غريب الحديث
القرن: أهل كلِّ زمان، وهو مقدار التوسُّط في أعمار أهل كلِّ زمان، مأخوذٌ من الاقتران، وكأنه الْمِقدار الذي يَقترِن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن: أربعون سنةً، وقيل: ثمانون، وقيل: مِائة، وقيل: هو مُطلَق من الزمان[1].
السِّمَن: وفي رواية: يَتَسَمَّنُون؛ أي: يَتَكثَّرون بما ليس فيهم من الخير، ويدَّعون ما ليس لهم من الشرف، وقيل: معناه: جمعُهم المالَ ليلحقوا بذَوِي الشَّرَف[2].
المراجع
- "النهاية في غري1ب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 51).
- "تهذيب اللغة" للأزهريِّ (13/ 17).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي»؛ أي: أفضلُ الناس في أمتي أهلُ قَرْني، وهم الذين عاصروا النبيَّ ﷺ، وبُعِث فيهم، وآمَنُوا به واتَّبَعوه. «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ أي: ثم يليهم في الأفضلية والخيرية القرنُ الذي بعدَهم، وهم التابعون، والتابعيُّ: هو من لَقِيَ الصحابيَّ. «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وهم أتباع التابعين، وتابعُ التابعيِّ: هو من لَقِيَ التابعيَّ، ولم يُدرِك الصحابة رضى الله عنهم.
قَالَ عِمْرَانُ: (فَلاَ أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟): شكَّ عمرانُ، وجاءت أكثر طرق هذا الحديث بغير شكٍّ.
قوله ﷺ: «ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»؛ أي: ثم يأتي بعد هذه القرون الثلاثة الفاضلة، قومٌ، من صفاتهم: أنهم يَسبِقون بأداء الشهادة قبل أن يُطلَب منهم أن يَشهَدوا؛ وذلك لهوىً لهم في الشهادة. «ويَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ»؛ أي: ومن صفاتهم كذلك أنهم يخونون الأمانة، فلا يَثِقُ الناس بهم ولا يأمنونهم. «وَيَنْذِرُون وَلا يَفُون»؛ أي: يَنذِرون لله، أو يُوجِبون عهودًا للناس على أنفسهم، ولا يُوفون بنذورهم أو عهودهم. «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ»؛ أي: يَكثُر فيهم السِّمَن، وهو كناية عن حرصهم على الدنيا والتنعُّم بشهواتها، أو يَتَكثَّرون بما ليس فيهم من الخير والشرف.
الشرح المفصَّل للحديث
بُعِث رسول الله ﷺ، والناس في جاهلية جَهْلاءَ، وضلالةٍ عَمْياءَ، يَعبُدون الأصنام، ويأكلون الربا، ويستحِلُّون الفُروج والزنا، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده، فآمن به من آمن، وكَفَر به من كفر، تعرَّض ﷺ للإيذاء، فصَبَر وصابر، وأيَّده الله بصحابة كرام، عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه. والصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك[1]. وإن حبَّ الصحابة الكرام علامةٌ على الإيمان، وبُغْضَهم آيةٌ على النِّفاق.
إن الصحابة - رضوان الله عليهم - هم أفضل أمَّة محمدٍ ﷺ، والأدلَّة على ذلك متكاثرة في الكتاب والسنَّة؛ فليس هناك أفضلُ ممَّن زكَّاهم الله تعالى، وعدَّلهم، وأثنى عليهم، ورَضِي عنهم، وقد أخبر ﷺ أنهم أمان لأمَّته ما بَقِيَ منهم فيها أحد، فإن هم ذهبوا، أتى الأمَّةَ ما تُوعَد؛ قال ﷺ: «وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي، فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ»[2].
وفي الحديث قال ﷺ: «خَيْرُ الناس قَرْنِي» إشارةً إلى أن أصحاب النبيِّ ﷺ هم أفضلُ أصحاب الأنبياء على الإطلاق، وأفضلُ بني آدَمَ، وصفوةُ الخَلق بعد الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد ثَبَتَ كَوْنُهم أفضلَ هذه الأمة، التي هي خيرُ أمَّة أُخرجت للناس، فهم أفضلُ الأمم على الإطلاق
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ
قال ابن عبَّاس – رضي الله عنهما -: "أصحاب محمد ﷺ اصطفاهم لنبيِّه"[3].
