عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا،وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا،وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
غريب الحديث:
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
غريب الحديث:
يُشادَّ الدين: أي: يُقاوِمه، ويكلِّف نفسه من العبادة فيه فوق طاقته[1]
إِلَّا غَلبه: أَي: أَعْياهُ غُلوُّه، وأضعف قوَّته وملَّه وَتَركه[2]
سدِّدوا: من السَّدَاد: وهو التوسُّط في العمل، وقارِبوا: أي: في العبادة، والمعنى: إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل، فاعملوا بما يَقرُب منه[3]
أَبْشِرُوا: أي: بالثَّواب على العمَل الدائم وإِنْ قلَّ [4]
الْغَدْوَة: بفتح الغين، من أوَّل النهار إلى الزوال[5]
الرَّوْحَة: بفتح الراء، من زوال الشمس إلى الليل[6]
الدُّلْجَة: هو سَيْر الليل. يُقال: أَدْلَجَ بالتَّخفيف: إذا سار من أَوَّلِ الليل، وادَّلَجَ بالتشديد: إذا سار من آخره، ومنهم مَن يَجْعَل الْإِدْلَاجَ لِلَّيل كُلِّه[7]
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
المعنى الإجماليُّ للحديث:يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
الشرح المفصَّل للحديثيبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ»؛ أي: إن دين الإِسلام يمتاز بسهولة أحكامه، ويُسر تكليفاته. «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»؛ أي: لن يُغالب الدينَ أحد ويتشدَّد فيه ويتجاوز السنَّة إلا غَلَبه، ولم يستطع الْمُواصلة. «فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا»؛ أي: افعلوا الشيء على وجه السَّداد والإصابة والكمال، فإن لم تستطيعوا ذلك، فاعمَلوا بما يَقرُب من ذلك، وأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله تعالى.
قوله ﷺ: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» يعني أن هذه الأوقاتَ الثلاثة أفضل أوقات العمل والسير إلى الله، وهي: أوَّلُ النهار (الغدوة)، وآخِرُه (الرَّوحة)، وآخر الليل (الدلجة).
الشرح المفصَّل للحديثيبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
النقول
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
يبيِّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث سماحةَ الإسلام ويُسرَه وسهولته، ومراعاته لأحوال الناس وظروفهم وطاقاتهم؛ فـ"يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك؛
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]،
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ: «مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»[1]، ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقَصر والإِفطار في السفر"[2]
قوله ﷺ : «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: "لا يَتَعَمَّقُ أَحَدٌ في الأعمال الدينية، ويَتْرُكُ الرِّفْقَ، إِلَّا عَجَزَ وَانْقَطَعَ، فَيُغْلَبُ"[3]، فلا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة، وحقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[4]
"(فَسَدِّدُوا): الْزَمُوا السَّدَادَ مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ وَلَا تَفْرِيطٍ، والسَّدَادُ: التَّوَسُّطُ فِي الْعَمَلِ، (وَقَارِبُوا)؛ أَيْ: إِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا الْأَخْذَ بِالْأَكْمَلِ، فَاعْمَلُوا بِمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ"[5]
وهذا أمر من النبيِّ ﷺ بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة دون إفراط ولا تفريط، وإذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال[6]
فـ"هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[7]
قوله ﷺ : «وَأَبْشِرُوا»؛ أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ، والمرادُ: تبشيرُ من عَجَز عن العملِ بالأكمل بأن العَجْزَ إذا لم يكن من صَنِيعه، لا يَستلزِم نقص أجره، وأَبهَم الْمُبَشَّرَ به؛ تعظيمًا له وتفخيمًا[8]
