عن الْمِقدامِ بنِ مَعْدِي كَرِبَ رضى الله عنه أن النبيَّ قال: «ألا هل عسى رجُلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَنِّي وهو مُتَّكِئٌ على أريكته، فيقول: بينَنا وبينَكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استَحْلَلناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه، وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله ﷺ كما حرَّمَ اللهُ». وفي لفظ أبي داودَ: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه».

عناصر الشرح

غريب الحديث

الأريكة: السرير، وقيل: هي كلُّ ما اتُّكئ عليه من سرير، أو فراش، أو مِنصَّة، ومِخدَّة، ونحوها[1].

المراجع

  1. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (13/ 154).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي الْمِقدامُ بنُ مَعْدِي كَرِبَ رضى الله عنه عن النبيِّ أنه قال: «ألا»: حرف للتنبيه على تحقُّق ما بعدها. «هل عسى رجُلٌ يَبْلُغُه الحديثُ عَنِّي وهو مُتَّكِئٌ على أريكته»؛ إشارةً إِلَى مَنْشَأ جَهْله، وغروره، وتكبُّره، وسوء أَدَبه، وقعوده عن طَلَب الْعِلْم، وَعَدَم اطِّلَاعه عَلَى السُّنَن. «فيقول: بينَنا وبينَكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استَحْلَلناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه»: وهذه مقالة المبتدِعة، يرُدُّون السُّنَّةَ، ويتعلَّقون بظواهر القرآن، فتَحيَّروا، وضَلُّوا. «وإنَّ ما حرَّمَ رسولُ الله كما حرَّمَ اللهُ» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، والمعنى أن أمره ونهيَه كأمر الله ونهيِه في القرآن؛ فكلاهما وحيٌ من الله تعالى.

قوله : «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»؛ أي: أُوتي القرآن، وأوتي معه السُّنة التي هي وحيٌ بالمعنى دون اللفظ.

الشرح المفصَّل للحديث

هذا الحديثُ قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الإسلام، وهي إثباتُ حُجِّيَّة السُّنَّة، وأن أقوالَ النبيِّ وأفعاله وتقريراتِه حُجَّةٌ بذاتها، وإن لم يكنْ لها أصلٌ في الكتاب.

قوله: «ألا» هي مؤلَّفةٌ من حَرفَيِ الاستفهام والنفي؛ لإعطاء التنبيه على تحقُّق ما بعدها؛ وذلك لأن الهمزة فيه للإنكار، فإذا دخلت على نفيٍ، أفادت تحقُّق الثبوت، ولكونها بهذه الْمَثابة؛ لا يَكاد يقَع ما بعدَها إلا ما كانت مُصَدَّرةً بما يُصَدَّرُ به جوابُ القَسَم[1].

وقوله: «مُتَّكئ على أريكته»، وفي بعض الروايات: «شبعانُ على أريكته» الأريكة: السرير، ويقال: إنه لا يسمَّى أريكةً حتى يكون في حَجَلة؛ أي: يكون سريرًا مزيَّنًا بالسُّتور والفُرُش[2]. وقيل: هي كلُّ ما اتُّكئ عليه من سرير، أو فراش، أو مِنصَّة، ومِخدَّة، ونحوها، ويترجَّح هذا هنا؛ فإنهم كانوا في غزوة خيبر، ولم تكن الحَجَلة موجودةً عليه[3].

والمراد من العبارة أصحابُ التَّرَف والغنى، الذين آثروا الدَّعةَ، وتركوا العلم وطلبه، ثم افتأتوا على الدين بآرائهم الجاهلة؛ كحال الخوارج وغيرهم الذين تعلَّقوا بظاهر القرآن، ورفضوا الاحتكام إلى سُنّة النبيِّ ، وربما كان المقصود التكبُّرَ والسَّلْطنة الذي يُعمي القلوب والبصائر، فيرغب أصحاب السلطان في تحريف الدين برغباتهم وميولهم[4].

وقوله: «فيقولُ: بيننا وبينكم كتابُ الله، فما وجدْنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدْنا فيه حرامًا حرَّمناه» هذه مقالة المبتدِعة من الخوارج وغيرهم، فيرُدُّون السُّنَّةَ التي هي بيانُ القرآن، وتفصيلُ مُجمَلِه، وتَقْييد مُطلَقه، وتَفْريع أصوله، ويتعلَّقون بظواهر القرآن، فتَحيَّروا، وضَلُّوا، كما فعلت الرافضة والخوارج[5].