وقد "اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ﷺ، والمرادُ أصحابُه، والصَّحيحُ الذي عليه الجمهورُ أنّ كلَّ مسلم رأى النّبيَّ ﷺ ولو ساعةً، فهو من أصحابه، ورواية (خير النّاس) على عمومها، والمراد منه: جُملة القرن، ولا يلزم منه تفضيلُ الصّحابيِّ على الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، ولا أفراد النّساء على مريمَ وآسِيَةَ وغيرهما؛ بل المرادُ جُملة القرن بالنّسبة إلى كلِّ قرن بجُملته"[4].
"ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[5].
وقد اختُلف في معنى قوله ﷺ: قرني. "فقيل: قرنُه: أصحابُه، والذى يليه: أبناؤهم، والثالث: أبناء أبنائهم، وقيل: قرنُه: ما بَقِيَت نفسٌ رأته، والثاني: ما بَقِيت نفسٌ رأت من رآه، ثم كذلك، وقال غير واحد: القرن: كلُّ طبقتين مقترنتين في وقت.
واختُلف في مدَّة القرن، فقيل: ثمانون سنةً، وقيل: سبعون، وقيل: مِائة، وقيل: مائة وعشرون، "والأصحُّ أنه لا ينضبط بمدَّة، فقرنُه ﷺ هم الصحابة، وكانت مدَّتُهم من الْمَبعث إلى آخِرِ مَن مات من الصحابة مِائةً وعشرين سنةً، وقرنُ التابعين من مِائة سنةٍ إلى نحو سبعينَ، وقرنُ أتباع التابعين من هذا الحين إلى نحو العشرين ومِائتينِ، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأَطلَقت المعتزلة ألسنَتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهلُ العِلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيَّرت الأحوال تغيُّرًا شديدًا، ولم يَزَلِ الأمر في نقص إلى الآن"[6].
"فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ، ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصُحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[7].
وهناك من العلماء من قال: إن الأفضلية لمن تحقَّقت لهم صحبة رسول ﷺ، "وهذا التفضيل باعتبار الجُملة، فلا يُنافي أن يكون في المتأخِّرين بعض الأفراد خيرًا، كما في رواية الترمذيِّ: «إن من ورائكم أيامًا الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر، وللعامل فيهن أجر خمسين منكم»[8]"[9] فإنه "قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة، أفضل ممن كان في جُملة الصحابة، وأن قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني»، ليس على عمومه؛ بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه - عليه الصلاة والسلام - جماعة من المنافقين المظهِرين للإيمان، وأهلَ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود"[10].
"وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى أن هذا كلَّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتَل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنُصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين"[11].
"والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله ﷺ، وأما من اتَّفَق له الذَّبُّ عنه، والسَّبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من خصلة من الخصال المذكورة، إلا وللذي سبق بها مِثْلُ أجر من عمل بها من بعده؛ فظَهَر فضلهم"[12]، والراجح ما ذهب إليه الجمهور، فالصُّحبة لا يَعدِلها شيء على الإطلاق.
ويؤيِّده قول النبيِّ ﷺ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلَا نَصِيفَهُ»: والنَّصِيفُ هو النِّصْفُ؛ أي: "أن جُهْدَ الْمُقِلِّ منهم، واليسيرَ من النَّفَقة الذي أنفقوه في سبيل الله، مع شدَّة العَيش، والضيق الذي كانوا فيه، أَوْفى عند الله وأزكى من الكثير الذي يُنفِقه مَن بعدَهم"[13].
"وهذا يقتضي تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ لأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر، وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد، ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ ﷺ وحمايته، وذلك معدومٌ بعدَه، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها،
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ
هذا فرق ما فيهم أنفسِهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وقد "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرَحِمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[15].
لقد أيَّد الله تعالى نبيَّه ﷺ بهؤلاء الصحب الكرام، الذين عَرَفوا معنى الصُّحبة، فنصروه، وآوَوْه، وآزَرُوه، وجاهدوا معه
لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
وقد اختار الله عزَّ وجلَّ الصحابة لصُحبة نبيِّه، اختارهم ليحملوا راية هذا الدين، ليَزْرَعوا بِذْرَته، ويحملوا لواءه؛ عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه: قال: "إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمَّدٍ ﷺ خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمَّد، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيِّه، يقاتلون على دينه"[16].
