلامَ اللّه، فكذلك خير النّاس بعد النّبيِّين من يتعلَّم القرآن ويعلِّمه؛ لكن لا بدَّ من تقييد التّعلُّم والتّعليم بالإخلاص؛ قال الإمام النّوويُّ - رحمه اللّه - في الفتاوى: تعلُّم قدر الواجب من القرآن والفقه سواء في الفضل، وأمّا الزّيادة على الواجب فالفقه أفضلُ. اهـ، وفيما قاله نظر ظاهر مع قطع النّظر عن إساءة الإطلاق؛ لأنّ تعلُّم قدر الواجب من القرآن علم يقينيٌّ، ومن الفقه ظنّيٌّ، فكيف يكونان في الفضل سواءً، والفقه إنّما يكون أفضل لكونه معنى القرآن، فلا يقابل به، نعم، لا شكَّ أنّ معرفة معنى القرآن أفضل من معرفة لفظه، وأنّ المراد بالقدر الواجب من القرآن تعلُّم سورة الفاتحة مثلًا"[3].

قال المناويُّ رحمه الله: "«خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»؛ أي: خيرُ المتعلِّمين والمعلِّمين من كان تعلُّمه وتعليمه في القرآن، لا في غيره؛ إذ خيرُ الكلام كلام الله، فكذا خيرُ الناس بعد النبيِّين مَن اشتغل به، أو المراد خيرُ المتعلِّمين مَن يعلِّم غيره، لا من يقتصر على نفسه، أو المرادُ خيريَّةٌ خاصَّة من هذه الجهة؛ أي: جهة حصول التعليم بعد العلم، والذي يعلِّم غيره يَحصُل له النفع المتعدِّي بخلاف من يعمل فقط؛ ولذلك استظهروا رواية الواو على (أو)؛ لاقتضائها إثباتَ الخيرية لمن فعل أحد الأمرين، ولا شكَّ أن الجامع بينهما مكمِّل لنفسه ولغيره، فهو الأفضل. وقال بعض المحقِّقين: والذي يَسبِق للفَهم مِن تعلُّم القرآن حِفْظُه وتعلُّم فِقهه؛ فالخِيَارُ مَن جَمَعَهما. قال الطِّيبيُّ: ولا بدَّ من تقييد التعلُّم والتعليم بالإخلاص، فمن أخلَصَهما وتخلَّق بهما، دَخَل في زُمرة الأنبياء"[4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«خيركم من تعلَّم القرآن وعلَّمه»: الخطابُ للأمَّة عامَّةً؛ فخيرُ الناس مَن جَمَع بين هذين الوصفينِ من تعلُّم القرآن وعلَّم القرآن، تعلَّمه من غيره، وعلَّمه غيرَه، والتعلُّم والتعليم يَشمَل التعلُّم اللفظيَّ والمعنويَّ، فمن حَفِظ القرآن؛ يعني: صار يعلِّم الناس التلاوة، ويحفِّظهم إيَّاه، فهو داخل في التعليم، وكذلك من تعلَّم القرآن على هذا الوجه، فهو داخل في التعلُّم. والنوع الثاني: تعليم المعنى؛ يعني: تعليم التفسير؛ أن الإنسان يجلس إلى الناس يعلِّمهم تفسير كلام الله عزَّ وجلَّ... فإذا علَّم الإنسان غيرَه كيف يفسِّر القرآن وأعطاه القواعد في ذلك، فهذا من تعليم القرآن"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "وتعلُّم القرآن وتعليمُه يتناول تعلُّم حروفه وتعليمها، وتعلُّم معانيه وتعليمها، وهو أشرف قسمَيْ علمِه وتعليمه؛ فإن المعنى هو المقصود، واللّفظ وسيلة إليه، فتعلُّم المعنى وتعليمه، تعلُّم الغاية وتعليمها، وتعلُّم اللّفظ المجرَّد وتعليمه، تعلُّم الوسائل وتعليمها، وبينهما كما بين الغايات والوسائل"[6].

قال ابن حجر رحمه الله: "نقول: يُحتمَل أن يكون المراد بالخيريّة من جهة حصول التّعليم بعد العلم، والّذي يعلِّم غيره يحصل له النَّفع المتعدِّي بخلاف من يعمل فقط؛ بل من أشرف العمل تعليم الغير؛ فمعلِّم غيره يستلزم أن يكون تعلُّمه وتعليمه لغيره عمل وتحصيل نفع متعدٍّ، ولا يُقال: لو كان المعنى حصولَ النَّفع المتعدِّي، لاشترك كلُّ من علَّم غيره علمًا ما، في ذلك؛ لأنّا نقول: القرآن أشرف العلوم، فيكون من تعلَّمه وعلَّمه لغيره أشرفَ ممَّن تعلَّم غير القرآن، وإن علَّمه، فيثبت المدَّعى، ولا شكّ أن الجامع بين تعلُّم القرآن وتعليمه مكمِّل لنفسه ولغيره، جامع بين النفع القاصر والنفع المتعدِّي؛ ولهذا كان أفضل، وهو من جملة من عنى سبحانه وتعالى بقوله:

(وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

[فصلت: 33]

والدّعاء إلى اللّه يقع بأمور شتّى، من جُملتها تعليم القرآن، وهو أشرف الجميع... فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون المقرئ أفضل من الفقيه، قلنا: لا؛ لأنّ المخاطَبين بذلك كانوا فقهاء النّفوس؛ لأنّهم كانوا أهل اللّسان، فكانوا يدرون معاني القرآن بالسّليقة أكثر ممّا يدريها من بعدهم بالاكتساب، فكان الفقه لهم سجيّةً، فمن كان في مثل شأنهم، شاركهم في ذلك، لا من كان قارئًا أو مُقرئًا محضًا لا يفهم شيئًا من معاني ما يقرؤه أو يُقرئه، فإن قيل: فيلزم أن يكون المقرئ أفضل ممّن هو أعظم غِناءً في الإسلام بالمجاهدة والرّباط والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مثلًا، قلنا: حرف المسألة يدور على النّفع المتعدّي، فمن كان حصوله عنده أكثر، كان أفضل؛ فلعلّ (من) مضمرة في الخبر، ولا بدّ مع ذلك من مراعاة الإخلاص في كلّ صنف منهم، ويُحتمَل أن تكون الخيريّة وإن أُطلقت؛ لكنّها مقيَّدة بناس مخصوصين خوطِبوا بذلك، كان اللّائق بحالهم ذلك، أو المراد خير المتعلِّمين من يعلِّم غيره، لا من يقتصر على نفسه، أو المراد مراعاة الحيثيّة؛ لأنّ القرآن خير الكلام، فمتعلِّمه خير من متعلّم غيره بالنّسبة إلى خيريّة القرآن، وكيفما كان فهو مخصوص بمن علَّم وتعلَّم، بحيث يكون قد عَلِم ما يجب عليه عَينًا"[7].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: فَإِن قلت: أيما أفضل: تعلُّم الْقُرْآن أَو تعلُّم الْفِقْه؟ قلتُ: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: تعلُّم اللَّازِم مِنْهُمَا فرضٌ على الْأَعْيَان، وَتعلُّم جميعهما فرضٌ على الْكِفَايَة، إِذا قَامَ بِهِ قومٌ سَقَط عَن البَاقِينَ، فَإِن فَرضنَا الْكَلَام فِي التزيُّد مِنْهُمَا على قدر الْوَاجِب فِي حقِّ الْأَعْيَان، فالمتشاغِل بالفقه أفضلُ، وَذَلِكَ رَاجعٌ إِلَى حَاجَة الْإِنْسَان؛ لِأَنَّ الْفِقْه أفضل من الْقِرَاءَة، وَإِنَّمَا كَانَ القارئ فِي زمن النَّبِيِّ ﷺ هُوَ الأفقهَ؛ فَلذَلِك قدَّم القارئ فِي الصَّلَاة"[8].

قال قتادة رحمه الله: "لم يُجالس هذا القرآنَ أحدٌ إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان"[9].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظَاهِرٌ؛ أي: تَنْتَفِعُ به إِنْ تَلَوْتَهُ وَعَمِلْتَ به، وإلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"[10].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ"[11].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «والقرآن حجَّة لك أو عليك»؛ لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجَّة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلت به إلى الله، وقُمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه؛ ففي هذه الحال يكون حجَّةً لك. أما إن كان الأمر بالعكس، أَهنْتَ القرآن، وهجرتَه لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقم بواجبه، فإنه يكون شاهدًا عليك يوم القيامة "[12].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ»؛ أي: بالإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل به، والمراد بالكتاب: القرآن البالغ في الشَّرف، وظهور البرهان مبلغًا لم يَبلُغه غيره من الكتب المنزَّلة على الرّسل المتقدِّمة. «أقوامًا»؛ أي: درجة جماعات كثيرة في الدّنيا والآخرة بأن يُحييَهم حياةً طيّبةً في الدّنيا، ويجعلهم من الّذين أنعم اللّه عليهم في العقبى. «ويضع به آخرين»؛ أي: الّذين كانوا على خلاف ذلك من مراتب الكاملين إلى أسفل السّافلين

قال تعالى:

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا)

[البقرة: 26]

فهو ماء للمحبوبين دماء للمحجوبين

وقال - عزّ وجلّ -:

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)"[13].

[الإسراء: 82]

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  2. رواه أحمد (12279)، والنسائيّ (7977) بلفظ: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «إنّ للّه أهلين من خلقه» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصّته»، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1432).
  3. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1452، 1453).
  4. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 499).
  5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 639، 640).
  6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 74).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 76).
  8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (20/ 43).
  9. "أخلاق حملة القرآن" للآجرِّيِّ (ص : 73).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).
  11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
  12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191، 192).
  13. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1457).


غريب الحديث:

السَّبْعُ الْمَثَانِي: سُمِّيَت السَّبْع؛ لأنها سبعُ آيات، ومثاني؛ لأنها تُثنَّى في الصلاة؛ أي: تُكرَّر فيها في كلِّ ركعة مرَّةً، وقيل: لأنها استُثنيت لهذه الأمَّة؛ أي: استَخرَجت ما لم يَنزِل على مَن قبلها مِن الثناء، أو لِمَا فيها من الثناء[1]. 

القُرْآن العَظِيم: أي: لعِظَم ثَواب قراءتها؛ وذلك لِما تجمَّع من الثَّناء والدُّعاء والسُّؤال[2].

المراجع

  1. "شرح مصابيح السنة للإمام البغويِّ" لابن الملك (3/ 16).
  2. "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (11/ 491).


سبب نزول سورة الفاتحة:

عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ إِذَا بَرَزَ، سَمِعَ مُنَادِيًا يُنَادِيهِ: "يَا مُحَمَّدُ"، فَإِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ انْطَلَقَ هَارِبًا، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ فَاثْبُتْ حَتَّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَكَ. قَالَ: فَلَمَّا بَرَزَ النِّدَاء: "يَا مُحَمَّدُ"، فَقَالَ: لَبَّيْكَ، قَالَ: قُلْ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّه، ثُمَّ قَالَ: قُلْ: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (2) ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3) مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}  ﭠﮊ حَتَّى فَرَغَ مِنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ"، وهذا قول عليِّ بنِ أبي طالبٍ

[1].

المراجع

  1. "أسباب نزول القرآن" للواحديِّ (ص: 19).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أَبو سَعِيدِ بْنُ المُعَلَّى، قَالَ: (كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي): فيُخبر الصحابيُّ الجليل أبو سعيد أنه كان يصلِّي في المسجد، فنادى عليه النبيُّ ﷺ، فلم يُجبِ ولم يردَّ عليه؛ لأنه كان يصلِّي.

فَقَالَ ﷺ:

«أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}»

أي: فعاتَبَه النبيُّ ﷺ على عدم إجابته بأمر الله للمؤمنين أن يُجيبوه ﷺ  إذا دعاهم.

ثُمَّ قَالَ ﷺ له: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ)»؛ أي: ثم قال له النبيُّ ﷺ: لأُعَلِمنَّك - الآن قبل أن تخرج من المسجد - سورةً هي أعظمُ السور في القرآن في الأجر، وفي ثواب قراءتها، وفي فضلها.

