اﻷحاديث
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
المراجع
- ""النهاية في غريب الحديث والأثر"" لابن الأثير (2/ 451).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 133).
- "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" لزكريا الأنصاري (1/ 200).
- "التوشيح شرح الجامع الصحيح" للسيوطيِّ (1/ 203).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 129).(
- "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 301).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 129).
غريب الحديث:
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
المراجع
- ""النهاية في غريب الحديث والأثر"" لابن الأثير (2/ 451).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 133).
- "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" لزكريا الأنصاري (1/ 200).
- "التوشيح شرح الجامع الصحيح" للسيوطيِّ (1/ 203).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 129).(
- "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 301).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 129).
غريب الحديث:
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
المراجع
- ""النهاية في غريب الحديث والأثر"" لابن الأثير (2/ 451).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 133).
- "منحة الباري بشرح صحيح البخاري" لزكريا الأنصاري (1/ 200).
- "التوشيح شرح الجامع الصحيح" للسيوطيِّ (1/ 203).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 129).(
- "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 301).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 129).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
المعنى الإجماليُّ للحديث:يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
الشرح المفصَّل للحديثيبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
المراجع
- رواه مسلم (1337).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
الشرح المفصَّل للحديثيبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
المراجع
- رواه مسلم (1337).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
النقول
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
المراجع
- رواه مسلم (1337).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
- رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 95).
- "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
- "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
النقول
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
يروي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه -: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا)؛ أي: ظهر (رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ) هو جبريل - عليه السلام - أتى النبيَّ ﷺ في صورة رجل لا يعرفونه (لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ)؛ أي: ليس عليه هيئة المسافر من غبرةٍ أو شُعوثة، (وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ)؛ أي: فألصق الرَّجل رُكْبَتَيه برُكْبَتَيِ النبيِّ ﷺ، (وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)؛ أي: فَخِذَيْ نفسه جالسًا على هيئة المتعلِّم، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام)؛ أي: ما هو الإسلام؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: الإسلام أن تَعلَم وتصدِّق وتسلِّم أن لا معبود بحق إلا الله تعالى، وأن محمدًا ﷺ رسول من الله إلى العالمين بذلك. «وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؛ أي: تأتي بهذه الأركان على وجهها الشرعيِّ بأركانها وشروطها؛ فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بُنِيَ عليها الإسلام.
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ)؛ أي: قال الرجل للنبيِّ ﷺ: صدقتَ فيما أجبتَ به، فعجب الحضور من الصحابة من الرجل؛ كيف يسأله ويصدِّقه، وهو ليس يُعرَف بلقاء النبيِّ ﷺ؟! ثم هو قد سأل سؤال عارف محقِّق مصدِّق.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ أي: أن تؤمن بهذه الأركان الستة، فهي أركان الإيمان.
قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»؛ أي: الإحسان هو إحسان العبادة، والإخلاص فيها، والخضوع، وفراغ البال حال التلبُّس بها، ومراقبة المعبود، فإن لم تكن في عبادته كأنك تراه، فاستمرَّ على إحسان العبادة، واستحضر أنك بين يدي الله تعالى، وأنه مطَّلِع على سِرِّك وعلانيتك؛ ليحصل لك أصل الكمال.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ)؛ أي: متى تقوم القيامة؟
قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل»؛ أي: لا يعلم متى الساعة أحدٌ إلا الله، حتى الرسول ﷺ نفسه.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا)؛ أي: علامتها التي تدلُّ على قُرْبِها.
قَالَ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا»؛ قيل: أي: أن تَكثُر السَّراريُّ حتى تلد الأمَة السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، فتَصِير البنتُ سيِّدةً لوالدتها؛ حيث إنها بنتُ السيِّد، وقيل غير ذلك.
«وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»: الحافي: هو مَن لا نعل له، والعاري: هو مَن لا شيء على جسده، والمراد هنا: من ليس عليه ثياب أشراف الناس، والعالة: هم الفقراء، ورعاء الشاء: المراد الأعراب وأصحاب البوادي؛ فالمعنى: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تُبسَط لهم الدنيا؛ حتى يتباهَوْا في البُنيان.
(قَالَ – أي: عمر -: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا). قال عمرُ: ثم ذهب الرجل السائل، فمكثتُ لا أدري مَن الرجل وقتًا غير قصير.
ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»؛ أي: قال النبيُّ ﷺ: ذلك الرجل جبريلُ أتى ليبيِّن لكم أمر دينكم بسؤاله.
الشرح المفصَّل للحديثإن هذا الحديث حديث عظيم القدر، كبير الشأن، جامعٌ لأبواب الدِّين كلِّها، بأيسر أسلوب، وأوضح عبارة، وقد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه؛ حيث يتضمَّن أركان الإسلام الخمسة، وأركان الإيمان الستة، وأركان الإخلاص لله وحده لا شريك له، والساعة وأشراطها.
وقد تناول هذا الحديث الشريف مراتب الدين الثلاث: الإسلامَ والإيمان والإحسان، وإن بين هذه المراتب الثلاث ارتباطًا وثيقًا؛ فدائرةُ الإسلام أوسعُ هذه الدوائر، تليها دائرة الإيمان، فالإحسان، ومن ثمَّ فإن كلَّ محسن مؤمن، وكل مؤمن مسلم، وقد ردَّ الله تعالى في كتابه الكريم على الأعراب الذين ادَّعَوْا لأنفسهم مقام الإيمان، وهو لم يتمكَّن في قلوبهم بعدُ
قال تعالى:
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ
[الحجرات: 14]
فدلَّ ذلك على أن الإيمان أخصُّ وأضيق دائرةً من الإسلام.
وفي هذا الحديث يروي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رضي الله عنه -: (بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ): فبينما الصحابة – رضوان الله عليهم - عند النبيِّ ﷺ جُلوسٌ، إذ طلع عليهم ذلك الرجل بهذه الهيئة، فتعجَّب الصحابة من هذا الرجل، فهو غير معروف أنه من أهل البلد، وليس عليه هيئة المسافر؛ فهيئتُه هيئة شابٍّ لا يُرى عليه أثر السفر؛ لأن المسافر يكون أشعثَ أغبرَ؛ لأنهم يسافرون على الإبل، أو على الأقدام، والأرض كلُّها غبار. (حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ)؛ أي: فألصق الرَّجل رُكْبَتَيه برُكْبَتَيِ النبيِّ ﷺ، (وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ)؛ أي: فَخِذَيْ نفسه جالسًا على هيئة المتعلِّم.
" قال العلماء: وَضَع كفَّيْهِ على فَخِذَيْ نفسه، لا على فَخِذَيِ النبيِّ ﷺ، وذلك من كمال الأدب في جِلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لِما يَسمَع، واستماع لِما يُقال من الحديث"[1].
وهذا الرجل هو جبريلُ - عليه الصلاةُ والسلام – تمثَّل في هيئة ذلك الرجل، وجبريلُ أحد الملائكة العِظام؛ بل هو أفضل الملائكة؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله تعالى إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وقد رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين:
المرة الأولى: رآه ﷺ وهو في غار حِراء، رآه وله ستُّمِائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق أمام الرسول ﷺ فلا يرى السماءَ
قال الله تعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ(5)ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ(7)ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ(8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
[النجم: ٤ – ٩]
دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه.
والمرة الثانية: عند سِدْرة المنتهى
قال تعالى:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰ
[النجم: ١٣ – ١٤].
وقد جعل الله تعالى للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورة ذلك الرجل، (وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَام)؛ أي: ما هو الإسلام؟
"ولم يقل: يا رسول الله، أخبرني؛ كصَنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يقولون: يا محمدُ. أما الذين سَمِعوا أدب اللهِ - عزَّ وجلَّ - لهم فإنهم لا يقولون: يا محمدُ؛ وإنما يقولون: يا رسولَ الله
لأن الله تعالى قال في كتابه:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
[النور: ٦٣]
وهذا يَشمَل دعاءه عند النداء باسمه، ويَشمَل دعاءه إذا أَمَر أو نهى، فلا نَجعَل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلْنا، وإن شئنا تَرَكْنا، ولا نجعل نهيَه كنهيِ الناس: إن شئنا تَرَكْنا، وإن شئنا فَعَلْنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا، فنقول: يا فلانُ يا فلان، مثلما تنادي صاحبَك؛ وإنما تقول: يا رسولَ الله؛ لكن الأعراب - لبُعدهم عن العلم، وجهل أكثرِهم - إذا جاؤوا ينادونه باسمه، فيقولون: يا محمدُ"[2].
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»؛ أي: تَشهَد بلسانك نُطقًا، وبقلبك إقرارًا: أن لا إله إلا اللهُ؛ يعني: لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ سبحانه وتعالى. وألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تعبَّد لله أقرَّ بربوبيته؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
ولهذا قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
[الأعراف: ١٨٠]
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
وقد أرسل الله تعالى بهذه الكلمة (لا إله إلا الله) جميعَ الرسل
فقال الله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ
[الأنبياء: ٢٥]
وقال تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
[النحل: ٣٦]
أي: ابتعدوا عن الشِّرك. فهذه الكلمة إذا حقَّقها الإنسان، وقالها من قلبه ملتزمًا بما تقضيه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يدخل الجنة بها.
قيل لوهب بن منبِّه: أليس "لا إله إلّا اللُّه" مِفتاحُ الجنّة؟ قال: "بلى؛ ولكن ليس مفتاح إلّا له أسنان، فإن جئتَ بمفتاح له أسنان فُتح لك، وإلّا لم يُفتَح لك"[3]؛ يعني: وأسنان هذا المفتاح فعلُ ما أمر الله تعالى به، وترك ما نهى الله عنه.
«وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ﷺ»؛ أي: تشهد بأن محمدًا ﷺ رسولُ الله إلى الناس كافَّةً
كما قال الله تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
[الفرقان: 1]
وقال تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
[الأعراف: 158]
فهو رسول إلى جميع الخلق، وقال ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[4].
وقد جمعت الشهادتان: (أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله) شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله، اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه؛ "ولهذا عُدَّ هذان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله التي يكون بها الاتِّباع. وقوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
كما قال الله:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَﱠ
[الأنبياء: ١٠٧]
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
كما قال الله تعالى:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
[الأحزاب: ٤٠]
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه"[5].
قوله ﷺ:«وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»؛ أي: تأتي بهذه الأركان على وجهها الشرعيِّ بأركانها وشروطها؛ فهذه أركان الإسلام الخمسة التي بُني عليها الإسلام؛ عن عبد الله بن عمرَ قال: قال رسول الله ﷺ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ، شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»[6]. "والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على هذه الخمس؛ فهي كالأركان والدَّعائم لبُنْيَانه، وقد خرَّجه محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزِيُّ في "كتاب الصّلاة" ولفظُه: «بُنِي الإسلام على خمسِ دعائم» فذَكَره. والمقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله"[7].
"فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل، وأوَّلُ ذلك: شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، وهو عمل اللِّسان، ثمّ إقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزّكاة، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. وهي منقسِمةٌ إلى عمل بدنيٍّ؛ كالصَّلاة والصَّوم، وإلى عمل ماليٍّ؛ وهو إيتاء الزَّكاة، وإلى ما هو مركَّب منهما؛ كالحجِّ بالنِّسبة إلى البَعيد عن مكَّةَ. وفي رواية ابن حبَّانَ أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغُسل من الجَنابة، وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيهٌ على أنّ جميع الواجبات الظّاهرة داخلةٌ في مسمَّى الإسلام. وإنَّما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام الّتي ينبني عليها. وقوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم»، يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّةَ مباني الإسلام الخمس. وممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[8]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»... وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا"[9].
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ، وَيُصَدِّقُهُ)؛ أي: قال الرجل للنبيِّ ﷺ: صدقتَ فيما أجبتَ به، فعجب الحضور من الصحابة من الرجل؛ كيف يسأله ويصدِّقه، وهو ليس يُعرَف بلقاء النبيِّ ﷺ؟! ثم هو قد سأل سؤال عارفٍ محقِّق مصدِّق.
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ)، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ»؛ أي: أن تؤمن بهذه الأركان الستة، فهي أركان الإيمان؛ فقد فسَّر النّبيُّ ﷺ الإيمان في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، وقد ذكر اللّهُ تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضعَ من القرآن الكريم
كقوله تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِﱠ
[البقرة: ٢٨٥]
وقوله تعالى:
وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
[البقرة: ١٧٧]
وقوله تعالى:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
[البقرة: 3 - 4].
"وقد أَدخَل في الإيمانِ الإيمانَ بالقدر خيرِه وشرِّه، ولأجل هذه الكلمة؛ روى ابنُ عمرَ هذا الحديث محتجًّا به على من أَنكَر القَدَر، وزعم أنَّ الأمر أُنُفٌ؛ يعني: أنّه مستأنَفٌ لم يَسبِق به سابقُ قَدَر من اللّه - عزَّ وجلَّ - وقد غلَّظ ابن عمر عليهم، وتبرَّأ منهم، وأخبر أنَّه لا تُقبَل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. والإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم"[10].
"فإن قيل: فقد فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا. وأمّا وجه الجمع بين هذه النّصوص وبين حديث سؤال جبريل - عليه السّلام - عن الإسلام والإيمان، وتفريق النّبيِّ ﷺ بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمَّى الإسلام دون الإيمان، فإنّه يتَّضِح بتقرير أصل، وهو أنَّ من الأسماء ما يكون شاملًا لمسمَّيات متعدِّدة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره، صار دالًّا على بعض تلك المسمَّيات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرِد أحدُهما، دخل فيه كلُّ من هو محتاج، فإذا قُرِن أحدهما بالآخر، دلَّ أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخَرُ على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أُفرِد أحدهما، دَخَل فيه الآخَرُ، ودلَّ بانفراده على ما يدلُّ عليه الآخر بانفراده، فإذا قُرن بينهما، دلَّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفراده، ودلَّ الآخر على الباقي، وبهذا التّفصيل الّذي ذكرناه يزول الاختلاف، فيقال: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرقَ بينهما حينئذ، وإن قُرِن بين الاسمين، كان بينهما فرق. والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمان هو تصديقُ القلب، وإقرارُه، ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد للَّه، وخضوعُه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدِّين، كما سمَّى اللّه في كتابه الإسلام دينًا، وفي حديث جبريل سمَّى النّبيُّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّ أحد الاسمين إذا أُفرِد دخل فيه الآخر، وإنَّما يفرَّق بينهما حيث قُرِن أحد الاسمين بالآخر. فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل"[11].
(قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ)، قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»؛ أي: الإحسان هو إحسان العبادة، والإخلاص فيها، والخضوع، وفراغ البال حال التلبُّس بها، ومراقبة المعبود، فإن لم تكن في عبادته كأنك تراه، فاستمرَّ على إحسان العبادة، واستحضر أنك بين يدي الله تعالى، وأنه مطَّلِع على سِرِّك وعلانيتك؛ ليحصل لك أصل الكمال.
وقد جاء ذكر الإحسان في القرآن في مواضع، تارةً مقرونًا بالإيمان
كقوله تعالى:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[المائدة: 93]
وتارةً مقرونًا بالإسلام
كقوله تعالى:
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
[البقرة: 112]
وتارةً مقرونًا بالتّقوى
كقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
[النحل: 128]
وقد يُذكَر مفردًا كقوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ
[يونس: 26]
"وقد ثبت في صحيح مسلم عن النّبيِّ ﷺ تفسير الزّيادة بالنّظر إلى وجه اللّه عزَّ وجلَّ في الجنَّة، وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأنّ الإحسان هو أن يَعبُد المؤمن ربَّه في الدّنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النَّظرَ إلى اللّه عِيانًا في الآخرة... فقوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"[12].
و"الإحْسَان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
وإحسانٌ في حقوق الخَلْق... هو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون؛ ولكنَّه يتفاوت بتفاوت الْمُحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك"[13].
"ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلةُ الإحْسَان، وهي لبُّ الإيمان ورُوحُه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعُها منطوية فيها"[14].
"فإنَّ الإحْسَان إذا باشر القلب، مَنَعه عن المعاصي، فإنَّ مَن عبد الله كأنَّه يراه، لم يكن كذلك إلَّا لاستيلاء ذكره ومحبَّته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مُواقَعَتها، فإذا خرج مِن دائرة الإحْسَان، فاته صُحبة رفقته الخاصَّة، وعَيْشهم الهَنيء، ونعيمهم التَّامُّ، فإن أراد الله به خيرًا، أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين"[15].
"قال بعض العارفين: اتّق اللّه أن يكون أهونَ النّاظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ اللّه على قدر قُدرته عليك، واستحْيِ منه على قدر قُربه منك. قالت بعض العارفات من السَّلف: من عَمِل للّه على المشاهَدة، فهو عارف، ومن عَمِل على مشاهدة اللّه إيَّاه، فهو مخلص"[16].
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ)؛ أي: متى تقوم القيامة؟ قَالَ: «مَا الْمَسْؤولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِل»؛ أي: لا يعلم متى الساعة أحد إلا الله، حتى الرسولُ ﷺ نفسه، وفيه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى استأثر بعلمها
كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
[لقمان: 34]
وقال عزَّ وجلَّ:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
[الأعراف: 187]
وكما في حديث عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عليه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ
قَالَ:
«مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الارْحَامُ إِلَّا اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»
[17].
(قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا)؛ أي: عن علامتها التي تدلُّ على اقترابها. وقد قسَّم العلماء هذه العلاماتِ التي أخبرَ بها النبيُّ ﷺ في الأحاديث إلى علاماتٍ صُغرى وعلاماتٍ كُبرى. أمَّا الأماراتُ أو العلاماتُ الصُّغْرى فكَثيرةٌ، وقد ظهَرَ أغْلَبُها، وفي هذا الحديث يَذكر النبيُّ ﷺ علامتينِ منها، وأمَّا العَلاماتُ الكُبرى، فقد أخبَر بها ﷺ في أكثرَ من موضعٍ، ولم تَظهَر بعدُ، وظهورُها يكون قُبَيْلَ نهاية الزمان، وقيام الساعة؛ ومنها: طلوع الشمس من مغربها، وظُهورُ الـمَهْديِّ الـمُنتظَرِ، وخُروجُ الدَّجَّال، ونُزولُ عيسى بنِ مَريَمَ، وغير ذلك.
وإخبارُ النبيِّ ﷺ بما سيكون في آخر الزمان من أحداث وعلامات تدُلُّ على قُرب قيام الساعة؛ ليكون المسلمُ على بيِّنةٍ من أمره، فيُعِدَّ للأمر عُدَّته من الإيمان والتصديق والتسليم، ويأخذَ حِذْره فيتَّخِذَ من الوسائل ما يُعينه على النجاة من هذه الفتن إنْ هو أدركَها.
قَالَ ﷺ: «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا» قيل: أي: أن تَكثُر السَّراريُّ حتى تلد الأمَة السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، فتَصِير البنتُ سيِّدةً لوالدتها؛ حيث إنها بنتُ السيِّد، وقيل غير ذلك.
"والمرادُ بربَّتها سيِّدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة (ربّها)، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرّقيق حتّى تَكثُر السَّراريُّ، ويَكثُر أولادهنَّ، فتكون الأمَة رقيقةً لسيِّدها وأولادُه منها بمنزلته؛ فإنَّ ولد السَّيِّد بمنزلة السَّيِّد، فيصير ولد الأمَةِ بمنزلة ربِّها وسيِّدها. وقيل: معناه أنّ الإماء تلدن الملوك، وقال وكيع: معناه تلد العَجَمُ العَرَبَ، والعربُ ملوكُ العَجَم وأربابٌ لهم"[18].
قوله ﷺ: «وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ»: الحافي: هو مَن لا نعل له، والعاري: هو مَن لا شيء على جسده، والمراد هنا: من ليس عليه ثياب أشراف الناس، والعالة: هم الفقراء، ورعاء الشاء: المراد الأعراب وأصحاب البوادي؛ فالمعنى: أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تُبسَط لهم الدنيا؛ حتى يتباهَوْا في البنيان، والمراد: أنّ أسافل النّاس يصيرون رؤساءهم، وتَكثُر أموالهم حتّى يتباهَوا بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. وفي قوله: «يتطاولون في البنيان» دليلٌ على ذمِّ التَّباهي والتَّفاخُر، خاصَّةً بالتَّطاول في البُنيان.
"ومضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة»[19]، فإنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا"[20].
ومما ورد في الأحاديث من علامات الساعة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
بَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»
[21].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقْبَضَ العِلْمُ، وَتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، وَيَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، وَتَظْهَرَ الفِتَنُ، وَيَكْثُرَ الهَرْجُ - وَهُوَ القَتْلُ القَتْلُ - حَتَّى يَكْثُرَ فِيكُمُ المَالُ فَيَفِيضَ»
[22].
وعن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، قال:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَأَيَّامًا، يَنْزِلُ فِيهَا الجَهْلُ، وَيُرْفَعُ فِيهَا العِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الهَرْجُ»
[23]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثٌ إِذَا خَرَجْنَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ، أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا: طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدَّجَّالُ، وَدَابَّةُ الْأَرْضِ»
[24].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه،
عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: الدَّجَّالَ، وَالدُّخَانَ، وَدَابَّةَ الْأَرْضِ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَأَمْرَ الْعَامَّةِ، وَخُوَيْصَةَ أَحَدِكُمْ»
[25].
وفي ردود النبيِّ ﷺ على من يسأل عن موعد الساعة توجيهٌ إلى أنه ليس مطلوبًا من المؤمن أن يَعرِف موعد يوم القيامة؛ بل المطلوب منه أن يتجهَّز لها بالطاعات والقُربات، وفيه توجيهٌ لأنْ يأخذَ المسلمُ حِذْرَه، ويُحصِّن نفْسه، ومَن هم تحتَ ولايته من شرِّ هذه الفتن ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛
عن أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضى الله عنه، قَالَ:
بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ خَارِجَانِ مِنَ المَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ سُدَّةِ المَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»
[26].
(قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ مَلِيًّا). قال عمر: ثم ذهب الرجل السائل، فمكثتُ لا أدري من الرجل وقتًا غير قصير. ثُمَّ قَالَ لِي: «يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟» قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»؛ أي: قال النبيُّ ﷺ: ذلك الرجل جبريلُ أتى ليبيِّن لكم أمر دينكم بسؤاله.
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347).
- "صحيح البخاريِّ" (2/ 71).
- رواه مسلم (250).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 351).
- رواه البخاريُّ (8)، ومسلم (16).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 103).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 104- 108).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 126).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (3/319).
- "الجواب الكافي" لابن القيم (55-56).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 129).
- رواه البخاريُّ (4697).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 136 - 137).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 139).
- رواه البخاريُّ (59).
- رواه البخاريُّ (1036)، ومسلم (157).
- رواه البخاريُّ (7062)، ومسلم (2672).
- رواه مسلم (158).
- رواه مسلم (2947).
- رواه البخاريُّ (7153)، ومسلم (2639).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فبينما الصحابة عند النبيِّ ﷺ جلوس، إذ طلع عليهم رجل «شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» وهذا غريب! ليس مسافرًا حتى نقول: إنه غريب عن البلد، ولا يُعرَف فنقول: إنه من أهل البلد، فتعجَّبوا منه، ثم هذا الرجل الذي جاء نظيفًا، شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر؛ أي: شابٌّ لا يُرى عليه أثر السفر؛ لأن المسافر - لا سيَّما في ذلك الوقت - يكون أشعثَ أغبرَ؛ لأنهم يسافرون على الإبل، أو على الأقدام، والأرض غير مُسفلَتة، كلُّها غبار؛ لكن هذا لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فهو غريب ليس بغريب! حتى جاء وجلس إلى النبيِّ ﷺ، وهذا الرجل هو جبريلُ - عليه الصلاةُ والسلام - أحد الملائكة العظام؛ بل هو أفضل الملائكة فيما نعلمُ؛ لشَرَف عمله؛ لأنه يقوم بحمل الوحيِ من الله إلى الرسل - عليهم الصلاة والسلام - فهو مَلَكٌ عظيم، رآه النبيُّ ﷺ على صورته التي خُلِق عليها مرَّتين: مرَّةً في الأرض، ومرَّة في السماء؛ مرَّةً في الأرض وهو في غار حراء، رآه وله ستمائةِ جَناح، قد سدَّ الأُفُق - كلَّ الأُفق - أمام الرسول ﷺ لا يرى السماءَ من فوقُ؛ لأن هذا الْمَلَك قد سدَّ الأُفق؛ لأنه له ستمائة جناح. سبحان الله!!
لأن الله يقول في الملائكة:
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍﱠ
[فاطر: 1]
لهم أجنحةٌ يَطِيرون بها طيرانًا سريعًا. والمرة الثانية عند سِدْرة المنتهى
قال الله تبارك وتعالى:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ(6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ
[النجم: ٤ – ٩].
هذا في الأرض، دنا جبريلُ من فوقُ فتدلَّى؛ أي: قَرُب إلى محمدٍ ﷺ فأوحى إلى عبده - الرسول ﷺ - ما أوحاه من وحيِ الله الذي حمَّله إيَّاه. أما الثانية، فقال:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ(13)عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَىٰﱠ
[النجم: ١٣ – ١٤]
فهذا جبريلُ؛ ولكن الله جعل للملائكة قُدرةً على أن يتشكَّلوا بغير أشكالهم الأصلية، فها هو قد جاء في صورة هذا الرجل.