وقد أعلى الله شأن الصحابة، وأبقى في العالمين ذكرَهم
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ
ولقد رغَّبَ النبيُّ ﷺ في حُبِّ صحابته الكرام، وحذَّرنا من بُغضهم؛ فعن البَرَاء رضى الله عنه، قَالَ:
«الأَنْصَارُ لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ»
وقد رَضِي الله تعالى عن الصحابة ومن اتَّبَعهم بإحسان، ووَعَدهم بالجنة
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
وقد رتَّب الله تعالى في آيات سورة الحشر الصحابة على منازلهم وتفاضلهم، ثم أَرْدَفهم بذكر التابعين
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قال عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما: "من كان مُسْتنًّا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ﷺ، كانوا خيرَ هذه الأمَّة، أَبَرَّها قلوبًا، وأعمقَها عِلمًا، وأقلَّها تكلُّفًا، قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه ﷺ، ونقل دينه، فتشبَّهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمَّد ﷺ كانوا على الهُدى المستقيم"[18].
وقال بعض القوم للحسن البصريِّ - رحمه الله -: أَخبِرْنا صفةَ أصحاب رسول الله ﷺ، فبكى، وقال: "ظَهَرت منهم علاماتُ الخَير في السِّيما والسَّمْتِ والهُدى والصِّدق، وخشونةِ ملابسهم بالاقتصاد، ومَمشاهم بالتواضُع، ومَنطِقهم بالعمل، ومَطعَمِهم ومَشرَبِهم بالطِّيب من الرزق، وخُضوعهم بالطاعة لربِّهم تعالى، واستقادتهم للحقِّ فيما أحبُّوا وكَرِهوا، وإعطائهم الحقَّ من أنفسهم، ظَمِئت هَوَاجِرُهم، ونَحَلَت أجسامهم، واستخفُّوا بسُخْط المخلوقين في رضى الخالق، لم يفرِّطوا في غَضَب، ولم يَحِيفوا في جَور، ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شَغَلوا الأَلْسُن بالذِّكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم، وبَذَلوا أموالهم حين استقرَضَهم، ولم يَمنَعْهم خوفُهم من المخلوقين، حَسُنت أخلاقُهم، وهانت مُؤْنتهم، وكفاهم اليسيرُ من دنياهم إلى آخرتهم"[19].
وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "قاموا بمعالم الدين، وناصحوا الاجتهاد للمسلمين، حتى تهذَّبت طُرُقُه، وقَوِيت أسبابه، وظَهَرت آلاء الله، واستقرَّ دينه، ووَضَحت أعلامه، وأذلَّ الله بهم الشِّرك، وأزال رؤوسه، ومحا دعائمه، وصارت كلمةُ الله هي العُليا، وكلمةُ الذين كفروا السُّفلى، فصلوات الله ورحمته وبركاته على تلك النفوس الزاكية، والأرواحِ الطاهرة العالية، فقد كانوا في الحياة لله أولياءَ، وكانوا بعد الموت أحياءً، وكانوا لعباد الله نُصَحَاءَ، رحلوا إلى الأخرى قبل أن يصلوا إليها، وخرجوا من الدنيا وهم بَعْدُ فيها"[20].
قوله ﷺ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»؛ أي: القرن الذي بعدهم وهم التابعون، والتابعيُّ: هو من لَقِيَ الصحابيَّ، «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» وهم أتباع التابعين، وتابعُ التابعيِّ: هو من لَقِيَ التابعيَّ، ولم يُدرِك الصحابة رضى الله عنهم. وهؤلاء هم الذين حملوا الرسالة والعِلم من الصحابة، وبلَّغوه، وأسَّسوا العلوم الشرعية، ودوَّنوا السنَّة، وأكملوا الفتوحاتِ الإسلاميةَ، ونَشْرَ دين الله في الأرض.
«قَالَ عِمْرَانُ: فَلاَ أَدْرِي: أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا؟»: شكَّ عمرانُ بعد قرنه: هل ذكر قرنين أو ذكر ثلاثة؟ وجاءت أكثر طرق هذا الحديث بغير شكٍّ.
