غريب الحديث[1]

(الرؤيا الصالحة): الرؤيا الصادقة، وهي التي يجري في اليقظة ما يوافِقُها.

(فَلَق الصُّبح): ضياؤه ونوره، ويُقال هذا في الشيء الواضح البيِّن.

(الخلاء): الانفراد والخَلْوة.

(بغار حراء): الغار هو النَّقْبُ في الجبل، وحِرَاءٌ: اسمٌ لجبل معروف في مكة.

(يَنزِع): يَرجِع.

(ما أنا بقارئ): لا أعرف القراءة ولا أُحسِنُها.

(فغطَّني): ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي، وفي رواية (غتَّني) بالمعنى نفسه.

(الجهد): بضمِّ الجيم وفتحها، الغاية والمشقَّة.

(أرسلني): أَطلَقني.

(عَلَق): جَمْعُ عَلَقة، وهي الْمَنيُّ بعد أن يتحوَّل إلى دمٍ غليظ متجمِّد.

(يَرجُف فؤاده): يَخفِق قلبُه، ويتحرَّك بشدَّة.

(زمِّلوني): لُفُّوني وغطَّوني.

(الرَّوع): الفَزَع.

(ما يُخزِيك): لا يُذِلُّكَ ولا يُضَيِّعُك.

(لتَصِل الرحم): تُكرِم القَرَابة وتواسيهم.

(تحمل الكَلَّ): تقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره.

(تَكسِب المعدوم): تتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك.

(تَقْرِي الضَّيف): تهيِّئ للضيف القِرى، وهو ما يُقدَّم للضيف من طعام وشراب.

(نوائب الحق): النوائب: جمعُ نائبة، وهي ما يَنزِل بالإنسان من الحوادث الْمُهمَّات، وأُضِيفت إلى الحقِّ لأنها تكون في الحقِّ والباطل.

(تَنصَّر): تَرَك عبادة الأوثان، واعتنق النصرانية.

(الناموس): هو صاحب السِّرِّ، والمرادُ جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحيِ.

(فيها): في حين ظهور نُبوَّتك.

(جَذَع): شابٌّ، والجَذَع في الأصل: الصغيرُ من البهائم، ثم استُعير للشابِّ من الإنسان.

(يومك): يوم إخراجك، أو يوم ظهور نبوَّتك، وانتشار دينك.

(مؤزَّرًا): قويًّا، من الأَزْر، وهو القوَّة.

(يَنشَب): يَلبَث.

(فتر الوحيُ): تأخَّر عن النزول مدَّةً من الزمن.

المراجع

  1. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (12/ 3715)، "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197)، "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479).


المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي أُمُّ المُؤْمِنِينَ عائشةُ رضي الله عنها كيف بدأ الوحيِ للنبيِّ ﷺ، قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)؛ أي: جاءت رؤياه مثلَ ضياء الصُّبح واضحةً بيِّنة، (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ)؛ أي: الخَلْوة، (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ) وحراء جَبَلٌ معروفٌ بمكَّةَ، (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِه)؛ أي: يتعبَّد لياليَ في خَلْوَته بالغار قبل أن يرجع إلى أهله، (وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)؛ أي: يتزوَّد بحاجته من ماء وطعام، فإذا انتهى، رجع لخديجة فتزوَّد لخَلْوة مثلِها.

حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»؛ أي: لا أعرف القراءة.

قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي»؛ أي: ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي، «حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي»؛ أي: حتى بلغ مني غاية المشقَّة، ثم أَطلَقني، «فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)

[العلق: ١ – ٣]

 فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ)؛ أي: رجع يَخفِقُ قلبُه ويتحرَّك بشِدَّة.

فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»؛ أي: لُفُّوني وغطَّوني. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)؛ أي: حتى ذهب عنه الفَزَع، (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا)؛ أي: لا يُذِلُّكَ ولا يُضَيِّعُك؛ فلك من مكارم الأخلاق أفضلُها: (إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ): تصل أرحامك وقرابتك، وتُكرمهم وتواسيهم، (وَتَحْمِلُ الكَلَّ): وتحمل وتقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره، (وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ): وتتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك، (وَتَقْرِي الضَّيْفَ): وتُكرِم الضيف، فتُهيِّئ له القِرى، وهو ما يقدَّم للضَّيف من طعام وشراب، (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ): وتُعين على الحوادث التي تنزل بالإنسان في الحقِّ.

(فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) والناموس: هو صاحب السرِّ، والمراد جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحيِ.

(يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا)؛ أي: شابًّا قويًّا، (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)؛ أي: ليتني أكون حيًّا حين يُخرِجُك قَوْمُك.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)؛ أي: أنصرك بكلِّ قوَّة.

(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ)؛ أي: ثم لم يَلبَث ورقةُ أن مات.

(وَفَتَرَ الوَحْيُ)؛ أي: تأخَّر عن النُّزول مدَّةً من الزمن.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد أَرسَل الله تعالى رسولَه ﷺ إلى الناس كافَّةً، على حين فَتْرةٍ من الرُّسل، فهَدى به إلى أقوم الطُّرق، وأَوضَح السُّبل، وافترض على العباد محبَّتَه وطاعتَه، وتوقيرَه، والقيام بحقوقه، وسَدَّ إلى الجنَّة جميع الطرق، فلم يُفتَح لأحد إلَّا من طريقه، فلا مَطْمَعَ في الفَوز بجزيل الثواب، والنَّجاةِ من وَبِيل العقاب، إلَّا لَمن كان خَلْفَه من السالكين، ولا يؤمن عبدٌ حتى يكون أحبَّ إليه من نفسِه وولدِه ووالدِه والناس أجمعين، وصلَّى اللهُ وملائكته وأنبياؤه ورُسلُه وجميع عباده المؤمنين عليه، وهو خاتم النبيِّين، وأمَّتُه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس.

 وكانت مرحلة ما قبل الوحي دليلًا على نبوَّته ﷺ، بأخلاقه الكريمة، التي استدلَّت بها خديجة - رضي الله عنها – على أن ما حدث في غار حراء هو خير، وقد جعل الله تعالى أخلاق النبيِّ ﷺ من دلائل نبوَّته

فقال تعالى للنبيِّ ﷺ:

وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ

[القلم : 4]

فوَصَفه الله تعالى وخصَّه بما أعطاه من عظيم الأخلاق ما يدلُّ على عظمته ﷺ، وعظمةِ رسالة الإسلام، ومن ثَمَّ صارت أخلاقه ﷺ دليلًا نقليًّا في القرآن، ودليلًا عقليًّا على نبوَّته ﷺ؛ فأنَّى يكون صاحب هذه الأخلاق العظيمة دَعيًّا يفتري على الله الكذب؛ وهو النَّمُوذج الذي وضعه الله للبشر ليتأسَّوْا به، وأخبرهم أنه على خُلق عظيم؟!

وإن أوَّل من آمن برسالة النبيِّ ﷺ كأم المؤمنين خديجة وأبي بكر الصديق، آمنوا به ﷺ بدليل مكارم أخلاقه فقط؛ فلم يكن قد نزل القرآن، ولم يروا معجزاتٍ للنبيِّ ﷺ إنما كانت مكارم النبيِّ ﷺ وأخلاقه العظيمة وكماله البشريُّ هو دليلَهم الوحيد لصدق النبيِّ، واستحالة أن يفتريَ الكذب.

وفي هذا الحديث تروي أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عائشةُ - رضي الله عنها - كيف بدأ الوحيُ للنبيِّ ﷺ، قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ) والرؤيا الصالحةُ هي الرؤيا الصادقة. (فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ)، وفَلَقُ الصُّبْحِ: هو ضياؤه، وإنّما يُقال هذا في الشّيء الواضح البيِّن. وفي ابتدائه ﷺ بالرُّؤيا حكمةٌ من الله تعالى، وتدريج لنبيِّه ﷺ لما أراده الله تعالى به؛ لئلَّا يَفْجَأَه الْمَلَكُ، ويأتيَه صَريح النبوَّة بَغْتةً، فلا تَحتمِلها القوى البشرية، فبُدئ بأوَّل خصال النُّبوَّة وتباشير الكرامة من صدق الرُّؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء وسماع الصَّوت، وسلام الحَجَر والشَّجَر عليه بالنُّبوَّة، حتى استشعر عظيمَ ما يُراد به، واستعَدَّ لما يَنتظِره، فلم يأتِه الْمَلَك إلا لأمر عنده مقدِّماتُه وبشاراته.[1]

وكانت الرؤيا الصالحة هي تباشيرَ النبوَّة؛ "لأنه لم يقع فيها ضِغْثٌ، فيتساوى مع الناس في ذلك؛ بل خُصَّ بصدقها كلِّها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:

إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ

[الصافات: 102]

، فتمَّم الله عليه النبوَّة، بأن أرسل إليه الْمَلَك في اليقظة، وكَشَف له عن الحقيقة، فكانت الأولى في النَّوم، وصحَّة ما يوحى إليه فيه؛ توشيحًا للنبوَّة وابتدائها، حتى أكملها الله له في اليقظة؛ تفضُّلًا من الله تعالى، وموهبةً خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاتِه، والله ذو الفضل العظيم"[2].

(ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ)؛ أي: الخَلْوة، وهي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين، فحُبِّبت العُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغَ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه. (وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ): وحراء جَبَلٌ معروفٌ بمكَّةَ، والغارُ نَقْبٌ فيه. (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِه)؛ أي: يتعبَّد لياليَ في خَلْوَته بالغار قبل أن يرجع إلى أهله. "وخلوته ﷺ بغار حراء وتحنُّثه: فيه تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فإن ذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له"[3].

(وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا)؛ أي: يتزوَّد بحاجته من ماء وطعام، فإذا انتهى، رجع لخديجة فتزوَّد لخَلْوة مثلِها، "وتَزوُّدُه ﷺ في تحنُّثه يردُّ قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد"[4].

(حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ»؛ أي: لا أعرف القراءة. قَالَ: «فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي»؛ أي: ضمَّني وعَصَرني حتى حَبَس نَفَسي. وفيه دليلٌ على أن الإنسان يُذكَّر ويُنبَّه إلى فعل الخير، وإن كان عليه فيه مشقَّة.

قال: «حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي»؛ أي: حتى بلغ مني غاية المشقَّة، ثم أَطلَقني، «فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ».

"قوله: (فغطَّني)، ثلاث مرات، فيه دليلٌ على أن المستحبَّ في مبالغة تكرير التنبيه، والحضِّ على التعليم، ثلاثُ مرَّات. وقد رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا قال شيئًا، أعاده ثلاثًا؛ للإفهام، وقد استدلَّ بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثرَ من ثلاث ضربات"[5].

"وهذا الغطُّ من جبريل له - عليهما السلام - شَغْلٌ له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرُّغ لما أتاه به؛ وإنما كان ذَلك ليبلُوَ صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلِّفه من أعباء النُّبُوَّة؛ ولذلك كان يعتريه مثل حال الْمَحموم، ويَأخُذه الرُّحَضَاءُ – أي: العَرَق - وذلك يدلُّ على ضعف القوَّة البشرية والوَجَل؛ لتوقُّع تقصير فيما أُمِر به"[6].

قوله ﷺ: «ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ:

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)

"هذا دليل صريح في أنّ أوَّل ما نَزَل من القرآن (اقرأ)، وهذا هو الصّواب الّذي عليه الجماهير من السَّلف والخَلَف، واستدلَّ بهذا الحديث بعضُ من يقول: إنّ (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) ليست من القرآن في أوائل السّور؛ لكونها لم تُذكَر هنا، وجواب الْمُثبِتين لها أنّها لم تَنزِل أوّلًا؛ بل نزلت البسملة في وقت آخَرَ كما نزل باقي السُّورة في وقتٍ آخَرَ"[7].

(فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ)؛ أي: رجع يَخفِقُ قلبُه ويتحرَّك بشِدَّة. (فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَقَالَ: «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»)؛ أي: لُفُّوني وغطَّوني بالثياب. (فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ)؛ أي: حتى ذهب عنه الفَزَع. (فَقَالَ لِخَدِيجَةَ وَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»).

"وقوله: «لقد خشيتُ على نفسي»: ليس بمعنى الشكِّ فيما أتاه من الله؛ لكنه عساه خَشِيَ أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو ينخلع قلبُه؛ لشِدَّة ما لَقِيَه أوَّلًا عند لقاء الْمَلَك"[8].

"ولا خلافَ بين أهل التحقيق أنه قبل نبوَّته ﷺ وسائر الأنبياء مُنشرِح الصَّدر بالتوحيد، والإيمان بالله، لا يليق به الكُفر ولا الشكُّ في شيء من ذلك، ولا الجهلُ به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك، خلافًا لمن جوَّزه... تَظَاهَرت الأخبار الصحيحة عنه ﷺ وعن غيره من الأنبياء بصحَّة معرفتهم بالله، وهدايتهم من صِغَرهم، وتجنُّبهم عبادةَ غير الله، فقد عيَّرت قريش نبيَّنا والأممُ أنبياءهم، ورَمَتهم بكلِّ آفة، ورامت نقصَهم بكلِّ جهة، وبرَّأهم الله مما قالوا، ولو كان أحدُهم عَبَدَ معهم معبودَهم وأَشرَك بشِركهم قبل نبوَّته، لعَيَّروه بِتَلَوُّنه في معبوده، وقرَّعوه بفراق ما كان معهم عليه من ديانته، وكان ذلك أبلغَ في تأنيبهم لهم من أمرهم بمفارقة معبود آبائهم"[9].

فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: (كَلَّا): للنفي والإبعاد. (وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا)؛ أي: لا يَفضَحُك ولا يُهينُك؛ بلُ يُثبِّتُكَ حتى لا يُنسَبَ إليك كَذِبٌ فيما قُلتَه، ولا يُسَلَّط عليك شيطانٌ، وهذا تأنيسٌ منها للنبيِّ ﷺ. ثم أخذت تعدِّد مكارم أخلاقه:

(إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ): تصل أرحامك وقرابتك، وتُكرمهم وتواسيهم. وصلة الرَّحِم: هي الإحسان إلى الأقارب على حَسَبِ حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً بالخِدمة، وتارةً بالزّيارة والسّلام، وغير ذلك.

(وَتَحْمِلُ الكَلَّ): وتحمل وتقوم بشأن من لا يستقِلُّ بأمره، ويَدخُل في حَمل الكَلِّ: الإنفاقُ على الضَّعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكَلَال، وهو الإعياء.

(وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ) وتتبرَّع بالمال لمن عَدِمه، وتُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك.

"أمّا معنى (تكسِب المعدوم)، فمن رواه بالضّمِّ، فمعناه: تُكسب غيرَك المالَ المعدومَ؛ أي: تُعطيه إيَّاه تبرُّعًا، فحَذَف أحد المفعولين، وقيل: معناه: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، وأمّا رواية الفتح، فقيل معناها كمعنى الضّمِّ، وقيل: معناها: تَكسِب المالَ المعدومَ، وتُصيب منه ما يَعجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قُريشٌ"[10].

(وَتَقْرِي الضَّيْفَ): وتُكرِم الضَّيف، فتُهيِّئ له القِرى، وهو ما يُقدَّم للضَّيف من طعام وشراب.

(وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحَقِّ): وتُعِين على الحوادث التي تنزل بالإنسان في الحقِّ، فالنّوائب جمع (نائبة)، وهي الحادثة، وإنما قالت: (نوائب الحقِّ)؛ لأنّ النّائبة قد تكون في الخير والحقِّ، وقد تكون في الباطل والشّرِّ.

"معنى كلام خديجةَ - رضي اللّه عنها -: إنّك لا يُصيبك مكروه؛ لِما جعل اللّه فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشّمائل، وذَكَرت ضُروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء، وفيه مدحُ الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة نظر، أو فيه تأنيس مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السّلامة له، وفيه أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها"[11].

(فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ، وَكَانَ امْرءًا تَنَصَّرَ فِي الجَاهِلِيَّةِ)؛ أي: صار نصرانيًّا، والجاهليَّةُ ما قبل رسالته ﷺ، سُمُّوا بذلك لِما كانوا عليه من فاحش الجهالة، (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العِبْرَانِيَّ، فَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ)؛ أي: أنّه تمكَّن من معرفة دين النّصارى، بحيث إنّه صار يتصرَّف في الإنجيل، فيَكتُب أيَّ موضع شاء منه بالعِبرانيّة إن شاء، وبالعربيّة إن شاء، (وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا بْنَ عَمِّ، اسْمَعْ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا بْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى) وناموس الرجل: صاحب سرِّه، وكلُّ شيء سَتَرت فيه شيئًا فهو ناموسٌ له هو صاحب السرِّ، والمراد جبريلُ - عليه السلام - سُمِّيَ بذلك لاختصاصه بالوحي.

قول ورقة: (يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا)؛ أي: يا لَيتني في أيَّام النّبوَّة ومُدَّتها، (جَذَعًا)؛ أي: شابًّا قويًّا؛ حتّى أبالغ في نُصرتك. (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ)؛ أي: ليتني أكون حيًّا حين يُخرِجُك قَوْمُك.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟» قَالَ: (نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ)؛ فهو طريق صراع مع الكفر والباطل، لن يكون ممهَّدًا؛ بل طريق الابتلاء والآلام وترك الديار، (وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ)؛ أي: يومُ إخراجك، أو يوم ظهور نبوَّتك، وانتشار دينك، (أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا)؛ أي: أنصرْك بكلِّ قوَّة، وأُعِينُك.

(ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ)؛ أي: ثم لم يَلبَث ورقةُ أن مات، (وَفَتَرَ الوَحْيُ)؛ أي: تأخَّر عن النُّزول مدَّةً من الزمن.

المراجع

  1. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197، 198).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482).
  4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36).
  5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  6. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 483).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 484، 485).
  9. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479 - 481).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 201).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "وقوله (أنّ عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان أوَّل ما بُدئ به رسول اللّه ﷺ من الوحي الرّؤيا الصّادقة) هذا الحديث من مراسيل الصّحابة - رضي اللّه عنهم - فإنّ عائشة - رضي اللّه عنها - لم تدرك هذه القضيَّة، فتكون قد سمعتها من النّبيِّ ﷺ أو من الصّحابيِّ، وقد قدَّمنا في الفصول أنَّ مُرسَل الصّحابيِّ حُجَّة عند جميع العلماء؛ إلَّا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَرايينيُّ، واللّه أعلم. وقولها - رضي اللّه عنها -: (الرّؤيا الصّادقة)، وفي رواية البخاريِّ - رحمه اللّه – (الرّؤيا الصّالحة)، وهما بمعنًى واحدٍ، وفى (من) هنا قولان؛ أحدهما: أنها لبيان الجنس، والثاني: للتبعيض، ذكرهما القاضي. وقولُها: (فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فَلَق الصُّبح). قال أهل اللّغة: فَلَقُ الصُّبْحِ، وفَرَقُ الصُّبح، بفتح الفاء واللّام والرّاء: هو ضياؤه، وإنّما يُقال هذا في الشّيء الواضح البيِّن. قال القاضي - رحمه اللّه - وغيره من العلماء: إنما ابتدئ ﷺ بالرّؤيا لئلَّا يَفْجَأه الْمَلَك ويأتيه صريح النبوَّة بَغْتةً فلا يَحتمِلها قوى البشرية، فبُدئ بأوَّل خصال النُّبوَّة وتباشير الكرامة من صدق الرُّؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء وسماع الصَّوت، وسلام الحَجَر والشَّجَر عليه بالنُّبوَّة"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "(أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح)". قال المهلَّب: هي تباشير النبوَّة وكيفية بَدْئِها؛ لأنه لم يقع فيها ضِغْثٌ، فيتساوى مع الناس في ذلك؛ بل خُصَّ بصدقها كلِّها، وكذلك قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ، وقرأ:

 إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ

[الصافات: 102]

، فتمَّم الله عليه النبوَّة، بأن أرسل إليه الْمَلَك في اليقظة، وكَشَف له عن الحقيقة، فكانت الأولى في النَّوم، وصحَّة ما يوحى إليه فيه؛ توشيحًا للنبوَّة وابتدائها، حتى أكملها الله له في اليقظة؛ تفضُّلًا من الله تعالى، وموهبةً خصَّه بها، والله يعلم حيث يجعل رسالاتِه، والله ذو الفضل العظيم. قال غيره: وتَزوُّده ﷺ في تحنُّثه يردُّ قول الصوفية: إن من أَخلَص لله أنزل الله عليه طعامًا، والرسولُ ﷺ كان أَوْلى بهذه المنزلة؛ لأنه أفضلُ البشر، وكان يتزوَّد. وقال المهلَّب: قوله: (فغطَّني) فيه من الفقه أن الإنسان يذكَّر وينبَّه إلى فعل الخير، وإن كان عليه فيه مشقَّة. وقال أبو الزناد: قوله: (فغطَّني)، ثلاث مرات، فيه دليلٌ على أن المستحبَّ في مبالغة تكرير التنبيه، والحضِّ على التعليم، ثلاثُ مرَّات. وقد رُوي عنه ﷺ أنه كان إذا قال شيئًا، أعاده ثلاثًا؛ للإفهام، وقد استدلَّ بعض الناس من هذا الحديث، أن يؤمَر المؤدِّب أن لا يضرب صبيًّا أكثرَ من ثلاث ضربات"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: (أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصادقة)": في هذا حكمة من الله تعالى، وتدريج لنبيِّه ﷺ لما أراده الله - جلَّ اسمه – به؛ لئلَّا يَفْجَأَه الْمَلَك، ويأتيَه صريح النبوَّة بغتَةً، فلا تحتملها قُوى البشرية، فبدأ أمره بأوائل خصال النبوَّة وتباشير الكرامة، من صدق الرؤيا، وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضَّوء، وسَماع الصوت، وسلام الحَجَر والشجر عليه بالنبوَّة، حتى استشعر عظيم ما يُراد به، واستعَدَّ لما ينتظره، فلم يأته الْمَلَك إلا لأمر عنده مقدِّماته وبشاراته.

وفيه أن الرؤيا الصادقة أحد خصال النبوَّة، وتباشير الكرامة، وجزء منها، وأوَّل منازل الوحي، وأَنَّ رؤيا الأنبياء وحيٌ، وحقٌّ صدقٌ، لا أضغاث فيها، ولا سبيل للشيطان إليها.

وقال أبو عبيد الله القزاز: قوله: "من الوحي": (من) هنا لإبانة الجنس، كأنه قال: من جنس الوحي، وليس من الوحي، فتكون (من) للتبعيض، ولذلك قال: في النَّوم. ورؤيا الأنبياء في الصحَّة كالوحي. قال القاضي: قد جاء في الحديث أنها جزء من أجزاء النبوَّة، وقد قدَّمنا أنها من جملة خصالها، والوحيُ أنواع وضروب، وينطلق على معانٍ، فلا يَبعُد أن تكون (من) للتبعيض على هذا، وأصلُه الإعلام، ورؤيا الْمَنام إعلامٌ وإنذار وبِشارة.

