المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُريرة رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ دخل المسجد فدخل رجلٌ، فصلَّى، فسلَّم على النبيِّ ﷺ، فردَّ وقال: «ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّكَ لم تُصَلِّ، فرجَعَ يُصَلِّي كما صَلَّى، ثم جاء، فسلَّمَ على النبيِّ ﷺ، فقال: «ارجِعْ فصَلِّ؛ فإنَّكَ لم تُصَلِّ» ثلاثًا: وهذا دليلٌ على وجوب الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة.
فقال الرجل: (والذي بعَثَكَ بالحقِّ ما أُحسِنُ غَيرَه، فعَلِّمْني): فأجابه النبيُّ ﷺ وبيَّن له ما تَصِحُّ به صلاته. فقال: «إذا قُمْتَ إلى الصلاةِ فكَبِّرْ»: يدلُّ على أن الشروع في الصلاة لا يكون إلا بالتكبير، وهو فرضٌ بلا خلاف. «ثم اقرَأْ ما تَيسَّرَ معَكَ منَ القرآنِ»: محمولٌ على الفاتحة؛ فإنّها متيسِّرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عجز عن الفاتحة.
«ثم اركَعْ»: يدلُّ على وجوب الركوع. «حتى تَطمئِنَّ راكعًا»: يدلُّ على وجوب الاطمئنان في الركوع. «ثم ارفَعْ حتى تَعدِل قائمًا»: يدلُّ على وجوب الاعتدال قائمًا بعد الركوع. «ثم اسجُدْ»: يدلُّ على وجوب السجود. «حتى تَطمئِنَّ ساجِدًا»: يدلُّ على وجوب الاطمئنان في السجود. «ثم ارفَعْ حتى تَطمئِنَّ جالسًا»: يدلُّ على وجوب الرفع والجلوس بين السجدتين والاطمئنان في الجلوس. «وافعَلْ ذلك في صلاتِكَ كلِّها»: دليلٌ على وجوب تَكرار هذه الأفعال المذكورة، في كلِّ ركعة.
الشرح المفصَّل للحديث
هذا الحديث عُمدةٌ في أحاديث الأحكام في باب الصلاة؛ وذلك لِما بيَّن فيه النبيُّ ﷺمن أركان الصلاة وواجباتها.
ففي قول النبيِّ ﷺ للرجُل: «ارجع فصلِّ؛ فإنكَ لم تصلِّ» نَفيٌ لصحة صلاته التي صلَّاها؛ فإنها لا تُجزئ ولا تجوز، وإلا لَما أمره النبيُّ ﷺ بالإعادة؛ فالعمل لا يكون مَنفيًّا إلا إذا انتفى شيءٌ من واجباته، فإذا تحقَّقت الواجبات، لم يَصِحَّ نفْيُه بعد ذلك لانتفاء شيء من المستحَبَّات [1]
وقد أمره النبيُّ ﷺ بالرجوع لإعادة الصلاة ثلاثَ مرَّات؛ لأن صلاته لم تصحَّ في واحدة منهنَّ، وإنما كان يأمره النبيُّ ﷺ بالإعادة دون أن يُبيِّن له الصلاة الصحيحة حتى سأله الرجُل عن ذلك؛ فربما لأن العلم قد تقدَّم بحدود الصلاة وواجباتها ومُبطلاتها، فربما ظنَّ النبيُّ ﷺ أنَّ هذا الرجُل عالمٌ بالصلاة وحدودها، إلا أنه لا يعمَل بعلمه؛ فلهذا أمره النبيُّ ﷺ بالإعادة، فلما حلَف الرجُل له أنه لا يُحسِنُ غيرَ ما يَفعَله، بيَّن له وفسَّر.
وقيل: إنما فعل النبيُّ ﷺذلك؛ لأن الرجُل لما رجع إلى إعادة الصلاة فكأنما اغترَّ بما عنده من العلم عن أن يسأل النبيَّ ﷺ، فلهذا سكت النبيُّ ﷺعن البيان؛ زجْرًا له وتأديبًا، فلما سأل الرجُل وضَّح النبيُّ ﷺ له.
