18 - نَسخُ الرِّسالات بالرسول ﷺ

عن أبي هريرة أن رَسُول اللهِ قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ: إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هريرة عن رَسُول اللهِ أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ»؛ أي: أُقسم بالله تعالى، «لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ» المراد بالأمَّة هنا: أمَّةُ الدعوة، وتشمل كلَّ مَن سَمِع بدعوة النبيِّ ﷺ وتبيَّن له مُعجزته من العالَمين منذ أن بُعِث إلى أن تقوم الساعة، «يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ»: خصَّهما بالذِّكر تنبيهًا على من سواهما، فإذا كان هذا شأنَهم مع أن لهم كتابًا، فغيرُهم ممن لا كتابَ له أَوْلى. «ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»؛ أي: ثم يموت دون أن يؤمن بالإسلام إلَّا كان كافرًا مخلَّدًا في النار. 

الشرح التفصيليُّ[1]

في هذا الحديث الشريف يُقسم الرسول ﷺ بالله تعالى، والقَسَم في اللغة العربية لا يكون إلا على أمر عظيم، يريد الْمُقسِم تأكيده، وتثبيته في النفوس، والْمُقْسَم عليه هنا – فعلًا - أمرٌ عظيم يستحقُّ أن يُقسَم عليه؛ فهو أمرٌ عَقَديٌّ، يرتبط به مَصير الإنسان في الآخرة، هل سيكون من أهل الجنة أو من أهل النار؟ ومُجمَل الْمُقسَم عليه أنه ما من أحد أتى بعد بعثة رسول الله ﷺ وسمع بدعوته وبما أُنزل به، ثم اختار ألَّا يؤمن به، إلَّا كان مصيرُه النارَ، والعياذ بالله، ولن يشفع له ما هو عليه من عقيدة غير عقيدة الإسلام، وهذا مصداق

قول الله تعالى:

 إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ

ﱠ [آل عمران: 19]


وقوله تعالى:

وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَﱠ

[آل عمران: 85].

     وقد حدَّد النبيُّ ﷺ فئتين من الأمَّة التي يقصدها، وهما اليهود والنصارى؛ أي: أهل الديانات السماوية السابقة المحرَّفة؛ لأن أهل هاتين الديانتين قامت عليهما الحُجَّة من دينهما؛ فاليهوديُّ الحقُّ والمسيحيُّ الحقُّ الذي يؤمن بكتابه وبنبيِّه تمام الإيمان، لا بدَّ أن يدفعه إيمانه - إن كان صادقًا - للإيمان بالنبيِّ محمدٍ ﷺ؛ لأن دينهم يبشِّر بالرسول؛ قال تعالى على لسان نبيِّ الله عيسى:

وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ

[الصف: 6].

والدليلُ على أنه حجَّة على كلِّ من بَلَغه الدعوة

قولُه تعالى:

 وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ

[الأنعام: 19].

    وليس أمرُ التصديق بالدعوة مقتصرًا على هذين الصِّنفين: اليهودِ والنصارى؛ ولكنه يَشمَل غيرهم ممن ليس من أهل دين سماويٍّ، فهذا من باب أَوْلى، والدليل من القرآن على شمولية دعوة الرسول للناس كافَّةً

قوله تعالى:

 وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا

[سبأ: 28].

ولم يحدِّد الرسول ﷺ البَشَر فقط؛ بل لفظ "كل" شاملٌ للبشر والجنِّ، فهم أيضًا مكلَّفون مثلُ البَشَر، والحُجَّة قائمة عليهم أيضًا. 

ومن لم تبلغه الدعوة، ولا سَمِع بها، فهو معذور أمام الله تعالى؛

لقوله تعالى: 

وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

[الإسراء: 15]

 وأيضًا يَشمَل العُذْرُ مَن سَمِع بالدعوة؛ ولكنه لم يستطع فَهْمَها بسبب حاجز العُجمة، أو حاجز عيوب الحَواسِّ والإدراك، أو أن تكون وَصَلَتْه مشوَّهةً مطموسةَ الْمَعالم محرَّفة مبدَّلة غيرَ واضحة. وهذا لا ينفي بذلُ الجهد للتعرُّف على الإسلام، وتبيُّن الدين الحقِّ من الدين المحرَّف؛ فالعقيدةُ أهمُّ شيء في حياة الإنسان، وأَوْلى ما يَبحَث عن حقيقته.