ثم ينبِّه النبيُّ ﷺ على اغتنام بعض الأوقات في أداء العبادات والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ فقال: «وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ»؛ أي: اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد[9]
وكأنّه ﷺ خاطَب مسافرًا إلى مقصده، فنبَّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عَجَز وانقطع، وإذا تحرَّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته الْمُداومةُ من غير مشقَّة، وحُسْنُ هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقاتَ بخصوصها أَرْوحُ ما يكون فيها البَدَن للعبادة[10]
وإنما قَالَ: «وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَة» ولم يقل: (والدلجة)؛ تخفيفًا عنه لمشقَّة عمل الليل[11]
وفي هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة؛ بل منع الإفراط المؤدِّي إلى الملال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النوم، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة[12]
النقول
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
قال ابن الْمُنير رحمه الله: "في هذا الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوَّة؛ فقد رأينا ورأى الناس قبلَنا أن كلَّ متنطِّع في الدين يَنقطِع، وليس المرادُ منعَ طلب الأكمل في العبادة؛ فإنه من الأمور المحمودة، بل منعُ الإفراط المؤدِّي إلى الْمَلال، أو المبالغة في التطوُّع المفضِي إلى ترك الأفضل، أو إخراج الفرض عن وقته؛ كمن بات يصلِّي الليل كلَّه ويُغالِب النومَ، إلى أن غَلَبته عيناه في آخر الليل، فنام عن صلاة الصبح في الجماعة، أو إلى أن خرج الوقتُ المختار، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقتُ الفريضة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ومعناه: استعينوا على طاعة الله عزَّ وجلَّ بالأعمال في وقت نشاطكم وفراغ قلوبكم، بحيث تستلذُّون العبادةَ ولا تَسأمون، وتَبلُغون مقصودَكم، كما أن المسافر الحاذق يَسِير في هذه الأوقات ويستريح هو ودابَّتُه في غيرها، فيَصِل المقصودَ بغير تَعَب"[2]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "يقول النبيُّ ﷺ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْر»؛ أي: إن هذا الدينَ، الذي هو دينُ الإِسلام، يمتاز على غيره من الأديان السماوية بسهولة أحكامه، وعَدَم خروجها عن الطاقة البشرية، وملاءمتها للفِطرة الإِنسانية، وتجرُّدها وخُلوِّها من التكاليف الشاقَّة، التي كانت في الشرائع السابقة، فقد كان الرجل من بني إسرائيلَ إذا أَذنَب ذنبًا، لا تُقبَل توبتُه إلا بقتله، وإذا أصابتْه النجاسة، لا يَطهُر إلا بقطع ما أصابته من ثوب أو بَدَن، أما هذا الدينُ، فقد تنزَّه عن كل ذلك
كما قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
[الأعراف: 157]
ومن سماحة هذا الدينِ ويُسره أن الاستطاعة شرطٌ في جميع تكاليفه الشرعية؛ حيث قال ﷺ:
«مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ، فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
[3]،
ومن ذلك أيضًا ما شرعه لهذه الأمة من رُخَص وأحكام استثنائية راعى فيها الظروف والأحوال؛ كالقصر والإِفطار في السفر"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن التشديد في الدين بأن يحمِّل الإنسان نفسَه من العبادة ما لا يَحتمِلُه إلا بكُلْفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله ﷺ: «لن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبه»؛ يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغاَلبة، فمن شادَّ الدين، غَلَبه وقَطَعه"[5]
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "هذا أمر بالاقتصاد وتَرْكِ الحَمْلِ على النفس؛ لأن الله تعالى إنما أوجب عليهم وظائفَ من الطاعات في وقت دون وقت؛ تيسيرًا ورحمةً"[6]