قال أبو سعيد: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟)؛ أي: فأخذ النبيُّ ﷺ بيدِ أبي سعيد، وهمَّ أن يَخرُج من المسجد، فإذا بأبي سعيد يذكّره بقوله ﷺ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ»، يريد معرفتها.

قَالَ ﷺ:

{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}

أي: فأخبره النبيُّ  ﷺ أن سورة الفاتحة، هي أعظمُ سورة في القرآن.
وقال ﷺ: «هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»؛ أي: هي السبع الآيات، الْمَثَاني؛ التي: يُثنَى بها على الله تعالى، أو لأنها تُثنَّى – أي: تُكرَّر وتُعاد - في كلِّ ركعة، والقرآن العظيم الذي أُوتيَه ﷺ.

الشرح المفصَّل للحديث:

من سنن الله تعالى في خلقه أنه فضَّل بعض الأماكن على بعض، وفضَّل بعض الأزمنة على بعض، وفضَّل بعض الناس على بعض، وفضَّل النبيين على سائر الناس، وفضَّل بعض النبيِّين على بعض

قال تعالى:

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}

[البقرة: 253]

وفضَّل بعض الكتب المنزَّلة على بعض

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: 48]

فأنزل الله التوراة والإنجيل والقرآن، وفضَّل القرآن عليهما، وجعله مصدِّقًا لِمَا أَنزل من التوراة والإنجيل، وشاهدًا عليهما، وإنما كان كذلك لأنه لا يتطرَّق إليه التبديل ولا التحريف

قال تعالى:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]

والقرآن كلام الله، أَنزَله على خير خلقِه محمَّدٍ ﷺ، له قُدُسية خاصَّة، ولسُوَره جميعِها إجلالٌ وتعظيم؛ إلا أنه فضَّل بعضها على بعض، وبعضَ آياتها على بعض

قال تعالى:

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: 106]

"وقوله - عليه السلام – لأُبىِّ بن كعب: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم؟» وذَكَر آية الكرسيِّ، فيه حُجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضِه أكثر من سائره، وهذا مما اختَلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ، والباقلَّانيُّ، وجماعةٌ من الفقهاء، وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعَّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسُّور فمعناه: عظيم وفاضل"[1]،

 "والمختار: جوازُ قول: هذه الآية أو السورة أعظمُ أو أفضلُ؛ بمعنى: أن الثواب المتعلِّق بها أكثر"[2] ،

"وفي الجملة: فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[3].

فدلَّ ذلك على أن بعض سور القرآن أفضلُ من بعض، وبعضَ آياته أفضلُ من بعض، ومن بين هذه السُّور التي فضَّلها ربُّ العِزَّة - عزَّ وجلَّ - سورةُ الفاتحة، وهي سورة مكية، نَزَلت بعد سورة المدَّثِر، وهي السورة الأولى ترتيبًا في المصحف، وعدد آياتها: سبعُ آيات. 
ففي الحديث (عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ المُعَلَّى، قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي فِي المَسْجِدِ، فَدَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ أُجِبْهُ): يُخبرنا أبو سعيدِ بنُ الْمُعَلّى أنه كان يصلِّي، فنادى عليه النبيُّ ﷺ، فلم يُجبِه، (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، فَقَالَ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:

{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ})

أي: فعاتَبَه النبيُّ ﷺ على عدم إجابته بالآية، أوَلَيْسَ تَجِدُ في كتاب الله تعالى قوله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}، فكان جوابه أنه كان يؤدِّي الصلاة؛ ظنًّا منه أن  الخطاب في الآية لمن هو خارج الصلاة، وفي الحديث تقديم وتأخير، (ثُمَّ قَالَ لِي: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي القُرْآنِ، قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ»)؛ أي: ثم قال له النبيُّ ﷺ: لأُعَلِمنَّك سورة هي أعظمُ السور في القرآن؛ أي: في أجرها، وثواب قراءتها، ولِما فيها من معاني الثناء، والسؤال، والدعاء؛ فـ"معناه: أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستُدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل: أن ثواب بعضه أعظمُ من ثواب بعض؛ فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"[4].

قال أبو سعيد: (ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ: لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ؟)؛ أي: فأخذ النبيُّ ﷺ بيد أبي سعيد، وهمَّ أن يَخرُج من المسجد، فإذا به يذكّره بقوله ﷺ: «لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ» وفيه: حِرْصُ أبي سعيد بن الْمُعَلَّى على التعلُّم، وفيه أيضًا: تواضع النبيِّ ﷺ مع أصحابه.

قَالَ ﷺ:

«{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ}

هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، وَالقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ»؛ أي: فأجابَه النبيُّ ﷺ إلى سؤاله، وأخبره أن سورة الفاتحة هي أعظمُ سورة في القرآن، فقوله:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} : هو اسم للسورة، ولم يُرِدِ الآية وحدَها، وهي: السبع؛ أي: الآيات، والْمَثَاني: سُمِّيت بذلك؛ لأنها يُثنَى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها تُثنَّى في كلِّ ركعة؛ أي: تُكرَّر وتُعاد، وقيل: لأنها استُثْنِيَت لهذه الأمَّة، لم تنزل على غيرها، والقرآن العظيم الذي أُوتيَه ﷺ، و"فيه دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم المقصود في قوله:

{َلَقَدْ آتَيْنَاكَ}

وأن الواو ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفضيل؛ كقوله:

{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}،{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}"[5]

 ويَشهَد له حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمُّ القُرْآنِ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي وَالقُرْآنُ العَظِيمُ»[6].

وقد خصَّ الله تعالى سورة الفاتحة بفضائلَ كثيرةٍ، منها:

• أنها ركنٌ من أركان الصلاة، لا تصحُّ الصلاة إلا بها

عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لا صَلاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ»[7].

• أنها نورٌ من الله تعالى

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ:

بَيْنَمَا جِبْرِيلُ قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: «هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا الْيَوْمَ، فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بِنُورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إِلَّا أُعْطِيتَهُ»[8].

• أنها أفضل سورة في القرآن الكريم؛ كما نصَّ عليه حديث الباب عن أبي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى.

• أنها لم تنزل سورةٌ مثلُها في فضلها، وثوابها، ومكانتها في الكتب السابقة

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ….، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أُنْزِلَتْ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ وَلَا فِي الفُرْقَانِ مِثْلُهَا، وَإِنَّهَا سَبْعٌ مِنَ المَثَانِي وَالقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُعْطِيتُهُ»[9].

• أن فيها حمدًا لله تعالى، وثناءً عليه، وتمجيدًا له، وتفويضَ الأمر إليه، وتتحقَّق بها المناجاة بين العبد وربِّه

عَنْ أَبِي هُرَيْرَة، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ – ثَلَاثًا - غَيْرُ تَمَامٍ»، فَقِيلَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ؟ فَقَالَ: «اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ»؛ فإنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «قَالَ اللهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ:{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}[الفاتحة: 3]، قَالَ اللهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ}[الفاتحة: 4] ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي - وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي - فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ:{ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّآلِّينَ} [الفاتحة: 6- 7] قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»[10].

• أنها رُقْيَة، وشِفاء من الأمراض

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، قَالَ:

كُنَّا فِي مَسِيرٍ لَنَا فَنَزَلْنَا، فَجَاءَتْ جَارِيَةٌ، فَقَالَتْ: إِنَّ سَيِّدَ الحَيِّ سَلِيمٌ، وَإِنَّ نَفَرَنَا غَيْبٌ، فَهَلْ مِنْكُمْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مَا كُنَّا نَأْبُنُهُ بِرُقْيَةٍ، فَرَقَاهُ فَبَرَأَ، فَأَمَرَ لَهُ بِثَلاثِينَ شَاةً، وَسَقَانَا لَبَنًا، فَلَمَّا رَجَعَ قُلْنَا لَهُ: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً - أَوْ كُنْتَ تَرْقِي؟ - قَالَ: لا، مَا رَقَيْتُ إِلَّا بِأُمِّ الكِتَابِ، قُلْنَا: لا تُحْدِثُوا شَيْئًا حَتَّى نَأْتِيَ - أَوْ نَسْأَلَ - النَّبِيَّ ﷺ، فَلَمَّا قَدِمْنَا المَدِينَةَ ذَكَرْنَاهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: «وَمَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»[11].

• اشتمالها على أفضل الدعاء: وهو: الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وآداب الدعاء: وهي: البَدْءُ بالحمد أولاً، ثم الثناء، ثم التمجيد، ثم إفراد العبودية له، ثم الاستعانة به دون سواه

عَنْ فَضَالَةَ بْن عُبَيْدٍ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَال:

سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدِ اللَّهَ تَعَالَى، وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَجِلَ هَذَا»، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: - أَوْ لِغَيْرِهِ - «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ»[12].

المراجع

  1. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177).
  2. "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (5/ 375).
  3. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (8/ 158).
  5. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاري" للخطَّابيِّ (3/ 1798).
  6. رواه البخاريُّ (4704).
  7. رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  8. رواه مسلم (254).
  9. رواه مسلم (806).
  10. رواه مسلم (395).
  11. رواه البخاريُّ (5007)، ومسلم (2201).
  12. رواه أبو داود (1481)، والترمذيُّ (3477)، والنسائي (1284) وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.


النقول:

قال ابن حجر : "نقل ابنُ التين عن الداوديِّ أن في حديث الباب تقديمًا وتأخيًرا، وهو قوله: «أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ:{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ}». قبل قول أبي سعيد «كنت في الصلاة» قال: فكأنه تأوَّل أن من هو في الصلاة خارجٌ عن هذا الخطاب، قال: والذي تأوَّل القاضيان عبد الوهاب وأبو الوليد أن إجابة النبيِّ ﷺ في الصلاة فرضٌ يُعصى الْمَرء بتركه، وأنه حُكْمٌ يختصُّ بالنبيِّ ﷺ. قلتُ: وما ادَّعاه الداوديُّ لا دليلَ عليه، وما جَنَح إليه القاضيان من المالكية هو قولُ الشافعية على اختلافٍ عندهم بعد قولهم بوجوب الإجابة، هل تَبطُل الصلاة أم لا؟ قوله: "لأعلِمَنَّكَ سورةً هي أعظمُ السُّور» في رواية روح في تفسير الأنفال: «لأعلمنَّكَ أعظم سورة في القرآن»، وفي حديث أبي هريرة: «أتحبُّ أن أعلِّمَك سورةً لم يَنزِل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزَّبور ولا في الفرقان مِثْلَها». قال ابن التين: معناه أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقصٌ عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل أن ثواب بعِضه أعظمُ من ثواب بعض، فالتفضيلُ إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} "[1]. 

[البقرة: 106]

قال ابن الجوزيِّ : "وفي هذا الحديث دليلٌ على أن الأمر على الفَور؛ لأنّه عاتَبه لَمّا تأخَّر عن إجابته. وفيه دليلٌ على لزوم العمل بمقتضى اللّفظ، إلّا أن يَصرِف عنه دليلٌ؛ لأنّه قال:

ألم يقل اللّه:

«{اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}».