قوله: «حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه إلى ركبتيه»؛ أي: أسند رُكبتَيْ جبريلَ إلى ركبتَيِ النبيِّ ﷺ، «ووضع كفَّيه على فَخِذيه». قال العلماء: وَضَع كفَّيْهِ على فَخِذَيْ نفسه، لا على فَخِذَيِ النبيِّ ﷺ، وذلك من كمال الأدب في جِلسة المتعلِّم أمام المعلِّم، بأن يجلس بأدب واستعداد لِما يَسمَع، واستماع لِما يُقال من الحديث"[3].
قال ابن رجب رحمه الله: "فأمَّا الإسلامُ، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ بأعمال الجوارح الظّاهرة من القول والعمل، وأوَّلُ ذلك: شهادةُ أن لا إله إلَّا اللَّه، وأنَّ محمَّدًا رسول اللَّه، وهو عمل اللِّسان، ثمّ إقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزّكاة، وصومُ رمضان، وحجُّ البيت لمن استطاع إليه سبيلًا. وهي منقسِمةٌ إلى عمل بدنيٍّ؛ كالصَّلاة والصَّوم، وإلى عمل ماليٍّ؛ وهو إيتاء الزَّكاة، وإلى ما هو مركَّب منهما؛ كالحجِّ بالنِّسبة إلى البَعيد عن مكَّةَ. وفي رواية ابن حبَّانَ أضاف إلى ذلك الاعتمار، والغُسل من الجَنابة، وإتمام الوضوء، وفي هذا تنبيهٌ على أنّ جميع الواجبات الظّاهرة داخلةٌ في مسمَّى الإسلام. وإنَّما ذكر هاهنا أصول أعمال الإسلام الّتي ينبني عليها. وقوله في بعض الرّوايات: (فإذا فعلتُ ذلك، فأنا مسلم؟) قال: «نعم» يدلُّ على أنَّ من كمَّل الإتيان بمباني الإسلام الخمس، صار مسلمًا حقًّا، مع أنَّ من أقرَّ بالشَّهادتين، صار مسلمًا حُكمًا، فإذا دخل في الإسلام بذلك، أُلزِم بالقيام ببقيَّة خصال الإسلام، ومن ترك الشَّهادتين، خرج من الإسلام، وفي خروجه من الإسلام بترك الصَّلاة خلاف مشهور بين العلماء، وكذلك في تركه بقيَّة مباني الإسلام الخمس. وممّا يدلُّ على أنَّ جميع الأعمال الظَّاهرة تدخل في مسمَّى الإسلام: قولُ النّبيِّ ﷺ: «الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ»[2]، وفي الصّحيحين عن عبد اللّه بن عمرو أنَّ رجلًا سأل النّبيَّ ﷺ: أيُّ الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِم الطَّعامَ، وتَقرأَ السَّلام على من عرفتَ ومن لم تعرف»... وكذلك ترك المحرَّمات داخلٌ في مسمَّى الإسلام أيضًا"[3].
قال القاضي عياض رحمه الله: "هذا حديث عظيم قد اشتَمَل على جميع وظائف الأعمال الظاهرة والباطنة، وعلومُ الشريعة كلُّها راجعة إليه، ومتشعِّبة منه"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "والمرادُ من هذا الحديث أنَّ الإسلامَ مبنيٌّ على هذه الخمس؛ فهي كالأركان والدَّعائم لبُنْيَانه، وقد خرَّجه محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزِيُّ في "كتاب الصّلاة" ولفظُه: «بُنِي الإسلام على خمسِ دعائم» فذَكَره. والمقصودُ تمثيلُ الإسلامِ ببُنيانه، ودعائمُ البُنيان هذه الخمسُ، فلا يَثبُت البُنيان بدونها، وبقيَّةُ خِصال الإسلام كتَتمَّة البُنيان، فإذا فُقِد منها شيء، نَقَص البُنيان، وهو قائمٌ لا يَنتقِض بنَقْصِ ذلك، بخِلاف نَقْضِ هذه الدَّعائم الخمسِ، فإنَّ الإسلام يَزُول بفَقْدِها جميعًا بغير إشكال، وكذلك يَزُول بفَقد الشَّهادتينِ، والمرادُ بالشَّهادتين الإيمانُ باللّه ورسوله"[5].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "جَلَس هذه الجلسة ثم قال: «يا محمدُ، أخبرني عن الإسلام»، ولم يقل: يا رسول الله، أخبرني؛ كصَنيع أهل البادية الأعراب؛ لأن الأعراب إذا جاؤوا إلى النبيِّ ﷺ يقولون: يا محمدُ. أما الذين سَمِعوا أدب اللهِ - عزَّ وجلَّ - لهم فإنهم لا يقولون: يا محمدُ؛ وإنما يقولون: يا رسولَ الله
لأن الله تعالى قال في كتابه:
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا
[النور: ٦٣]
وهذا يَشمَل دعاءه عند النداء باسمه، ويَشمَل دعاءه إذا أَمَر أو نهى، فلا نَجعَل أمره كأمر الناس: إن شئنا امتثلْنا، وإن شئنا تَرَكْنا، ولا نجعل نهيَه كنهيِ الناس: إن شئنا تَرَكْنا، وإن شئنا فَعَلْنا. كذلك عندما ندعوه، لا ندعوه كدعاء بعضنا بعضًا، فنقول: يا فلانُ يا فلان، مثلما تنادي صاحبَك؛ وإنما تقول: يا رسولَ الله؛ لكن الأعراب - لبُعدهم عن العلم، وجهل أكثرِهم - إذا جاؤوا ينادونه باسمه، فيقولون: يا محمدُ.
قال: «أخبرني عن الإسلام»؛ أي: ما هو الإسلام؟ قال النبيُّ ﷺ: «أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله». هذا الركن الأول: تَشهَد بلسانك نُطقًا، وبقلبك إقرارًا: أن لا إله إلا اللهُ؛ يعني: لا معبود بحقٍّ إلا اللهُ سبحانه وتعالى. وألوهيةُ الله فرع عن ربوبيَّته؛ لأن من تألَّه لله أقرَّ بالربوبية؛ إذ إن المعبود لا بدَّ أن يكون ربًّا، ولا بدَّ أن يكون أيضًا كاملَ الصفات؛ ولهذا تجد الذين يُنكرون صفاتِ الله - عزَّ وجلَّ - عندهم نقصٌ عظيم في العبودية؛ لأنهم يعبدون مَن لا شيء؛ فالربُّ لا بدَّ أن يكون كاملَ الصفات؛ حتى يُعبَد بمقتضى هذه الصفات
ولهذا قال الله تعالى:
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا
[الأعراف: ١٨٠]
ادْعوه؛ أي: تعبَّدوا له وتوسَّلوا بأسمائه إلى مطلوبكم؛ فالدعاء هنا يَشمَل دعاء المسألة، ودعاء العبادة.
المهم أنه قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله»، فما له من الخلق، لا مَلَك مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسَل، ولا شمسٌ، ولا قمرٌ، ولا سجود، ولا حجر، ولا برٌّ، ولا بحر، ولا وليٌّ، ولا صديق، ولا شهيد،، ولا إله إلا اللهُ وحدَه.
وهذه الكلمة أرسل الله بها جميع الرسل
فقال الله تعالى:
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِﱠ
[الأنبياء: ٢٥]
وقال تعالى:
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ
[النحل: ٣٦]
أي: ابتعدوا عن الشِّرك. فهذه الكلمة إذا حقَّقها الإنسان، وقالها من قلبه ملتزمًا بما تقضيه من الإيمان والعمل الصالح، فإنه يدخل الجنة بها... وقوله: «وأن محمدًا رسول الله»؛ أي: تشهد بأن محمدَ بنَ عبد الله الهاشميَّ القُرَشيَّ العربيَّ رسولُ الله، ولم يذكر مَن سواه من الرسل؛ لأنه نَسَخ جميعَ الأديان كلُّ ما جاء به الرسول ﷺ فإنه ناسخٌ لما قبله من الأديان، فكلُّ الأديان باطلة ببعثه الرسول ﷺ.
وقوله: «وأن محمدًا رسول الله»؛ أي: إلى الخلق كافَّةً
كما قال الله تعالى:
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ﱠ
[الفرقان: 1]
للعالمين كلهم.
وقال الله تعالى:
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَﱠ
[الأعراف: 158]
فهو رسول إلى جميع الخلق. وقد أقسم ﷺ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[6].
وقوله: «أن تشهد أن لا إله إلا الله» مع قوله: «وأن محمدًا رسول الله» هذان جَمَعا شَرْطَيِ العبادة، وهما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله ﷺ؛ لأن من قال: "لا إله إلا الله" أخلص لله، ومن شهد أن محمدًا رسول الله اتَّبَع رسول الله، ولم يَتَّبِع سواه؛ ولهذا عُدَّ هذان ركنًا واحدًا من أركان الإسلام؛ لأنهما يعودان إلى شيء واحد، وهو تصحيح العبادات؛ لأن العباداتِ لا تصحُّ إلا بمُقتَضى هاتين الشهادتين: شهادةِ أن لا إله إلا الله، التي يكون بها الإخلاص، وأن محمدًا رسول الله التي يكون بها الاتِّباع.
وقوله: «وأن محمدًا رسول الله» يجب أن تَشهَد بلسانك، مُقِرًّا بقلبك، أن محمدًا رسول الله، أرسله إلى العالمين جميعًا؛ رحمةً بالعالمين
كما قال الله:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَﱠﱠ
[الأنبياء: ١٠٧]
وأن تؤمن بأنه خاتم النبيين
كما قال الله تعالى:
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَٰكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَﱠ
[الأحزاب: ٤٠]
فلا نبيَّ بعده، ومن ادَّعى النبوَّة بعده، فهو كافر كاذب، ومن صدَّقه فهو كافر. ويَلزَم من هذه الشهادة أن تتَّبِعه في شرعه وسُنَّته، وأن لا تبتدع في دينه ما ليس منه"[7].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا الإيمان، فقد فسَّره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بالاعتقادات الباطنة، فقال: أن تؤمن باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، وتؤمن بالقدر خيره وشرِّه. وقد ذكر اللّهُ في كتابه الإيمان بهذه الأصول الخمسة في مواضع
كقوله تعالى:
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ
[البقرة: ٢٨٥]
وقوله تعالى:
َلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
[البقرة: ١٧٧]
وقوله تعالى:
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3)وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ
[البقرة: 3 - 4].
والإيمانُ بالرُّسل يَلزَم منه الإيمانُ بجميع ما أَخبَروا به من الملائكة، والأنبياء، والكتاب والبعث، والقدر، وغير ذلك من تفاصيل ما أَخبَروا به، من صفات اللّه، وصفات اليوم الآخر؛ كالميزان، والصِّراط، والجنَّة، والنَّار. وقد أَدخَل في الإيمانِ الإيمانَ بالقدر خيرِه وشرِّه، ولأجل هذه الكلمة؛ روى ابنُ عمرَ هذا الحديث محتجًّا به على من أَنكَر القَدَر، وزعم أنَّ الأمر أُنُفٌ؛ يعني: أنّه مستأنَفٌ لم يَسبِق به سابقُ قَدَر من اللّه - عزَّ وجلَّ - وقد غلَّظ ابن عمر عليهم، وتبرَّأ منهم، وأخبر أنَّه لا تُقبَل منهم أعمالهم بدون الإيمان بالقدر. والإيمانُ بالقدر على درجتين؛ إحداهما: الإيمان بأنّ اللّه تعالى سَبَق في علمه ما يَعمَله العباد من خير وشرٍّ، وطاعة ومعصية، قبل خلقهم وإيجادهم، ومن هو منهم من أهل الجنَّة، ومن هو منهم من أهل النّار، وأَعَدَّ لهم الثَّوَاب والعقاب؛ جزاءً لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم، وأنّه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأنّ أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه. والدَّرجة الثَّانية: أنّ اللّه خَلَق أفعال العباد كلَّها من الكُفر، والإيمان، والطَّاعة، والعصيان، وشاءها منهم"[8].
قال ابن رجب رحمه الله: "فإن قيل: فقد فرَّق النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث بين الإسلام والإيمان، وجعل الأعمال كلَّها من الإسلام، لا من الإيمان، والمشهورُ عن السَّلَف وأهل الحديث أنّ الإيمان قولٌ وعمل ونيَّة، وأنّ الأعمال كلَّها داخلة في مسمَّى الإيمان، وحكى الشّافعيُّ على ذلك إجماع الصَّحابة والتّابعين ومَن بعدَهم ممَّن أدركهم، وأنكر السّلف على من أخرج الأعمال من الإيمان إنكارًا شديدًا. وأمّا وجه الجمع بين هذه النّصوص وبين حديث سؤال جبريل - عليه السّلام - عن الإسلام والإيمان، وتفريق النّبيِّ ﷺ بينهما، وإدخاله الأعمال في مسمَّى الإسلام دون الإيمان، فإنّه يتَّضِح بتقرير أصل، وهو أنَّ من الأسماء ما يكون شاملًا لمسمَّيات متعدِّدة عند إفراده وإطلاقه، فإذا قُرن ذلك الاسم بغيره، صار دالًّا على بعض تلك المسمَّيات، والاسم المقرون به دالٌّ على باقيها، وهذا كاسم الفقير والمسكين، فإذا أُفرِد أحدُهما، دخل فيه كلُّ من هو محتاج، فإذا قُرِن أحدهما بالآخر، دلَّ أحد الاسمين على بعض أنواع ذوي الحاجات، والآخَرُ على باقيها، فهكذا اسم الإسلام والإيمان، إذا أُفرِد أحدهما، دَخَل فيه الآخَرُ، ودلَّ بانفراده على ما يدلُّ عليه الآخر بانفراده، فإذا قُرن بينهما، دلَّ أحدُهما على بعض ما يدلُّ عليه بانفراده، ودلَّ الآخر على الباقي. وبهذا التّفصيل الّذي ذكرناه يزول الاختلاف، فيقال: إذا أُفرِد كلٌّ من الإسلام والإيمان بالذِّكر، فلا فرقَ بينهما حينئذ، وإن قُرِن بين الاسمين، كان بينهما فرق. والتَّحقيق في الفرق بينهما: أنَّ الإيمان هو تصديقُ القلب، وإقراره، ومعرفته، والإسلام: هو استسلام العبد للَّه، وخضوعُه، وانقياده له، وذلك يكون بالعمل، وهو الدِّين، كما سمَّى اللّه في كتابه الإسلام دينًا، وفي حديث جبريل سمَّى النّبيُّ ﷺ الإسلام والإيمان والإحسان دينًا، وهذا أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّ أحد الاسمين إذا أُفرِد دخل فيه الآخر، وإنَّما يفرَّق بينهما حيث قُرِن أحد الاسمين بالآخر. فيكون حينئذ المراد بالإيمان: جنس تصديق القلب، وبالإسلام جنس العمل"[9].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "فإنَّ الإحْسَان إذا باشر القلب، مَنَعه عن المعاصي، فإنَّ مَن عبد الله كأنَّه يراه، لم يكن كذلك إلَّا لاستيلاء ذكره ومحبَّته وخوفه ورجائه على قلبه، بحيث يصير كأنَّه يشاهده، وذلك سيحول بينه وبين إرادة المعصية، فضلًا عن مُواقَعَتها، فإذا خرج مِن دائرة الإحْسَان، فاته صُحبة رفقته الخاصَّة، وعَيْشهم الهَنيء، ونعيمهم التَّامُّ، فإن أراد الله به خيرًا، أقرَّه في دائرة عموم المؤمنين"[10].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا الإحسان، فقد جاء ذكره في القرآن في مواضع، تارةً مقرونًا بالإيمان، وتارةً مقرونًا بالإسلام، وتارةً مقرونًا بالتّقوى، أو بالعمل، فالمقرون بالإيمان
كقوله تعالى:
َيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[المائدة: 93]
والمقرون بالإسلام كقوله تعالى:
بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
[البقرة: 112]
والمقرون بالتَّقْوى كقوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
[النحل: 128]
وقد يُذكَر مفردًا كقوله تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌﱠ
[يونس: 26]
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النّبيِّ ﷺ تفسير الزّيادة بالنّظر إلى وجه اللّه عزَّ وجلَّ في الجنَّة، وهذا مناسب لجعله جزاءً لأهل الإحسان؛ لأنّ الإحسان هو أن يَعبُد المؤمن ربَّه في الدّنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنّه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النَّظرَ إلى اللّه عِيانًا في الآخرة... فقوله ﷺ في تفسير الإحسان: «أن تعبد اللّه كأنّك تراه...» إلخ، يُشير إلى أنّ العبد يعبد اللّه على هذه الصِّفة، وهي استحضار قُربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وذلك يوجب الخشية والخوف والهَيبة والتَّعظيم، كما جاء في رواية أبي هريرة: «أن تخشى اللّه كأنّك تراه»، ويوجب أيضًا النُّصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها"[11].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومِن منازل إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين: منزلةُ الإحْسَان، وهي لبُّ الإيمان ورُوحُه وكماله، وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل، فجميعُها منطوية فيها، وكلُّ ما قيل مِن أوَّل الكتاب إلى هاهنا فهو مِن الإحْسَان"[12].
قال ابن رجب رحمه الله: "قال بعض العارفين: اتّق اللّه أن يكون أهونَ النّاظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ اللّه على قدر قُدرته عليك، واستحْيِ منه على قدر قُربه منك. قالت بعض العارفات من السَّلف: من عَمِل للّه على المشاهَدة، فهو عارف، ومن عَمِل على مشاهدة اللّه إيَّاه، فهو مخلص"[13].
قال السعديُّ رحمه الله: "الإحْسَان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنَّه يراه، فإن لم يكن يراه فإنَّ الله يراه، وهو الجِدُّ في القيام بحقوق الله على وجه النُّصح، والتَّكميل لها.
وإحسانٌ في حقوق الخَلْق... هو بذل جميع المنافع مِن أيِّ نوعٍ كان، لأيِّ مخلوق يكون؛ ولكنَّه يتفاوت بتفاوت الْمُحْسَن إليهم، وحقِّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسَّبب الدَّاعي له إلى ذلك"[14].
قال النووي رحمه الله: "ومعنى «تَلِدُ الأَمَةُ رَبَّتَهَا» أي: سَيِّدَتَهَا، ومعناه: أن تَكثُر السَّراري حتى تَلِد الأمَةُ السُّرِّية بنتًا لسيِّدها، وبنتُ السيِّد في معني السيِّد، وقيل غير ذلك. و«العَالَةُ»: الفقراء، وقوله: «مَلِيًّا»؛ أي: زمنًا طويلًا، وكان ذلك ثلاثًا"[15].
قال ابن رجب رحمه الله: "قول جبريل - عليه السّلام -: أخبرني عن السّاعة، فقال النّبيّ ﷺ: «ما المسؤول عنها بأعلم من السّائل» يعني أنّ علم الخلق كلِّهم في وقت السّاعة سواءٌ، وهذه إشارة إلى أنّ اللّه تعالى استأثر بعلمها؛ ولهذا في حديث أبي هريرة: قال النّبيُّ ﷺ: «خمس لا يعلمهنّ إلّا اللَّهُ تعالى، ثمّ تلا:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
[لقمان: 34]
وقال اللّه عزَّ وجلَّ:
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
[الأعراف: 187].
قوله: فأخبرني عن أماراتها؛ يعني: عن علاماتها التي تدلُّ على اقترابها، وقد ذكر النّبيُّ ﷺ للسَّاعة علامتين؛ الأولى: «أن تَلِد الأمَةُ ربَّتها»، والمرادُ بربَّتها سيِّدتها ومالكتها، وفي حديث أبي هريرة (ربّها)، وهذه إشارة إلى فتح البلاد، وكثرة جلب الرّقيق حتّى تَكثُر السَّراريُّ، ويَكثُر أولادهنَّ، فتكون الأمَة رقيقةً لسيِّدها وأولادُه منها بمنزلته، فإنَّ ولد السَّيِّد بمنزلة السَّيِّد، فيصير ولد الأمَةِ بمنزلة ربِّها وسيِّدها. وقيل: معناه أنّ الإماء تلدن الملوك، وقال وكيع: معناه تلد العَجَمُ العَرَبَ، والعربُ ملوكُ العَجَم وأربابٌ لهم. والعلامة الثّانية: «أن ترى الحفاة العراة العالة»، والمراد بالعالة: الفقراء، وقوله: «رعاء الشّاء يتطاولون في البنيان» والمراد: أنّ أسافل النّاس يصيرون رؤساءهم، وتَكثُر أموالهم حتّى يتباهَون بطول البنيان وزخرفته وإتقانه. ومضمونُ ما ذُكِر من أشراط السَّاعة في هذا الحديث يرجع إلى أنّ الأمور توسَّد إلى غير أهلها؛ كما قال النّبيُّ ﷺ: لمن سأله عن السّاعة: «إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر السّاعة» [16]، فإنَّه إذا صار الحفاة العراة رعاء الشّاء - وهم أهل الجهل والجفاء - رؤوسَ النّاس، وأصحابَ الثّروة والأموال، حتّى يتطاولوا في البُنيان، فإنّه يَفسَد بذلك نظام الدّين والدّنيا، فإنّه إذا كان رأسُ النّاس من كان فقيرًا عائلًا، فصار مَلِكًا على النّاس، سواءً كان مُلْكُه عامًّا أو خاصًّا في بعض الأشياء، فإنَّه لا يكاد يُعطي النّاس حقوقهم؛ بل يستأثر عليهم بما استولى عليه من المال، فقد قال بعض السّلف: لأن تَمُدَّ يدك إلى فَمِ التِّنِّين، فيَقضِمَها، خيرٌ لك من أن تمدَّها إلى يد غنيٍّ قد عالج الفقر. وإذا كان مع هذا جاهلًا جافيًا، فَسَد بذلك الدِّين؛ لأنّه لا يكون له هِمَّة في إصلاح دين النّاس ولا تعليمهم؛ بل هِمَّته في جباية المال واكتنازه، ولا يبالي بما فسد من دين النّاس، ولا بمن ضاع من أهل حاجاتهم. وفي قوله: «يتطاولون في البنيان» دليلٌ على ذمِّ التَّباهي والتَّفاخُر، خصوصًا بالتَّطاول في البُنيان، ولم يكن إطالة البناء معروفًا في زمن النّبيّ ﷺ وأصحابه؛ بل كان بُنيانهم قصيرًا بقدر الحاجة"[17].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 345 - 347).
- رواه البخاريُّ (10).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 98- 101).
- "شرح مسلم" للقاضي عياض (1/ 204).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 145).
- رواه مسلم (250).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 347 - 351)
- ."جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 102، 103).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 104- 108).
- "الجواب الكافي" لابن القيم (55-56).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 125، 126).
- "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (3/319).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 129).
- "بهجة قلوب الأبرار" للسعديِّ (204- 206).
- "رياض الصالحين" للنوويِّ (ص: 39).
- رواه البخاريُّ (59).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 135 - 141).
يروي عمرُو بنُ العاصِ، أنه سَمِعَ رسولَ الله ﷺ يقول: «إذا حكَم الحاكمُ فاجتهدَ»؛ أي: إذا أراد القاضي أو المفتي الحُكْمَ، فبذل وُسْعَه في طلب الحقِّ والصواب، «ثم أصاب» بأن وافَقَ حكمُه حكمَ الله، «فله أجرانِ»: أجرٌ لاجتهاده، وأجر لإصابته. «وإذا حكم فاجتهدَ، ثم أخطأ»؛ أي: وإذا أراد الحُكْمَ فبذل وُسْعَه في طلب الحقِّ والصواب، ثم لم يوافِقِ الحقَّ والصواب، «فله أجرٌ» على اجتهاده؛ لأن اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة.
الشرح المفصَّل للحديث:إن العقل من أعظم هِبات الله - عزَّ وجلَّ - للإنسان، ومن أعظم الدلائل على طلاقة قُدرته سبحانه في الخَلق والإيجاد، والإسلامُ يدعو المسلمَ لإعمال العقل بالتأمُّل، والتدبُّر، والتفكُّر، وسائر العمليات العقلية الممكِنة، وضبط هذه العمليات بقواعدَ هاديةٍ وحاكمة من كتاب الله وسُنَّة رسول الله ﷺ؛ حتى لا يضلَّ سعْيُه، ويَخِيب رجاؤُه. وتَزداد خطورة العقل وأهميته، وضرورة انضباطه، إذا تصدَّر صاحبه لمقام الحُكم، وسياسة أمور الناس، والفصل بينهم في الْمُنازَعات ونحوِها.