وردُّ الحديث على أنواع:

الأول: ردُّ الأحاديث مطلَقًا، وهذا المراد هنا، وهو كفرٌ صريحٌ، وتكذيبٌ لله تعالى

قال تعالى:

﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

  [النساء: 59]


وقال تعالى:

﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾  

 [النساء: 80]


وقال تعالى:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7].

فمَن ردَّ السُّنة فقد كَفَر.

الثاني: ردُّ الآحاد منها، وهذا فسوقٌ ومعصيةٌ وضلالٌ، إن لم يكن كُفرًا؛ فإن مَن أنكر خبر الواحد، فقد أنكر معظم الشريعة، ولم يعلم مقصدَها ولا اطَّلَع على بابها الذي يدخل منه إليها.

الثالث: ردُّ الحديث لمخالفة القرآن أو السُّنَّة الصحيحة، وهذا على أنواع؛ فإما أن يخالف عمومَه أو خصوصه، أو يكون التعارض بينها ظاهريًّا يمكِن الجمعُ بينهما، أو لا سبيلَ إلى الجمع، وهذا يفعله أهل العلم لا ردًّا للسُّنة؛ وإنما توفيقًا بين نصوصها[6].

قوله: «وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، وإنما أتى به بصيغة التجريد، ولم يقل: «وإن ما حرَّمتُ» لبيان أنَّ مَن هذه صفتُه من الرسالة ينبغي أن يكون أمرُه ونهيُه كأمر الله ونهيه في القرآن؛ فكلاهما من مورد واحد[7].

يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

لأن الله تعالى قال:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ ﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن كتحريم الله في القرآن[8].

وقوله: «ألا إني أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه»: أي: أُوتي الكتاب وهو القرآن، المنزَّل على النبيِّ المتعبَّد بتلاوته، المتواتِر، المنقول بنصِّه، وأوتي معه السُّنة التي هي بيان الكتاب، وتفسيره، وتشريع أحكامه وحدوده، وفيها الزيادة على ما في القرآن من التحليل والتحريم وسائر الأحكام، فهي وحيٌ بالمعنى؛ كما

قال الله عزَّ وجلَّ:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾  

[النجم: 3، 4][9].


وقد أشار بقوله هذا إلى ما آتاه الله من الفَهم في الكتاب، والهِمَّة من بيان الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في الْمَنام، أو نفَثَ في رُوعه روحُ القدس من الحِكَمِ والأمثال، فكلُّ ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله سوى القرآن، والقرآن من تلك الأقسام مخصوص بالرُّتبة العظمى والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلامُ الله، ووحيُه، وتنزيلُه، ثم إنه يمتاز عمَّا سِواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومسِّ المكتوب منه، وكلُّ ذلك في حقِّ العمل والحكم به سواء؛ لأن الكلَّ من عند الله، وقد نزَّه نُطْقَ نبيِّه عن الهوى، وأمر باتِّباعه فيما يأمُر ويَنهى[10].

وفي تكرير كلمة التنبيه «ألا» توبيخٌ وتقريعٌ نشأ من غضب عظيم على مَن ترك السُّنة والعمل بالحديث استغناءً بالكتاب[11].

وفي الحديث دليلٌ على أن الحديث الشريف إذا صحَّ لم يَحْتَجْ إلى العرض على الكتاب؛ بل متى ثبتَت صحَّة الحديث وعدم نسخه، كان حُجَّةً بنفْسه، وأما ما قاله بعضهم: "إذا جاءكم الحديث فاعرِضوه على كتاب الله، فإن وافقه فخذوه، وإن خالفه فدَعُوه"، فهو حديثٌ باطلٌ لا أصلَ له، وقد قال يحيى بن مَعين رحمه الله : هذا حديثٌ وضعته الزنادقةُ[12].

المراجع

  1. انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاوي (1/ 135)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 631).
  2. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 130).
  3. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (13/ 154).
  4. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 131)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 266).
  5. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 630).
  6. انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (10/ 131).
  7. انظر: "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 664).
  8. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  9. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
  10. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 86).
  11. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 631)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (7/ 356).
  12. انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 299)، "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 133).


النقول

قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرِض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

لأن الله تعالى قال:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن" [1].