قال ابن الملقِّن رحمه الله: "اغتنموا أوقات نشاطكم، وانبعاث نفوسكم للعبادة، وأما الدَّوَامُ لا تطيقونه، واحرصوا على أوقات النشاط، واستعينوا بها على تحصيل السداد، والوصول إلى المراد"[7]
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلَّا غَلَبَهُ» هكذا في روايتنا بإضمار الفاعل، وثبت في رواية ابن السَّكَن وفي بعض الرّوايات عن الأصيليِّ بلفظ: «ولن يشادَّ الدِّينَ أحدٌ إلّا غَلَبه»، وكذا هو في طرق هذا الحديث عند الإسماعيليِّ وأبي نُعَيم وابن حبَّانَ وغيرهم. و(الدّين) منصوب على المفعوليّة، وكذا في روايتنا أيضًا، وأَضمَر الفاعلَ للعلم به، وحكى صاحب المطالع أنّ أكثر الرّوايات برفع (الدِّين) على أنّ (يُشادَّ) مبنيٌّ لما لم يُسَمَّ فاعله، وعارَضَه النّوويُّ بأنّ أكثر الرّوايات بالنّصب، ويُجمع بين كلامَيْهما بأنّه بالنّسبة إلى روايات المغاربة والمشارِقة، ويؤيِّد النَّصْبَ لفظُ حديث بُريدةَ عند أحمد: «إِنَّهُ مَنْ شَادَّ هَذَا الدِّينَ يَغْلِبُهُ»، ذكره في حديثٍ آخَر يَصلُح أن يكون هو سببَ حديث الباب، والْمُشادَّة بالتّشديد: الْمُغالبة. يُقال: شادَّه يُشادُّه مُشادَّةً إذا قاواه، والمعنى: لا يتعمَّق أحد في الأعمال الدّينيّة ويترك الرّفق إلّا عَجَز وانقطع، فيُغلب[8]
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ»: بنصب (الدين) على المفعولية؛ قال النوويُّ: الأكثر في ضبط بلادنا النصب؛ أي: لا يبالغ أحدٌ في نوافل العبادات، ويتجاوز فيها حدود الشريعة والسنَّة الثابتة عن النبيِّ ﷺ، ويتعدَّى حدود الطاقة البشرية، بحيث لا يَدَع وقتًا للراحة، وأداء حقوق النفس والجسد، والزوجة والولد، إلا أَرهَق نفسَه، وانقطع في النهاية لسآمته ومَلَله، وكانت النتيجةُ عكسيةً؛ فإن لكلِّ فعل - كما يقول العلماء - ردَّ فعل، وردُّ الفعل الذي يترتَّب على التنطُّع في الدين سيِّئ جدًّا؛ لأنه يؤدِّي حتمًا إلى ترك العبادة، وقد ذمَّ الله أقوامًا شدَّدوا على أنفسهم، وحَبَسوها في الصوامع؛ رهبانيةً ابتدعوها، وذمَّهم النبيُّ ﷺ، ونهى أمَّته أن يشدِّدوا على أنفسهم، ويصنعوا صنيعهم، فقال: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُم، فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ؛ فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ؛
وَرَهۡبَانِيَّةً ٱبۡتَدَعُوهَا مَا كَتَبۡنَٰهَا عَلَيۡهِمۡ
[الحديد: 27]»[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "وقد يُستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرُّخصة الشّرعيّة؛ فإنّ الأخذ بالعزيمة في موضع الرُّخصة تنطُّع كمن يترك التّيمُّم عند العجز عن استعمال الماء، فيُفضي به استعماله إلى حصول الضّرر. قوله: «فسدّدوا»؛ أي: الزموا السَّداد، وهو الصّواب من غير إفراط ولا تفريط. قال أهل اللّغة: السَّداد: التّوسُّط في العمل. قوله: «وقاربوا»؛ أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل، فاعملوا بما يقرِّب منه. قوله: «وأبشروا»؛ أي: بالثّواب على العمل الدّائم وإن قلّ، والمراد: تبشير من عجز عن العمل بالأكمل بأنّ العجز إذا لم يكن من صَنيعه، لا يستلزم نقص أجره، وأَبهَم المبشَّر به تعظيمًا له وتفخيمًا. قوله: «واستعينوا بالغَدوة»؛ أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشِّطة، والغَدوة بالفتح: سير أوّل النّهار، وقال الجوهريّ: ما بين صلاة الغداة وطلوع الشّمس. والرَّوحة بالفتح: السّير بعد الزّوال، والدُّلجة بضمّ أوّله وفتحه وإسكان اللّام: سير آخر اللّيل، وقيل: سير اللّيل كلّه؛ ولهذا عبّر فيه بالتّبعيض، ولأنّ عمل اللّيل أشقُّ من عمل االنّهار، وهذه الأوقات أطيب أوقات المسافر؛ وكأنّه ﷺ خاطب مسافرًا إلى مقصده، فنبّهه على أوقات نشاطه؛ لأنّ المسافر إذا سافر اللّيلَ والنّهار جميعًا، عجز وانقطع، وإذا تحرّى السّير في هذه الأوقات المنشِّطة، أمكنته المداومة من غير مشقّة، وحُسن هذه الاستعارة أنّ الدّنيا في الحقيقة دار نُقْلة إلى الآخرة، وأنّ هذه الأوقات بخصوصها أروح ما يكون فيها البدن للعبادة" [10].