وفي هذا الحديث يُرغِّب رسولُ الله ﷺ الحاكم في إعمال العقل في الحقِّ وبالحقِّ، ويبشِّره بالأجر من الله على ذلك، حتى وإن لم يُوفَّق في الوصول للصواب، فيقول ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب، فله أجْران»، والمرادُ بالحاكم هنا: الإمامُ أو وَليُّ الأمر، وهو مَن بيدِه تصريفُ شؤون الرَّعِيَّة والفصل بينَهم، ومثلُه مَن قام مقامَه؛ كالقاضي، وهو مَن يُنصِّبه الإمام ليتولَّى الفصلَ في المنازعات والحُكم فيها، ولفظ «الحاكم» فيه بوجه عامٍّ يشمَل كلَّ مَن يتولَّى مسؤولية فضِّ المنازَعات والفصل في الخصومات[1]، ولفظ «الحاكم» هنا قد يشمَل المفتيَ أيضًا، فـ"المراد بالحاكم هنا القاضي، والظاهر أن المفتيَ مثلُه، يعني أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحقِّ، وتبيَّن له شيءٌ من الحقِّ، ثم أفتى به، أو حكم به، فهو على خيرٍ؛ إن أصاب فله أجرانِ، وإن أخطأ فله أجرٌ واحدٌ، ولا يُضيع الله تبارك وتعالى أجرَ مَن أحسن عملًا"[2].
وقوله ﷺ: «إذا حكم الحاكم فاجتهد» معناه: إذا أراد أن يَحكمَ، فعند ذلك يجتهد؛ لأن الحكمَ يأتي بعد الاجتهاد لا قبلَه، فلا يجوز الحكمُ قبل الاجتهاد اتِّفاقًا[3].
والمقصودُ بالاجتهاد بذلُ الوُسع والطاقة في تحرِّي الصواب بقَدْر ما عنده من جُهد[4]، فإن فعلَ ذلك وهو أهلٌ للاجتهاد بدايةً، وتوفَّرت فيه الشروطُ الْمُعتَبَرة فيمَن يتصدَّرُ لهذا المقام، بأن حصَّل العلوم والمعارف اللازمة، وتوفَّرت لديه القُدرات العقلية التي تؤهِّل للاجتهاد[5]، فعندها إن وُفِّق في إدراك الصواب، بأن وافق حكمُه حكمَ الله - عزَّ وجلَّ - في المسألة التي يفصِّل فيها، فله على ذلك من الله تعالى أجرانِ: أجرُ الاجتهاد، وأجرُ الإصابة[6].
وإذا لم يُوفَّق في إدراك الصواب، بعد أن بذلَ جُهدَه، واستفرغَ وُسْعَه، فوقع حكمُه بغير حكم الله - عزَّ وجلَّ - في الأمر الذي يحكم فيه، فله على ذلك أجرٌ واحدٌ، وهو أجر الاجتهاد وبَذلُ الوُسْع والطاقة في طلب الحقِّ. والأجرُ هنا ليس على الخطأ؛ وإنما هو أجرُ الاجتهاد، وتتَبُّع الحقِّ، وبَذْل الوُسْع، والخطأ معفوٌّ عنه بعد ذلك[7]. ومما يؤيِّدُ هذا المعنى: ما ورد في قصة اجتهاد نبيِّ الله داودَ وسليمانَ - عليهما السلام - في الحكم في أمر غَنَمِ الرجُل التي نَفَشت - أي: رَعَتْ ليلًا - في زرع أخيه فأفسدته
قال الله تعالى:
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ 78 فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ۚ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}
[الأنبياء: 78، 79]
فأثنى اللهُ على سليمانَ - عليه السلام - في إصابته، ولم يَذُمَّ داودَ - عليه السلام[8]؛ بل أخبر عنه وعن ابنه سُليمانَ أنه آتاهما حُكمًا وعِلمًا.
وهذا الفضلُ الواردُ في الحديث مخصوصٌ بالحاكم المؤهَّل لهذا الحكم، أما إذا اجترأ على الحكم، وليس أهلًا له، فهو عاصٍ غيرُ مأجور، حتى وإنْ أصاب، وقد "أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكمٍ عالِمٍ أهْلٍ للحُكم، فإن أصاب فله أجرانِ: أجرٌ باجتهاده، وأجرٌ بإصابته، وإن أخطأ فله أجرٌ باجتهاده، قالوا: فأما مَن ليس بأهلٍ للحكم، فلا يَحِلُّ له الحكمُ، فإن حكم فلا أجْرَ له؛ بل هو آثمٌ، ولا يَنفُذ حكمُه، سواءٌ وافق الحقَّ أم لا؛ لأن إصابته –باتِّفاق - ليست صادرةً عن أصل شرعيٍّ، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواءٌ وافق الصوابَ أم لا، وهي مردودةٌ كلُّها، ولا يُعذَر في شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث:
«القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، واثنانِ في النار؛ قاضٍ عرَف الحق فقضى به، فهو في الجنة، وقاضٍ عرَف الحق فقضى بخلافه، فهو في النار، وقاضٍ قضى على جَهْل فهو في النار»[9]"[10].
وهذا المعنى الواردُ في الحديث إذا كان الاجتهادُ فيما هو مستسَاغٌ، ويمكِن الاجتهادُ فيه من الفروع ونحوها، أما المسلَّمات والأمور المعلومة من الدِّين بالضرورات، فلا مجالَ للاجتهاد فيها.
وهذا إنما هو في الفروع المحتمِلة للوجوه المختلفة، دون الأصول التي هي أركانُ الشريعة، وأمَّهات الأحكام التي لا تَحتمِل الوجوه، ولا مدخلَ فيها للتأويل، فإن مَن أخطأ فيها غيرُ معذور في الخطأ، وكان حُكْمُه في ذلك مردودًا[11].
المراجع
- انظر: "كنوز رياض الصالحين" مجموعة باحثين برئاسة: حمد بن ناصر العمار (21/ 611).
- "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (6/ 677).
- انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (10/ 343).
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2594).
- انظر: "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (10/ 343).
- انظر: "التنوير شرح الجامع الصغير" للأمير الصنعانيِّ (2/ 25).
- انظر: "شرح صحيح البخاري لابن بطَّال" (10/ 381).
- رواه أبو داود (3573)، والترمذيُّ (1322)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 818)، من حديث بريدة .
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 13- 14).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (8/ 2594).
قال ابن عُثَيمين رحمه الله: "المراد بالحاكم هنا القاضي، والظاهر أن المفتيَ مثلُه؛ يعني: أن الإنسان إذا اجتهد في طلب الحقِّ وتبيَّن له شيء من الحقِّ ثم أفتى به أو حكم به، فهو على خير، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، ولا يُضيع الله تبارك وتعالى أجر من أحسن عملاً، فدلَّ ذلك على أن الإنسان إذا اجتهد وتحرَّى الحقَّ وبذل وُسْعَه في ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى يُثيبه على هذا، إن أصاب فله أجران: الأجر الأول على إصابة الحقِّ، والثاني على اجتهاده، وإن أخطأ فله أجر واحد، وهو الاجتهاد وبذل الوُسع والطاقة في طلب الحقِّ"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "قَالَ الْعُلَمَاء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكمٍ عالِمٍ أهْلٍ للحكم، فإن أصاب فله أجرانِ: أجرٌ باجتهاده، وأجرٌ بإصابته، وإن أخطأ فله أجرٌ باجتهاده، وفي الحديث محذوفٌ تقديرُه: إذا أراد الحاكم فاجتهد. قالوا: فأمّا من ليس بأهل للحكم، فلا يحلُّ له الحكم، فإن حكم، فلا أجر له؛ بل هو آثم، ولا يَنفُذ حكمه، سواء وافق الحقَّ أم لا؛ لأن إصابته اتِّفاقه ليست صادرةً عن أصل شرعيٍّ، فهو عاصٍ في جميع أحكامه، سواء وافق الصَّواب أم لا، وهي مردودة كلُّها، ولا يُعذَر في شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث في السُّنن:
«الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضٍ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَانِ فِي النَّارِ، قَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِه،ِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَقَاضٍ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ قَضَى عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ»[2]
وقد اختلف العلماء في أنَّ كلَّ مجتهد مصيب أم المصيب واحد، وهو من وافق الحكم الّذي عند اللّه تعالى، والآخر مخطئ لا إثم عليه لعُذره، والأصحُّ عند الشّافعيِّ وأصحابه أنّ المصيب واحد، وقد احتجَّت الطّائفتان بهذا الحديث، وأمّا الأوّلون القائلون: كلُّ مجتهد مصيب، فقالوا: قد جُعل للمجتهد أجر، فلولا إصابتُه لم يكن له أجر، وأمّا الآخرون فقالوا: سمَّاه مخطئًا، ولو كان مصيبًا لم يسمِّه مخطئًا، وأمّا الأجر، فإنّه حصل له على تعبه في الاجتهاد. قال الأوّلون: إنّما سمَّاه مخطئًا لأنّه محمول على من أخطأ النّصَّ، أو اجتهد فيما لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ كالْمُجمَع عليه وغيره، وهذا الاختلاف إنّما هو في الاجتهاد في الفروع، فأمّا أصول التّوحيد، فالمصيب فيها واحد بإجماع من يُعتدُّ به، ولم يخالف إلّا عبد اللّه بن الحسن الَعْبتريُّ وداود الظّاهريُّ، فصوَّبا المجتهدين في ذلك أيضًا. قال العلماء: الظّاهر أنهما أرادا المجتهدين من المسلمين دون الكفَّار، واللّه أعلم"[3].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: قوله: (فاجتهد) عطف على الشرط على تأويل أراد أن يَحكُم فاجتهد، وقوله: (فأصاب) عطف على (فاجتهد)، و(فله أجران) جزاء الشرط. وإنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحقِّ؛ لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ؛ بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا فيمن كان جامعًا لآلة الاجتهاد، وعارفًا بالأصول، عالِمًا بوجوه القياس. وأما من لم يكن محلًّا للاجتهاد، فهو متكلِّف، ولا يُعذَر بالخطأ؛ بل يُخاف عليه الوزر، ويدلُّ عليه قوله ﷺ: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار»[4]. وهذا إنما هو في الفروع المحتمِلة للوجوه المختلفة، دون الأصول التي هي أركانُ الشريعة، وأمهات الأحكام التي لا تحتمل الوجوه، ولا مدخلَ فيها للتأويل؛ فإن مَن أخطأ فيها غيرُ معذور في الخطأ، وكان حكمه في ذلك مردودًا.
واختلفوا في أن كل مجتهد مصيب أم المصيب واحد؟ وهو من وافق الحكم الذي عند الله تعالي، والآخر مخطئ، والأصحُّ عند الشافعيِّ وأصحابه الثاني؛ لأنه سُمِّي مخطئًا، ولو كان مصيبًا لم يُسَمَّ مخطئًا؛ لأنه محمول على من أخطأ النصَّ، أو اجتهد فيما لا يَسُوغ فيه"[5].
قال المناويُّ رحمه الله: "«إذا حكم الحاكم فاجتهد» يعني: إذا أراد الحكم فاجتهد فحَكَم فهو من باب القلب على حدِّ
{وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا}
[الأعراف: ٤]
قال عياض: والاجتهاد بذل الوُسع في طلب الحقِّ والصواب في النازلة. وابن الحاجب: استفراغ الوُسع لتحصيل ظنٍّ بحكم شرعيٍّ. «فأصاب»؛ أي: طابَقَ ما عند الله. «فله أجران» أجرٌ لاجتهاده وأجر لإصابته. فإن قيل: الإصابة مقارِنةٌ للحكم، فما معنى الفاء المفيدة للترتيب والتعقيب؟ فالجواب أن فيه إشارةً إلى علوِّ رُتبة الإصابة، والتعجُّب من حصولها بالاجتهاد. «وإذا حكم فاجتهد» فيه التأويل المارُّ «فأخطأ»؛ أي: ظنَّ أن الحقَّ في نفس الأمر في جهة، فكان خلافَه. «فله أجر واحد» على اجتهاده؛ لأن اجتهاده في طلب الحقِّ عبادة، وفيه أن المجتهِد يَلزَمه تحديد الاجتهاد لوقوع الحادثة، ولا يعتمد على المتقدِّم؛ فقد يَظهَر له خلافٌ، ما لم يكن ذاكرًا للدليل الأول، وأن الحقَّ عند الله واحد؛ لكن وسَّع الله للأمة، وجعل اختلاف المجتهدين رحمةً، وأن المجتهد يخطئ ويصيب، وإلا لما كان لقوله: (فأخطأ) معنًى، هذا ما عليه الشافعية، وتأوَّله الحنفية فأبعدوا. قال الحرَّانيُّ: والحكم قصر المتصرِّف على بعض ما يتصرَّف فيه، وعن بعض ما يتشوَّف إليه، والإصابة وقوع المسدَّد على حدِّ ما سُدِّد له من موافق لفرض النفس أو مخالف"[6].
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 677).
- رواه أبو داود (3573)، والترمذيّ (1322)، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 818)، من حديث بريدة.
- "شرح النوويِّ على مسلم" (12/ 13، 14).
- رواه أبو داود (3573)، والترمذيُّ (1322)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 818)، من حديث بريدة.
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (8/ 2594).
- "فيض القدير" للمناويِّ (1/ 331).
وَجِلَتْ: فَزِعَت[1].
ذَرَفت: أي: نزل منها الدمعُ[2].
النواجذ: هي الأنياب على الصحيح، وقيل: الأضراس، وقيل: الْمَضاحك التي تَظهَر من الأسنان عند الابتسام[3].
البِدْعة: الأمر الْمُحْدَث في الدِّين[4].
المراجع
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 157): الوَجَل: الفزع.
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 159): ذرفت العين تذرف إذا جرى دمعها.
- قال الهرويُّ في "الغريبين في القرآن والحديث" (6/ 1811): اختلف فيه، قال الأصمعيُّ: هي الأضراس، وقال غيره: هي المضاحك ... وقيل: الأنياب، وهي أحسن ما قيل في النواجذ.
- قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (1/ 81): البدعة هذه كلُّ ما أُحدِث بعد النبيِّ فهو بدعة، والبدعة فعلُ ما لم يُسبق إليه، فما وافق أصلًا من السنَّة يُقاس عليها فهو محمود، وما خالف أصول السُّنن فهو ضلالة. ومنه قوله: «كل بدعة ضلالة».
قال العِرباضُ بنُ ساريةَ : (قام فينا رسول الله ﷺ ذاتَ يوم، فوعَظَنا موعظةً بليغةً، وَجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَت منها العيونُ): كان النبيُّ ﷺ كثيرًا ما يعِظ أصحابه، وذاتَ يوم وعظهم موعظةً بليغة، خوَّفهم وأَنذَرهم، فخافت قلوبهم، وبَكَت عيونهم من الخشية والخوف.
فقيل: (يا رسول الله، وعظْتَنا موعظةَ مُوَدِّع): فبالغتَ في الموعظة؛ فإن الْمُوَدِّع عند الوداع لا يترك شيئًا مما يُهِمُّ المودَّع، ويفتقر إليه، إلا ويُورِده ويَستَقصي فيه. (فاعهَدْ إلينا بعهدٍ)؛ أي: فأَوْصِنا.
فقال: «عليكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإنْ عبدًا حبشيًّا»؛ أي: أُوصيكم بتقوى الله، وأُوصيكم بالسمع والطاعة لأمرائكم ومن يَلُون أمركم، حتى وإن كان الأمير عبدًا حبشيًّا.
«وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي»؛ فالتمسُّك بسُنَّته ﷺ هي المنجاة وَسَطَ هذا الخلاف الشديد. «وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين» قيل: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعليٌّ رضي الله عنهم، وقيل: بل هم ومن سار سيرتهم من أئمَّة الإسلام في إعلاء الحقِّ، وإحياء الدِّين، وإرشاد الخلق إلى الصراط المستقيم. «عَضُّوا عليها بالنواجذ»، النواجذ: الأضراس، فتمسَّكوا بالسُّنَّة كمن يُمسِك الشيء بين أضراسه ويَعَضُّ عليه لئلَّا يُنتزع منه. «وإياكم والأمورَ المُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة»؛ أي: احذروا الأمور المحدثة المبتدَعة مما يخالف سُنَّتي؛ فإنها الضلال.
الشرح المفصَّل للحديث:يُرشدنا هذا الحديث إلى بعض القواعد العظيمة التي انْبنى عليها الدين، من وجوب الاتِّباع، وتحريم الابتداع، وطاعة أُولي الأمر في المعروف، والصبر على أذاهم، واتِّباع سُنَّة الصحابة والخلفاء الراشدين.
قوله: (وعظنا موعظةً بليغة) كان النبيُّ ﷺ كثيرًا ما يعِظ أصحابه
لقوله تعالى:
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}
[النساء: 63]
وقوله:
{ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}
[النحل: 125]
ولم يكن ﷺ يُطيل الموعظةَ، ولا يَعِظهم كلَّ يوم؛ بل كان يختار الأوقات المناسبة للموعظة؛ لئلَّا يَمَلُّوا ويسأموا، أو تعتاد قلوبهم ذلك. وفي الحديث عن أبي وائل، قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّرُ الناس في كلِّ خميسٍ، فقال له رجُل: يا أبا عبد الرحمن، لوددِتُ أنَّك ذكَّرتنا كلَّ يوم، قال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكرَهُ أن أُمِلَّكم، وإني أتخوَّلكم بالموعظة، كما كان النبيُّ ﷺ يتخوَّلنا بها؛ مخافةَ السآمة علينا"[1].
ووصف الموعظة بأنها بليغة؛ أي: بَالَغَ فيها بالتخويف والإنذار
كقوله تعالى:
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}
[النساء: 63]
والبلوغ والبلاغ: الانتهاء إلى أقصى المقصد والمنتهى، ومنه البلاغة، والأصل فيه أن يجمع الكلام ثلاثة أوصاف: صوابًا في موضوع اللغة، ومطابقة للمعنى المراد منه، وصدقًا في نفْسه، وكلام الرسول ﷺ أحقُّ بهذه الأوصاف من بين كلام سائر الخَلْق[2].
وقوله: (ذرفت منها العيون)؛ أي: بَكَت العيون من الخشية والخوف، وهذا مجازٌ؛ فإن الأصل: ذرفت الدموعُ لا العيون، فإسناد الذرف إلى العيون كإسناد الفَيض إليها؛ كما في قوله تعالى:
{تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
[المائدة: 83]
فكأن أعينَهم ذَرَفت مكانَ الدمع مبالغةً فيها، وإنما قدَّم وَجَل القلوب على بكاء العيون للدلالة على أن الموعظة قد أثَّرت فيهم باطنًا وظاهرًا[3].
وهذان الوصفان قد مدح الله بهما عباده المؤمنين في غير موضِع
فقال:
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
[المائدة: 83]
وقال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
[الأنفال: 2]
وقال تعالى:
{وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ 34 الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}
[الحج: 34، 35]
وقال تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ}
[الزمر: 23]
وقال تعالى:
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
[الحديد: 16]
وقوله: (وعظتَنا موعظةَ مُوَدِّع) مبالغة في الموعظة؛ فإن الْمُوَدِّع عند الوداع لا يترك شيئًا مما يُهِمُّ المودَّع، ويفتقر إليه، إلا ويورده ويَستَقصي فيه[4].
قوله ﷺ: «عليكم بتقوى الله»؛ أي: أُوصيكم بها، والتقوى كما قال طَلْق بن حبيب رحمه الله: "أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تتركَ معصيةَ الله، على نور من الله، تخافُ عقابَ الله"[5].
وقوله ﷺ: «والسمع والطاعة وإنْ عبدًا حبشيًّا»؛ أي: أوصيكم بالسمع والطاعة لأمرائكم ومن يَلُون أمركم، وقوله: «عبدًا حبشيًّا» إنما ساقه ﷺ لضرب الْمَثَل مبالغةً؛ فإنه ﷺ قال في حديث معاوية:
«إن هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله على وجهه، ما أقاموا الدين»[6]
وفي الحديث عن ابن عمر
عن النبيِّ ﷺ، قال:
«لا يَزال هذا الأمر في قريش ما بَقي منهم اثنان»[7]
وإنما ساقه ﷺ في مَضرِب المثَل عن الشيء الذي لا يكاد يوجد؛ كما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:
«مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ، أو أصغرَ، بنى الله له بيتًا في الجنة»[8]
ومِفْحَص القَطاة: موضع الطائر الذي يَبيض فيه، وقدر مِفْحَص قَطاة لا يكون مسجدًا لشخصٍ آدميٍّ[9].
ويَحتمِل أن النبيَّ ﷺ أخبر بفساد الأمر ووضعه في غير أهله، حتى تُوضع الولاية في العبيد، فإذا كانت فاسمعوا وأطيعوا تغليبًا لأهون الضررين، وهو الصبرُ على ولاية مَن لا تجوز ولايته؛ لئلَّا يُفضي إلى فتنة عظيمة[10].
وقوله: «وسترَوْن من بعدي اختلافًا شديدًا»، هذه من معجزاته ﷺ ودلائل صدقه؛ فإنه أخبر عمَّا يكون من الاختلاف والإجمال، وإن كان قد عَلِم بعضه، أو كلَّه على التفصيل.
قوله: «عليكم بسُنَّتي»؛ أي: الزَموا سُنَّتِي، والسُّنَّة: الطريقة، وهي: كلُّ ما نُقل عن النبيِّ ﷺ من قولٍ، أو فعلٍ، أو إقرار[11].
وقوله: «وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين» المراد بهم: أبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ رضوان الله عليهم أجمعين؛ فإنهم الذين انعقد عليهم الإجماعُ بالخلافة الراشدة؛ لقوله ﷺ في حديث سفينةَ أن النبيَّ ﷺ قال:
«الخلافة في أُمتي ثلاثون سنةً، ثم مُلك بعد ذلك»[12]
وإنما أمر بالرجوع إلى سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ لأمرين: أنه عَلِم أنهم لا يُخطئون سُنَّته، فيما يَستخرجونه من سُنَّته بالاجتهاد، ومن هذا الباب قتالُ أبي بكر مانعي الزكاة، وقتال عليٍّ المارقة، والثاني: أنه ﷺ علِم أن شيئًا من سُنَّته لا يَشتهِر في زمانه، وإن علِمه الأفراد من صحابته، ثم يَشتهِر في زمان الخلفاء، فيُضاف إليهم، فربما يتذرَّع أحدٌ إلى ردِّ تلك السُّنة بإضافتها إليهم، فأطلق القول باتِّباع سُنَّتهم؛ سدًّا لهذا الباب، ومن هذا النوع منع عمر عن بيع أمهات الأولاد، وله نظائرُ كثيرة[13].
وربما يكون المراد بقوله: «الخلفاء الراشدين المهديين» العلماء وأئمة الإسلام المجتهدين في أصول الأحكام؛ فإنهم خلفاؤه في إحياء الحقِّ، وإعلاء الدين، وإرشاد الناس إلى الطريق المستقيم[14].
وقوله: «عضُّوا عليها بالنواجذ» اختلفوا في النواجذ؛ فقيل: هي الأنيابُ، وقيل: الْمَضاحكُ، وقيل: الأضراسُ. والمرادُ: المبالغةُ في التمسُّك بهذه الوصية بجميع ما يمكِن من الأسباب الْمُعينة عليها، كالذي يتمسَّك بالشيء، ثم يَستعين عليه بأسنانه؛ استظهارًا للمحافظة. ويجوز أن يكون معناه المحافظةَ على هذه الوصيَّة بالصبر على مُقاساة الشدائد، كمن أصابه ألمٌ فأراد أن يصبر عليه، ولا يستغيث منه بأحد، ولا يُريد أن يُظهر ذلك عن نفْسه، فجعل يشتدُّ بأسنانه بعضها على بعض[15].
وقوله: «الأمور المحدَثات»: الأمور الْمُحدَثة في الدين على قسمين: إما أن يكون محدَثٌ ليس له أصلٌ في الدين، فهذا باطلٌ مذمومٌ، وإما أن يكون له أصلٌ قيس عليه، واشتُقَّ منه، فهذا ليس بمذموم؛ إذ الحداثة في حدِّ ذاتها ليست محلًّا للمدح أو الذم، وإلا فقد قال الله تعالى:
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2][16].
والمراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا[17].
وقوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة، وهي كقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه عن عائشة ڤ:
«مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[18]
فكلُّ مَن أحدث شيئًا ونَسَبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة[19].
أما استحسان السَّلَف لبعض الأفعال على أنها بدعة؛ كقول عمرَ بنِ الخطَّاب عن جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد: «نِعمَ البدعةُ هذه»[20]، فإنما ذلك في البِدَع اللغوية، لا الشرعية؛ فإن فعله له أصلٌ في الشرع؛ فإن النبيَّ ﷺ صلَّى بالناس، ثم خشيَ أن تُفرض عليهم، فترك ذلك، فلما تولَّى عمرُ جمعَهم على أُبيِّ بن كَعب وقال قولته تلك، فلم تكن بدعةً شرعية[21].
المراجع
- رواه البخاريُّ (70)، ومسلم (2821).
- "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 88).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633).
- انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 114).
- انظر: "الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه" لابن تيمية (1/ 9)، "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 459).
- رواه البخاريُّ (3500).
- رواه البخاريُّ (3501)، ومسلم (1820).
- رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 300)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 88).
- انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 97).
- انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 409).
- رواه أبو داود (4646)، والترمذيُّ (2226)، واللفظ له، وقال الترمذيُّ: حديث حسن، وحسَّنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/141).
- انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 272).
- "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 137).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 301)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 89).
- انظر: "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (10/ 147)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 98).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).
- رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- رواه البخاريُّ (2010).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «موعظة مودِّع» فائدة هذا القيد أن المودِّع عند الوداع لا يترك شيئًا مما يُهِمُّ المودَّع ويفتقر إليه إلا ويُورِده ويستقصي فيه"[1].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فوعظنا)؛ أي: نَصَحنا رسول اللّه ﷺ (موعظةً): وهي ما يوعَظ به. (بليغةً)؛ أي: تامَّةً في الإنذار. قال السّيِّد جمال الدّين: أي: وجيزةَ اللّفظ، كثيرةَ المعنى، أو بالَغ فيها بالإنذار والتّخويف. اهـ. وقال التُّورِبشتيُّ: أي: بالغ فيها الإنذار والتّخويف
كقوله تعالى:
{وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}
[النساء: 63]
وليس المراد وِجازة اللّفظ وكثرة المعنى مع البيان كما قاله القاضي؛ لأنّ قوله: «ذرفت منها العيون» يدلُّ عليه. اهـ. وفيه أنّه لا يَلزَم من إرادة وجازة اللّفظ عدم إفادة الإنذار الّذي سبَّب البكاء، واللّه أعلم. (ذرفت)؛ أي: دمعت. (منها العيون)؛ أي: سالت من موعظته دموع العيون - بضمِّ العين وكسرها -
كقوله تعالى:
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}
[المائدة: 83]
(ووَجِلت): والوَجَل خوف مع الحذر؛ أي: خافت. (منها القلوب): لتأثيرها في النّفوس واستيلاء سلطان الخشية على القلوب. قال الطّيبيُّ: (ذرفت)؛ أي: سالت، وإسناده إلى العيون مبالغة، وفائدة تقديم (ذرفت) على (وجلت)، وحقُّه التّأخير؛ للإشعار بأنّ تلك الموعظة أثَّرت فيهم، وأخذت بمجامعهم ظاهرًا وباطنًا. اهـ. وتبعه ابن حجر، ولا يخفى أنّ العلّة المذكورة إنّما هي للجمع بينهما للتّأخير، ويمكِن أن يقال: وجهه أنّ الظّاهر عنوان الباطن، يُستدلُّ بالدّمعة على الخشية وإن كانت هي موجِبةً للدّمعة، واللّه أعلم"[2].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فقال ﷺ: (أوصيكم بتقوى الله)، وهذه الوصية التي أوصى بها الله - عزَّ وجلَّ – عباده
كما قال تعالى:
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
[النساء: 131]
والتقوى كلمة جامعة من أجمع الكلمات الشرعية، ومعناها: أن يتَّخِذ الإنسان وقايةً من عذاب الله، ولا يكون هذا إلا بفعل الأوامر واجتناب النواهي، ولا يكون فعلُ الأوامر واجتناب النواهي إلا بعلم الأوامر والنواهي. إذن؛ فلابدَّ من علم، ولابدَّ من عَمَل، فإذا اجتمع للإنسان العلم والعمل، نال بذلك خشية الله، وحَصَلت له التقوى. فتقوى الله إذن: أن يتَّخَذ الإنسان وقاية من عذابه، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، ولا وصول إلى ذلك إلا بالعلم. وليس المراد بالعلم أن يكون الإنسان بحرًا في العلم؛ بل المراد به العلم بما يُعِين عليه من أوامر الله. والناس يختلفون في ذلك: فمثلًا من عنده مال يجب أن يعلم أحكام الزكاة، ومن قَدَر على الحجِّ، وَجَب عليه أن يَعلَم أحكام الحجِّ، وغيرهم لا يجب عليهم، فعلوم الشريعة فرض كفاية إلا ما تعيَّن على العبد فعله، فإن عَلِمه يكون فرضَ عين"[3].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فقال رجل): وفي الأربعين: (قلنا: يا رسول اللّه، كأنَّ): بالتّشديد (هذه)؛ أي: هذه الموعظة، وفي الأربعين: كأنّها (موعظة مودِّع)، بالإضافة؛ فإنَّ المودِّع - بكسر الدّال - عند الوداع لا يَترُك شيئًا ممّا يُهِمُّ المودَّع - بفتح الدّال - أي: كأنّك تودِّعنا بها؛ لما رأى من مبالغته عليه الصّلاة والسّلام في الموعظة، ويمكن أن يقال: لَمّا رأى تأثيرًا عجيبًا من موعظته في الظّاهر والباطن، بحيث أدَّى إلى البكاء، فشبَّه موعظته بموعظة المودِّع من حيث التّأثيرُ والبكاء، أو لكمال التّأثير؛ توهَّموا أنّه يَعقُبه الزّوال، واللّه أعلم بحقيقة الحال. (فأوصنا)؛ أي: إذا كان الأمر كذلك، فمُرْنا بما فيه كمال صلاحنا وإرشادنا في معاشنا ومعادنا بعد وفاتك"[4].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «والسمع والطاعة»؛ أي: أوصيكم بقبول قول الأمير وطاعته، وبما أمركم به ولو كان أدنى خَلق، وهذا وارد على سبيل المبالغة لا التحقيق؛ كما جاء: «مَن بنى مسجدًا لله كمِفْحَصِ قَطَاةٍ»[5] يعني: لا تستنكفوا عن طاعة من وُلِّي عليكم، ولو كان عبدًا حبشيًّا؛ إذ لو استنكفتم عنه، لأدَّى إلى إثارة الحروب، وتهييج الفتن، وظهور الفساد في الأرض، فعليكم بالصبر والْمُداراة حتى يأتي أمر الله. والفاء في «فإنه» للتسبيب، جَعَلت ما بعدها سببًا لِما قبلها؛ يعني: من قَبِل وصيَّتي، والْتَزَم تقوى الله، وقَبِل طاعة من وُلِّي عليه، ولم تهيَّج الفتن، أَمِن بعدي مما يرى من الاختلاف الكثير، وتشعيب الآراء، ووقوع الفتن. ثم أكَّد تلك الوصية بقوله: «فعليكم بسنَّتي» على سبيل الالتفات، وعَطَف عليه قوله: «وإياكم ومحدثاتِ الأمور» تقريرًا بعد تقرير، أو توكيدًا بعد توكيد، وكذا قولُه: «تمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ» تشديد على تشديد"[6].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فقال: أوصيكم بتقوى اللّه)؛ أي: بمخافته والحذر من معصيته.
قال تعالى:
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
[النساء: 131]
أي: بأقسامها الثّلاثة، وهي تقوى الشّرك، والمعصية، وتقوى ما سوى اللّه، وهذا من جوامع الكلم؛ لأنّ التّقوى امتثال المأمورات، واجتناب المنهيَّات، وهي زاد الآخرة تُنجيكم من العذاب الأبديِّ، وتبلِّغكم إلى دار السّرور، وتوجب الوصول إلى عتبة الجلال والقُدس والنُّور. وهذا فيما بينهم وبين اللّه. (والسّمع)؛ أي: وبسمع كلام الخليفة والأئمَّة. (والطّاعة): لمن يلي أمركم من الأمراء ما لم يأمروا بمعصية، عادلًا كان أو جائرًا، وإلّا فلا سمع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لكن لا يجوز محاربته. (وإن كان)؛ أي: المطاع؛ يعني: من ولّاه الإمام عليكم. (عبدًا حبشيًّا)، فأطيعوه ولا تنظروا إلى نَسَبه؛ بل اتَّبِعوه على حَسَبه، ولفظ الأربعين: «وإن تأمّر عليكم عبد»؛ أي: صار أميرًا أدنى الخلق فلا تستنكفوا عن طاعته، أو ولو استولى عليكم عبد حبشيٌّ فأطيعوه؛ مخافةَ إثارة الفتن، فعليكم الصَّبْرَ والْمُداراة حتّى يأتيَ أمر اللّه، وقيل: هذا وارد على سبيل الحثِّ والمبالَغة على طاعة الحكّام لا التّحقيق، كما قال عليه الصّلاة والسّلام: «من بنى للّه مسجدًا ولو مثل مِفْحَص قَطَاة، بنى اللّه له بيتًا في الجنّة»[7]، وقيل: ذُكِر على سبيل المثل؛ إذ لا تصحُّ خلافته لقوله عليه الصّلاة والسّلام: «الأئمّة من قريش»[8]. قلت: لكن تصحُّ إمارته مطلَقًا، وكذا خلافته تسلُّطًا كما هو في زماننا في جميع البُلدان، وكأنّ ذكر الحبشيِّ لكونه الغالبَ في ذلك الزّمن، وإلّا فغيره كالزّنجيِّ أخسُّ منه، فكان أنسبَ بالغاية، أو المراد بالحبشيِّ العبد الأسود، فيشمل الزّنجيَّ والهنديَّ ثمّ التُّركيَّ يُعلَم بالأولى"[9].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: (والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ): السمع والطاعة، يعني لوليِّ الأمر. (وإن تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ)، سواءٌ كانت إمرتُه عامَّةً؛ كالرئيس الأعلى في الدولة، أو خاصَّةً كأمير بلدة، أو أمير قبيلة وما أشبه ذلك. وقد أخطأ من ظنَّ أن المراد بقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ) أن المراد بهم الأمراء الذين دون الوليِّ الأعظم الذي يسمِّيه الفقهاء الإمام الأعظم؛ لأن الإمارة في الشرع تشمل الإمارة العظمى، وهي الإمامة وما دونها؛ كإمارة البُلدان، والمقاطعات، والقبائل، وما أشبه ذلك؛ ودليل هذا أن المسلمين منذ تولَّى عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - يسمُّون الخليفة (أمير المؤمنين) فيجعلونه أميرًا. وهذا لا شكَّ فيه، ثم يسمَّى أيضًا (إمامًا)؛ لأنه السلطان الأعظم، ويسمَّى سُلطانًا؛ لكن الذي عليه الصحابة أنهم يسمُّونه (أمير المؤمنين). وقوله: (وإن تأمَّر عليكم عبد حبشيٌّ)؛ يعني: حتى ولو لم يكن من العرب، لو كان من الحبشة، وتولَّى، وجعل الله له السلطة، فإن الواجب السمع والطاعة له؛ لأنه صار أميرًا، ولو قلنا بعدم السمع والطاعة له، لأصبح الناس فوضى، كلٌّ يعتدي على الآخر، وكلٌّ يُضيع حقوق الآخرين. وقوله: (والسمع والطاعة): هذا الإطلاق مقيَّد بما قيَّده به النبيُّ ﷺ حيث قال: «إنما الطاعة في المعروف»[10] ثلاث مرات، يعني فيما يُقرُّه الشرع، وأما ما يُنكره الشرع، فلا طاعة لأحد فيه، حتى لو كان الأبَ أو الأمَّ أو الأمير العامَّ أو الخاصَّ؛ فإنه لا طاعة له. فمثلًا لو أمر وليُّ الأمر بأن لا يصلِّي الجنود، قلنا: لا سمع ولا طاعة؛ لأن الصلاة فريضة، فرضها الله على العباد، وعليك أنت أيضًا، أنت أول من يصلِّي، وأنت أول من تُفرَض عليه الصلاة، فلا سمع ولا طاعة... وهكذا كلُّ ما أمر به وليُّ الأمر، إذا كان معصيةً لله، فإنه لا سمع له ولا طاعة، يجب أن يُعصى عَلَنًا ولا يُهتمَّ به، إن من عصى الله وأمر العباد بمعصية الله، فإنه لا حقَّ له في السمع والطاعة؛ لكن يجب أن يُطاع في غير هذا؛ يعني: ليس معنى ذلك أنه إذا أَمَر بمعصية، تسقط طاعته مطلَقًا، لا؛ إنما تسقط طاعته في هذا الأمر المعيَّن الذي هو معصية لله، أما ما سوى ذلك، فإنه تجب طاعته، وقد ظنَّ بعض الناس أنه لا تجب طاعة وليِّ الأمر إلا فيما أمر الله به، وهذا خطأ؛ لأن ما أمر الله به فإنه يجب علينا أن ننفِّذه ونفعله، سواءٌ أَمَرنا به وليُّ الأمر أم لا. فالأحوال ثلاثة: إما أن يكون ما أَمَر به وليُّ الأمر مأمورًا به شرعًا، كما لو أمر بالصلاة مع الجماعة مثلًا، فهذا يجب امتثاله لأمر الله ورسوله ولأمر وليِّ الأمر. وأما أن يأمر وليُّ الأمر بمعصية الله، مِن تركِ واجب، أو فعل محرَّم، فهنا لا طاعة له ولا سمع. وأما أن يأمر الناس بما ليس فيه أمر شرعيٌّ ولا معصية شرعية، فهذا تجب طاعته فيه
لأن الله قال:
{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}
[النساء: 59]
فطاعةُ وليِّ الأمر في غير معصية طاعةٌ لله ولرسوله"[11].
قال السِّنديُّ رحمه الله: "قوله: (والسّمع والطّاعة)؛ أي: لأمر الخليفة، (وإن)؛ أي: وإن كان الأميرُ عبدًا حبشيًّا؛ فالكلام في آمِر الخليفة الّذي ولّاه الخليفة، لا في الخليفة، حتّى يَرِد أنّه كيف يكون الخليفة عبدًا حبشيًّا؟ على أنّ الْمَحَلَّ مَحَلُّ المبالغة في لزوم الطّاعة، ففَرْضُ الخليفة فيه عبدًا حبشيًّا؛ لإفادة المبالَغة، يَحتمِل قوله: (وسترون) بمنزلة التّعليل للوصيّة بذلك؛ أي: والسّمع والطّاعة ممّا يَدفَع الخلاف الشّديد؛ فهو خير. قوله: (وسنّة الخلفاء... إلخ) قيل: هم الأربعة - رضي اللّه عنهم - وقيل: بل هم ومن سار سيرتهم من أئمَّة الإسلام المجتهدين في الأحكام؛ فإنّهم خلفاء الرّسول - عليه الصّلاة والسّلام - في إعلاء الحقِّ، وإحياء الدّين، وإرشاد الخلق إلى الصّراط المستقيم. قوله: (عضّوا عليها بالنّواجذ) بالذّال المعجَمة وهي الأضراس. قيل: أراد به الجِدَّ في لزوم السُّنّة؛ كفعل من أمسك الشّيء بين أضراسه وعضَّ عليه منعًا من أن يُنتزَع، أو الصّبر على ما يُصيب من التَّعب في ذات اللّه؛ كما يفعل المتألّم بالوجع يُصيبه. قوله: (والأمور المحدثات) قيل: أُريد بها ما ليس له أصل في الدّين، وأمّا الأمور الموافقة لأصول الدّين، فغير داخلة فيها، وإن أُحدثت بعده ﷺ. قلت: هو الموافق لقوله: (وسنّة الخلفاء)، فليُتأمَّلْ"[12].
قال الملا علي القاري رحمه الله : "(فإنّه)؛ أي: الشّأن، وفي الأربعين: (وإنّه) بالواو. (من يَعِشْ): بالجزم، وفي الأربعين: بالرّفع (منكم بعدي): قال الطّيبيُّ: الفاء للسّببيّة، جعل ما بعدها سببًا لما قبلها؛ يعني: من قَبِل وصيّتي والتزم تقوى اللّه وقَبِل طاعة من وُلِّيَ عليه، ولم يهيِّج الفتن، أَمِن بعدي ممّا يرى من الاختلاف الكثير وتشعُّب الآراء ووقوع الفتن. اهـ. وكتب السّيّد جمال الدّين تحته: وفيه وما زاد عليه، ووجه نَظَره ظاهرًا من وجهين؛ أحدهما: عدم ظهور وجه السّببيّة، وثانيهما: عدم وجود الأنسبيّة؛ بل الفاء للتّفريع، والمعنى: الزموا ما قلتُ لكم؛ فإنّه من يعش منكم بعدي لا مخلِّص له إلّا نصيحتي. (فسيرى اختلافًا كثيرًا)؛ أي: من مِلَل كثيرة، كلٌّ يدَّعي اعتقادًا غير اعتقاد الآخر؛ إشارةً إلى ظهور أهل البدع والأهواء، أو اختلافًا على الْمُلك وغيره كثيرًا يؤدِّي إلى الفتن وظهور المعاصي، وولاية الأخسَّاء، حتّى العَبيد"[13].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: (فإنه من يعش منكم، فسيرى اختلافًا كثيرًا)؛ يعني: أن من يعش منكم ويُمَدَّ له في عمره، فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ اختلافًا كثيرًا في الولاية، واختلافًا كثيرًا في الرأي، واختلافًا كثيرًا في العمل، واختلافًا كثيرًا في حال الناس عمومًا، وفي حال بعض الأفراد خصوصًا، وهذا الذي وقع؛ فإن الصحابة - رضي الله عنهم - لم ينقرضوا حتى حصلت الفتن العظيمة في مقتل عثمان رضي الله عنه، وعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وقبلها مقتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وغير ذلك من الفتن المعروفة في كتب التاريخ. قال النبيُّ ﷺ وهو الصادق المصدوق: (وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا)، وهذا هو الذي وقع؛ ولكن هل هذه الجملة تُنزَّل على كل زمان؛ بمعنى أن من عاش من الناس فسوف يرى التغيُّر، أو أن هذا خاصٌّ بمن خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ نقول: إنه ينطبق على كل زمن، فالذين عُمروا منا يجدون الاختلاف العظيم بين أول حياتهم وآخر حياتهم، فمن عاش ومُدَّ له في العمر، رأى التغيُّر العظيم في الناس، رأى التغُّير لأنه كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا) قد وقع، وحصل خلاف بين الأمة في السياسة، وفي العقيدة، وفي الأفعال، والأحكام العملية، ثم إن الرسول ﷺ حثَّ عند هذا الاختلاف على لزوم سنَّة واحدة فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضُّوا عليها بالنواجذ)؛ فالرسول ﷺ أمرَنا، عندما نرى هذا الاختلاف، أن نَلزَم سنَّته"[14].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي): اسم فعل بمعنى: الزموا؛ أي: بطريقتي الثّابتة عنّي واجبًا أو مندوبًا. (وسنّة الخلفاء الرّاشدين): فإنّهم لم يعملوا إلّا بسنّتي، فالإضافة إليهم إمّا لعملهم بها، أو لاستنباطهم واختيارهم إيّاها. (المهديّين)؛ أي: الّذين هداهم اللّه إلى الحقِّ. قيل: هم الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعليٌّ - رضي اللّه عنهم - قال بعض المحقِّقين: ووصف الرّاشدين بالمهديّين لأنّه إذا لم يكن مهتديًا في نفسه، لم يصلح أن يكون هاديًا لغيره؛ لأنّه يوقع الخَلْق في الضّلالة من حيث لا يُشعرهم. قال التُّوربشتيُّ: وأمّا ذكر سنَّتِهم في مقابلة سنَّته لأنّه عَلِم أنّهم لا يُخطئون فيما يستخرجون من سنَّته، أو أنّ بعضها ما اشتهر إلّا في زمانهم... بل المراد تصويب رأيهم وتفخيم أمرهم، وقيل: هم ومن على سيرتهم من أئمّة الإسلام المجتهدين في الأحكام؛ فإنّهم خلفاء الرّسول عليه الصّلاة والسّلام في إحياء الحقِّ، وإرشاد الخلق، وإعلاء الدّين وكلمة الإسلام. (تمسَّكوا بها)؛ أي: بالسُّنّة. (وعضّوا) بفتح العين (عليها)؛ أي: على السُّنّة (بالنّواجذ) جمع ناجذة بالذّال المعجمة، وهي الضِّرس الأخير، وقيل: هو مرادف السّنِّ، وقيل: هو النّاب. والعضُّ كناية عن شدّة ملازمة السُّنّة والتّمسُّك بها؛ فإنّ من أراد أن يأخذ شيئًا أخذًا شديدًا يأخذه بأسنانه، أو المحافظة على هذه الوصيّة بالصّبر على مقاساة الشّدائد كمن أصابه ألم لا يُريد أن يُظهره، فيشتدُّ بأسنانه بعضها على بعض، قال بعض المحقِّقين: هذه استعارة تمثيليّة، شبَّه حال المتمسِّك بالسُّنّة المحمَّديّة بجميع ما يمكِن من الأسباب الْمُعينة عليه بحال من يتمسَّك بشيء بيديه ثمّ يستعين عليه؛ استظهارًا للمحافظة في ذلك؛ لأنّ تحصيل السّعادات الحقيقيّة بعد مجانبة كلِّ صاحب يُفسد الوقت، وكلّ سبب يَفتِن القلب مَنُوط باتّباع السُّنّة بأن يمتثل الأمر على مشاهدة الإخلاص، ويعظِّم النّهيَ على مشاهدة الخوف؛، بل باقتفاء آثار الرّسول ﷺ في جميع موارده ومصادره وحركاته وسكناته ويقظته ومنامه، حتّى يُلجم النّفس بلجام الشّريعة، ويتجلّى في القلب حقائق الحقيقة بتصقيله من مفاتح الأخلاق، وتنويره بأنوار الذّكر والمعرفة والوفاق، وتعديله بإجراء جميع حركات الجوارح على قانون العدل حتّى يُحدث فيه هيئةً عادلةً مسنونةً من آثار الفضل، يستعدُّ لقبول المعارف والحقائق، ويصلح أن ينفخ فيه روح اللّه المخصوص بسلوك أحسن الطّرائق، هذا وقيل: تمسَّكوا وعضُّوا فعلا ماض صفتان للخلفاء. (وإيّاكم ومحدثات الأمور): عطف على قوله: فعليكم؛ للتّقرير والتّوكيد؛ أي: احذروا عن الأمور الّتي أُحدثت على خلاف أصل من أصول الدّين، واتّقوا أحداثها. (فإنّ كلّ محدثة بدعة)؛ أي: في الشّريعة. (وكلّ بدعة): بنصب كلّ، وقيل: برفعه. (ضلالة): إلّا ما خُصَّ، وقد تقدَّم"[15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فقال: (عليكم بسنَّتي) يعني الزموها. وكلمة: (عليكم)، يقول علماء النحو: إنها جار ومجرور محوَّل إلى فعل الأمر، يعني: الزموا سنَّتي. وسنَّته عليه الصلاة والسلام هي: طريقته التي يمشي عليها، عقيدةً، وخُلقًا، وعملًا، وعبادةً، وغير ذلك، نلزم سنَّته، ونجعل التحاكم إليها
كما قال الله تعالى:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً}
[النساء: 65]
فسنَّة النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - هي سبيل النجاة لمن أراد الله نجاته من الخلافات والبدع، وهي - ولله الحمد - موجودة في كتب أهل العلم الذين ألَّفوا في السنَّة؛ مثل الصحيحين للبخاريِّ ومسلم، والسنن والمسانيد، وغيرها مما ألَّفه أهل العلم وحفظوا به سنَّة رسول الله ﷺ"[16].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "والمرادُ بالخلفاء الراشدين: أبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ - رَضِي الله عنهم أجمعين... وإنما ذَكَر سنَّتهم في مقابلة سنَّته؛ لأنه عَلِم أنهم لا يُخطئون فيما يَستخرِجونه من سنَّته بالاجتهاد، ولأنه ﷺ عرف أن بعض سنَّته لا تَشتهِر إلا في زمانهم، فأضاف إليهم دفعًا لتوهُّم مَن ذَهَب إلى ردِّ تلك السنَّة، فأطلق القول باتِّباع سنَّتهم؛ سدًّا لهذا الباب. و«النواجذ» الأضراس، وقيل: الضواحك، وقيل: الأنياب، والعضُّ بالنواجذ مَثَلٌ في التمسُّك بهذه الوصية بجميع ما يمكِن من الأسباب الْمُعِينة عليه، كمن يتمسَّك بشيء ثم يستعين عليه بأسنانه؛ استظهارًا للمحافظة". [17]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله: (وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين): الخلفاء جمع خليفة، وهم الذين خَلَفوا النبيَّ ﷺ في أمَّته علمًا وعملًا ودعوةً وسياسة، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون الأربعة: أبو بكر، وعمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ - رضي الله عنهم - وألحقنا بهم في جنات النعيم، هؤلاء الخلفاء الأربعة ومن بعدهم من خلفاء الأمة، الذين خلفوا النبيَّ ﷺ في أمَّته، هم الذين أُمرنا باتِّباع سنَّتهم؛ ولكن ليُعلَم أن سنَّة هؤلاء الخلفاء تأتي بعد سنَّة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلو تعارضت سنَّة خليفة من الخلفاء مع سنَّة محمد ﷺ، فإن الحكم لسنَّة محمد ﷺ لا لغيرها؛ لأن سنَّة الخلفاء تابعة لسنَّة النبيِّ ﷺ. المهم أن سنَّة الخلفاء الراشدين تأتي بعد سنَّة الرسول ﷺ. قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: "يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر وعمر!!" هذا وهما أبو بكر وعمر، فكيف بمن عارض قولَ الرسول ﷺ بقول من دون أبى بكر وعمرَ بمراحلَ. يوجد بعض الناس إذا قيل له: هذه هي السنَّة، قال: لكن قال العالم الفلاني كذا وكذا، من المقلِّدين المتعصِّبين. أما من احتجَّ بقول عالم وهو لا يدري عن السنَّة، فهذا لا بأس به؛ لأن التقليد لمن لا يَعلَم بنفسه، جائز ولا بأس به"[18].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "في الحديث دليل على أن واحدًا من الخلفاء الراشدين إذا قال قولًا وخالفه غيره من الصحابة، كان المصير إلى قوله أَوْلى، وإليه ذهب الشافعيُّ - رضي الله عنه - في القديم، قال: والحديث يدلُّ على تفضيل الخلفاء الراشدين على غيرهم من الصحابة، وترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة. والله أعلم"[19].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ ﷺ: (تمسَّكوا بها)؛ أي: تمسَّكوا بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين، (عضُّوا عليها بالنواجذ)، والنواجذ: أقصى الأضراس، وهو كناية عن شدَّة التمسُّك، فإذا تمسَّك الإنسان بيديه بالشيء وعضَّ عليه بأقصى أسنانه، فإنه يكون ذلك أشدَّ تمسُّكًا مما لو أمسكه بيد واحدة، أو بيدين بدون عضٍّ، فهذا يدلُّ على أن النبيَّ ﷺ أمرنا أن نتمسَّك أشدَّ التمسُّك بسنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعده عليه الصلاة والسلام.
