عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ».

عناصر الشرح

غريب الحديث

تُرْجُمَان: التَّرْجُمَان، والتُّرْجُمَان: الْمُفَسِّر للِّسَان، وتَرجَم فلان كلامه: إذا بيَّنه وأَوضَحه، وتَرجَم كلام غيره: إذا عبَّر عنه بلغة غير لغة المتكلِّم[1].

بِشِقِّ تَمْرَةٍ: أي: نِصْفِ تمرة، يريد أنْ لا تستقِلُّوا من الصَّدَقة شيئًا[2].

المراجع

  1. "المحكم والمحيط الأعظم" لابن سِيده (7/ 421)، "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيوميِّ (1/ 73).
  2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 491).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رضى الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ : «مَا مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ»؛ أي: ما من أحدٍ، رجلاً كان أو امرأةً، إلا سيَقِف بين يدَيْ ربِّه وحدَه، فيكلِّمه ربُّه بكلام واضح بيِّن لا يحتاج إلى تُرجمان يوضِّحه. «فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ»؛ أي: فيَلتفِت يمينًا فلا يرى إلا ما قدَّم من صالح عمله، ويَلتفِت شمالاً فلا يرى إلا ما قدَّم من سيِّئ عمله، ويَنظُر أمامه فلا يرى إلا النار مقابِلةً لوجهه.

يقول : «فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ أي: اجتنبوا النار، واجعلوا الطاعاتِ، واجتنابَ المعاصي والسيِّئات وقايةً لكم من النار، حتى لو تصدَّقتم بنصف تمرة. «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ»؛ أي: لو لم يجد أحدُكم نِصْفَ تمرة يتصدَّقُ بها، فليتصدَّق بكلمة طيِّبة؛ فلربَّما كانت هذه الكلمة الطيِّبة سببًا لنجاته من النار.

الشرح المفصَّل للحديث

   إن الإنسانُ مرهونٌ بعمله، يُجازيه الله عليه يومَ القيامة، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ

قال تعالى:

كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ

[الطور: 21]

فيحاسبه اللهُ - عزَّ وجلَّ - على أعماله التي قدَّمها في الدنيا

قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ

[الانشقاق: 6]

أي: سوف تلاقي ربَّكَ فيُحاسبك على كَدِّكَ وتَعَبِكَ في الحياة الدنيا، فإن كنتَ صالحًا، كانت البشرى لك جزاءً على ما قدَّمت من عملك

قال تعالى:

وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ

[البقرة: 223]

وإن كنتَ غيرَ ذلك، كان الجزاء جهنَّمَ وبئس المصيرُ، أعاذنا الله منها، وفي الحديث يُخبر النبيُّ  بأنه ما من أحدٍ، رجلاً كان أو امرأةً، إلا وسيُلاقي ربَّه يوم القيامة وحدَه

قال تعالى: 

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا

[مريم: 95]

ويَقِف بين يدي ربِّه فيُخاطبه ويكلِّمه بدون واسطةٍ، ولا حجابٍ يَحجِزه، يعدِّد بعضًا من نِعَمه وأفضاله عليه، ففي بعض روايات الحديث أن الله تعالى يقول له: «أَلَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ رَسُولًا فَيُبَلِّغَكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَلَمْ أُعْطِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْكَ؟ فَيَقُولُ: بَلَى»[1]، فإرسالُ الرُّسل من أجلِّ النِّعَم التي أنعم الله بها على عباده، فبها يستنقِذ الناس من النار، ويُخرِجهم من الظلمات إلى النور.

ويقرِّره كذلك بذنوبه: ألم تعمل كذا يومَ كذا، وتفعل كذا يومَ كذا؟ فإذا أقرَّ بذنوبه، وظنَّ أنه هالكٌ لا محالةَ، فإذا بالله يُطِمْئِنُه، ويُخبره بأنه غَفَر له ما كان منه؛ فَعَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ اليَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ الأشْهَادُ:

هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ ۚ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ

[هود: 18][2].

قوله : «فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ»؛ أي: فيَلتفِت يمينًا فلا يرى إلا صالح عمله، وشمالاً فلا يرى إلا سيِّئ عمله، ويَنظُر أمامه فلا يرى إلا النار بمحاذاة وجهه وتلقاءه، و"نَظَرُ اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يَلتفِت يمينًا وشمالًا، يَطلُب الغَوث، وَيحْتَمِل أن يكون سببُ الالتفات أنه يَتَرَجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها؛ ليَحصُل له النجاة من النار، فلا يرى إلَّا ما يُفضي به إلى النار، ثم يَنظُر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. والسبب في ذلك: أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكِنُه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط"[3].

وإذا كان هذا هو حالَ العبد يوم القيامة، فالأَوْلى به أن يَحذَر النار، ويرجو النجاةَ منها، فلا يُقْدِم إلَّا على صالح الأعمال وأفضلِها، وأن يحرص على التقرُّب إلى الله في كلِّ وقت وحين، وأن لا يستقِلَّ شيئًا من الطاعات، مهما كان صغيرًا؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ : «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ»[4]، حتى ولو تصدَّق بنصف تمرة

قال تعالى: 

فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ

 [الزلزلة: 7]

وجَاءَ سَائِلٌ إِلَى بَابِ عَائِشَةَ رضي الله عنها، فَقَالَتْ لِجَارِيَتِهَا: "أَطْعِمِيهِ"، فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَقَالَتْ لَهَا: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا أُطْعِمُهُ، قَالَتْ: "ارْجِعِي فَابْتَغِي لَهُ"، فَرَجَعَتْ فَوَجَدتْ تَمْرَةً فَأَتَتْ بِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "أَعْطِيهِ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّ فِيهَا مَثَاقِيلَ ذَرَّةٍ إِنْ تُقُبِّلَتْ"[5].