قال ابن بطال رحمه الله: "معنى هذا الباب أيضًا أن الدِّين اسم واقع على الأعمال؛ لقوله ﷺ: «الدين يسر»، ثم بيَّن الطريقة التي يجب امتثالُها من الدين بقوله: «فسدِّدوا وقاربوا...» إلى آخر الحديث. وهذه كلُّها أعمالٌ سمَّاها ﷺ دينًا، والدين والإسلامُ والإيمان شيء واحد" [10].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا»: سدِّدْ؛ أي: افعل الشيء على وجه السَّداد والإصابة، فإن لم يتيسَّر فقاربْ؛ ولهذا قال: «وقاربوا»، والواو هنا بمعنى (أو)؛ يعني: سدِّدوا إن أمكن، وإن لم يمكن فالمقاربة. «وأبشروا»؛ يعني: أبشروا أنكم إذا سدَّدتم أَصبتُم، أو قاربتم، فأبشروا بالثواب الجزيل والخير والمعونة من الله عزَّ وجلَّ" [12].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "وأَمَر ﷺ في هذا الحديث بالاقتصاد والتوسُّط في العبادة؛ حيث قال: «فسدِّدوا وقاربوا»، وهو أمر بالسَّداد؛ أي: بالتوسُّط والاعتدال في الأعمال دون إفراط ولا تفريط. قال ﷺ: «وقاربوا»؛ أي: إذا لم تستطيعوا الإِتيان بالأفضل من النوافل والطاعات والإتيان بها جميعًا، فَأْتُوا بما يُقارب الأفضل؛ لأن ما لا يُدرَكُ كلُّه، لا يُترَك جلُّه، فمن لم يستطع أن يصوم يومًا ويُفطر يومًا - الذي هو أفضلُ الصيام - فليَأْتِ بما يُقارب ذلك؛ كصيام ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ومن لم يستطع ذلك، فليَصُمْ يومَ عاشوراءَ، ويومَ عرفةَ، وستَّةَ أيام من شوَّال [13].
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "فيه دليلٌ على أنّ المشروع هو الاقتصاد في الطّاعات؛ لأنّ إتعاب النّفس فيها والتّشديد عليها يُفضي إلى ترك الجميع، والدِّينُ يُسر، ولن يشادَّ الدّينَ أحد إلّا غَلَبه، والشّريعة المطهَّرة مبنيَّة على التّيسير وعدم التّنفير" [14].
قال حمزة محمد قاسم رحمه الله: "«وأبشروا»؛ أي: ولا تظنوا أن القليل من العبادة لا ينفع؛ بل أبشروا بحسن القَبول متى حَسُن العمل، وخَلَصت النيَّة؛ فإن العبرة بالكَيف لا بالكمِّ. «واستعينوا بالغدوة»: وهي السَّير أوَّلَ النهار إلى الزوال. «والروحة»: بفتح الراء، وهي السَّير بعد الزوال إلى الليل. «والدُّلجة»: بضمِّ الدال، وإسكان اللام؛ كذا جاءت الرواية، ويجوز فتحُها، وهي السَّير آخِرَ الليل، وقد استعار هذه الأوقاتَ الثلاثةَ لأوقات النشاط؛ أي: واستعينوا على أداء هذه العبادات والصلوات بفعلها في أوقات النشاط وفراغ القلب للطاعة، ولا تَشغَلوا بالعبادة كلَّ أوقاتكم؛ لئلَّا تسأموا فتنقطعوا عنها بالكليَّة، فينبغي للعبد إذا أراد المداومة على العمل - وأحَبُّ العمل إلى الله وإلى نبيِّه ﷺ أدْوَمُهُ، وإن قلَّ - أن يختار للعبادة بعض الأوقات المناسبة كوقت الصباح، وبعد الزوال، وساعةٍ من آخِرِ الليل.