ثم قال النبيُّ ﷺ بعد أن أمر باتِّباع سنَّته وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، وحثَّ على التمسُّك بها، والعضِّ عليها بالنواجذ، قال: (وإياكم ومحدثاتِ الأمور)؛ يعني: أحذِّركم من محدثات الأمور؛ أي: من الأمور المحدثة، وهذه الإضافة من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، والأمور المحدَثة يعني بها صلوات الله وسلامه عليه: المحدثاتِ في دين الله؛ وذلك لأن الأصل فيما يَدين به الإنسان ربَّه، ويتقرَّب به إليه، الأصل فيه المنع والتحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع؛ ولهذا أنكر اللهُ - عزَّ وجلَّ - على من يحلِّلون ويحرِّمون بأهوائهم
فقال تعالى:
{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}
[النحل: 116]
وأنكر على من شرع في دينه ما لم يأذن بها
فقال:
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}
[الشورى: 21]
وقال :
{قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}
[يونس: 59]
أما الأمور العادية وأمور الدنيا، فهذه لا يُنكَر على مُحْدَثاتِها إلا إذا كان قد نُصَّ على تحريمه، أو كان داخلًا في قاعدة عامة تدلُّ على التحريم، فمثلًا السيارات والدبَّابات وما أشبهها، لا نقول: إن هذه محدَثة لم توجد في عهد الرسول ﷺ، فلا يجوز استعمالها؛ لأن هذه من الأمور الدنيوية، الثياب وأنواعها، لا نقول: لا تُلبَس إلا ما كان يلبسه الصحابة، البَسْ ما شئتَ مما أحلَّ الله لك؛ لأن الأصل الحلُّ، إلا ما نصَّ الشرع على تحريمه؛ كتحريم الحرير والذهب على الرجال، وتحريم ما فيه الصورة، وما أشبه ذلك"[20].
قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: «كل بدعة ضلالة» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ، فإنَّه قعَّد قاعدةً في هذا الدين بعبارة موجَزة يَسيرة، وهي كقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه عن عائشة ڤ: «مَن أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردٌّ»[21]؛ فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجع إليه، فهو ضلالة، والدين بريءٌ منه، وسواءٌ في ذلك مسائل الاعتقادات، أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة"[22].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فقوله صلوات الله وسلامه عليه: (وإياكم ومحدثات الأمور) يعني في دين الله، وفيما يتعبَّد به الإنسان لربِّه، ثم قال: (فإن كل بدعة ضلالة) يعني أن كل بدعة في دين الله فهي ضلالة، وإن ظنَّ صاحبها أنها خير، وأنها هدى، فإنها ضلالة لا تزيده من الله إلا بُعدًا. وقوله صلوات الله وسلامه عليه: (كلُّ بدعة ضلالة) يشمل ما كان مبتدَعًا في أصله، وما كان مبتدَعًا في وصفه. فمثلًا: لو أن أحدًا أراد أن يَذكُر الله بأذكار معيَّنة بصفتها أو عددها، بدون سنَّة ثابتة عن رسول الله ﷺ، فإنا ننكر عليه، ولا ننكر أصل الذكر؛ ولكن نُنكر ترتيبه على صفة معيَّنة بدون دليل. فإن قال قائل: ما تقولون في قول عمر - رضي الله عنه - حين أمر أُبيَّ بنَ كعب وتميمًا الداريَّ - رضي الله عنهما - أن يقوما بالناس في رمضان في تراويحهم، وأن يجتمع الناس على إمام واحد بعد أن كانوا أوزاعًا، فخرج ذاتَ ليلة والناس خلف إمامهم فقال: (نعمتِ البدعة هذه)، فأثنى عليها ووصفها بأنها بدعة، والرسول - عليه الصلاة والسلام - يقول: (كل بدعة ضلالة). قلنا: إن هذه البدعة ليست بدعةً مُبْتَدأة؛ لكنها بدعة نسبية؛ وذلك لأن النبيَّ ﷺ صلَّى بأصحابه ثلاث ليال أو أربع ليال في رمضان، يقوم بهم، ثم تخلَّف في الثالثة أو الرابعة، وقال: (إني خشيت أن تُفرَض عليكم) فصار الاجتماع على إمام واحد في قيام رمضان سنَّة سنَّها النبيُّ ﷺ؛ ولكن تركها خوفًا من أن تُفرَض علينا. ثم بَقِيت الحال على ما هي عليه، يصلِّي الرجلان والثلاثة والواحد على حِدَةٍ؛ في خلافة أبي بكر، وفي أول خلافة عمرَ - رضي الله عنهما - جمع الناس على إمام واحد، فصار هذا الجمعُ بدعةً بالنسبة لتركه في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي عهد أبي بكر، وفي أول خلافة عمر - رضي الله عنهما - فهذه بدعة نسبية، وإن شئت فقل: إنها بدعة إضافية، يعني بالنسبة لترك الناس لها هذه المدَّةَ آخِرَ حياة الرسول ﷺ، وخلافة أبي بكر، وأول خلافة عمر، ثم إنه بعد ذلك استؤنفت هذه الصلاة، وإلا فلا شكَّ أن قول الرسول ﷺ: (كل بدعة ضلالة) عامٌّ، وهو صادر من أفصح الخلق، وأنصح الخلق - عليه الصلاة والسلام - وهو كلام واضح، كلُّ بدعة مهما استحسنها مبتدِعها، فإنها ضلالة"[23].
قال ابن رجب رحمه الله: "المراد بالبدعة: ما أُحْدِث في الدين مما لا أصلَ له في الشريعة يدُلُّ عليه، فأما ما كان له أصلٌ من الشرع يدُلُّ عليه، فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعةً لغةً، وما كان محدَثًا في أمور الدنيا فلا عَلاقة له بالبدعة هنا"[24].
قال القاضي عياض رحمه الله: "البدعة هذه كلُّ ما أُحدِث بعد النبيِّ ﷺ فهو بدعة، والبدعة فعلُ ما لم يُسبق إليه، فما وافق أصلًا من السنَّة يُقاس عليها فهو محمود، وما خالف أصول السُّنن فهو ضلالة. ومنه قوله: «كل بدعة ضلالة»" [25].
المراجع
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 633).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251).
- رواه ابن ماجه (738)، وصحَّحه البوصيريُّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
- رواه ابن ماجه (738)، وصحّحه البوصيريّ في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (1/ 94).
- رواه أحمد (12900)، وغيره، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2188).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 251، 252).
- رواه البخاريُّ (7145)، ومسلم (1840).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 276، 279).
- "حاشية السندي على سنن ابن ماجه" (1/ 20).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 252).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 279، 282).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 252، 253).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 282).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 283، 284).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 634، 635).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 284، 285).
- رواه البخاريُّ (2697)، ومسلم (1718).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 128).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 285، 287).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 127).
- "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 81).
يروي ابْنُ عُمَرَ رضي اللَّه عنهمَا، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ»؛ أي: يأمرني بحفظ حقِّه من الإحسان إليه، ودَفْعِ الأذى عنه. «حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أي: اعتقدتُ وترقَّبْتُ أن يَحكُم بميراث أحد الجارينِ من الآخَرِ.
الشرح المفصَّل للحديثفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن أمين الوحيِ جبريلَ - عليه السلامُ - كرَّر عليه الوصية بالجار، حتى ظنَّ النبيُّ ﷺ من كثرة وصيَّته به أنه يَرِث من مال جاره، "ولما أكَّد جبريلُ على النبيِّ ﷺ حقَّ الجِوَار، وكثَّر عليه من ذلك، غَلَب على ظنِّ النبيِّ ﷺ أن الله سيَحكُم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلُّ على أن هذا الجارَ هنا هو جارُ الدار" [1].
قولُه: «ما زال جبريل يوصيني بالجار»؛ أي: يَأمُرني بحِفظ حقِّه، والإحسان إليه، ودفع الضَّرَر عنه، والجارُ يُقال على المجاوِر في الدار، وعلى الداخل في الجِوار، مسلمًا كان أو كافرًا، قريبًا أو أجنبيًّا، وكلُّ واحد منهم له حقٌّ، ولا بدَّ من الوفاء به، والجيرانُ ثلاثة: كافرٌ، فله حقُّ الجِوَار، ومسلمٌ أجنبيٌّ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، ومسلمٌ قريبٌ، فله حقُّ الجِوار، وحقُّ الإسلام، وحقُّ القَرابة" [2].
وأَوْلى الجيران بالإحسان مَن يكون أقربَهم بابًا؛ لمشاهدته ما يَدخُل في بيت جاره، فيتطلَّع إلى إحسانه إليه.
وحِفْظُ حقوق الجار، والإحسانُ إليه مما يقوِّي أواصرَ الحبِّ والمؤاخاة بين أفراد المجتمع، فإذا أكرم كلٌّ منا جاره، ائتلفت القلوب، واتَّفَقت الكلمة، وقام الإسلام بذلك، وإذا أهان كلٌّ منا جاره، تنافَرَت القلوب، واختلفت الكلمة، فانعكس الحال.
والله عزَّ وجلَّ قد أوصى بالجار؛
فقال سبحانه:
﴿وَٱعْبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِۦ شَيْـًٔا ۖ وَبِٱلْوَٰلِدَيْنِ إِحْسَٰنًا وَبِذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَٰمَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينِ وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
[النساء: 36]
﴿وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك ﱡ
﴿وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل" [3].
والجارُ مأمورٌ بالإحسان إلى جاره، وكذلك مأمورٌ بكفِّ الأذى عنه، وتحرُم أذيَّتُه لجاره تحريمًا أشدَّ من تحريم أذى المسلمين مُطلقًا، وقد بيَّن النبيُّ ﷺ أن ذلك من علامات الإيمان باليوم الآخر؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ...»
[4].
كما بيَّن ﷺ أن إيذاء الجار لجاره سببٌ في عدم دخوله الجنَّة؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»
[5].
ونفى ﷺ الإيمانَ عمَّن لم يأمن جارُه بوائقه؛
فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»
[6].
وقال الحسن البصريُّ: "ليس حُسْنُ الجِوار كفَّ الأذى، ولكنْ حُسْنُ الجوار احتمالُ الأذى" [7].
و"حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية" [8].
قوله: «حتى ظننتُ أنه سيورِّثه»؛ أي: يَحكُم بميراث أحد الجارينِ من الآخَرِ، وقد خرج مخرج المبالغة في شدَّة حفظ حقِّ الجار.
"واختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعَل له مشاركة في المال بفَرْضِ أسهمٍ مُعطاةٍ مع الأقارب، وقيل: المرادُ أن ينزَّل منزلةَ من يَرِث بالبرِّ والصِّلة، والأوَّل أظهر" [9].
المراجع
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 610).
2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 228)، "التعيين في شرح الأربعين" لسليمان بن عبد القويِّ (1/ 136) بتصرُّف.
3. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
4. رواه البخاريُّ (6018)، ومسلم: (47).
5. رواه مسلم (46).
6. رواه البخاريُّ (6016).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 353).
8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
9. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أَيْ: يَأْمُرُ عَنِ اللَّهِ بِتَوْرِيثِ الْجَارِ مِنْ جَارِهِ، واختُلف في المراد بهذا التوريث، فقيل: يُجعَل له مشاركة في المال بفَرْضِ أسهمٍ مُعطاةٍ مع الأقارب، وقيل: المرادُ أن ينزَّل منزلةَ من يَرِث بالبرِّ والصِّلة، والأوَّل أظهر" [1].
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله: "ولما أكَّد جبريلُ على النبيِّ ﷺ حقَّ الجِوَار، وكثَّر عليه من ذلك، غَلَب على ظنِّ النبيِّ ﷺ أن الله سيَحكُم بالميراث بين الجارين. وهذا يدلُّ على أن هذا الجارَ هنا هو جارُ الدار" [2].
قال ابن حجر رحمه الله: "واسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله. وقد تتعارض صفتان فأكثرُ، فيرجِّح أو يساوي، وقد حمله عبد اللّه بن عمرو - أحد من روى الحديث - على العموم، فأَمَر لَمّا ذُبِحت له شاة أن يُهدى منها لجاره اليهوديِّ، أخرجه البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والتّرمذيُّ وحسَّنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرتُه في حديث مرفوع أخرجه الطّبرانيُّ من حديث جابر رفعه: «الجيران ثلاثة: جار له حقٌّ، وهو المشرِك له حقُّ الجِوار، وجار له حقَّان، وهو المسلم له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رحم، له حقُّ الجوار والإسلام والرّحم». قال القرطبيُّ: الجار يُطلَق ويُراد به الدّاخل في الجوار، ويُطلَق ويراد به المجاوِر في الدّار، وهو الأغلب، والّذي يظهر أنّه المراد به في الحديث الثّاني؛ لأنّ الأوّل كان يَرِث ويورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التّوريث بين المتعاقدينِ، فقد كان ثابتًا، فكيف يُترجَّى وقوعه وإن كان بعد النّسخ؛ فكيف يظنُّ رجوعه بعد رفعه؟! فتعيَّن أنّ المراد به المجاور في الدّار" [3].
قال السعديُّ رحمه الله:
﴿وَٱلْجَارِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك
﴿وَٱلْجَارِ ٱلْجُنُبِ﴾
أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل" [4].
قال أبو محمد بن أبي جمرة رحمه الله: "حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية" [5].
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد نفى ﷺ الإيمان عمَّن لم يأمن جاره بوائقه؛ كما في الحديث الّذي يليه، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حقِّ الجار، وأنّ إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنّسبة للجار الصّالح وغير الصّالح، والّذي يشمل الجميعَ إرادةُ الخير له، وموعظتُه بالحسنى، والدّعاءُ له بالهداية، وتركُ الإضرار له إلّا في الموضع الّذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والّذي يخصُّ الصّالح هو جميعُ ما تقدَّم، وغير الصّالح كفُّه عن الّذي يرتكبه بالحسنى على حسَبِ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، ويَعِظُ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، ويبيِّن محاسنه، والتّرغيب فيه برِفق، ويَعِظ الفاسق بما يناسبه بالرّفق أيضًا، ويَستُر عليه زَلَلـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبِهِ، وإلّا فيهجره قاصدًا تأديبَه على ذلك مع إعلامه بالسّبب ليكُفَّ" [6].
قال ابن عثيمين رحمه الله: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ»؛ أي: سيَنزِل الوحيُ بتوريثه، وليس المعنى أن جبريل يَشرَع توريثه؛ لأن جبريل ليس له حقٌّ في ذلك؛ لكن المعنى أنه سينزل الوحي الذي يأتي به جبريل بتوريث الجار، وذلك من شدَّة إيصاء جبريلَ به النبيَّ ﷺ" [7].
قَالَ ابن أَبِي جَمْرَةَ: رحمه الله: " الميراث على قسمين: حسّيٌّ ومعنويٌّ، فالحسّيُّ هو المراد هنا، والمعنويُّ ميراث العلم، ويمكِن أن يُلحَظ هنا أيضًا؛ فإنّ حقَّ الجار على الجار أن يعلِّمه ما يحتاج إليه، واللَّه أعلمُ" [8].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 610).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441، 442).
4. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
5. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
6. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 177).
8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441).
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ»؛ أي: من كانت عليه مَظلِمة لأحد من الناس. «مِنْ عِرْضِه أَوْ شَيْءٍ»، وسواءٌ كانت هذه المظلمةُ في العِرْضِ؛ كغِيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍّ وشتم، أو كانت في أكلِ مال، أو غصْب أرض بغير حقٍّ. «فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ»؛ أي: ليَطلُبْ من المظلوم أن يعفوَ عنه ويُسامحَه، أو ليُؤَدِّ إليه حقَّه ومَظلِمته، وليسارع في التحلُّل من المظالم اليوم في الدنيا. «قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ»؛ أَيْ: قبل يَوْم الْقِيَامَةِ. «إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ، أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ»؛ أي: إن كان للظالم حسنات وعملٌ صالح، ولم يؤدِّ الحقَّ إلى صاحبه، أو يتحلَّله منه، جاء المظلوم يومَ القيامة، وأَخَذ من حسنات الظالم على قدر الظُّلم الذي وقع عليه. «وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ»؛ أي: إن لم يكن للظالم حسنات، وُضِع عَلَى الظَّالِمِ من سيئات المظلوم.
الظُّلم من أقبح المعاصي، وأشدِّها حُرمةً، شرُّه عظيم، وعاقبتُه وَخيمة، وأعظمُ أنواع الظُّلم: الشركُ بالله؛
قال تعالى:
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ
[لقمان: 13]
فهو تجاوزٌ للحدِّ مع الله تعالى؛ إذ أَمَر بتوحيده، وهو أعظم الذنوب وأكبرُها؛
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:
"أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ»
[1]؛
ولذلك كان عقاب فاعله شديدًا؛
قال تعالى:
إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[إبراهيم: 22]
وقال تعالى:
وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرً
ا[الفرقان: 19]
ويليه: ظُلْمُ العباد، وسواءٌ أكان هذا الظلم ظلمًا ماديًّا أم ظلمًا معنويًّا، فقد حذَّرنا الله منه؛
قال تعالى:
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
[الشورى: 42]
وهو ظُلمات على صاحبه يوم القيامة؛
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ»
[2]
وقد حرَّمه الله على نفسه ابتداءً، ثم حرَّمه على العباد؛
قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
[يونس: 44]
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا… »
[3]
وتوعَّد الله الظالمين بتعجيل العقوبة لهم في الدنيا؛
فعَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ تَعَالَى لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مِثْلُ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ»
[4]
وإذا كان الأمر كذلك، كان من الواجب علينا أن نتوب إلى الله من هذه المظالم؛ إلا أن المظالم التي تتعلَّق بالعباد لها شرط خاصٌّ بها غير شروط التوبة العامَّة، وهو التحلُّل من المظالم، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، فشروط التوبة هي: إخلاص النية لله تعالى، والإقلاع عن المعصية، والندم على ارتكابها، والعزم على عدم العودة إلى المعصية، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوق العباد، وأن تكون في الوقت المخصَّص لقَبولها؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها، وقبل لحظة الموت.
لذا؛ حثَّنا النبيُّ ﷺ على المسارعة إلى أداء الحقوق، وردِّ المظالم إلى أهلها في الدنيا، حتى ولو كانت ببذل الأموال، فهي أَهْوَنُ من أخذ الحسَنات منه، وحمل السيِّئات عليه يوم القيامة، فقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ»؛ أي: من كانت عليه مَظلِمة لأحد من الناس، والْمَظلِمة: اسمٌ لِمَا أُخِذ بغير حقٍّ، «مِنْ عِرْضِهِ»، وسواءٌ أكانت هذه المظلمةُ في العِرْضِ؛ كغِيبةٍ، أو نميمة، أو سبٍّ وشتم، وإنما قدَّم العِرض لأن أكثر مظالم الناس في العِرض، «أَوْ شَيْءٍ»؛ يعني: أو كانت المظلمة في أكلِ مال، أو غصْب أرض بغير حقٍّ؛
قال تعالى:
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ
[البقرة: 188]
وقال تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ۚ
[النساء: 29]،
«فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ»؛ أي: ليَسأَلْه أن يجعلَه في حِلٍّ، ويطلُب براءةَ ذمَّته ومسامحته في الدنيا، أو ليؤدِّ إليه مَظلَمته قبل يوم القيامة، والتحلُّل إنما يكون للظالم قِبَل المظلوم، يَطلُب منه أن يعفوَ عنه، ويسامحَه؛ ولكن هل يبيِّن الظالم للمظلوم قَدْرَ ظُلمه أو لا؟ وهل يُشترَط أن يَعرِف المظلوم مقدارَ الظُّلم الذي وقع عليه أو ماهيَّته؟ "قال المهلَّب: إن بيَّن فهو أطيبُ وأصحُّ في التحلُّل؛ لأنه يعرف مقدار ما يحلِّله منه معرفة صحيحة، وقد اختلف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد معاملة وملابسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كلِّ ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبيِّن مقداره، وقال آخرون: إنما تصحُّ البراءة إذا بيَّن له، وعَرَف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشاحَّة في مثله. قال المهلَّب: وهذا الحديث حُجَّة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: «أخذ منه بقدر مظلمته» يدلُّ أنه يجب أن يكون معلومَ القَدْرِ، مشارًا إليه"[5]
قوله ﷺ:
«قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ»
يريد يومَ القيامة، وفي التعبير بهذا اللفظ إشارةٌ إلى أن التعامل بالأموال ينقطع يومَ القيامة، ويكون بالحسنات والسيِّئات، وأن التعامل بالأموال في الدنيا عند ردِّ الْمَظالم أَهْوَنُ من التعامل بالحسنات والسيِّئات في الآخرة.
قوله ﷺ:
«إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ»
أي: إن كان للظالم عملٌ صالح، ولم يؤدِّ الحقَّ إلى صاحبه، أو يتحلَّله منه، جاء المظلوم يومَ القيامة، وأَخَذ ثواب بعض أعماله الصالحة على قدر الظُّلم الذي وقع عليه، وفي معناه
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ:
«أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»
[6]
قولهﷺ:
«وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ»؛ أي: وإن لم يكن للظالم حسنات، أُخِذ من سيِّئات المظلوم، فوُضِعت عليه، {ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ}
[الإسراء: 15]
لأنه إنما يُعاقَب بسبَب فعله وظُلمه وجِنايته، فلمَّا دفَع لغُرمائه حسناته، ولم يَبْقَ منها بقيةٌ، أُخِذ قدر سيئاته، فعُوقِبَ بها"[7].
وإن كانت هذه المظالم يتعلَّق بها حقوقٌ مالية لله، أو للآدميِّين، فلا بدَّ من ردِّها، "إن تعلَّق بالمعصية حقٌّ ماليٌّ؛ كمنع الزكاة، والغَصْبِ، والجنايات في أموال الناس، وَجَب مع ذلك تبرئة الذمَّة عنه، بأن يؤدِّيَ الزكاة، ويردَّ أموال الناس إن بَقِيَت، ويَغرَم بَدَلها إن لم تبقَ، أو يستحلَّ المستحقَّ، فيبرِّئه، ويجب أن يعلم المستحِقُّ إن لم يَعلَم به، وأن يوصِّله إليه إن كان غائبًا، إن كان غصبُه منه هناك، فإن مات، سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبرُه، دَفَعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتُه وديانته، فإن تعذَّر، تصدَّق به على الفقراء بنِيَّة الغرامة له إن وَجَده"[8]
المراجع
- رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
- رواه البخاريُّ (2447)، ومسلم (2579).
- رواه مسلم (2577).
- رواه أبو داود (4902)، وابن ماجه (4211)، والترمذيُّ (2511)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 577).
- رواه مسلم (2581).
- "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (7/ 451)
- "روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنوويِّ (11/ 246)
الْمَظْلِمَة: ما تَطلُبه عند الظالم، وهو اسم ما أَخذَه منك بغير حقٍّ[1]
عِرْضه: الْعِرْض: موضع المدح والذمِّ من الإنسان، سواءٌ كان في نفسه أو في سلفه، أو من يَلزَمه أمره، وقيل: هو جانبُه الذي يَصُونه من نفسه وحَسَبه، ويحامي عنه أن يُنتقَص ويُثلَب، وقال ابن قُتيبة: عِرض الرجل: نفسُه وبَدَنه لا غيرُ[2]
فَلْيَتَحَلَّلْه: التَّحَلُّل والاستحلال: طَلَبُك إلى الرجل أن يجعلك فِي حِلٍّ[3]
المراجع
- " مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 197).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 209).
- "الفائق في غريب الحديث والأثر" للزمخشريِّ (1/ 312).