وقيل: إن زيادةَ قَبول المتعلِّم لِما يُلْقى عليه بعد تَكرار فِعله، واستجماع نفْسه، وتوجُّه سؤاله، مصلحةٌ مانعةٌ من وجوب المبادرة إلى التعليم؛ فإن فِعل النبيِّ ﷺذلك أوقع في نفْس السائل، فلا يُخطئ في ذلك ولا يَنساه أبدًا [2]
وقوله: «إذا قمتَ إلى الصلاة فكبِّر» دليلٌ على أن تكبيرة الإحرام ركنٌ من الأركان لا يجوز تركُه؛ فإن النبيَّ ﷺ إنما أخبر في الحديث بما يجب فحسبُ؛ لأن المقام مَقام تعليم [3] . وفيه أن افتتاح الصلاة بغير التكبير من الأذكار لا يصحُّ ولا يُجزئ [4]
وقوله: «ثم اقرأ ما تيسَّر من القرآن»: ظاهرُ الحديث أنه على الإطلاق والتخيير، فيجوز أن تقرأ بما شئتَ، وإنْ لم تكنْ فاتحةَ الكتاب، وهذا ليس بصحيح؛ ففي الحديث عن عُبادة بن الصامت : أن رسول الله ﷺ قال: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب» [5]؛ ولهذا فالمراد من الحديث فاتحة الكتاب لمَن أحسنها؛ فإنه لا يُجزئه غيرُها، أو يكون المرادُ بما تيَسَّر، الفاتحةَ؛ لأن الله تعالى قد يسَّرها على ألسنة الناس؛ صغارِهم وكبارهم، ذكورهم وإناثهم، أحرارهم وعبيدهم. أو يُحمَل هذا على ما بعدَ فاتحة الكتاب؛ فإن الرجُل عَلِمَ أن الفاتحة ركنٌ، فذكر له النبيُّ ﷺ أن يقرأ ما بعدها بما تيسَّر [6]
وقوله: «ثم اركع حتى تطمئنَّ راكعًا»: فيه دليلٌ على إيجاب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن النبيَّ ﷺ نفى إجزاء الصلاة بدون طُمأنينة؛ بل نفى عنها مسمَّاها الشرعيَّ، فقال: «لم تُصَلِّ»، وأَمَره بإعادتها، ثم بيَّنها في الحديث مع غيرها من الواجبات؛ كالتكبيرة والركوع والسجود، فدلَّ ذلك على وجوبها [7]، و
قد روى مسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، قال:
سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «تلك صلاةُ المنافق؛ يجلس يَرقُب الشمس، حتى إذا كانت بين قَرْنَيِ الشيطان، قام فنقرها أربعًا، لا يَذكُر الله فيها إلا قليلًا»
والنَّقر: إشارةٌ إلى سرعة الحركات فيها وعدم الطمأنينة.
وقوله: «ثم ارفع حتى تعدل قائمًا» دليلٌ على أن الاعتدال من الركوع واستواء الظَّهر فيه، ركنٌ من الأركان، الذي إنْ فوَّته يكون قد فوَّت أصلًا من أصل الصلاة؛ فإن الرجُلَ لم يترُك ركنًا من الأركان كالركوع والسجود؛ وإنما ضيَّع الطمأنينةَ والاعتدالَ، فعُلم أن تركهما مُضيِّع للصلاة، وأن السجود من وَضْع الركوع لا يجوز [9]
وقوله: «ثم اسجُد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفعْ حتى تطمئنَّ جالسًا» يُفيد ما أفاده ما قبْلَه من أن الطمأنينة ركنٌ من الأركان في كل الصلاة؛ في القيام، والركوع، والرفع منه، والسجود، والرفع منه، وغير ذلك.
