غريب الحديث

القرن: أهل كلِّ زمان، وهو مقدار التوسُّط في أعمار أهل كلِّ زمان، مأخوذٌ من الاقتران، وكأنه الْمِقدار الذي يَقترِن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن: أربعون سنةً، وقيل: ثمانون، وقيل: مِائة، وقيل: هو مُطلَق من الزمان[1].

السِّمَن: وفي رواية: يَتَسَمَّنُون؛ أي: يَتَكثَّرون بما ليس فيهم من الخير، ويدَّعون ما ليس لهم من الشرف، وقيل: معناه: جمعُهم المالَ ليلحقوا بذَوِي الشَّرَف[2].

المراجع

  1. "النهاية في غري1ب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 51).
  2. "تهذيب اللغة" للأزهريِّ (13/ 17).
المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن رَسُول اللَّهِ أنه قال: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي»؛ أي: أفضلُ الناس في أمتي أهلُ قَرْني، وهم الذين عاصروا النبيَّ ، وبُعِث فيهم، وآمَنُوا به واتَّبَعوه. «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ أي: ثم يليهم في الأفضلية والخيرية القرنُ الذي بعدَهم، وهم التابعون، والتابعيُّ: هو من لَقِيَ الصحابيَّ. «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وهم أتباع التابعين، وتابعُ التابعيِّ: هو من لَقِيَ التابعيَّ، ولم يُدرِك الصحابة رضى الله عنهم.

قَالَ عِمْرَانُ: (فَلاَ أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟): شكَّ عمرانُ، وجاءت أكثر طرق هذا الحديث بغير شكٍّ.

قوله : «ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»؛ أي: ثم يأتي بعد هذه القرون الثلاثة الفاضلة، قومٌ، من صفاتهم: أنهم يَسبِقون بأداء الشهادة قبل أن يُطلَب منهم أن يَشهَدوا؛ وذلك لهوىً لهم في الشهادة. «ويَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ»؛ أي: ومن صفاتهم كذلك أنهم يخونون الأمانة، فلا يَثِقُ الناس بهم ولا يأمنونهم. «وَيَنْذِرُون وَلا يَفُون»؛ أي: يَنذِرون لله، أو يُوجِبون عهودًا للناس على أنفسهم، ولا يُوفون بنذورهم أو عهودهم. «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»؛ أي: يَكثُر فيهم السِّمَن، وهو كناية عن حرصهم على الدنيا والتنعُّم بشهواتها، أو يَتَكثَّرون بما ليس فيهم من الخير والشرف.

الشرح المفصَّل للحديث

بُعِث رسول الله ﷺ، والناس في جاهلية جَهْلاءَ، وضلالةٍ عَمْياءَ، يَعبُدون الأصنام، ويأكلون الربا، ويستحِلُّون الفُروج والزنا، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، فآمن به من آمن، وكَفَر به من كفر، تعرَّض ﷺ للإيذاء، فصَبَر وصابر، وأيَّده الله بصحابة كرام، عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه. والصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[1]. وإن حبَّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضَهم آيةٌ على النِّفاق.

إن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أفضل أمَّة محمدٍ ﷺ، والأدلَّة على ذلك متكاثرة في الكتاب والسنَّة؛ فليس هناك أفضلُ ممَّن زكَّاهم الله تعالى، وعدَّلهم، وأثنى عليهم، ورَضِي عنهم، وقد أخبر ﷺ أنهم أمان لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا، أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[2].

وفي الحديث قال ﷺ: «خَيْرُ الناس قَرْنِي» إشارةً إلى أن أصحاب النبيِّ ﷺ هم أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق

قال تعالى:

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ

[النمل: 59]

قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[3].

وقد "اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ﷺ، والمرادُ أصحابُه، والصَّحيحُ الذي عليه الجمهورُ أنّ كلَّ مسلم رأى النّبيَّ ﷺ ولو ساعةً، فهو من أصحابه، ورواية (خير النّاس) على عمومها، والمراد منه: جُملة القرن، ولا يلزم منه تفضيلُ الصّحابيِّ على الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، ولا أفراد النّساء على مريمَ وآسِيَةَ وغيرهما؛ بل المرادُ جُملة القرن بالنّسبة إلى كلِّ قرن بجُملته"[4].

"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[5]. 

 وقد اختُلف في معنى قوله : قرني. "فقيل: قرنُه: أصحابُه، والذى يليه: أبناؤهم، والثالث: أبناء أبنائهم، وقيل: قرنُه: ما بَقِيَت نفسٌ رأته، والثاني: ما بَقِيت نفسٌ رأت من رآه، ثم كذلك، وقال غير واحد: القرن: كلُّ طبقتين مقترنتين في وقت.

واختُلف في مدَّة القرن، فقيل: ثمانون سنةً، وقيل: سبعون، وقيل: مِائة، وقيل: مائة وعشرون، "والأصحُّ أنه لا ينضبط بمدَّة، فقرنُه ﷺ هم الصحابة، وكانت مدَّتُهم من الْمَبعث إلى آخِرِ مَن مات من الصحابة مِائةً وعشرين سنةً، وقرنُ التابعين من مِائة سنةٍ إلى نحو سبعينَ، وقرنُ أتباع التابعين من هذا الحين إلى نحو العشرين ومِائتينِ، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأَطلَقت المعتزلة ألسنَتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهلُ العِلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيَّرت الأحوال تغيُّرًا شديدًا، ولم يَزَلِ الأمر في نقص إلى الآن"[6].

"فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ، ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصُحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[7].

وهناك من العلماء من قال: إن الأفضلية لمن تحقَّقت لهم صحبة رسول ﷺ، "وهذا التفضيل باعتبار الجُملة، فلا يُنافي أن يكون في المتأخِّرين بعض الأفراد خيرًا، كما في رواية الترمذيِّ: «إن من ورائكم أيامًا الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر، وللعامل فيهن أجر خمسين منكم»[8]"[9] فإنه "قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة، أفضل ممن كان في جُملة الصحابة، وأن قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني»، ليس على عمومه؛ بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه - عليه الصلاة والسلام - جماعة من المنافقين المظهِرين للإيمان، وأهلَ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود"[10].

"وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى أن هذا كلَّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين"[11].

"والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله ﷺ، وأما من اتَّفَق له الذَّبُّ عنه، والسَّبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة، إلا وللذي سبق بها مِثْلُ أجر من عمل بها من بعده؛ فظَهَر فضلهم"[12]،  والراجح ما ذهب إليه الجمهور، فالصُّحبة لا يَعدِلها شيء على الإطلاق. 

ويؤيِّده قول النبيِّ ﷺ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»: والنَّصِيفُ هو النِّصْفُ؛ أي: "أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[13].

"وهذا يقتضي تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها،

وقد قال تعالى:

 لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسِهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ

[الجمعة: ٤]"[14].

وقد "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[15]. 

لقد أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه

قال تعالى:

 لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 

[التوبة: 88].

وقد اختار الله عزَّ وجلَّ الصحابة لصُحبة نبيِّه، اختارهم ليحملوا راية هذا الدين، ليَزْرَعوا بِذْرَته، ويحملوا لواءه؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّدٍ ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه"[16].

وقد أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم

قال تعالى:

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ 

[الفتح: 29].

ولقد رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛ فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»

[17].

وقد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة

قال تعالى:

 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 

[التوبة: ١٠٠].

وقد رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين

فقال تعالى: 

لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)

ﱠ [الحشر: 8 – 10].

قال عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: "من كان مُسْتنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خيرَ هذه الأمَّة، أَبَرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ﷺ، ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمَّد ﷺ كانوا على الهُدى المستقيم"[18].

وقال بعض القوم للحسن البصريِّ - رحمه الله -: أَخبِرْنا صفةَ أصحاب رسول الله ﷺ، فبكى، وقال: "ظَهَرت منهم علاماتُ الخَير في السِّيما والسَّمْتِ والهُدى والصِّدق، وخشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، ومَمشاهم بالتواضُع، ومَنطِقهم بالعمل، ومَطعَمِهم ومَشرَبِهم بالطِّيب من الرزق، وخُضوعهم بالطاعة لربِّهم تعالى، واستقادتهم للحقِّ فيما أحبُّوا وكَرِهوا، وإعطائهم الحقَّ من أنفسهم، ظَمِئت هَوَاجِرُهم، ونَحَلَت أجسامهم، واستخفُّوا بسُخْط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غَضَب، ولم يَحِيفوا في جَور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شَغَلوا الأَلْسُن بالذِّكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبَذَلوا أموالهم حين استقرَضَهم، ولم يَمنَعْهم خوفُهم من المخلوقين، حَسُنت أخلاقُهم، وهانت مُؤْنتهم، وكفاهم اليسيرُ من دنياهم إلى آخرتهم"[19].

وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[20]. 

قوله ﷺ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ أي: القرن الذي بعدهم وهم التابعون، والتابعيُّ: هو من لَقِيَ الصحابيَّ، «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وهم أتباع التابعين، وتابعُ التابعيِّ: هو من لَقِيَ التابعيَّ، ولم يُدرِك الصحابة رضى الله عنهم. وهؤلاء هم الذين حملوا الرسالة والعِلم من الصحابة، وبلَّغوه، وأسَّسوا العلوم الشرعية، ودوَّنوا السنَّة، وأكملوا الفتوحاتِ الإسلاميةَ، ونَشْرَ دين الله في الأرض.

«قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟»: شكَّ عمرانُ بعد قرنه: هل ذكر قرنين أو ذكر ثلاثة؟ وجاءت أكثر طرق هذا الحديث بغير شكٍّ.

 قوله ﷺ: «ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»؛ أي: يأتي بعد هذه القرون الفاضلة، قومٌ من صفاتهم أنهم يَسبِقون بأداء الشهادة قبل أن يُسأَلوها؛ وذلك لهوىً لهم فيها، ومن كان كذلك رُدَّت شهادته، ولا تَعارُضَ بين هذا الحديث، وحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضى الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»[21]؛ فهو محمول على شاهد الزُّور، وهذا الحديث على شهادة الحقِّ، أو أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة[22].

"وقد تأوَّل العلماء هذا  تأويلات؛ أصحُّها: تأويل الشافعية أنه محمولٌ على مَن معه شهادةٌ لآدميٍّ عالمٍ بها، فيأتي فيَشهَد بها قبلَ أن تُطلَب منه، والثاني: أنه محمولٌ على شاهد الزور، فيَشهَد بما لا أصلَ له، ولم يُستشهَد، والثالث: أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة، والرابع: أنه محمول على من يَشهَد لقوم بالجنة، أو بالنار، من غير توقُّف، وهذا ضعيف، والله أعلم"[23].

وفي رواية عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[24]. "قَوْله: «تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»؛ لأن فيه معنى الجَور؛ لأن معناه أَنهم لا يتورَّعون فِي أقوالهم، ويستهينون بالشهادة واليَمين... وهم الذين يَحرِصون على الشهادة مشغوفون بترويجها، يَحلِفون على ما يَشهَدون به، فتارةً يَحلِفون قبل أَن يَأْتُوا بالشهادة، وتارةً يَعكِسون، ويُحتمَل أن يكون مثلاً في سرعة الشهادة واليمين، وحرص الرجل عليهما، حتى لا يدريَ بأيِّتهما يبتدئ، فكأنه يسبق أحدهما الآخَر من قلَّة مبالاته بالدِّين"[25].

ومن صفاتهم كذلك أنهم – كما قال ﷺ -: «يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ»؛ أي: يَطلُبون الأمانة، ثم يخونون فيها، فلا يَثِقُ الناس بهم؛ لظهور خيانتهم، وتجدُّدها، ففي التعبير بلفظ المضارع دلالة على استمرار خيانتهم، وعَدَمِ رجوعهم عنها، فلا يأمنهم أحد على شيء قلَّ أو كَثُر، والخيانة هي: الغدر والخديعة في موضع الائتمان.

ومن صفاتهم أيضًا – كما قال ﷺ -: «وَيَنْذِرُون وَلاَ يَفُون»؛ أي: لا يُوفون بعهودهم التي أوجبوها على أنفسهم، فالنذر: هو ما أَوجَبه العبد على نفسه تطوُّعًا من عبادة أو صدقة، والنَّذْرُ قد يكون للآدميِّ، وقد يكون لله عزَّ وجلَّ، فالنذر للآدميِّ بمعنى العهد الذي يتعهَّد به الإنسان بينه وبين غيره، "وقد اختَلَف العلماء في ابتداء النذر، قيل: مستحَبٌّ، وقيل: مكروهٌ، وأما الوفاءُ بالنذر فالإجماعُ على وجوبه إن كان طاعةً، وإن كان معصيةً فلا شيء عليه، إلا عند الإمام أحمدَ وأبي حنيفةَ، فإن عليه كفَّارةَ يَمين"[26].

وقد حثَّ الله تعالى ونبيُّه ﷺ على الوفاء بالنذر

قال تعالى:

وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ

[الحج: 29]

 وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ»

[27]،

وجعل الله تعالى الإيفاء بالنَّذْرِ من صفات عباد الله المتَّقِين

قال تعالى:

عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا 

[الإنسان: 6- 7].

ومن صفاته أيضًا – كما قال ﷺ -: «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَن»؛ أي: ويَكثُر فيهم السِّمَن، وهو: "التكثُّر بما ليس فيهم من الشَّرَف، وقيل: أراد به جَمْعَ المال، والحرصَ على الدنيا، وقيل: هو كنايةٌ عن الغَفْلة، وقلَّة الاهتمام بأمر الدين، فإنَّ الغالب على أهل السِّمَن أن لا يهتمُّوا برياضة البَدَن، وتكميل النفس؛ بل مُعظم هِمَمِهم تناول الحظوظ الدنيوية"[28]، ولا يلزم أن يكون كلُّ واحد من هؤلاء المترَفين سمينًا، فهو وصفٌ للغالب عليهم؛ ففيهم السَّمين وغيرُ السَّمين.

المراجع

  1. "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
  2. رواه مسلم (2531).
  3. "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 84).
  5. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (9/ 3878).
  7. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  8. رواه الترمذيُّ (2260) من حديث أنس رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (8002).
  9. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (5/ 264).
  10. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 80).
  11. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  12. "فتح الباري" لابن حجر (7/ 7).
  13. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
  14. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  15. مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  16. رواه أحمدُ (3600)، وحسَّنه الألبانيُّ في "تخريج الطحاوية" (ص:530).
  17. رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
  18. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/305-306).
  19. رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 150).
  20. "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).
  21. رواه مسلم (1719).
  22. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
  23. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
  24. رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
  25. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (13/ 214).
  26. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (10/ 284).
  27. رواه البخاريُّ (6696)
  28. "شرح مصابيح السنة للإمام البغويِّ" لابن الملك (6/ 398).


النقول

قال ابن الأثير رحمه الله: "القرن: أهل كلِّ زمان، وهو مقدار التوسُّط في أعمار أهل كلِّ زمان، مأخوذٌ من الاقتران، وكأنه الْمِقدار الذي يَقترِن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن: أربعون سنةً، وقيل: ثمانون، وقيل: مِائة، وقيل: هو مُطلَق من الزمان[1].

قال ابن بطَّال  رحمه الله: "هذا الحديثُ يُوجِب الذمَّ والنقص لمن لم يَفِ بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقَرَن النبيُّ ﷺ ذمَّ من لم يَفِ بالنذر بخيانة الأمانة، شَهِد به كتاب الله العزيز، وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يَفِ لله بما عاهَدَه، فقد خان أمانته في نقضه ما جَعَل لربِّه - عزَّ وجلَّ - على نفسه، فأَشبَه ذلك من خان غيرَه فيما ائتَمَنه عليه، والأول أعظمُ خيانةً وأشدُّ إثمًا، وأثنى الله تعالى على أهل الوفاء، فقال: 

يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا

[الإنسان: 7]

فدلَّ هذا أن الوفاء بالنذر مما يُدفَع به شرُّ ذلك اليوم. وقوله: «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَن»: هو كناية عن رغبتهم في الدنيا، وإيثارهم شهواتها على الآخرة وما أَعَدَّ الله فيها لأوليائه من الشهوات التي لا تَنفَد، والنعيم الذي لا يَبِيد، فهم يأكلون في الدنيا كما تأكل الأنعام، ولا يَقتَدون بمن كان قبلهم من السَّلَف الذين كانت هِمَّتُهم من الدنيا في أخذ القوت والبُلغة، وتوفير الشهوات إلى الآخرة"[2].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وعقيدة جمهور العلماء: أن من رآه - عليه الصلاة والسلام - وكان في عِدَاد أصحابه، فقد حَصَّل فضيلةً لا يُدرِكها أفضلُ كلِّ من يأتي بعدَه. واختَلف الناس في القرن ما هو؟ وما المراد ب(قرني) هنا؟ فقال المغيرة: قرنُه: أصحابه، والذي يليه: أبناؤهم، والثالث: أبناء أبنائهم. وقال شمر: قرنُه: ما بَقِيت نفسٌ رأتْه، والثاني: ما بَقِيَت نفس رأت من رآه، ثم كذلك. وقال غيرُ واحد: القرنُ: كلُّ طبقتينِ مقترنتين في وقت. وقيل ذلك لأهل كلِّ مدَّة بُعِث فيها نبيٌّ، طالت أو قصرت. واشتقاقه من الاقتران... جاء في الصحيح: «خيرُ الشهود الذى يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»، وفسَّره مالك بالرجل يكون عنده الشهادة في الحقِّ تكون للرجل لا يَعلَمها، فيُخبِره بها، ويَرفَعها إلى السلطان. قال الطحاوي - رحمه الله تعالى -: والأولى بنا أن نحمل الأحاديث على هذا التأويل حتى لا يتضادَّ ولا يختلف"... والشهادة تأتي بمعنى اليمين

ومنه قوله تعالى:

فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ

[النور: ٦]

 وقيل: معناه: أن يَحلِف إذا شَهِد وإذا عاهَد... وفى قوله: «ويفشو فيهم السِّمَن»، «ويحبُّون السمانة» قالوا: دليلٌ على حرص هؤلاء على الدنيا، والتنعُّم فيها، ومحبَّة الأكل والشهوات. وقوله: «ويَنذِرون ولا يُوفُون» دليلٌ على وجوب الوفاء بالنَّذر ولزومه، وذمِّ مَن لم يفعل ذلك. وقوله في الرواية الأخرى: (يَفُون) صحيحان، يقال: وَفى وأَوْفى، وفي هذا الحديث كلِّه دليلٌ وعَلَم على نبوَّته - عليه الصلاة والسلام - لوجود ما قاله عِيانًا"[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ﷺ، والمرادُ أصحابُه، والصَّحيحُ الّذي عليه الجمهورُ أنّ كلَّ مسلم رأى النّبيَّ ﷺ ولو ساعةً، فهو من أصحابه، ورواية (خير النّاس) على عمومها، والمراد منه: جُملة القرن، ولا يلزم منه تفضيلُ الصّحابيِّ على الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، ولا أفراد النّساء على مريمَ وآسِيَةَ وغيرهما؛ بل المرادُ جُملة القرن بالنّسبة إلى كلِّ قرن بجُملته"[4].

قال القاضي عياض رحمه الله: "وهذا يقتضي ما قدَّمناه من قول جمهور الأمَّة من تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد؛ ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها"

وقد قال تعالى: 

لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ

[الحديد: 10].

هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس

 ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ

[الجمعة: ٤]

 وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[5].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[6]. 

قال الإمام أحمد رحمه الله: "فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[7].

قال الشافعيُّ رحمه الله: "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرحمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[8]. 

قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله: "فأما أصحاب رسول الله ﷺ فهم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعوه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة؛ فقال عزَّ ذِكْره في مُحكَم كتابه:

كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ

  [البقرة: 143]

 ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطاً، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم؛ فقال:

وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ 

[النساء: 115].

ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[9]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[10]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[11]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ، عزَّ وجلَّ، رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[12].

قال ابن حجر رحمه الله: "الصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك"[13]

قال السُّيوطيُّ رحمه الله: "والأصحُّ أنه لا ينضبط بمدَّة، فقرنُه ﷺ هم الصحابة، وكانت مدَّتُهم من الْمَبعث إلى آخِرِ مَن مات من الصحابة مِائةً وعشرين سنةً، وقرنُ التابعين من مِائة سنةٍ إلى نحو سبعينَ، وقرنُ أتباع التابعين من ثَمَّ إلى نحو العشرين ومِائتينِ، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأَطلَقت المعتزلة ألسنَتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهلُ العِلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيَّرت الأحوال تغيُّرًا شديدًا، ولم يَزَلِ الأمر في نقص إلى الآن"[14].

قال الحورانيُّ رحمه الله: "وهذا التفضيل باعتبار الجُملة، فلا يُنافي أن يكون في المتأخِّرين بعض الأفراد خيرًا، كما في رواية الترمذيِّ: «إن من ورائكم أيامًا الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر، وللعامل فيهن أجر خمسين منكم»[15]".[16].

قال ابن حجر رحمه الله: "والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله ﷺ، وأما من اتَّفَق له الذَّبُّ عنه، والسَّبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من َخصلة من الخصال المذكورة، إلا وللذي سبق بها مِثْلُ أجر من عمل بها من بعده؛ فظَهَر فضلهم"[17].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "ذهب ابنُ عبد البرِّ إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة، أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وأن قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني»، ليس على عمومه؛ بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهِرين للإيمان، وأهلَ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود"[18]

قال النوويُّ رحمه الله: "وقد تأوَّل العلماء هذا – أي: الحديث المراد شرحه – تأويلات؛ أصحُّها: تأويل أصحابنا أنه محمولٌ على مَن معه شهادةٌ لآدميٍّ عالمٍ بها، فيأتي فيَشهَد بها قبلَ أن تُطلَب منه، والثاني: أنه محمولٌ على شاهد الزور، فيَشهَد بما لا أصلَ له، ولم يُستشهَد، والثالث: أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة، والرابع: أنه محمول على من يَشهَد لقوم بالجنة، أو بالنار، من غير توقُّف، وهذا ضعيف، والله أعلم"[19].