وأما السّورة فقال ابن قُتيبة: من هَمَزَ السّورةَ جعلها من: أَسْأَرْتُ؛ يعني: أَفْضَلْتُ؛ كأنّها قطعة من القرآن، ومن لم يَهمِزْها جعلها من سورة البناء؛ أي: منزلة بعد منزلة. قال أبو عُبيدة: إنّما سُمِّيت سورة؛ لأنّها يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة. وقوله: (الحمد لله) دليل على أن البسملة ليست منها؛ لأنّه ابتدأ بـ (الحمد). وقوله: «هي السّبع» لأنّها سبع آيات. وإنّما سُمِّيت بالمثاني؛ لأنّها تثنَّى في كُلِّ ركعة، قاله ابن الأنباريِّ. وقيل: لأنّها ممّا أُثني به على الله عزّ وجلّ، ذكره الزّجّاج"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ثم أخذ بيدي» زاد في حديث أبي هريرة: «يحدِّثني وأنا أتباطأ مخافةَ أن يَبلُغ الباب قبل أن ينقضيَ الحديث». قوله: «ألم تقل: لأعلمنَّكَ سورة». في حديث أبي هريرة: «قلت: يا رسول الله، ما السورة التي قد وعدتَني؟ قال: كيف تقرأ في الصلاة؟ فقرأت عليه أم الكتاب». قوله: «قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم» في رواية معاذ في تفسير الأنفال: «فقال: هي الحمد لله رب العالمين، السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» وفي حديث أبي هريرة: «فقال: إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»، وفي هذا تصريح بأن المراد بقوله تعالى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي}

[الحجر: ٨٧]

هي الفاتحة. وقد روى النسائيُّ بإسناد صحيح عن ابن عباس: "أن السبع المثاني هي السبع الطوال"؛ أي: السُّور من أوَّل البقرة إلى آخر الأعراف ثم براءة، وقيل: يونس. وعلى الأول، فالمراد بالسبع الآي لأن الفاتحة سبعُ آيات، وهو قول سعيدِ بنِ جُبيرٍ. واختُلف في تسميتها "مثاني"، فقيل: لأنها تُثنَّى كلَّ ركعة؛ أي: تُعاد، وقيل: لأنها يُثنى بها على الله تعالى، وقيل: لأنها استُثْنِيَت لهذه الأمَّة لم تنزل على مَن قَبلَها"[3].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "فيه دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم المقصود في قوله:

{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ}

الآية، وأن الواو ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفضيل؛ كقوله:

{وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ}،{فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}"[4].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن التين: فيه دليل على أن (بسم الله الرحمن الرحيم) ليست آيةً من القرآن، كذا قال، عكس غيره؛ لأنه أراد السورة، ويؤيِّده أنه لو أراد

{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِين}

الآية، لم يقل: «هي السبع المثاني»؛ لأن الآية الواحدة لا يقال لها: سبع، فدلَّ على أنه أراد بها السورة. (والحمد لله رب العالمين) من أسمائها، وفيه قوَّة لتأويل الشافعيِّ في حديث أنس، قال: كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين، قال الشافعيُّ: أراد السورة، وتُعقِّب بأن هذه السورة تسمَّى سورة الحمد لله، ولا تسمَّى الحمد لله رب العالمين، وهذا الحديث يَرُدُّ هذا التعقب، وفيه أن الأمر يقتضي الفَوْرَ؛ لأنه عاتب الصحابيَّ على تأخير إجابته، وفيه استعمال صيغة العموم في الأحوال كلِّها، قال الخطَّابيُّ: فيه أن حُكم لفظ العموم أن يَجريَ على جميع مقتضاه، وأن الخاصَّ والعامَّ إذا تقابلا، كان العامُّ منزَّلاً على الخاصِّ؛ لأن الشارع حرَّم الكلام في الصلاة على العموم، ثم استثنى منه إجابةَ دعاء النبيِّ ﷺ في الصلاة. وفيه أن إجابة المصلِّي دعاءَ النبيِّ ﷺ لا تُفسد الصلاة، هكذا صرَّح به جماعةٌ من الشافعية وغيرهم. وفيه بحثٌ؛ لاحتمال أن تكون إجابته واجبةً مطلَقًا، سواءٌ كان المخاطَب مصلِّيًا أو غيرَ مصلٍّ، أما كونُه يَخرُج بالإجابة من الصلاة أو لا يخرج، فليس من الحديث ما يَستلزِمه، فيُحتمَل أن تَجِبَ الإجابةُ ولو خرج المجيب من الصلاة، وإلى ذلك جَنَح بعض الشافعية، وهل يختصُّ هذا الحكم بالنداء، أو يَشمَل ما هو أعمُّ حتى تجب إجابته إذا سأل؟ فيه بحثٌ، وقد جَزَم ابن حبَّانَ بأن إجابة الصحابة في قصَّة ذي اليَدين كان كذلك"[5]. 

قال ابن تيمية رحمه الله: "وفي الجملة: فدلالة النصوص النبوية والآثار السلفية والأحكام الشرعية والحُجَج العقلية على أن كلام الله بعضُه أفضلُ من بعض، هو من الدلالات الظاهرة المشهورة"[6].

قال ابن حجر رحمه الله: قوله: «والقرآن العظيم الذي أوتيته». قال الخطَّابيُّ: في قوله: «هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيتُه» دلالة على أن الفاتحة هي القرآن العظيم، وأن الواوَ ليست بالعاطفة التي تَفصِل بين الشيئين؛ وإنما هي التي تجيء بمعنى التفصيل

كقوله:

{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ}

[الرحمن: ٦٨]

وفيه بحث؛ لاحتمال أن يكون قوله: «والقرآن العظيم» محذوفَ الخبر، والتقديرُ ما بعد الفاتحة مثلاً، فيكون وصف الفاتحة انتهى بقوله: «هي السبع المثاني»، ثم عطف قوله: «والقرآن العظيم» ما زاد على الفاتحة، وذَكَر ذلك رعايةً لنَّظم الآية، ويكون التقدير: والقرآن العظيم هو الذي أوتيتُه زيادةً على الفاتحة"[7].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله - عليه السلام – لأبىِّ بن كعب: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم؟» وذَكَر آية الكرسيِّ، فيه حُجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاق بن راهويه، وغيرِه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضِه أكثر من سائره، وهذا مما اختَلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ، والباقلَّانيُّ، وجماعةٌ من الفقهاء، وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعَّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسُّور فمعناه: عظيم وفاضل"[8].

قال بدرُ الدين العينيُّ رحمه الله: "والمختار: جوازُ قول: هذه الآية أو السورة أعظمُ أو أفضلُ؛ بمعنى: أن الثواب المتعلِّق بها أكثر"[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن التِّين: معناه: أن ثوابها أعظمُ من غيرها، واستدلَّ به على جواز تفضيل بعض القرآن على بعض، وقد مَنَع ذلك الأشعريُّ وجماعة؛ لأن المفضول ناقص عن درجة الأفضل، وأسماء الله وصفاته وكلامه لا نقصَ فيها، وأجابوا عن ذلك بأن معنى التفاضل: أن ثواب بعضه أعظمُ من ثواب بعض؛ فالتفضيل إنما هو من حيث المعاني، لا من حيث الصفةُ، ويؤيِّد التفضيلَ قولُه تعالى:

{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}"[10]

قال ابن تيمية رحمه الله: "فهذه السّورةُ فيها للّه الحمدُ، فله الحمد في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤال، وفيها العبادة للّه وحده، وللعبد الاستعانة، فحَقُّ الرّبِّ حمده وعبادته وحدَه، وهذان حمد الرّبِّ وتوحيده، يدور عليهما جميع الدّين"[11].

قال ابن هُبيرة رحمه الله: «من هذه السورة يمكن أن نستخرجَ علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة»[12].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذه السّورة هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السّبع المثاني والقرآن العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. والصّلاة أفضل الأعمال، وهي مؤلَّفة من كلم طيّب وعمل صالح؛ أفضل كلمها الطّيّب وأوجبه القرآن، وأفضل عملها الصّالح وأوجبه السّجود"[13].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله تعالى:

{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ}

تجمَعُ سرَّ الكُتب المنزَّلة من السماء كلها؛ لأن الخَلْق إنما خُلِقوا ليُؤمَروا بالعبادة

كما قال:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]

وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده"[14].

قال ابن تيمية رحمه الله: "أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضل من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تَعدِل ثُلث القرآن، وعَدْلُها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيِّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنّ النّبيَّ ﷺ قال لأُبيِّ بنِ كعب: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت:

{ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر»، وقال في المعوِّذتين: لم ير مثلهنّ قطُّ،

وقد قال تعالى:

{ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: ١٠٦]

فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلَّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: ٤٨]

وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة"[15].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.

وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[16].

قال ابن بطال رحمه الله: "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[17].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظاهِرٌ؛ أي: تَنْتَفِعُ به إن تَلَوْتَهُ وَعَمِلْتَ به، وإِلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"[18].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 157).
  2. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 162، 163).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  4. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاري" للخطَّابيِّ (3/ 1798).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  6. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 57).
  7. "فتح الباري" لابن حجر (8/ 158، 159).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177).
  9. "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (5/ 375).
  10. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (8/ 158).
  11. "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
  12. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
  13. "مجموع الفتاوى" (14/5).
  14. "فتح الباري" لابن رجب (7/ 103).
  15. "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
  16. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
  17. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  18. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).


المعنى الإجماليُّ للحديث

عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ، قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يا بْنَ آدَمَ»

نداءٌ لكلِّ بني آدم؛ أي: أيها الإنسان. «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي»؛ أي: إنك ما دُمْتَ تدعوني، وترجو مَغفِرتي. «غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي»؛ أي: غفرتُ لك جميع ذنوبك غيرَ مُبالٍ بكثرتها. «يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ»؛ أي: لو كانت ذنوبُكَ تملأ ما بين السماء والأرض. «ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»؛ أي: ثم تبتَ إليَّ توبةً نَصُوحًا، وطلبتَ مني المغفرة بصدق وإخلاص وافتقار، غفرتُ لك جميع هذه الذنوب، غيرَ مُبالٍ بكثرتها. «يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا»؛ أي: لو أتيتَني بما يقارب مِلْءَ الأرض ذنوبًا ومَعَاصيَ. «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»؛ أي: ثم متَّ على التوحيد والإيمان لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتُكَ بمِلْئِها رحمةً ومغفرةً.

الشرح المفصَّل للحديث

العبدُ مأمورٌ بعبادة الله على الدَّوَام، وفي كلِّ الأوقات، وعلى جميع الأحوال؛

قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾

[ سورة البقرة: 21]

إلا أن الإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي؛

عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ:

«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»

[1]

فكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، إذا ما دعا الله، وأقبل إليه، مهما عظُمت ذنوبُه؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ﴾

[النساء: 48]

فالذنوبُ مهما عظُمت، فرحمةُ الله أعظم، طالما أنه موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا.

وفي الحديث

عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ :

سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «يا بْنَ آدَمَ»: نداءٌ لم يُرِدْ به أحدًا بعَينه؛ فالنداء لجميع بني آدمَ، «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي»

أي: ما دُمْتَ تدعوني، وترجو مَغفِرتي، ولا تَقنَط من رحمتي، «غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي»؛ أي: غفرتُ لك جميع ذنوبك، فلا تَعظُم عليَّ، ولا أبالي بكثرتها، "وفي عدم المبالاة معنى

قوله:

﴿لَا يُسۡـَٔلُ عَمَّا يَفۡعَلُ﴾

[الأنبياء: 23]"[2]

وهو معنى

قول الله تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾

[الزمر: 53]

فالله - عزَّ وجلَّ - يغفر الذنوب، صغيرَها وكبيرَها، ومن صفاته وأسمائه الحسنى أنه غفور رحيم، ومعنى (غفرتُ لك): سترتُ عليك ذنوبَكَ، فلا أُعاقبُكَ بها، والعفوُ مِثْلُ الغفران، تقول: عَفَوْتُ عن الرجل، إذا تركتُ ذنبه ولم تُعاقبه، وأشار ابن عطيَّة رحمه الله إلى فرق لطيف بينهما؛ فقال: 

في قوله تعالى:

﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ﴾

[البقرة: 286]

﴿وَاعْفُ عَنَّا﴾

فيما واقَعْناه وانكَشَف، 

﴿وَاغْفِرْ لَنَا﴾

أي: اسْتُرْ ما علمتَ منا،

﴿وَارْحَمْنَا ۚ﴾

تفضَّل مبتدِئًا برحمة منك"[3]

قوله: «يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ»؛ أي: لو كانت ذنوبُكَ بحيث تملأ ما بين السماء والأرض، والتعبيرُ بهذا اللفظ فيه دلالةٌ على كثرة الذنوب، «ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»؛ أي: ثم طلبتَ مني المغفرة بصدق وإخلاص وافتقار، وتبتَ إليَّ توبةً نَصوحًا، غفرتُ لك جميع هذه الذنوب، غيرَ مُبالٍ بكثرتها، فإذا كانت الذنوب والخطايا كبيرةً، فعفوُه أعظمُ وأكبر؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ، فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عزَّ وجلَّ - قَالَ

«أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ

[4]

قوله:

«يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا»؛ أي: لو جئتني بملء الأرض ذنوبًا ومَعَاصيَ، «ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً»

أي: ثم متَّ على التوحيد والإيمان لا تُشرك بي شيئًا، لجِئتُكَ بمِلْئِها رحمةً وغُفرانًا، وفيه: دلالة على فضل التوحيد وأهميته، وأنه سببٌ لمغفرة الذنوب؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ﴾

[النساء: 48]

والحديث من أرجى الأحاديث في السنَّة، وأعظمِها، ففيه بيانُ سَعةِ عَفْوِ الله تعالى، ومغفرته لذنوب عباده، ورحمته بهم، وهو يدلُّ على عِظَم شأن التوحيد، والأجر الذي أَعَدَّه الله للموحِّدين، كما أن فيه الحثَّ والترغيب على الاستغفار، والتوبة، والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى. والدعاء من أعظم وأجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى ربِّه؛

فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِير رضي الله عنه، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»

ثُمَّ قَرَأَ

﴿ٱدۡعُونِيٓ أَسۡتَجِبۡ لَكُمۡۚ﴾

[غافر: 60][5]

وقال تعالى:

﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾

[البقرة: 186]

فالله تعالى أَمَرنا بالدعاء، ووَعَدنا بالإجابة، وفي الدعاء إظهارُ الذُّلِّ، والافتقار، والحاجة إلى الله تعالى.