وقوله: «وافعَلْ ذلك في صلاتكَ كلها»؛ أي: يصنع في كل ركعة كما صنع في تلك الركعة. وفيه دليلٌ على أن عليه أن يقرأ الفاتحة في كل ركعة من الصلاة [10]، وهذا فِعله ﷺ؛
فعن أبي قتادة رضي الله عنه:
«أن النبيَّ ﷺ كان يقرأ في الظُّهر في الأُولَيَيْنِ بأمِّ الكتاب وسُورتَين، وفي الركعتَين الأُخْرَيَيْنِ بأمِّ الكتاب»
وهذا الحديث إنما ذكَر النبيُّ ﷺ فيه الواجباتِ فحسبُ؛ فذكر تكبيرة الإحرام، وقراءة القرآن، والركوع، والطمأنينة فيه، والرفع من الركوع، والاعتدال فيه، والسجود...، وقد ترك الحديث ذِكْر كثير من الواجبات كذلك؛ كالنيَّة، والتشهُّد، والتسليم، وغير ذلك؛ وهذا لأن الرجُل قد عَلِم تلك الأمور، وإنما غابت عنه أشياءُ أخرى، فدلَّه النبيُّ ﷺ على فِعلها [12]
المراجع
- انظر: "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (22/ 530)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (2/ 107).
- انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي (3/ 977)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (30/ 313)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 211).
- رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 210)، "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 282)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 29).
- انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (2/ 218).
- رواه مسلم (622).
- انظر: "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (2/ 111).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 211).
- رواه البخاريُّ (776)، ومسلم (451).
- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107).
النقول
قال ابن دقيق العيد : "تكرَّر من الفقهاء الاستدلالُ على وجوب ما ذُكر في الحديث، وعدم وجوب ما لم يُذكَر فيه، فأما وجوب ما ذُكر فيه، فلتعلُّق الأمر به، وأما عدم وجوب غيره، فليس ذلك لمجرَّد كونِ الأصل عدمَ الوجوب؛ بل لأمر زائد على ذلك، وهو أن الموضع موضعُ تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر. ويقوِّي مرتبة الحصر أنه ﷺ ذَكَر ما تعلَّقت به الإساءة من هذا المصلِّي، وما لم تتعلَّق به إساءته من واجبات الصلاة، وهذا يدلُّ على أنه لم يَقصُر المقصود على ما وقعت فيه الإساءة فقط.
فإذا تقرَّر هذا، فكلُّ موضع اختلف الفقهاء في وجوبه، وكان مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسَّك به في وجوبه، وكلُّ موضع اختلفوا في وجوبه، ولم يكن مذكورًا في هذا الحديث، فلنا أن نتمسَّك به في عدم وجوبه؛ لكونه غيرَ مذكور في هذا الحديث، على ما تقدَّم من كونه موضعَ تعليم، وقد ظهرت قَرينة مع ذلك على قصد ذكر الواجبات" [1]