والصَّدَقة تُنْجي الإنسانَ من النار؛ ولهذا قال : «فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»؛ أي: اجتنبوها بعمل الطاعات، والبُعد عن المعاصي والسيِّئات؛ حتى لا تقعوا فيها، فـ"المعنى: إذا عرفتُم أنه لا يَنفَعكم في ذلك اليوم شيءٌ إلا الأعمالَ الصالحة، وأن أمامَكم النارَ، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشقِّ تمرة"[6]، فلا تَرُدَّ السائل وإن كنتَ لا تَملِك شيئًا إلا بكلمة تطيِّبه، وتَجبُر خاطره؛ فالكَلِمةُ الطيِّبة صَدَقة، ولربَّما كانت هذه الكلمة سببًا لنجاتك من النار، والكلمةُ الطيِّبة تَشمَل: التسبيحَ، والتهليلَ، والتكبيرَ، وذِكْرَ الله عمومًا، وأفضلُ الذكر: قراءةُ القرآن، وتَشمَل كذلك: الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن الْمُنكَر، وتعلُّم العلم وتعليمه، وتَشمَل كذلك: كلَّ ما يتقرَّب به الإنسان إلى ربِّه من القول؛ كنصيحة، أو كلمة حقٍّ، أو جبر خاطر، أو غير ذلك من طيِّب الأقوال.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (3595).
  2. رواه البخاريُّ (2441)، ومسلم (2768).
  3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 404).
  4. رواه مسلم (2626).
  5. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (3190).
  6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3506).


النقول


قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن هُبيرة: "نَظَر اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يَلتفِت يمينًا وشمالًا، يَطلُب الغَوث". قلتُ – أي: ابن حجر -: وَيحْتَمِل أن يكون سببُ الالتفات أنه يَتَرَجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها؛ ليَحصُل له النجاة من النار، فلا يرى إلَّا ما يُفضي به إلى النار، ثم يَنظُر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه. قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك: أن النار تكون في ممرِّه فلا يمكِنُه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط"[1].

قال ابن بطال رحمه الله: "وفى قوله: «فليتَّقِيَنَّ أحدكم النار ولو بشقِّ تمرة» حضٌّ على القليل من الصدقة. وقوله: «فإن لم يجد فبكلمة طيبة» حضٌّ أيضًا على أن لا يَحقِر شيئًا من الخير بالقول والفعل، وإن قَلَّ ذلك، وإذا كانت الكلمة الطيبة يُتَّقى بها النار، فالكلمة الخبيثة يُستوجَب بها النار"[2].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«ما منكم من أحد إلَّا وسيكلِّمه الله» عزَّ وجلَّ، والواو عطف على محذوفٍ تقديرُه: إلا سيخاطبه وسيكلِّمه، ولأبي ذرٍّ: إلَّا سيكلِّمه الله «يوم القيامة ليس بين الله وبينه»، ولأبي ذرٍّ: ليس بينه وبينه «ترجمان» بضمِّ الفوقانية وفتحِها، وضمِّ الجيم، يفسِّر الكلامَ بآخَرَ... «ثم ينظر فلا يرى شيئًا قُدَّامه» بضمِّ القاف، وتشديد الدال؛ أي: أمامَهُ. «ثم ينظر بين يديه»، ولمسلم: «فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم»، قال ابن هُبيرة: نَظَرُ اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأن الإنسان من شأنه إذا دَهَمه أمرٌ أن يلتفت يمينًا وشمالاً يطلب الغَوث، وقال صاحب الفتح: أو يكون سببُ الالتفات أنه يترجَّى أن يجد طريقًا يذهب فيها للنجاة من النار. «فتستقبله النار»؛ لأنها تكون في ممرِّه، فلا يمكِنه أن يَحِيد عنها؛ إذ لا بدَّ له من المرور على الصراط. «فمن استطاع منكم أن يتَّقِيَ النار ولو بشقِّ تمرة»؛ أي: فليفعل. قال الْمُظهريُّ: يعني إذا عرفتُم ذلك، فاحذروا من النار، فلا تظلموا أحدًا، ولو بمقدار شقِّ تمرة. وقال الطِّيبيُّ: ويُحتمَل أن يُراد: إذا عرفتم أنه لا ينفعكم في ذلك اليوم شيءٌ من الأعمال غير الصالحة، وأن أمامكم النار، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشق تمرة"[3].

قال ابن بطال رحمه الله: "الكلام الطيِّب مندوبٌ إليه، وهو من جليل أفعال البِرِّ؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - جعله كالصدقة بالمال، ووجهُ تشبيهه - عليه السلام - الكلمة الطيبة بالصدقة بالمال هو أن الصدقة بالمال تحيا بها نفسُ المتصدَّق عليه ويَفرَح بها، والكلمة الطيِّبة يَفرَح بها المؤمن ويَحسُن موقعُها من قلبه، فاشتبها من هذه الجهة؛ ألا ترى أنها تُذهب الشحناء، وتُجلي السخيمة

كما قال تعالى: 

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 

[فصلت: ٣٤]

 والدفع بالتي هي أحسنُ قد يكون بالقَوْلِ كما يكون بالفعل"[4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "المعنى: إذا عرفتُم أنه لا يَنفَعكم في ذلك اليوم شيءٌ إلا الأعمالَ الصالحة، وأن أمامَكم النارَ، فاجعلوا الصَّدَقة جُنَّةً بينكم وبينها، ولو بشقِّ تمرة"[5].

المراجع

  1. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 404).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (3/ 414).
  3. "شرح القسطلانيِّ على صحيح البخاريِّ (9/ 314).
  4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 225).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3506).


مشاريع الأحاديث الكلية