ولقبول الدعاء شروطٌ لابدَّ من توفُّرها، وهي:

- الإخلاص لله تعالى؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ :

قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»

[6]

- ألَّا يدعوَ المرء بإثم أو قطيعة رحم، ولا يتعجَّل الإجابة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، عَنِ النَّبِيِّ  أَنَّهُ قَالَ:

«لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ»

[7]

- أن يدعوَ بقلب حاضر، وهو موقِن بالإجابة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :

«ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ»

[8]

ومن أعظم شروط الدعاء: حضورُ القلب، ورجاءُ الإجابة من الله تعالى؛ إذ الرجاءُ فيه حُسْنُ ظنٍّ بالله؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ :

يَقُولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي….»

[9]

فلا يكون العبد متردِّدًا في الدعاء، أو شاكًّا في الإجابة؛ بل يَجزِم في الدعاء، ولا يعلِّقه على المشيئة؛

عَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ :

«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ، وَلا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي؛ فَإِنَّهُ لا مُسْتَكْرِهَ لَهُ»

[10]

 ويُلِحُّ في الدعاء، حتى وإن طالت المدَّة، فالله يحُّب الْمُلِحِّين في الدعاء، وما دام العبدُ يُلِحُّ في الدعاء، ولم يقطع الرجاء في الإجابة، وفيما عند الله؛ فإن الله يستجيب له، ويُبلِّغه مطلوبه ولو بعد حِين، ومن أَدمَن قَرْعَ الباب يوشك أن يُفتَح له؛

قال تعالى:

﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾

[الأعراف: 56]. 

والاستغفار: هو طلب المغفرة، والمغفرةُ: هي وقايةُ شرِّ الذنوب مع سَتْرِها، ويُستحبُّ للعبد أن يُكثِر من الاستغفار في شتَّى الأوقات والأحوال، فهو سببٌ من أسباب غفران الذنوب والمعاصي، حتى لو بلغت من كثرتها السَّحاب، فملأت ما بين السماء والأرض؛

كما في الحديث:

«يا بْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي»

وقال تعالى:

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

[النساء: 110]،

وقد أمر الله به المؤمنين،

فقال تعالى:

﴿وَٱسۡتَغۡفِرُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ﴾

[البقرة: 199]

وقال تعالى:

﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾

[هود: 3]،

فكان من هَدْيِ النبيِّ  أن يستغفِرَ في اليوم أكثرَ من سبعين مرَّةً، وفي رواية: أكثر من مِائة مرَّةٍ؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله الله، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  يَقُولُ:

«وَاللَّهِ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»

[11]

وعَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضي الله الله، أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَالَ

 «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ»

[12]

وفي هذا دلالة على أهمية الاستغفار وعظم ثوابه، حتى إن النبيَّ  كان يداوم عليه في اليوم أكثرَ من مِائة مرَّةٍ، وقد مَدَح الله المؤمنين بكثرة الاستغفار؛

فقال تعالى:

﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ﴾

[آل عمران: 17].

والاستغفارُ الذي يُوجِب المغفرةَ، هو: الاستغفار مع عدم الإصرار على المعصية والذنب؛

فقال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾

[آل عمران: 135]،

فلا إصرار مع الاستغفار، وهو دواء ناجع، وعلاج مفيد للذنوب؛ قال قتادةُ: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار"[13]

وللاستغفار صِيَغ متعدِّدة يَطلُب بها العبد مغفرة ربِّه، فيقول: "أستغفر الله"، أو يقول: "اللهم اغفر لي" ، وأفضل هذه الصيغ "سيد الاستغفار"،

كما في حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ:

أَنَّ النَّبِيَّ  قَالَ: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ» قَالَ: «وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ»

[14]


وللاستغفار ثمار كثيرة، من أهمها:

توبة الله على المستغفِر، وإصابة رحمته؛

قال تعالى:

﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾

[النساء: 110]،

وقال تعالى:

﴿لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾

[النمل: 46].

أمانٌ من العذاب؛

قال تعالى:

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾

[الأنفال: 33].

إصابة السعادة والسرور، والتمتُّع في الحياة؛

قال تعالى:

﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾

[هود: 3].

نزول الغَيث، وزيادة المال، وكثرة الأولاد؛

قال تعالى:

﴿فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُواْ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارٗا (10) يُرۡسِلِ ٱلسَّمَآءَ عَلَيۡكُم مِّدۡرَارٗا (11) وَيُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَٰلٖ وَبَنِينَ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّٰتٖ وَيَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَٰرٗا (12)﴾

[نوح: 10- 12]. 

زيادة القوَّة؛

قال تعالى: 

﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ﴾

[هود: 52].

ومن أعظم أسباب المغفرة، وأجلّها عند الله تعالى: توحيدُه، وإفرادُه بالعبادة، وترك الشرك؛

قال تعالى:

﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۙ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾

[المائدة: 9- 10]،

وقال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

 [النساء: 48]

وفي الحديث:

«يا بْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً».

والتوحيد هو دعوة الرسل لأممهم وأقوامهم؛

قال تعالى:

﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾

[النحل: 36]

والتوحيد ليس مجرَّد كلمةٍ تُنطَق باللسان، من غير فَهم لمعناها، أو عمل بمقتضاها؛ بل هي شهادة منك، وإقرارٌ بأن تعبد الله وحدَه، وتَكفُر بما سواه، واستسلامٌ وانقياد لله تعالى، وطاعة لله ورسوله، وتعلُّق القلب بالله سبحانه محبَّةً وتعظيمًا، وإجلالاً ومَهابةً، وخشية ورجاءً وتوكُّلاً؛ فمن حقَّق ذلك، كان من أهل الجنة؛

عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله الله، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، دَخَلَ الْجَنَّةَ».

المراجع

  1. رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1845).
  3. "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية (1/ 395).
  4. رواه البخاريُّ (7507)، ومسلم (2758).
  5.  رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ (3828)، وابن ماجه (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247).
  6. رواه مسلم (2985).
  7. رواه مسلم (2985).
  8.  رواه الترمذيُّ (3479)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1653).
  9.  رواه البخاريُّ (7405)، ومسلم (2675).
  10. رواه البخاريُّ (6338)، ومسلم (2678).
  11. رواه البخاريُّ (6307).
  12. رواه مسلم (2702).
  13. جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 415).
  14.  رواه البخاريُّ (6306).
النقول

قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي، غَفَرْتُ لَكَ مَا كَانَ مِنْكَ وَلَا أُبَالِي» يعني: على كثرة ذنوبك وخطاياك، ولا يتعاظَمَني ذلك، ولا أستكثره، وفي الصّحيح

عن النّبيّ  ﷺ قال:

«إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيُعْظِمِ الرَّغْبَةَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ»

؛ فذنوبُ العبد وإن عَظُمت، فإنَّ عفو اللّه ومغفرته أعظمُ منها وأعظم، فهي صغيرةٌ في جنب عفو اللّه ومغفرته" [1].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ما دعوتني»؛ أي: ما دمتَ تَدْعوني، وترجو مغفرتي، ولا تَقنَط من رحمتي، فإني أغفر لك، ولا يَعظُم عليَّ مغفرتُك، وإن كانت ذنوبك كثيرةً، وفي عدم المبالاة معنى قوله: ﮋ  لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﮊ. قوله: «عنان السماء»: العَنان السَّحَابُ، يمكِن أن يُجعَل من باب

قولِه تعالي:

﴿فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ﴾

[النحل: ٢٦]

تصويرًا لارتفاع شأن السحاب، وأنها بلغت السماء، وأن يُجعَل من قوله: 

﴿أَوْ كَصَيِّبٍۢ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ﴾

[البقرة: ١٩]؛

فإن فائدة ذكر السماء، والصيِّب لا يكون إلا منها، أنه جيء بها معرفة، فبَقِي أن يتصوَّر من سماء؛ أي: من أُفق واحد من بين سائر الآفاق؛ لأن كلَّ أُفق من آفاقها سماء. و«قُراب الأرض» مِلاؤها، ومِثْلُه طباقها وطِلاعها. قوله: «خطايا» تمييز من الإضافة، نحو قولِكَ: مِلاء الإناءِ عسلاً. قوله: «ثم لقيني لا يشرك» «ثم» للتراخي في الإخبار، وأن عدم الشرك مطلوب أوليٌّ؛ ولذلك أعاد «لقيني» وعلَّقه به، وإلا لكان يكفي أن يقال: لو لقيني بقُراب الأرض خطايا لا يُشرك بي" [2].

قال ابن رجب رحمه الله: "السّبب الثّاني للمغفرة: الاستغفار، ولو عَظُمت الذّنوب، وبلغت الكثرة عَنَان السّماء، وهو السَّحاب. وقيل: ما انتهى إليه البصر منها، وفي الرّواية الأخرى: «لو أخطأتم حتّى بلغت خطاياكم ما بين السّماء والأرض، ثمّ استغفرتم اللّه لغفر لكم»، والاستغفار: طلب المغفرة، والمغفرة: هي وقاية شرّ الذّنوب مع سترها"" [3].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "في هذا الحديث بِشارةٌ عظيمة، وحِلْمٌ وكَرَم عظيم، وما لا يُحصى من أنواع الفضل، والإحسان، والرأفة، والرحمة، والامتنان" [4].

قال ابن رجب رحمه الله: "وكثيرًا ما يُقرَن الاستغفار بذكر التّوبة، فيكون الاستغفار حينئذ عبارةً عن طلب المغفرة باللّسان، والتّوبةُ عبارةً عن الإقلاع من الذّنوب بالقلوب والجوارح. وتارةً يُفرَد الاستغفار، ويرتَّب عليه المغفرة، كما ذُكر في هذا الحديث وما أشبهه، فقد قيل: إنّه أُريد به الاستغفار المقترن بالتّوبة، وقيل: إنّ نصوص الاستغفار المفرَدة كلَّها مطلَقة تقيَّد بما ذُكر في آية "آل عمران" من عدم الإصرار؛ فإنّ اللّه وعد فيها بالمغفرة لمن استغفره من ذنوبه ولم يُصِرَّ على فعله، فتُحمَل النّصوص المطلَقة في الاستغفار كلُّها على هذا المقيَّد، ومجرَّد قول القائل: اللّهمّ اغفر لي. طلب منه للمغفرة ودعاء بها، فيكون حكمه حكمَ سائر الدّعاء، فإن شاء اللّه أجابه وغفر لصاحبه، لا سيّما إذا خرج عن قلب منكسِر بالذّنب، أو صادف ساعةً من ساعات الإجابة؛ كالأسحار وأدبار الصّلوات. ويُروى عن لقمان - عليه السّلام - أنّه قال لابنه: يا بُنيَّ عوِّدْ لسانك: اللّهمّ اغفر لي؛ فإنّ للّه ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيها سائلًا. وقال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم أينما كنتم؛ فإنّكم ما تدرون متى تنزل المغفرة. وخرَّج ابن أبي الدّنيا في كتاب "حسن الظّنّ"

من حديث أبي هريرة مرفوعًا:

«بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ إِذْ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ وَإِلَى النُّجُومِ، فَقَالَ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّ لَكِ رَبًّا خَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، فَغَفَرَ لَهُ»، وعن مُوَرِّقٍ قال: كان رجل يعمل السّيّئاتِ، فخرج إلى البرِّيّة، فجمع ترابًا، فاضطجع عليه مستلقيًا، فقال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، فقال: إنّ هذا ليَعرِف أنّ له ربًّا يغفر ويعذِّب، فغفر له. وعن مغيث بن سُمَيٍّ، قال: بينما رجل خبيث، فتذكَّر يومًا، فقال: اللّهمّ غُفرانَكَ، اللّهمّ غفرانك، اللّهمّ غفرانك، ثمّ مات، فغُفر له.