قال النوويُّ : "هذا الحديثُ مشتمِل على فوائدَ كثيرةٍ، وليعلم أوّلًا أنّه محمول على بيان الواجبات دون السُّنن، فإن قيل: لم يُذكَر فيه كلُّ الواجبات، فقد بَقِي واجبات مجمَع عليها ومختلَف فيها، فمن المجمَع عليه النّيَّة والقعود في التّشهُّد الأخير، وترتيب أركان الصّلاة، ومن المختلَف فيه التّشهُّدُ الأخير، والصّلاة على النّبيِّ ﷺفيه، والسّلام، وهذه الثّلاثة واجبة عند الشّافعيِّ - رحمه اللّه تعالى - وقال بوجوب السّلام الجمهور، وأوجب التّشهُّد كثيرون، وأوجب الصّلاة على النّبيِّ ﷺ مع الشّافعيِّ الشّعبيُّ وأحمدُ بنُ حنبلٍ وأصحابهما، وأوجب جماعة من أصحاب الشّافعيّ نيَّة الخروج من الصّلاة، وأوجب أحمدُ - رحمه اللّه تعالى - التّشهُّد الأوّل، وكذلك التّسبيح وتكبيرات الانتقالات، فالجواب أنّ الواجباتِ الثّلاثةَ المجمَع عليها كانت معلومةً عند السّائل، فلم يحتج إلى بيانها، وكذا المختلف فيه عند من يوجبه، يَحمِله على أنّه كان معلومًا عنده" [2]
قال ابن حجر : "وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدَّم: وجوبُ الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصّلاة، وفيه أنّ الشّروع في النّافلة مُلزِم؛ لكن يُحتمَل أن تكون تلك الصّلاة كانت فريضةً فيقف الاستدلال، وفيه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحسن التّعليم بغير تعنيف، وإيضاح المسألة، وتخليص المقاصد، وطلب المتعلِّم من العالم أن يعلِّمه، وفيه تَكرار السّلام وردُّه وإن لم يخرج من الموضع إذا وقعت صورة انفصال، وفيه أنّ القيام في الصّلاة ليس مقصودًا لذاته؛ وإنّما يُقصَد للقراءة فيه، وفيه جلوس الإمام في المسجد، وجلوس أصحابه معه، وفيه التّسليم للعالم، والانقياد له، والاعتراف بالتّقصير، والتّصريح بحكم البشريّة في جواز الخطأ، وفيه أنّ فرائض الوضوء مقصورة على ما ورد به القرآن، لا ما زادته السُّنَّة، فيُندَب، وفيه حسن خلقه ﷺ ولطف معاشرته" [3]
قال ابن تيمية : "فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَر ذلك المسيء في صلاته بأن يُعيد الصّلاة، وأَمْرُ اللّه ورسوله إذا أُطلِق كان مقتضاه الوجوبَ، وأَمَره إذا قام إلى الصّلاة بالطُّمأنينة كما أَمَره بالرّكوع والسُّجود، وأُمْرُه الْمُطلَق على الإيجاب، وأيضًا قال له: «فإنّك لم تصلِّ»، فنفى أن يكون عمله الأوّل صلاةً، والعمل لا يكون منفيًّا إلّا إذا انتفى شيء من واجباته، فأمّا إذا فعل كما أوجبه اللّه عزّ وجلّ، فإنّه لا يصحُّ نفيُه لانتفاء شيء من المستحبَّات الّتي ليست بواجبة. وأمّا ما يقوله بعض النّاس: إنّ هذا نفيُ للكمال... فيُقال له: نعم، هو لنفي الكمال؛ لكن لنفي كمال الواجبات، أو لنفي كمال المستحبَّات؟ فأمّا الأوّل فحقٌّ، وأمّا الثّاني، فباطل، لا يوجد مثل ذلك في كلام اللّه عزّ وجلّ، ولا في كلام رسوله قطُّ، وليس بحقٍّ؛ فإنّ الشّيء إذا كَمُلت واجباته، فكيف يصحُّ نفيُه؟! وأيضًا فلو جاز، لجاز نفيُ صلاة عامَّة الأوّلين والآخرين؛ لأنّ كمال المستحبَّات من أندر الأمور. وعلى هذا؛ فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسّنّة، فإنّما هو لانتفاء بعض واجباته" [4]
قال النوويُّ : "وَأَمَّا حَدِيثُ «اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ»، فمحمولٌ على الفاتحة؛ فإنّها متيسِّرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عَجَز عن الفاتحة. وَقَوْلُه ﷺ: «لَا صَلَاةَ لم لمن يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» فيه دليلٌ لمذهب الشّافعيِّ - رحمه اللّه تعالى - ومن وافقه أنّ قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمأموم والمنفرد... والصّحيحُ الّذي عليه جمهور العلماء من السَّلَف والخَلَف وجوب الفاتحة في كلِّ ركعة؛ لقوله ﷺ للأعرابيّ: «ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها»" [5]