قال الحورانيُّ رحمه الله: "وقد اختَلَف العلماء في ابتداء النذر، قيل: مستحَبٌّ، وقيل: مكروهٌ، وأما الوفاءُ بالنذر فالإجماعُ على وجوبه إن كان طاعةً، وإن كان معصيةً فلا شيء عليه، إلا عند الإمام أحمدَ وأبي حنيفةَ، فإن عليه كفَّارةَ يَمين"[20].

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 51).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 156).
  3. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 570).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 84).
  5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
  6. "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
  7. "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
  8. "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
  9. رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
  10. رواه البخاريُّ (1739).
  11. رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
  12. "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
  13. "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
  14. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (9/ 3878).
  15. رواه الترمذيُّ (2260) من حديث أنس رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (8002).
  16. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (5/ 264).
  17. "فتح الباري" لابن حجر (7/ 7).
  18. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 80).
  19. "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
  20. "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (10/ 284).


غريب الحديث

قَرْعَ نِعَالِهِم؛ أي: خَفْقها، وضَرْبها بالأرض[1].

لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ: قوله: تَلَيْتَ: أصلُه تَلَوْتَ؛ أي: لا فَهِمْتَ، ولا قَرَأْتَ القرآن، والمعنى: لا دَرَيت ولا اتَّبَعتَ من يدري، وإنما قاله بالياء؛ لمواخاة دَرَيت[2].

صَيْحَة: صاحَ صَيْحةً وصِياحًا وصُياحًا، وصيَّحَ: صوَّت بأقصى طاقته، يكون ذَلِك فِي النَّاس وَغَيرهم[3].

الثَّقَلَيْن: الجن والإنس، وإنما قيل لهما: ثقلان؛ لأنهما كالثِّقَل للأرض وعليها، وقيل: سُمِّيَا ثَقَلين لتفضيل الله إيَّاهما على سائر الحيوان المخلوق في الأرض بالتمييز والعقل، الذي خُصَّا به[4].

المراجع

  1. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 180).
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (3/ 239).
  3. ينظر: "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سيده (3/ 421).
  4. "تهذيب اللغة" لأبي منصور الأزهريِّ (9/ 78).


سبب ورود الحديث

عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عليه، قَالَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَخَلَ نَخْلًا لِبَنِي النَّجَّارِ، فَسَمِعَ صَوْتًا فَفَزِعَ، فَقَالَ: «مَنْ أَصْحَابُ هَذِهِ الْقُبُورِ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَاسٌ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: «تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» قَالُوا: وَمِمَّ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَإِنِ اللَّهُ هَدَاهُ قَالَ: كُنْتُ أَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَمَا يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ غَيْرِهَا، فَيُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى بَيْتٍ كَانَ لَهُ فِي النَّارِ فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا بَيْتُكَ كَانَ لَكَ فِي النَّارِ؛ وَلَكِنَّ اللَّهَ عَصَمَكَ وَرَحِمَكَ، فَأَبْدَلَكَ بِهِ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: دَعُونِي حَتَّى أَذْهَبَ فَأُبَشِّرَ أَهْلِي، فَيُقَالُ لَهُ: اسْكُنْ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ أَتَاهُ مَلَكٌ فَيَنْتَهِرُهُ فَيَقُولُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَعْبُدُ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، فَيُقَالُ لَهُ: فَمَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيَضْرِبُهُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا الْخَلْقُ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ»[1].

المراجع

  1. رواه أحمد (13447)، وأبو داود (4751)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن أبي داود"، "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" للحُسَيْنيِّ (1/ 210).
المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضى الله عليه عن النَّبِيِّ أنه قال: «العَبْدُ»؛ أي: المؤمن، «إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ»؛ أي: دُفِن، «وَتُوُلِّيَ وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ»؛ أي: ذهبوا بعد الانتهاء من دفنه حتى يسمع صوت نعالهم، «أَتَاهُ مَلَكَانِ» هما مُنكَرٌ ونَكِير، «فَأَقْعَدَاهُ»؛ أي: فأجلساه، «فَيَقُولانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ ؟»؛ أي: فيسألانِه عن إيمانه بالنبيِّ «فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الجَنَّةِ، قَالَ النَّبِيُّ : فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا»؛ أي: يرى مَقعَده في النار ومَقعَده في الجنة، «وَأَمَّا الكَافِرُ - أَوِ المُنَافِقُ - فَيَقُولُ: لا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ وَلا تَلَيْتَ»؛ أي: لا كنتَ فاهمًا ولا تاليًا للقرآن، «ثُمَّ يُضْرَبُ بِمِطْرَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ»؛ أي: إلا الجنَّ والإنس.

الشرح المفصَّل للحديث

 إن القبر أوَّلُ منازل الآخرة، في السؤال والحساب، وفي الثواب أو العقاب، جعله الله تعالى برزخًا وحَدًّا فاصلاً بين الدنيا والآخرة، فيه انقطاعٌ عن الحياة الدنيا، وإقبالٌ على الآخرة، وهو مَنزِل مشترَك بين الدنيا والآخرة، مكانُه في الأرض، وأهلُه يعامَلون معاملةَ الآخرة، وهو إما روضةٌ من رياض الجنان، أو حُفرة من حُفَر النيران، فكم من رجل يعذَّب في القبور ولا ندري عنه شيئًا! وآخَرَ يُنعَّم فيها ولا نَعلَم عنه شيئًا!

وفي هذا الحديث يَنقُل النبيُّ صورة من صور نعيم القبر للمؤمن، وأُخرى من صور عذاب القبر للكافر والمنافق في عالم الغيب، فالإنسانُ إذا أصابته مصيبة الموت، وانتهى أصحابه من تشييع جثمانه، ووضعه في قبره، انصرف عنه أهله وأحبابه، وهو يسمع صوت أرجلهم منصرِفين عنه، فيُرسل الله له مَلَكين من ملائكته الموكَّلين بسؤاله في القبر، أحدهما: اسمه مُنكَر، والآخر: اسمُه نَكير، فيُجلِسانِه ويسألانِه عن محمَّد : ماذا تقول فيه؟ فإن كان الرجل موحِّدًا بالله تعالى، مؤمنًا برسوله، ثبَّته الله تعالى، وأجاب بقوله: أشهد أنه عبد لله ورسوله؛ فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: 

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ

[إبراهيم: 27][1].

فيقول له الْمَلَكان: انظر إلى هذا الْمَقعَد من النار، فإن الله تعالى أَعَدَّه لك في جهنَّمَ لو لم تكن مؤمنًا، وإن الله أَبدَلك به مقعدًا من الجنة، ويرى المؤمن الْمَقعَدينِ، فيفرح لذلك فرحًا شديدًا ليس بعدَه فرح، فقد حاز النعيم الأبديَّ في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، والنجاةَ من النار، أعاذنا الله منها.

وفي الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ، فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ»[2].

وأما إن كان الرجل كافرًا أو منافقًا، وسُئل عن الرجل الذي بُعث فيه، فإنه لا يستطيع الإجابة عن سؤال الْمَلَكين، ولا يَبرَح إلا أن يقول: لا أدري ولا أعرف، فيُقال له: لا دَرَيت ولا تَلَيت؛ أي: لا عَرَفتَ ولا اتَّبَعْتَ مَن يعرف، ولا انتفعت بالقرآن الذي قرأتَه أو سمعتَه، وهو بمثابة الدعاء عليه؛ لأنه كان متَّبِعًا لغيره، ولم يكلِّف نفسه عناء البحث عن الحقيقة؛ ولذلك يقول: كنت أقول كما يقول الناس، ثم يُضرَب ضربة شديدة بمِطرَقة من حديد، فيَصرُخ بأعلى صوته من شدَّة الضرب، حتى يَسمَعه كلُّ الخلائق ما عدا الإنس والجنَّ؛ فإن الله حَجَب السمع عنهم؛ رحمةً ورأفة بهم؛ فإنهم لو سَمِعوا هذه الصرخة لصُعِقوا من هَول ما يَسمَعون لشدَّتها، ولَمَا استقامت حياتهم بعدها؛ ففي الحديث عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ قال: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا، لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ»[3].

وإذا كان الأمر كذلك، وَجَب على العبد أن يستعِدَّ للسؤال والحساب، ويهيِّئ الجواب، ويسارع إلى مرضاة الله تعالى بالطاعات، ويبتعد عن الذنوب والمعاصي والشهوات؛ فإن الله سائلٌ كلَّ إنسان عن أعماله، محاسِبٌ له على أفعاله

قال تعالى:

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

[مريم: 95]

 والعبدُ إذا نجا من عذاب القبر، كان ما بعدَه أَيسرَ منه؛  ففي الحديث عَنْ هَانِئٍ، مَوْلَى عُثْمَان رضى الله عنه، قال: كَانَ عُثْمَانُ، إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تُذْكَرُ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ:

«إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ»

[4].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (1369)، ومسلم (2871).
  2. رواه البخاريُّ (3240)، ومسلم (2866).
  3. رواه مسلم (2867).
  4. رواه أحمد (454)، والترمذيُّ (2308)، وابن ماجه (4267)، وحسنه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن الترمذيِّ".


النقول

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «العَبْد»؛ أَي: العَبْد الْمُؤمن المخلص. قَوْله: «وَتَوَلَّى»؛ أَي: أعرض وَذهب أَصْحَابه، وَهُوَ من بَاب تنَازع الذَّهاب. وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّه كرَّر اللَّفْظ وَالْمعْنَى وَاحِدٌ. قلتُ: لَا نسلِّم أَن الْمَعْنى وَاحِد؛ لِأَن التوَلِّيَ هُوَ الْإِعْرَاض، وَلَا يسْتَلْزم الذَّهاب. وَقَالَ بَعضهم: رَأَيْتُ أَن لفظ (تولى)، مضبوط بِخَطٍّ مُعْتَمَد على صِيغَة الْمَجْهُول؛ أَي: تُوُلِّيَ أمره؛ أَي: الْمَيِّت. قلت: لَا يُعْتَمَد على هَذَا، وَالْمعْنَى مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: «قرع نعَالهمْ»؛ أَي: نعال النَّاس الَّذين حول قَبره من الَّذين باشروا دَفنه وَغَيرهم، وقرع النِّعَال: صَوتُهَا عِنْد الْمَشْي، والقرع فِي الأَصْل: الضَّرْب، فَكَأَن أَصْحَاب النِّعَال إِذا ضَرَبوا الأَرْض بهَا، خرج مِنْهَا صَوت. قَوْله: «ملكان»، وهما الْمُنكر والنكير، كَمَا فسِّر فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَغَيره، وَإِنَّمَا سُمِّيا بِهَذَا الاسم لِأَن خلقهما لَا يُشبه خَلق الْآدَمِيّين، وَلَا خَلق الْمَلَائِكَة، وَلَا خلق الْبَهَائِم، وَلَا خلق الْهَوَام؛ بل لَهما خَلْقٌ بديع، وَلَيْسَ فِي خِلْقَتيهما أُنْسٌ للناظرين إِلَيْهِمَا، جَعلهمَا الله تَكرِمةً لِلْمُؤمنِ لتثبِّتَه وتبصِّره، وهتكًا لسِتر الْمُنَافِق فِي البرزخ من قَبْلِ أَن يُبْعَث حَتَّى يحلَّ عَلَيْهِ الْعَذَاب، وسُمِّيَا أَيْضًا: فتَّانا الْقَبْر؛ لِأَن فِي سؤالهما انتهارًا، أَو فِي خُلقهما صعوبة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيِّ بِسَنَد ضَعِيف: ناكور وسيِّدهم رُومَان. قَوْله: «فأقعداه»؛ أَي: أجلساه. قَالَ الْكرْمَانِيُّ، رَحمَه الله تَعَالَى: وهما مُتَرَادِفَانِ، وَهَذَا يُبطل قَول من فرَّق بَينهمَا، بِأَن الْقعُود هُوَ عَن الْقيام، وَالْجُلُوس عَن الِاضْطِجَاع. قلتُ: اسْتِعْمَال الإقعاد مَوضِع الإجلاس لَا يمْنَع الْفرق الْمَذْكُور. قَوْله: «فِي هَذَا الرجل مُحَمَّد؟»؛ أَي: النَّبِيِّ . وَقَوله: «مُحَمَّد» بِالْجَرِّ عطف بَيَان عَن الرجل، وَيجوز أَن يكون بَدَلاً، فَإِن قلت: هَذِه عبارَة خَشِنة لَيْسَ فِيهَا تَعْظِيمٌ وَلَا توقير؟ قلُت: قُصِد بهَا الامتحان للمسؤول؛ لِئَلَّا يَتَلَقَّن تَعْظِيمه عَن عبارَة الْقَائِل، ثمَّ يثبِّت الله الَّذين آمنُوا بالْقَوْل الثَّابِت. قَوْله: «فَيُقَال»: يُحْتَمَل أَن يكون هَذَا القَوْل من الْمُنكر والنكير، وَيحْتَمل أَن يكون من غَيرهمَا من الْمَلَائِكَة. قَوْله: «فَيَرَاهُمَا»؛ أَي: الْمَقْعَدَيْنِ اللَّذين أَحدُهمَا من الْجنَّة، وَالْآخر من النَّار. قَوْله: «أَو الْمُنَافِق» شكٌّ من الرَّاوِي، وَالْمرَاد بالمنافق الَّذِي يُقِرُّ بِلِسَانِهِ وَلَا يصدِّق بِقَلْبِه، وَظَاهر الْكَلَام، وَهُوَ قَوْله: «لَا أَدْرِي، كنت أَقُول كَمَا يَقُول النَّاس»، يَشْمَل الْكَافِر وَالْمُنَافِق؛ وَلَكِن الْكَافِر لَا يَقُول ذَلِك، فَيتَعَيَّن الْمُنَافِق، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيِّ. قَوْله: «لَا دَرَيْتَ» قَالَ الدَّاودِيُّ: أَي: لَا وقفتَ فِي مقامك هَذَا، وَلَا فِي الْبَيْت. قَوْله: «وَلَا تَلَيت». قَالَ ثَعْلَب: لَا دَريت وَلَا تليت، أَصله: وَلَا تَلَوت، فقُلبت الْوَاو يَاءً لازدواج الْكَلَام. قلتُ: هَذَا أصوب من كلِّ مَا ذَكرُوهُ فِي هَذَا الْبَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن هَذِه اللَّفْظَة جَاءَت هَكَذَا فِي حَدِيث الْبَراء فِي مُسْند أَحْمد: «لَا دَريت وَلَا تَلَوت»؛ أَي: لم تتلُ الْقُرْآن، فَلم تنْتَفع بدرايتك وَلَا تلاوتك"[1].

قال ابن بطَّال  رحمه الله: "قوله: «يَسمَعها من يليه»: فالذي يَلِيه هم الملائكة الذين يَلُون فتنته ومسألتَه في قبره، والثَّقَلان: الجنُّ والإنس، منعهم الله سماع صيحته إذا دُفِن في قبره"[2].

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "فيقولان له: «ما كنت تقول في هذا الرجل، محمد؟» بالجرِّ عطف بيان، أو بدل مِن سابقه، ولم يقولا: ما تقول في هذا النبيِّ؟ أو غيره من ألفاظ التعظيم؛ لقصد الامتحان للمسؤول، إذ ربما تلقَّن تعظيمه من ذلك؛ ولكن 

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ

[إبراهيم: 27]

 «فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال»؛ أي: فيقول له الملكانِ المذكوران أو غيرهما: «انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدًا من الجنة». قال النبيُّ : «فيراهما جميعًا»؛ أي: المقعدينِ اللذين أحدُهما من الجنة والآخر من النار، أعاذنا الله منها، «وأما الكافر - أو المنافق» شكَّ الراوي؛ لكن الكافر لا يقول المقالة المذكورة، فتعيَّن المنافق «فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال»؛ أي: فيقول الْمُنكَر والنَّكير، أو غيرهما: «لا دَرَيتَ» بفتح الراء، «ولا تَلَيت» بالمثنَّاة التحتية الساكنة بعد اللام المفتوحة، وأصلُه: تَلَوت، بالواو. يُقال: تلا يتلو القرآن؛ لكنه قال: تليتَ بالياء للازدواج مع دَرَيت؛ أي: لا كنتَ داريًا ولا تاليًا"[3].

قال بدر الدين العينيُّ  رحمه الله: "قَوْله: «ثمَّ يُضْرَب» على صيغة المجهول؛ أي: الميِّت. قوله: «بمِطرَقة»، بكسر الميم، قال الجَوهريُّ: طَرَق النَجَّاد الصُّوفَ يَطرُقه طَرْقًا إذا َضَربه، والقضيب الّذي يُضرَب به يسمَّى: مِطرَقة، وكذلك مِطرَقة الحدَّاد. قوله: «من حديد»، يجوز فيه الوجهان؛ أحدهما: أن يكون صفةً لموصوف محذوف؛ أي: من ضارب حديد؛ أي: قويٍّ شديد الغَضَب. والآخر: أن يكون صفةً لـ(مِطرقة)، فعلى هذا تكون كلمة (من)، بيانية، ثمّ إن الظّاهر أن الضّارب غير المنكَر والنكير؛ ولكن يُحتمَل أن يكون أحدَهما، ويحتمل أن يكون غيرَهما"[4]. 

قال القسطلانيُّ  رحمه الله: «ضربه بين أذنيه»؛ أي: أُذُنَيِ الميِّت «فيصيح صيحة يسمعها من يليه»؛ أي: يلي الميت «إلا الثقلين» الجنَّ والإنس، سُمِّيا بذلك لثِقَلهما على الأرض. والحكمةُ في عدم سماعهما الابتلاءُ، فلو سَمِعا، لكان الإيمان منهما ضروريًّا، ولأعرضوا عن التدبير والصنائع، ونحوهما مما يتوقَّف عليه بقاؤهما، ويدخل في قوله: (من يليه) الملائكة فقط؛ لأن (من) للعاقل. وقيل: يدخل غيرهم أيضًا تغليبًا، وهو أظهر. فإن قلتَ: لِمَ مُنِعَت الجنُّ سماعَ هذه الصيحة دون سماع كلام الميِّت إذا حُمل وقال: قدِّموني قدموني؟ أجيب: بأن كلام الميت إذ ذاك في حكم الدنيا، وهو اعتبارٌ لسامعه وعِظة، فأسمعه الله الجنَّ لما فيهم من قوَّة يَثبُتون بها عند سماعه، ولا يُصعَقون، بخلاف الإنسان الذي يُصعَق لو سَمِعه، وصيحةُ الميِّت في القبر عقوبة وجزاء، فدخلت في حكم الآخرة"[5].

قال بدر الدين العينيُّ  رحمه الله: "قَوْله: «إِلَّا الثقلَيْن»؛ أي: غير الثقلين، وهما: الإنس والجنُّ، وسُمِّيا به لثِقَلهما على الأرض. فإن قلتَ: ما الحكمة في منع الثَّقلين من سماع صَيحة ذاك المعذَّب بمِطرقة الحديد؟ قلتُ: لو سمعا لارتفع الابتلاء، وصار الإيمان ضروريًّا، ولأعرضوا عن التدابير والصنائع ونحوهما ممّا يَتَوقَّف عليه بقاؤهما. فإن قلتَ: (مَن) للعُقلاء، فانحصر السماع على الملائكة. قلتُ: نعم، وقيل: المراد منه العقلاء وغيرهم، وغلب جانب العقل، وهذا أظهر، وقيل: المراد بـ(من يليه) أعمُّ من الملائكة الذين تكون فتنته وغيرهم من الثقلين، وإنّما مُنعت الجنُّ هذه النّصيحة ولم يُمنَع سماع كلام الميّت إذا حُمل، وقال: قدِّموني؛ لأن كلام الميّت حين يُحمَل إلى قبره في حكم الدّنيا، وليس فيه شيء من الجزاء والعقوبة؛ لأن الجزاء لا يكون إلّا في الآخرة، وإنّما كلامه اعتبار لمن سمعه وموعظة، فأسمعه الله الجنَّ؛ لأنّه جعل فيهم قوَّة يَثبُتون بها عند سماعه ولا يُصعقون، بخلاف الإنسان الّذي كان يُصعَق لو سمعه، وصيحة الميّت في القبر عند فتنته هي عقوبة وجزاء، فدخلت في حكم الآخرة، فمنع الله تعالى الثّقلين الّذين هم في دار الدّنيا سماع عقوبته وجزائه في الآخرة، وأسمعه سائر خلقه"[6].

المراجع

  1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 144).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 321).
  3. "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاري" (2/ 434).
  4. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).
  5. "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاري" (2/ 435).
  6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (8/ 145).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يَروي جَابِرُ بنُ عبد الله عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ»؛ أي: بين المسلم - رجلًا كان أو امرأةً - وبين أن يصل إلى الشِّرْك والكُفر تَرْكُ الصلاة.

الشرح المفصَّل للحديث

الصَّلاةُ هِيَ الرُّكنُ الثاني من أركانِ الإسلامِ الخمسة التي بُنِيَ الإسلامُ عَلَيها؛ فعن عبد الله بن عمرَ قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[1]

وقد أَمَرَنا اللهُ تعالى بالمحافَظَة عليها؛

فقال:

( حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ )

[البقرة: 238].

وأمر بإقامتها؛

قال تعالى:

( ﱡﱠأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ)

[الأنعام: 72]،

ومَعْنى إقامِ الصَّلاةِ: هو أداءُ الصَّلوات الخَمْسِ المفروضة في اليومِ واللَّيلة، في الأوقات الْمُحَدَّدة لها، وبالصِّفة الصَّحيحة التي بَيَّنَها نبيُّنا الكَريمُ ﷺ؛ تقرُّبًا إلى الله تعالى.

