المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عن رَسُولَ اللهِ ﷺ أنه قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»؛ فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من الْمَشرِق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، طَلَعت من مغربها. «فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»: وهذا إيمانُ اضْطِرار، لا اختيارَ فيه؛ فقد ظهر الغَيب الذي ليس بعدَه اختيارٌ، فيؤمِن جميع البشر؛ فقد أيقنوا أن الساعةَ قائمة، وهذه كُبرى العلامات تُنبئهم ألَّا إيمانَ، ولا توبةَ، ولا اختيارَ بعد هذه اللحظة. «فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا» فالإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها وَقَع بعد المشاهدة، لذا؛ لا يَنفَعُهم إيمانهم ولا توبتُهم؛ فقد قضى الله تعالى أن الإيمان إنما يَنفَع إذا كان بالاختيار لا الاضطرار.
الشرح المفصَّل للحديث
إن العبوديةَ لله هي غايةُ الوجود الإنسانيِّ؛ فقد خَلَق اللهُ تعالى الخَلْقَ ليعبدوه
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
فالعبادةُ حقُّ الله على عباده، وليس اللهُ تعالى بحاجة إلى تلك العبودية؛ فيقول في الحديث القُدسيِّ: «يا عبادي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»[1]؛ بل لا قدرةَ للعباد على العبادة بدون إعانة الله لهم
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾.
وقد جعل الله تعالى للإنسان فرصة متجدِّدة باستمرار لبداية حياة جديدة في طاعة الله، مهما كانت معصيتُه، حتى ولو كانت الكفرَ بالله، وتنتهي هذه الفرصة إما بالغرغرة؛ كما قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ»[2]، أو بطُلوعِ الشمس من مَغرِبها؛ فحينئذٍ سيكون الإيمانُ اضطرارًا لا اختيارًا.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين باغتنام الأعمار في طاعة الله، والمسارعة إلى فعل الخيرات، والمداومة عليها، قبلَ أن لا يكون هناك سبيلٌ إلى ذلك
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
وذلك حتى يكون المسلم مستعِدًّا للقاء الله - عزَّ وجلَّ - والاستعدادُ إنما يكون بالإيمان والعمل الصالح. لذا؛ جَعَل الله تعالى المسابقة إلى فعل الصالحات صفةً من صفات المؤمنين
أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
وهي من أجلِّ الطاعات، وأعظم القُربات إلى الله تعالى.
وفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن الفرصة للتوبة والرجوع إلى الله موجودة ومستمرَّة، وأن على الإنسان أن يستغلَّها في الأجل المحدَّد الذي ينتهي بالموت، أو بطُلوع الشمس من مغربها، فيُرشِد النبيُّ ﷺ إلى استغلال الأوقات فيما يَنفَع العباد، وبَذْلِها في مواطن الخير والصلاح، قبلَ أن لا يقدر عليها، أو يُحال بينه وبينها بالموت أو ظهور علامات القيامة، وحينها لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت مِن قبلِ ذلك.
وإنه لا يعلم متى تقوم الساعةُ إلا اللهُ تعالى، وقد أخبر النبيُّ ﷺ ببعض علاماتها
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا 42 فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا 43 إِلَىٰ رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا 44 إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا
وفي هذا الحديث يقول النبيُّ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»؛ فالشمسُ تُشرق كلَّ يوم من الْمَشرِق، فإذا قَرُب وقت قيام الساعة، طَلَعت من مغربها؛ فالفُرصة متاحة لجميع الخلق للإيمان والتوبة والرجوع إلى ربِّهم. إنه أَجَلٌ محدَّد لكلِّ البشر على سبيل الإجمال، وهناك فرصة أخرى لكلِّ إنسان على حِدَةٍ تنتهي بالغرغرة وطلوع الروح.
«فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا، آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ»: وهذا إيمان لا اختيار فيه؛ فقد ظهر الغَيب الذي ليس بعدَه اختيارٌ، فيؤمِن جميعُ البشر؛ فقد أيقنوا أن الساعة قائمة، وهذه كُبرى العلامات تُنبئهم ألَّا إيمانَ، ولا توبةَ، ولا اختيارَ بعد هذه اللحظة.
قوله : «فَيَوْمَئِذٍلَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا»؛ فالإيمان بعد طلوع الشمس من مغربها وَقَع بعد المشاهدة، لذا؛ لا يَنفَعُهم إيمانهم ولا توبتهم؛ لأن الإيمان إنما يكون بالغيب، واختيار العبد، وهذا ما امتدح الله به أهل الإيمان، ورتَّب عليه أركان الإيمان، وأما الإيمان بعد المشاهَدة، فلا ينفع، مثلما لا ينفع بعد الغرغرة؛ فقد قضى الله تعالى أن الإيمان إنما يَنفَع إذا كان بالاختيار لا الاضطرار، وأن الإنسان يَكتسِب الخير بإيمانه.
فهذا فِرْعونُ حين أدركه الغرق وشاهَدَ اليقين
قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
لكن إيمانه لم ينفعه
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ
إن بطلوع الشمس من مغربها لا يَنفَع الكافرَ إيمانُه إذا رآها؛ فإذا أَسلَم بعد رؤية هذه العلامة، فإن إسلامه لا يَنفَعه، وكذلك المسلم العاصي إذا رآها، لا تُقبَل منه توبة، ولا يُقبَل منه أيضًا أن يزداد في إيمانه بعمل الطاعات والقُربات.
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ۗ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ۗ قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ
"يقول تعالى: هل يَنظُر هؤلاء الذين استمرَّ ظُلمهم وعنادُهم
مقدِّماتُ العذاب، ومقدِّمات الآخرة، بأن تأتيَهم
لقَبْضِ أرواحهم؛ فإنَّهم إذا وصلوا إلى تلك الحال، لم يَنفَعْهم الإيمان، ولا صالح الأعمال.
لفصل القضاء بين العباد، ومجازاة المحسِنين والمسيئين
أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَﱠ
الدالَّة على قُرب الساعة.
يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ
الخارقة للعادة، التي يُعلَم بها أن الساعة قد دَنَت، وأن القيامة قد اقتربت.
لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا
أي: إذا وُجِد بعض آيات الله، لم يَنفَع الكافرَ إيمانُه أن آمَن، ولا المؤمنَ المقصِّر أن يزداد خَيْرُه بعد ذلك؛ بل يَنفَعه ما كان معه من الإيمان قبل ذلك، وما كان له من الخير المرجوِّ قبل أن يأتيَ بعضُ الآيات.
والحكمةُ في هذا ظاهرة، فإنه إنما كان الإيمان يَنفَع إذا كان إيمانًا بالغَيب، وكان اختيارًا من العبد، فأما إذا وُجِدت الآيات، صار الأمرُ شهادةً، ولم يَبْقَ للإيمان فائدة؛ لأنه يُشبِه الإيمان الضروريَّ؛ كإيمان الغريق، والحريق، ونحوهما، ممَّن إذا رأى الموت، أقلع عمَّا هو فيه
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُ%D