قال النوويُّ : "وفي هذا الحديث دليلٌ على أنّ إقامة الصّلاة ليست واجبةً، وفيه وجوبُ الطّهارة، واستقبالِ القِبلة، وتكبيرة الإحرام، والقراءة، وفيه أنّ التّعوُّذ، ودعاء الافتتاح، ورفع اليدين في تكبيرة الإحرام، ووضع اليد اليمنى على اليسرى، وتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الرّكوع والسّجود، وهيئات الجلوس، ووضع اليد على الفَخِذ، وغير ذلك ممّا لم يذكره في الحديث - ليس بواجب؛ إلّا ما ذكرناه من المجمَع عليه والمختلَف فيه" [6]
قال ابن حجر : "وفيه تأخيرُ البيان في المجلس للمصلحة، وقد استُشكِل تقرير النّبيِّ ﷺ له على صلاته، وهي فاسدةٌ على القول بأنّه أَخَلَّ ببعض الواجبات، وأجاب المازريُّ بأنّه أراد استدراجه بفعل ما يجهله مرَّاتٍ؛ لاحتمال أن يكون فعله ناسيًا أو غافلًا فيتذكَّره فيفعله من غير تعليم، وليس ذلك من باب التّقرير على الخطأ؛ بل من باب تحقُّق الخطأ، وقال النّوويُّ نحوه، قال: وإنّما لم يعلِّمه أوّلًا ليكون أبلغَ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصّلاة المجزئة، وقال ابن الجوزيِّ: يُحتمَل أن يكون ترديدُه لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أنّ الوقت لم يَفُتْه، فرأى إيقاظ الفِطْنة للمتروك، وقال ابن دقيق العيد: ليس التّقرير بدليل على الجواز مطلقًا؛ بل لا بدّ من انتفاء الموانع، ولا شكّ أنّ في زيادة قَبول المتعلّم لما يُلقى إليه بعد تَكْرار فِعله واستجماع نفسه، وتوجُّه سؤاله، مصلحةً مانعةً من وجوب المبادرة إلى التّعليم، لا سيّما مع عدم خوف الفَوات؛ إمّا بناءً على ظاهر الحال، أو بوحيٍ خاصٍّ، وقال التوربشتيُّ: إنّما سكت عن تعليمه أوّلًا؛ لأنّه لَمّا رجع لم يَستكشِف الحال من مَورد الوحي، وكأنّه اغترَّ بما عنده من العلم، فسكت عن تعليمه؛ زجرًا له وتأديبًا وإرشادًا إلى استكشاف ما استَبهَم عليه، فلمّا طلب كشف الحال من مورده، أُرشد إليه. انتهى؛ لكن فيه مناقشة؛ لأنّه إن تمّ له في الصّلاة الثّانية والثّالثة، لم يتمَّ له في الأولى؛ لأنّه ﷺ بدأه لَمّا جاء أوَّلَ مرّة بقوله: «ارجع فصلِّ فإنّك لم تصلِّ»، فالسّؤال وارد على تقريره له على الصّلاة الأولى، كيف لم يُنكِر عليه في أثنائها؟ لكنّ الجواب يَصلُح بيانًا للحكمة في تأخير البيان بعد ذلك، واللّه أعلم" [7]
قال النوويُّ : "وفيه دليلٌ على وجوب الاعتدال عن الرّكوع والجلوس بين السّجدتين، ووجوب الطّمأنينة في الرّكوع والسّجود والجلوس بين السَّجدتين، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، ولم يوجبها أبو حنيفةَ - رحمه اللّه تعالى - وطائفة يسيرة، وهذا الحديث حجَّة عليهم، وليس عنه جواب صحيح، وأمّا الاعتدال، فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء يجب الطُّمأنينة فيه، كما يجب في الجلوس بين السّجدتين، وتوقَّف في إيجابها بعض أصحابنا، واحتجَّ هذا القائل بقوله ﷺفي هذا الحديث: «ثمّ ارفع حتّى تعتدل قائمًا»، فاكتفى بالاعتدال، ولم يذكر الطّمأنينة كما ذكرها في الجلوس بين السّجدتين وفي الرّكوع والسّجود" [8]