وحذَّرنا مِن أن إضاعتَها تَسْتَوْجِبُ عذاب الجحيم؛

فقال:

{ﱠكُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}

[الْمُدَّثِّر: 38 - 43].

وقد وَصفَها النبيُّ ﷺ بالنور في قَولهِ: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»[2]

و"الصّلاةُ أفضل الأعمال، وهي مؤلَّفة من كَلِم طيِّب وعمل صالح؛ أفضلُ كَلِمها الطّيِّب وأوجبُه القرآن، وأفضلُ عملها الصّالح وأوجبُه السُّجود"[3]

والصلاة هي أعظمُ عِبادةٍ بَدَنيَّة، وهيَ أَحَبُّ الأَعمالِ إلى الله تعالى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه  قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِ‍يَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللَّهِ؟ قَالَ: «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»[4]

ولا يقومُ الدِّينُ إلَّا بأداء الصلاة؛ فهي عَمُودُ الإسلام؛ كما قال النبيُّ ﷺ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»[5]. فالصلاةُ من الإسلام بمنزلةِ العَمود الذي يقوم عليه، والخَيْمةُ تَسقُطُ بسقوط عَمُودِها؛ فهكذا يَذهَب الإسلام بذَهَاب الصلاة،

وفي هذا الحديث: عن جَابِر بن عبد الله قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلَاةِ»؛ أي: بين المسلم - رجلًا كان أو امرأةً - وبين أن يَصِل إلى الشرك والكُفر تَرْكُ الصلاة.

"ومعنى (بينه وبين الشّرك ترك الصّلاة) أنّ الّذي يَمنَع من كُفره كونُه لم يَترُك الصّلاة، فإذا تركها، لم يَبقَ بينه وبين الشّرك حائلٌ؛ بل دخل فيه، ثمَّ إنّ الشّرك والكفر قد يُطلَقان بمعنًى واحد، وهو الكفر باللّه تعالى، وقد يُفرَّق بينهما، فيُخصُّ الشِّرك بعَبَدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم باللّه تعالى؛ ككفَّار قُريش، فيكون الكفر أعمَّ من الشّرك"[6]

وفي حديث بُرَيْدَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[7]

"والظّاهر أنّ فعل الصَّلاة هو الحاجز بين العبد والكفر، فيُحتمَل أن يؤوَّل تركُ الصّلاة بالحدِّ الواقع بينهما، فمن ترَكَها دخل الحدَّ، وحام حول الكفر، ودنا منه، أو يُقال: المعنى أنَّ ترك الصَّلاة يُوصِلُ العبد إلى الكفر.

وقد اختُلف في تكفير تارك الصّلاة الفرض عَمْدًا. قال عمرُ رضي اللّه عنه: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة. وقال ابنُ مسعود: ترَكْهُا كفر، وقال عبد اللّه بن شقيق: كان أصحاب محمَّدٍ - عليه الصّلاة والسّلام - لا يَرَون شيئًا من الأعمال تَرْكُه كفرٌ غيرَ الصّلاة"[8]

و"قوله: «بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة» معناه: بين المسلم وبين اتِّسامه باسم الكفَّار، واستحقاقه من القتل ما استحقُّوه: تركُ الصلاة، وقد يكون معنى الحديث: إن بالصلاة والمواظبة عليها وتَكرار ذلك في يومه وليلته يَفترِق المسلم من الكافر، ومَن تَرَك ذلك ولم يغتنمه، ولا تميَّز بسِيماء المؤمنين، دَخَل في سَواد أضدادهم من الكَفَرة والمنافقين"[9]

و"إنّ من الأفعال ما تركُه يوجِب الكُفْرَ، إمَّا حقيقةً، وإمّا تسميةً... وأمَّا تارك الصّلاة، فإن كان منكِرًا لوجوبها، فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من مِلَّة الإسلام، إلّا أن يكون قريبَ عهد بالإسلام، ولم يخالِط المسلمين مدَّةً يَبلُغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإن كان تركُه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها؛ كما هو حال كثير من النَّاس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشّافعيُّ والجماهير من السَّلف والخَلَف إلى أنّه لا يَكفُر؛ بل يَفسُق ويُستتاب، فإن تاب وإلَّا قتلناه حَدًّا؛ كالزَّاني المحصَن؛ ولكنَّه يُقتَل بالسَّيف، وذهب جماعة من السَّلف إلى أنّه يَكفُر، وهو مَرْويٌّ عن عليِّ بنِ أبي طالب، وهو إحدى الرّوايتين عن أحمدَ بنِ حنبل، وبه قال عبد اللّه بن المبارك، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وهو وجه لبعض أصحاب الشّافعيِّ، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، والمزنيُّ صاحب الشّافعيِّ أنّه لا يكفُر ولا يُقتَل؛ بل يُعزَّر ويُحبَس حتّى يُصلِّيَ"[10]

والصلاةُ تنهى عن الفحشاء والمنكر؛

قال الله تعالى:

﴿إِنَّ ‌الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾

[العنكبوت: ٤٥]،

وهي أوَّلُ ما يُحاسَبُ عليه الإنسانُ يومَ القيامة؛

فقد قال ﷺ:

«أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ»

[11]

وفي الحديث عن عبد الله بن عمرِو بنِ العاص،

عن النبيِّ ﷺ:

أنه ذَكَرَ الصَّلاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ، وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ»

[12] 

"وإنما خصَّ هؤلاء الأربعة بالذكر؛ لأنهم من رؤوس الكَفَرة. وفيه نُكتةٌ بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة، إمَّا أن يَشغَله مالُه أو مُلكُه أو رياسته أو تجارته، فمن شَغَله عنها مالُه، فهو مع قارون، ومن شَغَله عنها ملكه، فهو مع فِرعونَ، ومن شغله عنها رياسة ووزارة، فهو مع هامانَ، ومَن شَغَله عنها تجارته، فهو مع أبيِّ بنِ خَلَفٍ"[13]

ومن فضائل الصلاة ما رواه عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«خَمْسُ صَلَوَاتٍ افْتَرَضَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى، مَنْ أَحْسَنَ وُضُوءَهُنَّ وَصَلَّاهُنَّ لوقتهن وَأتمَّ ركوعهن وخشوعهن، كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَهْدٌ، إِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ»

[14]

ومن فضائل الصلاة أنها تكفِّر الخطايا دومًا وتطهِّر المؤمن؛

فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمُعةُ إلى الجُمُعة، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكفِّراتٌ ما بينهنَّ إذا اجتَنَب الكبائر»

[15]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى المكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى المسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ»

[16]

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُتَطَهِّرًا إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ الْحَاجِّ المحْرِمِ، وَمَنْ خَرَجَ إِلَى تَسْبِيحِ الضُّحَى لَا يَنْصِبُهُ إِلَّا إِيَّاهُ، فَأَجْرُهُ كَأَجْرِ المعْتَمِرِ، وَصَلَاةٌ عَلَى أَثَرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا كِتَابٌ فِي عِلِّيِّين»

[17]

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ، قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا»

[18]

وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ:

"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ  سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ"

[19] 

وقد قال ﷺ:

 «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ، فإذا قال العبدُ: ﴿الحمد لله رب العلمين﴾،   قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجَّدني عبدي، فإذا قال: ﴿إياك نعبد و إياك نستعين﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ﴿أهدنا الصراط المستقيم6صرط الذين أنعمت عليهم غير ألمغضوب عليهم ولا ألضالين﴾، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل» 

[20]

وقد قال ﷺ في فضل جماعتها:

«صلاةُ الجماعةِ أفضَلُ من صلاةِ الفَذِّ بسَبعٍ وعشرينَ دَرجةً»

[21]

وقد أعدَّ الله تعالى منزلاً في الجنة لمن غدا إلى المسجد أو راح؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاح»

[22]

ومن السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّه رجلٌ معلَّقٌ قلبُه بالمساجد؛ ف

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ»

[23]

وإن صلاة الجماعة تشهدها الملائكة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

«يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ»

[24]

وصلاة الجماعة لها الفضل العظيم؛

عن عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه، قَالَ:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ الليْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى الليْلَ كُلَّهُ»

[25]

وصلاة الجماعة تعطيك النور التامَّ يوم القيامة؛

عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«بَشِّرِ المشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى المسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

[26]

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
  2.  رواه مسلم (223).
  3.  "مجموع الفتاوى" (14/5).
  4.  رواه البخاريُّ (527)، ومسلم (85).
  5. رواه أحمد (22366)، والنسائيُّ (11330)، والترمذيُّ (2616) وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2866)
  6.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 71).
  7.  رواه أحمد (23325)، والنسائيُّ (463)، وابن ماجه (1079)، والترمذيُّ (2621)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (564).
  8.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (2/ 510).
  9.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 343، 344).
  10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 70).
  11.  رواه الطبرانيُّ (1859)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (376).
  12.  رواه أحمد (6576)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
  13.  "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 51).
  14. رواه أحمد (23080)، وابن ماجه (1401)، وأبو داود (425) وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب (370).
  15.  رواه مسلم (233).
  16.  رواه مسلم (251).
  17.  رواه أحمد (22304)، وأبو داود (558)، وحسَّنه الألبانيُّ.
  18.  رواه البخاريُّ (528)، ومسلم (667).
  19.  أخرجه مسلم (654).
  20.  رواه مسلم (395).
  21.  رواه البخاريُّ (645)، ومسلم (650).
  22.  رواه البخاريُّ (662)، ومسلم (669).
  23.  رواه البخاريُّ (660)، ومسلم (1031).
  24.  رواه البخاريُّ (555)، ومسلم (632).
  25.  رواه مسلم (656).
  26.  رواه أبو داود (561)، والترمذيُّ (223)، وابن ماجهْ (781)، وصحَّحه الألبانيُّ.

النقول

قال الملا علي القاري رحمه الله: "وَقَالَ الطِّيبِيُّ: تَرْكُ الصَّلاة مبتدأ، والظَّرف المقدَّم خبرُه، والظّاهر أنّ فعل الصَّلاة هو الحاجز بين العبد والكفر، فقال القاضي: يُحتمَل أن يؤوَّل تركُ الصّلاة بالحدِّ الواقع بينهما، فمن ترَكَها دخل الحدَّ، وحام حول الكفر، ودنا منه، أو يُقال: المعنى أنَّ ترك الصَّلاة وَصْلةٌ بين العبد والكُفر، والمعنى أنّه يُوصِلُه إليه، قيل: ويُحتمَل أن يُقال: الكلام على خلاف الظّاهر؛ إذ ظاهرُه أن يُقال: بين الإيمان والكفر، أو بين المؤمن والكافر، فوَضَع العبد موضِعَ المؤمِنَ؛ لأنّ العبوديّة أن يَخشَع لمولاه، ويَشكُر نِعَمَه، ووَضَع الكُفْرَ موضعَ الكافرَ، وجَعَله نَفْسَ الكُفر، فكأنَّه قيل: الفرقُ بين المؤمن والكافر تركُ أداء الشُّكر، فعلى هذا؛ الكفر بمعنى الكُفران، وفي شرح السُّنَّة: اختُلف في تكفير تارك الصّلاة الفرض عَمْدًا. قال عمرُ رضي اللّه عنه: لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصَّلاة. وقال ابنُ مسعود: ترَكْهُا كفر، وقال عبد اللّه بن شقيق: كان أصحاب محمَّدٍ - عليه الصّلاة والسّلام - لا يَرَون شيئًا من الأعمال تَرْكُه كفرٌ غيرَ الصّلاة، وقال بعض العلماء: الحديثُ محمولٌ على تركها جُحودًا، أو على الزَّجْرِ والوَعيد، وقال حمَّادُ بنُ زيدٍ، ومكحولٌ، ومالك، والشَّافعيُّ: تارك الصّلاة كالمرتدِّ، ولا يَخرُج من الدّين. وقال صاحب الرّأي: لا يُقتَل؛ بل يُحبَس حتَّى يُصلِّيَ، وبه قال الزُّهْريُّ. اهـ.

قلتُ: ونِعْمَ الرّأيُ رأيُ أبي حنيفةَ؛ إذ الأقوالُ باقيها ضعيفة، ثمَّ من التّأويلات أن يكون مستحلًّا لتركها، أو تركُها يؤدِّي إلى الكفر، فإنَّ المعصيةَ بَرِيدُ الكُفر، أو يُخشى على تاركها أن يموت كافرًا، أو فِعْلُه شابَهَ فِعْلَ الكافر"[1]

قال النوويُّ رحمه الله: "ومعنى (بينه وبين الشّرك ترك الصّلاة) أنّ الّذي يَمنَع من كُفره كونُه لم يَترُك الصّلاة، فإذا تركها، لم يَبقَ بينه وبين الشّرك حائلٌ؛ بل دخل فيه، ثمَّ إنّ الشّرك والكفر قد يُطلَقان بمعنًى واحد، وهو الكفر باللّه تعالى، وقد يُفرَّق بينهما، فيُخصُّ الشِّرك بعَبَدة الأوثان وغيرها من المخلوقات، مع اعترافهم باللّه تعالى؛ ككفَّار قُريش، فيكون الكفر أعمَّ من الشّرك، واللّه أعلم"[2]

قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله: «بين الرجل والكفر والشرك ترك الصلاة» معناه: بين المسلم وبين اتِّسامه باسم الكفَّار، واستحقاقه من القتل ما استحقُّوه: تركُ الصلاة، وقد يكون معنى الحديث: إن بالصلاة والمواظبة عليها وتَكرار ذلك في يومه وليلته يَفترِق المسلم من الكافر، ومَن تَرَك ذلك ولم يَهتبِلْ به، ولا تميَّز بسِيماء المؤمنين، دَخَل في سَواد أضدادهم من الكَفَرة والمنافقين.

وفيه دليلٌ لمن كفَّر تارك الصلاة من السَّلف والعلماء، وإن كان معتقِدًا وجوبَها. وهو قولُ عليِّ بنِ أبى طالب - رضى الله عنه - وجماعةٍ من السَّلَف، وذَهَب إليه فقهاء أهل الحديث: أحمدُ بنُ حنبلٍ وابنُ المبارك وإسحاقُ وابنُ حبيب من أصحابنا، وجماعةٌ من العلماء على أنه ليس بكافر، وأكثرُهم يرى قتلَه إن أبى منها، والكوفيون لا يَرَون قتلَه ويُعزَّر حتى يصلِّيَ، ونحوُه للمُزنيِّ، ثم اختلفوا في استتابته. ومن لم يكفِّرْه يَقتُله حدًّا. قال ابن القصَّار: واختَلَف أصحابنا في استتابته، فمن لم يَسْتَتِبْه، يَجعَلْه كسائر الحدود التي لا تُسقِطُها التوبة، يؤخَّر حتى يَمُرَّ وقت صلاة، فإن لم يصلِّ، قُتِل، وكذلك اختلفوا في قتله إذا تركها متهاوِنًا، وإن قال: أصلِّي، وفى استتابته، وتأخيره. فذَهَب مالكٌ - رحمه الله - أنه يؤخَّر حتى يَخرُجَ الوقتُ، فإن خَرَج ولم يصلِّ، قُتِل. والصحيحُ أنه عاصٍ غيرُ كافر؛

لقوله تعالى:

(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚﱠ )

[النساء: ٤٨]

 وأن يُقتَل إن أبى منها؛

لقوله تعالى:

(  ﱠفَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ )

[التوبة: ٥]

الآية، ولقوله ﷺ: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم»([3])"[4]

قال النوويُّ رحمه الله: "مقصود مسلم  أنّ من الأفعال ما تركُه يوجِب الكُفْرَ، إمَّا حقيقةً، وإمّا تسميةً، فأمّا كفرُ إبليسَ بسبب السُّجود،

فمأخوذٌ من قول اللّه تعالى:

( وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ أَبَىٰ وَٱسۡتَكۡبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلۡكَٰفِرِينَ )

[البقرة: ٣٤].

قال الجمهور: معناه: وكان في علم اللّه تعالى من الكافرين، وقال بعضهم: وصار من الكافرين؛

كقوله تعالى:

(وَحَالَ بَيۡنَهُمَا ٱلۡمَوۡجُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡمُغۡرَقِينَﱠ)

[هود: ٤٣]

 وأمَّا تارك الصّلاة، فإن كان منكِرًا لوجوبها، فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من مِلَّة الإسلام، إلّا أن يكون قريبَ عهد بالإسلام، ولم يخالِط المسلمين مدَّةً يَبلُغه فيها وجوب الصَّلاة عليه، وإن كان تركُه تكاسلًا مع اعتقاده وجوبها؛ كما هو حال كثير من النَّاس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشّافعيُّ - رحمهما اللّه - والجماهير من السَّلف والخَلَف إلى أنّه لا يَكفُر؛ بل يَفسُق ويُستتاب، فإن تاب وإلَّا قتلناه حَدًّا؛ كالزَّاني المحصَن؛ ولكنَّه يُقتَل بالسَّيف، وذهب جماعة من السَّلف إلى أنّه يَكفُر، وهو مَرْويٌّ عن عليِّ بنِ أبي طالب - كرَّم اللّه وجهه - وهو إحدى الرّوايتين عن أحمدَ بنِ حنبل - رحمه اللّه - وبه قال عبد اللّه بن المبارك، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ، وهو وجه لبعض أصحاب الشّافعيِّ - رضوان اللّه عليه - وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، والمزنيُّ صاحب الشّافعيِّ - رحمهما اللّه - أنّه لا يكفُر ولا يُقتَل؛ بل يُعزَّر ويُحبَس حتّى يُصلِّيَ"[5]

قال ابن القيم رحمه الله: "ما رواه عبدُ الله بنُ عمرِو بنِ العاص، عن النبيِّ ﷺ: أنه ذَكَرَ الصَّلاَةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا، وَبُرْهَانًا، وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ، وَلاَ بُرْهَانٌ، وَلاَ نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ، وَفِرْعَوْنَ، وَهَامَانَ، وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ»[6]. رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو حاتم بنُ حبَّانَ في صحيحه، وإنما خصَّ هؤلاء الأربعة بالذكر؛ لأنهم من رؤوس الكَفَرة. وفيه نُكتةٌ بديعة، وهو أن تارك المحافظة على الصلاة، إمَّا أن يَشغَله مالُه أو مُلكُه أو رياسته أو تجارته، فمن شَغَله عنها مالُه، فهو مع قارون، ومن شَغَله عنها ملكه، فهو مع فِرعونَ، ومن شغله عنها رياسة ووزارة، فهو مع هامانَ، ومَن شَغَله عنها تجارته، فهو مع أبيِّ بنِ خَلَفٍ"[7]

المراجع

  1.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (2/ 510).
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 71).
  3.  رواه البخاريُّ (25)، ومسلم (22) بلفظ: عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
  4.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 343، 344).
  5.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 70).
  6.  رواه أحمد (6576)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
  7.  "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 51).

المعنى الإجماليُّ للحديث


يروي أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه  عن النَّبِيِّ أنه قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ»؛ أي: لن تقوم الساعة حتى يُنزَع ويُرفَع العلمُ من الأرض. «وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ»: والزلازل حرَكة الأرض وارتجافها وتحرُّكها واضْطرابها. «وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ»؛ أي: تَقصُر مدَّة الأزمنة عمَّا جرَت به العادة، أو تَقصُر الأعمار بقِلَّة البَرَكة فيها. «وَتَظْهَرَ الفِتَنُ»؛ أي: وتَكثُر الفِتن والابتلاءات، وتَنتشِر حتى تستوعب الناس جميعًا. «وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ»؛ أي: عند ظُهور الفِتَن يَكثُر القَتلُ.

يقول : «حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»؛ يعني: ينتشر المال في الناس، ويَفيض حتى يَكثُر، فيَفضُل منه بأيدي مالِكِيه ما لا حاجةَ لهم به.

الشرح المفصَّل للحديث


ما ترَك النبيُّ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ أُمَّتَه عليه، وما ترَك شرًّا إلا وحذَّرهم منه، ومِن ذلك إخبارُه  بما سيكون في آخر الزمان من أحداث وعلامات تدُلُّ على قُرب قيام الساعة؛ وذلك ليكون المسلمُ على بيِّنةٍ من أمره، فيُعِدَّ للأمر عُدَّته من الإيمان والتصديق والتسليم، ويأخذَ حِذْره فيتَّخِذَ من الوسائل ما يُعينه على النجاة من هذه الفتن إنْ هو أدركَها.

وقد قسَّم العلماء هذه العلاماتِ التي أخبرَ بها النبيُّ إلى علاماتٍ صُغرى وعلاماتٍ كُبرى. أمَّا الأماراتُ أو العلاماتُ الصُّغْرى فكَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ بعضَها. 

وأمَّا العَلاماتُ الكُبرى، فقد أخبَر بها في أكثرَ من موضعٍ، ولم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ نهاية الزمان، وقيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك. 

وفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ أن يوم القيامة لن يأتي «حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ»؛ أي: يُنزَع ويُرفَع من الأرض، ولا يكون ذلك بمَحْوه من الصُّدور؛ ولكن بموتِ العلماء، واتِّخاذِ النَّاس رُؤوسًا جُهَّالًا، فيتحكَّمون في دِين اللهِ سبحانه بآرائهم، ويُفْتون فيه بجَهْلِهم[1].

