20 - مَنزِلَة الصحابةِ رضيَ اللهُ عنهم

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ».

عناصر الشرح

غريب الحديث

ولا نَصِيفَه: النصيف: النِّصف؛ أي: ولا نصفَ مُدِّ أحدهم.

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ» ينهى النبيُّ عن سبِّ أصحابه - رضوان الله عليهم - ويُقسِم النبيُّ أنه لو أَنفَق أحدٌ غيرُهم مِثْلَ جبلِ أُحُد ذَهَبًا في سبيل الله تعالى، لم يُساوِ أَجْرَ إنفاق أحدِ صحابته مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ أي: إن القليلَ الذي أَنفَقه أحدُهم أكثرُ ثوابًا من الكثير الذي يُنفِقه غيرهم مهما عَظُم؛ بسبب فَضْلِهم، وسَبْقِهم، وعِظَم ما قدَّموه للإسلام صُحْبةَ النبيِّ .

إن أصحاب النبيِّ ﷺ أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أرقُّ الناس قلوبًا، وأَلْيَنُهم أفئدةً، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق

قال تعالى:

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ

[النمل: 59]

قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[1]، وقد قال ﷺ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي»[2].

"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[3]. 

وإن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أفضل أمَّة محمدٍ ﷺ، والأدلَّة على ذلك متكاثرة في الكتاب والسنَّة؛ فليس هناك أفضلُ ممَّن زكَّاهم الله تعالى، وعدَّلهم، وأثنى عليهم، ورَضِي عنهم، وقد أخبر ﷺ أنهم أمان لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[3].

"فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ، ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصُحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[5].

والصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[6]. وإن حبَّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضَهم آيةٌ على النِّفاق.

وفي هذا الحديثِ يقول النبيُّ ﷺ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»: والنَّصِيفُ هو النِّصْفُ. يَنهَى النبيُّ ﷺ عن سبِّ أصحابه - رضوان الله عليهم - ويُقسِم النبيُّ ﷺ أنه لو أَنفَق أحدٌ غيرُهم مِثْلَ جبلِ أُحُد ذَهَبًا في سبيل الله تعالى، لم يُساوِ أَجْرَ إنفاق أحدِ صحابته مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ أي: لو أنفق أحدُكم مثلَ جَبَل أُحدٍ ذَهبًا، ما بَلَغ ثوابُه في ذلك ثوابَ نَفَقة أَحَدِ أصحابي، مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ؛ فالقليلُ الذي أَنفَقه أحدُ الصحابة أكثرُ ثوابًا من الكثير الذي يُنفِقه غيرهم. وسببُ ذلك أن إنفاقهم كان مع الحاجة إليه؛ لضِيق حالهم، ولأنه كان في نُصرته ﷺ وحمايته غالبًا، ومثلُ إنفاقهم في مَزيد الفضل وكثير الأجر باقي أعمالهم، من جهادٍ وغيره؛ لأنهم الرَّعيل الأول الذي شقَّ طريق الحقِّ والهداية والخير، فكان لهم فضلُ السَّبْقِ الذي لا يُدانيه فضلٌ، إلى جانب شرف صُحبتهم رسولَ الله ﷺ، وبَذْلِهم نفوسَهم وأرواحَهم رخيصةً؛ دفاعًا عن رسول الله ﷺ ونُصرةً لدينه.

"والمعنى أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[7].

"وهذا يقتضي تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها

وقد قال تعالى:

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ 

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسِهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

[الجمعة: ٤]

وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[8].

"واعْلم أنَّ سبَّ الصَّحابة - رضي اللّه عنهم – حرامٌ، من فواحِش المحرَّمات، سواءٌ من لابَسَ الفِتَن منهم وغيرُه؛ لأنّهم مجتهِدون في تلك الحروب، متأوِّلون. وسبُّ أحدِهم من المعاصي الكبائر، ومذهبُ الجمهور أنّه يُعزَّر ولا يُقتل، وقال بعض المالكية: يُقتَل"[9].

وقد "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[10]. 

فـ"أصحاب رسول الله ﷺ هم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعَوْه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة

فقال - عزَّ ذِكْره - في مُحكَم كتابه:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ

[البقرة: 143]

ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله - عزَّ ذِكْرُه - قولَه: وَسَطًا، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم

فقال:

 وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ

[النساء: 115].

ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[11]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[12]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[13]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ - عزَّ وجلَّ - رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[14].

لقد أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه

قال تعالى:

 لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

[التوبة: 88].

وقد اختار الله - عزَّ وجلَّ - الصحابة لصُحبة نبيِّه، اختارهم ليحملوا راية هذا الدين، ليَزْرَعوا بِذْرَته، ويحملوا لواءه؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّدٍ ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه"[15].

وقد أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم

قال تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ 

[الفتح: 29].

ولقد رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛ فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»[16].

وقد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة

قال تعالى:

 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[التوبة: ١٠٠].