قال التُّوربشتيُّ رحمه الله: "أشار بقوله هذا إلى ما آتاه الله من الفَهم في الكتاب، والهِمَّة من بيان الأحكام، وتفصيل الحلال والحرام، أو أراه في المنام، أو نفَثَ في رُوعه روحُ القدس من الحِكَمِ والأمثال، فكلُّ ذلك من أقسام الوحي الذي آتاه الله سوى القرآن، والقرآنُ من تلك الأقسام مخصوص بالرُّتبة العظمى والمنزلة الكبرى؛ لأنه كلامُ الله، ووحيُه، وتنزيلُه، ثم إنه يمتاز عمَّا سِواه من هذه الأقسام في أحكام التلاوة، ومسِّ المكتوب منه، وكلُّ ذلك في حقِّ العمل والحكم به سواء؛ لأن الكلَّ من عند الله، وقد نزَّه نُطْقَ نبيِّه عن الهوى، وأمر باتِّباعه فيما يأمُر ويَنهي"[2].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "قال الشيخ: قولُه: «أوتيتُ الكتابَ ومثلَه معه» يحتمل وجهين من التأويل: أحدُهما أن يكون معناه أنه أُوتِيَ من الوحيِ الباطن غيرِ المتلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر المتلوِّ، ويَحتمِل أن يكون معناه أنه أُوتي الكتابَ وَحْيًا يُتلى، وأُوتي من البيان؛ أي: أُذِن له أن يبيِّن ما في الكتاب، ويعمُّ ويخصُّ، وأن يَزيد عليه، فيشرِّع ما ليس له في الكتاب ذِكْرٌ، فيكون ذلك في وجوب الحُكم، ولزوم العمل به، كالظاهر المتلوِّ من القرآن. وقوله: «يوشك شبعانُ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن» فإنه يحذِّر بذلك مخالفة السُّنن التي سنَّها رسول الله مما ليس له في القرآن ذِكْرٌ، على ما ذهبت إليه الخوارج والروافض؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السُّنن التي قد ضُمِّنت بيان الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا، والأريكةُ السَّرير، ويقال: إنه لا يسمَّى أريكة حتى يكون في حَجَلة؛ وإنما أراد بهذه الصفة أصحاب الترُّفه والدَّعَة الذين لَزِموا البيوت، ولم يَطلُبوا العلم، ولم يَغْدُوا ولم يروحوا في طلبه في مظانِّه واقتباسه من أهله"[3].

قال السيوطيُّ رحمه الله: "قوله: «وإن ما حرَّم رسولُ الله كما حرَّم الله» يَحتمِل أن يكون من كلام الراوي، ويَحتمِل أن يكون من كلامه ، وإنما أتى به بصيغة التجريد، ولم يقل: «وإن ما حرَّمتُ» لبيان أنَّ مَن هذه صفتُه من الرسالة ينبغي أن يكون أمرُه ونهيُه كأمر الله ونهيِه في القرآن؛ فكلاهما من مورد واحد"[4].

قال ابن القيم رحمه الله: "والسُّنَّة مع القرآن على ثلاثة أوجه؛ أحدها: أن تكون موافقةً له من كلِّ وجه، فيكون توارد القرآن والسُّنّة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلَّة وتضافُرها. الثّاني: أن تكون بيانًا لما أُريد بالقرآن وتفسيرًا له. الثّالث: أن تكون موجِبةً لحُكم سكت القرآن عن إيجابه، أو محرِّمةً لما سكت عن تحريمه، ولا تَخرُج عن هذه الأقسام، فلا تُعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدَأ من النّبيِّ تجب طاعته فيه، ولا تَحِلُّ معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللّه؛ بل امتثال لما َأَمر اللّه به من طاعة رسوله، ولو كان رسول اللّه لا يُطاع في هذا القِسم، لم يكن لطاعته معنًى، وسَقَطت طاعته المختصَّة به، وإنّه إذا لم تَجِب طاعته إلّا فيما وافَقَ القرآن، لا فيما زاد عليه، لم يكن له طاعة خاصَّة تختصُّ به

وقد قال اللّه تعالى:

﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾  

 [النساء: 80]