وإن الله لا يهَبُ العلم لخَلْقه، ثم يَنتزِعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يَسترجِع ما وهَب لعباده مِن علمه الذي يؤدِّي إلى معرفته والإيمان به وبرسله؛ وإنما يكون قبضُ العلم بتضييع التعلُّم، فلا يُوجَد فيمن يبقى مَن يَخلُف مَن مضى من العلماء[2]، ويُؤيِّد ذلك ما أخبَر به النبيُّ في حديث آخَرَ، وفيه: «إنَّ اللهَ لا يقبِض العلمَ انتزاعًا ينتزِعه، ولكن يَقبِض العلماءَ، فإذا لم يبْقَ عالمٌ، اتَّخذ الناسُ رُؤساءَ جهَّالًا، فسُئِلوا فأفتَوْا بغير عِلم، فضلُّوا وأضلُّوا»[3]، والـمقصود في الحديث موتُ أكثرِ العلماء لا كلِّهم؛ لحديث النبيِّ : «لا تزال طائفةٌ من أمَّتي ظاهرين على الـحقِّ حتى يأتي أمرُ اللهِ»[4].

وذكَر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أيضًا من علامات الساعة: كَثْرة الزلازل، والزلازل: جمْعُ زلزلة، وهي حرَكة الأرض واضْطرابها[5]، وفسَّر بعضُ العلماء الزلازلَ بالفِتن التي تُزَلْزِل القلوب، "فيمكِن حمْلُه على الزلازل المعنوية، وهي كثرة الفِتن المزعِجة الموجِبة لارتجاف القلوب، والأظهرُ حمْلُه على المعنى الحسِّيِّ، وهو ارتجاف الأرض وتحرُّكها"[6]، و"قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثيرٌ من الزلازل؛ ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولُها ودَوَامُها"[7]. وظُهور الزَّلازل والآياتِ وعيدٌ من الله تعالى لأهل الأرض، والله تعالى لا يُرسل بالآياتِ إلَّا تخويفًا، والتَّخويف والوعيدُ بهذه الآيات إنَّما يكون عند الـمجاهَرة والإعلان بالمعاصي؛ كما قيل لرسول الله : «أنَهْلِك وفينا الصالِحون؟ قال: نَعم؛ إذا كثُر الخبثُ»[8]، ويَبعث اللهُ الصَّالحين على نِيَّاتهم[9]. 

وفي أيَّامنا هذه لا يَكاد يمرُّ يومٌ من الأيَّام إلَّا ونسمَع عن زلزالٍ في بلدٍ ما، يستوي في ذلك بلادُ الإيمان والكفر؛ فأمَّا في بلاد الكفر فلشِركِهم بالله ، وإعراضهم عن دِينه، واضطهاد القِلَّة الـمسلِمة واستضعافهم، وأمَّا في بلاد الـمسلمين، فلانْكِباب النَّاس على الشَّهوات والـمعاصي، والـمجاهَرة بذلك. 

ثم ساق النبيُّ ﷺ علامةً أُخرى من علامات الساعة فقال: «ويَتَقارَب الزَّمانُ» في تفسيرِه أربعةُ أقوال: 

الأوَّل: أنه اقترابُ يوم القيامة؛ وعليه فالمعنى: إذا قرُبت القيامةُ كان مِن شَرْطها الشُّحُّ والهَرْج[10]. 

والثَّاني: أنه قِصَر مدَّة الأزمنة عمَّا جرَت به العادة؛ كما جاء في الحديث: «حتَّى تكون السَّنةُ كالشَّهر، والشهرُ كالجُمُعة، والجُمُعة كاليوم، قيل: واليومُ كالسَّاعة، والسَّاعة كالضَّرمة بالنَّار»[11]. 

والثَّالث: أنه قِصَر الأعمار بقِلَّة البركة فيها[12]. 

والرَّابع: تقارُب أحوال الناس في غلَبة الفساد عليهم، ويكون الـمعنى: ويتقارب أهل الزَّمان، أي: تتقاربُ صفاتُهم في القبائح؛ ولهذا ذكَر على إثْره الهرْجَ والشُّحَّ[13].

«وتَظهَر الفِتن»: والفتنةُ معناها: الابتلاءُ، والاختبار، والامتحان، وقد كثُر استعمالُها فيما أخرَجه الاختبارُ مِن مكروه، ثم كثُر حتى استُعمِلَت بمعنى الإثم، والكفر، والقتال، والإحراق، والإزالة، والصَّرف عن الشيء[14]، والمراد بظهور الفِتَن في الحديث: "كثرتها، واشتهارها، وعدم التكاتم بها"[15]، ففي آخِر الزَّمان تكون فِتنٌ كثيرةٌ - كما أخبر النَّبيُّ ﷺ - كقِطَع اللَّيل الـمُظلِم؛ «يُصبح الرَّجُل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، حتَّى يَصير النَّاس إلى فُسْطاطين: فُسطاطِ إيمانٍ لا نِفاقَ فيه، وفُسطاط نفاقٍ لا إيمانَ فيه؛ فإذا كان ذاكم فانتظِروا الدَّجَّال من يومه، أو غَدِه»[16].

وما من عبدٍ إلَّا وتُعرَض عليه هذه الفِتن؛ كما قال ﷺ: «تُعرَض الفِتَن على القلوب كالحصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها، نُكِت فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنكَرها، نُكِت فيه نُكتةٌ بَيضاءُ، حتى تَصير على قَلْبَين؛ على أبيضَ مثلِ الصَّفا، فلا تضُرُّه فتنةٌ ما دامت السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودُ مُرْبَادًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا لا يَعرِف معروفًا، ولا يُنكِر مُنكَرًا، إلا ما أُشرِبَ مِن هواه»[17].

ولِخُطورةِ الفِتَنِ؛ كان النَّبِيُّ ﷺ يُكثِر مِن الاستعاذةِ منها، ويأمر أصحابَه أن يتعوَّذوا منها؛ فعن زَيد بن ثابت رضى الله عنه، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «تعوَّذوا بالله من الفِتَن، ما ظهَر منها وما بطَن»[18]، وكان ﷺ يدعو في كلِّ صلاةٍ: «اللهم إني أعوذُ بكَ من عذاب القبر، وأعوذُ بك مِن فِتنة المسيح الدَّجَّال، وأعوذُ بك مِن فتنة الْمَحْيا والممات، اللهم إني أعوذُ بك من المأثَم والْمَغْرَم»[19].

وعند ظُهور الفِتَن يَكثُر الهَرْجُ؛ أي القَتلُ، كما بيَّن النبيُّ ، قال: «ويَكثُر الهَرْجُ - وهو القتلُ القَتلُ»، والقتلُ مِن أعظم الكبائر، خاصَّةً إذا كان ظُلمًا وعدوانًا، ولقد كتَب الله سبحانه و تعالى أنَّ مَن قتَل نفْسًا بغير نَفْس أو فساد في الأرض، فكأنَّما قتَل الناس جميعًا، ومَن أحْياها فكأنَّما أحْيا الناسَ جميعًا

قال تعالى:

 مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا

[المائدة: ٣٢].

 ولقد توعَّد الله سبحانه و تعالى القاتلَ بالغضب واللَّعْن، وهو الطَّرْد من رحمة الله، والعذاب الـمُقيم في نار جهنَّم يوم القيامة، إلَّا أن يتغمَّده اللهُ برحمةٍ منه

كما قال تعالى:

﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾  

[النساء: 93].

وعن الأحنف بن قَيس رضى الله عنه، عن النَّبيِّ : «إذا الْتَقى المسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار»، فقلتُ: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بالُ المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قَتْل صاحبه»[20].

وأمَّا قَولُ النبيِّ ﷺ: «حتَّى يَكثُرَ فِيكُمُ الْـمَالُ فَيَفِيضَ»، يعني: يَفيض المال حتى يَكثُر، فيَفضُل منه بأيدي مالِكِيه ما لا حاجةَ لهم به. وقيل: معنى «يَفيض المال»: ينتشر في الناس ويعمُّهم[21]. وقد اختَلَف أهلُ العلمِ: هل وقَعَت هذه العلامةُ أو لا؟ 

وقد كانت هناك حالةٌ مَن كثرةِ المال حدثت في زمن الصحابة، ثم وقعت حالةٌ أُخرى من إفاضة المال وكثرته في زمن عمر بن عبد العزيز، وستقعُ حالةٌ أخرى من إفاضة المال وحصول الاستغناء لكلِّ أحد، حتى يهتمَّ صاحبُ المال بكونه لا يجِد مَن يَقبل صدَقته، ويَزداد بأنه يَعرِضه على غيره ولو كان ممَّن لا يَستحقُّ الصَّدقة، فيأبى أخذَه فيقول: لا حاجةَ لي فيه، وهذا في زمن عيسى عليه السلام، ويُحتمَل أن يكون هذا الأخير عند خروج النار واشتغال الناس بأمرِ الحشر، فلا يلتفت أحدٌ حينئذٍ إلى المال؛ بل يَقصد أن يتخفَّف ما استطاع[22].

المراجع

  1. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 177).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 177) بتصرُّف يسير.
  3. رواه البخاريُّ (100)، ومسلم (2673).
  4. رواه البخاريُّ (3640)، ومسلم (156).
  5. "شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (2/ 256).
  6. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (9/ 244).
  7. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (13/ 87).
  8. رواه البخاريُّ (3598)، ومسلم (2880).
  9. أصله حديثٌ متَّفق عليه، رواه البخاريُّ (2118)، ولفظه: عن أمِّ المؤمنين عائشة ڤ، قالت: قال رسول الله ﷺ: «يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيْداءَ من الأرض، يُخسَف بأولهم وآخرهم». قالت: قلتُ: يا رسول الله، كيف يُخسَف بأوَّلهم وآخِرهم وفيهم أسواقهم ومَن ليس منهم؟ قال: «يُخسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُبْعثون على نياتهم». ورواه مسلم (2884).
  10. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (16/ 221).
  11. انظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (2/ 256)، وأصله حديث الترمذيِّ في السنن (2332)، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السَّنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضَّرَمة بالنار» وقال: غريب من هذا الوجه، وقال الألبانيُّ: صحيح.
  12. انظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (2/ 256).
  13. انظر: "التوضيح شرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (8/ 286).
  14. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 411).
  15. "فتح الباري" لابن حجرٍ (13/ 18).
  16. رواه أبو داود في سننه (4242). وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (4242).
  17. رواه مسلم (144).
  18. رواه مسلم (2867).
  19. رواه البخاريُّ (832)، ومسلم (589).
  20. رواه البخاريُّ (31)، ومسلم (2888).
  21. "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّاني (2/ 256).
  22. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجَرٍ العسْقلانيِّ (13/ 87- 88).


النقول


قال ابن بَطَّال رحمه الله: "إن الله لا يهَبُ العلم لخَلْقه، ثم يَنتزِعه بعد أن تفضَّل به عليهم، والله يتعالى أن يَسترجِع ما وهَب لعباده مِن علمه الذي يؤدِّي إلى معرفته والإيمان به وبرسله؛ وإنما يكون قبضُ العلم بتضييع التعلُّم، فلا يُوجَد فيمن يبقى مَن يَخلُف مَن مضى من العلماء"[1].

قال ابن رجب رحمه الله: "ويمكن حمْلُه على الزلازل المعنوية، وهي كثرة الفِتن المزعِجة الموجِبة لارتجاف القلوب، والأظهرُ حمْلُه على المعنى الحسِّيِّ، وهو ارتجاف الأرض وتحرُّكها"[2].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلّب: ظهور الزلازل والآيات أيضًا وعيد من الله تعالى لأهل الأرض

قال تعالى: 

وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا

[الإسراء: 59]

... والتخويف والوعيد بهذه الآيات إنما يكون عند المجاهرة بالمعاصي والإعلان بها؛ ألا ترى قول عمر حين زُلزِلت المدينة في أيامه: يا أهل المدينة، ما أسرعَ ما أحدثتم! والله لئن عادت لأَخرُجنَّ من بين أظهركم. فخشَيِ أن تصيبه العقوبة معهم؛ كما قالت عائشة: «يا رسول الله، أنَهْلِك وفينا الصالِحون؟ قال: نَعم؛ إذا كثُر الخبثُ»[3]، وإذا هلكت العامَّة بذنوب الخاصَّة، بعث اللهُ الصَّالحين على نِيَّاتهم[4]. قال ابن المنذر: اختلفوا في الصلاة عند الزلزلة وسائر الآيات، فقالت طائفة: يصلَّى عندها كما يصلَّى عند الكسوف؛ استدلالاً بقوله ﷺ: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عزَّ وجلَّ»[5]، وكذلك الزلزلة والهادُّ وما أشبه ذلك من آيات الله، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبى ثور. وكان مالك والشافعيُّ لا يَرَيان ذلك. وقال الكوفيون: الصلاة في ذلك حسنة، يعني في الظلمة والريح الشديدة..." [6].

قال ابن حجر رحمه الله: "قد وقع في كثير من البلاد الشمالية والشرقية والغربية كثيرٌ من الزلازل؛ ولكن الذي يظهر أن المراد بكثرتها شمولُها ودَوَامُها"[7]

قال ابن رجب رحمه الله: "وأما كثرة الزلازل، فهو مقصود البخاريِّ في هذا الباب من الحديث. والظاهر: أنه حمله على الزلازل المحسوسة، وهي ارتجاف الأرض وتحرُّكها، ويمكِن حمله على الزلازل المعنوية، وهي كثرة الفتن المزعجة الموجبة لارتجاف القلوب. والأول أظهر؛ لأن هذا يُغني عنه ذكر ظهور الفتن"[8].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "وأما سائر الحديث فهي أشراط الساعة وعلاماتها، ونحن في ذلك؛ قد قُبض العلم، وظهرت الفتن، وعمَّت وطبَّقت، وكثُر الهرْج وهو القتل، وكثُر المال، ولاسيَّما عند أراذل الناس؛ كما جاء في الحديث عند تقارب الزمان: «يكون أسعدَ الناس في الدنيا لُكَعُ ابنُ لُكَعَ، ويتطاول رعاة الإبل البهم في البنيان»[9]، وقد شاهدناه عِيانًا، أعاذنا الله من شر المنقلَب، وختم أعمالنا بالسعادة والنجاة من الفتن"[10].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (1/ 177) بتصرف يسير.
  2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (9/ 244).
  3. رواه البخاريُّ (3598)، ومسلم (2880).
  4. أصله حديثٌ متَّفق عليه، رواه البخاريُّ (2118)، ولفظه: عن أمِّ المؤمنين عائشة ڤ، قالت: قال رسول الله ﷺ: «يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببَيْداءَ من الأرض، يُخسَف بأولهم وآخرهم». قالت: قلتُ: يا رسول الله، كيف يُخسَف بأوَّلهم وآخِرهم وفيهم أسواقهم ومَن ليس منهم؟ قال: «يُخسَف بأولهم وآخرهم، ثم يُبْعثون على نياتهم». ورواه مسلم (2884).
  5. رواه البخاريُّ (1044)، ومسلم (901).
  6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 26).
  7. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (13/ 87).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (9/ 244).
  9. رواه الترمذيُّ (2210)، وصحَّحه الألبانيُّ في صحيح الجامع(7431).
  10. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (3/ 27).


غريب الحديث

أَمْر العَامَّة: أراد بالعامَّة القيامةَ؛ لأنها تَعُمُّ النَّاسَ بالموت[1].

خُوَيْصَةُ أحَدِكم: الخُوَيْصَة: تَصْغِير (الْخَاصَّة)، والْمُراد: حادثة الموت التي تخصُّ الْمَرْء، وصُغِّرت لاستصغارها في جنب سائر الحوادث العِظام من البعث والحساب وغير ذلك[2].

المراجع

  1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 302).
  2. "الفائق في غريب الحديث والأثر" للزمخشريِّ (1/ 375).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هريرة عن رَسُول اللهِ أنه قال: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»؛ أي: ثلاث علامات من علامات الساعة، إذا ظهرت، لا ينفع الكافرَ أن يُسلِم بعد ظهورها، وكذلك المسلمُ العاصي لا تُقبل توبته بعد ظهورها، وهي: «طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا»: فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من الْمَشرِق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، طَلَعت من مغربها. «وَالدَّجَّالُ»؛ أي: خروجُ المسيح الدجَّال، وهو أعظم فتنةٍ منذ خَلَق الله الأرض، وقد حذَّر النبيُّ أمَّته من المسيح الدجَّال، وذكر لهم بعضًا من صفاته. «وَدَابَّةُ الْأَرْضِ»: وهي دابَّة تخرج في آخِر الزمان، وقبل قيام الساعة، فتُكلِّم الناس، وقد فسدوا حينها وتركوا أوامر الله تعالى. 

ويروي أبو هريرة أيضًا عن النبيِّ أنه قال: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا»؛ أي: أَسرِعوا إلى الأعمال الصالحة واشتغلوا بها قبل موت أحدكم، وقبل ظُهورِ العلامات الستِّ الآتية؛ لأن ظهورَها يُوجِبُ عدمَ قبول توبة التائبين.

قوله : «وَالدُّخَان»؛ أي: ظهور الدخان. «وَأَمْرَ الْعَامَّةِ»؛ أي: يومَ القيامة، فهو يَعُمُّ الناس كلَّهم.

«وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكُمْ»؛ أي: موته، فهو يخصُّه دون غيره.

الشرح المفصَّل للحديث

  أمر الله تعالى المؤمنين باغتنام الأعمار في طاعة الله، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمداومة عليها

فقال تعالى:

وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 

[آل عمران: 133]

وقال تعالى: 

سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

[الحديد: 21]

 حتى يكون المسلم مستعِدًّا للقاء الله - عزَّ وجلَّ - والاستعداد إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح؛ ولذلك جعل الله تعالى المسابقة إلى فعل الصالحات صفةً من صفات المؤمنين

قال تعالى: 

أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ 

[المؤمنون: 61]

 وهي من أجلِّ الطاعات، وأعظم القُربات إلى الله تعالى.

وفي الحديث يوجِّه النبيُّ إلى استغلال الأوقات فيما ينفع العباد، وبَذْلِها في مواطن الخير والصلاح، قبلَ أن لا يُقدَر عليها، أو يُحال بينه وبينها بمرض أو موت، أو ظهور هذه العلامات، وحينها لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ

قال تعالى:

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ 

[الأنعام: 158]

 فالإيمان بعد ظهور العلامات إنما وقع بعد المشاهدة، لذا؛ لا يَنفَعهم إيمانهم ولا توبتهم؛ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب، واختيار العبد، وهذا ما امتدح الله به أهل الإيمان، ورتَّب عليه أركان الإيمان، وأما الإيمان بعد المشاهَدة، فلا ينفع، لذا؛ فِرْعونُ حين أدركه الغرق وشاهد اليقين

  قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

[يونس:90]

 لكن إيمانه لم ينفعه

قال تعالى:

 آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

 [يونس:91]

 وذلك معنى قوله : «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»، فلا ينفع الكافرَ إيمانُه إذا رآها؛ أي: إذا أَسلَم بعد رؤية هذه الآيات، فإن إسلامه لا يَنفَعه، وكذلك المسلم العاصي إذا رأى هذه الآياتِ، لا تُقبَل منه توبة، ولا يُقبَل منه أيضًا أن يزداد في إيمانه بعمل الطاعات والقُربات، وعدم قبول التوبة، أو الانتفاع بالأعمال الصالحة لا يكون إلا بعد تمام هذه الآيات، "والمراد هذه الثلاث بأسرها

لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ 

[الأنعام: 158]

 طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابَّة الأرض، وقدَّم الطلوع وإن كان متأخِّرًا في الوقوع؛ لأن مَدَار عدم قبول التوبة عليه، وإن ضُمَّ خروج غيره إليه"[1].

وهذه العلامات هي:

(طلوع الشمس من مغربها): فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من المشرق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، خرجت من مغربها.

(والدجَّال): أي: خروجُ المسيح الدجَّال، وهي أعظم فتنةٍ منذ خَلَق الله الأرض، وقد حذَّر النبيُّ أمَّته من المسيح الدجَّال، وذكر لهم بعضًا من صفاته؛ عَنْ أَنَسٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ "كَافِرٌ"»[2].

(ودابَّة الأرض): وهي دابَّة تخرج عند فساد الناس، وتركهم لأوامر الله تعالى، في آخِر الزمان، وقبل قيام الساعة، فتُكلِّم الناس

قال تعالى:

وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ

  [النمل: 82]

 عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما،

قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ حَدِيثًا لَمْ أَنْسَهُ بَعْدُ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا، طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا، فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قَرِيبًا»

[3].

وزاد النبيُّ بعضًا من علامات الساعة في الحديث الآخَرِ، وهي: 

(الدُّخَان): أي: ظُهور الدُّخان

قال تعالى:

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ 10 يَغْشَى النَّاسَ ۖ هَٰذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ 11 رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ 12 أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ 13

[الدخان: 10-13]

 وقد ذَهَب جمع من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم (منهم: عليُّ بنُ أبي طالب، وابنُ عبَّاس، وعبدُ الله بنُ عمرٍو، وأبو هريرة، وزيدُ بنُ عليٍّ، والحسنُ، وابنُ أبي مَليكةِ، وغيرُهم) إلى أن الدخَان في الآية من أشراط الساعة، وهو لم يأتِ بعدُ، وأنه يَمكُث في الأرض أربعين يومًا يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمنُ فيُصيبه مثل الزكام، وأما الكافرُ والفاجر، فيَدخُل في أنوفهم، فيَثقُب مَسامِعَهم، ويُضيِّق أنفاسهم، وهو من آثار جهنَّم يوم القيامة[4].

(وأمر العامَّة): أي: يوم القيامة، فهو يَعُمُّ الناس كلَّهم.

(وخُوَيْصَة أحَدِكم): أي: موته، فهو يخصُّه دون غيره، والمعنى: اعملوا الصالحاتِ واشتغلوا بها قبل موت أحدكم، وقبل قيام الساعة، أو ظهور أشراطها، فلا تتمكَّنوا من الانتفاع بها، والمبادرة: المسارَعة بإدراك الشيء قبل فواته.