واختلف الناس: هل كان متعبَّدًا قبل نبوَّته بشريعة أم لا؟ فقال بعضهم: إنه غيرُ متعبَّد أصلًا، ثم اختلف هؤلاء: هل ينتفي ذلك عقلًا أم نقلًا؟ فقال بعض المبتدِعة: ينتفي عقلًا؛ لأن في ذلك تنفيرًا عنه، وغضًّا من قدره إذا تنبَّأ عند أهل تلك الشريعة التي كان من جُملتهم، ومن كان تابعًا، فيَبعُد منه أن يكون متبوعًا، وهذا خطأٌ، والعقل لا يُحيل هذا. وقال الآخرون من حذَّاق أهل السنَّة: إنما ينتفي ذلك من جهة أنه لو كان، لنُقِلَ، ولتَدَاولته الأَلْسُن، وذُكِر في سيرته؛ فإن هذا مما جرَت العادةُ بأنه لا ينكتم. وقال غير هاتين الطائفتين: بل هو مُتعبَّدٌ، ثم اختلفوا أيضًا: هل كان متعبَّدًا بشريعة إبراهيم أو غيره من الرسل؟ فقيل في ذلك أقوال، ويُحتمَل أن يكون المراد بقوله: 

أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا

[النحل: ١٢٣]

في توحيد الله وصفاته. قال القاضي: ولا خلافَ بين أهل التحقيق أنه قبل نبوَّته ﷺ وسائر الأنبياء مُنشرِح الصَّدر بالتوحيد، والإيمان بالله، لا يليق به الكُفر ولا الشكُّ في شيء من ذلك، ولا الجهلُ به، ولا خلاف في عصمتهم من ذلك، خلافًا لمن جوَّزه. وحُجَّةُ المانعين منه الطريقان المتقدِّمان، والصحيحُ منهما النَّقل، فلو كان شيء من ذلك، لنُقِل؛ بل تَظَاهَرت الأخبار الصحيحة عنه ﷺ وعن غيره من الأنبياء بصحَّة معرفتهم بالله، وهدايتهم من صِغَرهم، وتجنُّبهم عبادةَ غير الله، فقد عيَّرت قريش نبيَّنا والأممُ أنبياءهم، ورَمَتهم بكلِّ آفة، ورامت نقصَهم بكلِّ جهة، وبرَّأهم الله مما قالوا، ولو كان أحدُهم عَبَدَ معهم معبودَهم وأَشرَك بشِركهم قبل نبوَّته، لعَيَّروه بِتَلَوُّنه في معبوده، وقرَّعوه بفراق ما كان معهم عليه من ديانته، وكان ذلك أبلغَ في تأنيبهم لهم من أمرهم بمفارقة معبود آبائهم"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولُها: (ثمَّ حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حِرَاء يتحنَّث فيه - وهو التَّعبُّد - اللّياليَ أولاتِ العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوَّد، ثمّ يرجع إلى خديجةَ - رضى الله عنها - فيتزوَّد لمثلها، حتى فَجِئَه الحقُّ). أمّا الخَلاء، فمَمْدودٌ، وهو الخَلْوة، وهي شأن الصَّالحين، وعبادِ اللَّه العارفين. قال أبو سليمانَ الخطَّابيُّ - رحمه اللّه -: حُبِّبت العُزلة إليه ﷺ لأنَّ معها فراغ القلب، وهي مُعينة على التَّفكُّر، وبها ينقطع عن مألوفات البشر، ويتخشَّع قلبُه، واللّه أعلمُ. وأمّا الغارُ، فهو الكَهْف والنَّقْبُ في الجبل، وجَمْعُه: غِيرَانٌ، وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ بِمَعْنَى الْغَارِ، وتَصغيرُ الْغَارِ: غُوَيْرٌ، وأمَّا حِرَاءٌ، فبكسر الحاء الْمُهملة، وتخفيف الرَّاءِ، وَبِالْمَدِّ، وهو مصروفٌ ومذكَّر، هذا هو الصّحيح، وقال القاضي: فيه لغتان: التّذكيرُ والتّأنيث، والتّذكير أكثرُ، فمن ذكَّره صَرَفه، ومن أنَّثه لم يَصرِفه، أراد البُقعة أو الجهة الّتي فيها الجَبَلُ. قال القاضي: وقال بعضُهم فيه: حَرَى (بفتح الحاء والقصر)، وهذا ليس بشيء. قال أبو عمر الزّاهد، صاحب ثعلبٍ، وأبو سليمان الخطّابيُّ وغيرهما: أصحاب الحديث والعَوَامُّ يُخطئون في حِرَاءٍ في ثلاثةِ مواضعَ؛ يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الرّاء وهي مفتوحة، ويَقصُرون الألف وهي ممدودة، وحراءٌ جبل بينه وبين مكَّةَ نحوُ ثلاثةِ أميال عن يسار الذَّاهب من مكَّةَ إلى منًى، واللّه أعلم. وأمّا التَّحنُّث، فقد فسَّره بالتَّعبُّد، وهو تفسير صحيح. وأصل الحِنْث: الإثمُ، فمعنى يتحنَّث يتجنَّب الحِنث، فكأنّه بعبادته يَمنَع نفسه من الحِنث، ومِثْلُ يتحنَّث: يتحرَّج ويتأثَّم؛ أي: يتجنَّب الحَرَج والإثم، وأمّا قولُها: (الليالي أولات العدد)، فمتعلِّق بـ(يتحنَّث)، لا بـ(التّعبُّد)، ومعناه: يتحنَّث اللّياليَ، ولو جُعِل متعلِّقًا بالتّعبُّد، فَسَد المعنى؛ فإنّ التّحنُّث لا يُشترط فيه اللَّيالي؛ بل يُطلَق على القليل والكثير، وهذا التّفسير اعتَرَض بين كلام عائشةَ - رضي اللّه عنها - وأمّا كلامُها، فيتحنَّث فيه اللّياليَ أولاتِ العدد، واللّه أعلمُ. وقولُها: (فَجِئه الحقُّ)؛ أي: جاءه الوحيُ بغتةً؛ فإنّه ﷺ لم يكن متوقِّعًا للوحيِ، ويُقال: فَجِئه بكسر الجيم وبعدها همزةٌ مفتوحة، ويُقال: فَجَأه بفتح الجيم والهمزة، لغتان مشهورتان، حكاهما الجَوهريُّ وغيره"[4].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وخلوته ﷺ بغار حراء وتحنُّثه: فيه تنبيه على فضل الخَلْوة والعُزلة، وثمرة التفرُّغ لذكر الله؛ فإن ذلك يُريح السِّرَّ من الشُّغل بغير الله، ويُقِلُّ الهمَّ بأمور الدنيا، ويُخلي القلب عن التعلُّق والركون لأهلها، فيصفو، وتنفجر ينابيعه بالحكمة، وتُشرق جوانبه بالحقائق والمعرفة، ويَفيض عليه من نفحات فضل الله وأنوار رحمته ما قُدِّر له".

"وقوله: "حتى فَجِئه الحقَّ"؛ أي: أتاهُ بمرةٍ، يُقال: فجئ، بكسر الجيم، يَفجَأ، وفَجَأ، بفتحها أيضًا. وقولُه: "اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ"، قال الإمام: قيل: "ما" هاهنا نافية، وقيل: استفهامية؛ كأنه قال ﷺ: أيَّ شيء أقرأ؟ وقد ضعَّفوا الاستفهام بإدخال الباء، ولو كان استفهامًا، لقال: ما أنا قارئ، وإنما تدخل الباء على "ما" النافية، فتكون الباءُ تأكيدًا للنفي.

قال القاضي: يصحِّح من قال: إنها للاستفهام، روايةُ من روى: "ما أقرأ"، وقد يصحُّ أيضًا أن تكون هنا "ما" نافية. وهذا الغطُّ من جبريل له - عليهما السلام - إشغال له عن الالتفات إلى شيء من أمر الدنيا، وإشعار بالتفرُّغ لما أتاه به، وفِعْلُ ذلك ثلاثًا فيه تنبيهٌ على استحباب تَكرار التنبيه ثلاثًا. وقد استدلَّ به بعضُهم على جواز تأديب الْمُعَلِّم للمتعلِّمين ثلاثًا. وقال أبو سليمان: وإنما كان ذَلك ليبلُوَ صبره، ويُحسن تأديبه، فيرتاض لاحتمال ما كُلِّفه من أعباء النُّبُوَّة؛ ولذلك كان يعتريه مثل حال الْمَحموم، ويَأخُذه الرُّحَضَاءُ – أي: البهرُ والعَرَق - قال: وذلك يدلُّ على ضعف القوَّة البشرية والوَجَل؛ لتوقُّع تقصير فيما أُمِر به، وخَوف أن يقول غيره: هذا معنى ما أطال به في هذا"[5].

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «ما أنا بقارئ»؛ معناه: لا أُحسِن القراءة؛ فـ(ما) نافية، هذا هو الصَّوابُ، وحكى القاضي عياض - رحمه اللّه - فيها خلافًا بين العلماء؛ منهم من جعلها نافيةً، ومنهم من جعلها استفهاميَّةً، وضعَّفوه بإدخال الباء في الخبر. قال القاضي: ويصحِّح قول من قال: استفهاميَّة، رواية من روى: «ما أقرأ»، ويصحّ أن تكون (ما) في هذه الرّواية أيضًا نافيةً، واللّه أعلم. قوله ﷺ: «فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد ثمّ أرسلني»، أمّا (غطّني) فمعناه: عَصَرني وضمَّني. يُقال: غَطَّه وغَتَّه وضَغَطَه وعَصَرَه وخَنَقه وغَمَزه، كلُّه بمعنًى واحدٍ، وأمّا الجَهد، فيَجُوز فتح الجيم وضمُّها، لغتان، وهو الغاية والمشقَّة، ويجوز نصب الدَّال ورفعها، فعلى النَّصْبِ: بَلَغ جبريلُ منّي الجهدَ، وعلى الرّفع: بَلَغ الجهدُ منّي مَبْلَغَه وغايتَه، وممّن ذكر الوجهين في نصب الدّال ورفعِها صاحبُ التّحرير وغيرُه. وأمّا (أرسلني)، فمعناه: أطلقني. قال العلماء: والحكمةُ في الغَطِّ شَغْلُه من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لِما يقوله له، وكرَّره ثلاثًا مبالغةً في التنبيه؛ ففيه أنّه ينبغي للمعلِّم أن يحتاط في تنبيه المتعلِّم، وأمرِه بإحضار قلبه، واللّه أعلم. قوله ﷺ «ثمّ أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق» هذا دليل صريح في أنّ أوَّل ما نَزَل من القرآن (اقرأ)، وهذا هو الصّواب الّذي عليه الجماهير من السَّلف والخَلَف، وقيل: أوَّله (يا أيها المدَّثِّر)، وليس بشيء، واستدلَّ بهذا الحديث بعضُ من يقول: إنّ (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم) ليست من القرآن في أوائل السّور؛ لكونها لم تُذكَر هنا، وجواب الْمُثبِتين لها أنّها لم تَنزِل أوّلًا؛ بل نزلت البسملة في وقت آخَرَ كما نزل باقي السُّورة في وقتٍ آخَرَ"[6].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «لقد خشيتُ على نفسي»: ليس بمعنى الشكِّ فيما أتاه من الله؛ لكنه عساه خَشِيَ أنه لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو ينخلع قلبُه؛ لشِدَّة ما لَقِيَه أوَّلًا عند لقاء الْمَلَك، أو أن يكون قولُه هذا لأوَّل ما رأى التباشير في النوم واليقظة، وسَمِعَ الصوت قبل لقاء الْمَلَك، وتحقيقه رسالةَ ربِّه، فيكون ما خاف أوَّلًا أن يكون من الشيطان، فأما مُنذ جاءه الْمَلك برسالة ربِّه، فلا يجوز عليه الشكُّ فيه، ولا يخشى من تسلُّط الشيطان عليه. وعلى هذا الطريق يُحمَل كلُّ ما وَرَدَ من مثل هذا في حديث المبعث. وقول خديجة - رضى الله عنها -: "لا يخزيك الله أبدًا": كذا قال يونسُ وعُقيل، بالخاء المعجَمة والياء، وقال معمر: "يَحزُنك" بالحاء المهملة والنون. ومعنى: "يُخزِيك": يَفضَحُك ويُهينُك؛ بلُ يُثبِّتُكَ حتى لا يُنسَبَ إليك كَذِبٌ فيما قُلتَه، ولا يُسَلَّط عليك شيطانٌ بتخبُّطه الذي حَذِرتَه. ومعنى "يُحْزِنُكَ"؛ أي: يوقع ما تخافه من ذلك. وهذا تأنيسٌ منها للنبيِّ ﷺ"[7].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولها (تَرْجُفُ بَوادِرُه)، ومعنى تَرجُف: تَرعَد وتَضطَرب، وأصلُه شِدَّة الحركة. قال أبو عُبيد وسائر أهل اللّغة والغريب: وهي اللَّحمَة الّتي بين الْمَنكِب والعُنُق تَضطرِب عند فزع الإنسان. قوله ﷺ: «زمِّلوني زمِّلوني» هكذا هو في الرّوايات، مكرَّر مرَّتين، ومعنى (زمّلوني): غَطُّوني بالثّياب ولُفُّوني بها، وقولها: (فزمَّلوه حتّى ذهب عنه الرَّوْعُ) هو بفتح الرّاء، وهو الفَزَع. قوله ﷺ: «لقد خَشِيتُ على نفسي». قال القاضي عياض - رحمه اللّه -: ليس هو بمعنى الشّكِّ فيما أتاه من اللّه تعالى؛ لكنّه ربَّما خَشِي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يَقدِر على حمل أعباء الوحي، فتَزهَق نفسُه، أو يكون هذا لأوَّل ما رأى التَّباشير في النَّوم واليقظة، وسَمِع الصَّوت قبل لقاء الْمَلَك، وتحقيقه رسالة ربِّه، فيكون خاف أن يكون من الشّيطان الرّجيم، فأمّا منذ جاءه الْمَلَك برسالة ربِّه سبحانه وتعالى، فلا يجوز عليه الشّكُّ فيه، ولا يخشى من تسلُّط الشّيطان عليه، وعلى هذا الطّريق يُحمَل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث. هذا كلام القاضي رحمه اللّه في شرح صحيح مسلم، وذكر أيضًا في كتابه الشّفاء هذين الاحتمالين في كلام مبسوط، وهذا الاحتمال الثّاني ضعيف؛ لأنّه خلاف تصريح الحديث؛ لأنّ هذا كان بعد غطِّ الْمَلَك وإتيانه بـ(اقرأ باسم ربّك الّذي خلق) واللّه أعلم"[8].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولها: (قالت له خديجةُ: كلَّا، أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا؛ وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ). أمّا قولُها: (كلّا) فهي هنا كلمة نفيٍ وإبعاد، وهذا أحدُ معانيها، وقد تأتي (كلّا) بمعنى (حقًّا)، وبمعنى (ألا) الّتي للتّنبيه، يُستفتَح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام، وقد جمع الإمام أبو بكر بنُ الأنباريِّ أقسامها ومواضعها في باب من كتابه "الوقف والابتداء"، وأمّا قولها: (لا يُخْزِيك)، فهو بضمِّ الياء، وبالخاء المعجمة، كذا هو في رواية يونسَ وعقيلٍ، وقال مَعمَر في روايته: (يُحْزِنك) بالحاء المهملة والنُّون، ويجوز فتح الياء في أوَّله وضمِّها، وكلاهما صحيحٌ، والخِزْيُ: الفضيحةُ والهَوان، وأمّا صلة الرَّحِم، فهي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارةً تكون بالمال، وتارةً بالخِدمة، وتارةً بالزّيارة والسّلام، وغير ذلك، وأمّا الكَلُّ، فهو بفتح الكاف، وأصلُه الثِّقْل... ويَدخُل في حَمل الكَلِّ الإنفاقُ على الضَّعيف واليتيم والعيال، وغير ذلك، وهو من الكَلَال، وهو الإعياء. وأمّا قولها: (وتَكسِب المعدوم)، فهو بفتح التَّاء، هذا هو الصّحيح المشهور، ونقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، قال: ورواه بعضهم بضمِّها. قال أبو العبَّاس ثعلبٌ، وأبو سليمانَ الخطَّابيُّ، وجماعاتٌ من أهل اللُّغة: يُقال: كَسَبتُ الرَّجُلَ مالًا، وأَكسَبْتُه مالًا، لُغتان، أَفصَحُهما باتِّفاقهم: كَسَبْتُه بحذف الألف، وأمّا معنى (تكسب المعدوم) فمن رواه بالضّمِّ، فمعناه: تُكسب غيرَك المالَ المعدومَ؛ أي: تُعطيه إيَّاه تبرُّعًا، فحَذَف أحد المفعولين، وقيل: معناه: تُعطي الناسَ ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد، ومكارم الأخلاق، وأمّا رواية الفتح، فقيل معناها كمعنى الضّمِّ، وقيل: معناها: تَكسِب المالَ المعدومَ، وتُصيب منه ما يَعجِز غيرُك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادَحُ بكسب المال المعدوم، لا سيَّما قُريشٌ، وكان النّبيُّ ﷺ محظوظًا في تجارته، وهذا القول حكاه القاضي عن ثابت صاحب "الدّلائل"، وهو ضعيف أو غَلَط، وأيُّ معنًى لهذا القول في هذا الموطن إلَّا أنّه يمكِن تصحيحُه بأن يضمَّ إليه زيادة، فيكون معناه: تَكسِب المالَ العظيم الّذي يَعجِز عنه غيرُك، ثمَّ تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم، كما ذَكَرت من حَمل الكَلِّ، وصلة الرَّحِم، وقِرَى الضَّيف، والإعانة على نوائب الحقِّ، فهذا هو الصَّواب في هذا الحرف، وأمّا صاحب التّحرير، فجعل المعدوم عبارةً عن الرّجل المحتاج الْمُعدَم العاجز عن الكسب، وسمَّاه معدومًا لكونه كالمعدوم الميِّت، حيث لم يتصرَّف في المعيشة كتصرُّف غيره. قال: وذكر الخطّابيُّ أنّ صوابه (المعدَم) بحذف الواو. قال: وليس كما قال الخطّابيُّ؛ بل ما رواه الرُّواة صواب. قال: وقيل: معنى تَكسِب المعدوم؛ أي: تسعى في طلب عاجز تُنعِشه، والكسب هو الاستفادة، وهذا الّذي قاله صاحب التّحرير، وإن كان له بعض الاتّجاه كما حرَّرتُ لفظه، فالصّحيح المختار ما قدَّمتُه، واللّه أعلم. وأمّا قولها: (وتَقرِي الضّيف) فهو بفتح التّاء، قال أهل اللّغة: يُقال: قَرَيْتُ الضَّيف أَقْرِيه قِرًى بكسر القاف مقصور، وقِراءً بفتح القاف والمدِّ، ويُقال للطّعام الّذي يضيِّفه به: قِرًى بكسر القاف مقصور، ويُقال لفاعله: قَارٍ؛ مثل قضى فهو قاضٍ. وأمّا قولها: (وتُعين على نوائب الحقِّ)، فالنّوائب جمع (نائبة)، وهي الحادثة، وإنما قالت: نوائب الحقِّ؛ لأنّ النّائبة قد تكون في الخير، وقد تكون في الشّرِّ.

قال العلماء - رضي اللّه عنهم -: معنى كلام خديجةَ - رضي اللّه عنها -: إنّك لا يُصيبك مكروه؛ لِما جعل اللّه فيك من مكارم الأخلاق، وكرم الشّمائل، وذكرت ضُروبًا من ذلك، وفي هذا دلالة على أنّ مكارم الأخلاق وخصال الخير سببُ السَّلامة من مَصارع السُّوء، وفيه مدحُ الإنسان في وجهه في بعض الأحوال؛ لِمصلحة نظر، أو فيه تأنيس مَن حَصَلت له مخافة من أمر، وتبشيره، وذكر أسباب السّلامة له، وفيه أعظمُ دليل وأبلغُ حُجَّة على كمال خديجةَ - رضي اللّه عنها - وجَزالة رأيِها، وقوَّة نفسها، وثبات قلبها، وعِظَم فِقهها، واللّه أعلم"[9].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وقوله: الناموس الذي نزل الله على موسى. قال ابن دُريد: ناموس الرجل: صاحب سرِّه، وكلُّ شيء سترت فيه شيئًا فهو ناموسٌ له. وقال أبو عُبيد: الناموس جبريلُ ﷺ. وقوله: (نصرًا مؤزرًا)؛ أي: قويًّا، مأخوذ من الأَزْر، وهو القوَّة. وقيل: أزري: ظهري، خُصَّ الظَّهر؛ لأن القوَّة فيه. وقولُه: (ثم لم يَنشَب ورقة أن توفِّي وفتر الوحيُ)؛ أي: لم يَنشَب في شيء من الأمور، وكأن هذه اللفظة عند العرب عبارةٌ عن السُّرعة والعجلة"[10].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولُها: (وكان امْرًَا تنصَّر في الجاهليّة)؛ معناه: صار نصرانيًّا، والجاهليّة ما قبل رسالته ﷺ، سُمُّوا بذلك لِما كانوا عليه من فاحش الجهالة، واللّه أعلم. قولُها: (وكان يكتب الكتاب العربيَّ، ويكتب من الإنجيل بالعربيّة ما شاء اللّه تعالى أن يَكتُب) هكذا هو في مسلم (الكتاب العربيّ ويكتب بالعربيّة)، ووقع في أوّل صحيح البخاريّ (يكتب الكتاب العِبرانيّ) فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة، وكلاهما صحيح، وحاصلُهما أنّه تمكَّن من معرفة دين النّصارى، بحيث إنّه صار يتصرَّف في الإنجيل، فيَكتُب أيَّ موضع شاء منه بالعِبرانيّة إن شاء، وبالعربيّة إن شاء، واللّه أعلم. قولُها: (فقالت له خديجة - رضي اللّه عنها -: أيْ عمِّ، اسمع من ابن أخيك) وفي الرّواية الأخرى: (قالت خديجة: أيِ بنَ عمِّ) هكذا هو في الأصول، في الأوَّل (عم)، وفى الثاني (ابن عمِّ) وكلاهما صحيح، أما الثاني، فلأنه ابن عمِّها حقيقةً، كما ذكره أوّلًا في الحديث؛ فإنّه ورقةُ بنُ نوفلِ بنِ أسدٍ، وهي خديجةُ بنتُ خُويلدِ بنِ أسدٍ، وأمّا الأوَّل فسمَّته عمًّا مجازًا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصَّغيرُ الكبيرَ بـ(يا عمِّ) احترامًا له، ورفعًا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: (يا بن عمِّ)، واللّه أعلم. قوله: (هذا النّاموس الّذي أُنزل على موسى ﷺ) النَّاموس بالنُّون والسِّين المهمَلة، وهو جبريلُ ﷺ. قال أهل اللّغة وغريبِ الحديث: النّاموس في اللّغة: صاحب سرِّ الخَير، والجاسوس صاحب سرِّ الشَّرِّ، ويُقال: نَمَسْتُ السِّرَّ أَنْمِسُهُ نَمْسًا؛ أَيْ: كَتَمْتُهُ، وَنَمَسْتُ الرَّجُلَ، وَنَامَسْتُهُ: سَارَرْتُهُ، واتَّفَقوا على أنّ جبريل - عليه السّلام - يُسمَّى النّاموس واتَّفقوا على أنّه المراد هنا. قال الهَرَويُّ: سُمِّيَ بذلك لأنّ اللّه تعالى خَصَّه بالغَيب والوحيِ. وأمّا قوله: (الّذي أُنزل على موسى ﷺ)، فكذا هو في الصّحيحين وغيرهما، وهو المشهور، ورُوِّيناه في غير الصّحيح: (نزل على عيسى ﷺ) وكلاهما صحيح. قوله: (يا لَيتني فيها جَذَعًا): الضّمير فيها يعود إلى أيَّام النّبوَّة ومُدَّتها، وقوله: (جَذَعًا) يعني شابًّا قويًّا حتّى أبالغ في نُصرتك، والأصل في الجَذَع للدّوابِّ، وهو هنا استعارةٌ، وأمّا قوله: (جَذَعًا) فهكذا هو الرّواية المشهورة في الصّحيحين وغيرهما بالنَّصب. قال القاضي: ووقَع في رواية ابن ماهانَ (جَذَعٌ) بالرّفع، وكذلك هو في رواية الأَصِيليِّ في البخاريِّ، وهذه الرّواية ظاهرة، وأمّا النّصبُ، فاختلف العلماء في وجهِه، فقال الخطّابيُّ والمازريُّ وغيرهما: نُصِب على أنّه خبرُ كان المحذوفة، تقديرُه: ليتني أكون فيها جَذَعًا، وهذا يجيء على مذهب النَّحْويّين الكوفيّين، وقال القاضي الظّاهر: عندي أنّه منصوب على الحال، وخبر ليت قولُه: (فيها)، وهذا الّذي اختاره القاضي هو الصّحيح الّذي اختاره أهل التّحقيق والمعرفة من شيوخنا، وغيرهم ممَّن يُعتمَد عليه، واللّه أعلم. قوله: ﷺ: «أوَمخرجيَّ هم؟» هو بفتح الواو، وتشديد الياء، هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيحُ المشهور تشديدُها، وهو جمعُ (مُخرِج) فالياء الأولى ياء الجمع، والثّانية ضمير المتكلِّم، وفُتحت للتّخفيف؛ لئلَّا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين. قوله: (وإن يدركني يومُكَ)؛ أي: وقتُ خروجك. قوله: (أَنصُرك نصرًا مؤزَّرًا)؛ أي: قويًّا بالغًا"[11]. 