قال الشوكانيُّ : "الحديث يدلُّ على وجوب جميع ما ثبت عنه ﷺفي الصلاة من الأقوال والأفعال، ويؤكِّد الوجوبَ كونُها بيان لمجمَل
، وهو أمر قرآنيٌّ يُفيد الوجوب، وبيان المجمَل الواجب واجب كما تقرَّر في الأصول، إلّا أنّه ثبت أنّه ﷺ اقتصر في تعليم المسيء صلاتَه على بعض ما كان يفعله ويُداوم عليه، فعَلِمنا بذلك أنّه لا وجوب لِما خرج عنه من الأقوال والأفعال؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما تقرّر في الأصول بالإجماع، ووقع الخلاف إذا جاءت صيغة أمر بشيء لم يُذكَر في حديث المسيء، فمنهم من قال: يكون قرينةً بصرف الصّيغة إلى النَّدب، ومنهم من قال: تبقى الصِّيغة على الظّاهر الّذي تدلُّ عليه، ويؤخَذ بالزّائد فالزّائد" [9]
قال النوويُّ : "وفيه وجوبُ القراءة في الرّكعات كلِّها، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور كما سبق، وفيه أنّ المفتيَ إذا سُئل عن شيء، وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السّائل، ولم يسأله عنه، يُستحبُّ له أن يذكره له، ويكون هذا من النّصيحة، لا من الكلام فيما لا يعني، وموضع الدّلالة أنّه قال: علِّمني يا رسول اللّه؛ أي: علّمني الصّلاة، فعلَّمه الصّلاة، واستقبال القِبلة، والوضوء، وليسا من الصّلاة؛ لكنّهما شرطان لها، وفيه الرّفق بالمتعلّم والجاهل، وملاطفته، وإيضاح المسألة، وتلخيص المقاصد، والاقتصار في حقّه على المهمِّ دون المكمِّلات الّتي لا يحتمل حاله حفظها والقيام بها، وفيه استحباب السّلام عند اللّقاء، ووجوب ردِّه، وأنّه يُستحبُّ تَكراره إذا تكرَّر اللّقاء وإن قَرُب العهد، وأنّه يجب ردُّه في كلّ مرَّة، وأنّ صيغة الجواب: (وعليكم السّلام)، أو (وعليك) بالواو، وهذه الواو مستحبَّة عند الجمهور، وأوجبها بعض أصحابنا، وليس بشيء؛ بل الصّواب: أنّها سنَّة؛
( قَالُواْ سَلَٰمٗاۖ قَالَ سَلَٰمٞۖﱡ ﱠ)
، وفيه أنّ من أخلَّ ببعض واجبات الصّلاة لا تصحُّ صلاته، ولا يسمَّى مصلِّيًا؛ بل يقال: لم تصلِّ، فإن قيل: كيف تركه مرارًا يصلّي صلاةً فاسدةً؟ فالجواب: أنّه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا عَلِم من حاله أنّه يأتي بها في المرّة الثّانية والثّالثة فاسدةً؛ بل هو محتمِل أن يأتيَ بها صحيحةً؛ وإنّما لم يعلِّمْه أوّلًا ليكون أبلغَ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصّلاة المجزئة، كما أمرهم بالإحرام بالحجِّ ثمّ بفسخه إلى العمرة؛ ليكون أبلغَ في تقرير ذلك عندهم، واللّه أعلم" [10]
المراجع
- "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (ص 166).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 107، 108).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 280، 281).
- "مجموع الفتاوى" (22/ 529، 530).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 281).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (2/ 203، 204).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 108، 109).