قال الملا علي القاري رحمه الله : "«مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ»: بكسر اللّام وبفتح، اسمُ ما أَخَذه الظّالم أو تعرَّض له «لأخيه»؛ أي: في الدّين. «من عِرضه»: بيان للمظلمة، وهو بكسر العين، جانِبه الذّي يصونه من نفسه ونَسَبه وحَسَبه، ويتحامى أن ينتقص، «أو شيء»؛ أي: أمر آخر؛ كأخذ ماله، أو المنع من الانتفاع به، أو هو تعميمٌ بعد تخصيص، «فليتحلّله»؛ أي: فليَطلُب الظّالم حلَّ ما ذُكر «منه»؛ أي: من المظلوم في النّهاية. يُقال: تحلَّلته واستحللتَه، إذا سألتَه أن يجعلك في حلٍّ، «اليومَ»؛ أي: في أيّام الدّنيا لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون»؛ أي: لا يوجد «دينار ولا درهم»: وهو تعبير عن يوم القيامة، وفي التّعبير به تنبيه على أنّه يجب عليه أن يتحلَّل منه، ولو بذل الدّينار والدّرهم في بذل مَظلمته؛ لأنّ أخذ الدّينار والدّرهم اليوم على التّحلُّل أهون من أخذ الحسنات، أو وضع السّيّئات على تقدير عدم التّحلُّل، كما أشار إليه بقوله: «إن كان له عمل صالح»؛ أي: بأن يكون مؤمنًا ظالِمًا غير معفوٍّ من مظلومه، «أُخِذ»: بصيغة المجهول؛ أي: عمله الصّالح، «منه»؛ أي: من صاحبه الظّالم على غيره، «بقدر مظلمته»: ومعرفة مقدار الطّاعة والمعصية كمِّيّةً وكَيفيّةً مفوَّض علمها إلى اللّه سبحانه، هذا وقال الطّيبيُّ: قوله: إن كان استئنافًا، كأنّه لَمّا قيل: فليتحلَّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم يؤخذ منه بدل مظلمته، توجَّه لسائل أن يسأل: فما يؤخذ منه بدل مظلمته بعد أن كان... إلخ. اهـ. «وإن لم تكن»؛ أي: لم توجد «له حسنات»؛ أي: باقية أو مطلَقًا، «أُخِذ من سيّئات صاحبه»؛ أي: المظلوم، «فحُمِل عليه»: بصيغة المجهول مخفَّفًا؛ أي: فوُضِع على الظّالم. قال ابن الملك: يحتمل أن يكون المأخوذ نفسَ الأعمال بأن تتجسَّم فتصير كالجواهر، وأن يكون ما أُعِدَّ لهما من النِّعم والنِّقم إطلاقًا للسّبب على المسبِّب، وهذا لا ينافي
قوله تعالى:
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ
[الأنعام: 164]
لأنّ الظّالم في الحقيقة مجزيٌّ بوِزر ظُلمه، وإنّما أُخذ من سيّئات المظلوم تخفيفًا له وتحقيقًا للعدل"[1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلَّب: إن بيَّن، فهو أطيبُ وأصحُّ في التحلُّل؛ لأنه يَعرِف مقدار ما يحلِّله منه معرفة صحيحة، وقد اختَلَف العلماء فيمن كانت بينه وبين أحد مُعامَلة ومُلابَسة، ثم حلَّل بعضهم بعضًا من كلِّ ما جرى بينهما من ذلك، فقال قوم: إن ذلك براءة له في الدنيا والآخرة، وإن لم يبيِّن مقداره، وقال آخرون: إنما تصِحُّ البراءة إذا بيَّن له، وعَرَف ما له عنده، أو قارب ذلك بما لا مُشاحَّة في مثله. قال المهلَّب: وهذا الحديث حُجَّة لهذا القول؛ لأن قوله عليه السلام: «أخذ منه بقدر مظلمته» يدلُّ أنه يجب أن يكون معلومَ القَدْرِ، مشارًا إليه"[2].
قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «مظلمة» الْمُغرب: المظلِمة الظُّلم، واسم للمأخوذ. يقال: عند فلان مَظلَمتي وظُلامتي؛ أي: حقِّي الذي أُخِذ مني ظُلمًا. انتهى كلامه. والمرادُ من «اليوم» أيَّام الدنيا؛ لمقابلته بقوله: «قبل أن لا يكون دينار ولا درهم» وهو معبِّر عن يوم القيامة. يقال: تحلَّلتَه واستحللتَه إذا سألتَه أن يجعلك في حِلٍّ من قِبَلِك. أقول: قوله: «إن كان» استئنافٌ؛ كأنه لَمَّا قِيل: «فليتحلَّلْه منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم» ويؤخذ منه بدل مظلمته، توجَّه لسائلٍ أن يسأل: فما يؤخذ منه بدل مظلمته؟ قيل «إن كان ....» إلخ"[3]
قال ابن حجر رحمه الله: " من كانت له مظلمةٌ عند الرّجل، فحلَّلها له، هل يُبيِّن مظلمته؟ المظلمة بكسر اللّام على المشهور، وحكى ابن قُتيبة وابن التّين والجوهريُّ فتحها، وأنكره ابن القُوطيّة، ورأيت بخطِّ مغلطاي أنّ القزَّاز حكى الضّمَّ أيضًا، وقوله: هل يُبيّن؟ فيه إشارة إلى الخلاف في صحّة الإبراء من المجهول، وإطلاق الحديث يقوِّي قول من ذهب إلى صحّته، وقد ترجم بعد باب إذا حلَّله ولم يبيِّن كم هو، وفيه إشارة إلى الإبراء من المجمَل أيضًا، وزعم ابن بطّال أنّ في حديث الباب حجَّةً لاشتراط التّعيين؛ لأنّ قوله: مظلمة، يقتضي أن تكون معلومةَ القَدْر، مشارًا إليها. ولا يخفى ما فيه. قال ابن المنير: إنّما وقع في الحديث التّقدير، حيث يقتصُّ المظلوم من الظّالم حتّى يأخذ منه بقدر حقّه، وهذا متَّفق عليه، والخلاف إنّما هو فيما إذا أَسقَط المظلوم حقَّه في الدّنيا، هل يُشترط أن يعرف قدره أم لا؟ وقد أطلق ذلك في الحديث، نعم قام الإجماع على صحَّة التّحليل من المعيَّن المعلوم، فإن كانت العين موجودةً، صحَّت هِبتها دون الإبراء منها. قوله: «من كانت له مظلمة لأخيه» اللّام في قوله: (له)، بمعنى: (على)؛ أي: من كانت عليه مظلمة لأخيه. قوله: «من عرضه أو شيء»؛ أي: من الأشياء، وهو من عطف العامِّ على الخاصِّ، فيدخل فيه المال بأصنافه، والجِراحات، حتّى اللّطمةُ ونحوُها، وفي رواية التّرمذيّ: «من عرض أو مال». قوله: «قبل أن لا يكون دينار ولا درهم»؛ أي: يوم القيامة، وثبت ذلك في رواية عليِّ بنِ الجعد عن ابن أبي ذئب عند الإسماعيليِّ. قوله: «أُخذ من سيّئات صاحبه»؛ أي: صاحب المظلمة، «فحُمِل عليه»؛ أي: على الظّالم، وفي رواية مالك: «فطُرِحت عليه»"[4]
قال ابن القيم رحمه الله: "سبحان الله! كم بَكَت في تنعُّم الظالم عَيْنُ أرملة، واحترقت كَبِدُ يتيم، وجَرَت دمعة مِسكين!
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَﱠ
[المرسلات: 46]،
وَلَتَعۡلَمُنَّ نَبَأَهُۥ بَعۡدَ حِينِۭ
[ص: 88]
ما ابيضَّ لون رغيفهم حتى اسودَّ لَوْنُ ضعيفهم، وما سمنت أجسامهم حتى انتحلت أجسام من استأثروا عليه، لا تحتقر دعاء المظلوم؛ فشَرَرُ قلبه محمول بعجيج صوته إلى سقف بيتك، ويحكَ! نِبَالُ أدعيته مصيبة، وإن تأخَّر الوقت، قوسُه قلبُه المقروح، ووترُه سَواد الليل، وأستاذه صاحب «لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»، وقد رأيتَ ولكنْ لستَ تَعتبِر. احذَرْ عَدَاوةَ من ينام وطرفُه باكٍ، يقلِّب وجهه في السماء، يرمي سهامًا ما لها غَرَضٌ سوى الأحشاء منك، فربَّما ولعلَّها إذا كانت راحةُ اللذَّة تُثمر ثمرة العقوبة لم يَحسُن تناولها، ما تساوي لذَّةُ سنة غمَّ ساعة، فكيف والأمرُ بالعكس؟! كم في يمِّ الغرور من تمساح، فاحذر يا غائصُ، ستعلم أيُّها الغريمُ قِصَّتك عند تعلُّق الغُرماء بك. من لم يتتبَّع بمِنقاش العدل شَوْكَ الظُّلم من أيدي التصرُّف، أثَّر ما لا يؤمَن تعدِّيه إلى القلب"[5].
قال شمس الدين البِرْماويُّ رحمه الله: "ولا تعارُض بين هذا وبين قوله تعالى:
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٞ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۗ}
[الإسراء: 15]
لأنه إنما يُعاقَب بسبَب فعله وظُلمه وجِنايته، فلمَّا دفَع لغُرمائه حسناته، ولم يَبْق منها بقيةٌ، أُخِذ قدر سيئاته، فعُوقِبَ بها"[6].
قال النوويُّ رحمه الله: "إن تعلَّق بالمعصية حقٌّ ماليٌّ؛ كمنع الزكاة، والغَصْبِ، والجنايات في أموال الناس، وَجَب مع ذلك تبرئة الذمَّة عنه، بأن يؤدِّيَ الزكاة، ويردَّ أموال الناس إن بَقِيَت، ويَغرَم بَدَلها إن لم تبقَ، أو يستحلَّ المستحقَّ، فيبرِّئه، ويجب أن يعلم المستحِقُّ إن لم يَعلَم به، وأن يوصِّله إليه إن كان غائبًا، إن كان غصبُه منه هناك، فإن مات، سلَّمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبرُه، دَفَعه إلى قاضٍ تُرضى سيرتُه وديانته، فإن تعذَّر، تصدَّق به على الفقراء بنِيَّة الغرامة له إن وَجَده"[7]
المراجع
1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3201).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 577).
3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3254).
4. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 101).
5. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 242).
6. "اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (7/ 451).
7."روضة الطالبين وعمدة المفتين" للنوويِّ (11/ 246).
قال عَمْرُو بنُ العَاصِرضي الله عنه: (لَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلامَ فِي قَلْبِي)؛ أي: لَمَّا هداني الله تعالى إلى الإسلام. (فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ)؛ أي: أن يفتح ﷺ يمينَه ويمُدَّها؛ ليَضَعَ عمرٌو يمينَه عليها، كما هي العادةُ في البيعة.
قَالَ: (فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ، قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟» قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي)؛ أي: قَبَض عمرٌو يده يُريد أن يشترط أن يَغفِر الله له ذنوبه قبل أن يُسلِم.
قال ﷺ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»: فأخبره ﷺ أن الإسلام والهجرة والحجَّ، كل هذا يَجُبُّ ما قبله، ويعود الإنسان دون ذنوب كأنه وُلد من جديد.
الشرح المفصَّل للحديث:إنَّ مِن رحمةِ الله وإحسانِه إلى عِبادِه: أنَّه إذا عاشَ الإنسانُ في ظُلمات الكُفرِ والضَّلالِ، ثُمَّ امتنَّ اللهُ عليهِ بالهداية وأنارَ بصيرتَه، وآمَن بالله ورسوله، وتاب وأناب وندِم على ما فرَّط - غَفَر الله له ما كان منه قبلَ ذلك، وقَبِله في عباده الصالحين.
وفي هذا الحديث يُخبر عمرُو بنُ العاصِ رضي الله عنه: أنه أتى رسولَ الله ﷺ مبايعًا على الإسلامِ، وقد رَضيَ بالله ربًّا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمدٍ ﷺ نبيًّا ورسولًا، والمبايعةُ هي "المعاقَدة والمعاهَدة، شُبِّهت بعقود المال؛ لأن كلًّا يُعطي ما عنده بما عند الآخَر؛ فما عند النبيِّ ﷺ الثوابُ والخيرُ الكثيرُ، وما عندهم التزامُ الطاعة"[1]، ويُخبر عمرُو بنُ العاصِرضي الله عنه أنه طلب من رسول الله ﷺ أن يبسُط يمينه الشريفة كي يُبايعه؛ أي: أن يفتح ﷺ يمينَه ويمُدَّها؛ ليَضَعَ عمرٌو رضي الله عنه يمينَه عليها، كما هي العادةُ في البيعة[2].
فبسَط ﷺ يمينه، وهَمَّ عمرُو بنُ العاص رضي الله عنه أنْ يمُدَّ يدَه ليبايعَه؛ ولكنَّه قبضَهَا مرةً أُخرى؛ لأنه تذَكَّرَ ما كان منه في الجاهلية من صدٍّ عن سبيل الله، ومحاربةٍ لرسوله ﷺ، وأرادَ أنْ يطمَئنَّ أولًا أنَّه سيَدخُلُ في الإسلام خاليًا مِن أعمال الشِّركِ، ومنَ الذُّنوبِ والمعاصي، ويبدأُ صفحةً جديدةً مُطهَّرةً، وهذا ما دلَّ عليه الحوارُ الذي دار بينَه وبين رسول الله ﷺ؛ وذلك أن رسول الله ﷺ لَمَّا رأى أنَّ عَمْرًا رضي الله عنه قبَض يده، سأله ﷺ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟» أيْ: أيُّ شيءٍ خطَر لك حملكَ على قبْض يدِكَ امتناعًا عن البيعة؟ فأجابه عمرٌو رضي الله عنه: (أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ)؛ أي: أردتُ بذلك الامتناع أن أشترط لنفْسي ما يحصل لها من الانتفاع[3]، فقَالَ له ﷺ: «تَشتَرِطُ بِماذا؟» فذكَر عمرٌو رضي الله عنه: أَنْ يُغفَرَ له ذُنوبه، فبشَّرَهُ النَّبيُّ ﷺ بأنَّ الإسلامَ والهِجرةَ والحجَّ؛ كلُّ ذلك يمحو ما كانَ قبلَهم منَ الذُّنُوبِ والكبائر، وإنْ كانتْ مثلَ الجبالِ، قال له ﷺ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنَّ الهِجْرةَ تَهدِمُ مَا كانَ قَبلَهَا؟ وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟»، فالإسلام يَمْحو ما كان قبلَه من السيِّئات، وكذا الهجرةُ إلى النبيِّ ﷺ قبلَ فتح مكَّة، وبعد الفتح الهجرةُ من دار الحرب إلى دار الإسلام. وأما حديث: «لا هِجرةَ بعد الفَتْح»[4]، فمعناه: لا هجرةَ من مكة إلى المدينة؛ لأن أهلها صاروا مسلمين، وصارت دارَ إسلام، وإنما الهجرة من دار الحرب[5]، وكذا الحجُّ يَمْحو ما كان قبلَه من الذنوب والقصور.
وقد اتَّفَق العلماء أن الإسلام يهدِم ما كان قبلَه مطلَقًا، يَسْتوي في ذلك المظالِمُ وغيرُها من الذنوب، وكذا الكبيرة والصغيرة، وأما الهجرة والحجُّ، فقد وقَع فيهما الخلافُ بين العلماء؛ فقيل: إنهما لا يُكفِّران المظالِم، ولا يُقطَع فيهما أيضًا بغُفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيُحمَل الحديث على أن الحجَّ والهجرة يَهدِمان ما كان قبلَهما من الصغائر، ويَحتمِل أنهما يهْدِمان الكبائر أيضًا فيما لا يتعلَّق به حقوقُ العباد بشرط التوبة، وقيل: إنهما يَمْحوان ما قبلَهما من الكبائر والصغائر، وكذا المظالمُ[6].
أما الإسلام فإنه يهدِمُ ما كان قبلَه بنصِّ الكتاب العزيز؛
قال الله سبحانه وتعالي:
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾
[الأنفال: 38]
والهجرة: إذا هاجَر الإنسانُ من بلده التي يعيش فيها وهي بلدُ كُفْر، هدَمَت ما قبلَها، والحجُّ يَهدِم ما قبلَه؛
لقول النبيِّ ﷺ:
«مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفسُق، رجَع من ذنوبه كيوم ولدَته أُمُّه»
[7][8]
وهذا كلُّه من لُطْفِ اللهِ سُبْحانه ورحمَتِه بخَلْقِه؛ فالناسُ يقَعون في الكُفْرِ والمعاصي، ومع ذلك يُيَسِّرُ اللهُ تعالى لهم التَّوبةَ، ويَقبَلُها منهم سبحانه ويَغفِرُ لهم.
المراجع
- اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح" لشمس الدين البرماويِّ (1/ 157).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (1/ 101).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (1/ 102).
- رواه البخاري (2783)، ومسلم (1353).
- انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي بن محمد القاري (1/ 102).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبي (2/ 282).
- رواه البخاري (1521)، ومسلم (1320).
- شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (4/ 138).
«فَلْأُبَايِعْكَ»: أُعاقدك، وأُعاهدك على الإسلام[1]
المراجع
- انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 174).
قال النوويُّ رحمه الله:
"قوله ﷺ:
«الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»؛ أي: يُسقِطه ويمحو أَثَرَه"
[1]
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الإسلام يهدم ما كان قبله مطلَقًا، مَظلَمةً كانت أو غير مظلمة، كبيرةً كانت أو صغيرة، فأما الهجرة والحجُّ فإنهما لا يكفِّران المظالم، ولا يُقطَع فيهما أيضًا بغفران الكبائر التي بين الله وبين العباد، فيُحمَل الحديث على أن الحجَّ والهجرة يَهدِمان ما كان قبلهما من الصغائر، ويُحتمَل أنهما يَهدِمان الكبائر أيضًا فيما لا يتعلَّق به حقوق العباد بشرط التوبة، عرفنا ذلك من أصول الدين، فرَدَدْنا الْمُجمَل إلى المفصَّل، وعليه اتِّفاق الشارحين.
وأقول: نحن ما نُنكِر ما اتَّفَق عليه الشارحون؛ لكن نتكلَّم في الحديث بحسب ما تقتضيه
البلاغة، وذلك أن فيه وجوهًا من التوكيد يدلُّ على أن حكم الهجرة والحجِّ حُكم الإسلام:
أحدهما أنه من الأسلوب الحكيم؛ فإن غَرَض عمرٍو من إبائه عن المبايعة ما كان إلا حكم نفسه في إسلامه. وحديث الهجرة والحجِّ زيادةٌ في جوابه؛ كأنه قيل: لا تهتمَّ بشأن الإسلام
وحدَه، وأنه يَهدِم ما كان قبله؛ فإن حُكم الهجرة والحجِّ كذلك. [2]
قال ابن تيمية رحمه الله: "من له ذنوبٌ فتاب من بعضها دون بعض، فإنّ التّوبة إنّما تقتضي مغفرة ما تاب منه، أمّا ما لم يَتُب منه فهو باقٍ فيه على حكم من لم يتب، لا على حكم من تاب، وما عَلِمت في هذا نزاعًا إلّا في الكافر إذا أسلم، فإنّ إسلامه يتضمَّن التّوبة من الكفر، فيُغفَر له بالإسلام الكفر الّذي تاب منه، وهل تُغفر له الذّنوب الّتي فعلها في حال الكفر ولم يتب منها في الإسلام؟ هذا فيه قولان معروفان؛ أحدهما: يُغفَر له الجميع لإطلاق
قوله ﷺ:
«الإسلام يهدم ما كان قبله»
رواه مسلم .
مع قوله تعالى:
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ﴾
[الأنفال: ٣٨]
والقول الثّاني: أنّه لا يستحقُّ أن يُغفَر له بالإسلام إلّا ما تاب منه؛ أن يُغفَر له ما تقدَّم من ذنبه فقال له: «يا عمرُو، أما علمتَ أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنّ التّوبة تهدم ما كان قبلها، وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها» ومعلومٌ أنّ التّوبة إنّما توجِب مغفرة ما تاب منه، لا توجب التّوبة غفران جميع الذّنوب"[3]
قال أبو العباس القرطبيُّ رحمه الله: "
وقوله:
«إِنَّ الإسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَإِنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَإِنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ»
الهَدْمُ هنا: استعارةٌ وتوسُّع؛ يعني به: الإذهابَ والإزالة؛ لأنَّ الجدار إذا انهدم، فقد زالَ وضعُهُ، وذهَبَ وجودُهُ، وقد عبَّر عنه في الرواية الأخرى بالْجَبِّ، فقال: يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ؛ أي: يَقْطَعُ، ومنه المجبوبُ، وهو المقطوعُ ذَكَرُهُ.
ومعنى العبارتَيْنِ واحد، ومقصودُهُمَا: أنَّ هذه الأعمالَ الثلاثةَ تُسْقِطُ الذنوبَ التي تقدَّمَتْهَا كلَّها، كبيرَهَا وصغيرها؛ فإنَّ ألفاظَهَا عامَّةٌ خرجَتْ على سؤالٍ خاصٍّ؛ فإنَّ عَمْرًا ـ رضى الله عنه ـ إنما سأل أن تُغْفَرَ له ذنوبُهُ السابقةُ بالإسلام، فأُجِيبَ على ذلك؛ فالذنوبُ داخلةٌ في تلك الألفاظِ العامَّةِ قطعًا، وهي بحكم عمومها صالحةٌ لتناوُلِ الحقوقِ الشرعيَّة، والحقوقِ الآدميَّة، وقد ثبَتَ ذلك في حَقِّ الكافر الحربيِّ إذا أسلَمَ؛ فإنَّه لا يُطَالَبُ بشيء مِنْ تلك الحقوق، ولو قَتَلَ وأَخَذَ الأموالَ، لم يُقْتَصَّ منه بالإجماع، ولو خرجَتِ الأموالُ مِنْ تحت يده، لم يطالَبْ بشيء منها. ولو أسلَمَ الحربيُّ وبيده مالُ مسلمٍ؛ عَبِيدٌ، أو عُرُوضٌ، أو عَيْنٌ،
فمذهبُ مالك: أنَّه لا يجبُ عليه رَدُّ شيء من ذلك؛ تمسُّكًا بعمومِ هذا الحديث، وبأنَّ للكفَّارِ شبهةَ مِلْكٍ فيما حازُوهُ من أموال المسلمين وغيرهم؛ لأنَّ الله تعالى قد نسَبَ لهم أموالاً وأولادًا؛
فقال تعالى:
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْﱠ
[التوبة: ٥٥].
وذهَبَ الشافعيُّ إلى أنَّ ذلك لا يَحِلُّ لهم، وأنَّه يجبُ عليهم ردُّها إلى مَنْ كان يملكها مِنَ المسلمين، وأنَّهم كالغُصَّاب، وهذا يُبْعِده أنَّهم لو استَهْلَكُوا ذلك في حالةِ كُفْرهم ثُمَّ أسلموا، لم يَضْمَنوه بالإجماعِ؛ على ما حكاه أبو محمَّدٍ عبدُ الوهَّاب. وأما الهجرةُ والحَجُّ، فلا خلافَ في أنهما لا يُسْقِطان إلا الذنوبَ والآثامَ السابقة، وهل يُسْقِطان الكبائرَ والصغائر، أو الصغائرَ فقطْ؟ موضعُ نظرٍ[4]
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "لفظ (يهدم) فإنه قرينة للاستعارة الْمَكنيَّة، شبِّهت الخصائل الثلاث في قلعها الذنوب من سنخها بما يُهدَم البناء من أصله، من نحو الزلازل والمعاول، ثم أُثبِت للإسلام ما يُلازم المشبَّه به من الهدم، ويُنسَب إليه، على سبيل الاستعارة التخييلية[5]
قال ابن كثير رحمه الله: "
يقول تعالى لنبيِّه ﷺ:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
[الأنفال: ٣٨]
أي: عمَّا هم فيه من الكفر والْمُشاقَّة والعِناد، ويَدخُلوا في الإسلام والطّاعة والإنابة،
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
أي: من كفرهم، وذنوبهم، وخطاياهم؛ كما جاء في الصّحيح،
من حديث أبي وائل عن ابن مسعود؛ أنّ رسول اللّه ﷺ قال:
«مَنْ أحْسَن فِي الْإِسْلَامِ، لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ، أخذ بالأول والآخر»
[6],[7]
قال السعديُّ رحمه الله: "هذا من لُطفه تعالى بعباده، لا يَمنَعه كفرُ العباد ولا استمرارهم في العناد، من أن يدعوَهم إلى طريق الرشاد والهدى، وينهاهم عما يُهلكهم من أسباب الغيِّ والرَّدى،
فقال:
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا
عن كفرهم وذلك بالإسلام لله وحده لا شريك له.
يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ
منهم من الجرائم"[8]
قال ابن عُثيمين رحمه الله: "أما الإسلام فإنه يهدِمُ ما كان قبلَه بنصِّ الكتاب العزيز؛
قال الله سبحانه وتعالي:
﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾
[الأنفال: 38]
والهجرة: إذا هاجَر الإنسانُ من بلده التي يعيش فيها وهي بلدُ كُفْر، هدَمَت ما قبلَها، والحجُّ يَهدِم ما قبلَه؛
لقول النبيِّ ﷺ:
«مَن حجَّ فلم يرفُثْ ولم يَفسُق، رجَع من ذنوبه كيوم ولدَته أُمُّه»
[9][10]
المراجع
1. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 138).
2. شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 482، 483).
3. مجموع الفتاوى" (10/ 323، 325).
4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (2/ 94، 95).
5. شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 483).
6. رواه البخاريُّ (6921)، ومسلم (120).
7. تفسير ابن كثير" (4/ 54).
8. تفسير السعديِّ" (ص 321).
9. رواه البخاريُّ (1521)، ومسلم (1320).
10. شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (4/ 138).
يروي أَنَسٌ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؛ أي: لا يؤمِنُ أحدُكم الإيمانَ الكاملَ التامَّ إلى أن يحبَّ لأخيه المؤمن الذي يحبُّه لنفسه من الخير.