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 197، 198).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 36، 37).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 479 - 481).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 198، 199).
  5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 482، 483).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 199، 200).
  7. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 484، 485).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 200).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 200 - 202).
  10. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (12/ 3715).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 202 - 204).


غريب الحديث:

«لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ»: ليَكُنْ العِلْمُ هَنِيئًا لك[1].

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه ناداه قائلاً: «يَا أَبَا الْمُنْذِر»، كنَّاه النبيُّ ﷺ تلطُّفًا معه. 

قال ﷺ: «أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟»؛ أي: هل تعلم أيُّ آيةٍ مما تحفظ من كتاب الله هي أعظمُ؟

قَالَ أُبَيٌّ: (قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)؛ أي: يقول: لا أعلم، وهذا في حياة النبيِّ ﷺ أما بعدَ وفاته فيُقال: الله أعلم.

قَالَ ﷺ: «يَا أَبَا الْمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟» قَالَ: قُلْتُ:

{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

أجاب أُبيٌّ بأن أعظم آية هي آية الكرسيِّ. 

قال أُبيٌّ: (فَضَرَبَ فِي صَدْرِي)؛ لسرور النبيِّ ﷺ من إجابته وعِلمه، وحِكمتِه في الردِّ على السؤال في المرَّتين. وَقَالَ ﷺ: «وَاللهِ، لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ»؛ أي: ليَكُنْ العِلْمُ هَنِيئًا لك.

الشرح المفصَّل للحديث:

في هذا الحديث يحكي أُبَيُّ بنُ كعبٍ موقفًا له مع النبيِّ ﷺ، يبيِّن فيه كيف كان النبيُّ ﷺ يعلِّم أصحابه، ويتلطَّف معهم، ويَعرِف لهم قَدرَهم، وكيف يطرح عليهم المسألة ليفقِّههم في دينهم.

قوله ﷺ: «يا أبا الْمُنذِر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله تعالى معك أعظمُ؟ قلت: الله ورسوله أعلم»: يتلطَّف النبيُّ ﷺ مع صاحبه فيُكنِّيه، ولا يناديه باسمه المجرَّد؛ تأليفًا لقلبه، ويسأله: هل تَعلَم أيُّ آية من القرآن الذي تَحفَظه أعظمُ أجرًا وأكثرُ ثوابًا؟ وإنما سأله في بداية الأمر ليستقرَّ الجواب في صدره ويهتمَّ به، فكان ردُّ أُبيٍّ أنْ رَدَّ العلمَ إلى الله عزَّ وجلَّ، ورسولِه ﷺ؛ تعظيمًا له، ورعايةً للأدب بين يديه ﷺ، ثم أعاد النبيُّ ﷺ السؤال عليه، فأجاب أُبيٌّ بما عنده من علم

فقال:

{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

[البقرة: 255]

يعني: آية الكرسيِّ.

وقد تكلَّم العلماء في سبب تَكرار السؤال من النبيِّ ﷺ على أُبيٍّ، وفي عدم الجواب من أُبيٍّ في المرَّة الأولى، وجوابه في الثانية، "وأما جوابه أولًا بقوله: (الله ورسوله أعلم)، وثانيًا: بما أتى به، فهو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، ويمكِن أن يُقال: إنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله عزّ وجلَّ، وإلى رسوله ﷺ، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»"[1].

وقيل: فوَّض الجواب أولًا، وأجاب ثانيًا؛ لأنه جوَّز أن يكون حَدَثَ أَفضليَّة شيءٍ من الآيات غير التي كان يَعلَمها، فلمَّا كَرَّر عليه السؤال وأعاده بقوله: «يا أبا الْمُنذِر، أتدري أيُّ آية من كتاب اللَّه تعالى معك أعظم؟»، ظنَّ أن مُراده ﷺ طلب الإخبار عمَّا عنده، فأخبرَه بقوله:

{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}[2].

"كان أُبيٌّ يَعلَم أي آية أعظم حين سأله رسول الله ﷺ عن ذلك؛ ولكن لم يُجبْه تعظيمًا له ﷺ، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أوَّلَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه، ويُحتمَل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّع أن رسول الله ﷺ يُخبره بآيةٍ أخرى أنها أعظمُ، أو يُخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر السؤال، علم أنه ﷺ يطالبه بالجواب، ويريد امتحان حِفظه ودرايته فيما أَخبَره قبلَ هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسيِّ؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلا الله، وبيانَ كونِه حيًّا قيُّومًا، وأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وأن مُلك السماوات والأرض له، وبيانَ قهرِه وعظمته، بحيث لا يَقدِر أحد على الشفاعة إلا بأمره، وبيانَ أنه يعلم جميع الأشياء، ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يَعلَم الغيب أحدٌ غيره إلا هو إلا بتعليمه، وبيان أن كرسيَّه عظيمٌ بحيث السماواتُ والأرض فيه كحَلْقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظ السماوات والأرض بحيث لا يصل إليه ثِقَلٌ وتَعَب، وبيانَ أنه أعلى من كلِّ شيء، وأعظم من كلِّ شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعة في آية سوى هذه الآية"[3].

وفي قوله ﷺ لأُبيٍّ رضي الله عنه: «أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» حجَّة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر الكتب المنزَّلة، فذهب إلى جوازه إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين مستدِلًّا بهذا الحديث، وذلك راجع إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيل ثوابه على بعضه أكثرُ من سائره، ومنع ذلك الشيخ أبو الحسن الأشعريُّ، والقاضي أبو بكر، وجماعة من الفقهاء، قالوا: لأن الأفضل يُشعِر بنقص المفضول، وكلامُ الله تعالى لا نقصَ فيه، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسور فمعناه: عظيم وفاضل[4].
قال أبُيٌّ: (فضرب في صدري)» ضربه ﷺ في صدره؛ إشارةً إلى انشراحه، وامتلائه علمًا وحكمةً، وهذا تلطُّف منه ﷺ؛ ليتمكَّن العلمُ في صدره، وتنشيطٌ له، وترغيبٌ في أن يزداد علمًا وبصيرة، وفَرَحٌ بما ظهر عليه من آثاره المباركة[5]. 

قوله ﷺ: «ليهنك العلمُ يا أبا المنذر»؛ أصلها: يَهْنِيك العلم، واللامُ هنا لام الأمر؛ أي: ليكن العلمُ هنيئًا مريئًا، وهذا دعاءٌ له بتيسير العلم له ورسوخه فيه، وظاهرُه أمرٌ للعلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاءُ، وحقيقتُه إخبارٌ على سبيل الكناية بأنه راسخٌ في العلم، ومُجيدٌ فيه[6].

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
  2. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للإتيوبيِّ (16/ 395).
  3. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 74).
  4. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 178)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 435).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 436).
  6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).


النقول:

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "«أتدري أيُّ آية» اسمٌ معرَب يُستفهَم به، وهو لازمَ الإضافة، ولك أن تُلحِق به تاء التأنيث في إضافته إلى المؤنَّث، ولك أن تَترُكها. وقوله: «معك» وقع موقع البيان لِمَا كان يَحفَظه من كتاب الله؛ لأن «مع» كلمة تدلُّ على المصاحَبة. "وأما جوابه أولًا بقوله: (الله ورسوله أعلم)، وثانيًا: بما أتى به، فهو أن سؤال الرسول ﷺ الصحابيَّ في باب العلم، إما أن يكون للحثِّ على الاستماع؛ لِما يريد أن يُلقيَ عليه، أو الكشفِ عن مقدار فَهمه، ومَبلَغ عِلمه، فلَمَّا راعى الأدب بقوله: (الله ورسوله أعلم)، ورآه لا يكتفي بذلك، وأعاد السؤال، عَلِم أنه يريد بذلك استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب عنه، أقول: يمكِن أن يُقال: إنه ما عَلِم أولًا، وأحال عِلمه إلى الله، وإلى رسوله، فشرَحَ الله صدره بقذف النور، وأَعلَمه، فأجاب بما أجاب، ألا ترى كيف هنَّأه ﷺ بقوله: «لِيَهْنِكَ»"[1]. 

قال القاضي عياض رحمه الله: "وقولُه - عليه السلام - لأبىٍّ: «أتدري أيُّ آية من كتاب الله أعظم»، وذِكْر آية الكرسيِّ، فيه حجَّةٌ للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاقُ بنُ راهَوَيْهِ، وغيرُه من العلماء والمتكلِّمين، وذلك راجعٌ إلى عِظَم أجر قارئ ذلك، وجزيلُ ثوابه على بعضه أكثرُ من سائره، وهذا مما اختَلَف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعريُّ والباقلَّانيُّ وجماعةٌ من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقصُ المفضول عنه، وكلامُ الله لا يتبعَّض، قالوا: وما وَرَد من ذلك بقوله: "أفضل وأعظم" لبعض الآي والسور فمعناه: عظيمٌ وفاضل. وقيل: كانت آية الكرسيِّ أعظمَ لأنها جَمَعت أصول الأسماء والصفات... وقولُه لأبيٍّ حين أخبره بذلك، وأنها آية الكرسيِّ: «ليَهنِك العلمُ أبا المنذر»، وضَرْبُه صدرَه، فيه تنشيطُ المعلِّم لِمَن يعلِّمه إذا رآه أصاب، وتَنْوِيهه به، وسروره بما أَدرَكه من ذلك، وفى الخبر إلقاءُ المعلِّم على أصحابه المسائلَ لاختبار معرفتهم، أو ليعلِّمهم ما لعلَّهم لم يَنتبِهوا للسؤال عنه، ويُحتمَل جوابُ أبيٍّ مما قد سمعه قبلُ منه، عليه السلام"[2].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقال: «ليَهنِكَ العلمُ أبا المنذر»؛ يعني: هنَّأه، حيث عَلِم أن أعظم آية في كتاب الله (آيةُ الكرسيِّ)؛ لأن هذه الآية مشتملةٌ على عشْرِ صفات من صفات الله عزَّ وجلَّ؛ يقول عزَّ وجلَّ:

{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

ففي هذا إخلاص التوحيد لله عزَّ وجلَّ، ومعنى (لا إله إلا هو)؛ أي: لا معبود بحقٍّ إلا هو جلَّ وعلا؛ فجميع المعبودات من دون الله معبودةٌ بغير حقٍّ، حتى وإن سمِّيَت آلهةً؛ فإنما هي أسماءٌ سمَّوْها ما أنزل الله بها من سلطان. (الحيُّ القيُّوم)؛ يعني: الكاملَ في حياته وفي قيُّوميَّته؛ فهو الحيُّ الكامل في حياته، لم يَسبِق حياتَه عَدَمٌ، ولا يَلحَقها فناءٌ؛ لأنه الأول الذي ليس قبلَه شيءٌ، والآخِر الذي ليس بعدَه شيءٌ... فهو سبحانه وتعالى الحيُّ الكامل في حياته، كذلك حياتُه لا يَلحَقها نقصٌ بوجه من الوجوه، وحياة غيره كلُّها نقصٌ، انظر حياتك أنت، إن جئتَ بالسمع، فسمعُكَ ناقصٌ، لا تَسمَع كلَّ شيء. البصرُ كذلك، الصحة كذلك، وما أكثرَ الأمراضَ التي تُصيب الناس! وهكذا بقية أسباب الحياة ناقصة.

أما الربُّ عزَّ وجلَّ فهو كامل الحياة. القيُّوم معناها القائم بنفسه، القائمُ على غيره؛ يعني معنى القائم بنفسه: لا يحتاج لغيره

{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}

[آل عمران: ٩٧]

{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

[الزمر: ٧]

فهو قائم بنفسه، لا يحتاج لأحد، قائم على غيره، كلُّ مَن سواه فإن القائم عليه هو الله عزَّ وجلَّ... إذًا (القيُّوم) له معنيان: القائم بنفسه، والقائمُ على غيره"[3].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "إنما كانت آية الكرسي أعظمَ آية؛ لأنها مشتملة على أمَّهات المسائل الإلهية، فإنها دالَّة على أنه تعالى واحدٌ في الإلهية، متَّصِف بالحياة، قائمٌ بنفسه، مقوِّم لغيره، منزَّه عن التحيُّز والحلول، مبرَّأ عن التغيُّر والفتور، لا يناسب الأشباح، ولا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالكُ الْمُلك والملكوت، مبدِع الأصول والفروع، ذو البطش الشديد، الذي لا يَشفَع عنده إلا من أَذِن له، العالِمُ وحدَه بالأشياء كلِّها، جَلِيِّها وخَفِيِّها، كُلِّيِّها وجُزئيِّها، واسعُ الْمُلك والقدرة، ولا يؤودُه شاقٌّ، ولا يَشغَله شأن، مُتعالٍ عمَّا يُدركه وهم، عظيمٌ لا يحيط به فَهم"[4].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "الْأَوْلَى أن يُقال: فوَّض أوّلًا أدبًا، وأجاب ثانيًا طَلبًا؛ جمعًا بين الأدب والامتثال كما هو دأب أرباب الكمال، قال الطِّيبيُّ: سؤاله - عليه الصّلاة والسّلام - من الصّحابيّ قد يكون للحثِّ على الإسماع، وقد يكون للكشف عن مقدار علمه وفَهمه، فلمّا راعى الأدب أوّلًا، ورأى أنّه لا يكتفي به، علم أنّ المقصود استخراج ما عنده من مكنون العلم، فأجاب، وقيل: انكشف له العلم من اللّه تعالى، أو من مدد رسوله ببركة تفويضه وحسن أدبه في جواب مُساءلته، قيل: وإنّما كانت آية الكرسيِّ أعظمَ آية لاحتوائها واشتمالها على بيان توحيد اللّه وتمجيده وتعظيمه، وذكر أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وكلُّ ما كان من الأذكار في تلك المعاني أبلغ، كان في باب التّدبُّر والتّقرّب به إلى اللّه أجلَّ وأعظم. (قال) - أي: أُبيٌّ -: (فضرب)؛ أي: النّبيّ ﷺ: (في صدري)؛ محبّةً، وفيه إشارة إلى امتلاء صدره علمًا وحكمةً. (وقال: ليهنك العلم) وفي نسخة: (ليهنئْكَ) بهمزة بعد النّون على الأصل، فحُذف تخفيفًا؛ أي: ليكن العلم هنيئًا لك[5].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ليَهنِك العِلْمُ»: يُقال: هَنَأَنِي الطعامُ يَهْنَؤُني، وهَنِئتُ الطعامَ؛ أي: تهنَّأتُ به، وهو كلُّ أمرٍ يأتيك من غير تَعَب، والمعني: ليكن العلمُ هنيئًا لك. هذا دعاءٌ له بتيسير العلم له، ورسوخِه فيه، وإخبارٌ بأنه عالِم. وأقول: ظاهرُه أمرٌ للعِلم بأن يكون هنيئًا له، ومعناه الدعاءُ، وحقيقتُه إخبارٌ على سبيل الكناية بأنه راسخ في العلم، ومُجيد فيه؛ لأنه طبَّق المفصَّل، وأصاب المحز. وأما ضربُه في صدره، فتنبيهٌ على انشراحه، وامتلائه علمًا وحكمة"[6].

قال الحسين بن محمود المظهريُّ رحمه الله: "كان أُبيٌّ يَعلَم أي آية أعظم حين سأله رسول الله ﷺ عن ذلك؛ ولكن لم يُجبْه تعظيمًا له ﷺ، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أوَّلَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه، ويُحتمَل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّع أن رسول الله ﷺ يُخبره بآيةٍ أخرى أنها أعظمُ، أو يُخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر السؤال، علم أنه ﷺ يطالبه بالجواب، ويريد امتحان حِفظه ودرايته فيما أَخبَره قبلَ هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسيِّ؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلا الله، وبيانَ كونِه حيًّا قيُّومًا، وأن لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وأن مُلك السماوات والأرض له، وبيانَ قهرِه وعظمته، بحيث لا يَقدِر أحد على الشفاعة إلا بأمره، وبيانَ أنه يعلم جميع الأشياء، ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يَعلَم الغيب أحدٌ غيره إلا هو إلا بتعليمه، وبيان أن كرسيَّه عظيمٌ بحيث السماواتُ والأرض فيه كحَلْقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظ السماوات والأرض بحيث لا يصل إليه ثِقَلٌ وتَعَب، وبيانَ أنه أعلى من كلِّ شيء، وأعظم من كلِّ شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعة في آية سوى هذه الآية"[7].

قال ابن تيمية رحمه الله: "أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازِعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضلُ من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تعدل ثلث القرآن، وعدلها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنّ النّبيّ ﷺ قال لأبيّ بن كعب: «يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت:

{اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}

قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم أبا المنذر»، وقال في المعوّذتين: لم ير مثلهنّ قطّ

وقد قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: ١٠٦]

فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: ٤٨]

وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة"[8].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "فيه مَنقَبةٌ عظيمة لأبيٍّ، ودليلٌ على كثرة عِلمِه، وفيه تبجيلٌ للعالم، وتَكرِمة بالتَّكْنِيَة، وجوازُ مدح الإنسان في وجهه إذا كان فيه مصلحةٌ، ولم يخف عليه الإعجاب ونحوه؛ لرسوخه في التقوى. وقال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.

وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[9].

قال العباد: "قوله: (قلت: الله ورسوله أعلم)، فيه دليلٌ على أن الإنسان إذا لم يعلم فإنه يقول: الله أعلم. وأما في زمنه ﷺ، فإنه كان إذا سألهم وكانوا لا يعلمون فإنهم يقولون: الله ورسوله أعلم. فيُعطيهم الجواب، وأما بعدَ ذلك، فليس لأيِّ إنسان إذا سُئل عن أيِّ شيء لا يعلمه أن يقول: الله ورسوله أعلم، فقد يُسأل عن قيام الساعة فيقال له: متى تقوم الساعة؟ فلا يصلح أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول ﷺ لا يعلم متى قيام الساعة، فالذي يضاف إليه العلم على الإطلاق هو الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يعلم كلَّ شيء، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء

كما قال الله عز وجل:

{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} 

[النمل:65]

وأما الرسول ﷺ فإنه لا يَعلَم كلَّ غَيب، وقد أمر الله نبيَّه ﷺ أن يقول:

{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}

[الأنعام:50]

فلا يعلم من الغَيب إلا ما أَطلَعه الله عليه"[10].

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 177، 178).
  3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 684 - 686).
  4. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1643).
  5. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1462).
  6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
  7. "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 74).
  8. "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
  9. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
  10. "شرح الأربعين النووية" للعباد (8/ 9).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال لِأَصْحَابِهِ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ القُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ؟»؛ أي: ألا يَستطيعُ أحدُكم أن يقرأ ثُلثَ القرآن في ليلة واحدة؟

قال أبو سعيد الخدريُّ: (فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ)؛ أي: فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يَدعُوهم إلى قراءة ثُلث القرآن في ليلة واحدة، (وَقَالُوا: أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!)؛ أي: لا يُطيق ذلك أحد منا.

 فَقَالَ ﷺ: «اللهُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ القُرْآنِ»؛ يقصد أن سورة الإخلاص تَعدِل ثُلث القرآن.

الشرح المفصَّل للحديث:

يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث فضل سورة الإخلاص، فيسأل الصحابةَ - رضوان الله عليهم - معلِّمًا لهم: «أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرأ كلَّ ليلة ثُلث القرآن»، وهو استفهام استخباريٌّ، معناه: ألَا يستطيعُ أحدُكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة؟ فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يَدعُوهم إلى قراءة ثُلث القرآن في ليلة واحدة، وقالوا: مَن يُطيق تحمُّل ذلك يا رسول الله؟ فلا يقدر على هذا العمل إلا القليل من الناس، فأخبرهم ﷺ أن قراءة سورة الإخلاص تَعدِل ثُلث القرآن. 

قوله ﷺ: «الله الواحد الصمد ثُلث القرآن»؛ أي: سورة الإخلاص، كما ورد في رواية أخرى: «يقرأ: قل هو الله أحد؛ فهي ثُلث القرآن»، ويُحتمَل أن يكون سمَّى السورة بهذا الاسم؛ لاشتمالها على الصِّفتين المذكورتينِ، أو يكون بعضُ رواته كان يقرؤها كذلك[1].

وقد اختلف العلماء في معنى قوله ﷺ عن سورة الإخلاص: «تعدل ثلث القرآن» على عدَّة أوجه[2]:

أحدها: حَمَله بعض العلماء على ظاهره؛ فقال: هي ثُلثٌ باعتبار معاني القرآن؛ لأن مقاصد القرآن الكريم تنحصر في ثلاثة: ما يتعلَّق بذاته تعالى من التوحيد والصفات، وما يتعلَّق بأفعال العباد من الأحكام، وما يتعلَّق بالقصص وأحوال الأُمم، والسورة قد استوفَتِ القِسم الأول على أبلغ وجه.

ثانيها: أن ثواب قراءتها يَحصُل للقارئ مثل ثواب من قَرَأ ثُلث القرآن.

ثالثها: أن من عَمِل بما تضمَّنته من الإقرار بالتوحيد، والإذعان للخالق، كمن قرأ ثُلث القرآن.

ومن العلماء من توقَّف عن الكلام في معناه؛ كابن عبد البرِّ والسيوطيِّ والشوكانيِّ والزرقانيِّ، قالوا: السكوت في هذه المسألة وما كان مثلها أفضل من الكلام فيها وأسلم[3].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 60).
  2. ينظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (24/ 82)، "فتح الباري" لابن حجر (9/ 61) بتصرُّف.
  3. "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).


النقول:

قال ابن بطَّال رحمه الله: "اختلف العلماء في معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن»، فقال أبو الحسن بن القابسيِّ: لعلَّ الرجل الذى بات يردِّد:

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

[الإخلاص: 1]

كانت منتهى حِفظه، فجاء يقلِّل عمله؛ فقال له النبيُّ ﷺ: «إنها لتعدل ثلث القرآن»؛ ترغيبًا له في عمل الخير وإن قلَّ، ولله تعالى أن يجازيَ عبدًا على يَسيرٍ بأفضلَ مما يجازي آخَرَ على كثير، وقال غيرُه: معنى قوله: «إنها تعدل ثلث القرآن» أن الله جعل القرآن ثلاثة أجزاء؛ أحدُها: القصص والعِبَر والأمثال، والثاني: الأمر والنهي والثواب والعقاب، والثالث: التوحيد والإخلاص، وتضمَّنت هذه السورة صفة توحيده تعالى وتنزيهه عن الصاحبة والوالد والولد، فجَعَل لقارئها من الثواب كثواب من قَرَأ ثُلث القرآن"[1].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «أَيعْجزُ؟» الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: «الْوَاحِد الصَّمد» كِنَايَة عَن

{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

[الإخلاص: 1]

فيها ذِكْرُ الإلهية والوَحْدة والصمدية"[2].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«تعدل ثلث القرآن» يعني: أجرُها كأجر ثُلث القرآن؛ لكنها لا تُجزئ عن القرآن؛ ولهذا لو قرأها الإنسان مثلاً ثلاثَ مرات بدَلَ قراءةِ الفاتحة في الصلاة لا تُجزئ؛ لأن هناك فرقًا بين المعادلة في الأجر، والمعادلة في الإجزاء، قد يكون الشيء معادِلاً لغيره في الأجر؛ ولكنه لا يعادله في إجزائه؛ أرأيتم مثلاً إذا قال الإنسانُ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشْرَ مرَّات، كان كمن أعتقَ أربعةَ أنفس من ولد إسماعيلَ، يعني يعادل عِتْقَ أربعة رقاب؛ لكن لو كان عليه عتقُ رقبة وقال ذلك، ما نفعه ذلك؛ فهناك فرقٌ بين المعادلة في الثواب، والمعادلة في الإجزاء؛ فهي تعدل ثلث القرآن في الثواب؛ ولكنها لا تعدل في الإجزاء؛ ولهذا لو قرأها الإنسان ثلاث مرات في الصلاة، لم تُجزئه عن الفاتحة"[3].

قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«أيَعْجِزُ أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة» وهو استفهام استخباريٌّ، معناه: ألَا يستطيع أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة واحدة؟ «فشقَّ ذلك عليهم»؛ أي: فصَعُب عليهم ذلك؛ لأنهم فَهِموا أن النبيَّ ﷺ يدعوهم إلى قراءة ثلث القرآن في ليلة واحدة، «فقالوا: أيُّنا يُطيق ذلك؟»؛ أي: لا يَقدِر على هذا العمل إلا القليل من الناس. «فقال: اللهُ الواحد الصَّمَد ثُلث القرآن»؛ أي: سورة (قل هو الله أحد) تساوي ثلث القرآن في مضمونه ومعناه؛ لأن القرآن ثلاثةُ أقسام: توحيدٌ، وأحكام، وأخبار، وسورة الإخلاص تضمَّنت التوحيد. وقد دلَّ هذا الحديث على فضل سورة الإخلاص، وامتيازها بأنها تحوي في معناها ومضمونها ثُلث القرآن؛ لاشتمالها على التوحيد الذي هو أحدُ مقاصد القرآن الثلاثة، وقال بعض أهل العلم: إنها تساوي ثُلث القرآن في أجرها وثوابها"[4].

قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: "السكوتُ في هذه المسألة وما كان مثلَها أفضلُ من الكلام فيها وأَسلَم"[5].

قال السيوطيُّ رحمه الله: "ذهب جماعة إلى أن هذا ونحوه من المتشابه الذي لا يُدرى تأويلُه، وإلى ذلك نحا أحمدُ بنُ حنبلٍ وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وإيَّاه أختار. قال ابن عبد البرِّ: السكوتُ في هذه المسألة أفضلُ من الكلام وأسلم"[6].

قال الزرقانيُّ رحمه الله: "السكوتُ في هذه المسألة وشِبْهِها أفضلُ من الكلام فيها وأسلم"[7].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قد عُلِّل كونُها تَعدِل ثُلث القرآن بعِلَل ضعيفة واهية، والأحسنُ أن يقال: ذلك لسرٍّ لم نطَّلِع عليه، وليس لنا الكشفُ عن وجهه"[8].

قال البخاريُّ رحمه الله: "قوله: «اللهُ الصَّمَدُ»، والعَرَبُ تُسمِّي أشرافها الصَّمَدَ، قال أبو وائِلٍ: هو السَّيِّد الذي انتهى سُؤدَدُه"[9].

قال ابن تيمية رحمه الله: "والاسم (الصَّمَد) فيه للسّلف أقوال متعدِّدة، قد يُظنُّ أنّها مختلفة، وليس كذلك؛ بل كلُّها صواب، والمشهور منها قولان؛ أحدهما: أنّ الصّمد هو الّذي لا جوف له، والثّاني: أنّه السّيّد الّذي يُصمَد إليه في الحوائج"[10].

قال ابن الجَوزيِّ رحمه الله: "وفي (الصمد) أربعة أقوال؛ أحدها: أنه السيِّد الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائج، رواه ابن عباس عن رسول الله ﷺ، وروى عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عباس قال: الصَّمَد: السّيّد الذي كَمُل في سُؤْدَدَه. وقال أبو عبيدة: هو السيد الذي ليس فوقه أحد. والعرب تسمِّي أشرافها: الصَّمد؛ قال الأسدي:

لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعي بِخَيْرَيْ بَني أَسَدْ = بعمرِو بنِ مَسْعودٍ وبالسَّيدِ الصَّمَدْ

وقال الزجَّاج: هو الذي ينتهي إليه السُّؤدَدُ، فقد صَمَد له كلُّ شيء؛ أي: قَصَد قَصْدَه. وتأويل صمود كلِّ شيء له: أن في كل شيء أثرَ صُنْعه. وقال ابن الأنباريِّ: لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد: السيد الذي ليس فوقه أحد تَصمُد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم.

والثاني: أنه الذي لا جوف له، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وعكرمة، والضحَّاك، وقتادة، والسُّدِّيُّ... والثالث: أنه الدائم. والرابع: الباقي بعد فناء الخلق، حكاهما الخطابيُّ وقال: أصحُّ الوجوه الأول؛ لأن الاشتقاق يَشهَد له؛ فإن أصل الصمد: القصد؛ يقال: اصْمُد صَمْدَ فلان؛ أي: اقصِدْ قصده؛ فالصمد: السيد الذي يُصمَد إليه في الأمور، ويُقصَد في الحوائج"[11].

قال ابن تيمية رحمه الله: ""أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضل من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تَعدِل ثُلث القرآن، وعَدْلُها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيِّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم

أنّ النّبيَّ ﷺ قال لأُبيِّ بنِ كعب:

«يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت:  {اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}. قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر»

وقال في المعوِّذتين: لم ير مثلهنّ قطُّ

وقد قال تعالى:

{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

[البقرة: ١٠٦]

فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلَّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة

قال تعالى:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}

[المائدة: ٤٨]

وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة "[12].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال القاضي عياض: فيه حجَّة القول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض، خلافًا لمن مَنعَه، وقال: تفضيلُ البعض على البعض يقتضي نقصَ المفضول، وليس في كلام الله تعالي نقصٌ. وأُجِيب بأن «أعظم» بمعنى عظيم، و«أفضل» بمعنى فاضل. وقال إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيره: المعنى راجعٌ إلى الثواب والأجر؛ أي: أعظمُ ثوابًا وأجرًا، وهو المختار.

وأقول: لا ريبَ أن القرآن من كونِه كلامَ الله تعالى، سواءٌ في الفضل والشرف؛ لكن يتفاوت بحسَبِ المذكور، فإن فضل سورة الإخلاص مثلاً على السورة التي يُذكَر فيها «تبَّت»؛ مما لا يخفى على كلِّ أحد مع أن الأسلوب من باب: هم كالحَلْقة المفرَغة لا يُدرى أين طرفاها؟ وقد مرَّ بيانُه مرارًا"[13].

قال ابن بطال رحمه الله: "قراءة القرآن أفضلُ أعمال البرِّ كلِّها؛ لأنه لَمَّا كان مَن تعلَّم القرآن أو علَّمه أفضلَ الناس وخيرَهم، دلَّ ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضلُ من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا، ما دام كلُّ من علَّمه تاليًا"[14].

قال النوويُّ رحمه الله: "وأما قوله ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظاهرٌ؛ أي: تنتفع به إن تَلَوْتَه وَعَمِلْتَ به، وإلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"[15].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 251).
  2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (20/ 34).
  3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 676).
  4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (5/ 81).
  5. "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 512).
  6. "تنوير الحوالك شرح موطَّأ مالك" للسيوطيِّ (1/ 164).
  7. "شرح الزرقانيِّ على الموطأ" (2/ 28).
  8. "تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين" للشوكانيِّ (ص: 412).
  9. "صحيح البخاريِّ" (6/ 222).
  10. "مجموع الفتاوى" (17/ 214).
  11. "زاد المسير في علم التفسير" (4/ 506).
  12. "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).
  13. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (5/ 1644).
  14. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 265).
  15. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).


غريب الحديث

«إخوة لِعَلَّاتٍ»: أي: من أبٍ واحد وأمهاتٍ مختلفة (إخوة لأب) [1].

شتَّى: مختلفين متفرِّقين.

المراجع

  1. قال الزمخشريُّ في "الفائق في غريب الحديث" (3/ 44): الأعيان: الإخوة لأب واحد وأم، وبنو العَلَّات: الإخوة لأب واحد وأمهات شتى. وقاله ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 140).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيرة رضى الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: «أنا أَوْلى الناس بعِيسى بنِ مَريمَ في الدنيا والآخرةِ»؛ أي: أنا أَخَصُّ النّاس به، وأقربُهم إليه؛ لأنه بشَّر بي قبل بَعثتي، وسيَتَّبِع شريعتي في آخر الزمان، وينصر ديني، فكأننا واحد. «والأنبياءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ»: استئناف فيه دليل على الحكم السابق، وكأن سائلاً سأل عما هو المقتضي لكونه أَوْلى الناس به، فأجاب بذلك.

قوله : «أمهاتُهم شتَّى، ودِينُهم واحدٌ»؛ أي: إن أصل دينهم وإيمانهم واحد، وهو التَّوحيد، وأما فروع الشرائع، ففيها الاختلاف.

قوله : «ليس بَيْني وبينَه نَبِيٌّ»: هذا أورده كالشَّاهد لقوله: إنّه أقرب النّاس إليه.

الشرح المفصَّل للحديث

يُرشدنا هذا الحديثُ إلى بيان الوَحْدة والاتِّفاق بين جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فإنهم جميعًا إخوةٌ، وهم أَوْلى الناس بعضهم ببعض؛ فإنهم وإن اختلفت أنسابهم، فإن الدِّين يجمُعهم جميعًا.

فقوله ﷺ: «أنا أوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ أي: أحقُّ الناس به، وأقربُهم وألصقهم به

كقوله تعالى:

  ﴿النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ ﴾

[الأحزاب: 6].

وإنما ذكَر عيسى - عليه السلام - دونَ غيره من الأنبياء؛ لكونه ليس بينه وبينه نبيٌّ؛ كما في رواية مسلم، فهو أقرب المرسَلين إليه، ودِينه متَّصلٌ بدِينه، كما أن عيسى كان مُبَشِّرًا به، ممهِّدًا لقواعد دِينه، داعيًا الخَلْقَ إلى تصديقه

قال تعالى:

﴿ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾

   [الصف: 6] [1].

وكذلك فإنه يَصير من أُمته المقتدِين بشريعته عند نزوله في آخِر الزمان، فذلك سببُ أحقيَّته به في الآخرة، وفي الدنيا فلأنه بشَّر به، ونحو ذلك، كما سبق [2].

وقد ورد في القرآن الكريم:

﴿ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾

  [آل عمران: 68]

 ولا منافاةَ بينهما؛ فإنه ﷺ أَوْلى الناس بإبراهيم من جهة الاقتداء به، وهو أَوْلى الناس بعيسى لِما ذكَرْنا [3].

وقوله: «الأنبياء إخوةٌ لِعَلَّات؛ أمهاتهم شتَّى، ودِينهم واحدٌ» ليس مرادُ الحديث أنهم من أبٍ واحد، وأمَّهات مختلفة فِعلًا؛ إذ إن أمَّهاتِهم وآباءهم مختلفون، وما اختصاص عيسى بن مريم حينئذٍ من بينهم؟! وإنما أراد أن دينهم واحدٌ، وإن اختلفت شرائعُهم؛ فالدِّين الذي هو الأصلُ هو الإسلام وأصوله وأحكامه، التي قال الله - عزَّ وجلَّ - فيها:

﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(153) ﴾  

[الأنعام: 151- 153]

 وفي قوله:

﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ﴾

[الأعراف: 29]

وقوله:

﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾  

 [الأعراف: 33]

وقوله:

﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾

  [الإسراء: 23].

فهذه الأصولُ التي اتَّفَقت عليها شرائعُ الإسلام عند الأنبياء جميعًا؛ وإنما اختلفوا في الأحكام

كما قال تعالى:

﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾

[المائدة: 48] [4].

والإسلامُ هو الدين الذي أتت به جميع الأنبياء والرسل؛ قال نوح عليه السلام:

﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾

  [يونس: 72]

وقال تعالى في حقِّ إبراهيم - عليه السلام -:

﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[البقرة: 131]

وفي حقِّ يعقوبَ - عليه السلام -:

﴿وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

[البقرة: 132]

﴿ وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾

[يونس: 84]

 وعلى لسان أصحاب عيسى - عليه السلام -:

﴿ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾

[آل عمران: 52].

فالإسلام يتضمَّن الاستسلامَ لله وحدَه؛ فمَن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومَن لم يستسلم له، كان مستكبِرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبِر عن عبادته كافرٌ، والاستسلامُ له وحْدَه يتضمَّن عبادته وحدَه وطاعته وحدَه، فهذا دين الإسلام الذي لا يَقبل اللهُ غيرَه [5].

فلما كان الدين - وهو الإسلام - واحدًا، وهو الأصل والأساس، كان بمنزلة الأب الواحد، واختلاف الشرائع بينهم بمثابة اختلاف الأمَّهات التي هي مِن لقاح الأب الواحد [6].

وقوله: «ليس بيني وبينه نبيٌّ»: بيانٌ للأوْلوية التي ذكَرَها النبيُّ ﷺ؛ فهو مع كونه مبشِّرًا به، ويَنزِل آخرَ الزمان حاكمًا بشريعته، فكذلك ليس بينهما فارقٌ زمنيٌّ.

وفيه دليلٌ على أنه ليس بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - نبيٌّ أو رسولٌ، وما ذُكر من أن الحواريين كانوا أنبياءَ بعد ذلك، أو أن الرسل الثلاثة الذين أرسلهم عيسى كانوا أنبياءَ؛ فكلُّه ضعيفٌ مردودٌ بهذا الحديث الصحيح. ولو قلنا بصحة ذلك، لكان المراد أنه ليس بينهما نبيٌّ مستقلٌّ بشريعة، والأول أصحُّ، والله أعلم [7].

المراجع

  1. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (3/ 453)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3620).
  2. انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (6/ 184)، "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (6/ 243).
  3. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).
  4. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (15/ 159).
  5. انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (3/ 91).
  6. انظر: "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 202).
  7. انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (19/ 568)، "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله : "قولُه: «أنا أَوْلى النّاس بابن مريم» في رواية عبد الرحمن بنِ أبي عَمْرةَ عن أبي هُريرةَ: «بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ أي: أَخَصُّ النّاس به، وأقربُهم إليه؛ لأنه بشَّر بأنه يأتي من بعده. قال الكِرْمانيُّ: التَّوْفيق بين هذا الحديث وبين

قوله تعالى:

﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ﴾  

[آل عمران: 68]

 أن الحديث وارد في كونه ﷺ متبوعًا، والآية واردة في كونه تابعًا، كذا قال، ومَسَاقُ الحديث كمساق الآية؛ فلا دليلَ على هذه التَّفْرِقة، والحقُّ أنه لا منافاة ليحتاج إلى الجمع، فكما أنه أَوْلى النّاس بإبراهيم، كذلك هو أَوْلى النّاس بعيسى، ذاك من جهة قوّة الاقتداء به، وهذا من جهة قوَّة قُرب العهد به. قوله: «والأنبياء أولاد عَلَّات» في رواية عبد الرحمن المذكورة: «والأنبياء إخوةٌ لعَلَّات»، والعَلَّات - بفتح الْمُهمَلة -: الضّرائر، وأصله أنّ من تزوَّج امرأةً ثمّ تزوَّج أخرى، كأنَّه عَلَّ منها، والعَلَلُ الشُّرْبُ بعد الشُّرْبِ، وأولاد العَلَّات الإخوةُ من الأب، وأمَّهاتهم شتَّى، وقد بيَّنه في رواية عبد الرحمن فقال: «وأمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد»، وهو من باب التفسير؛

كقوله تعالى:

إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)

[المعارج: ١٩ – ٢١].

ومعنى الحديث: أن أصل دينهم واحد، وهو التَّوحيد، وإن اختلفت فروع الشَّرائع، وقيل: المراد أنَّ أزمنتهم مختلفة. قوله: «ليس بيني وبينه نبيٌّ»: هذا أورده كالشَّاهد لقوله: إنّه أقرب النّاس إليه" [1].

قال ابن تيمية رحمه الله : "ولَمَّا كان أصل الدين الذي هو دين الإسلام واحدًا، وإن تنوَّعت شرائعه؛ قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح: «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أَوْلى الناس بابن مريم؛ فإنه ليس بيني وبينه نبيٌّ»؛ فدينهم واحد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وهو يُعبَد في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت، وذلك هو دين الإسلام في ذلك الوقت، وتنوُّع الشرائع في الناسخ والمنسوخ من المشروع كتنوُّع الشريعة الواحدة؛ فكما أن دين الإسلام الذي بَعَث الله به محمدًا ﷺ هو دين واحد، مع أنه قد كان في وقت يجب استقبال بيت المقدس في الصلاة؛ كما أمر النبيُّ المسلمين بذلك بعد الهجرة ببضعةَ عَشَرَ شهرًا، وبعد ذلك يجب استقبال الكعبة، ويحرم استقبال الصخرة؛ فالدين واحد وإن تنوَّعت القِبلة في وقتين من أوقاته؛ ولهذا شرع الله تعالى لبني إسرائيل السبت، ثم نسخ ذلك، وشرع لنا الجمعة، فكان الاجتماع يوم السبت واجبًا إذ ذاك، ثم صار الواجب هو الاجتماعَ يوم الجمعة، وحرَّم الاجتماع يوم السبت، فمن خرج عن شريعة موسى قبل النسخ لم يكن مسلمًا، ومن لم يدخل في شريعة محمد ﷺ بعد النسخ لم يكن مسلمًا.

 ولم يشرع الله لنبيٍّ من الأنبياء أن يعبد غير الله البتَّةَ؛

قال تعالى:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ 

[الشورى: ١٣]

فأمر الرسل أن يقيموا الدين ولا يتفرَّقوا فيه" [2].

قال النَّوويُّ رحمه الله  : "قال جمهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة، فإنّهم متَّفِقون في أصول التّوحيد، وأما فروع الشرائع، فوقع فيها الاختلاف، وأما قوله ﷺ: «ودينهم واحد»: فالمراد به أصول التّوحيد، وأصل طاعة اللّه تعالى وإن اختلفت صفتها، وأصول التّوحيد والطّاعة جميعًا، وأمّا قوله ﷺ: «وأنا أولى النّاس بعيسى» فمعناه أخصُّ به؛ لِما ذكره" [3].

قال ابن القيِّم رحمه الله  : "وأما وجه التسمية، فقال جماعة منهم القاضي عياض وغيره: معناه أن الأنبياء مختلفون في أزمانهم، وبعضهم بعيد الوقت من بعض، فهم أولاد عَلَّات؛ إذ لم يجمعهم زمان واحد، كما لم يجمع أولاد العَلَّات بطن واحد، وعيسى لَمَّا كان قريبَ الزمان من النبيِّ ﷺ ولم يكن بينهما نبيٌّ، كانا كأنهما في زمان واحد، فقال: «أنا أولى الناس بعيسى بن مريم عليه السلام» قالوا: كيف يا رسول الله؟ فقال: «الأنبياء إخوة من عَلَّات» الحديث.

وفيه وجه آخَرُ أحسن من هذا، وهو أن النبيَّ ﷺ شبَّه دين الأنبياء الذين اتَّفَقوا عليه من التوحيد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله ولقائه، بالأب الواحد؛ لاشتراك جميعهم فيه، وهو الدين الذي شرعه الله لأنبيائه كلِّهم؛

فقال تعالى:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ 

[الشورى: ١٣]

، وقال البخاريُّ في صحيحه: "باب ما جاء أن دين الأنبياء واحد"، وذكر هذا الحديث، وهذا هو دين الإسلام الذي أخبر الله أنه دين أنبيائه ورسله، من أوَّلِهم نوحٍ إلى خاتمهم محمدٍ، فهو بمنزلة الأب الواحد، وأما شرائع الأعمال والمأمورات، فقد تختلف، فهي بمنزلة الأمَّهات الشتَّى التي كان لقاح تلك الأمهات من أب واحد، كما أن مادَّة تلك الشرائع المختلفة من دين واحد متَّفَقٍ عليه. فهذا أولى الْمَعْنَيين بالحديث، وليس في تباعد أزمنتهم ما يوجب أن يشبَّه زمانهم بأمهاتهم، ويُجعَلون مختلفي الأمهات لذلك، وكون الأمِّ بمنزلة الشريعة، والأب بمنزلة الدين، وأصالة هذا وتذكيره وفرعية الأم وتأنيثها، واتحاد الأب، وتعدُّد الأم، ما يدلُّ على أنه معنى الحديث، والله أعلم" [4].

قال القسطلانيُّ  رحمه الله : «أنا أَوْلى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة»؛ لكونه مبشِّرًا بي قبل بعثتي، وممهِّدًا لقواعد مِلَّتي في آخر الزمان، تابعًا لشريعتي، ناصرًا لديني، فكأننا واحد. «والأنبياء إخوة لعلاّت»: استئناف فيه دليل على الحكم السابق، وكأن سائلاً سأل عما هو المقتضي لكونه أولى الناس به، فأجاب بذلك.

«أمهاتهم شتّى ودينهم» في التوحيد «واحد». ومعنى الحديث: أن حاصل أمر النبوَّة والغاية القصوى من البعثة التي بُعثوا جميعًا لأجلها: دعوة الخلق إلى معرفة الحق، وإرشادهم إلى ما به ينتظم معاشهم ويَحسُن معادهم، فهم متَّفِقون في هذا الأصل، وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالموصلة المؤدِّية، والأوعية الحافظة له؛ فعبَّر عما هو الأصل المشترك بين الكلّ بالأب، ونسبهم إليه، وعبّر عما يختلفون فيه من الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض بالأمهات، وهو معنى قوله: «أمهاتهم شتّى ودينهم واحد»، أو أن المراد أن الأنبياء وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم فالأصل الذي هو السبب في إخراجهم وإبرازهم – كلٌّ في عصره - أمرٌ واحد، وهو الدين الحق، فعلى هذا؛ فالمراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم" [5].

قال ابن تيمية رحمه الله  : "فأمر الرسل بإقامة الدين، وأن لا يتفرَّقوا فيه؛ ولهذا قال النبيُّ ﷺ في الحديث الصحيح «إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد والأنبياء إخوة لعلات» «وأنا أولى الناس بابن مريم؛ فإنه ليس بيني وبينه نبيٌّ»، وهذا الدين هو دين الإسلام، الذي لا يقبل الله دينًا غيره، لا من الأوَّلين ولا من الآخرين؛ فإن جميع الأنبياء على دين الإسلام؛

قال تعالى عن نوح:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ۖ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

[يونس: ٧١ – ٧٢]

وقال عن إبراهيم:

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

[البقرة: ١٣٠ – ١٣٢]

وقال عن موسى:

 وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ

[يونس: ٨٤]

وقال في خبر المسيح:

 وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ

 [المائدة: ١١١]

وقال فيمن تقدَّم من الأنبياء:

 يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا

[المائدة: ٤٤]

وقال عن بلقيس  أنها قالت:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

[النمل: ٤٤] [6].

قال الديوبنديُّ رحمه الله  : "قوله: «والأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلاَّتٍ، لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ نَبِيٌّ»، يعني: هم متَّحِدُون في العقائد، وإن اخْتَلَفُوا في الفروع؛ كالأولاد التي تكون من أب واحد، وأمهاتهم شتَّى. ثم اعلم أن المشهورَ أن لا نبيَّ بينه وبين المسيح - عليه السلام - كما هو في البخاريِّ، ولكن عند الحاكم في "مستدركه" أنه كان بعد عيسى - عليه السلام - نبيٌّ اسمه "خالد بن سِنَان"؛ بل ظاهرُه أنه كان قُبَيْل بعثة نبيِّنا ﷺ، ويُمْكِنُ أن يكونَ إطلاقُ الأَبِ فيه توسُّعًا، ومرَّ عليه الذهبيُّ، ولم يُنْكِرْ عليه، وليس إسنادُه بالقويِّ" [7].