قوله ﷺ: «ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ»؛ أي: يأتي بعد هذه القرون الفاضلة، قومٌ من صفاتهم أنهم يَسبِقون بأداء الشهادة قبل أن يُسأَلوها؛ وذلك لهوىً لهم فيها، ومن كان كذلك رُدَّت شهادته، ولا تَعارُضَ بين هذا الحديث، وحديث زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ رضى الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ؟ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا»[21]؛ فهو محمول على شاهد الزُّور، وهذا الحديث على شهادة الحقِّ، أو أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة[22].
"وقد تأوَّل العلماء هذا تأويلات؛ أصحُّها: تأويل الشافعية أنه محمولٌ على مَن معه شهادةٌ لآدميٍّ عالمٍ بها، فيأتي فيَشهَد بها قبلَ أن تُطلَب منه، والثاني: أنه محمولٌ على شاهد الزور، فيَشهَد بما لا أصلَ له، ولم يُستشهَد، والثالث: أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة، والرابع: أنه محمول على من يَشهَد لقوم بالجنة، أو بالنار، من غير توقُّف، وهذا ضعيف، والله أعلم"[23].
وفي رواية عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»[24]. "قَوْله: «تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ»؛ لأن فيه معنى الجَور؛ لأن معناه أَنهم لا يتورَّعون فِي أقوالهم، ويستهينون بالشهادة واليَمين... وهم الذين يَحرِصون على الشهادة مشغوفون بترويجها، يَحلِفون على ما يَشهَدون به، فتارةً يَحلِفون قبل أَن يَأْتُوا بالشهادة، وتارةً يَعكِسون، ويُحتمَل أن يكون مثلاً في سرعة الشهادة واليمين، وحرص الرجل عليهما، حتى لا يدريَ بأيِّتهما يبتدئ، فكأنه يسبق أحدهما الآخَر من قلَّة مبالاته بالدِّين"[25].
ومن صفاتهم كذلك أنهم – كما قال ﷺ -: «يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ»؛ أي: يَطلُبون الأمانة، ثم يخونون فيها، فلا يَثِقُ الناس بهم؛ لظهور خيانتهم، وتجدُّدها، ففي التعبير بلفظ المضارع دلالة على استمرار خيانتهم، وعَدَمِ رجوعهم عنها، فلا يأمنهم أحد على شيء قلَّ أو كَثُر، والخيانة هي: الغدر والخديعة في موضع الائتمان.
ومن صفاتهم أيضًا – كما قال ﷺ -: «وَيَنْذِرُون وَلاَ يَفُون»؛ أي: لا يُوفون بعهودهم التي أوجبوها على أنفسهم، فالنذر: هو ما أَوجَبه العبد على نفسه تطوُّعًا من عبادة أو صدقة، والنَّذْرُ قد يكون للآدميِّ، وقد يكون لله عزَّ وجلَّ، فالنذر للآدميِّ بمعنى العهد الذي يتعهَّد به الإنسان بينه وبين غيره، "وقد اختَلَف العلماء في ابتداء النذر، قيل: مستحَبٌّ، وقيل: مكروهٌ، وأما الوفاءُ بالنذر فالإجماعُ على وجوبه إن كان طاعةً، وإن كان معصيةً فلا شيء عليه، إلا عند الإمام أحمدَ وأبي حنيفةَ، فإن عليه كفَّارةَ يَمين"[26].
وقد حثَّ الله تعالى ونبيُّه ﷺ على الوفاء بالنذر
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،
«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلاَ يَعْصِهِ»
وجعل الله تعالى الإيفاء بالنَّذْرِ من صفات عباد الله المتَّقِين
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
ومن صفاته أيضًا – كما قال ﷺ -: «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَن»؛ أي: ويَكثُر فيهم السِّمَن، وهو: "التكثُّر بما ليس فيهم من الشَّرَف، وقيل: أراد به جَمْعَ المال، والحرصَ على الدنيا، وقيل: هو كنايةٌ عن الغَفْلة، وقلَّة الاهتمام بأمر الدين، فإنَّ الغالب على أهل السِّمَن أن لا يهتمُّوا برياضة البَدَن، وتكميل النفس؛ بل مُعظم هِمَمِهم تناول الحظوظ الدنيوية"[28]، ولا يلزم أن يكون كلُّ واحد من هؤلاء المترَفين سمينًا، فهو وصفٌ للغالب عليهم؛ ففيهم السَّمين وغيرُ السَّمين.