فكلُّ من كان في أقاصي الجنوب والشمال، والمشرق وجزائر البحور، والمغرب وأغفال الأرض، من أهل الشرك، فسَمِع بذكره ﷺ ففَرْضٌ عليه البحثُ عن حاله وأعلامه والإيمان به، أما مَن لم يَبلُغه ذِكْرُه ﷺ فإن كان موحِّدًا فهو مؤمِن على الفِطرة الأولى، صحيح الإيمان، لا عذابَ عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنَّة، وإن كان غيرَ موحِّد، فهو من الذين جاء النصُّ بأنه يوقَد له يومَ القيامة نارٌ فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دَخَلها، نجا، ومن أبى هَلَك؛

قال الله تعالى:

 مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

[الإسراء: 15].

فصحَّ أنه لا عذاب على كافر أصلًا حتى يَبلُغه نذارة الرسول، وأما من بَلَغه ذِكره ﷺ وما جاء به ثم لا يَجِد في بلاده من يُخبِره عنه، ففَرْضٌ عليه الخروجُ عنها إلى بلاد يَستبرئ فيها الحقائق.

المراجع

  1. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم"، و"الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج" للسيوطيِّ، و"فتح المنعم شرح صحيح مسلم".


النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "في الحديث نسخُ الْمِلَل كلّها برسالة نبيِّنا ﷺ، وفي مفهومه دلالةٌ على أنّ من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهذا جارٍ على ما تقدّم في الأصول أنّه لا حكم قبل ورود الشّرع على الصّحيح واللّه أعلم"[1].

قال القاضي عياض رحمه الله: "فيه دليلٌ على أن من في أطراف الأرض، وجزائر البحر المقطَّعة ممَّن لم تَبلُغه دعوة الإسلام، ولا أمرُ النبيِّ أن الحرج عنه في عَدَم الإيمان به ساقطٌ؛ لقوله: «لا يسمع بي»؛ إذ طريق معرفته والإيمان به ﷺ مشاهدة مُعجِزته وصِدقه أيَّامَ حياته، أو صحَّة النقل بذلك والخبر لمن لم يُشاهده وجاء بعده، بخلاف الإيمان بالله وتوحيده الذي يوصَل إليه بمجرَّد النظر الصحيح، ودليل العقل السليم"[2].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «من هذه الأمة» صفة «أحد»، و«يهوديٌّ» إما بيانٌ، أو بَدَلٌ من «أحد»، و(من) في «هذه الأمة» إما للبيان، أو للتبعيض، وعلى التقديرين هو مرفوعُ المحلِّ، فعلى أن يكون للتبعيض معناه: لا يسمع بي أحدٌ وهو بعض الأمَّة يهوديٌّ، والإشارة بهذه إلى ما في الذِّهن، والأمَّة بيانٌ له، والأمَّة حينئذ أمَّة الدعوة، وعلى أن يكون للبيان، ولفظة (هذه) يكون إشارة إلى أمَّة اليهود والنصارى خاصَّةً، جرَّد من الأمَّة اليهود والنصارى"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»؛ أي: من هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلُّهم يجب عليهم الدّخول في طاعته، وإنّما ذكر اليهوديَّ والنّصرانيَّ تنبيهًا على من سواهما؛ وذلك لأنّ اليهود النصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنَهم مع أنّ لهم كتابًا، فغيرهم ممّن لا كتاب له أولى، واللّه أعلم"[4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قال الشارحون: الأمَّة جمع لهم جامع من دين أو زمان أو مكان أو غير ذلك، فإنه مُجمَل يُطلَق تارةً ويُراد بها كلُّ من كان هو مبعوثا إليهم، آمن به أو لم يؤمن، ويُسمَّوْنَ أمَّة الدعوة، وتُطلَق أخرى، ويراد بها المؤمنون به المذعِنون له، وهم أمَّة الإجابة، وهي ههنا بمعنى الأول؛ بدليل قوله: «ولم يؤمن بي»، واللام فيها للاستغراق أو الجنس أو العهد، والمراد بها أهل الكتاب، ويُعضِّد الأخير تَوَصُّفُ الأحد باليهوديِّ والنصرانيِّ. وفي تخصيص ذكر اليهوديِّ والنصرانيِّ، وأنهما من أهل الكتاب، إشعارٌ بأن حال المعطِّلة وعبدة الأوثان وأضرابهم آكد، وهم أولى بالصلى. وتلخيص المعنى: أن كلَّ واحد من هذه الأمَّة إذا يَسمَع بي ويتبيَّن له مُعجزتي ثم لا يؤمن برسالتي، ولم يصدِّق في مقالتي، كان من أصحاب النار، سواءٌ الموجودُ ومن سيُوجد"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "المذهب الثامن: أنهم يُمتحَنون في عَرَصات القيامة، ويُرسَل إليهم هناك رسول، وإلى كلِّ مَن لم تبلغه الدعوة، فمن أطاع الرسول دخل الجنة، ومن عصاه أدخله النار، وعلى هذا فيكون بعضهم في الجنة، وبعضهم في النار، وبهذا يتألَّف شمل الأدلَّة كلِّها، وتتوافق الأحاديث... وقد جاءت بذلك آثارٌ كثيرة يؤيِّد بعضُها بعضًا"[6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وظاهر الحديث أن مجرَّد السماع تقوم به الحُجَّة؛ لأنه قال «لا يَسْمَعُ بِي»؛ ولكن قيِّد هذا الإطلاق بسماع يبيَّن به الأمر

لقوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ

لماذا؟

لِيُبَيِّنَ لَهُمْ

[إبراهيم: 4]

 فلابدَّ أن يَحصُل البلاغ الذي تقوم به الحُجَّة... وأما الذين في أوربا وغيرها ممن لم يصل إليهم الإسلام إلَّا مشوَّهًا، فهل يُعذَّبون؟ فنقول في هؤلاء: هم الآن يَدِينون بالكُفر، ويَرَون أنهم طَرَفُ نَقيضٍ مع الإسلام، فنحن نَحكُم عليهم بأنهم كفَّار في الظاهر، فإذا لم تَبلُغهم الدعوة على وجهٍ تَقوم به الحُجَّة، فأمرهم إلى الله يوم القيامة؛ لكن نحن نعاملهم الآن بما تقتضيه حالهم؛ لأنهم كفَّار"[7]. 

قال ابن القيم رحمه الله: "والله يقضي بين عباده يوم القيامة بحُكمه وعَدله، ولا يعذِّب إلَّا من قامت عليه حُجَّته بالرُّسل، فهذا مقطوع به في جُملة الخلق. وأما كَوْنُ زَيْدٍ بعَينه وعَمْرٍو بعَينه قامت عليه الحُجَّة أم لا، فذلك مما لا يمكِن الدخول بين الله وبين عباده فيه؛ بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كلَّ من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذِّب أحدًا إلَّا بعد قيام الحُجَّة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيينُ موكولٌ إلى علم الله عزَّ وجلَّ، وحكمُه هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا، فهي جارية مع ظاهر الأمر؛ فأطفال الكفَّار ومجانينهم كفَّار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم، وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة"[8].

قال ابن حزم رحمه الله: "فإنما أوجب النبيُّ ﷺ الإيمان به على من سَمِع بأمره ﷺ؛ فكلُّ من كان في أقاصي الجنوب والشمال، والمشرق وجزائر البحور، والمغرب وأغفال الأرض، من أهل الشرك، فسَمِع بذكره ﷺ ففَرْضٌ عليه البحثُ عن حاله وأعلامه والإيمان به، أما مَن لم يَبلُغه ذِكْرُه ﷺ فإن كان موحِّدًا فهو مؤمِن على الفِطرة الأولى، صحيح الإيمان، لا عذابَ عليه في الآخرة، وهو من أهل الجنَّة، وإن كان غيرَ موحِّد، فهو من الذين جاء النصُّ بأنه يوقَد له يومَ القيامة نارٌ فيؤمرون بالدخول فيها، فمن دَخَلها، نجا، ومن أبى هَلَك

قال الله عزَّ وجلَّ:

مَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

 [الإسراء: 15]

فصحَّ أنه لا عذاب على كافر أصلًا حتى يَبلُغه نِذارة الرسول ﷺ، وأما من بَلَغه ذِكر النبيِّ محمدٍ ﷺ وما جاء به ثم لا يَجِد في بلاده من يُخبِره عنه، ففَرْضٌ عليه الخروجُ عنها إلى بلاد يَستبرئ فيها الحقائق"[9].

قال ابن تيميَّة رحمه الله: "وأولئك البقايا الّذين كانوا متمسِّكين بدين المسيح قبل مبعث محمّد ﷺ كانوا على دين اللّه - عزّ وجلّ - وأمّا من حين بُعث محمّد ﷺ فمن لم يؤمن به، فهو من أهل النّار؛ كما قال في الحديث الصّحيح: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَا يُؤْمِنُ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[10].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 468).
  3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 448).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 188).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 449).
  6. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 587، 588).
  7. "التعليق على مسلم" لابن عثيمين (1/490-491).
  8. "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 413).
  9. "الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم (5/ 117، 118).
  10. "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" لابن تيمية (2/ 90).


مشاريع الأحاديث الكلية