ويشهد لهذا ما في الصّحيحين

عن أبي هريرة، عن النّبيّ ﷺ:

«أَنَّ عَبْدًا أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِهِ، غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ، فَذَكَرَ مِثْلَ الْأَوَّلِ مَرَّتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ»

وفي رواية لمسلم أنّه قال في الثّالثة: «قد غفرتُ لعبدي، فليعمل ما شاء» والمعنى: ما دام على هذا الحال كلَّما أذنب استغفر. والظّاهر أنّ مراده الاستغفار المقرون بعدم الإصرار؛ ولهذا في حديث أبي بكر الصّدّيق،

عن النّبيّ ﷺ قال:

«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً»

أخرَّجه أبو داود والتّرمذيُّ" [5].

قال ابن عطيَّة رحمه الله: "في قوله تعالى:

﴿وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ

[البقرة: 286]

﴿وَٱعْفُ عَنَّا﴾

فيما واقَعْناه وانكَشَف،  

﴿وَٱغْفِرْ لَنَا﴾

أي: اسْتُرْ ما علمتَ منا،

﴿وَٱرْحَمْنَآ﴾

تفضَّل مبتدِئًا برحمة منك" [6]،

قال قتادةُ رحمه الله: "إن هذا القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، فأما داؤكم، فالذنوب، وأما دواؤكم، فالاستغفار" [7].

قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا استغفار اللّسان مع إصرار القلب على الذّنب، فهو دعاء مجرَّد، إن شاء اللّه أجابه، وإن شاء ردَّه. وقد يكون الإصرار مانعًا من الإجابة، وفي المسند من حديث عبد اللّه بن عمرو مرفوعًا: «ويل للّذين يُصِرُّون على ما فعلوا وهم يعلمون»، وخرَّج ابن أبي الدّنيا من حديث ابن عبّاس مرفوعًا: «التّائب من الذّنب كمن لا ذنب له، والمستغفِر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربِّه» ورفعه منكَر، ولعلّه موقوف. قال بعض العارفين: من لم يكن ثمرة استغفاره تصحيحَ توبته، فهو كاذب في استغفاره، وكان بعضهم يقول: استغفارنا هذا يحتاج إلى استغفار كثير. فأفضل الاستغفار ما اقترن به ترك الإصرار، وهو حينئذ توبة نَصوح، وإن قال بلسانه: أستغفر اللّه وهو غير مقلِع بقلبه، فهو داعٍ للّه بالمغفرة، كما يقول: اللّهمّ اغفر لي، وهو حسن، وقد يُرجى له الإجابة، وأمّا من قال: توبة الكذّابين، فمُراده أنّه ليس بتوبة، كما يعتقده بعض النّاس، وهذا حقٌّ؛ فإنّ التّوبة لا تكون مع الإصرار" [8].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.

القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى:

﴿قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ﴾

[النحل: 102]،

وقال:

﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّۢ مُّبِينٍۢ﴾

[الشعراء: 193-195].

الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.

ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛

كما قال سبحانه:

﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ﴾

[الحجر: 9]،

والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [9].

المراجع

1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 406).

2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1845، 1846).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407).

4.  "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 137).

5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 407 - 409).

6. "المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز" لابن عطية (1/ 395).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 415).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 409، 410).

9. "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238).

 

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ ، قال: (قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ)، فيُخبر أن النبيَّ قام خطيبًا في أصحابه، يُبلِّغهم، ويوجِّههم، ويعلِّمهم خَمْسَ جُمَلٍ تامَّة المعاني من جوامع الكَلِم.

فقال : «إِنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»؛ فإن النوم صفة نقص، فهو مُحَالٌ على الله تعالى، الذي له كلُّ صفات الكمال والجلال؛ فهو الحيُّ القيُّوم سبحانه وتعالى. «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ» القِسطُ هو العدل، فمن عَمِل ما يستحقُّ الرفع رَفَعه، ومن عَمِل ما يستحقُّ الخفض خَفَضه. «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ»؛ أي: إن الملائكة الموكَّلة بكتابة أعمال العباد، تَرفَعها إلى الله تعالى للعرض عليه، فتَرفَع عمل الليل قبل الشروع في عمل النهار، وتَرفَع عمل النهار قبل أن يُؤتى بعمل الليل. «حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَةٍ: النَّارُ»؛ أي: إن الله تعالى يستتر عن خلقه بحِجابٍ هو النور، وفي الرواية الأخرى (النار)، ولا تعارض بينهما؛ كما سمَّى الله تعالى نار المصباح نورًا. «لَوْ كَشَفَهُ، لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»؛ أي: إن الله تعالى لو أزال الحجاب الذي بينه وبين العباد، لأحرقت أنوار وجهه ما انتهى إليه بصره؛ أي: جميع خلقه.

الشرح المفصَّل للحديث

إن صفاتِ الله - عزَّ وجلَّ - من الأمور الغَيبية التي يجب علينا الإيمان بها، وَفْقَ ما جاءت به نصوص الشريعة الإسلامية، من غير تعطيل أو تشبيه أو تمثيل

قال تعالى:

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

[الشورى: 11]

 وصفاتُه تعالى جميعُها من صفات الكمال، التي لا يعتريها النقص بأيِّ وجه من الوجوه، ومن هذه الصفات: العلمُ والحياة، والسمع والبصر، والقُدرة والحكمة، والعزَّة والمغفرة، والرحمة والعفوُ واللُّطف، وغيرُ ذلك من صفات الكمال والجلال التي اتَّصف بها ربُّ العالمين.

وفي الحديث يُخبر أبو موسى الأشعريُّ  أن النبيَّ قام خطيبًا في أصحابه، يُبلِّغهم، ويوجِّههم، ويعلِّمهم خَمْسَ جُمَلٍ تامَّة المعاني، فيها بعض صفات الله تعالى، وبعض تعاليم هذا الدين القويم؛ أوَّلها: قال : «إِنَّ اللهَ - عزَّ وجلَّ - لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»: فهو دائمُ اليقظة والانتباه؛ إذ النومُ مستحيلٌ في حقِّه تعالى، فهو صفة من صفات النقص، ومُحَالٌ على الله تعالى أن يكون به نقصٌ

قال تعالى:

اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ

[البقرة: 255]

 فقوله : «ولا ينبغي له أن ينام» تأكيدٌ للجُملة قبلَها، و"الكلمة الأولى دالَّةٌ على عدم صدور النَّوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يَلزَم من عدم الصدور استحالتُه؛ فلذلك ذُكِرت الكلمة الثانية بعد الأولى"[1].

وثانيها: «يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ»؛ أي: إن الله بيده مَقَاليدُ الأمور، فهو يَملِك الميزان الذي يَزِن به أعمالَ العباد المرتفِعة إليه بالعدل، فيَرفَعها أو يَخفِضها تَبَعًا لأفعالهم

قال تعالى: 

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ 

[النحل: 90]

 ويوزِّع به الأرزاق عليهم، فيوسِّع على البعض، ويضيِّق على البعض الآخر، وكلُّ ذلك لحِكَمٍ يَعلَمها

قال تعالى:

 وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَٰكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ۚ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)

[الشورى: 27-28].

وثالثها: «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ»؛ أي: إن الملائكة الموكَّلة بكتابة أعمال العباد، صالحِها وسيِّئِها، تَرفَعها إلى الله - عزَّ وجلَّ - للعرض عليه في الليل والنهار، فتَرفَع عمل الليل قبل الشروع في عمل النهار، وترفع عمل النهار قبل أن يؤتى بعمل الليل

قال تعالى:

وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)

[الانفطار: 10-12]


وقال تعالى:

 إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ 

[فاطر: 10]

 وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الفَجْرِ وَصَلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»[2].

ورابعها: «حِجَابُهُ النُّورُ - وَفِي رِوَايَة: النَّارُ»؛ أي: إن الله تعالى مستَتِر عن خلقه بحِجاب من النور

قال تعالى:  

لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ

[الأنعام: 103]

 وليس هناك تعارضٌ بين الروايتين (حجابه النور أو النار)؛ فـ"إنَّ تَرَدُّد الراوي في لفظ "النور"، و"النار" لا يَقصِد به اختلافًا في المعنى؛ لأن هذه النار التي كلَّم الله تعالى بها موسى؛ يقال لها: نار ونور، كما سمَّى الله تعالى نار المصباح نورًا، بخلاف النار المظلِمة؛ كنار جهنَّم، فتلك لا تُسمَّى نورًا، فالأقسام ثلاثة: إشراقٌ بلا إحراق، وهو النور الْمَحْضُ؛ كالقمر، وإحراق بلا إشراق، وهي النار الْمُظلِمة، وما هو نار ونور؛ كالشمس، ونارِ المصابيح التي في الدنيا توصَف بالأمرين"[3].

 وخامسها: «لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»؛ أي: إن الله تعالى لو رَفَع الغطاء، وأزال الحجاب الذي بينه وبين العباد، لأحرقت أنوار وجهه ما انتهى إليه بصره؛ أي: جميع خلقه، وذلك نظير

قوله تعالى:

فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا

[الأعراف: 143]

 "والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه: جميع المخلوقات؛ لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة (من) لبيان الجنس لا للتبعيض"[4]. 

المراجع

  1. " كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه" للسنديِّ (1/ 85).
  2. رواه البخاريُّ (555)، ومسلم (632).
  3. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (6/ 387).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 14).




النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "أَمَّا قَوْلُهُ : «لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»، فمعناه أنّه سبحانه وتعالى لا ينام، وأنّه يستحيل في حقِّه النَّوم؛ فإنّ النّوم انغمار وغَلَبة على العقل يَسقُط به الإحساس، واللّه تعالى منزَّه عن ذلك، وهو مستحيل في حقّه - جلّ وعلا - وأمّا قوله : «يخفض القسط ويرفعه»، فقال القاضي عياض: قال الهرويُّ: قال ابن قُتيبة: القسط الميزان، وسُمِّي قسطًا لأنّ القسط العدل، وبالميزان يقع العدل. قال: والمراد أنّ اللّه تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزَن من أعمال العباد المرتفعة، ويوزن من أرزاقهم النّازلة، وهذا تمثيل لما يقدَّر تنزيله، فشبِّه بوزن الميزان. وقيل: المراد بالقسط الرّزق الّذي هو قسط كلِّ مخلوق يخفضه فيُقتِّره ويرفعه فيوسِّعه، واللّه أعلم"[1].