قال ابن تيمية رحمه الله  : "وأَمَّا من اتَّبَعَ دِينًا مُبَدِّلًا مَا شَرَعَهُ اللَّهُ أو دِينًا منسوخًا، فهذا قد خرج عن دين الإسلام؛ كاليهود الذين بدَّلوا التوراة كذَّبوا المسيح - عليه السلامُ - ثم كذَّبوا مُحَمَّدًا ﷺ، والنصارى الذين بدَّلوا الإنجيل وكذَّبوا مُحَمَّدًا ﷺ، فهؤلاء ليسوا على دين الإسلام الذي كان عليه الأنبياء؛ بل هم مخالفون لهم فيما كذَّبوا به من الْحَقّ،ِ وابتدعوه من الباطل" [8]..

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 489).
  2. "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (ص 455، 456).
  3. "شرح النوويّ على مسلم" (15/ 120).
  4. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 201، 202).
  5. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (5/ 416).
  6. "العقيدة التدمرية" لابن تيمية (ص 167-169).
  7. "فيض الباري على صحيح البخاري" للديوبنديِّ (4/ 402).
  8. مجموع الفتاوى (27/ 370، 371).


غريب الحديث

مكَث: أقام وانتظر[1].

المراجع

  1. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 384): "والمكْث: الإقامة مع الانتظار، والتلبُّثُ في المكان".


المعنى الإجماليُّ للحديث

يخبر ابن عبَّاس رضى الله عنه عن مراحلِ حياة النبيِّ يقول: (بُعثَ رسولُ الله لأربعين سنةً)؛ يعني: نزل جبريلُ عليه السلامُ على النبيِّ ﷺ بالوحي، وأمرَه بالبلاغ بعد بلوغه ﷺ سِنَّ الأربعين، (فمكثَ بمكةَ ثلاثَ عشْرةَ سنةً يُوحَى إليه)؛ أي: فلَبِث ﷺ في مكَّةَ يتنزَّل عليه الوحيُ ويبلِّغه للناس، ويدعو إلى ربِّه، ثلاثَ عشْرةَ سنةً، «ثم أُمِر بالهجرةِ، فهاجَرَ عشْرَ سنين»؛ أي: ثم أمره الله تعالى بالهجرة من مكةَ إلى المدينة، فأقام ﷺ مهاجِرًا بالمدينة المنوَّرة عشْرَ سنين، «ومات وهو ابنُ ثلاثٍ وستينَ سنةً»؛ أي: حتى أتته ﷺ الوفاةُ في المدينة وهو ابن ثلاثٍ وستِّين سنةً.

الشرح المفصَّل للحديث

كانت بَعثةُ رسول الله ﷺ نِعمةً عُظمى من الله - عزَّ وجلَّ - على عباده، فهدى اللهُ به مِن الضلالة، وأرشد به مِن الغَواية، وتمَّ به نورُ الله في العالَمين، وقد مرَّت حياةُ رسول الله ﷺ بمراحلَ متنوِّعةٍ، وظروفٍ مختلفة، ما بين اليُسر والعُسر، والشدَّة والرخاء، والحرب والسِّلم، والسِّرِّ والجهر، والاستضعاف والتمكين، فشَمِلت الحياةَ الإنسانيةَ بكلِّ حالاتها ومراحلها، وقدَّمت في ذلك النَّمُوذجَ الكامل في التأسِّي والاقتداء.

وفي هذا الحديث يُخبر عبدُ الله بنُ عبَّاس رضى الله عنه ببعض المراحل التي مرَّ بها رسولُ الله ﷺ في حياته الدعوية، فيَذكر أن رسولَ الله ﷺ (بُعث وهو ابنُ أربعين سنةً)؛ يعني: نزل جبريلُ عليه السلامُ على النبيِّ ﷺ بالوحي، وأمرَه بالبلاغ بعد بلوغه ﷺ سِنَّ الأربعين. 

وقد اختار الله مكةَ لتكون مولدَ رسوله ﷺ ومكانَ نشأته، بها وُلِد ﷺ من نسَبٍ شريفٍ؛ فأبوه عبد الله بن عبد المطَّلب الهاشميُّ القرشيُّ، وأمَّه آمنةُ بنتُ عبد منافِ بنِ زُهْرةَ القرشية[1]، فكان النبيُّ ﷺ من أشرف العرب نسَبًا، ويحكي عن نفْسه ﷺ ذلك، فيقول: «إن اللهَ اصطفى كِنانةَ من ولدِ إسماعيل، واصطفى قريشًا من كِنانة، واصطفى من قُريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم»[2]، وقد مات والدُ رسول الله ﷺ (عبد الله) ورسولُ الله ﷺ حملٌ في بطن أمِّه[3]؛ "وكأن القدرَ يقول له: قد انتهت مَهمَّتكَ في الحياة، وهذا الجنينُ الطاهرُ يتولَّى اللهُ - عزَّ وجلَّ - بحكمته ورحمته تربيتَه، وتأديبه، وإعداده لإخراج البشرية من الظلمات إلى النور"[4]، فوُلِد ﷺ يتيمًا، ونشأ في كَنَف أمِّه، وجَدِّه عبد المطلب، يحوطه اللهُ بهما بحفظه ورعايته إلى أن تُوفِّيت أمُّه وهو ابنُ ستِّ سنين، ثم تُوفِّي جدُّه عبد المطَّلب وهو ﷺ في الثامنة من عمره، فكفَله عمُّه أبو طالب[5]

وظلَّ ﷺ بمكة طيلةَ هذه السنوات الأربعين يربِّيه الله - عزَّ وجلَّ - ويُعِدُّه إعدادًا يَليق بمَهمَّته التي اصطفاه الله لها؛

قال تعالى:

﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ 6 وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ 7 وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ 8﴾

[الضحى: 6 - 8]

فآواه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وحفظه من الغَواية، وهداه، وأغناه، فعاش مع قومه طيِّب المعشر حَسَن الخُلق، مشاركًا لهم في كل نافع، كحلف الفضول[6]، وبناء الكعبة[7]، ومبتعدًا عن كل قبيح. 

وقد تزوَّج النبيُّ ﷺ من أمِّ المؤمنين خديجةَ بنتِ خُوَيْلِدٍ ڤ وهو في الخامسة والعشرين من عمره، ورزَقه الله منها كلَّ أبنائه - سوى إبراهيم كان من مارية القبطية - وهم: القاسم، وعبد الله، وزينب، ورُقَيَّة، وأمُّ كلثوم، وفاطمة[8]

ولما قارب ﷺ سِنَّ الأربعين حُبِّب إليه الخلاءُ، فكان يخلو في غار حراء اللياليَ؛ يتفكَّر في خَلق الله - عزَّ وجلَّ - وقد سبَق نزولَ الوحي مقدِّماتٌ من الرؤيا الصالحة يراها ﷺ في المنام، فتظهرُ في اليقظة مثلَ فَلَق الصُّبح، وهذا ما حكته أمُّ المؤمنين عائشة رضى الله عنها في قصة نزول الوحي على النبيِّ ﷺ، قالت: أول ما بُدِئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مِثلَ فَلَق الصُّبح، ثم حُبِّب إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه - وهو التعبُّد - اللياليَ ذواتِ العدد قبل أن يَنزِع إلى أهله، ويتزوَّد لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوَّد لمثلها، حتى جاءه الحقُّ وهو في غار حراء، فجاءه الملَكُ فقال: اقرأ، قال: «ما أنا بقارئ»، قال: «فأخذني فغطَّني حتى بلَغَ مني الجَهد ثم أرسلني، فقال: اقرأْ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأْ، فقلتُ: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطَّني الثالثة ثم أرسلني، فقال:

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ 1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ 2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ 3﴾

[العلق: 1 - 3]

»، فرجع بها رسولُ الله ﷺ يَرجُف فؤادُه، فدخل على خديجة بنت خويلد ڤ، فقال: «زَمِّلوني زَمِّلوني». فزمَّلوه حتى ذهب عنه الرَّوعُ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد خَشِيتُ على نفْسي»، فقالت خديجة: كلا والله ما يُخزيكَ الله أبدًا؛ إنك لَتَصِل الرحمَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِب المعدومَ، وتَقْري الضيفَ، وتُعِين على نوائب الحقِّ، فانطلقت به خديجةُ حتى أتت به ورقةَ بن نوفلِ بن أسدِ بنِ عبد العُزَّى، ابنَ عمِّ خديجةَ، وكان امرأً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العَبرانيَّ، فيَكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ، فقالت له خديجة: يا بنَ عمِّ، اسمعْ مِن ابن أخيكَ، فقال له ورقة: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسولُ الله ﷺ خبرَ ما رأى، فقال له ورقةُ: هذا الناموسُ الذي نزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جَذَعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجكَ قومكَ، فقال رسولُ الله ﷺ: «أوَمخرجيَّ هم؟!» قال: نَعمْ؛ لم يأتِ رجلٌ قطُّ بمثل ما جئتَ به إلا عُودِيَ، وإن يُدركني يومُكَ أنصركَ نصرًا مؤزَّرًا. ثم لم يَنشَبْ ورقةُ أن تُوفِّي، وفتَر الوحي»[9].

وبعد أن نزل الوحيُ على رسول الله ﷺ ظلَّ بمكة -كما ذكر ابنُ عباس في هذا الحديث - ثلاثَ عشْرةَ سنةً يُوحى إليه، هذه الفترة كانت من أشدِّ فترات حياة النبيِّ ﷺ؛ فقد لاقى فيها من الإيذاء والتكذيب ما لا يتحمَّله أحدٌ، وقد مرَّتْ هذه الفترة بمراحلَ متعدِّدةٍ، بدأها ﷺ بالدعوة السِّرِّية، فبدأ بأهل بيته، وأقرب الناس إليه، ثم أمره الله - عزَّ وجلَّ - بعد ذلك بالجهر بالدعوة، فصدَع ﷺ بدعوة الحقِّ في أرجاء مكَّة، فلَقِيَ العناد والتكذيب والإيذاء من قومه ﷺ ومَن آمن معه، ولما اشتدَّ الإيذاء أمَرَ ﷺ أصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فهاجروا فيما عُرِف بالهجرة الأُولى، ثم الثانية إلى الحبشة، وكان بدايةُ هذه الهجرة في العام الخامس من البَعثة[10]. وظلَّ ﷺ بمكةَ يدعو قومَه إلى الله - عزَّ وجلَّ - ولا يلقى من أغلبهم إلا الصدود، وقيَّض الله له عمَّه أبا طالب يَذُود عنه الكثير من الأذى، وزوجَه أمَّ المؤمنين خديجةَ تخفِّف عنه وتُسانده، حتى كان العام العاشر من البعثة، فمات عمُّه أبو طالب وزوجه خديجةرضى الله عنها، ولشدَّة حزن النبيِّ ﷺ عليهما سُمِّي هذا العام بعام الحزن، وكان العامَ العاشر من البعثة، وفيه خرج ﷺ إلى الطائف ليدعوَ أهلها إلى الله، آملًا أن يجدَ فيهم مَن يَذودُ عنه حتى يُبلِّغ رسالةَ ربه، فلم يجِدْ منهم إلا التكذيبَ، وأُوذِيَ في هذه الرحلة أشدَّ الإيذاء، وعاد ﷺ إلى مكَّة[11].

وبعد أن أكمل ﷺ بمكة ثلاثَ عشْرةَ سنةً، اختار له المدينة دارًا لهجرته، ومنطلَقًا لدولة الحقِّ، فأذِن له اللهُ بالهجرة إليها، وهاجر ﷺ إلى المدينة يُرافقه أبو بكر رضى الله عنه، بعد أن سبقه أصحابه تباعًا إلى هناك، ولحقه الباقون - ممن استطاع الهجرة - فيما بعدُ.

ويذكر ابن عباس رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ «أُمِر بالهجرةِ فهاجر عشرَ سنين»، أي: أقام مهاجرًا بالمدينة عشْرَ سنين[12].

وكانت حياةُ رسول الله ﷺ بالمدينة مَليئةً بالجهاد والتضحية إعلاءً لكلمة الله - عزَّ وجلَّ - وقد اختلف أهلُ المغازي في عدد غزواته ﷺ وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددَهنَّ مُفصَّلاتٍ على ترتيبهنَّ، فبلغت سبعًا وعشرين غزاةً، وستًّا وخمسين سريةً، قالوا: قاتل في تسع من غزواته، وهي: بدر، وأُحد، والمريسيع، والخندق، وقُرَيظة، وخيبر، والفتح، وحُنين، والطائف[13]، فكانت حياته ﷺ سلسلةً متَّصلة الحلقات من الجهاد باللسان وبالسِّنان، حتى أتمَّ اللهُ النعمةَ، ودخل الناسُ في دين الله أفواجًا. 

ويذكر ابن عباس رضى الله عنه أن رسولَ الله ﷺ قد مات وهو ابنُ ثلاث وستين سنةً، وكانت وفاته ﷺ بالمدينة، يومَ الاثنين الثانيَ عشَرَ من ربيع الأول، من السنةِ الحاديةَ عشْرةَ من الهجرة[14].

المراجع

  1. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 110).
  2. رواه مسلم (2276).
  3. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 158).
  4. "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 47).
  5. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 168: 179).
  6. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 133: 135).
  7. كما رواه البخاريُّ (3829)، ومسلم (340).
  8. انظر: "السيرة النبوية" لابن هشام (1/ 187).
  9. رواه البخاريُّ (3).
  10. انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 191).
  11. انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 207).
  12. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (7/ 230).
  13. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (12/ 195).
  14. انظر: "السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث" للصلابي (ص 871).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "واتَّفَقوا أنّه ﷺ  أقام بالمدينة بعد الهجرة عشْرَ سنين، وبمكّة قبل النّبوّة أربعين سنةً؛ وإنّما الخلاف في قدر إقامته بمكّة بعد النُّبوَّة وقبل الهجرة، والصّحيح أنّها ثلاثَ عشْرةَ، فيكون عمره ثلاثًا وستّين، وهذا الّذي ذكرناه أنّه بُعث على رأس أربعين سنةً هو الصّواب المشهور الّذي أطبق عليه العلماء، وحكى القاضي عياضٌ عن ابن عبّاس وسعيد بن المسيِّب روايةً شاذّةً أنّه ﷺ بُعث على رأس ثلاث وأربعين سنةً، والصّواب أربعون كما سبق، ووُلد عام الفيل على الصّحيح المشهور، وقيل: بعد الفيل بثلاث سنين، وقيل: بأربع سنين. وادَّعى القاضي عياض الإجماع على عام الفيل، وليس كما ادّعى، واتّفقوا أنّه وُلد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وتوفّي يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل، واختلفوا في يوم الولادة هل هو ثاني الشّهر أم ثامنه أم عاشره أم ثاني عشره؟ ويوم الوفاة ثاني عشر ضحًى واللّه أعلم"[1].

قال ابن حجر  رحمه الله: "قَوْله: «وَهُوَ ابن أَرْبَعِينَ» في رواية مالك: «على رأس أربعين»، وهذا إنّما يتمُّ على القول بأنّه بُعث في الشّهر الّذي وُلد فيه، والمشهورُ عند الجمهور أنّه وُلد في شهر ربيع الأوّل، وأنّه بُعث في شهر رمضانَ؛ فعلى هذا يكون له حين بُعث أربعون سنةً ونصف، أو تسع وثلاثون ونصف، فمن قال: أربعين، ألغى الكسر، أو جَبَر؛ لكن قال المسعوديُّ وابن عبد البرِّ: إنّه بُعث في شهر ربيع الأوّل، فعلى هذا يكون له أربعون سنةً سواءً، وقال بعضهم: بُعث وله أربعون سنةً وعشْرة أيّام. وعند الجعابيِّ: أربعون سنةً وعشرون يومًا. وعن الزُّبير بن بكّار: أنّه وُلد في شهر رمضانَ، وهو شاذٌّ، فإن كان محفوظًا وضمّ إلى المشهور أنّ المبعث في رمضان فيصحُّ أنّه بُعث عند إكمال الأربعين أيضًا. وأبعد منه قول من قال: بعث في رمضان وهو ابن أربعين سنةً وشهرين؛ فإنّه يقتضي أنّه وُلد في شهر رجب، ولم أرَ من صرَّح به، ثمّ رأيته كذلك مصرّحًا به في تاريخ أبي عبد الرّحمن العتقيّ وعزاه للحسين بن عليّ وزاد: لسبع وعشرين من رجب، وهو شاذّ. ومن الشّاذّ أيضًا ما رواه الحاكم من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال: أُنزل على النّبيِّ ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين. وهو قول الواقديِّ وتبعه البِلاذُريُّ وابن أبي عاصم. وفي تاريخ يعقوبَ بنِ سفيانَ وغيره عن مكحول أنّه بُعث بعد ثنتين وأربعين. قوله: «فلبث بمكّة عشر سنين ينزل عليه» مقتضى هذا أنّه عاش ستّين سنةً، وأخرج مسلم من وجه آخر عن أنس أنّه ﷺ عاش ثلاثًا وستّين، وهو موافق لحديث عائشة الماضي قريبًا، وبه قال الجمهور، وقال الإسماعيليُّ: لا بدّ أن يكون الصّحيح أحدَهما. وجمع غيره بإلغاء الكسر"[2].

قال الطِّيبيُّ  رحمه الله: "قوله: «لأربعين سنة» اللام فيه بمعنى الوقت... ذكر في وفاته ثلاث روايات؛ إحداها: أنه ﷺ توفِّي وهو ابن ستِّين سنةً، والثانية: ابن خمس وستين سنة، والثالثة: ثلاث وستين سنةً، وهي أصحُّها وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية: أنس وعائشة وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم. فرواية (ستين) مقتصرةٌ على العقود، ورواية (الخمس) متأوَّلة بأن اعتَبَر الراوي الكسور. وأنكر عروة على ابن عباس قوله، وقال: إنه لم يُدرِك أوَّل النبوَّة، ولا كثُرت صحبته، بخلاف الباقين. ووُلِد عامَ الفيل على الصحيح المشهور، وادَّعى القاضي عياض الإجماع عليه. واتَّفَقوا على أنه وُلد يومَ الاثنين في شهر ربيع الأول. واختلفوا فيه هل هو ثاني الشهر أم ثامنه أم عاشر؟ وتوفِّي يومَ الاثنين في ثاني عَشَرَ ربيع الأول ضُحى ﷺ"[3].

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "«لأربعين سنةً فمكُث» بضم الكاف «بمكة ثلاثَ عشْرةَ سنةً يوحى إليه» فيها منها مدَّة فترة الوحي، ومدَّة الرؤيا الصالحة، «ثم أُمر بالهجرة» من مكة إلى المدينة «فهاجر عشْرَ سنين ومات» بها «وهو ابن ثلاث وستين» سنةً"[4].

قال النوويُّ  رحمه الله: "قد اختلف أهلُ المغازي في عدد غزواته ﷺ وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددهنَّ مُفصَّلاتٍ على ترتيبهنَّ، فبلغت سبعًا وعشرين غزاةً وستًّا وخمسين سريةً، قالوا: قاتل في تسع من غزواته، وهي: بدر، وأُحد، والمريسيع، والخندق، وقُرَيظة، وخيبر، والفتح، وحُنين، والطائف.[5].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (15/ 99، 100).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (6/ 570).
  3. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (12/ 3713).
  4. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 214).
  5. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" النووي (12/ 195).


غريب الحديث

الأريكة: السرير، وقيل: هي كلُّ ما اتُّكئ عليه من سرير، أو فراش، أو مِنصَّة، ومِخدَّة، ونحوها[1].

المراجع

  1. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (13/ 154).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي الْمِقدامُ بنُ مَعْدِي كَرِبَ رضى الله عنه عن النبيِّ أنه قال: «ألا»: حرف للتنبيه على تحقُّق ما بعدها. «هل عسى رجُلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَنِّي وهو مُتَّكِئٌ على أريكته»؛ إشارةً إِلَى مَنْشَأ جَهْله، وغروره، وتكبُّره، وسوء أَدَبه، وقعوده عن طَلَب الْعِلْم، وَعَدَم اطِّلَاعه عَلَى السُّنَن. «فيقول: بينَنا وبينَكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استَحْلَلناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه»: وهذه مقالة المبتدِعة، يرُدُّون السُّنَّةَ، ويتعلَّقون بظواهر القرآن، فتَحيَّروا، وضَلُّوا. «وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله كما حرَّمَ اللهُ» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، والمعنى أن أمره ونهيَه كأمر الله ونهيِه في القرآن؛ فكلاهما وحيٌ من الله تعالى.

قوله : «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»؛ أي: أُوتي القرآن، وأوتي معه السُّنة التي هي وحيٌ بالمعنى دون اللفظ.

الشرح المفصَّل للحديث

هذا الحديثُ قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الإسلام، وهي إثباتُ حُجِّيَّة السُّنَّة، وأن أقوالَ النبيِّ وأفعاله وتقريراتِه حُجَّةٌ بذاتها، وإن لم يكنْ لها أصلٌ في الكتاب.

قوله: «ألا» هي مؤلَّفةٌ من حَرفَيِ الاستفهام والنفي؛ لإعطاء التنبيه على تحقُّق ما بعدها؛ وذلك لأن الهمزة فيه للإنكار، فإذا دخلت على نفيٍ، أفادت تحقُّق الثبوت، ولكونها بهذه الْمَثابة؛ لا يَكاد يقَع ما بعدَها إلا ما كانت مُصَدَّرةً بما يُصَدَّرُ به جوابُ القَسَم[1].

وقوله: «مُتَّكئ على أريكته»، وفي بعض الروايات: «شبعانُ على أريكته» الأريكة: السرير، ويقال: إنه لا يسمَّى أريكةً حتى يكون في حَجَلة؛ أي: يكون سريرًا مزيَّنًا بالسُّتور والفُرُش[2]. وقيل: هي كلُّ ما اتُّكئ عليه من سرير، أو فراش، أو مِنصَّة، ومِخدَّة، ونحوها، ويترجَّح هذا هنا؛ فإنهم كانوا في غزوة خيبر، ولم تكن الحَجَلة موجودةً عليه[3].

والمراد من العبارة أصحابُ التَّرَف والغنى، الذين آثروا الدَّعةَ، وتركوا العلم وطلبه، ثم افتأتوا على الدين بآرائهم الجاهلة؛ كحال الخوارج وغيرهم الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن، ورفضوا الاحتكام إلى سُنّة النبيِّ ، وربما كان المقصود التكبُّرَ والسَّلْطنة الذي يُعمي القلوب والبصائر، فيرغب أصحاب السلطان في تحريف الدين برغباتهم وميولهم[4].

وقوله: «فيقولُ: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه» هذه مقالة المبتدِعة من الخوارج وغيرهم، فيرُدُّون السُّنَّةَ التي هي بيانُ القرآن، وتفصيلُ مُجمَلِه، وتَقْييد مُطلَقه، وتَفْريع أصوله، ويتعلَّقون بظواهر القرآن، فتَحيَّروا، وضَلُّوا، كما فعلت الرافضة والخوارج[5].

وردُّ الحديث على أنواع:

الأول: ردُّ الأحاديث مطلَقًا، وهذا المراد هنا، وهو كفرٌ صريحٌ، وتكذيبٌ لله تعالى

قال تعالى:

﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

  [النساء: 59]


وقال تعالى:

﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾  

 [النساء: 80]


وقال تعالى:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7].

فمَن ردَّ السُّنة فقد كَفَر.

الثاني: ردُّ الآحاد منها، وهذا فسوقٌ ومعصيةٌ وضلالٌ، إن لم يكن كُفرًا؛ فإن مَن أنكر خبر الواحد، فقد أنكر معظم الشريعة، ولم يعلم مقصدَها ولا اطَّلَع على بابها الذي يدخل منه إليها.

الثالث: ردُّ الحديث لمخالفة القرآن أو السُّنَّة الصحيحة، وهذا على أنواع؛ فإما أن يخالف عمومَه أو خصوصه، أو يكون التعارض بينها ظاهريًّا يمكِن الجمعُ بينهما، أو لا سبيلَ إلى الجمع، وهذا يفعله أهل العلم لا ردًّا للسُّنة؛ وإنما توفيقًا بين نصوصها[6].