المراجع

  1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3451).
  2. رواه البخاريُّ (7131)، ومسلم (2933).
  3. رواه مسلم (2941).
  4. "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (16/ 130) بتصرُّف.


النقول

قال ابن بطال رحمه الله: "أصل الدَّجَل: الخَلْطُ، يُقال: دجَل إذا لبَّس وموَّه. و«الدجَّال»: فعَّال من أبنية المبالغة؛ أي: يَكثُر منه الكذب والتلبيس، وهو الذي يظهر في آخر الزمان، ويدَّعي الإلهية.. قوله: «بادروا بالأعمال ستًّا». معنى مبادرة الست بالأعمال: الانْكِماش في الأعمال الصالحة، والاهتمام قبل وقوعها، وتأنيث «الست»؛ لأنها دواهٍ ومصائب. أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت دهشتهم وشغلتهم عن الأعمال، أو سُدَّ عليهم باب التوبة وقَبول العمل.

و«أمر العامَّة»: يريد به الفتنة التي تعمُّ الناس، أو الأمر الذي يستبِدُّ به العوامُّ، ويكون من قِبَلهم. و«خويصة» تصغير خاصَّة؛ أي: الوقعة التي تخصُّ أحدكم، يريد بها الموت، أو ما تعلَّق الإنسان في نفسه وأهله وماله، فتشغله عن غيره"[1].

قال المظهريُّ رحمه الله: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا؛ أي: ستَّ آياتٍ، والمعنى: أَسرِعوا إلى الأعمال الصالحة قبل ظُهورِ الآيات الستِّ المذكورة؛ لأن ظهورَها يُوجِبُ عدمَ توبة التائبين؛ أي: عَدم قَبولها؛ لكونها مُلجِئةً إلى الإيمان، فلا يُثاب المكلَّفُ عند الإلجاء على عمله، فإذا انقطع الثوابُ، انقطع التكليف"[2].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ : «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكِمْ، أو أمرَ الْعَامَّةِ»، وفي الرواية الثانية: «الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ... إلى قوله: وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكِمْ» فذكر السِّتَّةَ في الرواية الأولى معطوفة بـ(أو) التي هي للتقسيم، وفي الثانية بالواو. قال هِشَامٌ: خَاصَّةُ أَحَدِكِمُ: الموتُ، وَخُوَيْصَةُ: تَصْغِيرُ (خَاصَّة)، وقال قتادةُ: أَمْرُ الْعَامَّةِ: القيامةُ"[3].

قال المناويُّ رحمه الله: "أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت أدهشت وأشغلت عن الأعمال؛ أو سُدَّ عليهم باب التوبة وقبول العمل. «طلوع الشمس من مغربها» فإنها إذا طلعت منه، لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ، «والدخان»؛ أي: ظهوره، «ودابة الأرض والدجال»؛ أي: خروجهما، سُمِّي به؛ لأنه خداع مُلبِس ويغطِّي الأرض بأتباعه من الدجل، وهو الخلط والتغطية، ومنه دِجْلةُ، نهر بغدادَ، منها غطَّت الأرض بمائها. «وخويصة أحدكم»، تصغير خاصَّة، بسكون الياء؛ لأن ياء التصغير لا تكون إلا ساكنة، والمراد: حادثة الموت التي تخصُّ الإنسان، وصغِّرت لاستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما، وقيل: هي ما يخصُّ الإنسان من الشواغل المقلِقة من نفسه وماله وما يهتمُّ به. «وأمر العامَّة»: القيامة؛ لأنها تعُمُّ الخلائق، أو الفتنة التي تُعمِي وتُصِمُّ، أو الأمر الذي يستبِدُّ به العوامُّ، وتكون من قِبَلهم دون الخواصِّ"[4].

قال ابن بطال رحمه الله: "هذه الأحاديث حُجَّة لمذهب أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنه شخصٌ بعَينه ابتلى اللهُ تعالى به عبادَه، وأَقدَره على أشياءَ من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميِّت الذي يَقتُله، وظهور زهرة الدنيا والخِصب معه، وابتاع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرضَ أن تُنبِت فتُنبِت، فيقع كلُّ ذلك بقُدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يَقدِر على قتل ذلك الرجل ولا غيرِه، ويَقتُله عيسى عليه السلام، ويثبِّت الله الذين آمنوا. وفتنتُه عظيمة جدًّا، تُدهِش العقول، وتحيِّر الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يَمكُث بحيث يتأمَّل الضعفاء دلائلَ الحدوث والنقص، فيصدِّقه من يصدِّقه في هذه الحالة؛ ولهذا حذَّرت الأنبياءُ صلوات الله عليهم من فتنته، ونبَّهوا على نقصه ودلائل إبطاله. أما أهل التوفيق، فلا يغترُّون ولا ينخدعون بما فيه؛ لِما ذكرنا من الدلائل المكذِّبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله. «وَدَابَّةُ الأَرْضِ»: أُضيفت إلى الأرض مع أن الأصل في الدابَّة ما تَدِبُّ على الأرض؛ للإشارة أن خلقها ليس بطريق التوالد كبقيَّة الدوابِّ المعروفة"[5].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "والمراد هذه الثلاث بأسرها 

لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ 

[الأنعام: 158]

 طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابَّة الأرض، وقدَّم الطلوع وإن كان متأخِّرًا في الوقوع؛ لأن مَدَار عدم قبول التوبة عليه، وإن ضُمَّ خروج غيره إليه"[6].

المراجع

  1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3448، 3449).
  2. "المفاتيح في شرح المصابيح" للْمُظْهِريِّ (5/ 406).
  3. "شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 87).
  4. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 194).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3451).
  6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3451).


غر يب الاحديث

شَبَبةٌ: يُقَالُ: شَبَّ يَشِبُّ شَبَابًا، فَهُوَ شَابٌّ، وَالْجَمْعُ شَبَبَةٌ وشُبَّانٌ [1].


المراجع

    1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 438).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يقول مالكُ بنُ الحُوَيْرثِ رضي الله عنه: (أَتَينا النبيَّ ): وكانت وِفادةُ بني الليث، رهطِ مالكٍ، في سنة الوفود سنةَ تسع، قبل غزوة تبوك. (ونحن شَبَبةٌ مُتقارِبون)؛ أي: في السنِّ، وقيل: في العلم أو القراءة. (فأقمنا عنده عشرين ليلةً): يتلقَّوْن العلم والحديث، فلمَّا طال مُكْثُهم، أشفق عليهم ؛ (فظنَّ أنَّا اشتقنا أهْلَنا)؛ أي: ظن أنهم اشتاقوا أهليهم، ووجدوا في أنفسهم من الشَّوق لهم. (وسألَنا عمَّن ترَكْنا في أهلنا، فأخبرناه)؛ أي: فسألهم ﷺ عن أهلهم، وعمَّن تركوا منهم، فأخبروه. (وكان رفيقًا رحيمًا)؛  

    قال تعالى: 

    ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ 

    [التوبة: ١٢٨].

    فقال : «ارجعوا إلى أهليكم، فعلِّموهم ومُروهم»: نَدَبهم ﷺ للرجوع إلى أهليهم لنَقْل ما تعلَّموه إلى أهلهم، وتبليغهم الدعوةَ والرسالة. «وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»: فيجب اتِّباع النبيِّ ﷺ  في جميع أموره في الصلاة؛ من كيفياتها وهيئته فيها، وما يُقال فيها، وما يُبطلها، وسائر أحكامها. «وإذا حضَرتِ الصلاةُ، فليؤذِّنْ لكم أحدُكم، ثم لِيَؤُمَّكم أكبَرُكم»؛ أي: وإذا دخل وقت الصلاة، فليؤذِّن أحدكم، وليؤمَّكم أكبركم سنًّا إذا استويتُم في القراءة، وإلا فالأقرأُ يُقدَّم على الأَسنِّ في الإمامة للصلاة.


    الشرح المفصَّل للحديث

    هذا الحديث من دلائل رحمة النبيِّ ﷺ وشَفَقته بأُمَّته، وفيه بيانُ اهتمام النبيِّ ﷺ بأمور الدين عامَّةً، وبالصلاة خاصَّةً؛ فإن النبيَّ ﷺ لَمَّا طال عنده مقام هؤلاء الشباب، ومكثوا قَدْر عشرين ليلةً بَّأيامها، أشفق عليهم؛ لِما يجدون في أنفسهم من الشَّوق، وعلى أهلهم فيما يشعُرون به من الوَحشة؛ فلهذا سألهم ﷺ عن أهلهم، وعمَّن تركوا منهم، فلمَّا أخبروه، نَدَبهم ﷺ إلى الرجوع إلى أهلهم؛ فإنه ﷺ كان رفيقًا رحيمًا، وقد قال اللهُ - عزَّ وجلَّ - فيه:

    ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾

    [آل عمران: 159]، 

    وقال:

     ﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾  

    [التوبة: 128].

    وإنما أمرهم النبيُّ ﷺ بالرجوع إلى أهلهم؛ لأن ذلك كان بعد فتح مكَّةَ؛ إذ انقطعت الهجرة بفتح مكَّةَ؛ لقوله ﷺ في حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:

    قال رسول الله ﷺ:

    «لا هجرةَ بعد الفتح؛ ولكنْ جهادٌ ونيةٌ، وإذا استُنْفِرتم فانفِروا»

    [1]،

    فصار الْمُقام بالمدينة اختياريًّا، فمَن شاء أقام، ومَن شاء عاد إلى قومه بعد أن يتعلَّم ما يحتاج إليه من العلم والدين، ويعلِّمه قومه [2].

    وقوله: «فعلِّموهم ومُروهم» دليلٌ على أن التعليم وحْدَه ليس كافيًا؛ بل يجب الأمر كذلك؛

    لقوله تعالى:

    ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا  ﴾

    [طه: 132]،

    وعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:

    «كلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته؛ فالإمام راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والرجُل في أهله راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتها، والخادمُ في مال سيده راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته»

    [3]،

    فالأمر لا يقتصر على الصلاة فحسبُ؛ بل لا بدَّ من الأمر والمتابَعة كذلك [4].

    وقوله ﷺ: «وصلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» قاعدةٌ أصيلةٌ في الصلاة وأحكامها؛ فإنه يوجب اتِّباع النبيِّ ﷺ في جميع أموره في الصلاة؛ من كيفياتها وهيئته فيها، وما يُقال فيها، وما يُبطلها، وما يوجب السجود للسَّهْوِ فيها.

    وما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة والصيام والحجِّ، وما دعا إلى فعله؛ كقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب [5].

    وإنما كانت أفعالُه ﷺ في الصلاة محمولةً على الوجوب؛ لأمرَين:

    أوَّلهما: قوله هنا: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلي».

    والثاني: أن ذِكْر الصلاة في القرآن مجمَلٌ باعتبار كيفيتها، فيجب تنزيلُ فِعل الرسول ﷺ على البيان، إلا أن يدُلَّ دليلٌ خاصٌّ في فعل خاصٍّ على أنه غيرُ واجب [6].

    ولا يقتصر الأمر في وجوب اتِّباعه في العزيمة فحسبُ؛ بل يجب اتِّباعه كذلك في الرُّخَص التي رخَّصها لعباده؛ كالصلاة جالسًا أو مُضْطَجعًا للمريض، وكالتخفيف في الصلاة؛ فإن التخفيف أمرٌ منضبطٌ بالشرع لا يجوز الخروج عنه بحال؛ "فإذا أمرهم أن يُصلوا بصلاته وأمرهم بالتخفيف، عُلِم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمَر به. يوضِّح ذلك أنه ما مِن فِعل في الغالب إلا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللغة يُرجَع فيه إليه، وليس من الأفعال العُرفية التي يُرجع فيها إلى العُرف؛ كالحِرز، والقَبض، وإحياء الموات، والعبادات يُرجَع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوعُ في ذلك إلى عُرْف الناس وعوائدهم في مسمَّى التخفيف والإيجاز، لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا لا ينضبط، ولهذا؛ لَمَّا فَهِم بعضُ مَن نكَّس الله قلبه أن التخفيفَ المأمورَ به هو ما يمكن من التخفيف، اعتقد أن الصلاة كلما خفَّت وأُوجِزت كانت أفضلَ، فصار كثيرٌ منهم يمرُّ فيها مرَّ السهم، ولا يَزيد على «الله أكبر» في الركوع والسجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربما ظن الاقتصارَ على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث! [7].

    وقوله ﷺ: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي» هذا الخطاب وقَع لمالك بن الحُوَيرث ﷺ ومَن كان معه، يوجب عليهم أن يُصلُّوا كما رأَوْا رسول الله ﷺ، وهذا الوجوب على جميع الأمَّة بشرط أن يَثبُت عنه ﷺ استمراره على الفعل المعيَّن، فيكون واجبًا على أُمته، أما ما لم يثبُت استمراره عليه، فليس بواجب [8].

    وقوله ﷺ: «ليؤذِّن لكم أحدُكم، ثم ليؤمَّكم أكبركم» الأصلُ في الإمامة أن يُقدَّم الأفقهُ والأقرأُ على الأسنِّ؛ كما روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاريِّ، قال:

    قال رسول الله ﷺ:

    «يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً، فأعلمُهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً، فأقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمُهم سِلْمًا، ولا يؤمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سُلطانه، ولا يقعُد في بيته على تَكرِمتِه إلا بإذنه»

    [9]،

    ولِما رواه عمرو بن سَلِمة قال: «كنا بماء ممرِّ الناس، وكان يمرُّ بنا الركبانُ فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجُل؟ فيقولون: يزعُم أن الله أرسله، أوحى إليه - أو: أوحى الله بكذا - فكنتُ أحفظ ذلك الكلام، وكأنما يَقَرُّ في صدري، وكانت العرب تُلوَّم بإسلامهم الفتحَ، فيقولون: اتركوه وقومَه؛ فإنه إن ظهَر عليهم فهو نبيٌّ صادق، فلمَّا كانت وقعة أهل الفتح، بادَر كلُّ قوم بإسلامهم، وبدَر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدِم قال: جئتكم واللهِ من عند النبيِّ ﷺ حقًّا، فقال: «صَلُّوا صلاةَ كذا في حين كذا، وصَلُّوا صلاةَ كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاةُ فليؤذِّنْ أحدُكم، وليؤمَّكم أكثرُكم قرآنًا»، فنظروا فلم يكنْ أحدٌ أكثرَ قرآنًا مني؛ لِما كنتُ أتلقَّى من الركبان، فقدَّموني بين أيديهم وأنا ابن ستِّ أو سبع سنين» [10].

    وإنما أمر النبيُّ ﷺ هنا بأن يؤمَّهم أَسَنُّهم؛ لِما علم من أنهم قد استوَوْا جميعًا في الحفظ والفَهْم، فقد مكَثوا معًا تلك المدَّةَ مع النبيِّ ﷺ، فاستدلَّ النبيُّ ﷺ بتقارُب المدَّة والأعمار على استواء الفَهْم والحفظ؛ بدليل قول مالك في رواية مسلم: (وكانا مُتقارِبَين في القراءة) [11]، وإن كان قد يختلف بعضهم في الاستيعاب؛ لكنَّ النبيَّ ﷺ حكم بالمطَّرِد الأعمِّ؛ ليكون ذلك قاعدةً لهم، ولِمَن حالُه كحالهم [12].

    و"لا خلافَ بين العلماء أنهم إذا استوَوْا في القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أَوْلى بالتقديم، وأن الإمامة تُستَحقُّ بالسنِّ إذا كان معه عِلم وفضل، وأما إن تعرَّى السنُّ من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير في الإمامة" [13].

    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (2783)، ومسلم (1353).

    2. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 236).

    3. رواه البخاريُّ (2409)، ومسلم (1829).

    4. انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 148).

    5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (10/ 345).

    6. انظر: "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (2/ 167).

    7. "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 139)

    8. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 237).

    9. رواه مسلم (673).

    10. رواه البخاريُّ (4302). 

    11. رواه مسلم (674).

    12. "شرح صحيح البخاري" لابن بطّال (2/ 307).

    13. "شرح صحيح البخاري" لابن بطّال (2/ 307).




    النقول

    قال ابن حجر رحمه الله: " وفي الحديث فضلُ الهجرة والرِّحلة في طلب العلم، وفضلُ التّعليم، وما كان عليه ﷺ من الشَّفَقة والاهتمام بأحوال الصلاة وغيرها من أمور الدّين، وإجازة خبر الواحد، وقيام الحُجَّة به" [1].

    قال النوويُّ رحمه الله: "فيه الحثُّ على الأذان والجماعة، وتقديم الأكبر في الإمامة إذا استَوْوا في باقي الخصال، وهؤلاء كانوا مُسْتَوين في باقي الخصال؛ لأنهم هاجَروا جميعًا، وأسلموا جميعًا، وصَحِبوا رسول اللّه ﷺ ولازَموه عشرين ليلةً، فاستَووا في الأخذ عنه، ولم يبقَ ما يقدَّم به إلّا السّنُّ، واستدلَّ جماعة بهذا على تفضيل الإمامة على الأذان؛ لأنه ﷺ قال: «يؤذِّن أحدكم»، وخصَّ الإمامة بالأكبر، ومن قال بتفضيل الأذان، وهو الصّحيح المختار، قال: إنّما قال: «يؤذّن أحدكم»، وخصَّ الإمامة بالأكبر؛ لأن الأذان لا يحتاج إلى كبير علم؛ وإنّما أعظم مقصوده الإعلام بالوقت، والإسماع، بخلاف الإمام، واللّه أعلم" [2].

    قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ونحن شَبَبة»: جمع (شابٍّ)، زاد في الأدب من طريق ابن عُليَّة عن أيُّوبَ: «شَبَبة متقاربون»، والمراد تقاربُهم في السّنِّ؛ لأن ذلك كان في حال قدومهم. قوله: «نحوًا من عشرين»، في رواية ابن عُليَّة المذكورة الجزم به، ولفظه: «فأقمنا عنده عشرين ليلةً»، والمراد بأيّامها، ووقع التّصريح بذلك في روايته في خبر الواحد من طريق عبد الوهّاب عن أيّوب. قوله: «رحيمًا فقال: لو رجعتم»، في رواية ابن عُليَّة وعبد الوهّاب: «رحيمًا رقيقًا فظنّ أنّا اشتقنا إلى أهلنا وسألَنا عمَّن تركْنا بعدنا، فأخبرناه، فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلِّموهم»، ويمكِن الجمع بينهما بأن يكون عَرَض ذلك عليهم على طريق الإيناس بقوله: «لو رجعتم»، إذ لو بدأهم بالأمر بالرّجوع لأمكن أن يكون فيه تنفير، فيُحتمل أن يكونوا أجابوه بنعم، فأمرهم حينئذ بقوله: «ارجعوا»، واقتصار الصّحابيِّ على ذكر سبب الأمر برجوعهم بأنّه الشّوق إلى أهليهم دون قصد التّعليم هو لِما قام عنده من القرينة الدّالَّة على ذلك، ويمكِن أن يكون عُرِف ذلك بتصريح القول منه ﷺ وإن كان سبب تعليمِهم قومهمَ أشرفَ في حقِّهم؛ لكنّه أخبر بالواقع ولم يتزيَّن بما ليس فيهم، ولَمّا كانت نيّتهم صادقةً، صادَف شوقُهم إلى أهلهم الحظَّ الكامل في الدّين، وهو أهليَّة التّعليم؛ كما قال الإمام أحمدُ في الحرص على طلب الحديث: حظٌّ وافَق حقًّا" [3].

    قال ابن القيِّم رحمه الله: «فإذا أمرهم أن يُصلوا بصلاته وأمرهم بالتخفيف، عُلِم بالضرورة أن الذي كان يفعله هو الذي أمَر به. يوضِّح ذلك أنه ما مِن فِعل في الغالب إلا وقد يُسمَّى خفيفًا بالنسبة إلى ما هو أطول منه، ويُسمَّى طويلًا بالنسبة إلى ما هو أخفُّ منه، فلا حدَّ له في اللغة يُرجَع فيه إليه، وليس من الأفعال العُرفية التي يُرجع فيها إلى العُرف؛ كالحِرز، والقَبض، وإحياء الموات، والعبادات يُرجَع إلى الشارع في مقاديرها وصفاتها وهيئاتها، كما يُرجَع إليه في أصلها، فلو جاز الرجوعُ في ذلك إلى عُرْف الناس وعوائدهم في مسمَّى التخفيف والإيجاز، لاختلفت أوضاع الصلاة ومقاديرها اختلافًا مُتباينًا لا ينضبط، ولهذا؛ لَمَّا فَهِم بعضُ مَن نكَّس الله قلبه أن التخفيفَ المأمورَ به هو ما يمكن من التخفيف، اعتقد أن الصلاة كلما خفَّت وأُوجِزت كانت أفضلَ، فصار كثيرٌ منهم يمرُّ فيها مرَّ السهم ولا يَزيد على «الله أكبر» في الركوع والسجود بسرعة، ويكاد سجوده يسبق ركوعه، وركوعه يكاد يسبق قراءته، وربما ظن الاقتصارَ على تسبيحة واحدة أفضل من ثلاث!» [4].

    قال ابن بطَّال رحمه الله: «لا خلافَ بين العلماء أنهم إذا استوَوْا في القراءة والفقه والفضل، فالأسنُّ أَوْلى بالتقديم، وأن الإمامة تُستَحقُّ بالسنِّ إذا كان معه عِلم وفضل، وأما إن تعرَّى السنُّ من العلم والقراءة والفضل، فلا حظَّ للكبير في الإمامة» [5].