الشرح المفصَّل للحديثالمحبَّةُ والأُلفةُ خُلقٌ وصِفةٌ مِن صفاتِ المؤمِنين الصادقِين فيما بينَهم؛ فهُم كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا، وكالجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تَداعى له سائرُ الجسد بالسَّهر والحُمَّى، وأُخوَّةُ الإسلام التي يجتمع تحتَ ظِلالِها المسلمون في شتَّى بِقاع الأرض تُوجِبُ عليهم أُمورًا وواجباتٍ تُجاهَ إخوتهم المسلِمين، فلا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه من الخير، ويَكره لأخيه ما يَكرَه لنفسه من الأذى والشرِّ، وهذا ما بيَّنه رسولُ الله ﷺ في هذا الحديث الذي قال عنه العلماء: إنه رُبع الإسلام [1].
وقوله ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكُم» معناه: لا يؤمِنُ الإيمانَ الكاملَ التامَّ؛ وإلا فأصلُ الإيمان يحصُل لمَن لم يكنْ بهذه الصفة [2]، فهو ﷺ ينفي كمال الإيمان، لا أصْلَ الإيمان.
وقوله ﷺ: «حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»؛ أي: يحبُّ لأخيه مِن الطاعات والأشياء المباحات ما يحبُّه لنفسه [3]، وهو معنًى عظيمٌ من معاني الأُخوَّة الإيمانية التي ربط بها الإسلامُ بين أتباعه.
و"ظاهرُه التساوي - يعني: يحب لأخيه مثلَ ما يحب لنفْسه - وحقيقتُه التفضيلُ؛ لأن الإنسانَ يحبُّ أن يكونَ أفضلَ الناس، فإذا أحبَّ لأخيه مثلَه، فقد دخلَ هو في جُملة المفضولين؛ ألا ترى أن الإنسانَ يجب أن يَنتصِف من حقِّه ومَظْلِمته، فإذا كمَل إيمانه وكانت لأخيه عنده مَظْلِمة أو حقٌّ، بادر إلى إنصافه من نفْسِه، وآثَرَ الحقَّ، وإن كان عليه فيه بعضُ المشقَّة.
وقد رُويَ هذا المعنى عن الفُضيل بن عِياض، أنه قال لسفيانَ بن عُيَينةَ: إن كنتَ تريدُ أن يكون الناس كلُّهم مثلَك، فما أدَّيتَ لله النصيحةَ، كيف وأنت توَدُّ أنهم دونَكَ؟!
وقال بعض الناس: المراد بهذا الحديث كفُّ الأذى والمكروه عن الناس، ويُشبِه معناه قولُ الأحنف بن قَيس، قال: كنتُ إذا كرِهتُ شيئًا من غيري، لم أفعلْ بأحدٍ مثلَه" [4].
وليس المرادُ من ذلك أن يمحوَ العبدُ من طَبْعه حبَّ الخير لنفْسه؛ فهذه طبيعة إنسانية لا يمكِن القضاءُ عليها؛ وإنما يمكِن تهذيبُها بحيث يتمنَّى الخيرَ لأخيه المسلم، ويحبُّه له من جهة لا يُزاحمه فيها، ولا يأتي على حظِّه المباح. "والقيام بذلك يحصُل بأن يُحِبَّ له حصولَ مثلِ ذلك من جهةٍ لا يُزاحمه فيها بحيث لا تَنقُص النِّعمةُ على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهلٌ على القلب السليم؛ وإنما يَعسُر على القلب الدَّغِل" [5].
"فإن قيل: كيف يُتصوَّر هذا وكلُّ أحدٍ يُقدِّم نفْسه فيما يختاره لها، ويحبُّ أن يَسبِق غيره في الفضائل، وقد سابَق عمرُ أبا بكرٍ؟ فالجواب: أن المراد حصولُ الخير في الجُملة، واندفاعُ الشرِّ في الجملة، فينبغي للإنسان أن يحبَّ ذلك لأخيه كما يحبُّه لنفْسه، فأما ما هو من زوائد الفضائل، وعُلوِّ المناقب، فلا جُناحَ عليه أن يُؤثِر سبْقَ نفْسِه لغيره في ذلك" [6].
وهذه الخَصلةُ تصِلُ بصاحبِها إلى درجاتِ الكمال في الأخلاقِ، فيتطهَّرُ به مِن الآفات التي تُصِيبُ القلوبَ؛ كالحِقد، والحَسَد، والغِلِّ، والكِبْرِ؛ فتَمامُ مَحبَّةِ الخيرِ للمسلِمين لا تقعُ إلا لصاحبِ القلبِ السليمِ، فإذا أحبَّ المؤمِنُ لنفْسِه فضيلةً مِن دِينٍ أو غيرِه، أحبَّ أنْ يكون لأخيهِ نظيرُها مِن غيرِ أنْ تزولَ عنه؛ وهذا عبد الله بنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه يقول: «إنِّي لَأمُرُّ بالآيةِ مِن القرآنِ فأفهمُها؛ فأودُّ أنَّ الناسَ كلَّهم فهِموا منها ما أفْهَمُ» [7].
المراجع
1. قال الإمام النوويُّ $: قال أبو داود السَّخْتيانيُّ: يدور – الإسلام - على أربعة أحاديثَ: هذه الثلاثة: حديث: الحلال بيّن والحرام بيِّن، وحديث: الأعمال بالنية، وحديث: مِن حُسن إسلام المرءِ ترْكُه ما لا يَعنيه، وحديث: لا يؤمن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يحب لنفسه، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبَّك الناس». انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
2. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 16).
3. انظر: "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 16).
4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 65).
5. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (2/ 17). والدَّغِل: الفاسد. انظر: "لسان العرب" لابن منْظور (11/ 244).
6. "كشف المشكل من حديث الصحيحينِ" (3/ 232).
7. رواه الطبرانيُّ (10621)، وقال الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (9/ 284): رجاله رجال الصحيح.
قال النوويُّ رحمه الله: "قال أبو داود السَّخْتيانيُّ: يدور – الإسلام - على أربعة أحاديثَ: هذه الثلاثة: حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»، وحديث: «الأعمال بالنيَّة»، وحديث: «مِن حُسن إسلام المرءِ ترْكُه ما لا يَعنيه»، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبَّك الناس» [1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال أبو الزِّناد: ظاهرُه التساوي - يعني: يحبُّ لأخيه مثلَ ما يحبُّ لنفْسه - وحقيقتُه التفضيلُ؛ لأن الإنسانَ يحبُّ أن يكونَ أفضلَ الناس، فإذا أحبَّ لأخيه مثلَه، فقد دخلَ هو في جُملة المفضولين؛ ألا ترى أن الإنسانَ يجب أن يَنتصِف من حقِّه ومَظْلمته، فإذا كمَل إيمانه وكانت لأخيه عنده مَظْلمة أو حقٌّ، بادر إلى إنصافه من نفْسِه، وآثَرَ الحقَّ، وإن كان عليه فيه بعضُ المشقَّة. وقد رُويَ هذا المعنى عن الفضيل بن عِياض، أنه قال لسفيانَ بنِ عُيَينة: إن كنتَ تريدُ أن يكون الناس كلُّهم مثلَك، فما أدَّيتَ لله النصيحةَ، كيف وأنت توَدُّ أنهم دونكَ؟! وقال بعض الناس: المراد بهذا الحديث كفُّ الأذى والمكروه عن الناس، ويُشبِه معناه قولُ الأحنف بن قَيس، قال: كنتُ إذا كرِهتُ شيئًا من غيري، لم أفعلْ بأحدٍ مثلَه" [2].
قال ابن رجب رحمه الله: "وأن المراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته، كقوله ﷺ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» [3]" [4].
قال النوويُّ رحمه الله: "معناه: لا يؤمن الإيمان التّامَّ، وإلّا فأصل الإيمان يَحصُل لمن لم يكن بهذه الصّفة، والمراد: يحبُّ لأخيه من الطّاعات والأشياء المباحات، ويدلُّ عليه ما جاء في رواية النَّسائيِّ في هذا الحديث: «حتّى يحبّ لأخيه من الخير ما يحبّ لنفسه». قال الشّيخ أبو عمرو بن الصّلاح: وهذا قد يُعَدُّ من الصَّعب الممتنِع، وليس كذلك؛ إذ معناه: لا يَكمُل إيمان أحدكم حتّى يحبّ لأخيه في الإسلام مثل ما يحبُّ لنفسه، والقيامُ بذلك يحصل بأن يحبَّ له حصول مثل ذلك من جهة لا يُزاحمه فيها، بحيث لا تَنقُص النّعمة على أخيه شيئًا من النّعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم؛ وإنما يَعسُر على القلب الدَّغِل، عافانا اللّه وإخواننا أجمعين" [5].
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: "إن قيل: كيف يُتصوَّر هذا وكلُّ أحدٍ يُقدِّم نفْسه فيما يختاره لها، ويحبُّ أن يَسبِق غيره في الفضائل، وقد سابَق عمرُ أبا بكرٍ؟ فالجواب: أن المراد حصولُ الخير في الجُملة، واندفاعُ الشرِّ في الجُملة، فينبغي للإنسان أن يحبَّ ذلك لأخيه كما يحبُّه لنفْسه، فأما ما هو من زوائد الفضائل، وعُلوِّ المناقب، فلا جُناحَ عليه أن يُؤثِر سبْقَ نفْسِه لغيره في ذلك" [6].
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد اختلف العلماء في مرتكِب الكبائر: هل يسمَّى مؤمنًا ناقصَ الإيمان، أم لا يسمَّى مؤمنًا؛ وإنّما يُقال: هو مسلم، وليس بمؤمن؟ على قولين، وهما روايتان عن الإمام أحمد. فأمّا من ارتكب الصّغائر، فلا يزول عنه اسم الإيمان بالكلّيّة؛ بل هو مؤمن ناقص الإيمان، يَنقُص من إيمانه بحسب ما ارتكب من ذلك. والقول بأنّ مرتكب الكبائر يُقال له: مؤمن ناقص الإيمان. مرويٌّ عن جابر بن عبد اللّه، وهو قول ابن المبارك وإسحاق وأبي عُبيد وغيرهم، والقول بأنّه مسلم، ليس بمؤمن. مرويٌّ عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ، وذكر بعضهم أنّه المختار عند أهل السّنَّة. وقال ابن عبّاس: الزّاني يُنزَع منه نور الإيمان. وقال أبو هريرة: يُنزَع منه الإيمان، فيكون فوقه كالظُّلَّة، فإن تاب عاد إليه. وقال عبد اللّه بن رواحة وأبو الدّرداء: الإيمان كالقميص، يَلبَسه الإنسان تارةً، ويخلعه تارةً أخرى، وكذا قال الإمام أحمدُ رحمه اللّه وغيره، والمعنى: أنّه إذا كَمُل خصال الإيمان، لَبِسه، فإذا نقص منها شيء نزعه، وكلُّ هذا إشارة إلى الإيمان الكامل التّامِّ الّذي لا ينقص من واجباته شيء.
والمقصود أنّ من جُملة خصال الإيمان الواجبة أن يحبَّ المرء لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، فإذا زال ذلك عنه، فقد نَقَص إيمانه بذلك" [7].
المراجع
1. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّوويِّ (11/ 27).
2. "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 65).
3. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 16، 17).
6. "كشف المشكل من حديث الصحيحينِ" لابن الجوزيِّ (3/ 232).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 303).
وتوادِّهم: بتشديد الدَّال، والأصلُ التّوادُد، فأُدغِم، والتّوادُدُ تفاعُلٌ من المودَّة، والوِدُّ والوِدادُ بمعنًى، وهو تقرُّب شخص من آخَرَ بما يحبُّ [1].
تراحمهم: رحمة المؤمنين بعضهم بعضًا.
عضو: جزء من مجموع الجسد؛ كاليَدِ والرِّجل والعَيْنِ والأُذن.
تداعى: دعا بعضُه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت أو كادت [2].
السَّهَر: عَدَم النَّوم بالليل.
الحُمَّى: حرارة غريزيًّة تشتعل في القلب، فتَشِبُّ منه في جميع البَدَن، فتشتعل اشتعالًا يضرُّ بالأفعال الطَّبيعيَّة [3].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
يروي النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»؛ أي: مَثَلُ المؤمنين في وُدِّهم وعطفهم وحبِّهم ورحمتهم بعضهم بعضًا، وتواصلهم، وتعاونهم، كمَثَلِ جزء من الجسد بالنسبة إلى جميع أعضائه، إذا تألَّم منه عضوٌ، دعا بقيةُ أعضائه، بعضه بعضًا، إلى المشاركة في الألم، وما يَنتِج عنه من عدم النَّوم وارتفاع الحرارة.
الشرح المفصَّل للحديثإن الإسلام يُعنى ببناء المجتمع الإسلاميِّ المتماسِك الْمُتحابِّ، الذي يَنتِج منه خيرُ أمَّة أُخرِجت للناس، مجتمع يَسودُه الودُّ والمحبَّةُ والأُلْفة والعَطف والتعاون، وهلمَّ جرًّا، وقد حضَّ النبيُّ ﷺ على هذه المكارم لتكون هي صفاتِ المؤمِنين الصادقِين فيما بينَهم، فيصيروا كالبُنيانِ المرصُوصِ يشُدُّ بعضُه بعضًا؛ أو كالجسدِ الواحدِ، كلُّ فرد منهم كالعضو من هذا الجسد، فإذا اشتكَى منهُ عضوٌ، أصابت الشكوى كلَّ الجسد، فتَداعى لذلك العضوِ بقيَّةُ أعضاء الجسد بالسَّهر والأَرَق وعدم النوم، والحُمَّى والحرارة الشديدة.
هذا حال أمَّة الإسلام التي دعا إليها النبيُّ ﷺ، وإن أُخوَّة الإسلام التي يجتمِعُ تحتَ ظلالها المسلمون في شتَّى بِقاعِ الأرض تُوجِبُ عليهم أمورًا وواجباتٍ تُجاهَ إخوانهم المسلمين، فلا يَكمُلُ إيمانُ المرءِ إلَّا إذا أحبَّ لأخيهِ ما يُحِبُّ لنفْسهِ مِن الخيرِ، ويَكرهُ لأخيهِ ما يَكرَهُ لنفْسِه مِن الأذَى والشرِّ؛
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
[1]
والعلاقة بين المسلمين لا تَقِف عند حدِّ الحبِّ فقط؛ بل ثَمَّةَ أمورٌ تَشمَل حياة المؤمنين، لا بدَّ منها؛ من أجل قيام أمَّة الإسلام التي تكون مثالاً للخير والمكارم، شاخصًا أمام البشر.
وفي حديث الباب بيانُ حضِّ الإسلامِ على المؤاخاةِ والأُلفةِ والتوادِّ والتعاطف والمواساةِ بين المؤمنينَ، وأنْ يَكونوا مُتعاضدِين مِثلَ الجَسدِ الواحدِ، ومثلَ البُنيانِ المرصوصِ؛ لتَقْوى وَحْدتُهم، وتَتَّفِقَ كَلِمتُهم؛ فيُرشِد النَّبيُّ ﷺ أُمَّتَه في هذا الحديثِ إلى ما يحتاج إليه بناء أمَّة قوية متحابَّة، يغشاها التوادُّ والتَّراحُمَ والحبُّ والتعاطف؛ بضرب المثل الذي لا بد أن يكون عليه أفراد هذه الأمَّة المؤمنة، التي هي خير أمَّة أخرجت للناس؛
فيقول ﷺ:
«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ»
أي: مَثَلُهم في علاقاتهم بعضهم ببعض، حيث الودُّ والمحبَّةُ في الله بينهم، وحيث يَرحُم بعضهم بعضًا ويَعطِف بعضهم على بعض؛ بسبب أُخوَّة الإيمان، لا لأسباب دنيوية.
و"الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتَّعاطُف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ، فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [2].
قوله ﷺ:
«مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»
أي: مَثَلُهم كمثَلِ الجسدِ بالنِّسبةِ إلى جميعِ أعضائِه، إذا اشتكى عُضوٌ منه، دعَا بقيةُ الجسد، بعْضُه بعضًا، إلى المشاركةِ بالسَّهَرِ؛ لأنَّ الألمَ يَمنَعُ النَّومَ، والحُمَّى ترفع الحرارة؛ أي: إنَّ المسلمين يستَشعِرَون آلامَ بعضِهم البعض، ومصائِبَهمْ، فيتعاونون بتقديمِ مُساعدةِ بعضِهم بعضًا، كمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ، إذا مرِضَ منه عضوٌ، تأثَّر به سائرُ جَسَدِه، وهذا تنبيهٌ للمُسلِمين بأن يكونوا كذلك في جميعِ شُؤونِهم.
"فتشبيهُه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيح، وفيه تقريب للفَهم، وإظهار للمعاني في الصُّوَر المرئيَّة، وفيه تعظيمُ حقوق المسلمين، والحضُّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا" [3].
إذن؛ هكذا المؤمنون، هم كالجَسَد الواحد، إذا اشتكت عَيْنُه اشتكى الجِسْمُ كلُّه، وإذا اشتكت يدُه، اشتكى الجسم كلُّه، ومعلومٌ حال الجسد إذا أُصِيب بألمٍ أو مرضٍ في أيِّ موضع منه، حتمًا سيَعُمُّ الألم والتَّعَب والشكوى.
لقد ضرب النبيُّ ﷺ في هذا الحديث مَثَلاً عظيمًا، يدعو إلى التعاضد والتعاون والتعاطف بين المسلمين، فيَرفُق المسلم بأخيه المسلم، ويُواسيه إذا احتاج، ويُعينه على قضاء حوائجه كدَيْنٍ ونحوه، ويَدفَع عنه الظُّلم، ويجتهد في كلِّ خير يَنفَعه، ويدفع عنه كلَّ شرٍّ ما استطاع.
وقد قال الله تعالى:
﴿وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾
[التوبة: ٧١]؛
"أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [4].
والأحاديث كثيرة فيما يتعلَّق بحقِّ المسلم على أخيه؛ منها:
عن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:
«المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»
[5].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»
[6].
وعَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ
[7].
"ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [8].
المراجع
1. رواه البخاريُّ (13)، ومسلم (45).
2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
4. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).
5. رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
6. رواه مسلم (2699).
7. رواه البخاري (481)، ومسلم (2585)
8. مجموع الفتاوى (2/ 373)
النقولقال ابن أبي جمرة رحمه الله: "الّذي يَظهَر أنّ التّراحم والتّوادد والتّعاطف، وإن كانت متقاربةً في المعنى؛ لكنْ بينها فرق لطيف، فأمَّا التّراحمُ فالمراد به أن يَرحَم بعضهم بعضًا بأخوَّة الإيمان، لا بسبب شيء آخر، وأمّا التّوادُد، فالمراد به التواصل الجالب للمحبَّة؛ كالتّزاور والتّهادي، وأمّا التّعاطف، فالمراد به إعانة بعضهم بعضًا كما يعطف الثّوب عليه ليقوِّيه" [1].
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (وتوادِّهم) بتشديد الدَّال، والأصلُ التّوادُد، فأُدغِم، والتّوادُدُ تفاعُلٌ من المودَّة، والوِدُّ والوِدادُ بمعنًى، وهو تقرُّب شخص من آخَرَ بما يحبُّ. قولُه: (وتعاطفهم)... ووقع في رواية الأعمش عن الشَّعبيِّ وخيثمةَ فرقهما عن النُّعمان عند مسلم: «المؤمنون كرجل واحد، إذا اشتكى رأسَه، تداعى له سائر الجسد بالحمَّى والسَّهر»، وفي رواية خيثمة: «اشتكى، وإن اشتكى رأسُه كلُّه». قوله: «كمثل الجسد»؛ أي: بالنِّسبة إلى جميع أعضائه، ووجهُ التَّشبيه فيه التَّوافق في التَّعب والرَّاحة. قولُه: «تداعى»؛ أي: دعا بعضُه بعضًا إلى المشاركة في الألم، ومنه قولهم: تداعت الحيطان؛ أي: تساقطت أو كادت. قوله: «بالسَّهَر والحمَّى»، أمَّا السَّهر، فلأنّ الألم يمنع النَّوم، وأمّا الحمَّى فلأنَّ فَقْدَ النَّوم يُثيرها، وقد عرَّف أهل الحِذْقِ الحمَّى بأنّها حرارة غريزيًّة تشتعل في القلب، فتَشِبُّ منه في جميع البَدَن، فتشتعل اشتعالًا يضرُّ بالأفعال الطَّبيعيَّة" [2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "فتشبيهُه المؤمنين بالجسد الواحد تمثيلٌ صحيح، وفيه تقريب للفَهم، وإظهار للمعاني في الصُّوَر المرئيَّة، وفيه تعظيمُ حقوق المسلمين، والحضُّ على تعاونهم، وملاطفة بعضهم بعضًا" [3].
قال ابن أبي جمرة رحمه الله: "شبَّه النبيُّ ﷺ الإيمانَ بالجسد، وأهلَه بالأعضاء؛ لأن الإيمان أصلٌ، وفروعَه التكاليفُ، فإذا أخلَّ الْمَرء بشيء من التكاليف، شأن ذلك الإخلالِ بالأصل، وكذلك الجسدُ أصلٌ كالشجرة، وأعضاؤه كالأغصان، فإذا اشتكى عضوٌ من الأعضاء، اشتكتِ الأعضاء كلُّها؛ كالشجرة إذا ضُرِب غُصْنٌ من أغصانها، اهتزَّت الأغصان كلُّها بالتحرُّك والاضطراب" [4].
قال النوويُّ رحمه الله: "«مَثَلُ الْمَؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ»... إِلَى آخِرَه، هَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ في تعظيم حقوق المسلمين بعضِهم على بعض، وحَثِّهِم على التَّرَاحُم والْمُلاطفة والتَّعَاضُدِ في غَير إِثْمٍ وَلَا مَكْرُوهٍ، وفيه جواز التشبيه، وَضَرْبِ الأمثال لتقريب المعاني إلى الأفهام" [5].
قال ابن عثيمين رحمه الله:
«مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»
فأنت إذا أحسستَ بألم في أطرف شيء من أعضائك، فإن هذا الألم يسري على جميع البدن، كذلك ينبغي أن تكون للمسلمين هكذا، إذا اشتكى أحدٌ من المسلمين، فكأنما الأمر يرجع إليك أنت" [6].
قال الشوكانيُّ رحمه الله:
قولُه:
﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ ۚ﴾
أَيْ: قُلُوبُهُمْ مُتَّحِدَةٌ فِي التَّوَادُدِ، وَالتَّحَابُبِ، وَالتَّعَاطُفِ؛ بِسَبَبِ ما جَمَعَهم من أَمْر الدِّينِ، وضَمَّهُم من الإيمان باللَّه" [7].
قال ابن تيميَّةَ رحمه الله: "ولهذا كان المؤمن يَسُرُّه ما يَسُرُّ المؤمنين، ويَسُوءُه ما يسوءُهم، ومن لم يكن كذلك، لم يكن منهم" [8].
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
2. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
3. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 439).
4. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 440).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 139، 140).
6. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 398).
7. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/ 434).
8. "مجموع الفتاوى" (2/ 373).
يروي تَمِيمٌ الدَّارِيُّ عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»؛ أي: عِمَادُ الدِّينِ وقِوامُه النَّصِيحةُ. "قلنا لمن؟" يا رسول الله، «قال: لله»: بالإيمان به، والإخلاصِ له، وتوحيدِه، ووصفه بصفات الكمال والجلال، والقيام بطاعته، واجتنابِ معصيته، «ولكتابه»: بالإيمان به، وتِلَاوَته، وحِفْظِه، وتدبُّره، وتعلُّم ألفاظه ومعانيه، والاجتهاد في العمل به، «ولرسوله»: بالإيمان به ﷺ، وطاعته، ونُصرتِه، وإقامة سنَّته، وتبليغ رسالته، «ولأئمَّة المسلمين»: العلماء والأمراء؛ فنصيحةُ العلماء بتلقِّي ما عندهم من العلم، وعدم تتبُّع زلَّاتهم، ونصيحةُ الأمراء بطاعتهم في الحقِّ، ومعونتهم عليه، ونُصحُهم دون ما يَغُرُّ من المدح، «وعامتهم»: بإِرَادَة الْخَيْر لَهُم، والسعيِ فيما يعود نفعه عليهم، وتعليمهم ما ينفعهم، ودعوتهم إلى الْحقِّ.
الشرح المفصَّل للحديثهذا الحديثُ يدورُ عليه الدِّين كلُّه، فهو مَدارُ الإسلام؛ وذلك لأن النصيحةَ كلمةٌ عامَّةٌ جامعةٌ لكل معاني الخير، ويقال: إن هذه الكلمةَ من وَجِيز الأسماء ومختصَر الكلام؛ فإنه ليس في كلام العرب كلمةٌ مفردةٌ تُستوفى بها العبارةُ عن معنى هذه الكلمة، حتى يُضَمَّ إليها شيءٌ آخَرُ، كما قالوا في "الفَلَاح": إنه ليس في كلام العرب كلمةٌ أجمعُ لخيرَيِ الدنيا والآخرة منه، حتى صار ليس يَعدِله شيءٌ من الكلام في معناه، ولذلك قالوا: أفلحَ الرجُلُ: إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له[1].