قوله: «وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، وإنما أتى به بصيغة التجريد، ولم يقل: «وإن ما حرَّمتُ» لبيان أنَّ مَن هذه صفتُه من الرسالة ينبغي أن يكون أمرُه ونهيُه كأمر الله ونهيه في القرآن؛ فكلاهما من مورد واحد[7].

يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

لأن الله تعالى قال:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ ﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن كتحريم الله في القرآن[8].

وقوله: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»: أي: أُوتي الكتاب وهو القرآن، المنزَّل على النبيِّ المتعبَّد بتلاوته، المتواتِر، المنقول بنصِّه، وأوتي معه السُّنة التي هي بيان الكتاب، وتفسيره، وتشريع أحكامه وحدوده، وفيها الزيادة على ما في القرآن من التحليل والتحريم وسائر الأحكام، فهي وحيٌ بالمعنى؛ كما

قال الله عزَّ وجلَّ:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾  

[النجم: 3، 4][9].


وقد أشار بقوله هذا إلى ما آتاه الله من الفَهم في الكتاب، والهِمَّة من بيان الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في الْمَنام، أو نفَثَ في رُوعه روحُ القدس من الحِكَمِ والأمثال، فكلُّ ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله سوى القرآن، والقرآن من تلك الأقسام مخصوص بالرُّتبة العظمى والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلامُ الله، ووحيُه، وتنزيلُه، ثم إنه يمتاز عمَّا سِواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومسِّ المكتوب منه، وكلُّ ذلك في حقِّ العمل والحكم به سواء؛ لأن الكلَّ من عند الله، وقد نزَّه نُطْقَ نبيِّه عن الهوى، وأمر باتِّباعه فيما يأمُر ويَنهى[10].

وفي تكرير كلمة التنبيه «ألا» توبيخٌ وتقريعٌ نشأ من غضب عظيم على مَن ترك السُّنة والعمل بالحديث استغناءً بالكتاب[11].

وفي الحديث دليلٌ على أن الحديث الشريف إذا صحَّ لم يَحْتَجْ إلى العرض على الكتاب؛ بل متى ثبتَت صحَّة الحديث وعدم نسخه، كان حُجَّةً بنفْسه، وأما ما قاله بعضهم: "إذا جاءكم الحديث فاعرِضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدَعُوه"، فهو حديثٌ باطلٌ لا أصلَ له، وقد قال يحيى بن مَعين رحمه الله : هذا حديثٌ وضعته الزنادقةُ[12].

المراجع

  1. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاوي (1/ 135)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 631).
  2. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 130).
  3. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (13/ 154).
  4. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 131)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 266).
  5. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 630).
  6. انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (10/ 131).
  7. انظر: "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 664).
  8. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  9. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
  10. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 86).
  11. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 631)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (7/ 356).
  12. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 299)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 133).


النقول

قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

لأن الله تعالى قال:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن" [1].

قال التُّوربشتيُّ رحمه الله: "أشار بقوله هذا إلى ما آتاه الله من الفَهم في الكتاب، والهِمَّة من بيان الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في المنام، أو نفَثَ في رُوعه روحُ القدس من الحِكَمِ والأمثال، فكلُّ ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله سوى القرآن، والقرآنُ من تلك الأقسام مخصوص بالرُّتبة العظمى والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلامُ الله، ووحيُه، وتنزيلُه، ثم إنه يمتاز عمَّا سِواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومسِّ المكتوب منه، وكلُّ ذلك في حقِّ العمل والحكم به سواء؛ لأن الكلَّ من عند الله، وقد نزَّه نُطْقَ نبيِّه عن الهوى، وأمر باتِّباعه فيما يأمُر ويَنهي"[2].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "قال الشيخ: قولُه: «أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه» يحتمل وجهين من التأويل: أحدُهما أن يكون معناه أنه أُوتِيَ من الوحيِ الباطن غيرِ المتلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر المتلوِّ، ويَحتمِل أن يكون معناه أنه أُوتي الكتابَ وَحْيًا يُتلى، وأُوتي من البيان؛ أي: أُذِن له أن يبيِّن ما في الكتاب، ويعمُّ ويخصُّ، وأن يَزيد عليه، فيشرِّع ما ليس له في الكتاب ذِكْرٌ، فيكون ذلك في وجوب الحُكم، ولزوم العمل به، كالظاهر المتلوِّ من القرآن. وقوله: «يوشك شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن» فإنه يحذِّر بذلك مخالفة السُّنن التي سنَّها رسول الله مما ليس له في القرآن ذِكْرٌ، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السُّنن التي قد ضُمِّنت بيان الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا، والأريكةُ السَّرير، ويقال: إنه لا يسمَّى أريكة حتى يكون في حَجَلة؛ وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترُّفه والدَّعَة الذين لَزِموا البيوت، ولم يَطلُبوا العلم، ولم يَغْدُوا ولم يروحوا في طلبه في مظانِّه واقتباسه من أهله"[3].

قال السيوطيُّ رحمه الله: "قوله: «وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، وإنما أتى به بصيغة التجريد، ولم يقل: «وإن ما حرَّمتُ» لبيان أنَّ مَن هذه صفتُه من الرسالة ينبغي أن يكون أمرُه ونهيُه كأمر الله ونهيِه في القرآن؛ فكلاهما من مورد واحد"[4].

قال ابن القيم رحمه الله: "والسُّنَّة مع القرآن على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن تكون موافقةً له من كلِّ وجه، فيكون توارد القرآن والسُّنّة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلَّة وتضافُرها. الثّاني: أن تكون بيانًا لما أُريد بالقرآن وتفسيرًا له. الثّالث: أن تكون موجِبةً لحُكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرِّمةً لما سكت عن تحريمه، ولا تَخرُج عن هذه الأقسام، فلا تُعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدَأ من النّبيِّ تجب طاعته فيه، ولا تَحِلُّ معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللّه؛ بل امتثال لما َأَمر اللّه به من طاعة رسوله، ولو كان رسول اللّه لا يُطاع في هذا القِسم، لم يكن لطاعته معنًى، وسَقَطت طاعته المختصَّة به، وإنّه إذا لم تَجِب طاعته إلّا فيما وافَقَ القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصَّة تختصُّ به

وقد قال اللّه تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾  

 [النساء: 80]

 وكيف يمكِن لأحد من أهل العلم أن لا يَقبَل حديثًا زائدًا على كتاب اللّه؛ فلا يَقبَل حديث تحريم المرأة على عمَّتها ولا على خالتها، ولا حديثَ التّحريم بالرَّضاعة لكلِّ ما يَحرُم من النَّسَب، ولا حديثَ خيار الشَّرط، ولا أحاديث الشُّفعة، ولا حديث الرَّهْن في الحَضَر، مع أنّه زائد على ما في القرآن، ولا حديثَ ميراث الجَدَّة، ولا حديث تخيير الأمَةِ إذا أُعتِقت تحتَ زَوجها، ولا حديثَ منع الحائض من الصَّوم والصّلاة، ولا حديثَ وجوب الكفَّارة على من جامَع في نهار رمضانَ، ولا أحاديثَ إحداد المتوفَّى عنها زوجها، مع زيادتها على ما في القرآن من العِدَّة"[5].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ألا إني أوتيتُ»: يَحتمِل هذا وجهين من التأويل: أحدهما: أنه أُوتي من الوحيِ الباطن غير الْمَتْلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر، والثاني: أنه أُوتي الكتاب وحيًا، وأُوتي من التأويل مثلَه؛ أي: أُذِن له أن يبيِّن ما في الكتاب، فيعمِّم ويخصِّص، ويَزيد ويَنقص، فيكون ذلك في وجوب العمل به، ولزوم قبوله، كالظاهر المتلوِّ من القرآن. وقيل: «ومثله معه»؛ أي: أحكامًا ومواعظَ وأمثالاً تماثل القرآن في كونها وحيًا، أو كونها واجبةَ القَبول، وتنزَّه نُطق رسوله عن الهوى، وأُمر بمتابعته فيما يأمر وينهي، فقال عزَّ من قائل:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴾  

[النجم: 3]

وقال الله تعالى:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7]

 أو يماثله في المقدار"[6].

قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ

ء ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ ﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن"[7].

قال المناويُّ رحمه الله: "«متَّكِئًا على أريكته»؛ أي: سريره أو فراشه أو مِنَصَّته، وكلِّ ما يُتَّكأ عليه فهو أريكة. قال القاضي: الأريكة الحَجَلة، وهي سرير يُزيَّن بالحُلَل والأثواب للعروس، جمعُها أرائك. وقال الراغب: سُمِّيت به؛ إما لكونها متَّخَذةً من الأراك، أو لكونها مكانًا للإقامة، وأصل الأراك الإقامة على رعي الأراك، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإقامات. قال البغويُّ: أراد بهذه الصفة أصحاب الترفُّه والدَّعَة الذين لَزِموا البيوت، وقعدوا عن طلب العلم. وقال المظهر: أراد بالوصف التكبُّر والسلطنة"[8].

قال السِّنديُّ رحمه الله: "قال الفاضل الطِّيبِيُّ: وفي هذا الحديث توبيخ وتقريع نشأ من تعظيمِ عظيم على ترك السُّنّة والعمل بالحديث استغناءً عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب؛ فكيف بمن رجَّح الرّأيَ على الحديث، وإذا سَمِع حديثًا من الأحاديث الصّحيحة قال: لا عليَّ بأن أعمل بها؛ فإنّ لي مذهبًا أتَّبِعه"[9].

قال العظيم آبادي رحمه الله: "«على أريكته» بالإضافة إلى الضّمير؛ أي: على سَريره. أشار إلى منشأ جَهْلِه، وعدم اطِّلاعه على السُّنن، وردُّه هو قلِّة نَظَره، ودَوَام غفلته بتعهُّد الاتِّكاء والرُّقاد، كذا في فتح الودود. وقال القاري: على أريكته؛ أي: سريره المزيَّن بالحُلل والأثواب في قُبَّة أو بيت كما للعروس؛ يعني: الّذي لَزِم البيت وقعد عن طلب العلم. قيل: المراد بهذه الصِّفَة للتّرفُّه والدَّعَة كما هو عادة المتكبِّر المتجبِّر القليل الاهتمام بأمر الدّين"[10].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "«وعلى أريكته» متعلِّق بمحذوف في حيِّز الحال؛ أي متَّكِئًا أو جالسًا، وهو تأكيد وتقرير لحماقة القائل وبَطَره وسُوء أَدَبه. ذكره على ما ذهب إليه الخوارج والظواهر؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنَّة التي ضمِّنت بيانَ الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا. و«على أريكته» يجوز أن يكون صفة بعد صفة لرجل، فتكون الصفة الثانية تكميلاً للذمِّ؛ فإن الأُولى تدلُّ على الدَّعة والبَطَر، والثانية على التكبُّر والتجبُّر، ويجوز أن تكون حالاً من «رجل» لا تِّصافه بشبعانَ، فيكون تتميمًا ومبالغةً في بَطَرِه وأَشَرِه، وفيه تشنيع عظيم ونَهْيٌ فظيع على ذلك القائل[11].

قال ابن القيم رحمه الله: "أحكام السُّنّة الّتي ليست في القرآن، إن لم تكن أكثرَ منها، لم تَنقُص عنها؛ فلو ساغ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّة زائدة كانت على نصِّ القرآن، لبَطَلت سُنن رسول اللّه كلُّها، إلّا سنّةً دلَّ عليها القرآن، وهذا هو الّذي أخبر النّبيُّ بأنّه سيقع، ولا بدَّ من وقوع خبره"[12].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أَجمَع المسلمون على أنّ من استبانت له سُنَّة رسول اللّه لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد من النّاس"[13].

قال ابن حزم رحمه الله: "والبرهان على أنَّ المراد بهذا الردِّ إنما هو إلى القرآنِ، والخَبَرِ عن رسول الله ؛ لأنَّ الأُمَّة مُجمِعة على أنَّ هذا الخطاب متوجِّه إلينا، وإلى كلِّ مَنْ يُخلَق ويُركَّب روحُه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس، كتوجُّهِه إلى مَنْ كان على عهد رسول الله ، وكلِّ مَنْ أتى بعده - عليه السلام - وقَبَلنا، ولا فَرْقَ"[14].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحاصل أنّ ثبوت حُجِّيّة السُّنَّة المطهَّرة واستقلالَها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيّة، ولا يخالف في ذلك إلّا من لا حظَّ له في دين الإسلام"[15].

  1. قال ابن تيمية رحمه الله: "وليُعلَم أنّه ليس أحدٌ من الأئمَّة المقبولين عند الأمَّة قَبولًا عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول اللّه في شيء من سُنَّته؛ دقيقٍ ولا جَليلٍ؛ فإنّهم متَّفِقون اتِّفاقًا يقينيًّا على وجوب اتِّباع الرّسول، وعلى أنّ كلَّ أحد من النّاس يؤخذ من قوله ويُترك إلّا رسولَ اللّه ؛ ولكن إذا وُجِد لواحد منهم قولٌ قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بدَّ له من عُذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثةُ أصناف؛ أحدها: عدم اعتقاده أنّ النّبيَّ قاله. والثّاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول. والثّالث: اعتقاده أنّ ذلك الحكم منسوخ[16].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد كان السَّلَف يشتدُّ نَكِيرهم وغَضَبهم على من عارض حديث رسول اللّه برأيٍ أو قياس أو استحسان، أو قول أحد من النّاس، كائنًا من كان، ويَهجُرون فاعل ذلك، ويُنكرون على من يَضرِب له الأمثال، ولا يسوِّغون غير الانقياد له والتّسليم والتّلقِّي بالسّمع والطّاعة، ولا يَخطُر بقلوبهم التّوقُّف في قَبوله حتّى يَشهَد له عمل أو قياس، أو يوافق قولَ فُلان وفلان؛ بل كانوا عاملين بقوله:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ 

[الأحزاب: 36]"[17].


قال التوربشتيُّ رحمه الله: "إن أَشَرَ النعمة، وبَطَرَ الحشمة يَحمِل الإنسانَ على الخَوض فيما لا يَعلَمُه، والدفاع لِما لا يُريده، مُتسَتِّرًا في ذلك بتعظيم القرآن، وهذه شِنْشِنةٌ عُرفت في الإسلام قديمًا وحديثًا عن علماء السوء وولاة الجَوْر"[18].

المراجع

  1. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  2. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 86).
  3. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
  4. انظر: "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 664).
  5. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
  6. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 629).
  7. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  8. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 164).
  9. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 4).
  10. "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي (8/ 302).
  11. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/630، 631).
  12. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 221).
  13. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 6).
  14. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/ 97).
  15. "إرشاد الفحول" للشوكانيِّ (1/ 97).
  16. "مجموع الفتاوى" (20/ 232).
  17. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 188).
  18. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 87).


غريب الحديث

المنكَرُ: كلُّ ما قبَّحه الشرعُ وكرِهه وحرَّمه[1].

المراجع

  1. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 115).


المعنى الإجماليُّ للحديث

قال طَارِقُ بْنُ شِهَابٍ - وهو تابعيٌّ -: [أَوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ]؛ أي: إن مَرْوانَ بنَ الحَكَم خاف من انصراف الناس بعد صلاة العيد، فأراد أن يبتدع بتقديم خُطبة العيد على الصَّلاة. [فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ]؛ أي: فقام إليه رجل فأنكر عليه بدعته. [فَقَالَ: الصَّلاةُ قَبْلَ الخُطْبَةِ]؛ أي: الصلاة قبل الخُطبة في السُّنَّة. [فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ]؛ أي: فردَّ مروان عليه: قد تُرِك ما استَقرَّ في ذلك الزمان مِن تقديم الصلاة على الخُطبة، فقال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: [أمَّا هذا فقد قضى ما عليه]؛ أي: أدَّى الواجبَ المكلَّفَ به. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ»؛ أي: من رأى من المسلمين المكلَّفين منكَرًا ظاهرًا فليغيِّرْه بيده إن استطاع، فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكَر وإزالته باليد، فليغيِّره بلسانه، وذلك ببيان حكم المنكَر والزجر عنه، ولوم فاعله، ودعوته إلى التوبة. «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ» أي: فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكر وإزالته باليد ولا باللسان، غيَّره بقلبه، ومعناه: أن يَكره ذلك الفعل بقلْبِه، ويعزِم على أن لو قدَر على التغيير لَغيَّره، وهذه آخِرُ خَصلةٍ من الخصال المتعيِّنة على المؤمن في تغيير المنكَر.

الشرح المفصَّل للحديث

الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر من أعظم العبادات التي يتقرَّب بها العبد إلى الله، وهو سبب خيريَّة هذه الأُمة

قال الله تعالى:

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾

[آل عمران: 110].  

وفي هذا الحديث يَرْوي التابعيُّ طارقُ بن شهاب: أن مرْوانَ بن الحكم عاملَ أميرِ المؤمنين معاويةَ  على المدينة آنذاك، أراد أن يبتدِع بدعةً جديدةً منكَرةً لم تَرِد عن النبيِّ ﷺ، ولم يعمَلْ بها أحدٌ من أصحابه، وهي تقديمُ الخُطبة يوم العيد على الصَّلاة، وذلك خلافُ ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابُه، والذي حمَله على هذا أنه خاف إن قدَّم الصلاةَ أن ينصرِف الناس دونَ أن يسمَعوا خُطبتَه، فقدَّم الخُطبة[1]. وقول طارق بن شهاب: [أوَّلُ مَنْ بَدَأَ بِالخُطْبَةِ يَوْمَ العِيدِ قَبْلَ الصَّلاةِ مَرْوَانُ] يدُلُّ على أن هذا العمل ما فعَله أحدٌ من قبْلُ مِن الخلفاء الراشدين ﭫ أجمعين[2]. 

فلمَّا أراد مَرْوانُ أن يفعَلَ ذلك قام إليه رجُلٌ، لم يمنَعْه سلطانُ ذلك الأمير، ولا نفوذُه من أمرِه بالمعروف، ونهيِه عن المنكَر، فقال: [الصَّلَاةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ]؛ أي: إنَّ سُنةَ النبيِّ ﷺ والخلفاءِ من بعده أن تكون صلاة العيد قبل الخُطبة، وذلك على عكسِ صلاة الجمُعة، فردَّ عليه مرْوانُ بقولِه: [قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ]؛ أي: تُرِك ما استَقرَّ في ذلك الزمان مِن تقديم الصلاة على الخُطبة، فقال أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: [أمَّا هذا فقد قضى ما عليه]؛ أي: أدَّى الواجبَ المكلَّفَ به، وهنا قد يُقال: "كيف يتأخَّر أبو سعيدٍ عن إنكار هذا المنكَر حتَّى سبَقه إليه هذا الرَّجلُ؟ وجوابُه: أنَّه يَحتمل أنَّ أبا سعيدٍ لم يكن حاضرًا أوَّل ما شرَع مرْوانُ، فأنكر عليه الرَّجل، ثمَّ دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويَحتمل أنَّه كان حاضرًا ولكنَّه خاف حصول فِتنةٍ بإنكاره، أو أنَّه همَّ بالإنكار فسبَقه الرُّجلُ فعضَّده أبو سعيد، وعلى كلٍّ فهناك روايةٌ أُخرى جاء فيها أنَّ أبا سعيد هو الَّذي جبَذ يدَ مرْوانَ حين رآه يصعَد المنبرَ، فردَّ عليه مرْوانُ بمثل ما ردَّ على الرَّجُل"[3].

ثمَّ قال أبو سعيد الخُدْريُّ: [سَمِعتُ رسول الله ﷺ]، وهذا القول يَحمل قوَّة الدَّليل في الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكَر؛ فمِن المعلوم يقينًا أنَّ أعلى المصادر في التَّشريع وبيان أبواب الحلال والحرام: كتابُ الله سبحانه، ثمَّ في المنزلة الثانية سُنَّة رسول الله ﷺ الذي لا ينطِق عن الهوى؛ إنْ هو إلا وَحيٌ يُوحَى، ولا شكَّ أنَّ السَّماع أقوى حُجَّةً من النَّقل عن الغير؛ فإنَّه يكون يَقينيَّ الثُّبوت؛ خاصَّةً إذا كان من رجُلٍ عَدْل من أصحاب النبيِّ ﷺ الذين شهِد الله لهم في كتابه بالصِّدق والإخلاص.

قوله ﷺ: «مَن رأى منكم مُنكَرًا فليغيِّرْه بيده» هذا الأمر على الوجوب؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكر من واجبات الإيمان، ودعائم الإسلام، بالكتاب، والسُّنة، وإجماع الأمَّة، وهو واجبٌ على الكفاية، مَن قام به، أجزأ عن غيره، ولوجوبه شَرْطان؛ أحدهما: العلم بكون ذلك الفعل منكَرًا أو معروفًا، والثَّاني: القُدرة على التَّغيير، فإذا كان ذلك، تَعيَّن التَّغيير باليد إن كان ذلك المنكَرُ ممَّا يَحتاج في تغييره إليها؛ مثل: كَسْر أواني الخمر، وآلات اللَّهو؛ وكمنع الظَّالم من الضَّرْب والقتل، وغير ذلك، فإن لم يَقدِر بنفْسه استعان بغيره، فإن خاف من ذلك ثَوَران فتنةٍ، وإشهار سلاح، تعيَّن رفْعُ ذلك إلى الإمام[4].

ثم إن الأمر بالمعروف والنهيَ عن المنكر فرضُ كِفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقَط عن الباقي، وإذا تركه الجميعُ أثِم كلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذْر.

ثم إنه قد يتعيَّن، كما إذا كان في موضعٍ لا يَعلم به إلا هو، أو لا يتمكَّن مِن إزالته إلا هو، وكمَن يرى زوجته أو ولده أو غُلامه على منكَر ويُقصِّر[5].

والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر واجبٌ حتى وإن ظنَّ القائمُ بذلك أن فِعلَه لن يُجديَ شيئًا، وأن قوله لا يُسمع

فقد قال الله سبحانه:

﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾  

 [الذاريات: 55]

والمسلِم عليه الأمر والنهي، وليس عليه القَبول

قال تعالى:

﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾

[المائدة: 99].

وكذلك لا يختصُّ الأمرُ بالمعروف والنهى عن المنكر بالوُلاة والحكَّام؛ بل ذلك واجبٌ على آحاد المسلمين؛ فواجبٌ على المسلم أن يأمر وينهى، ما دام عالِمًا بما يأمُر به ويَنْهى عنه، فإن كان من الأمور الظاهرة - مثل: الصلاة والصوم، والزنا وشرب الخمر، ونحو ذلك - فكلُّ المسلمين علماءُ بها، وإن كان مِن دقائق الأفعال والأقوال، وما يتعلَّق بالاجتهاد، ولم يكنْ للعوامِّ فيه مدخلٌ، فليس لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء[6].

قال ﷺ: «فإنْ لمْ يَستَطِعْ فبِلِسانِه»؛ أي: فإن لم يَقدِرْ على التغيير وإزالةِ المنكَر بيدِه، غيَّر بالقول المرْتَجى نفعُه، مع لِينٍ أو إغلاظ، حسَبَ ما يكون أنفعَ، وقد يبلغ في الإصلاح والتغيير بالرِّفق والسِّياسة إلى ما لا يبلغ بغيره[7].

وحدُّ الاستطاعة في الإنكار: ألَّا يخاف المنكِر سوطًا ولا عصًا، فحينئذٍ يجب عليه التغيير باليد، فإن خاف السَّوْطَ في تغييره باليد ولم يخَفْه في النُّطق، انتقل الوجوب إلى الإنكار باللسان[8].

وقوله ﷺ: «فإنْ لمْ يَستَطِعْ فبِقَلْبِه»؛ أي: فإنْ لم يستطعْ تغيير المنكر وإزالته باليد ولا باللسان، غيَّره بقلبه، ومعناه: أن يَكره ذلك الفعل بقلْبِه، ويعزِم على أن لو قدَر على التغيير لَغيَّره[9]. 