    قال ابن حجر رحمه الله: "حديث مالكِ بنِ الحُويرث ليس فيه التّصريح باستواء المخاطَبين في القراءة، وأجاب الزَّيْنُ بنُ المنير وغيره بما حاصله أنّ تساويَ هجرتهم وإقامتهم وغرضهم بها، مع ما في الشّباب – غالبًا - من الفَهم، ثمّ توجُّه الخطاب إليهم بأن يعلِّموا من وراءهم من غير تخصيص بعضهم دون بعض، دالٌّ على استوائهم في القراءة والتّفقُّه في الدّين" [6].

    قال النوويُّ رحمه الله: "وفي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ: «يَؤُمُّ الْقَومَ أَقْرَؤُهم لِكِتَابِ اللَّه،ِ فَإِنْ كانوا في الْقِرَاءَةِ سَواءً فَأَعْلَمُهم بِالسُّنَّةِ»: فيه دليلٌ لمن يقول بتقديم الأقرأ على الأفقه، وهو مذهب أبي حنيفةَ وأحمدَ وبعض أصحابنا، وقال مالك والشّافعيُّ وأصحابهما: الأفقه مقدَّم على الأقرأ؛ لأن الّذي يحتاج إليه من القراءة مضبوط، والّذي يحتاج إليه من الفقه غير مضبوط، وقد يَعرِض في الصلاة أمر لا يقدر على مراعاة الصّواب فيه إلّا كامل الفقه. قالوا: ولهذا قدَّم النّبيُّ ﷺ أبا بكر - رضي اللّه عنه - في الصلاة على الباقين مع أنّه ﷺ نصَّ على أنّ غيره أقرأُ منه، وأجابوا عن الحديث بأنّ الأقرأ من الصّحابة كان هو الأفقهَ؛ لكنّ في قوله: «فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسّنَّة»: دليل على تقديم الأقرأ مطلقًا، ولنا وجه اختاره جماعة من أصحابنا أنّ الأَورَع مقدَّم على الأفقه والأقرأ؛ لأن مقصود الإمامة يحصل من الأورع أكثرَ من غيره" [7]. 

    قال ابن حجر رحمه الله: "قَولُهُ: «ولْيَؤُمَّكم أَكْبَرُكم» ظاهرُه تقديم الأكبر بكثير السّنِّ وقليله، وأمّا من جوَّز أن يكون مراده بالكِبَر ما هو أعمُّ من السّنِّ أو القَدْر؛ كالتّقدُّم في الفقه والقراءة والدّين، فبعيدٌ؛ لِما تقدَّم من فَهم راوي الخبر، حيث قال للتّابعيِّ: فأين القراءة؟ فإنّه دالٌّ على أنّه أراد كِبَر السّنِّ، وكذا دعوى من زعم أنّ قوله: «وليؤمّكم أكبركم» معارَض بقوله: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم»؛ لأن الأول يقتضي تقديم الأكبر على الأقرأ، والثّاني عكسه، ثمّ انفصل عنه بأنّ قصّة مالك بن الحويرث واقعةُ عَين قابلة للاحتمال، بخلاف الحديث الآخر، فإنّه تقرير قاعدة تفيد التّعميم. قال: فيُحتمل أن يكون الأكبر منهم كان يومئذ هو الأفقهَ. انتهى. والتّنصيصُ على تقاربهم في العلم يَرِد عليه، فالجمع الّذي قدّمناه أولى، واللّه أعلم" [8].

    قال الشوكاني رحمه الله: "الحديث يدلُّ على وجوب جميع ما ثبت عنه ﷺ في الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكِّد الوجوبَ كونُها بيان لمجمَل قوله:

     ﴿أَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ

    [الأنعام: 72]،

    وهو أمر قرآنيٌّ يُفيد الوجوب، وبيان المجمَل الواجب واجب كما تقرَّر في الأصول، إلّا أنّه ثبت أنّه ﷺ اقتصر في تعليم المسيء صلاتَه على بعض ما كان يفعله ويُداوم عليه، فعَلِمنا بذلك أنّه لا وجوب لِما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرّر في الأصول بالإجماع، ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يُذكَر في حديث المسيء، فمنهم من قال: يكون قرينةً بصرف الصّيغة إلى النَّدب، ومنهم من قال: تبقى الصِّيغة على الظّاهر الّذي تدلُّ عليه، ويؤخَذ بالزّائد فالزّائد" [9].

    قال ابن الطيب رحمه الله: "ما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة والصيام والحجِّ، وما دعا إلى فعله؛ كقوله: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي»، فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب" [10].

    قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «أحدكم» يدلُّ على أنّه لا يُعتبَر السّنُّ والفضل في الأذان كما يُعتبَر في إمامة الصلاة. وقد استدلَّ بهذا من قال بأفضليّة الإمامة على الأذان؛ لأن كون الأشرف أحقَّ بها مُشعِر بمزيد شرف لها. وفي لفظ للبخاريِّ: «فإذا أنتما خرجتما فأذِّنا» ولا تعارُض بينه وبين ما في حديث الباب؛ لأن المراد بقوله: «أذّنا»؛ أي: من أحبَّ منكما أن يؤذِّن فليؤذّن؛ وذلك لاستوائهما في الفضل. والحديث استدلَّ به من قال بوجوب الأذان؛ لما فيه من صيغة الأمر، وقد تقدَّم الخلاف في ذلك" [11].


    المراجع

    1. "فتح الباري" لابن حجر (2/172).

    2. "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 175).

    3. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 171).

    4. "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 139).

    5. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (2/ 307).

    6. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 170).

    7. "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 172، 173).

    8. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 171، 172).

    9. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/ 203، 204).

    10. "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (10/ 345).

    11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/39، 40).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    روى أَنَسُ بنُ مالكٍ رضى الله عنه عن النبيِّ أنه قال: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الكَذَّابَ» ففتنته عظيمة جدًّا، لا مثيل لها؛ فليس بين خَلْقِ آدَمَ إلى قيام الساعة فتنةٌ أكبرُ من فتنة المسيح الدجَّال.

    قوله : «أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ "كَافِرٌ"»؛ أي: إنه أَعْوَرُ، وهو وصف مُهِينٌ له حيث يدَّعِي الرُّبوبية؛ فكيف يكون الربُّ أعورَ؟! ومكتوبٌ بين عينيه "كافر"، يقرؤها المسلم حتى لو كان أُمِّيًّا، ولايقرؤها الكافر حتى لو كان قارئًا. 

    الشرح المفصَّل للحديث

    إن فتنة الدجَّال فتنة عظيمة جدًّا، لا مَثِيلَ لها، لدرجة أنه أعظمُ فتنةٍ في تاريخ البشر؛ فليس بين خَلْقِ آدَمَ إلى قيام الساعة فتنةٌ أكبرُ من فتنة المسيح الدجَّال؛ فعَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ»[1]؛ وذلك بسبب ما يَخلُق الله معه من الخَوارِق العظيمة التي تَبهَر العقول، وتُحيِّر الألباب؛ فقد ورد أن معه جنَّةً ونارًا، جنَّتُه نارٌ، ونارُه جنَّة، وأن معه أنهارَ الماء، وجبالَ الخبز، ويأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرضَ أن تُنبِت فتُنبِت، وتَتبَعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسُرعة كسرعة الغَيث استدبرته الريح، إلى غير ذلك من الخوارق، وكلُّ ذلك جاءت به الأحاديث الصحيحة.

    وقد أَرشَد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى ما يَعصِمها من فتنة المسيح الدجَّال؛ فقد ترك أمَّته على الْمَحَجَّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يَزِيغ عنها إلا هالك، وإن النبيَّ ﷺ لم يَدَع خيرًا إلَّا دلَّ أمَّته عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه.

    ومن أعظم ما حذَّر منه ﷺ: فتنةُ المسيح الدجَّال؛ لأنها أعظم فتنة تواجهها أمَّته ﷺ حتى قيام الساعة، وكان كلُّ نبيٍّ يُنذِر أمَّتَه الدجَّالَ، واختُصَّ النبيُّ ﷺ بزيادة التحذير والإنذار، فبيَّن الله له كثيرًا من صفات الدجَّال ليُحذِّرَ أمَّته؛ حيث إنه خارجٌ في هذه الأمَّة لا محالة؛ لأنها آخِرُ الأمم، ولأن النبيَّ ﷺ خاتم النبيِّين.

    وقد حذَّر الأنبياءُ - صلوات الله عليهم - من فتنته، ونبَّهوا على نقصه ودلائل إبطاله؛ فالمؤمنون لا يغترُّون ولا ينخدعون بالدجَّال؛ لِما سبق لهم من العلم بحاله، ورؤيتهم لدلائل تكذيبه؛ فقد وصفه النبيُّ ﷺ في أحاديثَ كثيرةٍ، وَصَفَ هيئتَه وأحوالَه.

    وخروجُ الدجَّال هو من علامات الساعة الكبرى، وقد أرشد النبيُّ ﷺ المؤمنين أن يبادروا بالأعمال الصالحة قبل ظهور هذه الفتن؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ»[2]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكُمْ»[3].

    "والذي يترجَّح من مجموع الأخبار أن خروج الدجَّال أوَّلُ الآيات العظام المؤذِنة بتغيير الأحوال العامَّة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى - عليه السلام - وأن طلوع الشمس من مغربها هو أوَّل الآيات العظام المؤذِنة بتغيير أحوال العالم العُلويِّ، وينتهي ذلك بقيام الساعة[4].

    وأصل الدَّجَل: الخَلْطُ، يُقال: دجَل إذا لبَّس وموَّه. والدجَّال: فعَّال من أبنية المبالغة؛ أي: يَكثُر منه الكذب والتلبيس، وهو الذي يَظهَر في آخر الزمان، ويدَّعي الإلهية، وسُمِّي به؛ لأنه خدَّاع مُلبِس، ويغطِّي الأرض بأتباعه من الدَّجَل، وهو الخلط والتغطية[5].

    أما معنى المسيح، فقد ذكر أبو عبد الله القرطبيُّ ثلاثةً وعشرين قولاً في اشتقاق هذا اللفظ[6]، وذكر الفيروز آبادي خمسين قولاً؛ قال: "ومنه: الْمَسيحُ بنُ مريَمَ، وذَكَرْتُ في اشْتقاقِه خمسينَ قَوْلاً في شَرْحِي لِصَحيح البُخاريِّ وغيرِهِ"[7]. ويُطلَق المسيحُ على الصِّدِّيق، وعلى الضِّلِّيل الكذَّاب؛ فالمسيحُ عيسى بنُ مريمَ - عليه السلام – الصِّدِّيق، والْمَسِيح الدجَّال الضِّلِّيل الكذَّاب؛ فخَلَق الله الْمَسِيحَيْنِ، أحدُهما ضِدُّ الآخر؛ فعيسى - عليه السلام - مَسِيح الهُدى، يُبْرِئ الأَكْمَهَ والأَبرَص، ويُحيي الموتى بإذن الله، والدجَّال – لعنه الله – مَسِيح الضلالة، يَفتِن الناس بما يُعطاه من الآيات؛ كإنزال المطر، وإحياء الأرض بالنبات، وغيرهما من الخوارق.

    وسُمِّي الدجَّال مَسِيحًا، قيل: لأن إحدى عَيْنَيه ممسوحة، أو لأنه يَمسَح الأرض في أربعين يومًا، والقول الأول هو الراجح؛ لما جاء في الحديث: «الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، ثُمَّ تَهَجَّاهَا (ك ف ر) يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ»[8].

    وفي هذا الحديث يروي أنسُ بنُ مالكٍ – رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ "كَافِرٌ"» وفي رواية: «وَمَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ك ف ر»[9].

    وهذا الحديث من الأحاديث الكثيرة التي يصف النبيُّ ﷺ فيها الدجَّال، ويُنذر أمَّته حتى لا ينخدع به المؤمنون، وفي هذا الحديث أنه أعورُ، ويدَّعي الربوبية، وأنه مكتوبٌ بين عينيه "كافر".

    فيقول ﷺ: «مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلَّا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الكَذَّابَ، أَلا إِنَّهُ أَعْوَر»، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة اختلاف وصف عينيه بالعَوَر؛ ففي بعضها وصف عينه اليُمنى بالعَوَر، وفي بعضها وصف عينه اليُسرى بالعَور، وقد جمع بعض أهل العلم بين هذه الروايات؛ "وعلى هذا تجتمع رواية أعور العين اليُمنى مع أعور العين اليُسرى؛ إذ كلُّ واحدة منهما بالحقيقة عوراءُ؛ إذ الأعور من كلِّ شيء الْمَعيب، ولا سيَّما بما يختصُّ بالعين، وكلا عينَيِ الدجَّال معيبةٌ عوراءُ، فالممسوحة والمطموسة والطافئة بالهمز عوراء حقيقةً، والجاحظة التي كأنها كوكب وهى الطافية - بغير همز - معيبة عوراء لعَيبها، فكلُّ واحدة منهما عوراء، إحداهما بذَهابها، والأخرى بعَيبها"[10].

    وعليه؛ فكلتا عينَيِ الدجَّال معيبةٌ عَوْراءُ، إحداهما بذَهابها، والأخرى بعَيبها.

    قوله ﷺ: «وَإِنَّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ "كَافِرٌ"»: أما الكتابة، فأَشكَل أنه كيف مكتوب بين عينيه كافر، ويقرؤها المؤمن ولو كان أُمِّيًّا، ولا يقرؤها الكافر، ولو كان قارئًا. والجواب أن هذه الكتابة حقيقية على ظاهرها، ولا يُشكِل رؤيةُ بعض الناس لهذه الكتابة دون بعض، وقراءةُ الأمِّي لها؛ "وذلك أن الإدراك في البَصَر يَخلُقه الله للعبد كيف شاء، ومتى شاء، فهذا يراه المؤمن بعَين بَصَره، وإن كان لا يعرف الكتابة، ولا يراه الكافرُ، ولو كان يَعرِف الكتابةَ، كما يرى المؤمنُ الأدلَّة بعَين بصيرته، ولا يراها الكافرُ، فيَخلُق الله للمؤمن الإدراك دون تعلُّم؛ لأن ذلك الزمانَ تَنخرِق فيه العاداتُ في ذلك"[11].

    و"الصحيحُ الذي عليه المحقِّقون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابةٌ حقيقية، جعلها الله آيةً وعلامةً من جُملة العلامات القاطعة بكُفره وكَذِبه وإبطالِه، يُظهِرُها الله لكلِّ مسلم، كاتبٍ وغيرِ كاتب، ويُخفيها عمَّن أراد شَقاوتَه وفِتنتَه، ولا امتناع في ذلك"[12]. 

    وخالصةُ القول في الجواب عن هذا الإشكال: أنّ الله على كلِّ شيء قدير؛ فهو قادرٌ على أن يُريَ هذه الكتابة بعض الناس دون بعض، وقادر على أن يجعل الأمِّيَّ يقرؤها.

    والأحاديث في وصف الدجَّال متكاثرة، للتحذير من شرِّه، وتعريف الناس به، فإذا خرج في آخر الزمان، عَرَفه المؤمنون بصفاته التي أخبر بها النبيُّ ﷺ، فلم يُفتنوا به، وهاكَ بعضَ الأحاديث الصحيحة التي تتحدَّث عنه وعن صفاته:

    عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: لا وَاللَّهِ، مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعِيسَى أَحْمَرُ؛ وَلَكِنْ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ، سَبْطُ الشَّعَرِ، يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ، يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً، أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ، فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ، فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ، جَعْدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيْنِهِ اليُمْنَى، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ، وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ، شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ، هَلَكَ فِي الجَاهِلِيَّةِ[13].

    وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ؟» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً، فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ، إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ، فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ، فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ، فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا» قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله،ِ وَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ، فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ، أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا، وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ، فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ، فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ، لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ، فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا، فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ، يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ، فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ، فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ، فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً، فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ، يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ»[14].

    وقوله: (فخفَّض فيه ورفَّع)؛ أي: حقَّر فيه وعظَّم فتنتَه؛ فمن تحقيره وهوانه على الله تعالى عَوَرُه، وأنه لا يَقدِر على قتل أحد إلا ذلك الرجل، ثم يَعجِز عنه، وأنه يضمحلُّ أمره، ويُقتل بعد ذلك هو وأتباعه، ومن تعظيم فتنته، والمحنة به: هذه الأمورُ الخارقة للعادة، وأنه ما من نبيٍّ إلا وقد أنذره قومه. قوله: (قَطَط)؛ أي: شديد جعودة الشعر، مباعد للجعودة المحبوبة.

    (اقدروا له قدره)، ذكر العلماء أن هذا حُكمٌ مخصوص بذلك اليوم، شَرَعه لنا صاحب الشرع. قالوا: ولولا هذا الحديثُ، ووُكِلنا إلى اجتهادنا، لاقتصرنا فيه على الصلوات الخمس عند الأوقات المعروفة في غيره من الأيام. ومعنى (اقدُروا له قَدْرَه): أنه إذا مضى بعد طلوع الفجر قدرُ ما يكون بينه وبين الظُّهر كلَّ يوم، فصلُّوا الظُّهر، ثم إذا مضى بعده قَدْرُ ما يكون بينها وبين العصر، فصلُّوا العصر، وإذا مضى بعد هذا قَدْرُ ما يكون بينها وبين المغرب، فصلُّوا المغرب، وكذا العشاءُ والصُّبح، ثم الظُّهر، ثم العصر، ثم المغرب، وهكذا حتى ينقضيَ ذلك اليوم، وقد وقع فيه صلواتُ سَنةٍ، فرائضُ كلُّها مُؤدَّاة في وقتها. أما الثاني الذي كشهر، والثالث الذي كجُمعة، فقياس اليوم الأول أن يقدَّر لهما كاليوم الأول على ما ذكرناه.

    وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنِ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لَا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّالِ رَجُلٌ قَصِيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ، لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ، وَلَا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ، فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ»[15].

    والأفحج: المتباعد ما بين الفَخِذين، الذي إذا مشى باعَد بين رجليه. والحجراء: الغائرة.

    وعَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَر، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ»[16]. وجُفَالُ الشَّعر؛ أي: كثيره.

    هذا وإن أحاديث خروج الدجَّال حُجَّة لمذهب أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنه شخصٌ بعَينِه، ابتلى اللهُ تعالى به عبادَه، وأَقدَره على أشياءَ من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميِّت الذي يَقتُله، وظهور زهرة الدنيا والخِصب معه، واتِّباع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرض أن تُنبِت فتُنبِت، فيقع كلُّ ذلك بقُدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يَقدِر على قتل ذلك الرجل ولا غيرِه، ويَقتُله عيسى عليه السلام، ويثبِّت الله الذين آمنوا[17].

    وإخبار النبيِّ ﷺ بالفتن والابتلاءات التي تقع في آخر الزمان؛ فيه توجيهٌ لأنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن – وأعظمُها فتنةُ الدجَّال - ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ ففي آخِر الزَّمان تكون فِتنٌ كثيرةٌ - كما أخبر النَّبيُّ ﷺ  - كقِطَع اللَّيل الـمُظلِم؛ «يُصبح الرَّجُل فيها مؤمنًا ويُمْسي كافرًا، حتَّى يَصير النَّاس إلى فُسْطاطين؛ فُسطاط إيمانٍ لا نِفاقَ فيه، وفُسطاط نفاقٍ لا إيمانَ فيه؛ فإذا كان ذاكم فانتظِروا الدَّجَّال من يومه، أو غَدِه»[18].

    وحتى تنجوَ أمَّة الإسلام من هذه الفتنة العظيمة؛ أرشد النبيُّ ﷺ أمَّته لتنجوَ من هذه الفتنة العظيمة بأمور؛ منها: التمسُّك بالإسلام، وبالكتاب والسنَّة، والإيمان الصادق، والتعوُّذ من فتنة الدجَّال، وحفظ فواتح سورة الكهف، ونحو ذلك.

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ رضى الله عنه يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[19].

    وكان النبيُّ ﷺ يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»[20].

    وكان ﷺ يدعو في كلِّ صلاةٍ: «اللهم إني أعوذُ بكَ من عذاب القبر، وأعوذُ بك مِن فِتنة المسيح الدَّجَّال، وأعوذُ بك مِن فتنة الْمَحْيا والممات، اللهم إني أعوذُ بك من المأثَم والْمَغْرَم»[21].

    المراجع

    1. رواه أحمد (16373)، قال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
    2. رواه مسلم (158).
    3. رواه مسلم (2947).
    4. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 294).
    5. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 194).
    6. "التذكرة" للقرطبيِّ (2/358).
    7. "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (ص: 225).
    8. رواه مسلم (2933).
    9. رواه مسلم (2933).
    10. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 522).
    11. "فتح الباري" لابن حجر (13 / 100).
    12. "شرح النوويِّ على مسلم" (18 /60).
    13. رواه البخاريُّ (3441).
    14. رواه مسلم (2937).
    15. رواه أحمد (23144)، وأبو داود (4320)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود".
    16. رواه مسلم (2934).
    17. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3451).
    18. رواه أبو داود في سننه (4242). وقال الألبانيُّ في صحيح سنن أبي داود (4242): صحيح.
    19. رواه النسائيُّ (5520)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
    20. رواه البخاريُّ (1311).
    21. رواه البخاريُّ (832)، ومسلم (589).


    النقول

    قال ابن بطال رحمه الله: "أصل الدَّجَل: الخَلْطُ، يُقال: دجَل إذا لبَّس وموَّه. و«الدجَّال»: فعَّال من أبنية المبالغة؛ أي: يَكثُر منه الكذب والتلبيس، وهو الذي يظهر في آخر الزمان، ويدَّعي الإلهية"[1].