وقد رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين

فقال تعالى:

 لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

[الحشر: 8 – 10].

قال عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: "من كان مُسْتنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خيرَ هذه الأمَّة، أَبَرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ﷺ، ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمَّد ﷺ كانوا على الهُدى المستقيم"[17].

وقال بعض القوم للحسن البصريِّ - رحمه الله -: أَخبِرْنا صفةَ أصحاب رسول الله ﷺ، فبكى، وقال: "ظَهَرت منهم علاماتُ الخَير في السِّيما والسَّمْتِ والهُدى والصِّدق، وخشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، ومَمشاهم بالتواضُع، ومَنطِقهم بالعمل، ومَطعَمِهم ومَشرَبِهم بالطِّيب من الرزق، وخُضوعهم بالطاعة لربِّهم تعالى، واستقادتهم للحقِّ فيما أحبُّوا وكَرِهوا، وإعطائهم الحقَّ من أنفسهم، ظَمِئت هَوَاجِرُهم، ونَحَلَت أجسامهم، واستخفُّوا بسُخْط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غَضَب، ولم يَحِيفوا في جَور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شَغَلوا الأَلْسُن بالذِّكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبَذَلوا أموالهم حين استقرَضَهم، ولم يَمنَعْهم خوفُهم من المخلوقين، حَسُنت أخلاقُهم، وهانت مُؤْنتهم، وكفاهم اليسيرُ من دنياهم إلى آخرتهم"[18].

وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[19].

المراجع

  1. "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
  2. رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
  3. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  4. رواه مسلم (2531).
  5. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  6. "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
  7. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
  8. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  10. "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  11. رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
  12. رواه البخاريُّ (1739).
  13. رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
  14. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
  15. رواه أحمدُ (3600)، وحسَّنه الألبانيُّ في "تخريج الطحاوية" (ص:530).
  16. رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
  17. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/305-306).
  18. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 150).
  19. "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "قال أهل اللُّغة: النَّصِيف: النِّصْفُ، وفيه أربعُ لُغات: نِصْفٌ بكسر النّون، ونُصْف بضمِّها، ونَصْف بفتحها، ونَصِيف بزيادة الياء، حكاهنَّ القاضي عياض في المشارق عن الخطَّابيِّ، ومعناه: لو أنفق أحدُكم مثلَ أُحد ذهبًا، ما بَلَغ ثوابُه في ذلك ثوابَ نَفَقة أَحَدِ أصحابي، مُدًّا ولا نِصْفَ مُدٍّ"[1].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "والمعنى أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "العَرَبُ تسمِّي النِّصْفَ النَّصِيف، كما قالوا في العشر: عَشِير، وفي الخُمس: خَميس، وفي الثُّمن: ثمين، وفي التُّسع: تَسيع. قال أبو زيد والأصمعيُّ: قال أبو عبيد: واختلفوا في السُّبع والسُّدس والرُّبع، فمنهم من يقول: سُبع وسُدس ورَبيع، ومنهم من لا يقول ذلك، ولا أسمع أحدًا منهم يقول في الثُّلث شيئًا. قال القاضي: يقال: نِصْف ونُصْف ونَصْفٍ ونَصِيف، ومعناه: نَصِيفه؛ أي: نصف مدَّة المذكور في الصَّدَقة؛ أي: أجرُهم هم مُضاعَف لمكانهم من الصُّحبة؛ حتى لا يوازي إنفاق مثل أُحُد ذهبًا، صدقة اْحدهم بنصف مُدٍّ، وما بين هذا التقدير لا يُحصى. وهذا يقتضي ما قدَّمناه من قول جمهور الأمَّة من تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد؛ ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها"

وقد قال تعالى:

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ 

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

[الجمعة: ٤]

وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "واعْلم أنَّ سبَّ الصَّحابة - رضي اللّه عنهم – حرامٌ، من فواحِش المحرَّمات، سواءٌ من لابَسَ الفِتَن منهم وغيرُه؛ لأنّهم مجتهِدون في تلك الحروب، متأوِّلون. قال القاضي: وسبُّ أحدِهم من المعاصي الكبائر، ومذهبُنا ومذهبُ الجمهور أنّه يُعزَّر ولا يُقتل، وقال بعض المالكية: يُقتَل"[4].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[5]. 

قال الإمام أحمد رحمه الله: "فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[6].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرحمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[7]. 

قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله: "فأما أصحاب رسول الله ﷺ فهم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعوه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة؛ فقال عزَّ ذِكْره في مُحكَم كتابه:

وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ

[البقرة: 143]

ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطاً، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم؛ فقال:

 وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ

[النساء: 115].

ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[8]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[9]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[10]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ، عزَّ وجلَّ، رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[11].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  2. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 93).
  5. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  6. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  7. "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  8. رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
  9. رواه البخاريُّ (1739).
  10. رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
  11. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).


مشاريع الأحاديث الكلية