وأصل النصيحة من "نصحَ الرجلُ العسلَ"، إذا صفَّاه، أو من "نصح الرجلُ الثوبَ"، إذا خاطَه، والنِّصاح: الخيطُ الذي يُخاط به، والناصح: الخيَّاطُ. وعليه؛ فهو الذي يَلُمُّ شَعْثَ أخيه كما تَلُمُّ النصيحةُ خَرْقَ الثَّوب، أو على المعنى الأول: أن يصفوَ الرجل لأخيه كما يصفو العسل[2].
والنصيحة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة[3].
وعن جَريرِ بنِ عبدِ الله البَجَليِّ رضى الله عنه قَالَ: «بَايَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ – فَلَقَّنَنِي - فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ»[4].
وفي قوله ﷺ: "الدينُ النصيحةُ" مجازٌ؛ فإنه جعل الدينَ كلَّه في النصيحة؛ كأنه لا دينَ إلا النصيحةُ، وهذا على طريق المبالغة، فإن في الدين خصالًا أخرى غير النصيحة[5]، والمعنى أن النصيحة أفضلُ الدين، كما يقال: المالُ الإبلُ[6].
ومعنى النصيحة لله - عزَّ وجلَّ - منصرِفٌ إلى الإيمان به، ونَفْي اعتقاد الشِّرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبَذْل الطاعة له، وإخلاص العمل فيما أَمر به ونَهى عنه، ومُوالاة مَن أطاعه، ومُعاداة مَن عصاه، والاعتراف بنعمه، والشُّكر له عليها، وحقيقةُ هذه الإضافةِ راجعةٌ إلى العبد في نصيحة نفْسه لله، ودعوة غيره من الخَلق إلى هذه الخصال في أمر خالقه - عزَّ وجلَّ - والله سبحانه غنيٌّ عن نُصح كلِّ ناصح، وإرشادِ كلِّ مرشِد، وبه نال الرشدَ المرشِدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا الفائزون[7].
ومن النصيحة لله: أن يكون الإنسان دائمًا ذاكرًا لربِّه بقلبه ولسانه وجوارحه، أما القلبُ فإنه لا حدودَ لذِكْره، والإنسانُ يستطيع أن يذكُر الله بقلبه على كلِّ حال، وفي كلِّ ما يشاء، وفي كل ما يسمَع؛ لأن في كل شيء لله تعالى آيةً تدُلُّ على وحدانيته وعظمته وسلطانه، فيفكِّر في خلق السموات والأرض، ويفكِّر في الليل والنهار، ويفكِّر في آيات الله من الشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، والشجر، والدوابِّ، وغير ذلك، فيُحدِث هذا ذِكرًا لله - عزَّ وجلَّ - في قلبه.
والنصيحة لله - تبارك وتعالى -: توحيدُه، ووصفُه بصفات الكمال والجلال جميعًا، وتنزيهه عما يضادُّها ويُخالفها، وتجنُّب معاصيه، والقيام بطاعاته، ومحابِّه، بوصف الإخلاص، والحبُّ فيه، والبُغض فيه، وجهاد مَن كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحثُّ عليه[8].
ومن النصيحة لله: أن تكون غَيْرته لله؛ فيَغار لله - عزَّ وجلَّ - إذا انتُهِكَت محارمُه، كما كان النبيُّ ﷺ هكذا، فإنه - عليه الصلاة والسلام - كان لا ينتقِم لنفْسه أبدًا، مهما قال الناس فيه؛ ولكنه إذا انتُهكت محارمُ الله، صار أشدَّ الناس انتقامًا ممن ينتهك حُرُماتِ الله تعالى، فيَغار الإنسان على ربِّه، فلا يَسمَع أحدًا يسُبُّ الله، أو يشتُم الله، أو يستهزئ بالله، إلا غار من ذلك، وأنكر عليه، حتى ولو رفع أمره لوليِّ الأمر؛ لأن هذا من النصيحة لله عزَّ وجلَّ[9].
وأما النصيحةُ لكتابه، فهي الإيمان به، وتحسينُ تلاوته، وتفسير معانيه، وتدبُّر آياته، ودعوة الناس إلى الإيمان به وتلاوته، وأن يدافع الإنسان عنه، يدافع مَن حرَّفه تحريفًا لفظيًّا، أو تحريفًا معنويًّا، أو مَن زعَم أن فيه نقصًا، أو أن فيه زيادةً، وكذا بنشر معانيه الصحيحة التي لا تحريفَ فيها ولا تأويلَ، وأن تؤمن بأن الله تعالى تكلَّم بهذا القرآن حقيقةً، وأنه كلامه - عزَّ وجلَّ - الحرف والمعنى، ليس الكلامُ الحروفَ دونَ المعاني، ولا المعاني دونَ الحروف؛ بل إنه كلام الله لفظًا ومعنًى، تكلَّم به وتلقَّاه منه جبريلُ - عليه السلام - ومن ذلك أيضًا احترامُ قُدسيته، فلا يُمَسُّ إلا من طاهرٍ من الحدَثَين الأصغرِ والأكبر، إلا أن يمسَّه من وراء حائل، وألَّا يوضَع في مكان يُمتهَن[10].
وأما النصيحةُ لرسوله ﷺ فإنما هي في تصديقه على الرسالة، وقَبول ما جاء به ودعا إليه، وطاعته فيما سنَّ وشَرَع، وبيَّن من أمر الدين وشرح، والانقياد له فيما أمر، ونهى، وحَكَم، وأمضى، وترك التقديم بين يديه، وإعظام حقِّه، وتعزيره، وتوقيره، ومؤازرته، ونُصرته، وإحياء طريقته في بثِّ الدعوة، وإشاعة السُّنة، ونفي التُّهمة في جميع ما قاله، ونَطَق به[11].
ومن النصيحة للنبيِّ ﷺ: احترامُ أصحابه، وتعظيمُهم، ومحبَّتهم؛ لأن أصحاب الإنسان لا شكَّ أنهم خاصَّتُه من الناس، وأخصُّ الناس به، ولهذا كان الصحابةُ خيرَ القرون؛ لأنهم أصحاب رسول الله ، فمن سبَّ الصحابة أو أبغضهم، أو لَمَزَهم، أو أشار إلى شيء يَبهَتهم فيه، فإنه لم ينصح للرسول ﷺ، وإن زعم أنه ناصح للرسول فهو كاذب، كيف تَسُبُّ أصحاب الرسول ﷺ وتُبغضهم وأنت تحبُّ الرسول ﷺ وتنصح له؟![12]
والنصيحةُ لرسول الله على وجهين: فنصيحةُ مَن صاحَبَهُ وشاهَدَه، ونصيحةُ مَن لم يَرَه. فأما صحابتُه، فإن الله شَرَط عليهم أن يُعزِّروه، ويوقِّروه، ويَنصُروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كلَّ مسلم، فَوفَّوْا بذلك، وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة مَن لم يَرَه، فأن يحفظوا سُنَّته على أمَّته ويَنقُلوها، ويعلِّموا الناس شريعته ودينه، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكَر، فإذا فعلوا ذلك، فهم ورثةُ الأنبياء[13].
ومن النصيحة لرسول الله ﷺ أن ينصح الناسَ على صحيح الحديث وضعيفه، وأن يتكلَّم بعلمٍ في الجرح والتعديل، فيذكُر للناس مَن يصلح أن يأخذوا دينَهم عنه، ومَن لا يصلح. قيل لأحمدَ بنِ حنبلٍ: الرجُلُ يصوم، ويُصلِّي، ويَعتكف، أحبُّ إليك، أو يتكلَّم في أهل البِدَع؟ فقال: إذا قام، وصلَّى، واعتكف، فإنما هو لنفْسه، وإذا تكلَّمَ في أهل البدع، فإنما هو للمسلمين، هذا أفضلُ[14].
أما أئمَّة المسلمين، فعلى قسمين: الأمراء والعلماء:
فأما نصيحة الأمراء، فهي طاعتُهم في الحقِّ، ومعونتُهم عليه، وتذكيرُهم به، وإعلامُهم بما غفلوا عنه، أو جهِلوه في أمر دينهم، ومصالح دنياهم، والصلاةُ خلفهم، والجهادُ معهم، وتركُ الخروج بالسيف عليهم، إذا ظهر منهم حَيْف أو سوء سيرة، وتنبيهُهم عند الغفلة، وألَّا يُغَرُّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعى بالصلاح لهم[15].
ولا يكون من نصيحتهم الكذبُ عليهم، والمدح المفرِط لهم، وتسويل الباطل في أعينهم؛ فقد روى جابرُ بنُ عبد الله رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ:
«أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ»، قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: «أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي، لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ؛ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي»
[16].
ونصيحة الأمراء إنما هي على قَدْر الاستطاعة؛ فإذا أَمِن مِن ضُرِّهم فعليه أن ينصحَهم، فإذا خَشيَ على نفْسه، فحسبُه أن يُغَيِّر بقلبه، وإن علِم أنه لا يقدر على نُصحهم، فلا يدخُل عليهم؛ فإنه يغشُّهم ويَزيدهم فتنةً، ويُذهب دينَه معهم.
وأما العلماء، فنصيحتُهم بالاستماع لهم، والتواضُع معهم، وأن يحرِص على تلقِّي ما عندهم من العلم، وألَّا يتتبَّع الإنسان عَوْراتِهم، وزلَّاتهم، وما يُخطئون فيه؛ لأنهم غير معصومين، قد يَزِلُّون، وقد يُخطئون[17].
ومن النصيحة للعلماء ألَّا يتعصبَ لمذهب معيَّنٍ، فلا يُفتي إلا به، ولا يرى الحقَّ في غيره، فيكون خائنًا لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم؛ فإنه لم يخفْ مقامَه بين يدَيِ الله، واجترأ على الإفتاء بغير ما يراه صحيحًا[18].
وأما نصحُ عامَّة المسلمين، فهو إرشادُهم لمصالحهم، ومعونتُهم في أمر دينهم ودنياهم بالقول والعمل، وتنبيهُ غافلهم، وتعليمُ جاهلهم، ورِفْدُ محتاجهم، وسَتر عَوْراتهم، ودَفْع المضارِّ عنهم، وجَلْب المنافع في الدين والدنيا إليهم، وأن يريد الخيرَ لهم في الدنيا والآخرة، وكفَّ الأذى عنهم، وأن يحبَّ لهم من الخير ما يحبُّ لنفْسه[19].
وكان جرير بن عبد الله رضى الله عنه إذا عَرَضَ سلعةً بصَّر المشتريَ عيوبَها، ثم خيَّره، فقال: إن شئتَ فاشترِ، وإن شئتَ فاتركْ، فقيل له: إذا فعلتَ هذا لم ينفذ لك بيعٌ، فقال: إنا بايَعْنا رسولَ الله على النُّصح لكل مسلم[20].
وجماعُ القول فيه أن النصيحةَ هي خُلوص المحبَّة للمنصوح له، والتحرِّي فيما يستدعي حقَّه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفْسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتيَ بها على طريقتها متداركة للفُرُطات، ماحية للسيِّئات. ويجعل قلبه محلًّا للنظر والفِكر، ورُوحه مُستقَرًّا للمحبَّة، وسرَّه مِنَصَّة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العَين، بأن يحمِلَها على النظر إلى الآيات الناصَّة من الآفاقية والأنفسية، والأُذُن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النُّطق بالحقِّ، وتحرِّي الصدق، والمواظبة على ذِكْر الله وثنائه
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾
[الإسراء: 36][21].
المراجع
- "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 189).
- انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (1/ 293، 294).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 52).
- رواه مسلم (56).
- انظر: "رياض الأفهام في شرح عمدة الأحكام" للفاكهانيِّ (1/ 346).
- انظر: "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 219).
- "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 191).
- "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص: 221).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 384).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 243)، "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 388).
- "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 192).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 391).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 130).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/ 231).
- انظر: "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 193)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 244).
- رواه أحمد في "مسنده" (22/332)، (14441)، وابن حبَّانَ في "صحيحه" (1723)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 247).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 393).
- انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 135).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياضٍ (1/ 307)، "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرمانيِّ (1/ 218).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 131).
- "شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن" (10/ 3183).
قال ابن الأثير رحمه الله: "النَّصِيحَةُ: كَلِمةٌ يُعَبَّر بها عن جُمْلَة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكِن أن يُعَبِّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرُها"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "هذا حديثٌ عظيمُ الشَّأن، وعليه مَدَارُ الإسلام، كما سنذكره من شرحه، وأمَّا ما قاله جماعاتٌ من العلماء أنه أحدُ أرباعِ الإسلام؛ أي: أحدُ الأحاديث الأربعة التي تَجمَع أمور الإسلام، فليس كما قالوه؛ بل الْمَدَارُ على هذا وَحدَه"[2].
قال ابن الصَّلاح رحمه الله: "النصيحة لله - تبارك وتعالى -: توحيدُه، ووصفه بصفات الكمال والجلال جميعًا، وتنزيهُه عما يضادُّها ويُخالفها، وتجنُّب معاصيه، والقيام بطاعاته، ومحابِّه، بوصف الإخلاص، والحبُّ فيه، والبُغض فيه، وجهاد مَن كفر به تعالى، وما ضاهى ذلك، والدعاء إلى ذلك، والحثُّ عليه"[3].
قال الخطّابيُّ رحمه الله: "النَّصيحةُ: كَلِمةٌ جامعة، معناها حيازة الحظِّ للمنصوح له. ويقال: إن هذه الكلمة من وَجِيز الأسماء، ومختصَر الكلام؛ فإنه ليس في كلام العرب كلمةٌ مُفرَدة تُستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة حتى يُضَمَّ إليها شيءٌ آخَرُ، كما قالوا في (الفلاح): إنه ليس في كلام العرب كلمةٌ أجمعُ لخير الدنيا والآخرة منه، حتى صار ليس يَعدِله شيءٌ من الكلام في معناه، ولذلك قالوا: أفلحَ الرجُلُ، إذا فاز بالخير الدائم الذي لا انقطاع له، ويقال: إن أصل النصيحة مأخوذ من قولهم: نَصَحَ الرجُلُ ثَوْبَه إذا خاطَه، والنِّصاح الخيط: شبَّهوا فعل النَّاصِح فيما يتحرَّاه من صلاح المنصوح له بفعل الخيَّاط بما يسدُّه من خلل الثَّوب، ويلأمه من فُتوقه، ويجمعه من الصلاح فيه. وقيل: إنّها مأخوذة من نَصَحْتَ العَسَل إذا صفَّيْتَه من الشَّمع، شبَّهوا تخليص القول والعمل من شوب الغشِّ والخيانة بتخليص العسل من الخلط الذي فيه.
وقوله: «الدين النصيحة» ثلاثًا، يريد أن عِمَادَ أمرِ الدِّين وقِوَامَه إنما هو النصيحة، وبها ثباتُه وقوَّته... كما قال: «الحجُّ عَرَفَةُ»؛ أي: عمادُه ومُعظَمه عَرَفَةُ" [4].
قال المازِريُّ رحمه الله: "النصيحةُ يُحتمَل أن تكون مشتقَّةً من نصحتَ العَسَلَ إذا صفَّيْتَه، ويُحتمَل أن تكون من النُّصْح، وهي الخياطة، والإبرة الْمِنْصَحَة، والنِّصَاح الخيط الذي يُخاط به، والنَّاصح الخيَّاط، فمعناه: أنه يَلُمُّ شَعْثَ أخيه بالنُّصح كما تَلُمُّ الْمِنْصَحةُ خَرْق الثوب. قال نِفْطَوَيْهِ: يُقالُ: نصح الشيء إذا خَلَص، ونصَحَ له القولَ؛ أي: أخلصَه له، وهذا الذي قاله نِفْطَوَيْهِ يرجع إلى الاشتقاق الأول؛ لأنه يصفو لأخيه كما يصفو العسل"[5].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "والنُّصح للّه الإيمان به، ونفيُ الشّرك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلِّها، وتنزيهه تعالى عن جميع أنواع النّقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معاصيه، والحبّ فيه، والبُغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك ممَّا يجب له تعالى. قال الخطَّابيُّ: وجميع هذه الأشياء راجعة إلى العَبْدِ من نصيحة نفسه، واللّه تعالى غنيٌّ عن نُصح النّاصحين. والنّصيحةُ لكتابه: الإيمانُ بأنّه كلامه تعالى، وتحَليلُ ما حلَّله، وتحريم ما حرَّمه، والاهتداء بما فيه، والتَّدبُّر لمعانيه، والقيام بحقوق تلاوته، والاتّعاظ بمواعظه، والاعتبار بزواجره، والمعرفة له. والنَّصيحةُ لرسول اللّه : تصديقُه بما جاء به، واتِّباعه فيما أَمَر به، ونهى عنه، وتعظيم حقِّه، وتوقيره حيًّا وميِّتًا، ومحبَّة مَن أَمَرَ بمحبَّته من آله وصَحْبِه، ومعرفة سنَّته، والعمل بها، ونشرها، والدّعاء إليها، والذّبُّ عنها. والنّصيحة لأئمَّة المسلمين: إعانتهم على الحقِّ، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم لحوائج العِبَاد، ونُصحُهم في الرِّفق والعَدْلِ، قال الخطّابيُّ: ومن النّصيحة لهم: الصَّلاةُ خلفهم، والجهاد معهم.
وتَعْداد أسباب الخير في كلٍّ من هذه الأقسام لا تنحصر. قيل: وإذا أُريد بأئمَّة المسلمين العلماء: فنُصحهم بقَبول أقوالهم، وتعظيم حقِّهم، والاقتداء بهم، ويُحتمَل أنّه يُحمَل الحديث عليهما، فهو حقيقة فيهما. والنّصيحة لعامَّة المسلمين بإرشادهم إلى مصالحهم في دنياهم وأُخراهم، وكَفِّ الأذى عنهم، وتعليمهم ما جَهِلوه، وأَمْرِهم بالمعروف، ونَهْيِهم عن المنكَر، ونحوِ ذلك"[6].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "معنى هذا الباب: أن النصيحة تسمَّى دينًا وإسلامًا، وأن الدِّين يَقَعُ على العَمَل كَمَا يقع على القول... والنصيحةُ فرضٌ يجزئ فيه من قام به، ويَسقُط عن الباقين، والنصيحةُ لازمةٌ على قَدْرِ الطاقة، إذا عَلِم الناصح أنه يُقبَل نُصحُه، ويُطاَع أمرُه، وأَمِن على نفسه المكروهَ، وأما إن خَشِيَ الأذى، فهو في سَعَةٍ منها"[7].
قال ابن حزم رحمه الله: "إذا نصحتَ فانصح سرًّا لا جهرًا، أو بتعريض لا بتصريح إلا لمن لا يفهم، فلا بد من التصريح له، ولا تنصح على شرط القَبول منك، فإن تعدَّيْتَ هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالبُ طاعة لا مؤدِّي حقِّ ديانة وأُخوَّة، وليس هذا حُكْمَ العقل، ولا حكم الصداقة؛ ولكن حكم الأمير مع رَعِيَّته، والسيِّد مع عبيده"[8].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "والنصيحة فرض كفاية، إذا قام بها من يكفي، سقط عن غيره، وهي لازمةٌ على قدر الطاقة"[9].
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "وقال الْفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ: ما أَدرَك عندَنا من أَدرَك بكثرة الصلاة والصيام؛ وإنَّما أَدرَك عندنا بسَخاء الْأَنْفُس، وسلامةِ الصدور، والنُّصح للأُمَّة. وسُئل ابنُ الْمُبارَك: أَيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: النُّصح لِلَّه. وقال مَعْمَرٌ: كان يُقال: أنصحُ الناس لك من خاف اللَّهَ فيك. وكان السَّلَفُ إذا أرادوا نصيحة أحد، وَعَظوه سِرًّا حتى قال بعضهم: مَن وعَظَ أخاه فيما بَيْنَه وبينه، فهي نصيحةٌ، ومَن وعَظَه على رؤوس الناس فإنما وَبَّخَه. وقال الفُضَيل: المؤمنُ يَسْتُرُ ويَنصَح، والفاجرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ"[10].
قال ابن الجوزيِّ رحمه الله: «الدّين النَّصِيحَة»: الْمَعْنى أَن النَّصِيحَة أفضلُ الدّين وأكمله، كَمَا يُقَال: المَالُ الْإِبِلُ، وَمعنى النَّصِيحَة: إِرَادَة الْحَظِّ للمنصوح. وَفِي اشتقاق النَّصِيحَة قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه من قَوْلهم: نَصَحَ الرجل ثَوْبَه، إِذا خاطه، وَكَأن الناصح جَمَع الصّلاح للمنصوح جَمْعَ الناصح ثَوْبَه بالخياطة. وَالثَّانِي: أَنه من قَوْلهم: نصحتُ الْعَسَل، إِذا صفَّيْتُه من الشَّمع، فَشبَّه خُلوص النُّصح من شَوب الْغِشِّ والخيانة بخلوص الْعَسَل من كَدره.
وَاعْلَم أَن النَّصِيحَة لله - عزَّ وَجلَّ -: المناضلة عَن دينه، والمدافعة عَن الْإِشْرَاك بِهِ، وَإِن كَانَ غَنِيًّا عَن ذَلِك؛ لَكِن نَفعه عَائِد على العَبْد، وَكَذَلِكَ النصح لكتابه: الذبُّ عنه، والمحافظة على تِلَاوَته، والنصيحة لرَسُوله: إِقَامَة سنَّته، وَالدُّعَاء إِلَى دَعوته، والنصيحة لأئمَّة الْمُسلمين: طاعتهم، وَالْجهَاد مَعَهم، والمحافظة على بيعتهم، وإهداء النصائح إِلَيْهِم دون المدائح الَّتِي تَغُرُّ. والنصيحة لعامَّة الْمُسلمين: إِرَادَة الْخَيْر لَهُم، وَيَدخُل في ذلك تعليمهم، وتعريفهم اللَّازِمَ، وهدايتهم إِلَى الْحقِّ"[11].
قال الخطابيُّ رحمه الله: "فأما النصيحة لله - عزَّ وجلَّ - فمعناه منصرِفٌ إلى الإيمان به، ونَفْي اعتقاد الشِّرك معه، وترك الإلحاد في صفاته، وبَذْل الطاعة له، وإخلاص العمل فيما أَمر به ونَهى عنه، ومُوالاة مَن أطاعه، ومُعاداة مَن عصاه، والاعتراف بنعمه، والشُّكر له عليها، وحقيقة هذه الإضافةِ راجعةٌ إلى العبد في نصيحة نفْسه لله، ودعوة غيره من الخَلق إلى هذه الخصال في أمر خالقه - عزَّ وجلَّ - والله سبحانه غنيٌّ عن نُصح كلِّ ناصح، وإرشادِ كلِّ مرشِد، وبه نال الرشدَ المرشدون، وبنوره اهتدى المهتدون، وبرحمته نجا الفائزون[12].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال أبو بكر الآجُرِّيُّ رحمه الله: والنصيحةُ لرسول الله على وجهين: فنصيحة مَن صاحَبَهُ وشاهَدَه، ونصيحة مَن لم يَرَه. فأما صحابتُه، فإن الله شَرَط عليهم أن يُعزِّروه، ويوقِّروه، ويَنصُروه، ويعادوا فيه القريب والبعيد، وأن يسمعوا له ويطيعوا، وينصحوا كلَّ مسلم، فَوفَّوْا بذلك، وأثنى الله عليهم به. وأما نصيحة مَن لم يَرَه، فأن يحفظوا سُنَّته على أمته وينقلوها، ويعلِّموا الناس شريعته ودينه، ويأمروهم بالمعروف، وينهوهم عن المنكر، فإذا فعلوا ذلك، فهم ورثةُ الأنبياء"[13].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وجماعُ القول فيه أن النصيحةَ هي خُلوص المحبَّة للمنصوح له، والتحرِّي فيما يستدعي حقَّه، فلا يبعد أن يدخل فيه نفْسه بأن ينصحها بالتوبة النصوح، وأن يأتيَ بها على طريقتها متداركة للفُرُطات، ماحية للسيئات. ويجعل قلبه محلًّا للنظر والفِكر، ورُوحه مُستقَرًّا للمحبَّة، وسرَّه مِنَصَّة للمشاهدة. وعلى هذا أعمال كل عضو من العين، بأن يحمِلَها على النظر إلى الآيات الناصَّة من الآفاقية والأنفسية، والأُذُن على الإصغاء إلى الآيات النازلة والأحاديث الواردة، واللسان على النُّطق بالحقِّ، وتحرِّي الصدق، والمواظبة على ذِكْر الله وثنائه
قال الله تعالى:
﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
[الإسراء: 36][14].
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 63).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 37).
- "صيانة صحيح مسلم" لابن الصلاح (ص: 221).
- "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 189، 190).
- انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (1/ 293، 294).
- "سُبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 695).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/129).
- "رسائل ابن حزم" (1/ 364).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 52).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 225).
- "كشف المشكل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (4/ 219).
- "أعلام الحديث" (شرح صحيح البخاريِّ) للخطَّابيِّ (1/ 191).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 130).
- "شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن" (10/ 3183).
النَّصِيحَةُ: كَلِمةٌ يُعَبَّر بها عن جُمْلَة، هي إرادة الخير للمنصوح له، وليس يُمكِن أن يُعَبِّر عن هذا المعنى بكلمة واحدة تَجْمَع معناه غيرُها[1].
أئمَّة المسلمين: العلماء والأمراء، وأهلُّ الحلِّ والعَقد.
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 63).