    قال القاضي عياض  رحمه الله: "لكن يجمع بين الأحاديث، وتصحُّ الروايتان جميعًا بأن تكون المطموسَةُ والممسوحة، التي ليست بحجراءَ ولا ناتئة، هي العوراء الطافئة بالهمز، والعين اليُمنى على ما جاء هنا، وتكون الجاحظة والتي كأنها كوكبٌ، وكأنها نخاعة، هي الطافية بغير همز، العين الأخرى، فتجتمع الروايات والأحاديث ولا تختلف، وعلى هذا تجتمع رواية أعور العين اليمنى مع أعور العين اليسرى؛ إذ كلُّ واحدة منهما بالحقيقة عوراء؛ إذ الأعور من كلِّ شيء الْمَعيب، ولا سيَّما بما يختصُّ بالعين، وكلا عيني الدجَّال معيبة عوراء، فالممسوحة والمطموسة والطافئة بالهمز عوراء حقيقةً، والجاحظة التي كأنها كوكب وهى الطافية - بغير همز - معيبة عوراء لعيبها، فكلُّ واحدة منهما عوراء، إحداهما بذهابها، والأخرى بعيبها"[2].

    قال ابن بطال  رحمه الله: "هذه الأحاديث حُجَّة لمذهب أهل الحقِّ في صحَّة وجوده، وأنه شخصٌ بعَينه ابتلى اللهُ تعالى به عبادَه، وأَقدَره على أشياءَ من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميِّت الذي يَقتُله، وظهور زهرة الدنيا والخِصب معه، وابتاع كنوز الأرض له، وأمر السماء أن تُمطِر فتُمطِر، والأرضَ أن تُنبِت فتُنبِت، فيقع كلُّ ذلك بقُدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يُعجِزه الله تعالى بعد ذلك، فلا يَقدِر على قتل ذلك الرجل ولا غيرِه، ويَقتُله عيسى عليه السلام، ويثبِّت الله الذين آمنوا. وفتنتُه عظيمة جدًّا، تُدهِش العقول، وتحيِّر الألباب، مع سرعة مروره في الأرض، فلا يَمكُث بحيث يتأمَّل الضعفاء دلائلَ الحدوث والنقص، فيصدِّقه من يصدِّقه في هذه الحالة؛ ولهذا حذَّرت الأنبياءُ صلوات الله عليهم من فتنته، ونبَّهوا على نقصه ودلائل إبطاله. أما أهل التوفيق، فلا يغترُّون ولا ينخدعون بما فيه؛ لِما ذكرنا من الدلائل المكذِّبة له، مع ما سبق لهم من العلم بحاله"[3].

    قال القسطلانيُّ  رحمه الله: "قال في الفتح: والذي يترجَّح من مجموع الأخبار أن خروج الدجَّال أوَّلُ الآيات العظام المؤذِنة بتغيير الأحوال العامَّة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى - عليه السلام - وأن طلوع الشمس من مغربها هو أوَّل الآيات العظام المؤذنة بتغيير أحوال العالم العُلويِّ، وينتهي ذلك بقيام الساعة. وفي مسلم من طريق أبي زُرْعةَ عند عبد الله بن عمرِو بن العاصي رَفَعه: «أوَّل الآيات طُلوعُ الشمس من مغربها، وخروجُ الدابَّة على الناس ضُحًى، فأيُّهما خَرَجت قبل الأخرى، فالأخرى منها قريب». قال الحاكم أبو عبد الله: الذي يَظهَر أن طلوع الشمس يَسبِق خروج الدابَّة ثم تَخرُج الدابَّة في ذلك اليوم، أو الذي يَقرُب منه. قال الحافظ ابن حجر: والحِكْمةُ في ذلك أن عند طلوع الشمس من مغربها يُغلَق باب التوبة، فتَخرُج الدابَّة تميِّز المؤمن من الكافر تكميلًا للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأوَّل الآيات المؤذِنة بقيام الساعة النَّارُ تَحشُر الناس"[4].

    قال النوويُّ  رحمه الله: "الصحيحُ الذي عليه المحقِّقون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابةٌ حقيقية، جعلها الله آيةً وعلامةً من جُملة العلامات القاطعة بكُفره وكَذِبه وإبطالِه، يُظهِرُها الله لكلِّ مسلم، كاتبٍ وغيرِ كاتب، ويُخفيها عمَّن أراد شَقاوتَه وفِتنتَه، ولا امتناع في ذلك"[5]. 

    قال الملا علي القاري  رحمه الله: "والمراد هذه الثلاث بأسرها

      لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ 

    [الأنعام: 158]

     طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابَّة الأرض، وقدَّم الطلوع وإن كان متأخِّرًا في الوقوع؛ لأن مَدَار عدم قبول التوبة عليه، وإن ضُمَّ خروج غيره إليه"[6].

    قال المناويُّ  رحمه الله: "أمرهم أن يبادروا بالأعمال قبل نزول هذه الآيات؛ فإنها إذا نزلت أدهشت وأشغلت عن الأعمال؛ أو سُدَّ عليهم باب التوبة وقبول العمل. «طلوع الشمس من مغربها» فإنها إذا طلعت منه، لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ، «والدخان»؛ أي: ظهوره، «ودابة الأرض والدجال»؛ أي: خروجهما، سُمِّي به؛ لأنه خداع مُلبِس ويغطِّي الأرض بأتباعه من الدجل، وهو الخلط والتغطية، ومنه دِجْلةُ، نهر بغدادَ، منها غطَّت الأرض بمائها"[7].

    المراجع

    1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3448، 3449).
    2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 522).
    3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3451).
    4. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 294).
    5. "شرح النوويِّ على مسلم" (18 /60).
    6. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3451).
    7. "فيض القدير" للمناويِّ (3/ 194).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي أبو هُريرة رضي الله عنه: أن رسول الله  دخل المسجد فدخل رجلٌ، فصلَّى، فسلَّم على النبيِّ ، فردَّ وقال: «ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّكَ لم تُصَلِّ، فرجَعَ يُصَلِّي كما صَلَّى، ثم جاء، فسلَّمَ على النبيِّ ، فقال: «ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّكَ لم تُصَلِّ» ثلاثًا: وهذا دليلٌ على وجوب الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة.

    فقال الرجل: (والذي بعَثَكَ بالحقِّ ما أُحسِنُ غَيرَه، فعَلِّمْني): فأجابه النبيُّ  وبيَّن له ما تَصِحُّ به صلاته. فقال: «إذا قُمْتَ إلى الصلاةِ فكَبِّرْ»: يدلُّ على أن الشروع في الصلاة لا يكون إلا بالتكبير، وهو فرضٌ بلا خلاف. «ثم اقرَأْ ما تَيسَّرَ معَكَ منَ القرآنِ»: محمولٌ على الفاتحة؛ فإنّها متيسِّرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عجز عن الفاتحة.

    «ثم اركَعْ»: يدلُّ على وجوب الركوع. «حتى تَطمئِنَّ راكعًا»: يدلُّ على وجوب الاطمئنان في الركوع. «ثم ارفَعْ حتى تَعدِل قائمًا»: يدلُّ على وجوب الاعتدال قائمًا بعد الركوع. «ثم اسجُدْ»: يدلُّ على وجوب السجود. «حتى تَطمئِنَّ ساجِدًا»: يدلُّ على وجوب الاطمئنان في السجود. «ثم ارفَعْ حتى تَطمئِنَّ جالسًا»: يدلُّ على وجوب الرفع والجلوس بين السجدتين والاطمئنان في الجلوس. «وافعَلْ ذلك في صلاتِكَ كلِّها»: دليلٌ على وجوب تَكرار هذه الأفعال المذكورة، في كلِّ ركعة.

    الشرح المفصَّل للحديث

    هذا الحديث عُمدةٌ في أحاديث الأحكام في باب الصلاة؛ وذلك لِما بيَّن فيه النبيُّ من أركان الصلاة وواجباتها.

    ففي قول النبيِّ  للرجُل: «ارجع فصلِّ؛ فإنكَ لم تصلِّ» نَفيٌ لصحة صلاته التي صلَّاها؛ فإنها لا تُجزئ ولا تجوز، وإلا لَما أمره النبيُّ  بالإعادة؛ فالعمل لا يكون مَنفيًّا إلا إذا انتفى شيءٌ من واجباته، فإذا تحقَّقت الواجبات، لم يَصِحَّ نفْيُه بعد ذلك لانتفاء شيء من المستحَبَّات [1]

    وقد أمره النبيُّ  بالرجوع لإعادة الصلاة ثلاثَ مرَّات؛ لأن صلاته لم تصحَّ في واحدة منهنَّ، وإنما كان يأمره النبيُّ  بالإعادة دون أن يُبيِّن له الصلاة الصحيحة حتى سأله الرجُل عن ذلك؛ فربما لأن العلم قد تقدَّم بحدود الصلاة وواجباتها ومُبطلاتها، فربما ظنَّ النبيُّ  أنَّ هذا الرجُل عالمٌ بالصلاة وحدودها، إلا أنه لا يعمَل بعلمه؛ فلهذا أمره النبيُّ  بالإعادة، فلما حلَف الرجُل له أنه لا يُحسِنُ غيرَ ما يَفعَله، بيَّن له وفسَّر.

    وقيل: إنما فعل النبيُّ  ذلك؛ لأن الرجُل لما رجع إلى إعادة الصلاة فكأنما اغترَّ بما عنده من العلم عن أن يسأل النبيَّ ، فلهذا سكت النبيُّ عن البيان؛ زجْرًا له وتأديبًا، فلما سأل الرجُل وضَّح النبيُّ  له.

    وقيل: إن زيادةَ قَبول المتعلِّم لِما يُلْقى عليه بعد تَكرار فِعله، واستجماع نفْسه، وتوجُّه سؤاله، مصلحةٌ مانعةٌ من وجوب المبادرة إلى التعليم؛ فإن فِعل النبيِّ ذلك أوقع في نفْس السائل، فلا يُخطئ في ذلك ولا يَنساه أبدًا [2]

    وقوله: «إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر» دليلٌ على أن تكبيرة الإحرام ركنٌ من الأركان لا يجوز تركُه؛ فإن النبيَّ  إنما أخبر في الحديث بما يجب فحسبُ؛ لأن المقام مَقام تعليم [3] . وفيه أن افتتاح الصلاة بغير التكبير من الأذكار لا يصحُّ ولا يُجزئ [4]

    وقوله: «ثم اقرأ ما تيسَّر من القرآن»: ظاهرُ الحديث أنه على الإطلاق والتخيير، فيجوز أن تقرأ بما شئتَ، وإنْ لم تكنْ فاتحةَ الكتاب، وهذا ليس بصحيح؛ ففي الحديث عن عُبادة بن الصامت : أن رسول الله  قال: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [5]؛ ولهذا فالمراد من الحديث فاتحة الكتاب لمَن أحسنها؛ فإنه لا يُجزئه غيرُها، أو يكون المرادُ بما تيَسَّر، الفاتحةَ؛ لأن الله تعالى قد يسَّرها على ألسنة الناس؛ صغارِهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم. أو يُحمَل هذا على ما بعدَ فاتحة الكتاب؛ فإن الرجُل عَلِمَ أن الفاتحة ركنٌ، فذكر له النبيُّ  أن يقرأ ما بعدها بما تيسَّر [6]

    وقوله: «ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا»: فيه دليلٌ على إيجاب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن النبيَّ  نفى إجزاء الصلاة بدون طُمأنينة؛ بل نفى عنها مسمَّاها الشرعيَّ، فقال: «لم تُصَلِّ»، وأَمَره بإعادتها، ثم بيَّنها في الحديث مع غيرها من الواجبات؛ كالتكبيرة والركوع والسجود، فدلَّ ذلك على وجوبها [7]، و

    قد روى مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال:

    سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «تلك صلاةُ المنافق؛ يجلس يَرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَيِ الشيطان، قام فنقرها أربعًا، لا يَذكُر الله فيها إلا قليلًا»

    [9]،

    والنَّقر: إشارةٌ إلى سرعة الحركات فيها وعدم الطمأنينة.

    وقوله: «ثم ارفع حتى تعدل قائمًا» دليلٌ على أن الاعتدال من الركوع واستواء الظَّهر فيه، ركنٌ من الأركان، الذي إنْ فوَّته يكون قد فوَّت أصلًا من أصل الصلاة؛ فإن الرجُلَ لم يترُك ركنًا من الأركان كالركوع والسجود؛ وإنما ضيَّع الطمأنينةَ والاعتدالَ، فعُلم أن تركهما مُضيِّع للصلاة، وأن السجود من وَضْع الركوع لا يجوز [9]

    وقوله: «ثم اسجُد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا» يُفيد ما أفاده ما قبْلَه من أن الطمأنينة ركنٌ من الأركان في كل الصلاة؛ في القيام، والركوع، والرفع منه، والسجود، والرفع منه، وغير ذلك.

    وقوله: «وافعَلْ ذلك في صلاتكَ كلها»؛ أي: يصنع في كل ركعة كما صنع في تلك الركعة. وفيه دليلٌ على أن عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة من الصلاة [10]، وهذا فِعله ؛

    فعن أبي قتادة رضي الله عنه:

    «أن النبيَّ ﷺ كان يقرأ في الظُّهر في الأُولَيَيْنِ بأمِّ الكتاب وسُورتَين، وفي الركعتَين الأُخْرَيَيْنِ بأمِّ الكتاب»

    [11]

    وهذا الحديث إنما ذكَر النبيُّ  فيه الواجباتِ فحسبُ؛ فذكر تكبيرة الإحرام، وقراءة القرآن، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والاعتدال فيه، والسجود...، وقد ترك الحديث ذِكْر كثير من الواجبات كذلك؛ كالنيَّة، والتشهُّد، والتسليم، وغير ذلك؛ وهذا لأن الرجُل قد عَلِم تلك الأمور، وإنما غابت عنه أشياءُ أخرى، فدلَّه النبيُّ  على فِعلها [12]

    المراجع

    1.  انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 530)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (2/ 107).
    2.  انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي (3/ 977)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (30/ 313)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281).
    3.  انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282).
    4.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 211).
    5.  رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
    6.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 210)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 29).
    7.  انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 218).
    8.  رواه مسلم (622).
    9.  انظر: "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (2/ 111).
    10.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 211).
    11.  رواه البخاريُّ (776)، ومسلم (451).
    12.  انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107).

    النقول

    قال ابن دقيق العيد : "تكرَّر من الفقهاء الاستدلالُ على وجوب ما ذُكر في الحديث، وعدم وجوب ما لم يُذكَر فيه، فأما وجوب ما ذُكر فيه، فلتعلُّق الأمر به، وأما عدم وجوب غيره، فليس ذلك لمجرَّد كونِ الأصل عدمَ الوجوب؛ بل لأمر زائد على ذلك، وهو أن الموضع موضعُ تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر. ويقوِّي مرتبة الحصر أنه  ذَكَر ما تعلَّقت به الإساءة من هذا المصلِّي، وما لم تتعلَّق به إساءته من واجبات الصلاة، وهذا يدلُّ على أنه لم يَقصُر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط.

    فإذا تقرَّر هذا، فكلُّ موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسَّك به في وجوبه، وكلُّ موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسَّك به في عدم وجوبه؛ لكونه غيرَ مذكور في هذا الحديث، على ما تقدَّم من كونه موضعَ تعليم، وقد ظهرت قَرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات" [1]

    قال النوويُّ : "هذا الحديثُ مشتمِل على فوائدَ كثيرةٍ، وليعلم أوّلًا أنّه محمول على بيان الواجبات دون السُّنن، فإن قيل: لم يُذكَر فيه كلُّ الواجبات، فقد بَقِي واجبات مجمَع عليها ومختلَف فيها، فمن المجمَع عليه النّيَّة والقعود في التّشهُّد الأخير، وترتيب أركان الصّلاة، ومن المختلَف فيه التّشهُّدُ الأخير، والصّلاة على النّبيِّ  فيه، والسّلام، وهذه الثّلاثة واجبة عند الشّافعيِّ - رحمه اللّه تعالى - وقال بوجوب السّلام الجمهور، وأوجب التّشهُّد كثيرون، وأوجب الصّلاة على النّبيِّ  مع الشّافعيِّ الشّعبيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ وأصحابهما، وأوجب جماعة من أصحاب الشّافعيّ نيَّة الخروج من الصّلاة، وأوجب أحمدُ - رحمه اللّه تعالى - التّشهُّد الأوّل، وكذلك التّسبيح وتكبيرات الانتقالات، فالجواب أنّ الواجباتِ الثّلاثةَ المجمَع عليها كانت معلومةً عند السّائل، فلم يحتج إلى بيانها، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه، يَحمِله على أنّه كان معلومًا عنده" [2]

    قال ابن حجر : "وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم: وجوبُ الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصّلاة، وفيه أنّ الشّروع في النّافلة مُلزِم؛ لكن يُحتمَل أن تكون تلك الصّلاة كانت فريضةً فيقف الاستدلال، وفيه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحسن التّعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص المقاصد، وطلب المتعلِّم من العالم أن يعلِّمه، وفيه تَكرار السّلام وردُّه وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال، وفيه أنّ القيام في الصّلاة ليس مقصودًا لذاته؛ وإنّما يُقصَد للقراءة فيه، وفيه جلوس الإمام في المسجد، وجلوس أصحابه معه، وفيه التّسليم للعالم، والانقياد له، والاعتراف بالتّقصير، والتّصريح بحكم البشريّة في جواز الخطأ، وفيه أنّ فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن، لا ما زادته السُّنَّة، فيُندَب، وفيه حسن خلقه   ولطف معاشرته" [3]

    قال ابن تيمية : "فَالنَّبِيُّ  أَمَر ذلك المسيء في صلاته بأن يُعيد الصّلاة، وأَمْرُ اللّه ورسوله إذا أُطلِق كان مقتضاه الوجوبَ، وأَمَره إذا قام إلى الصّلاة بالطُّمأنينة كما أَمَره بالرّكوع والسُّجود، وأُمْرُه الْمُطلَق على الإيجاب، وأيضًا قال له: «فإنّك لم تصلِّ»، فنفى أن يكون عمله الأوّل صلاةً، والعمل لا يكون منفيًّا إلّا إذا انتفى شيء من واجباته، فأمّا إذا فعل كما أوجبه اللّه عزّ وجلّ، فإنّه لا يصحُّ نفيُه لانتفاء شيء من المستحبَّات الّتي ليست بواجبة. وأمّا ما يقوله بعض النّاس: إنّ هذا نفيُ للكمال... فيُقال له: نعم، هو لنفي الكمال؛ لكن لنفي كمال الواجبات، أو لنفي كمال المستحبَّات؟ فأمّا الأوّل فحقٌّ، وأمّا الثّاني، فباطل، لا يوجد مثل ذلك في كلام اللّه عزّ وجلّ، ولا في كلام رسوله قطُّ، وليس بحقٍّ؛ فإنّ الشّيء إذا كَمُلت واجباته، فكيف يصحُّ نفيُه؟! وأيضًا فلو جاز، لجاز نفيُ صلاة عامَّة الأوّلين والآخرين؛ لأنّ كمال المستحبَّات من أندر الأمور. وعلى هذا؛ فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسّنّة، فإنّما هو لانتفاء بعض واجباته" [4]

    قال النوويُّ : "وَأَمَّا حَدِيثُ «اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ»، فمحمولٌ على الفاتحة؛ فإنّها متيسِّرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عَجَز عن الفاتحة. وَقَوْلُه : «لَا صَلَاةَ لم لمن يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» فيه دليلٌ لمذهب الشّافعيِّ - رحمه اللّه تعالى - ومن وافقه أنّ قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد... والصّحيحُ الّذي عليه جمهور العلماء من السَّلَف والخَلَف وجوب الفاتحة في كلِّ ركعة؛ لقوله للأعرابيّ: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها»" [5]

    قال النوويُّ : "وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ إقامة الصّلاة ليست واجبةً، وفيه وجوبُ الطّهارة، واستقبالِ القِبلة، وتكبيرة الإحرام، والقراءة، وفيه أنّ التّعوُّذ، ودعاء الافتتاح، ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام، ووضع اليد اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الرّكوع والسّجود، وهيئات الجلوس، ووضع اليد على الفَخِذ، وغير ذلك ممّا لم يذكره في الحديث - ليس بواجب؛ إلّا ما ذكرناه من المجمَع عليه والمختلَف فيه" [6]

    قال ابن حجر : "وفيه تأخيرُ البيان في المجلس للمصلحة، وقد استُشكِل تقرير النّبيِّ  له على صلاته، وهي فاسدةٌ على القول بأنّه أَخَلَّ ببعض الواجبات، وأجاب المازريُّ بأنّه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرَّاتٍ؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا فيتذكَّره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التّقرير على الخطأ؛ بل من باب تحقُّق الخطأ، وقال النّوويُّ نحوه، قال: وإنّما لم يعلِّمه أوّلًا ليكون أبلغَ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصّلاة المجزئة، وقال ابن الجوزيِّ: يُحتمَل أن يكون ترديدُه لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أنّ الوقت لم يَفُتْه، فرأى إيقاظ الفِطْنة للمتروك، وقال ابن دقيق العيد: ليس التّقرير بدليل على الجواز مطلقًا؛ بل لا بدّ من انتفاء الموانع، ولا شكّ أنّ في زيادة قَبول المتعلّم لما يُلقى إليه بعد تَكْرار فِعله واستجماع نفسه، وتوجُّه سؤاله، مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة إلى التّعليم، لا سيّما مع عدم خوف الفَوات؛ إمّا بناءً على ظاهر الحال، أو بوحيٍ خاصٍّ، وقال التوربشتيُّ: إنّما سكت عن تعليمه أوّلًا؛ لأنّه لَمّا رجع لم يَستكشِف الحال من مَورد الوحي، وكأنّه اغترَّ بما عنده من العلم، فسكت عن تعليمه؛ زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استَبهَم عليه، فلمّا طلب كشف الحال من مورده، أُرشد إليه. انتهى؛ لكن فيه مناقشة؛ لأنّه إن تمّ له في الصّلاة الثّانية والثّالثة، لم يتمَّ له في الأولى؛ لأنّه  بدأه لَمّا جاء أوَّلَ مرّة بقوله: «ارجع فصلِّ فإنّك لم تصلِّ»، فالسّؤال وارد على تقريره له على الصّلاة الأولى، كيف لم يُنكِر عليه في أثنائها؟ لكنّ الجواب يَصلُح بيانًا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، واللّه أعلم" [7]