 وكيف يمكِن لأحد من أهل العلم أن لا يَقبَل حديثًا زائدًا على كتاب اللّه؛ فلا يَقبَل حديث تحريم المرأة على عمَّتها ولا على خالتها، ولا حديثَ التّحريم بالرَّضاعة لكلِّ ما يَحرُم من النَّسَب، ولا حديثَ خيار الشَّرط، ولا أحاديث الشُّفعة، ولا حديث الرَّهْن في الحَضَر، مع أنّه زائد على ما في القرآن، ولا حديثَ ميراث الجَدَّة، ولا حديث تخيير الأمَةِ إذا أُعتِقت تحتَ زَوجها، ولا حديثَ منع الحائض من الصَّوم والصّلاة، ولا حديثَ وجوب الكفَّارة على من جامَع في نهار رمضانَ، ولا أحاديثَ إحداد المتوفَّى عنها زوجها، مع زيادتها على ما في القرآن من العِدَّة"[5].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «ألا إني أوتيتُ»: يَحتمِل هذا وجهين من التأويل: أحدهما: أنه أُوتي من الوحيِ الباطن غير الْمَتْلُوِّ مثلَ ما أُعطي من الظاهر، والثاني: أنه أُوتي الكتاب وحيًا، وأُوتي من التأويل مثلَه؛ أي: أُذِن له أن يبيِّن ما في الكتاب، فيعمِّم ويخصِّص، ويَزيد ويَنقص، فيكون ذلك في وجوب العمل به، ولزوم قبوله، كالظاهر المتلوِّ من القرآن. وقيل: «ومثله معه»؛ أي: أحكامًا ومواعظَ وأمثالاً تماثل القرآن في كونها وحيًا، أو كونها واجبةَ القَبول، وتنزَّه نُطق رسوله عن الهوى، وأُمر بمتابعته فيما يأمر وينهي، فقال عزَّ من قائل:

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ ﴾  

[النجم: 3]

وقال الله تعالى:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[الحشر: 7]

 أو يماثله في المقدار"[6].

قال المظهريُّ رحمه الله: "يعني: لا يجوز لأحد أن يتكبَّر ويُعرض عن أحاديثي، ولا يَقبَلها، ولا يعمل بها، فمَن لم يَقبَل قولي، فكأنه لم يَقبَل القرآن

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ

ء ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ۚ ﴾

[الحشر: 7]

 وقال:

﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[النساء: 59]

 فطاعة الرسول فرضٌ، ومن عصاه فقد عصى الله، وأن ما حرَّم رسول الله في غير القرآن، كتحريم الله في القرآن"[7].

قال المناويُّ رحمه الله: "«متَّكِئًا على أريكته»؛ أي: سريره أو فراشه أو مِنَصَّته، وكلِّ ما يُتَّكأ عليه فهو أريكة. قال القاضي: الأريكة الحَجَلة، وهي سرير يُزيَّن بالحُلَل والأثواب للعروس، جمعُها أرائك. وقال الراغب: سُمِّيت به؛ إما لكونها متَّخَذةً من الأراك، أو لكونها مكانًا للإقامة، وأصل الأراك الإقامة على رعي الأراك، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإقامات. قال البغويُّ: أراد بهذه الصفة أصحاب الترفُّه والدَّعَة الذين لَزِموا البيوت، وقعدوا عن طلب العلم. وقال المظهر: أراد بالوصف التكبُّر والسلطنة"[8].

قال السِّنديُّ رحمه الله: "قال الفاضل الطِّيبِيُّ: وفي هذا الحديث توبيخ وتقريع نشأ من تعظيمِ عظيم على ترك السُّنّة والعمل بالحديث استغناءً عنها بالكتاب، هذا مع الكتاب؛ فكيف بمن رجَّح الرّأيَ على الحديث، وإذا سَمِع حديثًا من الأحاديث الصّحيحة قال: لا عليَّ بأن أعمل بها؛ فإنّ لي مذهبًا أتَّبِعه"[9].

قال العظيم آبادي رحمه الله: "«على أريكته» بالإضافة إلى الضّمير؛ أي: على سَريره. أشار إلى منشأ جَهْلِه، وعدم اطِّلاعه على السُّنن، وردُّه هو قلِّة نَظَره، ودَوَام غفلته بتعهُّد الاتِّكاء والرُّقاد، كذا في فتح الودود. وقال القاري: على أريكته؛ أي: سريره المزيَّن بالحُلل والأثواب في قُبَّة أو بيت كما للعروس؛ يعني: الّذي لَزِم البيت وقعد عن طلب العلم. قيل: المراد بهذه الصِّفَة للتّرفُّه والدَّعَة كما هو عادة المتكبِّر المتجبِّر القليل الاهتمام بأمر الدّين"[10].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "«وعلى أريكته» متعلِّق بمحذوف في حيِّز الحال؛ أي متَّكِئًا أو جالسًا، وهو تأكيد وتقرير لحماقة القائل وبَطَره وسُوء أَدَبه. ذكره على ما ذهب إليه الخوارج والظواهر؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السنَّة التي ضمِّنت بيانَ الكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا. و«على أريكته» يجوز أن يكون صفة بعد صفة لرجل، فتكون الصفة الثانية تكميلاً للذمِّ؛ فإن الأُولى تدلُّ على الدَّعة والبَطَر، والثانية على التكبُّر والتجبُّر، ويجوز أن تكون حالاً من «رجل» لا تِّصافه بشبعانَ، فيكون تتميمًا ومبالغةً في بَطَرِه وأَشَرِه، وفيه تشنيع عظيم ونَهْيٌ فظيع على ذلك القائل[11].