المراجع
- "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
- رواه مسلم (2531).
- "جامع البيان في تأويل القرآن" للطبريِّ (19/ 482).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 84).
- "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (9/ 3878).
- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
- رواه الترمذيُّ (2260) من حديث أنس رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (8002).
- "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (5/ 264).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 80).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "فتح الباري" لابن حجر (7/ 7).
- "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 308).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
- رواه أحمدُ (3600)، وحسَّنه الألبانيُّ في "تخريج الطحاوية" (ص:530).
- رواه البخاريُّ (3783)، ومسلم (75).
- رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (1/305-306).
- رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (2/ 150).
- "مروج الذهب" للمسعوديِّ (1/ 371).
- رواه مسلم (1719).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
- رواه البخاريُّ (2652)، ومسلم (2533).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (13/ 214).
- "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (10/ 284).
- رواه البخاريُّ (6696)
- "شرح مصابيح السنة للإمام البغويِّ" لابن الملك (6/ 398).
النقول
قال ابن الأثير رحمه الله: "القرن: أهل كلِّ زمان، وهو مقدار التوسُّط في أعمار أهل كلِّ زمان، مأخوذٌ من الاقتران، وكأنه الْمِقدار الذي يَقترِن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: القرن: أربعون سنةً، وقيل: ثمانون، وقيل: مِائة، وقيل: هو مُطلَق من الزمان[1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "هذا الحديثُ يُوجِب الذمَّ والنقص لمن لم يَفِ بالنذر، وهذا من أشراط الساعة، وقَرَن النبيُّ ﷺ ذمَّ من لم يَفِ بالنذر بخيانة الأمانة، شَهِد به كتاب الله العزيز، وجاء به على لسان الرسول، وذلك أن من لم يَفِ لله بما عاهَدَه، فقد خان أمانته في نقضه ما جَعَل لربِّه - عزَّ وجلَّ - على نفسه، فأَشبَه ذلك من خان غيرَه فيما ائتَمَنه عليه، والأول أعظمُ خيانةً وأشدُّ إثمًا، وأثنى الله تعالى على أهل الوفاء، فقال:
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
فدلَّ هذا أن الوفاء بالنذر مما يُدفَع به شرُّ ذلك اليوم. وقوله: «وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَن»: هو كناية عن رغبتهم في الدنيا، وإيثارهم شهواتها على الآخرة وما أَعَدَّ الله فيها لأوليائه من الشهوات التي لا تَنفَد، والنعيم الذي لا يَبِيد، فهم يأكلون في الدنيا كما تأكل الأنعام، ولا يَقتَدون بمن كان قبلهم من السَّلَف الذين كانت هِمَّتُهم من الدنيا في أخذ القوت والبُلغة، وتوفير الشهوات إلى الآخرة"[2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وعقيدة جمهور العلماء: أن من رآه - عليه الصلاة والسلام - وكان في عِدَاد أصحابه، فقد حَصَّل فضيلةً لا يُدرِكها أفضلُ كلِّ من يأتي بعدَه. واختَلف الناس في القرن ما هو؟ وما المراد ب(قرني) هنا؟ فقال المغيرة: قرنُه: أصحابه، والذي يليه: أبناؤهم، والثالث: أبناء أبنائهم. وقال شمر: قرنُه: ما بَقِيت نفسٌ رأتْه، والثاني: ما بَقِيَت نفس رأت من رآه، ثم كذلك. وقال غيرُ واحد: القرنُ: كلُّ طبقتينِ مقترنتين في وقت. وقيل ذلك لأهل كلِّ مدَّة بُعِث فيها نبيٌّ، طالت أو قصرت. واشتقاقه من الاقتران... جاء في الصحيح: «خيرُ الشهود الذى يأتي بشهادته قبل أن يُسألها»، وفسَّره مالك بالرجل يكون عنده الشهادة في الحقِّ تكون للرجل لا يَعلَمها، فيُخبِره بها، ويَرفَعها إلى السلطان. قال الطحاوي - رحمه الله تعالى -: والأولى بنا أن نحمل الأحاديث على هذا التأويل حتى لا يتضادَّ ولا يختلف"... والشهادة تأتي بمعنى اليمين
فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
وقيل: معناه: أن يَحلِف إذا شَهِد وإذا عاهَد... وفى قوله: «ويفشو فيهم السِّمَن»، «ويحبُّون السمانة» قالوا: دليلٌ على حرص هؤلاء على الدنيا، والتنعُّم فيها، ومحبَّة الأكل والشهوات. وقوله: «ويَنذِرون ولا يُوفُون» دليلٌ على وجوب الوفاء بالنَّذر ولزومه، وذمِّ مَن لم يفعل ذلك. وقوله في الرواية الأخرى: (يَفُون) صحيحان، يقال: وَفى وأَوْفى، وفي هذا الحديث كلِّه دليلٌ وعَلَم على نبوَّته - عليه الصلاة والسلام - لوجود ما قاله عِيانًا"[3].