قال ابن تيميّة رحمه الله: "إنَّ تَرَدُّد الراوي في لفظ "النور"، و"النار" لا يَقصِد به اختلافًا في المعنى؛ لأن هذه النار التي كلَّم الله تعالى بها موسى؛ يقال لها: نار ونور، كما سمَّى الله تعالى نار المصباح نورًا، بخلاف النار المظلِمة؛ كنار جهنَّم، فتلك لا تُسمَّى نورًا، فالأقسام ثلاثة: إشراقٌ بلا إحراق، وهو النور الْمَحْضُ؛ كالقمر، وإحراق بلا إشراق، وهي النار الْمُظلِمة، وما هو نار ونور؛ كالشمس، ونارِ المصابيح التي في الدنيا توصَف بالأمرين"[2].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "قال ابن قُتيبةَ: القِسْطُ: الميزان، وسُمِّيَ بذلك؛ لأن القِسط هو العَدْلُ، وذلك إنما يَحصُل، ويُعرف بالميزان في حقوقنا، وأراد به ها هنا: ما يُوزَن به أعمالُ العباد المرتفِعة إليه، وأرزاقُهم الواصلةُ إليهم؛ كما

قال الله تعالى:

وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ

[الحجر: 21]

 والقسطاس: بضم القاف، وكسرها: هو أَقْوَمُ الموازين، وقيل: أراد بالقِسط هنا الوزن الذي هو قِسْطُ كلِّ مخلوق، يَخفِضه، فيُقتِّره، ويرفعه، فيوسِّعه، وقيل: إن القسط هو العدل نفسُه، ويُراد به الشرائع والأحكام

كما قال الله تعالى: 

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

[الحديد: 25]

 أي: النَّصَفَة في الأحكام والعَدْل المأمور به في

قوله تعالى:

 إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ

[النحل: 90]

 فتارةً يَرفَعه بمعنى: يُعلِيه، ويُظهره بوجود الأنبياء، وأصحابِهم، وأتباعهم العاملين به، وتارةً يَخفِضه بمعنى يُذهِبه، ويُخفيه بدروس الشرائع، ورجوع أكثر الناس عن المشيِ على منهاجها"[3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«ما انتهى إليه بصره من خلقه»: وبصرُه ينتهي إلى كلِّ شيء، وعليه؛ فلو كشف هذا الحجاب - حجاب النور عن وجهه - لاحترق كل شيء؛ لهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكِن أبدًا أن يماثل أوجه المخلوقات. وبناءً على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نُثبت أن لله وجهًا حقيقةً، ونأخذه من قوله:

وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ

[الرحمن: ٢٧]

 ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين

لقوله تعالى:  

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

[الشورى: 11]

 ونجهل كيفية هذا الوجه

لقوله تعالى:

 وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا

[طه: 110]"[4]. 


قال النوويُّ رحمه الله: "وأمَّا قوله : «يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ»، وَفِي الرواية الثانية: «عَمَلُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَعَمَلُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ»، فمعنى الأوّل - واللّه أعلم -: يُرفع إليه عمل اللّيل قبل عمل النّهار الّذي بعده، وعمل النّهار قبل عمل اللّيل الّذي بعده، ومعنى الرّواية الثّانية: يُرفع إليه عمل النّهار في أوّل اللّيل الّذي بعده، ويُرفع إليه عمل اللّيل في أوّل النّهار الّذي بعده؛ فإنّ الملائكة الحفَظَة يَصعَدون بأعمال اللّيل بعد انقضائه في أوّل النّهار، ويصعدون بأعمال النّهار بعد انقضائه في أوّل اللّيل، واللّه أعلم"[5].

قال السنديُّ رحمه الله: "الكلمة الأولى دالَّةٌ على عدم صدور النَّوم، والثانية للدلالة على استحالته عليه تعالى، ولا يَلزَم من عدم الصدور استحالتُه؛ فلذلك ذُكِرت الكلمة الثانية بعد الأولى"[6].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ : «حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ»، فَالسُّبُحَاتُ بضمّ السّين والباء، ورفع التّاء في آخره، وهي جمع (سُبْحة). قال صاحب العين والهرويُّ وجميع الشّارحين للحديث من اللُّغويّين والمحدِّثين: معنى سُبحات وجهه: نورُه وجلاله وبهاؤه، وأمّا الحجاب فأصله في اللّغة المنع والسَّتر، وحقيقة الحجاب إنّما تكون للأجسام المحدودة، والله تعالى منزَّه عن ذلك، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمِّي ذلك المانع نورًا أو نارًا لأنّهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما... والمراد بـ(ما انتهى إليه بصره من خلقه): جميع المخلوقات؛ لأنّ بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة (من) لبيان الجنس، لا للتّبعيض"[7].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 13).
  2. "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (6/ 387).
  3. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (1/ 409).
  4. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 284).
  5. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 13).
  6. " كفاية الحاجة في شرح سنن ابن ماجه" للسنديِّ (1/ 85).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 13، 14).


غريب الحديث

«دعا إلى هدًى»؛ أي: دعا إلى السيرة والهيئة والطريقة[1].

«ضلالة»: من الضلال، وهو الباطلُ والانحرافُ عن الطريق المستقيم[2].

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 253).
  2. انظر: "المعجم الوسيط" (1/ 543).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُريرةَ رضي الله عنه، عن رسول اللهِ أنه قَالَ: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا»؛ أي: مَن حثَّ الناس على عملٍ صالحٍ، ودلَّهم عليه بقوله أو فِعله، كان لهذا الداعي من الأجر مثلُ أجور مَن تبِعه على دعوته، دون أن يَنقُص هذا الأجرُ الذي حصل عليه الداعي من أجر العامل شيئًا. «ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنْقُصُ ذلك مِنْ آثامِهم شَيئًا»؛ أي: ومَن أرشدَ غيرَه إلى فِعل إثمٍ؛ بأن ابتدعه، أو سُبق إليه، أو أحْياه بعد اندثار، أو أمَر به، أو أعان عليه، كان عليه من الإثم مثلُ ما وقَع على مَن اتَّبَعه وقلَّده في ضلاله، ولا يَنقُص هذا الإثمُ من إثم المتَّبِع شيئًا.

الشرح المفصَّل للحديث

الدعوة إلى الله تعالى فاتحةٌ لكلِّ خير، ومُغْلِقةٌ لكلِّ شرٍّ، والتواصي بالحقِّ والتواصي بالصبر من أخصِّ سمات المسلم، وطريقٌ لفلاحه ونجاحه في الدنيا والآخرة. 

وفي هذا الحديث يحثُّ النبيُّ ﷺ المسلمَ على بذل ما استطاع من جُهْد في الأخذ بيَدِ الناس إلى الحقِّ والخير، وأن يكون مِفتاحًا لذلك، وقدوةً يَقتدي الناسُ به، ويَعِدُ النبيُّ ﷺ على ذلك بأعظم الجزاء، ويُحذِّر في المقابل من أن يكون المسلم مِفتاحًا للباطل والشرِّ في المجتمع، ويبيِّن سوءَ عاقبة مَن فعل هذا. 

يقول ﷺ: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى، كان لهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أجورِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِنْ أجُورِهم شيئًا»، الدعوة: هي الحثُّ على الشيء[1]، وكلمة «هدى» تشمل كلَّ عمل من أعمال البرِّ والخير والصلاح[2]، والمعنى: مَن حثَّ على عمل صالحٍ، ودلَّ الناس عليه بقوله أو فعله، كان لهذا الداعي من الأجر مثلُ أجور مَن تبِعه على دعوته، دون أن يَنقُص هذا الأجرُ الذي حصل عليه الداعي من أجر العامل شيئًا. وقد ذكَر ﷺ كلمة «هُدًى» نكرةً لتَشمل جميع ما يُهتدى به؛ فـ"الهدى في الحديث: هو ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسَب التنكير مطلَقٌ شائعٌ في جنسِ ما يُقال له: هُدًى، يُطلَق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمُه هدًى مَن دعا إلى الله وعمِل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين، وأدناه هُدًى: مَن دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومِن ثَمَّ عظُم شأن الفقيه الداعي المنذِر؛ لأن نفْعَه يعُمُّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدِّين" [3].

وكما أن الداعيَ إلى الصالحات يأخُذ مثلَ أجر مَن استجاب لدعوته، فكذلك الدعوةُ إلى السيِّئات والمنكَرات؛ فإن الداعيَ إلى مُنكَر عليه وِزرُه ووِزرُ مَن عمِل بدعوته؛ قال ﷺ: «ومَنْ دَعَا إِلَى ضَلالَةٍ، كان عليه مِنَ الإثمِ مثلُ آثامِ مَنْ تَبِعهُ، لا يَنقُصُ ذلك مِن آثامِهم شَيئًا»؛ أي: مَن أرشدَ غيرَه إلى فِعل إثمٍ؛ بأن ابتدعه، أو سُبق إليه، أو أحْياه بعد اندثار، أو أمَر به، أو أعان عليه[4]، كان عليه من الإثم والذنْبِ والعقوبة مثلُ ما وقَع على مَن اتَّبَعه وقلَّده في ضلاله، ولا يَنقُص هذا الإثمُ الواقعُ عليه من إثم المتَّبِع شيئًا، فلكلٍّ منهما وِزرٌ كاملٌ.

"وأما الضلالة، فإن مَن يدعو إليها بكلمة خبيثة، أو عَقْد إشكال، أو نابِضة شكٍّ، أو طليعة حَيرة، فإنه عليه إثمُها، وإثمُ كلِّ مَن يضِلُّ بها إلى يوم القيامة"[5]. 

وفي هذا المعنى

يقول الله تعالي:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 12  وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ ۖ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾  

 [العنكبوت: 12، 13]

ومِثلُه قولُ الله تعالى:

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ ۙ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)  لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾

   [النحل: 24، 25].

ثم إن الدعوة إلى الهُدى أو إلى الوِزر والإثم تكون بالأقوال أو الأفعال.

"واعلمْ أن الدعوة إلى الهُدى، والدعوة إلى الوِزر تكون بالقول؛ كما لو قال: افعَلْ كذا، افعَلْ كذا، وتكون بالفعل، خصوصًا مِن الذي يُقتدى به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدى به ثم فعَل شيئًا، فكأنه دعا الناس إلى فِعله؛ ولهذا يحتجُّون بفِعله ويقولون: فعَل فلانٌ كذا، وهو جائزٌ، أو ترَك كذا، وهو جائزٌ"[6].

المراجع

  1. انظر: "المعجم الوسيط" (1/ 286).
  2. انظر: "كنوز رياض الصالحين" (3/ 555).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبي (2/ 625- 626).
  4. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (1/ 242).
  5. "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (8/ 177).
  6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 361).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة: هذان الحديثان صريحان في الحثِّ على استحباب سنِّ الأمور الحسنة، وتحريم سنِّ الأمور السَّيِّئة، وأنّ من سنَّ سُنَّةً حسنةً كان له مثلُ أجر كلِّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنَّةً سيّئةً كان عليه مثلُ وِزر كلِّ من يعمل بها إلى يوم القيامة، وأنّ من دعا إلى هدًى كان له مثلُ أجور متابعيه، أو إلى ضلالة كان عليه مثل آثام تابعيه، سواءٌ كان ذلك الهدى والضّلالة هو الّذي ابتدأه، أم كان مسبوقًا إليه، وسواء كان ذلك تعليمَ علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك. قوله ﷺ: «فعمل بها بعده» معناه: إن سنَّها، سواءٌ كان العمل في حياته، أو بعد موته، والله أعلم"[1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «من دعا إلى هدى»: أفعال العباد وإن كانت غيرَ موجِبةٍ، ولا مقتضية للثواب والعقاب بذواتها، إلا أنه تعالى أجرى عادته بربط الثواب والعقاب بها ارتباط المسبِّبات بالأسباب، وفِعْلُ العبدِ ما له تأثيرٌ في صدوره بوجه، فكما يترتَّب الثواب والعقاب على ما يباشره ويُزاوِله، يترتَّب كلٌّ منهما على ما هو سببٌ عن فعله؛ كالإرشاد إليه، والحثِّ عليه، ولَمَّا كانت الجهة التي بها استوجب المسبِّب للأجر والجزاء، غيرَ الجهة التي استوجب بها المباشِر، لم يَنقُص أجرُه من أجره شيئًا. أقول: «هدى»، وهو إما الدلالة الموصِّلة إلى البُغْيَة، أو مطلَق الإرشاد، وهو في الحديث ما يُهتدى به من الأعمال الصالحة، وهو بحسَب التنكير مطلَقٌ شائعٌ في جنسِ ما يُقال له: هُدًى، يُطلَق على القليل والكثير، والعظيم والحقير، فأعظمُه هدًى مَن دعا إلى الله، وعمِل صالحًا، وقال: إنني من المسلمين، وأدناه هُدًى: مَن دعا إلى إماطة الأذى عن طريق المؤمنين، ومِن ثَمَّ عظُم شأن الفقيه الداعي المنذِر، حتى فضِّل واحد منهم على ألف عابد؛ لأن نفْعَه يعُمُّ الأشخاص والأعصار إلى يوم الدِّين"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "ووجه التّحذير أنّ الّذي يُحدِث البِدعة قد يتهاوَن بها؛ لخفَّة أمرها في أوَّل الأمر، ولا يَشعُر بما يترتَّب عليها من المفسدة، وهو أن يَلحَقه إثم مَن عَمِل بها من بعده، ولو لم يكن هو عَمِل بها؛ بل لكونه كان الأصلَ في إحداثها"[3].