وقوله ﷺ: «وذلك أضْعَفُ الإيمانِ» هذه آخِرُ خَصلةٍ من الخصال المتعيِّنة على المؤمن في تغيير المنكَر؛ وهي المعبَّر عنها في الحديث بأنَّها أضعفُ الإيمان؛ أي: أضعَفُ خِصال الإيمان، ولم يبْقَ بعدها للمؤمن مرتبةٌ أُخرى في تغيير المنكَر؛ ولذلك قال ﷺ في الرِّواية الأُخرى: «لَيسَ وَراءَ ذلكَ مِن الإيمانِ حَبَّةُ خَردَلٍ»[10]؛ أي: لم يبْقَ وراءَ هذه الرُّتبةِ رتبةٌ أُخرى، وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ مَن خاف على نفْسِه القتلَ أو الضَّرر، سقط عنه التَّغْيير، وهو مذهَب المحقِّقين سلَفًا وخلَفًا[11].

المراجع

  1. انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوْزيِّ (2/ 173).
  2. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 21) بتصرُّف يسير.
  3. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (2/ 22) بتصرُّف يسير.
  4. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 233، 234).
  5. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
  6. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/22- 23).
  7. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 234).
  8. " كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوزيِّ (3/ 174).
  9. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 234).
  10. رواه مسلم (50).
  11. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 234).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "فقال أبو سعيد: [أمّا هذا فقد قضى ما عليه]، وهذا ظاهر في أنّه غيرُ أبي سعيد، وكذا في رواية رجاء عن أبي سعيد الّتي تقدَّمت في أوّل الباب، فيُحتمَل أن يكون هو أبا مسعود الّذي وقع في رواية عبد الرّزّاق أنّه كان معهما، ويحتمل أن تكون القصّة تعدَّدت، ويدلُّ على ذلك المغايرة الواقعة بين روايتَيْ عياض ورجاء، ففي رواية عياض أنّ المنبر بُني بالمصلَّى، وفي رواية رجاء أنّ مروان أخرج المنبر معه؛ فلعلّ مروانَ لَمّا أنكروا عليه إخراج المنبر ترك إخراجه بعد وأمر ببنائه من لبن وطين بالمصلّى، ولا بعد في أن يُنكر عليه تقديم الخُطبة على الصلاة مرّةً بعد أخرى، ويدلُّ على التّغاير أيضًا أنّ إنكار أبي سعيد وقع بينه وبينه وإنكار الآخر وقع على رؤوس النّاس قوله: إنّ النّاس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصّلاة فجعلتها – أي: الخطبة - قبل الصّلاة. وهذا يُشعر بأنّ مروان فعل ذلك باجتهاد منه، وسيأتي في الباب الّذي بعده أنّ عثمان فعل ذلك أيضًا؛ لكن لعلّة أخرى"[1].

قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله: "ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضُ كِفايةٍ، إذا قام به مَن يكفي سقَط عن الباقي، وإذا تركه الجميعُ أثِم كلُّ مَن تمكَّن منه بلا عُذْر. ثم إنه قد يتعيَّن، كما إذا كان في موضعٍ لا يَعلم به إلا هو، أو لا يتمكَّن مِن إزالته إلا هو، وكمَن يرى زوجته أو ولده أو غُلامه على منكَر ويُقصِّر"[2].

قال النوويُّ رحمه الله: " ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنّهيَ عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض النّاس سقط الحَرَج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أَثِم كلُّ من تمكَّن منه بلا عُذر ولا خوف، ثمّ إنّه قد يتعيَّن كما إذا كان في موضع لا يَعلَم به إلا هو، أو لا يتمكَّن من إزالته إلّا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكَر أو تقصير في المعروف، قال العلماء رضي اللّه عنهم: ولا يسقط عن المكلَّف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنّه؛ بل يجب عليه فعله؛ فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين، وقد قدَّمنا أنّ الّذي عليه الأمر والنّهي لا القَبول

وكما قال اللّه عزّ وجلّ:

{ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ}

[المائدة: ٩٩][3].

قال ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفوائد: بُنْيانُ الْمِنبر. قال الزَّيْنُ بن المنير: وإنّما اختاروا أن يكون باللَّبِن لا من الخشب؛ لكونه يُترَك بالصحراء في غير حِرز فيؤمن عليه النَّقل، بخلاف خشب مِنبر الجامع. وفيه أنّ الخُطبة على الأرض عن قيام في المصلَّى أولى من القيام على المنبر، والفرق بينه وبين المسجد أنّ المصلَّى يكون بمكان فيه فضاء فيتمكَّن من رؤيته كلُّ من حَضَر، بخلاف المسجد فإنّه يكون في مكان محصور، فقد لا يراه بعضهم. وفيه الخروج إلى المصلَّى في العيد وأنّ صلاتها في المسجد لا تكون إلّا عن ضرورة. وفيه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السُّنَّة. وفيه حَلِف العالم على صدق ما يُخبر به، والمباحثة في الأحكام، وجواز عمل العالم بخلاف الأَوْلى إذا لم يوافقه الحاكم على الأَوْلى؛ لأنّ أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف، فيُستدلُّ به على أن البَداءة بالصّلاة فيها ليس بشرط في صحّتها، واللّه أعلم. قال ابن المنير في الحاشية: حَمَل أبو سعيد فعل النّبيِّ ﷺ في ذلك على التّعيين، وحمله مروان على الأولويّة، واعتذر عن ترك الأَولى بما ذكره من تغيُّر حال النّاس، فرأى أنّ المحافظة على أصل السُّنّة وهو إسماع الخطبة أَولى من المحافظة على هيئة فيها ليست من شرطها واللّه أعلم. واستُدلَّ به على استحباب الخروج إلى الصّحراء لصلاة العيد، وأنّ ذلك أفضل من صلاتها في المسجد؛ لمواظبة النّبيِّ ﷺ على ذلك مع فضل مسجده. وقال الشّافعيُّ في "الأمّ": بَلَغنا أنّ رسول اللّه ﷺ كان يخرج في العيدين إلى المصلَّى بالمدينة، وكذا مَن بعدَه إلّا من عُذر مطر ونحوه، وكذلك عامَّة أهل البُلدان إلّا أهلَ مكّة، ثمّ أشار إلى أنّ سبب ذلك سَعَة المسجد وضِيق أطراف مكّة. قال: فلو عُمِّر بلد فكان مسجد أهله يَسعَهم في الأعياد، لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يَسَعهم كُرِهت الصّلاة فيه، ولا إعادة، ومقتضى هذا أنّ العلَّة تدور على الضِّيق والسَّعة، لا لذات الخروج إلى الصّحراء؛ لأنّ المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته، كان أَولى"[4].

قال ابن الجَوزيِّ رحمه الله: "وحدُّ الاستطاعة في الإنكار: ألَّا يخاف المنكِر سوطًا ولا عصًا، فحينئذٍ يجب عليه التغيير باليد، فإن خاف السَّوطَ في تغييره باليد ولم يخَفْه في النُّطق، انتقل الوجوب إلى الإنكار باللسان"[5].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: ولا يُشتَرط في الآمر والناهي أن يكون كاملَ الحال، ممتثلًا ما يَأمُر به، مجتنبًا ما ينهى عنه؛ بل عليه الأمر وإن كان مخلًّا بما يأمر به، والنّهيُ وإن كان متلبِّسًا بما ينهى عنه؛ فإنّه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخلَّ بأحدهما، كيف يُباح له الإخلال بالآخر؟!"[6].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: ولا يختصُّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بأصحاب الولايات؛ بل ذلك جائز لآحاد المسلمين؛ قال إمام الحرمين: والدّليل عليه إجماع المسلمين؛ فإنّ غير الولاة في الصّدر الأوّل والعصر الّذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكَر، مع تقرير المسلمين إيّاهم، وترك توبيخهم على التّشاغل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من غير ولاية واللّه أعلم، ثمّ إنّه إنّما يأمر وينهى من كان عالِمًا بما يأمر به، وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشّيء، فإن كان من الواجبات الظّاهرة والمحرَّمات المشهورة؛ كالصّلاة والصّيام والزّنا والخمر ونحوها، فكلُّ المسلمين علماءُ بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وممّا يتعلَّق بالاجتهاد، لم يكن للعوامِّ مدخل فيه، ولا لهم إنكاره؛ بل ذلك للعلماء، ثمّ العلماء إنّما يُنكرون ما أُجمع عليه، أمّا المختلَف فيه، فلا إنكار فيه"[7].

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا صفة النّهي ومراتبه، فقد قال النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث الصّحيح: «فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه»، فقوله: «فبقلبه»؛ معناه: فليَكرَهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر؛ ولكنّه هو الّذي في وُسعه، وقوله ﷺ: «وذلك أضعف الإيمان»؛ معناه - واللّه أعلم -: أقلُّه ثمرةً، قال القاضي عياض رحمه اللّه: هذا الحديث أصل في صفة التّغيير، فحقُّ المغيِّر أن يغيِّره بكلّ وجه أمكنه زواله به قولًا كان أو فعلًا"[8].

قال ابن القيم رحمه الله: "فإنكار المنكَر أربع درجات؛ الأولى: أن يَزُول ويَخلُفه ضِدُّه، الثّانية: أن يَقِلَّ وإن لم يَزُلْ بجُملته، الثّالثة: أن يَخلُفه ما هو مِثْلُه، الرّابعة: أن يَخلُفه ما هو شرٌّ منه؛ فالدّرجتان الأُولَيَانِ مشروعتان، والثّالثة موضع اجتهاد، والرّابعة محرَّمة[9].

قال ابن القيم رحمه الله: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - قدَّس اللّه روحه ونوَّر ضريحه - يقول: مررتُ أنا وبعض أصحابي في زمن التّتار بقوم منهم يشربون الخَمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلتُ له: إنّما حرَّم اللّه الخمر لأنّها تصدُّ عن ذكر اللّه وعن الصّلاة، وهؤلاء يصدُّهم الخمر عن قتل النّفوس وسَبْيِ الذُّرِّيّة وأخذ الأموال؛ فدعهم"[10].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 450).
  2. شرح الأربعين النووية" لابن دقيقِ العيد (ص: 112).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
  4. فتح الباري" لابن حجر (2/ 450).
  5. كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجَوزي (3/ 174).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
  7. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 23).
  8. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 25).
  9. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (3/ 12).
  10. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (3/ 13).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هريرة عن رَسُول اللهِ أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ»؛ أي: أُقسم بالله تعالى، «لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ» المراد بالأمَّة هنا: أمَّةُ الدعوة، وتشمل كلَّ مَن سَمِع بدعوة النبيِّ ﷺ وتبيَّن له مُعجزته من العالَمين منذ أن بُعِث إلى أن تقوم الساعة، «يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ»: خصَّهما بالذِّكر تنبيهًا على من سواهما، فإذا كان هذا شأنَهم مع أن لهم كتابًا، فغيرُهم ممن لا كتابَ له أَوْلى. «ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»؛ أي: ثم يموت دون أن يؤمن بالإسلام إلَّا كان كافرًا مخلَّدًا في النار. 

الشرح التفصيليُّ[1]

في هذا الحديث الشريف يُقسم الرسول ﷺ بالله تعالى، والقَسَم في اللغة العربية لا يكون إلا على أمر عظيم، يريد الْمُقسِم تأكيده، وتثبيته في النفوس، والْمُقْسَم عليه هنا – فعلًا - أمرٌ عظيم يستحقُّ أن يُقسَم عليه؛ فهو أمرٌ عَقَديٌّ، يرتبط به مَصير الإنسان في الآخرة، هل سيكون من أهل الجنة أو من أهل النار؟ ومُجمَل الْمُقسَم عليه أنه ما من أحد أتى بعد بعثة رسول الله ﷺ وسمع بدعوته وبما أُنزل به، ثم اختار ألَّا يؤمن به، إلَّا كان مصيرُه النارَ، والعياذ بالله، ولن يشفع له ما هو عليه من عقيدة غير عقيدة الإسلام، وهذا مصداق

قول الله تعالى:

 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ

ﱠ [آل عمران: 19]


وقوله تعالى:

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَﱠ

[آل عمران: 85].

     وقد حدَّد النبيُّ ﷺ فئتين من الأمَّة التي يقصدها، وهما اليهود والنصارى؛ أي: أهل الديانات السماوية السابقة المحرَّفة؛ لأن أهل هاتين الديانتين قامت عليهما الحُجَّة من دينهما؛ فاليهوديُّ الحقُّ والمسيحيُّ الحقُّ الذي يؤمن بكتابه وبنبيِّه تمام الإيمان، لا بدَّ أن يدفعه إيمانه - إن كان صادقًا - للإيمان بالنبيِّ محمدٍ ﷺ؛ لأن دينهم يبشِّر بالرسول؛ قال تعالى على لسان نبيِّ الله عيسى:

وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ

[الصف: 6].

والدليلُ على أنه حجَّة على كلِّ من بَلَغه الدعوة

قولُه تعالى:

 وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

[الأنعام: 19].

    وليس أمرُ التصديق بالدعوة مقتصرًا على هذين الصِّنفين: اليهودِ والنصارى؛ ولكنه يَشمَل غيرهم ممن ليس من أهل دين سماويٍّ، فهذا من باب أَوْلى، والدليل من القرآن على شمولية دعوة الرسول للناس كافَّةً

قوله تعالى:

 وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

[سبأ: 28].

ولم يحدِّد الرسول ﷺ البَشَر فقط؛ بل لفظ "كل" شاملٌ للبشر والجنِّ، فهم أيضًا مكلَّفون مثلُ البَشَر، والحُجَّة قائمة عليهم أيضًا. 

ومن لم تبلغه الدعوة، ولا سَمِع بها، فهو معذور أمام الله تعالى؛

لقوله تعالى: 

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

[الإسراء: 15]

 وأيضًا يَشمَل العُذْرُ مَن سَمِع بالدعوة؛ ولكنه لم يستطع فَهْمَها بسبب حاجز العُجمة، أو حاجز عيوب الحَواسِّ والإدراك، أو أن تكون وَصَلَتْه مشوَّهةً مطموسةَ الْمَعالم محرَّفة مبدَّلة غيرَ واضحة. وهذا لا ينفي بذلُ الجهد للتعرُّف على الإسلام، وتبيُّن الدين الحقِّ من الدين المحرَّف؛ فالعقيدةُ أهمُّ شيء في حياة الإنسان، وأَوْلى ما يَبحَث عن حقيقته.

فكلُّ من كان في أقاصي الجنوب والشمال، والمشرق وجزائر البحور، والمغرب وأغفال الأرض، من أهل الشرك، فسَمِع بذكره ﷺ ففَرْضٌ عليه البحثُ عن حاله وأعلامه والإيمان به، أما مَن لم يَبلُغه ذِكْرُه ﷺ فإن كان موحِّدًا فهو مؤمِن على الفِطرة الأولى، صحيح الإيمان، لا عذابَ عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنَّة، وإن كان غيرَ موحِّد، فهو من الذين جاء النصُّ بأنه يوقَد له يومَ القيامة نارٌ فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دَخَلها، نجا، ومن أبى هَلَك؛

قال الله تعالى:

 مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

[الإسراء: 15].

فصحَّ أنه لا عذاب على كافر أصلًا حتى يَبلُغه نذارة الرسول، وأما من بَلَغه ذِكره ﷺ وما جاء به ثم لا يَجِد في بلاده من يُخبِره عنه، ففَرْضٌ عليه الخروجُ عنها إلى بلاد يَستبرئ فيها الحقائق.

المراجع

  1. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم"، و"الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" للسيوطيِّ، و"فتح المنعم شرح صحيح مسلم".


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "في الحديث نسخُ الْمِلَل كلّها برسالة نبيِّنا ﷺ، وفي مفهومه دلالةٌ على أنّ من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهذا جارٍ على ما تقدّم في الأصول أنّه لا حكم قبل ورود الشّرع على الصّحيح واللّه أعلم"[1].

قال القاضي عياض رحمه الله: "فيه دليلٌ على أن من في أطراف الأرض، وجزائر البحر المقطَّعة ممَّن لم تَبلُغه دعوة الإسلام، ولا أمرُ النبيِّ أن الحرج عنه في عَدَم الإيمان به ساقطٌ؛ لقوله: «لا يسمع بي»؛ إذ طريق معرفته والإيمان به ﷺ مشاهدة مُعجِزته وصِدقه أيَّامَ حياته، أو صحَّة النقل بذلك والخبر لمن لم يُشاهده وجاء بعده، بخلاف الإيمان بالله وتوحيده الذي يوصَل إليه بمجرَّد النظر الصحيح، ودليل العقل السليم"[2].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «من هذه الأمة» صفة «أحد»، و«يهوديٌّ» إما بيانٌ، أو بَدَلٌ من «أحد»، و(من) في «هذه الأمة» إما للبيان، أو للتبعيض، وعلى التقديرين هو مرفوعُ المحلِّ، فعلى أن يكون للتبعيض معناه: لا يسمع بي أحدٌ وهو بعض الأمَّة يهوديٌّ، والإشارة بهذه إلى ما في الذِّهن، والأمَّة بيانٌ له، والأمَّة حينئذ أمَّة الدعوة، وعلى أن يكون للبيان، ولفظة (هذه) يكون إشارة إلى أمَّة اليهود والنصارى خاصَّةً، جرَّد من الأمَّة اليهود والنصارى"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»؛ أي: من هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلُّهم يجب عليهم الدّخول في طاعته، وإنّما ذكر اليهوديَّ والنّصرانيَّ تنبيهًا على من سواهما؛ وذلك لأنّ اليهود النصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنَهم مع أنّ لهم كتابًا، فغيرهم ممّن لا كتاب له أولى، واللّه أعلم"[4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال الشارحون: الأمَّة جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك، فإنه مُجمَل يُطلَق تارةً ويُراد بها كلُّ من كان هو مبعوثا إليهم، آمن به أو لم يؤمن، ويُسمَّوْنَ أمَّة الدعوة، وتُطلَق أخرى، ويراد بها المؤمنون به المذعِنون له، وهم أمَّة الإجابة، وهي ههنا بمعنى الأول؛ بدليل قوله: «ولم يؤمن بي»، واللام فيها للاستغراق أو الجنس أو العهد، والمراد بها أهل الكتاب، ويُعضِّد الأخير تَوَصُّفُ الأحد باليهوديِّ والنصرانيِّ. وفي تخصيص ذكر اليهوديِّ والنصرانيِّ، وأنهما من أهل الكتاب، إشعارٌ بأن حال المعطِّلة وعبدة الأوثان وأضرابهم آكد، وهم أولى بالصلى. وتلخيص المعنى: أن كلَّ واحد من هذه الأمَّة إذا يَسمَع بي ويتبيَّن له مُعجزتي ثم لا يؤمن برسالتي، ولم يصدِّق في مقالتي، كان من أصحاب النار، سواءٌ الموجودُ ومن سيُوجد"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "المذهب الثامن: أنهم يُمتحَنون في عَرَصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، وإلى كلِّ مَن لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وبهذا يتألَّف شمل الأدلَّة كلِّها، وتتوافق الأحاديث... وقد جاءت بذلك آثارٌ كثيرة يؤيِّد بعضُها بعضًا"[6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وظاهر الحديث أن مجرَّد السماع تقوم به الحُجَّة؛ لأنه قال «لا يَسْمَعُ بِي»؛ ولكن قيِّد هذا الإطلاق بسماع يبيَّن به الأمر

لقوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ

لماذا؟

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ

[إبراهيم: 4]

 فلابدَّ أن يَحصُل البلاغ الذي تقوم به الحُجَّة... وأما الذين في أوربا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلَّا مشوَّهًا، فهل يُعذَّبون؟ فنقول في هؤلاء: هم الآن يَدِينون بالكُفر، ويَرَون أنهم طَرَفُ نَقيضٍ مع الإسلام، فنحن نَحكُم عليهم بأنهم كفَّار في الظاهر، فإذا لم تَبلُغهم الدعوة على وجهٍ تَقوم به الحُجَّة، فأمرهم إلى الله يوم القيامة؛ لكن نحن نعاملهم الآن بما تقتضيه حالهم؛ لأنهم كفَّار"[7]. 

قال ابن القيم رحمه الله: "والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحُكمه وعَدله، ولا يعذِّب إلَّا من قامت عليه حُجَّته بالرُّسل، فهذا مقطوع به في جُملة الخلق. وأما كَوْنُ زَيْدٍ بعَينه وعَمْرٍو بعَينه قامت عليه الحُجَّة أم لا، فذلك مما لا يمكِن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كلَّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحُجَّة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيينُ موكولٌ إلى علم الله عزَّ وجلَّ، وحكمُه هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا، فهي جارية مع ظاهر الأمر؛ فأطفال الكفَّار ومجانينهم كفَّار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة"[8].

قال ابن حزم رحمه الله: "فإنما أوجب النبيُّ ﷺ الإيمان به على من سَمِع بأمره ﷺ؛ فكلُّ من كان في أقاصي الجنوب والشمال، والمشرق وجزائر البحور، والمغرب وأغفال الأرض، من أهل الشرك، فسَمِع بذكره ﷺ ففَرْضٌ عليه البحثُ عن حاله وأعلامه والإيمان به، أما مَن لم يَبلُغه ذِكْرُه ﷺ فإن كان موحِّدًا فهو مؤمِن على الفِطرة الأولى، صحيح الإيمان، لا عذابَ عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنَّة، وإن كان غيرَ موحِّد، فهو من الذين جاء النصُّ بأنه يوقَد له يومَ القيامة نارٌ فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دَخَلها، نجا، ومن أبى هَلَك

قال الله عزَّ وجلَّ:

مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

 [الإسراء: 15]

فصحَّ أنه لا عذاب على كافر أصلًا حتى يَبلُغه نِذارة الرسول ﷺ، وأما من بَلَغه ذِكر النبيِّ محمدٍ ﷺ وما جاء به ثم لا يَجِد في بلاده من يُخبِره عنه، ففَرْضٌ عليه الخروجُ عنها إلى بلاد يَستبرئ فيها الحقائق"[9].

قال ابن تيميَّة رحمه الله: "وأولئك البقايا الّذين كانوا متمسِّكين بدين المسيح قبل مبعث محمّد ﷺ كانوا على دين اللّه - عزّ وجلّ - وأمّا من حين بُعث محمّد ﷺ فمن لم يؤمن به، فهو من أهل النّار؛ كما قال في الحديث الصّحيح: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[10].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 468).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 448).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 449).
  6. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 587، 588).
  7. "التعليق على مسلم" لابن عثيمين (1/490-491).
  8. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 413).
  9. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (5/ 117، 118).
  10. "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية (2/ 90).


غريب الحديث

سُدَّةُ الْمَسْجِد: هي الظِّلال والسقائف التي حَوْلَه[1].

اسْتَكَان: استفعل من السُّكُون، يُقَال: استكان واستكن وتمسكن إِذا خضع[2].

المراجع

  1. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 211).
  2. "تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم" للحَمِيديِّ (ص: 253).
المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أنسٌ: (بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟): يَحكِي أنس ﷺ أنه بينما كان يَخرُج من المسجد النبويِّ مع النبيِّ ﷺ، قابَلَهما رجل أمام المسجد، فسأل النبيَّ ﷺ: متى تقوم الساعة؟

فسأله النبيُّ : «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»؛ أي: فأجابه النَّبِيُّ ﷺ بسؤاله: ماذا أعددتَ من الأعمال الصالحة ليوم القيامة؟

(فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ)؛ أي: خَضَع وسَكَن احتقارًا لعمله، وذلك بعد تفكُّره في سؤال النبيِّ ﷺ له، (ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)؛ أي: إني لم أُكثِر من نوافل الصلاة والصيام والصدقة - بعد أداء الفرائض - إلا أني أحبُّ الله تعالى، وأحبُّ رسوله ﷺ.