قال النوويُّ رحمه الله: "اتَّفَقَ العلماءُ على أنَّ خيرَ القرون قرنُه ﷺ، والمرادُ أصحابُه، والصَّحيحُ الّذي عليه الجمهورُ أنّ كلَّ مسلم رأى النّبيَّ ﷺ ولو ساعةً، فهو من أصحابه، ورواية (خير النّاس) على عمومها، والمراد منه: جُملة القرن، ولا يلزم منه تفضيلُ الصّحابيِّ على الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم، ولا أفراد النّساء على مريمَ وآسِيَةَ وغيرهما؛ بل المرادُ جُملة القرن بالنّسبة إلى كلِّ قرن بجُملته"[4].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وهذا يقتضي ما قدَّمناه من قول جمهور الأمَّة من تفضيلهم على من سواهم بتضعيف أجورهم؛ ولأن إنفاقهم كان في وقت الحاجة والضرورة وإقامة الأمر وبَدء الإسلام، وإيثار النفس، وقلَّة ذات اليد، ونَفَقة غيرهم بعد الاستغناء عن كثير منها، مع سَعَة الحال، وكثرة ذات اليد؛ ولأن إنفاقهم كان في نُصرة ذات النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - وحمايته، وذلك معدوم بعده، وكذلك جهادهم وأعمالهم كلها"
لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ
هذا فرق ما فيهم أنفسهم من الفضل، وبينهم من البَون؛ فكيف لمن يأتي بعدَهم؟! فإن فضيلة الصُّحبة واللقاء ولو لحظةً، لا يوازيها عَمَلٌ، ولا ينال درجتها شيء، والفضائلُ لا تؤخذ بقياس
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ
وقد ذَهَب بعض أصحاب الحديث والنَّظر إلى هذا كلِّه في خاصَّة أصحابه، وجوَّز هذه الفضيلة لمن أنفق معه، وقاتل، وهاجَر، ونَصَر، لا لمن زارَه مرَّةً ولَقِيَه مرَّةً من القبائل، أو صَحِبه آخر مرَّة، وبعد فتح مكَّةَ، واستقرار الإسلام، ممَّن لم يُقرَّ بهجرة، ولا حضَّ بنصرة، ولا اشتُهِر بمقام محمود في الدين، ولا عُرف باستقلال بأمر من أمور الشريعة، ومنفعة المسلمين، والقولُ الأول لظاهر الآثار أظهرُ، وعليه الأكثر. وسبُّ أصحاب النبيِّ - عليه السلام – وتنقُّصهم، أو أحدٍ منهم من الكبائر المحرَّمة، وقد لَعَن النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فاعلَ ذلك، وذَكَر أنه من آذاه وآذى الله، فإنه لا يُقبَل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"[5].
قال ابن تيمية رحمه الله: "ومَن نَظَر في سِيرة القوم بعِلْمٍ وبَصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، عَلِم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلُهم، وأنهم الصَّفْوة من قرون هذه الأمَّة، التي هي خيرُ الأمم، وأكرمُها على الله تعالى"[6].
قال الإمام أحمد رحمه الله: "فأدناهم صُحبةً هو أفضلُ من القرن الذين لم يَرَوْهُ ﷺ ولو لَقُوا اللهَ بجميع الأعمال، كان هؤلاء الذين صَحِبوا النبيَّ ﷺ ورَأَوْهُ، وسَمِعوا منه، ومن رآه بعَيْنه وآمن به ولو ساعةً، أفضلُ بصحبته من التابعين، ولو عَمِلوا كلَّ أعمال الخير"[7].