قال المناويُّ رحمه الله: "«من دعا إلى هدى»؛ أي: إلى ما يُهتدى به من العمل الصالح، ونكَّره ليَشِيع فيَتناول الحقيرَ؛ كإماطة الأذى عن الطريق، «كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه»، فهَبْه ابتَدَعه أو سُبق إليه؛ لأن اتِّباعهم له تَوَلَّد عن فِعله الذي هو من سُنن المرسَلين. «لا يَنقُص ذلك» الإشارة إلى مصدر كان «من أجورهم شيئًا» دَفَعَ ما يتوهَّم أن أجر الداعي إنما يكون بالتنقيص من أجر التابع، وضمَّه إلى أجر الداعي، فكما يترتَّب الثواب والعقاب على ما يباشره ويُزاوِله، يترتَّب كلٌّ منهما على ما هو سببُ فعله؛ كالإرشاد إليه، والحثِّ عليه... «ومن دعا إلى ضلالة» ابتدعها أو سُبِق بها، «فإن عليه من الإثم مثلَ آثام من تَبِعه» لتولُّده عن فعله الذي هو من خصال الشيطان، والعبد يستحقُّ العقوبة على السبب، وما تولَّد منه؛ كما يُعاقب السكران على جنايته حالَ سُكره، وإذا كان السبب محظورًا، لم يكن السكرانُ معذورًا؛ فالله يعاقب على الأسباب المحرَّمة وما تولَّد منها كما يُثيب على الأسباب المأمور بها وما تولَّد منها؛ ولهذا كان على قابيل القاتل لأخيه كِفْلٌ من ذنب كلِّ قاتل... «ولا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا» ضمير الجمع في أجورهم وآثامهم يعود لمن باعتبار المعنى، فإن قيل: إذا دعا واحدٌ جَمْعًا إلى ضلالة فاتَّبَعوه، لَزِم كَوْنُ السيِّئة واحدةً، وهي الدعوة، مع أن هنا آثامًا كثيرة. قلنا: تلك الدعوة في المعنى متعدِّدة؛ لأن دعوى الجمع دَفْعةً دعوةٌ لكلِّ مَن أجابها، فإن قيل: كيف التوبةُ مما تولَّد وليس من فعله، والمرءُ إنما يتوب ممَّا فَعَله اختيارًا؟ قلنا: يَحصُل بالنَّدَم، ودَفْعِه عن الغير ما أَمكَن"[4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«من دعا إلى هدى»: يعني بيَّنه للناس ودعاهم إليه؛ مثل أن يبيِّن للناس أن ركعتَيِ الضُّحى سنَّة، وأنه ينبغي للإنسان أن يصلِّيَ ركعتين في الضحى، ثم تبعه الناس وصاروا يُصلُّون الضحى، فإن له مثلَ أجورهم من غير أن يَنقُص من أجورهم شيئًا؛ لأن فضل الله واسع. أو قال للناس مثلاً: اجعلوا آخرَ صلاتكم بالليل وترًا، ولا تناموا إلا على وتر، إلا من طَمِع أن يقوم من آخر الليل، فليجعل وتره في آخر الليل، فتبعه ناس على ذلك، فإن له مثلَ أجرهم؛ يعني: كلَّما أَوْتَر واحدٌ هداه الله على يده، فله مثلُ أجره، وكذلك بقية الأعمال الصالحة. «من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا»؛ أي: إذا دعا إلى وزر، وإلى ما فيه الإثم، مثل أن يدعوَ الناس إلى لهوٍ أو باطل أو غِناء أو رِبًا أو غيرِ ذلك من الْمَحَارم، فإن كلَّ إنسان تأثَّر بدعوته، فإنه يُكتب له مثلُ أوزارهم؛ لأنه دعا إلى الوزر، والعياذ بالله.

واعلمْ أن الدعوة إلى الهُدى والدعوة إلى الوِزر تكون بالقول؛ كما لو قال: افعَلْ كذا، افعَلْ كذا، وتكون بالفعل، خصوصًا مِن الذي يُقتدى به من الناس، فإنه إذا كان يُقتدى به ثم فعَل شيئًا، فكأنه دعا الناس إلى فِعله؛ ولهذا يحتجُّون بفِعله ويقولون: فعَل فلانٌ كذا، وهو جائزٌ، أو ترَك كذا، وهو جائزٌ. فالمهمُّ أن من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه مثل وزر من تبعه. وفي هذا دليلٌ على أن المتسبِّب كالمباشِر، فهذا الذي دعا إلى الهدى تسبَّب، فكان له مثل أجر مَن فعله، والذي دعا إلى السوء أو إلى الوزر تسبَّب، فكان عليه مثل وزر من اتَّبَعه. وقد أخذ العلماء الفقهاء - رحمهم الله - من ذلك قاعدة بأن السبب كالمباشَرة؛ لكن إذا اجتمع سببٌ ومباشَرة، أحالوا الضمان على المباشَرة؛ لأنه أمسُّ بالإتلاف، والله أعلم"[5].

قال ابن هُبيرة رحمه الله: "وأما الضلالة، فإن مَن يدعو إليها بكلمة خبيثة، أو عَقْد إشكال، أو نابِضة شكٍّ، أو طليعة حَيرة، فإنه عليه إثمُها، وإثمُ كلِّ مَن يضِلُّ بها إلى يوم القيامة"[6]. 

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 226، 227).
  2. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 625).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (13/ 302).
  4. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 125).
  5. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 360، 361).
  6. "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (8/ 177).


غريب الحديث

القَائِم على حُدُودِ اللهِ: الحافظ لحدود الله، الآمر بالمعروف، والناهي عن المنكَر[1].

اسْتَهَموا: اقْتَرَعوا ليأخذ كلُّ واحد منهم سَهمًا؛ أي: نصيبًا[2].

أخَذوا على أَيْديهم: مَنَعُوهم[3].

المراجع

  1. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَينيِّ (13/ 56).
  2. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلانيِّ (5/ 295).
  3. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلانيِّ (5/ 295).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ  أنه قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ»؛ أي: مَثَلُ الإنسان الـمستقيم الحافظ لحدود الله، الآمِرِ بالـمعروف، والناهي عن المنكر. «وَالوَاقِعِ فِيهَا»؛ أي: ومَثَلُ الواقعِ في حدود الله، العاصي الذي يتْرُك الـمعروف، ويأتي أبواب الـمنكَر. «كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَة»؛ أي: كمَثَل قوم اقْتَرَعوا ليأخذ كلُّ واحد منهم نصيبًا في سفينة. «فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا»؛ أي: فخرجت القُرعة بأن نصيب بعضهم أعلى السفينة، ونصيب بعضهم أسفلَها. «فَكَانَ الَّذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ»؛ أي: فكان الذين في الأسفل يمرُّون على من في أعلى السفينة. «فَقَالُوا: لَو أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا»؛ أي: فقالوا: فلنَخرِقْ في نصيبنا خرقًا في السفينة، فنستقي من الماء دون الحاجة إلى الصعود لأعلى السفينة وإيذاء مَن فَوقنا. «فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا»؛ أي: فلو تركهم مَن في الأعلى يَخرِقون السفينة ولم يُنكروا عليهم ويمنعوهم، فستَغرَق السفينة، ويَهلِكون جميعًا، وإن أنكروا عليهم ومنعوهم، فسينجَوْنَ جميعًا.

الشرح المفصَّل للحديث

الأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر من أجلِّ العبادات؛ فبه يقوم أمرُ المسلمين، وينصلح حالُهم، وبدونه تَنهدم عُرى الإسلام، ويتلاشى الإيمانُ من قلوب المسلمين وأفعالهم، ومن ثَمَّ ينزل الهلاكُ بالجميع. وفي هذا الحديث يَضرِب النبيُّ ﷺ  مثالًا رائعًا لبيان أهمِّية الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر في نَجاة المجتمع بأسْره؛ فيُمثِّل ﷺ القائم على حدود الله، الـمستقيم على أمره تعالى ونَهْيه، الآمر بالـمعروف، والناهي عن المنكر، والواقع في حدود الله  الذي يرتكب الذُّنوب والكبائر، ويتْرُك الـمعروف، ويأتي أبواب الـمنكَر[1]؛ يمثِّلُهم ﷺ بجماعة من الناس ركِبوا سفينةً فاتَّخذ كلُّ واحدٍ منهم نصيبًا من السَّفينة بالـقُرْعة؛ فنزَل بعضُهم في أعلى السفينة، وبعضُهم في أسفلها، وهذا تشبيهٌ بليغٌ من النبيِّ ﷺ؛ فإنَّما مَثَلُ المجتمع بجميع طوائفه؛ الـمؤمنين والـكافرين، الطائعين والـمُذنِبين، الصالحين والفاسِقين؛ كمَثلِ هؤلاء الذين يركَبون في سفينةٍ واحدة، بعضُهم في أعلاها، والـبعضُ الآخرُ في أسفلها.

يقول ﷺ: «فكان الذين في أسفلها إذا استَقَوْا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم»؛ أي: إذا أرادت هذه الطائفةُ التي نزَلت أسفل السَّفينة الـماءَ للشُّرب، أو الاغتسال، أو قضاء الحاجة، أو غير ذلك من أمور المعيشة، مرُّوا على مَن فوقهم مِن سُكَّان السفينة بالصُّعود إليهم، فرأَوْا في ذلك مَشقَّةً على أنفُسهم، وضررًا وأذًى يَلـحَق مَن فوقَهم.

 «فقالوا: لو أنَّا خرَقْنا في نصيبِنا خرقًا، ولم نُؤذِ مَن فوقَنا» كلمة «نُؤذِ» من الأذى، وهو الضَّرر، وقد همُّوا بخرْق السفينة؛ لاعتقادهم بالفِكر القاصر - الذي لا يُراعي الـمصالح العامَّة؛ بل ينصبُّ اهتمامه على الأمر الذي ظاهره مصلحةٌ خاصَّةٌ، وهو ليس كذلك - أنَّهم بذلك يَسْتَريحون من عَناء الصُّعود إلى أعلى، وفي نفْس الـوقت لا يشقُّون على إخوانهم الذين في أعلى السَّفينة. وفي روايةٍ أُخرى: «فأخَذ فأسًا فجعَل يَنقُر أسفلَ السفينة»[2].

قال ﷺ: «فإنْ يَترُكوهم وما أرادوا هَلَكوا جميعًا»؛ أي: فإنْ يترُكِ الذين سكنوا في أعْلى السفينة الذين سكنوا تحْتَهم يَفعلون ما يشاؤون من الخَرْقِ، هلَكوا جميعًا[3]؛ مَن كان بالأعْلى، ومَن كان بالأسفل؛ لأن خَرْق السَّفينة يُغرِقها، ويُهلِك أهلها جميعًا. 

قال ﷺ: «وإنْ أخَذوا على أيديهم نَجَوْا، ونَجَوْا جميعًا»؛ أي: وإنْ منَعوهم مِن الخَرْق نجَوْا جميعًا؛ أي: جميع مَن في السَّفينة، ولو لم يذكرْ قوله: «ونجَوْا جميعًا» لكانت النَّجاة اختصَّت بالآخِذِين فقط، وليس كذلك؛ بل كلُّهُم نجَوْا لعدمِ الخَرْق[4].