ويُستفاد منه ما يأتي: أولًا: يُسْرُ هذا الدين، وسهولةُ أحكامه، وملاءمته للفطرة الإِنسانية. ثانيًا: أن قدرة الإِنسان وطاقته البدنية شرطٌ في جميع التكاليف الشرعية. ثالثًا: أن رفع الحرج عن المكلَّفين أصل من أصول التشريع الإِسلاميِّ؛ لقوله ﷺ: «إن الدين يسر»،
وقوله تعالى:
﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ﴾
[الحج: ٧٨].
رابعًا: الترغيب في الأخذ بالرخص كالقصر والإِفطار في السفر؛ لقوله ﷺ: «ولن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه». خامسًا: الترغيب في الاقتصاد في عبادات التطوُّع دون إفراط ولا تفريط" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "ولو تفكَّر الإنسان في العبادات اليومية، لوجد الصلاةَ خمسَ صلوات ميسَّرة موزَّعة في أوقات، يتقدَّمها الطُّهر؛ طُهرٌ للبدن، وطُهر للقلب، فيتوضَّأ الإنسان عند كلِّ صلاة، ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهِّرين، فيطهِّر بدنَه أولًا، ثم قلبَه بالتوحيد ثانيًا، ثم يصلِّي. ولو تفكَّرتَ أيضًا في الزكاة، وهي الركنُ الثالث من أركان الإسلام، تجد أنها سهلةٌ، فأولًا لا تجب إلا في الأموال الناميَة، أو ما في حُكمها، ولا تجب في كلِّ مال؛ بل في الأموال النامية التي تنمو وتَزيد كالتجارة، أو ما في حُكمها كالذهب والفضَّة وإن كان لا يَزيد، أما ما يستعمله الإنسان في بيته، وفي مركوبه... وجميع أواني البيت، وفرش البيت، والخَدَم الذين في البيت، والسيَّارات وغيرها مما يستعمله الإنسان لخاصَّة نفسه، فإنه ليس فيه زكاة، فهذا يُسر. ثم الزكاة الواجبة يسيرة جدًّا، فهي رُبع العُشر؛ يعني: واحدًا من أربعين، وهذا أيضًا يَسِير، ثم إذا أدَّيْتَ الزكاة، فإنها لن تَنقُص مالَك... بل تجعل فيه البركة، وتنمِّيه، وتزكِّيه، وتطهِّره. وانظر إلى الصوم أيضًا، ليس كلَّ السنة، ولا نصفَ السنة، ولا ربعَ السنة؛ بل شهرٌ واحد من اثنَيْ عَشَرَ شهرًا، ومع ذلك فهو ميسَّر، إذا مَرِضْتَ فأَفطرْ، وإذا سافرتَ فأفطرْ، وإذا كنتَ لا تستطيع الصومَ في كلِّ دهرِكَ فأَطعِمْ عن كلِّ يوم مسكينًا. انظر إلى الحجِّ أيضًا، ميسَّرٌ؛
قال تعالى:
﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ﴾
[آل عمران: 97].
ومن لم يستطع: إن كان غنيًا بماله، أناب من يحجُّ عنه، وإن كان غيرَ غنيٍّ بماله ولا بَدَنه، سَقَط عنه الحجُّ. فالحاصل أن الدين يسر، يُسْرٌ في أصل التشريع، ويُسر فيما إذا طرأ ما يوجب الحاجة إلى التيسير؛ فالدين يسر" [16].
1. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223).
3. رواه مسلم (1337).
4. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 121، 122).
5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 149).
6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (1/ 239).
7. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (3/ 87).
8. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94).
9. رواه أبو داود (4904)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (6232).
10. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 94، 95).
11. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 96).
12. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).
13. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 122، 123).
14. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 123).
15. "منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري" لحمزة محمد قاسم (1/ 123، 124).
16. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 223 - 225).