قال الشافعيُّ رحمه الله: "أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله ﷺ في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبَق لهم على لسان رسول الله ﷺ من الفضل ما ليس لأحدٍ بعدَهم، فرحمهم الله وهنَّأهم بما آتاهم من ذلك، ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقين والشهداء والصالحين، هم أَدَّوْا إلينا سُنن رسول الله ﷺ، وشاهدوه والوحيُ ينزل عليه، فعَلِموا ما أراد رسول الله ﷺ، عامًّا وخاصًّا، وعَزْمًا وإرشادًا، وعرَفوا من سُننه ما عرَفنا وجهِلنا، وهم فوقنا في كلِّ علم واجتهاد، ووَرَع وعقل، وأمرٍ استُدرِك به علمٌ، واستُنبط به، وآراؤهم لنا أَحْمَدُ وأَوْلى بنا من آرائنا عندنا لأنفسنا"[8].
قال ابن أبي حاتم الرازي رحمه الله: "فأما أصحاب رسول الله ﷺ فهم الذين شَهِدوا الوحيَ والتنزيل، وعَرَفوا التفسير والتأويل، وهم الذين اختارهم الله عزَّ وجلَّ لصُحبة نبيِّه ﷺ ونُصرته، وإقامة دينه، وإظهار حقِّه، فرَضِيَهم له صحابةً، وجَعَلهم لنا أعلامًا وقُدوة، فحَفِظوا عنه ﷺ ما بَلَغهم عن الله - عزَّ وجلَّ - وما سنَّ وشَرَع، وحَكَم وقضى، ونَدَب وأَمَر، ونهى وحَظَر وأدَّب، ووَعوه فأتقنوه، ففَقِهوا في الدين، وعَلِموا أمر الله ونهيَه ومُراده، بمعاينة رسول الله ﷺ ومشاهدتهم منه تفسير الكتاب وتأويله، وتلقُّفهم منه، واستنباطهم عنه، فشرَّفهم اللهُ - عزَّ وجلَّ - بما منَّ عليهم وأكرمهم به من وضعِه إيَّاهم موضعَ القُدوة، فنَفَى عنهم الشكَّ والكَذِب، والغَلَط والرِّيبة والغَمز، وسمَّاهم عُدول الأمَّة؛ فقال عزَّ ذِكْره في مُحكَم كتابه:
كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
ففسَّر النبيُّ ﷺ عن الله عزَّ ذِكْرُه قولَه: وَسَطاً، قال: عَدْلاً، فكانوا عُدول الأمَّة، وأئمَّة الهدى، ونَقَلة الكتاب والسنَّة. ونَدَب الله - عزَّ وجلَّ - إلى التمسُّك بهَدْيِهم، والجَرْيِ على مناهجهم، والسُّلوك لسبيلهم، والاقتداء بهم؛ فقال:
وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ
ووَجَدْنا النبيَّ ﷺ قد حضَّ على التبليغ عنه في أخبار كثيرة، ووجدْناه يخاطِب أصحابه فيها، منها أن دعا لهم فقال: «نَضَّرَ اللهُ امرءًا سَمِع مقالتي، فحَفِظها ووعاها حتَّى يبلِّغَها غيرَه»[9]، وقال ﷺ في خُطبته: «فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ منكم الغائبَ»[10]، وقال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عنِّي ولا حَرَج»[11]. ثم تفرَّقت الصحابة - رضي الله عنهم - في النواحي والأمصار والثُّغور، وفي فتوح البُلدان والمغازي، والإمارة والقضاء والأحكام، فبثَّ كلُّ واحد منهم في ناحيته، وبالبلد الذي هو به، ما وَعَاه وحفظه عن رسول الله ﷺ وحكموا بحكم الله - عزَّ وجلَّ - وأمضَوُا الأمور على ما سنَّ رسول الله ﷺ عن نظائرها من المسائل، وجرَّدوا أنفسهم مع تَقدِمة حُسْنِ النيَّة، والقُربة إلى الله تقدَّس اسمُه؛ لتعليم الناس الفرائضَ والأحكام، والسُّنَنَ والحلال والحرام، حتى قَبَضهم اللهُّ، عزَّ وجلَّ، رضوان الله ومغفرته ورحمته عليهم أجمعين"[12].