وهكذا إذا أُقيمت الحدودُ، وأُمر بالـمعروف ونُهِي عن المنكَر؛ تحصل النَّجاةُ للـكلِّ، وإلَّا هلَك العاصي بالـمعصية، وغيرُه بتَرْك نهْيِه عن المعصية، وعدمِ أمْره بالمعروف[5].

المراجع

  1. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَينيِّ (13/ 56).
  2. رواه البخاريُّ (2686).
  3. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدْر الدين العَينيِّ (13/ 57).
  4. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَينيِّ (13/ 57).
  5. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلاني (5/ 296).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «اسْتَهَمُوا سَفِينَةً»؛ أي: اقترعوها، فأخذ كلُّ واحد منهم سهمًا؛ أي: نصيبًا من السّفينة بالقُرعة بأن تكون مشتركةً بينهم، إمّا بالإجازة وإمّا بالْمِلك، وإنّما تقع القرعة بعد التّعديل، ثمّ يقع التَّشاحُّ في الأنصبة فتقع القرعة لفصل النزاع. قال ابن التّين: وإنّما يقع ذلك في السّفينة ونحوها فيما إذا نزلوها معًا، أمّا لو سَبَق بعضهم بعضًا فالسّابق أحقُّ بموضعه. قلت: وهذا فيما إذا كانت مسبَّلةً مثلًا، أمّا لو كانت مملوكةً لهم مثلًا، فالقُرعة مشروعة إذا تنازعوا واللّه أعلم"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "القُرعة سنَّة لكلِّ من أراد العدل في القسمة بين الشركاء، والفقهاءُ متَّفِقون على القول بها، وخالفهم بعض الكوفيين، وردَّت الأحاديث الواردة فيها، وزعموا أنه لا معنى لها، وأنها تُشبه الأزلام التي نهى الله عنها، وحكى ابن المنذر عن أبى حنيفة أنه جوَّزها، وقال: القُرعة في القياس لا تستقيم؛ ولكنا تركنا القياس في ذلك وأخذنا بالآثار والسنَّة. وقال إسماعيل بن إسحاق: وليس في القُرعة إبطال شيء من الحقِّ كما زعم الكوفيون، وإذا وجبت القسمة بين الشركاء في أرض أو دار، فعليهم أن يَعدِلوا ذلك بالقيمة، ثم يَستهِموا ويصير لكلِّ واحد منهم ما وقع له بالقُرعة مجتمعًا مما كان له في الملك مشاعًا، فيصير في موضع بعينه، ويكون له ذلك بالعوض الذي صار لشريكه؛ لأن مقادير ذلك قد عدل بالقيمة. وإنما مَنعَت القُرعة أن يختار كلُّ واحد منهم موضعًا بعينه، وهذا إنما يكون فيما يتشابه من الدُّور والأرض والعروض، وما تستوي رغبة الناس في كل موضع مما يُقترَع عليه. وفى قوله عَلَيْهِ السَّلام: «كمثل قوم استهموا على سفينة» جواز القرعة؛ لإقرار النبيِّ ﷺ لها، وأنه لم يذمَّ المستهِمين في السفينة، ولا أبطل فعلهم؛ بل رَضِيه وضَرَبه مثلاً لمن نجَّى نفسه من الهلكة في دينه، وقد ذكر البخاريُّ أحاديثَ كثيرةً في القُرعة في آخر كتاب الشهادات، وتَرجَم له باب القرعة في المشكلات"[2]. 

قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «فَتَأَذَّوْا بِهِ»؛ أي: بالمارِّ عليهم بالماء حالة السَّقي. قوله: «فأخذ فأسًا» بهمزة ساكنة معروف ويؤنَّث. قوله «يَنقُر»؛ أي: يَحفِر ليَخرِقها. قوله: «فإن أخذوا على يديه»؛ أي: منعوه من الحفر. «أنجوه ونجَّوا أنفسهم» هو تفسير للرّواية الماضية في الشَّرِكة حيث قال: «نجوا ونجوا»؛ أي: كلٌّ من الآخِذين والمأخوذين، وهكذا إقامة الحدود يحصل بها النّجاة لمن أقامها وأُقيمت عليه، وإلّا هلك العاصي بالمعصية، والسّاكت بالرّضا بها. قال المهلَّب وغيره: في هذا الحديث تعذيب العامَّة بذنب الخاصّة، وفيه نظر؛ لأنّ التّعذيب المذكور إذا وقع في الدّنيا على من لا يستحقُّه، فإنّه يكفِّر من ذنوب من وقع به، أو يرفع من درجته، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف، وتبيين العالم الحُكم بضرب الْمَثَل، ووجوب الصّبر على أذى الجار إذا خَشِي وقوع ما هو أشدُّ ضررًا، وأنّه ليس لصاحب السُّفل أن يُحدِث على صاحب العُلو ما يَضُرُّ به، وأنّه إن أحدث عليه ضررًا لزمه إصلاحه، وأنّ لصاحب العلو منعَه من الضّرر، وفيه جواز قسمة العقار المتفاوت بالقُرعة، وإن كان فيه عُلْوٌ وسُفل"[3].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى»؛ أَي: الْمُسْتَقيم على مَا منع الله تَعَالَى من مجاوزتها، وَيُقَال: الْقَائِم بِأَمْر الله مَعْنَاهُ: الْآمِر بِالْمَعْرُوفِ والناهي عَن الْمُنكر. وَقَالَ الزّجَّاج: أصل الْحَدِّ فِي اللُّغَة الْمَنْع، وَمِنْه حدُّ الدَّار، وَهُوَ مَا يمْنَع غَيرهَا من الدُّخُول فِيهَا، والحدَّاد الْحَاجِب والبوَّاب، وَلَفظ التِّرْمِذِيِّ: «مثل الْقَائِم على حُدُود الله تَعَالَى والمدَّهن فِيهَا»؛ أَي: الغاشِّ فِيهَا، ذكره ابْن فَارس، وَقيل: هُوَ كالمصانعة، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9]. وَقيل: المدَّهِن المتليِّن لمن لَا يَنْبَغِي التليُّن لَهُ. قَوْله: «وَالْوَاقِع فِيهَا»؛ أَي: فِي الْحُدُود؛ أَي: التارك للمعروف المرتكِب للْمُنكر. قَوْله: «استهموا»؛ أَي: اتَّخَذ كلُّ وَاحِد مِنْهُم سَهْمًا؛ أَي: نَصِيبًا من السَّفِينَة بِالْقُرْعَةِ. قَوْله: «على من فَوْقهم»؛ أَي: على الَّذين فَوْقَهم. قَوْله: «وَلم نؤذِ»، من الْأَذَى، وَهُوَ الضَّرَر. قَوْله: «من فَوْقنَا»؛ أَي: الَّذين سكنوا فَوْقنَا. قَوْله: «فَإِن يتركوهم وَمَا أَرَادوا»؛ أَي: فَإِن يتْرك الَّذين سكنوا فَوْقهم إِرَادَة الَّذين سكنوا تَحْتهم من الْخرق، وَالْوَاو بِمَعْنى: مَعَ، وَكلمَة (مَا) مَصْدَرِيَّة. قَوْله: «هَلَكُوا»: جَوَاب الشَّرْط وَهُوَ قَوْله: فَإِن... قَوْله: «هَلَكُوا جَمِيعًا»؛ أَي: كلُّهم الَّذين سكنوا فَوقُ، وَالَّذين سكنوا أَسْفَلُ؛ لِأَن بخرق السَّفِينَة تغرق السَّفِينَة وَيهْلك أَهلهَا. قَوْله: «وَإِن أخذُوا على أَيْديهم»؛ أَي: وَإِن منعوهم من الْخرق نَجَوْا؛ أَي: الآخذون. «ونجوا جَمِيعًا» يَعْنِي: جَمِيع من فِي السَّفِينَة، وَلَو لم يذكر قَوْله: «ونجوا جَمِيعًا»، لكَانَتْ النجَاة اخْتُصَّت بالآخذين فَقَط، وَلَيْسَ كَذَلِك؛ بل كلُّهم نَجَوْا لعدم الْخرق، وَهَكَذَا إِذا أُقِيمَت الْحُدُود، وَأُمِر بِالْمَعْرُوفِ، وَنُهي عَن الْمُنكر، تحصل النجَاة للْكُلِّ، وإلاَّ هلك العَاصِي بالمعصية، وَغَيرهم بترك الْإِقَامَة. وَيُسْتَفَاد مِنْهُ أَحْكَام، فِيهِ: جَوَاز الضَّرْب بِالْمَثَلِ وَجَوَاز الْقُرعَة، فَإِنَّهُ ﷺ ضرب الْمَثَل هُنَا بالقوم الَّذين ركبُوا السَّفِينَة، وَلم يذمَّ المستهِمين فِي السفينة، وَلَا أبطل فعلهم؛ بل رَضِيه وضرب بِهِ مثلاً لمن نجا من الهَلَكة فِي دينه. وَفِيه: تَعْذِيب الْعَامَّة بذنوب الْخَاصَّة، وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة بترك النَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة. وَفِيه: أَنه يجب على الْجَار أَن يصبر على شَيْء من أَذَى جَاره خوفَ مَا هُوَ أَشدُّ. وَفِيه: إِثْبَات الْقُرعَة فِي سُكْنى السفينة إِذا تشاحُّوا، وَذَلِكَ فِيمَا إِذا نزلُوا مَعًا. فَأَما من سبق مِنْهُم فَهُوَ أَحَقُّ. وَذكر ابْن بطَّال هُنَا مَسْأَلَة الدَّار الَّتِي لَهَا عُلْوٌ وسُفْل لمناسبة بَينهَا وَبَين أهل السَّفِينَة، فَقَالَ: وَأما حكم الْعُلْوِ والسُّفْلِ يكون بَين رجلَيْنِ، فيعتلُّ السُّفل وَيُرِيد صَاحبه هَدمه، فَلَيْسَ لَهُ هَدمه إلاَّ من ضَرُورَة، وَلَيْسَ لربِّ الْعُلْوِ أَن يَبْنِيَ على سُفْلِه شَيْئًا لم يكن قبلُ إلاَّ الشَّيْء الْخَفِيف الَّذِي لَا يضرُّ صَاحبَ السُّفل، فَلَو انْكَسَرت خَشَبَة من سُفل الْعُلْوِ، فَلَا يدْخل مَكَانهَا أَسْفَل مِنْهَا. قَالَ أَشهب: وَبَاب الدَّار على صَاحب السُّفل، فَلَو انْهَدم السُّفل أُجبِر صَاحبه على بنائِهِ، وَلَيْسَ على صَاحب الْعُلْوِ أَن يَبْنِيَ السُّفل، فَإِن أَبى صَاحب السّفل أَن يَبْنِيَ، قيل لَهُ: بِعْ مِمَّن يَبْنِي. انْتهى. قلت: الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا أَنه لَيْسَ لصَاحب الْعُلْوِ إِذا انْهَدم السُّفل أَن يَأْخُذ صَاحب السُّفل بِالْبِنَاءِ؛ لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلو: ابْنِ السُّفل إِن شِئْتَ حَتَّى يبلغ مَوْضِعُه عُلْوَكَ، ثمَّ ابْنِ عُلْوَك، وَلَيْسَ لصَاحب السُّفل أَن يسكن حَتَّى يُعْطيَ قيمَة بِنَاء السُّفل، وَذُو الْعُلُوِّ يسكن عُلْوَه، والسُّفل كَالرَّهْنِ فِي يَده، وسقف السّفل بِكُل آلاته لصَاحب السّفل وَلِصَاحِب الْعُلو سُكناهُ، وَصَاحب الْعُلْوِ إِذا بنى السُّفل، فَلهُ أَن يرجع بِمَا أنْفق على صَاحب السُّفل، وَإِن كَانَ صَاحب السُّفل يَقُول: لَا حَاجَة لي إِلَى السُّفل"[4].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 295).
  2. "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (7/ 12، 13).
  3. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 295، 296).
  4. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدْر الدين العَينيِّ (13/ 57).