    قال النوويُّ : "وفيه دليلٌ على وجوب الاعتدال عن الرّكوع والجلوس بين السّجدتين، ووجوب الطّمأنينة في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السَّجدتين، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ولم يوجبها أبو حنيفةَ - رحمه اللّه تعالى - وطائفة يسيرة، وهذا الحديث حجَّة عليهم، وليس عنه جواب صحيح، وأمّا الاعتدال، فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء يجب الطُّمأنينة فيه، كما يجب في الجلوس بين السّجدتين، وتوقَّف في إيجابها بعض أصحابنا، واحتجَّ هذا القائل بقوله  في هذا الحديث: «ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائمًا»، فاكتفى بالاعتدال، ولم يذكر الطّمأنينة كما ذكرها في الجلوس بين السّجدتين وفي الرّكوع والسّجود" [8]

    قال الشوكانيُّ : "الحديث يدلُّ على وجوب جميع ما ثبت عنه في الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكِّد الوجوبَ كونُها بيان لمجمَل 

    قوله:

    (أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ) 

    [الأنعام: 72]

    ، وهو أمر قرآنيٌّ يُفيد الوجوب، وبيان المجمَل الواجب واجب كما تقرَّر في الأصول، إلّا أنّه ثبت أنّه  اقتصر في تعليم المسيء صلاتَه على بعض ما كان يفعله ويُداوم عليه، فعَلِمنا بذلك أنّه لا وجوب لِما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرّر في الأصول بالإجماع، ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يُذكَر في حديث المسيء، فمنهم من قال: يكون قرينةً بصرف الصّيغة إلى النَّدب، ومنهم من قال: تبقى الصِّيغة على الظّاهر الّذي تدلُّ عليه، ويؤخَذ بالزّائد فالزّائد" [9]

    قال النوويُّ : "وفيه وجوبُ القراءة في الرّكعات كلِّها، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور كما سبق، وفيه أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السّائل، ولم يسأله عنه، يُستحبُّ له أن يذكره له، ويكون هذا من النّصيحة، لا من الكلام فيما لا يعني، وموضع الدّلالة أنّه قال: علِّمني يا رسول اللّه؛ أي: علّمني الصّلاة، فعلَّمه الصّلاة، واستقبال القِبلة، والوضوء، وليسا من الصّلاة؛ لكنّهما شرطان لها، وفيه الرّفق بالمتعلّم والجاهل، وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقّه على المهمِّ دون المكمِّلات الّتي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها، وفيه استحباب السّلام عند اللّقاء، ووجوب ردِّه، وأنّه يُستحبُّ تَكراره إذا تكرَّر اللّقاء وإن قَرُب العهد، وأنّه يجب ردُّه في كلّ مرَّة، وأنّ صيغة الجواب: (وعليكم السّلام)، أو (وعليك) بالواو، وهذه الواو مستحبَّة عند الجمهور، وأوجبها بعض أصحابنا، وليس بشيء؛ بل الصّواب: أنّها سنَّة؛

    قال اللّه تعالى:

     ( قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖﱡ ﱠ)

    [هود: ٦٩]

    ، وفيه أنّ من أخلَّ ببعض واجبات الصّلاة لا تصحُّ صلاته، ولا يسمَّى مصلِّيًا؛ بل يقال: لم تصلِّ، فإن قيل: كيف تركه مرارًا يصلّي صلاةً فاسدةً؟ فالجواب: أنّه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا عَلِم من حاله أنّه يأتي بها في المرّة الثّانية والثّالثة فاسدةً؛ بل هو محتمِل أن يأتيَ بها صحيحةً؛ وإنّما لم يعلِّمْه أوّلًا ليكون أبلغَ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصّلاة المجزئة، كما أمرهم بالإحرام بالحجِّ ثمّ بفسخه إلى العمرة؛ ليكون أبلغَ في تقرير ذلك عندهم، واللّه أعلم" [10]

    المراجع

    1. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (ص 166).
    2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107، 108).
    3.  "فتح الباري" لابن حجر (2/ 280، 281).
    4.  "مجموع الفتاوى" (22/ 529، 530).
    5.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
    6.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108).
    7.  "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281).
    8.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108).
    9.  "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/ 203، 204).
    10.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108، 109).

    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رَسُولَ اللهِ ﷺ أنه قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»؛ فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من الْمَشرِق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، طَلَعت من مغربها. «فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»: وهذا إيمانُ اضْطِرار، لا اختيارَ فيه؛ فقد ظهر الغَيب الذي ليس بعدَه اختيارٌ، فيؤمِن جميع البشر؛ فقد أيقنوا أن الساعةَ قائمة، وهذه كُبرى العلامات تُنبئهم ألَّا إيمانَ، ولا توبةَ، ولا اختيارَ بعد هذه اللحظة. «فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» فالإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها وَقَع بعد المشاهدة، لذا؛ لا يَنفَعُهم إيمانهم ولا توبتُهم؛ فقد قضى الله تعالى أن الإيمان إنما يَنفَع إذا كان بالاختيار لا الاضطرار.

    الشرح المفصَّل للحديث

    إن العبوديةَ لله هي غايةُ الوجود الإنسانيِّ؛ فقد خَلَق اللهُ تعالى الخَلْقَ ليعبدوه

    قال تعالى:

    وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ

    [الذاريات: 56]

    فالعبادةُ حقُّ الله على عباده، وليس اللهُ تعالى بحاجة إلى تلك العبودية؛ فيقول في الحديث القُدسيِّ: «يا عبادي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»[1]؛ بل لا قدرةَ للعباد على العبادة بدون إعانة الله لهم

    ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.

    وقد جعل الله تعالى للإنسان فرصة متجدِّدة باستمرار لبداية حياة جديدة في طاعة الله، مهما كانت معصيتُه، حتى ولو كانت الكفرَ بالله، وتنتهي هذه الفرصة إما بالغرغرة؛ كما قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»[2]، أو بطُلوعِ الشمس من مَغرِبها؛ فحينئذٍ سيكون الإيمانُ اضطرارًا لا اختيارًا.

     وقد أمر الله تعالى المؤمنين باغتنام الأعمار في طاعة الله، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمداومة عليها، قبلَ أن لا يكون هناك سبيلٌ إلى ذلك

    فقال تعالى:

    وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 

    [آل عمران: 133]

    وقال تعالى:

    سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ

    [الحديد: 21]

    وذلك حتى يكون المسلم مستعِدًّا للقاء الله - عزَّ وجلَّ - والاستعدادُ إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح. لذا؛ جَعَل الله تعالى المسابقة إلى فعل الصالحات صفةً من صفات المؤمنين

    قال تعالى:

    أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ

    [المؤمنون: 61]

    وهي من أجلِّ الطاعات، وأعظم القُربات إلى الله تعالى.

    وفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن الفرصة للتوبة والرجوع إلى الله موجودة ومستمرَّة، وأن على الإنسان أن يستغلَّها في الأجل المحدَّد الذي ينتهي بالموت، أو بطُلوع الشمس من مغربها، فيُرشِد النبيُّ ﷺ إلى استغلال الأوقات فيما يَنفَع العباد، وبَذْلِها في مواطن الخير والصلاح، قبلَ أن لا يقدر عليها، أو يُحال بينه وبينها بالموت أو ظهور علامات القيامة، وحينها لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت مِن قبلِ ذلك.

    وإنه لا يعلم متى تقوم الساعةُ إلا اللهُ تعالى، وقد أخبر النبيُّ ﷺ ببعض علاماتها

    قال تعالى:

    إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ 

    [لقمان: ٣٤]

    وقال تعالى:

    عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا 42 فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا 43 إِلَىٰ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا 44 إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا

    [النازعات: ٤٢ – ٤٥].

    وفي هذا الحديث يقول النبيُّ : «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»؛ فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من الْمَشرِق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، طَلَعت من مغربها؛ فالفُرصة متاحة لجميع الخلق للإيمان والتوبة والرجوع إلى ربِّهم. إنه أَجَلٌ محدَّد لكلِّ البشر على سبيل الإجمال، وهناك فرصة أخرى لكلِّ إنسان على حِدَةٍ تنتهي بالغرغرة وطلوع الروح. 

    «فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»: وهذا إيمان لا اختيار فيه؛ فقد ظهر الغَيب الذي ليس بعدَه اختيارٌ، فيؤمِن جميعُ البشر؛ فقد أيقنوا أن الساعة قائمة، وهذه كُبرى العلامات تُنبئهم ألَّا إيمانَ، ولا توبةَ، ولا اختيارَ بعد هذه اللحظة.

    قوله : «فَيَوْمَئِذٍلَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»؛ فالإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها وَقَع بعد المشاهدة، لذا؛ لا يَنفَعُهم إيمانهم ولا توبتهم؛ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب، واختيار العبد، وهذا ما امتدح الله به أهل الإيمان، ورتَّب عليه أركان الإيمان، وأما الإيمان بعد المشاهَدة، فلا ينفع، مثلما لا ينفع بعد الغرغرة؛ فقد قضى الله تعالى أن الإيمان إنما يَنفَع إذا كان بالاختيار لا الاضطرار، وأن الإنسان يَكتسِب الخير بإيمانه.

    فهذا فِرْعونُ حين أدركه الغرق وشاهَدَ اليقين

     قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ

    [يونس:90]

    لكن إيمانه لم ينفعه

    قال تعالى:

    آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

    [يونس:91].

    إن بطلوع الشمس من مغربها لا يَنفَع الكافرَ إيمانُه إذا رآها؛ فإذا أَسلَم بعد رؤية هذه العلامة، فإن إسلامه لا يَنفَعه، وكذلك المسلم العاصي إذا رآها، لا تُقبَل منه توبة، ولا يُقبَل منه أيضًا أن يزداد في إيمانه بعمل الطاعات والقُربات.

    قال تعالى:

    هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ

      [الأنعام: ١٥٨].

    "يقول تعالى: هل يَنظُر هؤلاء الذين استمرَّ ظُلمهم وعنادُهم

    إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُﱠ

    مقدِّماتُ العذاب، ومقدِّمات الآخرة، بأن تأتيَهم 

    الْمَلَائِكَةُ 

    لقَبْضِ أرواحهم؛ فإنَّهم إذا وصلوا إلى تلك الحال، لم يَنفَعْهم الإيمان، ولا صالح الأعمال.

    أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ

      لفصل القضاء بين العباد، ومجازاة المحسِنين والمسيئين

    أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَﱠ

    الدالَّة على قُرب الساعة.

    يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ

    الخارقة للعادة، التي يُعلَم بها أن الساعة قد دَنَت، وأن القيامة قد اقتربت.  

    لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا

    أي: إذا وُجِد بعض آيات الله، لم يَنفَع الكافرَ إيمانُه أن آمَن، ولا المؤمنَ المقصِّر أن يزداد خَيْرُه بعد ذلك؛ بل يَنفَعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتيَ بعضُ الآيات.

    والحكمةُ في هذا ظاهرة، فإنه إنما كان الإيمان يَنفَع إذا كان إيمانًا بالغَيب، وكان اختيارًا من العبد، فأما إذا وُجِدت الآيات، صار الأمرُ شهادةً، ولم يَبْقَ للإيمان فائدة؛ لأنه يُشبِه الإيمان الضروريَّ؛ كإيمان الغريق، والحريق، ونحوهما، ممَّن إذا رأى الموت، أقلع عمَّا هو فيه

    كما قال تعالى:

    فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُ%D

    غريب الحديث

    تُرْجُمَان: التَّرْجُمَان، والتُّرْجُمَان: الْمُفَسِّر للِّسَان، وتَرجَم فلان كلامه: إذا بيَّنه وأَوضَحه، وتَرجَم كلام غيره: إذا عبَّر عنه بلغة غير لغة المتكلِّم[1].

    بِشِقِّ تَمْرَةٍ: أي: نِصْفِ تمرة، يريد أنْ لا تستقِلُّوا من الصَّدَقة شيئًا[2].

    المراجع

    1. "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سِيده (7/ 421)، "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيوميِّ (1/ 73).
    2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 491).


    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رضى الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ : «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ»؛ أي: ما من أحدٍ، رجلاً كان أو امرأةً، إلا سيَقِف بين يدَيْ ربِّه وحدَه، فيكلِّمه ربُّه بكلام واضح بيِّن لا يحتاج إلى تُرجمان يوضِّحه. «فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ»؛ أي: فيَلتفِت يمينًا فلا يرى إلا ما قدَّم من صالح عمله، ويَلتفِت شمالاً فلا يرى إلا ما قدَّم من سيِّئ عمله، ويَنظُر أمامه فلا يرى إلا النار مقابِلةً لوجهه.

    يقول : «فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ أي: اجتنبوا النار، واجعلوا الطاعاتِ، واجتنابَ المعاصي والسيِّئات وقايةً لكم من النار، حتى لو تصدَّقتم بنصف تمرة. «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»؛ أي: لو لم يجد أحدُكم نِصْفَ تمرة يتصدَّقُ بها، فليتصدَّق بكلمة طيِّبة؛ فلربَّما كانت هذه الكلمة الطيِّبة سببًا لنجاته من النار.

    الشرح المفصَّل للحديث

       إن الإنسانُ مرهونٌ بعمله، يُجازيه الله عليه يومَ القيامة، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ

    قال تعالى:

    كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ

    [الطور: 21]

    فيحاسبه اللهُ - عزَّ وجلَّ - على أعماله التي قدَّمها في الدنيا

    قال تعالى:

    يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ

    [الانشقاق: 6]

    أي: سوف تلاقي ربَّكَ فيُحاسبك على كَدِّكَ وتَعَبِكَ في الحياة الدنيا، فإن كنتَ صالحًا، كانت البشرى لك جزاءً على ما قدَّمت من عملك

    قال تعالى:

    وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

    [البقرة: 223]

    وإن كنتَ غيرَ ذلك، كان الجزاء جهنَّمَ وبئس المصيرُ، أعاذنا الله منها، وفي الحديث يُخبر النبيُّ  بأنه ما من أحدٍ، رجلاً كان أو امرأةً، إلا وسيُلاقي ربَّه يوم القيامة وحدَه

    قال تعالى: 

    وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

    [مريم: 95]

    ويَقِف بين يدي ربِّه فيُخاطبه ويكلِّمه بدون واسطةٍ، ولا حجابٍ يَحجِزه، يعدِّد بعضًا من نِعَمه وأفضاله عليه، ففي بعض روايات الحديث أن الله تعالى يقول له: «أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى»[1]، فإرسالُ الرُّسل من أجلِّ النِّعَم التي أنعم الله بها على عباده، فبها يستنقِذ الناس من النار، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور.

    ويقرِّره كذلك بذنوبه: ألم تعمل كذا يومَ كذا، وتفعل كذا يومَ كذا؟ فإذا أقرَّ بذنوبه، وظنَّ أنه هالكٌ لا محالةَ، فإذا بالله يُطِمْئِنُه، ويُخبره بأنه غَفَر له ما كان منه؛ فَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأشْهَادُ:

    هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

    [هود: 18][2].

    قوله : «فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ»؛ أي: فيَلتفِت يمينًا فلا يرى إلا صالح عمله، وشمالاً فلا يرى إلا سيِّئ عمله، ويَنظُر أمامه فلا يرى إلا النار بمحاذاة وجهه وتلقاءه، و"نَظَرُ اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يَلتفِت يمينًا وشمالًا، يَطلُب الغَوث، وَيحْتَمِل أن يكون سببُ الالتفات أنه يَتَرَجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها؛ ليَحصُل له النجاة من النار، فلا يرى إلَّا ما يُفضي به إلى النار، ثم يَنظُر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. والسبب في ذلك: أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكِنُه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط"[3].

    وإذا كان هذا هو حالَ العبد يوم القيامة، فالأَوْلى به أن يَحذَر النار، ويرجو النجاةَ منها، فلا يُقْدِم إلَّا على صالح الأعمال وأفضلِها، وأن يحرص على التقرُّب إلى الله في كلِّ وقت وحين، وأن لا يستقِلَّ شيئًا من الطاعات، مهما كان صغيرًا؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ : «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»[4]، حتى ولو تصدَّق بنصف تمرة

    قال تعالى: 

    فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ

     [الزلزلة: 7]

    وجَاءَ سَائِلٌ إِلَى بَابِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: "أَطْعِمِيهِ"، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ لَهَا: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا أُطْعِمُهُ، قَالَتْ: "ارْجِعِي فَابْتَغِي لَهُ"، فَرَجَعَتْ فَوَجَدتْ تَمْرَةً فَأَتَتْ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَعْطِيهِ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ إِنْ تُقُبِّلَتْ"[5].

    والصَّدَقة تُنْجي الإنسانَ من النار؛ ولهذا قال : «فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ أي: اجتنبوها بعمل الطاعات، والبُعد عن المعاصي والسيِّئات؛ حتى لا تقعوا فيها، فـ"المعنى: إذا عرفتُم أنه لا يَنفَعكم في ذلك اليوم شيءٌ إلا الأعمالَ الصالحة، وأن أمامَكم النارَ، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشقِّ تمرة"[6]، فلا تَرُدَّ السائل وإن كنتَ لا تَملِك شيئًا إلا بكلمة تطيِّبه، وتَجبُر خاطره؛ فالكَلِمةُ الطيِّبة صَدَقة، ولربَّما كانت هذه الكلمة سببًا لنجاتك من النار، والكلمةُ الطيِّبة تَشمَل: التسبيحَ، والتهليلَ، والتكبيرَ، وذِكْرَ الله عمومًا، وأفضلُ الذكر: قراءةُ القرآن، وتَشمَل كذلك: الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن الْمُنكَر، وتعلُّم العلم وتعليمه، وتَشمَل كذلك: كلَّ ما يتقرَّب به الإنسان إلى ربِّه من القول؛ كنصيحة، أو كلمة حقٍّ، أو جبر خاطر، أو غير ذلك من طيِّب الأقوال.

    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (3595).
    2. رواه البخاريُّ (2441)، ومسلم (2768).
    3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 404).
    4. رواه مسلم (2626).
    5. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3190).
    6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3506).


    النقول


    قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن هُبيرة: "نَظَر اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يَلتفِت يمينًا وشمالًا، يَطلُب الغَوث". قلتُ – أي: ابن حجر -: وَيحْتَمِل أن يكون سببُ الالتفات أنه يَتَرَجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها؛ ليَحصُل له النجاة من النار، فلا يرى إلَّا ما يُفضي به إلى النار، ثم يَنظُر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك: أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكِنُه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط"[1].

    قال ابن بطال رحمه الله: "وفى قوله: «فليتَّقِيَنَّ أحدكم النار ولو بشقِّ تمرة» حضٌّ على القليل من الصدقة. وقوله: «فإن لم يجد فبكلمة طيبة» حضٌّ أيضًا على أن لا يَحقِر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يُتَّقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يُستوجَب بها النار"[2].

    قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«ما منكم من أحد إلَّا وسيكلِّمه الله» عزَّ وجلَّ، والواو عطف على محذوفٍ تقديرُه: إلا سيخاطبه وسيكلِّمه، ولأبي ذرٍّ: إلَّا سيكلِّمه الله «يوم القيامة ليس بين الله وبينه»، ولأبي ذرٍّ: ليس بينه وبينه «ترجمان» بضمِّ الفوقانية وفتحِها، وضمِّ الجيم، يفسِّر الكلامَ بآخَرَ... «ثم ينظر فلا يرى شيئًا قُدَّامه» بضمِّ القاف، وتشديد الدال؛ أي: أمامَهُ. «ثم ينظر بين يديه»، ولمسلم: «فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم»، قال ابن هُبيرة: نَظَرُ اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالاً يطلب الغَوث، وقال صاحب الفتح: أو يكون سببُ الالتفات أنه يترجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها للنجاة من النار. «فتستقبله النار»؛ لأنها تكون في ممرِّه، فلا يمكِنه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط. «فمن استطاع منكم أن يتَّقِيَ النار ولو بشقِّ تمرة»؛ أي: فليفعل. قال الْمُظهريُّ: يعني إذا عرفتُم ذلك، فاحذروا من النار، فلا تظلموا أحدًا، ولو بمقدار شقِّ تمرة. وقال الطِّيبيُّ: ويُحتمَل أن يُراد: إذا عرفتم أنه لا ينفعكم في ذلك اليوم شيءٌ من الأعمال غير الصالحة، وأن أمامكم النار، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشق تمرة"[3].

    قال ابن بطال رحمه الله: "الكلام الطيِّب مندوبٌ إليه، وهو من جليل أفعال البِرِّ؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - جعله كالصدقة بالمال، ووجهُ تشبيهه - عليه السلام - الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفسُ المتصدَّق عليه ويَفرَح بها، والكلمة الطيِّبة يَفرَح بها المؤمن ويَحسُن موقعُها من قلبه، فاشتبها من هذه الجهة؛ ألا ترى أنها تُذهب الشحناء، وتُجلي السخيمة

    كما قال تعالى: 

    ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 

    [فصلت: ٣٤]

     والدفع بالتي هي أحسنُ قد يكون بالقَوْلِ كما يكون بالفعل"[4].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "المعنى: إذا عرفتُم أنه لا يَنفَعكم في ذلك اليوم شيءٌ إلا الأعمالَ الصالحة، وأن أمامَكم النارَ، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشقِّ تمرة"[5].

    المراجع

    1. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 404).
    2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (3/ 414).
    3. "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (9/ 314).
    4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 225).
    5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3506).