قال ابن حجر رحمه الله: "الصحابيُّ: هو من لَقِيَ النبيَّ ﷺ، مؤمنًا به، ومات على ذلك"[13]
قال السُّيوطيُّ رحمه الله: "والأصحُّ أنه لا ينضبط بمدَّة، فقرنُه ﷺ هم الصحابة، وكانت مدَّتُهم من الْمَبعث إلى آخِرِ مَن مات من الصحابة مِائةً وعشرين سنةً، وقرنُ التابعين من مِائة سنةٍ إلى نحو سبعينَ، وقرنُ أتباع التابعين من ثَمَّ إلى نحو العشرين ومِائتينِ، وفي هذا الوقت ظهرت البِدَع ظهورًا فاشيًا، وأَطلَقت المعتزلة ألسنَتها، ورَفَعت الفلاسفة رؤوسها، وامتُحن أهلُ العِلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيَّرت الأحوال تغيُّرًا شديدًا، ولم يَزَلِ الأمر في نقص إلى الآن"[14].
قال الحورانيُّ رحمه الله: "وهذا التفضيل باعتبار الجُملة، فلا يُنافي أن يكون في المتأخِّرين بعض الأفراد خيرًا، كما في رواية الترمذيِّ: «إن من ورائكم أيامًا الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر، وللعامل فيهن أجر خمسين منكم»[15]".[16].
قال ابن حجر رحمه الله: "والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل؛ لمشاهدة رسول الله ﷺ، وأما من اتَّفَق له الذَّبُّ عنه، والسَّبق إليه بالهجرة، أو النُّصرة، وضبط الشرع المتلقَّى عنه، وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يَعدِله أحدٌ ممن يأتي بعده؛ لأنه ما من َخصلة من الخصال المذكورة، إلا وللذي سبق بها مِثْلُ أجر من عمل بها من بعده؛ فظَهَر فضلهم"[17].
قال القسطلانيُّ رحمه الله: "ذهب ابنُ عبد البرِّ إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة، أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وأن قوله عليه الصلاة والسلام: «خير الناس قرني»، ليس على عمومه؛ بدليل ما يجمع القرن بين الفاضل والمفضول، وقد جمع قرنه عليه الصلاة والسلام جماعة من المنافقين المظهِرين للإيمان، وأهلَ الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود"[18]
قال النوويُّ رحمه الله: "وقد تأوَّل العلماء هذا – أي: الحديث المراد شرحه – تأويلات؛ أصحُّها: تأويل أصحابنا أنه محمولٌ على مَن معه شهادةٌ لآدميٍّ عالمٍ بها، فيأتي فيَشهَد بها قبلَ أن تُطلَب منه، والثاني: أنه محمولٌ على شاهد الزور، فيَشهَد بما لا أصلَ له، ولم يُستشهَد، والثالث: أنه محمولٌ على من يَنتصِب شاهدًا، وليس هو من أهل الشهادة، والرابع: أنه محمول على من يَشهَد لقوم بالجنة، أو بالنار، من غير توقُّف، وهذا ضعيف، والله أعلم"[19].
قال الحورانيُّ رحمه الله: "وقد اختَلَف العلماء في ابتداء النذر، قيل: مستحَبٌّ، وقيل: مكروهٌ، وأما الوفاءُ بالنذر فالإجماعُ على وجوبه إن كان طاعةً، وإن كان معصيةً فلا شيء عليه، إلا عند الإمام أحمدَ وأبي حنيفةَ، فإن عليه كفَّارةَ يَمين"[20].
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 51).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 156).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 570).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 84).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (7/ 580).
- "مجموع الفتاوى" (3/ 156).
- "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائيِّ (1/ 180).
- "مناقب الشافعيِّ" للبيهقيِّ (1/442).
- رواه ابن ماجه (230)، والترمذيُّ (2658)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (91).
- رواه البخاريُّ (1739).
- رواه البخاريُّ (3461) بلفظ: «وحدثوا عن بني إسرائيل» بدلاً من «وحدثوا عني».
- "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (1/ 7-8).
- "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 8).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (9/ 3878).
- رواه الترمذيُّ (2260) من حديث أنس رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالقَابِضِ عَلَى الجَمْرِ». وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (8002).
- "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (5/ 264).
- "فتح الباري" لابن حجر (7/ 7).
- "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (6/ 80).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 17).
- "الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري" للحورانيِّ (10/ 284).