قال ابن القيم رحمه الله: "أحكام السُّنّة الّتي ليست في القرآن، إن لم تكن أكثرَ منها، لم تَنقُص عنها؛ فلو ساغ لنا رَدُّ كلِّ سُنَّة زائدة كانت على نصِّ القرآن، لبَطَلت سُنن رسول اللّه كلُّها، إلّا سنّةً دلَّ عليها القرآن، وهذا هو الّذي أخبر النّبيُّ بأنّه سيقع، ولا بدَّ من وقوع خبره"[12].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أَجمَع المسلمون على أنّ من استبانت له سُنَّة رسول اللّه لم يكن له أن يَدَعها لقول أحد من النّاس"[13].

قال ابن حزم رحمه الله: "والبرهان على أنَّ المراد بهذا الردِّ إنما هو إلى القرآنِ، والخَبَرِ عن رسول الله ؛ لأنَّ الأُمَّة مُجمِعة على أنَّ هذا الخطاب متوجِّه إلينا، وإلى كلِّ مَنْ يُخلَق ويُركَّب روحُه في جسده إلى يوم القيامة من الجِنَّة والناس، كتوجُّهِه إلى مَنْ كان على عهد رسول الله ، وكلِّ مَنْ أتى بعده - عليه السلام - وقَبَلنا، ولا فَرْقَ"[14].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "والحاصل أنّ ثبوت حُجِّيّة السُّنَّة المطهَّرة واستقلالَها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيّة، ولا يخالف في ذلك إلّا من لا حظَّ له في دين الإسلام"[15].

  1. قال ابن تيمية رحمه الله: "وليُعلَم أنّه ليس أحدٌ من الأئمَّة المقبولين عند الأمَّة قَبولًا عامًّا يتعمَّد مخالفة رسول اللّه في شيء من سُنَّته؛ دقيقٍ ولا جَليلٍ؛ فإنّهم متَّفِقون اتِّفاقًا يقينيًّا على وجوب اتِّباع الرّسول، وعلى أنّ كلَّ أحد من النّاس يؤخذ من قوله ويُترك إلّا رسولَ اللّه ؛ ولكن إذا وُجِد لواحد منهم قولٌ قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بدَّ له من عُذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثةُ أصناف؛ أحدها: عدم اعتقاده أنّ النّبيَّ قاله. والثّاني: عدم اعتقاده إرادةَ تلك المسألة بذلك القول. والثّالث: اعتقاده أنّ ذلك الحكم منسوخ[16].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد كان السَّلَف يشتدُّ نَكِيرهم وغَضَبهم على من عارض حديث رسول اللّه برأيٍ أو قياس أو استحسان، أو قول أحد من النّاس، كائنًا من كان، ويَهجُرون فاعل ذلك، ويُنكرون على من يَضرِب له الأمثال، ولا يسوِّغون غير الانقياد له والتّسليم والتّلقِّي بالسّمع والطّاعة، ولا يَخطُر بقلوبهم التّوقُّف في قَبوله حتّى يَشهَد له عمل أو قياس، أو يوافق قولَ فُلان وفلان؛ بل كانوا عاملين بقوله:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ 

[الأحزاب: 36]"[17].


قال التوربشتيُّ رحمه الله: "إن أَشَرَ النعمة، وبَطَرَ الحشمة يَحمِل الإنسانَ على الخَوض فيما لا يَعلَمُه، والدفاع لِما لا يُريده، مُتسَتِّرًا في ذلك بتعظيم القرآن، وهذه شِنْشِنةٌ عُرفت في الإسلام قديمًا وحديثًا عن علماء السوء وولاة الجَوْر"[18].

المراجع

  1. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  2. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 86).
  3. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 298).
  4. انظر: "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطي (2/ 664).
  5. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 220).
  6. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 629).
  7. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (1/ 266).
  8. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 164).
  9. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 4).
  10. "عون المعبود شرح سنن أبي داود" للعظيم آبادي (8/ 302).
  11. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/630، 631).
  12. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 221).
  13. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 6).
  14. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (1/ 97).
  15. "إرشاد الفحول" للشوكانيِّ (1/ 97).
  16. "مجموع الفتاوى" (20/ 232).
  17. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 188).
  18. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 87).


مشاريع الأحاديث الكلية