فقال له النبيُّ : «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»؛ أي: بشَّره النبيُّ ﷺ بأنه سيكون مع من يحبُّ يوم القيامة؛ أي: سيكون مع النبيِّ ﷺ في الجنة.

الشرح المفصَّل للحديث

     من أعظم النِّعَم التي ينالها العبد، ويَشْرُف بها: محبَّةُ الله تعالى، ومحبَّة رسوله ، فينال بذلك خيرَيِ الدنيا والآخرة، فمحبَّةُ الله ورسوله نِعمةٌ لا تُعادلها نعمةٌ، وشرفٌ لا يُدانيه شرفٌ، يَصِل بها العبد الصالح إلى أعالي الجنان، وصحبة النبيِّين والأخيار، وقد أوجبها الله على المؤمنين، وجعل مرتبتها فوق كلِّ محبوب في الدنيا

قال تعالى: 

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ 

[التوبة: 24]

 وبيَّن أن التوحيد الخالص لا يكون إلا بإفراد المحبَّة لله

قال تعالى:  

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ

[البقرة: 165]

 ومن لوازم حبِّ الله محبَّةُ رسوله ؛ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»[1].

وفي هذا الحديث يروي أنسُ بنُ مالكٍ  رضى الله عنه يقول: (بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ): النبويِّ (فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ)؛ أي: فقابلهما رجل أمام المسجد، والسُّدَّة: هي الظلال والسقائف التي حول المسجد، وذلك الرجل من الأعراب، و"هو ذو الخُوَيْصِرة اليمانيُّ الذي بال في المسجد"[2].

فسأل الرجل النبيَّ : (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟)؛ أي: فسأله عن وقت قيام الساعة.

فأجابه بسؤال: (قَالَ النَّبِيُّ : مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟)؛ أيْ: أيُّ شيءٍ هيَّأتَه للساعة؟ فأجابه النبيُّ بجواب لم يكن يتوقَّعه، فقال له: ما هي الأعمال الصالحة التي أَعددتَها، وتقرَّبتَ بها إلى الله - عزَّ وجلَّ - لتلقى جزاءها يوم القيامة؟ طالما أنك تسأل عن موعدها، فـ"سلك النبيُّ مع السائل أسلوب الحكيم، وهو تلقِّي السائل بغير ما يَطْلُب مما يُهِمُّه، أو هو أهمُّ"[3]، وفي سؤال النبيِّ له صَرْفٌ إلى ما يَجِب أن يُنتَبه له؛ فليس مطلوبًا منه أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز له بالطاعات والقُربات.

قال أنس: (فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ)؛ أي: خَضَع وسَكَن احتقارًا لعمله، وذلك بعد تفكُّره في سؤال النبيِّ له، (ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ؛ وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يعني: يا رسول الله، لم أُكثِر من نوافل الصلاة والصيام والصدقة، وذلك بعد أداء الفرائض؛ إلا أني أحبُّ الله تعالى، وأحبُّ رسوله ، "يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصيام، والصدقة؛ لأن الفرائض لا بدَّ له ولغيره من فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأتِ منها بالكثير الذي يُعتمَد عليه، ويُرجى دخولُ الجنَّة بسببه، هذا ظاهرُه، ويَحْتَمِل أن يكون أراد: أن الذي فَعَله من تلك الأمور، وإن كان كثيرًا، فإنه محتقَر بالنسبة إلى ما عنده من محبَّة الله تعالى، ورسوله ، فإنه ظهر له أن محبَّة الله تعالى ورسوله أفضلُ الأعمال، وأعظمُ القُرَب، فجعلها عُمْدتَه، واتَّخَذها عُدَّته"[4]، ومحبَّةُ الله تعالى ورسوله إنما تكون باتِّباع أوامرهما، واجتناب نواهيهما، وتعظيمهما، وتوقيرهما، والوقوفِ عند حدودهما، ومحبَّتُهما كذلك يجب أن تكون مقدَّمةً على حبِّ الإنسان لأهله وماله وولدِه، وتلك علامةُ الإيمان؛ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»[5]، فـ"محبَّة النبيِّ من أصول الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - وقد قَرَنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طَبْعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ

 [التوبة: 24]

 فيجب تقديم محبَّة الرسول على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبُّه الإنسان غاية المحبَّة، وإنما تتمُّ المحبَّة بالطاعة

كما قال تعالى:

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

[آل عمران: 31][6]

 فلا يقدِّم العبدُ شيئًا على أمرهما

قال تعالى:

 أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ 

[الحجرات: 1]

وقد يحبُّ الإنسان رسوله أكثرَ من أهله وماله وولده والناس أجمعين؛ إلا أنه يقدِّم حبَّ نفسه على حبِّ نبيِّه كما فعل عمرُ بنُ الخطَّاب رضى الله عنه، فيأتي جوابُ النبيِّ لعمر رضى الله عنه مصحِّحًا له فَهْمَه، كما في حديث عَبْد اللَّهِ بْن هِشَامٍ رضى الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : «لا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : «الآنَ يَا عُمَرُ»[7]؛ أي: لا يَكتمِل إيمانُكَ يا عمرُ حتى أكون أحبَّ إليك من كلِّ شيء، حتى من نفسك التي بين جَنْبَيْكَ، فتفكَّر عمرُ رضى الله عنه مَليًّا، ثم عاد فأخبر النبيَّ بأنه أحبُّ إليه من كلِّ شيء، حتى من نفسِه، فقال له النبيُّ : الآن يا عمرُ؛ أي: كَمُل إيمانُكَ الآن، فـ"حبُّ الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسُّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حبَّ الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلب الطِّباع وتغييرها عمَّا جُبِلت عليه، قلت: فعلى هذا، فجَوَابُ عمرَ أوَّلاً كان بحَسبِ الطَّبع، ثم تأمَّل فعَرَف بالاستدلال أن النبيَّ أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نَجَاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حَصَل الجواب بقوله: الآن يا عمرُ؛ أي: الآنَ عرَفْتَ فنطقتَ بما يَجِبُ"[8]، فعَوْدةُ عمرَ رضى الله عنه بعد ما فَهِم المراد من قول النبيِّ ، فـ"هو يَحتمِل احتمالين؛ أحدهما: أنه فَهِم أوَّلاً أن المراد به الحبُّ الطبيعيُّ، ثم عَلِم أن المراد الحبُّ الإيمانيُّ والعقليُّ، فأظهر بما أَضمَر، وثانيهما: أنه أَوصَله الله تعالى إلى مَقَامِ الأتمِّ ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطَبَع في قلبه حبَّه حتى صار كأنه حياتُه ولُبُّه؛ ولهذا قيل: فهذه المحبَّة منه ليست اعتقادَ الأعظمية فحسبُ؛ لأنها كانت حاصلةً لعمرَ قبل ذلك قطعًا؛ بل أمر يترتَّب على ذلك، به يفنى المتحلِّي به عن حظِّ نفسه، وتصير خاليةً عن غير محبوبِه"[9]، وهذا نَظيرُ قولِ ثُمَامَةَ بْنِ أُثَالٍ رضى الله عنه في حديث أبي هريرة رضى الله عنه: «وَاللَّهِ، مَا كَانَ عَلَى الأرضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الوُجُوهِ إِلَيَّ»[10].

ردَّ عليه (قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»)؛ أي: فقال له النبيُّ : إن كنتَ صادقًا في حبِّك لله تعالى ولرسوله، فأنت مع من أحببتَ؛ أي: مُلحَق بهم، حتى تكون معهم، وفي زُمرتهم؛ فمحبَّة العبد للصالحين تُلحِقه بهم، وإن لم يَعمَل بعملهم. لذا؛ قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ»[11]، وعَنْ عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رضى الله عنه، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»[12]، وبذلك تَحصُل الْمَعيَّة وإن تفاوتت الدرجات في الجنة

قال تعالى:

وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا 

[النساء: 69]

فـ"إن المعيَّة تَحصُل بمجرَّد الاجتماع في شيء ما، ولا تَلزَم في جميع الأشياء؛ فإذا اتَّفَق أن الجميع دخلوا الجنَّة، صَدَقت المعيَّة، وإن تفاوتت الدرجات"()، وقد فَرِح المسلمون بهذا الحديث فَرَحًا شديدًا؛ فهو بشارة عظيمة لهم؛ قَالَ أَنَسٌ رضى الله عنه: «فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِشَيْءٍ مَا فَرِحُوا بِهِ»[13].

ومن علامات محبَّة الله تعالى ما يلي:

  • محبَّة الله سبحانه وتعالى دون غيره، وتقديمها على كلِّ محبوب

    قال تعالى:

    قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ

    [التوبة: 24].

  • طاعة الرسول ، وتقديم محبَّته على من سواه

    قال تعالى:

    لْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

    [آل عمران: 31].

  • التقرُّب إلى الله تعالى بالعبادات والطاعات من فرائضَ ونوافلَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»[14].

  • محبَّة القرآن، وكثرة تلاوته، وتدبُّر معانيه؛ قال عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: "من كان يحبُّ أن يَعلَم أنه يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ - فليَعرِضْ نفسه على القرآن، فمن أحبَّ القرآن، فهو يحبُّ الله - عزَّ وجلَّ".

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (16)، ومسلم (43).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  3. "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (22/ 35).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (6/ 646).
  5. رواه البخاريُّ (15)، ومسلم (44).
  6. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 49).
  7. رواه البخاريُّ (6632).
  8. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 528).
  9. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 73).
  10. رواه البخاريُّ (4372)، ومسلم (1764).
  11. رواه البخاريُّ (3688)، ومسلم (2639).
  12. رواه البخاريُّ (6169)، ومسلم (2640).
  13. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  14. رواه أحمد (12032)، قال شعيب الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
النقول


قال الكرمانيُّ رحمه الله: "سلك النبيُّ مع السائل أسلوبَ الحكيم، وهو تلقِّي السائل بغير ما يَطْلُب مما يُهِمُّه، أو هو أهمُّ"[1].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "يعني بذلك: النوافل من الصلاة، والصيام، والصدقة؛ لأن الفرائض لا بدَّ له ولغيره من فعلها، فيكون معناه: أنه لم يأتِ منها بالكثير الذي يُعتمَد عليه، ويُرجى دخولُ الجنَّة بسببه، هذا ظاهرُه، ويَحْتَمِل أن يكون أراد: أن الذي فَعَله من تلك الأمور، وإن كان كثيرًا، فإنه محتقَر بالنسبة إلى ما عنده من محبَّة الله تعالى، ورسوله ، فإنه ظهر له أن محبَّة الله تعالى ورسوله أفضلُ الأعمال، وأعظمُ القُرَب، فجعلها عُمْدتَه، واتَّخَذها عُدَّته"[2].

قال ابن حجر رحمه الله: "إن المعيَّة تَحصُل بمجرَّد الاجتماع في شيء ما، ولا تَلزَم في جميع الأشياء؛ فإذا اتَّفَق أن الجميع دخلوا الجنَّة، صَدَقت المعيَّة، وإن تفاوتت الدرجات" [3].

قال ابن رجب رحمه الله: "محبَّة النبيِّ من أصول الإيمان، وهي مقارِنةٌ لمحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - وقد قَرَنها الله بها، وتوعَّد من قدَّم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طَبْعًا من الأقارب والأموال والأوطان وغير ذلك

فقال تعالى:

قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ 

[التوبة: 24]

 فيجب تقديم محبَّة الرسول على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال، والمساكن، وغير ذلك مما يُحبُّه الإنسان غاية المحبَّة، وإنما تتمُّ المحبَّة بالطاعة

كما قال تعالى:

 قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

[آل عمران: 31][4].


قال ابن حجر رحمه الله: "قال الخطَّابيُّ: حبُّ الإنسان نفسَه طَبْعٌ، وحبُّ غيره اختيارٌ بتوسُّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حبَّ الاختيار؛ إذ لا سبيلَ إلى قلب الطِّباع وتغييرها عمَّا جُبِلت عليه، قلت: فعلى هذا، فجَوَابُ عمرَ أوَّلاً كان بحَسْبِ الطَّبع، ثم تأمَّل فعَرَف بالاستدلال أن النبيَّ أحبُّ إليه من نفسه؛ لكونه السببَ في نَجَاتها من المهلِكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار؛ ولذلك حَصَل الجواب بقوله: الآن يا عمرُ؛ أي: الآنَ عرَفْتَ فنطقتَ بما يَجِبُ"[5].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "هو يَحتمِل احتمالين؛ أحدهما: أنه فَهِم أوَّلاً أن المراد به الحبُّ الطبيعيُّ، ثم عَلِم أن المراد الحبُّ الإيمانيُّ والعقليُّ، فأظهر بما أَضمَر، وثانيهما: أنه أَوصَله الله تعالى إلى مَقَامِ الأتمِّ ببركة توجيهه - عليه الصلاة والسلام - فطَبَع في قلبه حبَّه حتى صار كأنه حياتُه ولُبُّه؛ ولهذا قيل: فهذه المحبَّة منه ليست اعتقادَ الأعظمية فحسبُ؛ لأنها كانت حاصلةً لعمرَ قبل ذلك قطعًا؛ بل أمر يترتَّب على ذلك، به يفنى المتحلِّي به عن حظِّ نفسه، وتصير خاليةً عن غير محبوبِه"[6].

قال ابن كثير رحمه الله: هذه الآية حاكمةٌ على كلِّ من ادَّعى محبَّة الله، وليس هو على الطريقة المحمَّدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتَّبِع الشرع المحمديَّ، والدين النبويَّ في جميع أقواله وأحواله، كما ثبَت في الصحيح عن رسول الله أنه قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[7]؛ ولهذا قال: 

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ

أي: يَحصُل لكم فوقَ ما طلبتم من محبَّتكم إيَّاه، وهو محبَّته إيَّاكم، وهو أعظمُ من الأول؛ قال الحسن البصريُّ وغيره من السلف: زعم قوم أنهم يحبُّون الله، فابتلاهم الله بهذه الآية، ثم قال:وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: باتِّباعكم للرسول يَحصُل لكم هذا كلُّه ببركة سفارته"[8]. 

قال ابن حجر رحمه الله: " قال البيضاويُّ: المراد بالحبِّ هنا الحبُّ العقليُّ الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل السّليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النّفس؛ كالمريض يعافُ الدّواء بطبعه فيَنفِر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله، فإذا تأمَّل المرء أنّ الشّارع لا يأمر ولا ينهى إلّا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذُّ بذلك التذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقليُّ إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبَّر الشّارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنّها أظهر اللّذائذ المحسوسة" [9].

قال ابن القيم رحمه الله: " ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل:

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا"[10].

المراجع

  1. "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (22/ 35).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (6/ 646).
  3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 555).
  4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب (1/ 49).
  5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 528).
  6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 73).
  7. رواه مسلم (1718).
  8. "تفسير ابن كثير" (2/ 32).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 60، 61).
  10. "مدارج السالكين" (1/ 185).


غريب الحديث

ولا نَصِيفَه: النصيف: النِّصف؛ أي: ولا نصفَ مُدِّ أحدهم.

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ» ينهى النبيُّ عن سبِّ أصحابه - رضوان الله عليهم - ويُقسِم النبيُّ أنه لو أَنفَق أحدٌ غيرُهم مِثْلَ جبلِ أُحُد ذَهَبًا في سبيل الله تعالى، لم يُساوِ أَجْرَ إنفاق أحدِ صحابته مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ أي: إن القليلَ الذي أَنفَقه أحدُهم أكثرُ ثوابًا من الكثير الذي يُنفِقه غيرهم مهما عَظُم؛ بسبب فَضْلِهم، وسَبْقِهم، وعِظَم ما قدَّموه للإسلام صُحْبةَ النبيِّ .

إن أصحاب النبيِّ ﷺ أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أرقُّ الناس قلوبًا، وأَلْيَنُهم أفئدةً، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق

قال تعالى:

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ

[النمل: 59]

قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[1]، وقد قال ﷺ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي»[2].

"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[3]. 

وإن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أفضل أمَّة محمدٍ ﷺ، والأدلَّة على ذلك متكاثرة في الكتاب والسنَّة؛ فليس هناك أفضلُ ممَّن زكَّاهم الله تعالى، وعدَّلهم، وأثنى عليهم، ورَضِي عنهم، وقد أخبر ﷺ أنهم أمان لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[3].

"فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ، ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصُحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[5].

والصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[6]. وإن حبَّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضَهم آيةٌ على النِّفاق.

وفي هذا الحديثِ يقول النبيُّ ﷺ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»: والنَّصِيفُ هو النِّصْفُ. يَنهَى النبيُّ ﷺ عن سبِّ أصحابه - رضوان الله عليهم - ويُقسِم النبيُّ ﷺ أنه لو أَنفَق أحدٌ غيرُهم مِثْلَ جبلِ أُحُد ذَهَبًا في سبيل الله تعالى، لم يُساوِ أَجْرَ إنفاق أحدِ صحابته مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ أي: لو أنفق أحدُكم مثلَ جَبَل أُحدٍ ذَهبًا، ما بَلَغ ثوابُه في ذلك ثوابَ نَفَقة أَحَدِ أصحابي، مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ فالقليلُ الذي أَنفَقه أحدُ الصحابة أكثرُ ثوابًا من الكثير الذي يُنفِقه غيرهم. وسببُ ذلك أن إنفاقهم كان مع الحاجة إليه؛ لضِيق حالهم، ولأنه كان في نُصرته ﷺ وحمايته غالبًا، ومثلُ إنفاقهم في مَزيد الفضل وكثير الأجر باقي أعمالهم، من جهادٍ وغيره؛ لأنهم الرَّعيل الأول الذي شقَّ طريق الحقِّ والهداية والخير، فكان لهم فضلُ السَّبْقِ الذي لا يُدانيه فضلٌ، إلى جانب شرف صُحبتهم رسولَ الله ﷺ، وبَذْلِهم نفوسَهم وأرواحَهم رخيصةً؛ دفاعًا عن رسول الله ﷺ ونُصرةً لدينه.

"والمعنى أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[7].

"وهذا يقتضي تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها

وقد قال تعالى:

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ 

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسِهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

[الجمعة: ٤]

وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[8].

"واعْلم أنَّ سبَّ الصَّحابة - رضي اللّه عنهم – حرامٌ، من فواحِش المحرَّمات، سواءٌ من لابَسَ الفِتَن منهم وغيرُه؛ لأنّهم مجتهِدون في تلك الحروب، متأوِّلون. وسبُّ أحدِهم من المعاصي الكبائر، ومذهبُ الجمهور أنّه يُعزَّر ولا يُقتل، وقال بعض المالكية: يُقتَل"[9].

وقد "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[10]. 

فـ"أصحاب رسول الله ﷺ هم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعَوْه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة

فقال - عزَّ ذِكْره - في مُحكَم كتابه:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ

[البقرة: 143]

ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله - عزَّ ذِكْرُه - قولَه: وَسَطًا، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم

فقال:

 وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ

[النساء: 115].

ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[11]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[12]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[13]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ - عزَّ وجلَّ - رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[14].

لقد أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه

قال تعالى:

 لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

[التوبة: 88].

وقد اختار الله - عزَّ وجلَّ - الصحابة لصُحبة نبيِّه، اختارهم ليحملوا راية هذا الدين، ليَزْرَعوا بِذْرَته، ويحملوا لواءه؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّدٍ ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه"[15].

وقد أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم

قال تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ 

[الفتح: 29].

ولقد رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛ فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»[16].

وقد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة

قال تعالى:

 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[التوبة: ١٠٠].

وقد رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين

فقال تعالى:

 لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

[الحشر: 8 – 10].

قال عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: "من كان مُسْتنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خيرَ هذه الأمَّة، أَبَرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ﷺ، ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمَّد ﷺ كانوا على الهُدى المستقيم"[17].

وقال بعض القوم للحسن البصريِّ - رحمه الله -: أَخبِرْنا صفةَ أصحاب رسول الله ﷺ، فبكى، وقال: "ظَهَرت منهم علاماتُ الخَير في السِّيما والسَّمْتِ والهُدى والصِّدق، وخشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، ومَمشاهم بالتواضُع، ومَنطِقهم بالعمل، ومَطعَمِهم ومَشرَبِهم بالطِّيب من الرزق، وخُضوعهم بالطاعة لربِّهم تعالى، واستقادتهم للحقِّ فيما أحبُّوا وكَرِهوا، وإعطائهم الحقَّ من أنفسهم، ظَمِئت هَوَاجِرُهم، ونَحَلَت أجسامهم، واستخفُّوا بسُخْط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غَضَب، ولم يَحِيفوا في جَور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شَغَلوا الأَلْسُن بالذِّكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبَذَلوا أموالهم حين استقرَضَهم، ولم يَمنَعْهم خوفُهم من المخلوقين، حَسُنت أخلاقُهم، وهانت مُؤْنتهم، وكفاهم اليسيرُ من دنياهم إلى آخرتهم"[18].

وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[19].

المراجع

  1. "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
  2. رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
  3. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  4. رواه مسلم (2531).
  5. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  6. "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
  7. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  10. "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  11. رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
  12. رواه البخاريُّ (1739).
  13. رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
  14. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
  15. رواه أحمدُ (3600)، وحسَّنه الألبانيُّ في "تخريج الطحاوية" (ص:530).
  16. رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
  17. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/305-306).
  18. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 150).
  19. "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "قال أهل اللُّغة: النَّصِيف: النِّصْفُ، وفيه أربعُ لُغات: نِصْفٌ بكسر النّون، ونُصْف بضمِّها، ونَصْف بفتحها، ونَصِيف بزيادة الياء، حكاهنَّ القاضي عياض في المشارق عن الخطَّابيِّ، ومعناه: لو أنفق أحدُكم مثلَ أُحد ذهبًا، ما بَلَغ ثوابُه في ذلك ثوابَ نَفَقة أَحَدِ أصحابي، مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ"[1].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "والمعنى أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "العَرَبُ تسمِّي النِّصْفَ النَّصِيف، كما قالوا في العشر: عَشِير، وفي الخُمس: خَميس، وفي الثُّمن: ثمين، وفي التُّسع: تَسيع. قال أبو زيد والأصمعيُّ: قال أبو عبيد: واختلفوا في السُّبع والسُّدس والرُّبع، فمنهم من يقول: سُبع وسُدس ورَبيع، ومنهم من لا يقول ذلك، ولا أسمع أحدًا منهم يقول في الثُّلث شيئًا. قال القاضي: يقال: نِصْف ونُصْف ونَصْفٍ ونَصِيف، ومعناه: نَصِيفه؛ أي: نصف مدَّة المذكور في الصَّدَقة؛ أي: أجرُهم هم مُضاعَف لمكانهم من الصُّحبة؛ حتى لا يوازي إنفاق مثل أُحُد ذهبًا، صدقة اْحدهم بنصف مُدٍّ، وما بين هذا التقدير لا يُحصى. وهذا يقتضي ما قدَّمناه من قول جمهور الأمَّة من تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد؛ ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها"

وقد قال تعالى:

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ 

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

[الجمعة: ٤]

وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "واعْلم أنَّ سبَّ الصَّحابة - رضي اللّه عنهم – حرامٌ، من فواحِش المحرَّمات، سواءٌ من لابَسَ الفِتَن منهم وغيرُه؛ لأنّهم مجتهِدون في تلك الحروب، متأوِّلون. قال القاضي: وسبُّ أحدِهم من المعاصي الكبائر، ومذهبُنا ومذهبُ الجمهور أنّه يُعزَّر ولا يُقتل، وقال بعض المالكية: يُقتَل"[4].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[5]. 

قال الإمام أحمد رحمه الله: "فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[6].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرحمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[7]. 

قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله: "فأما أصحاب رسول الله ﷺ فهم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعوه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة؛ فقال عزَّ ذِكْره في مُحكَم كتابه:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ

[البقرة: 143]

ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطاً، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم؛ فقال:

 وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ

[النساء: 115].

ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[8]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[9]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[10]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ، عزَّ وجلَّ، رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[11].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  2. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  5. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  6. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  7. "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  8. رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
  9. رواه البخاريُّ (1739).
  10. رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
  11. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).