المعنى الإجماليُّ للحديث

قال طارقُ بنُ شهابٍ: جاء رجُلٌ من اليهودِ إلى عمرَ ، فقال: (يا أميرَ المؤمنِينَ، آيةٌ في كتابِكم تَقرؤونها، لو علينا نزلت معشرَ اليهود، لاتَّخَذْنا ذلك اليومَ عيدًا)؛ أي: لعظَّمْنا ذلك اليوم الذي نزلتْ فيه هذه الآية، وجعلناه عيدًا؛ لفضلها، وقيمتها، وعظيم حقِّها.

قال عمر: وأيُّ آية؟ قال:

 ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾

باكتمال الشرائع والفرائض والحدود، وكماله بعزِّه، وظُهوره على الدين كلِّه.

 ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾

بالهداية إلى الإيمان، واكتمال الشرع، وظهور الدين.

﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

 رضيتُه لكم واصطفيتُه؛ فلا دين سواه يرضاه الله، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم.

فقال عمر : (إني لأعلمُ اليومَ الذي نزلتْ فيه، والمكانَ الذي نزلتْ فيه: نزلتْ على رسول الله بعرفاتٍ في يوم جُمعة)؛ أي: نحن نعي ذلك ونهتمُّ به وننتبه له، ونعلم متى وأين نزلتْ، ونزولها في يوم الجمعة ويوم عرفة، وهما عيدان، ومكان نزولها بعرفات.

الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث إشارةٌ إلى فضيلة تلك الآية التي ذكَرها اليهوديُّ، وأن اليهود عَلِموا فضلَها وقيمتَها، وحسدونا عليها.

وهذا الرجُل الذي جاء إلى أمير المؤمنين  هو كعب الأحبار، وقد أسلم بعد ذلك؛ ولهذا قال الراوي: (رجُلٌ من اليهود)؛ أي: كان منهم حينئذ[1].

وقوله: (لاتَّخذنا ذلك اليوم عيدًا)؛ لِما عَرَفوا من فضلها، وقيمتها، وعظيم حقِّها؛ أي: لعظَّمْنا ذلك اليوم الذي نزلتْ فيه، وجعلناه عيدًا.

والعيد مُشتَقٌّ من العَوْد؛ لأنه يعود كلَّ عام، ويجمع العيد أمورًا، منها: العَوْد والتَّكرار، والاجتماع عليه، ثم ما يتلوه من العادات والعبادات[2].

قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾

: إكمالُ الدين حاصلٌ بأمورٍ؛ منها: اكتمال الشرائع والفرائض والحدود، ونفي المشركين عن البيت، فلم يعُدْ يحجُّ مشركٌ ولا يدخُله

لقوله تعالى:

﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

  [التوبة: 28]

 وكماله كذلك بعزِّه، وظُهوره، وذُلِّ الشرك، وفُتوره، وبرفع النَّسخ عنه، وزوال الخوف من العدوِّ، والظهور عليه، وأمْن هذه الشريعة من أن تنسخها شريعةٌ بعدها، وفتح مكة[3].

وقوله تعالى:

﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾

  إنما لم يقُل: «أنعمتُ عليكم»؛ لأن النعمة كانت موجودةً مبتدَأة بابتداء دعوة الإسلام، والنعمةُ هنا بالهداية إلى الإيمان، واكتمال الشرع، وظهور الدين[4].

وقوله تعالى:

﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

 أي: أعلمتُكم اليوم رضايَ؛ فإنه تعالى لم يزَلْ راضيًا عن الإسلام، وكيف لا وهو الذي شرعه للخلق؟! ويحتمل أن يريد: رضيتُه لكم كما هو، فلا نسخَ فيه بعد اليوم، ولن تنسخه شريعةٌ أخرى من الشرائع، فهو الدين الخاتم[5].

وفي ردِّ عمر  على الرجُل دليلٌ على اهتمام المسلمين بذلك والانتباه له؛ فإنهم قد علموا ذلك، وحفِظوا متى وأين نزلتْ.

ومعنى قول عمر  أنَّا ما تركنا تعظيم ذلك اليوم والمكان؛ أما المكان فهو عرفات، أعظم ركن في الحجِّ الذي هو أحدُ أركان الإسلام، وأما الزمان فهو يوم الجُمُعة، وهو أفضلُ أيام الأسبوع، وزاد ذلك أنه يوم عرفة، وهو أفضل أيام الدهر، فإذا اجتمع اليومان كان خيرًا وفضلًا، فكأنَّ عمر قال له: قد جعلنا اليوم عيدًا، والمكان كذلك[6].

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (8/ 270).
  2. انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 496).
  3. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزيِّ (1/ 513)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339)، "تفسير ابن رجب الحنبليِّ" (1/ 384).
  4. انظر: "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزيِّ (1/ 514).
  5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (7/ 339).
  6. انظر: "الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري" للكرماني (1/ 179)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (3/ 129).


النقول

قال ابن رجب رحمه الله: "«رجلاً من اليهود» هو كعب الأحبار، قال ذلك قبل أن يُسلم. «معشر»: الجماعة الذين شأنُهم واحد. «عيدًا»: يوم سرور وفرح وتعظيم، سمِّي كذلك لأنه يعود كلَّ عام فيعود معه السرور. «أيُّ آية؟»: هي التي تَعنيها، وهي الآية الثالثة من المائدة. «أكملت لكم دينكم» بإرساخ قواعدِه وبيانها وإظهاره على الأديان كلها. «وأتممت عليكم نعمت» بالهداية والتوفيق والنصر على الكفر وأهله، وهدم معالم الجاهلية"[1].

قال ابن بطال رحمه الله: "قال المؤلِّف: قوله: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» حُجَّة في زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الآية نزلت يوم عرفةَ في حجَّة الوداع يومَ كملت الفرائض والسُّنن، واستقرَّ الدِّين، وأراد الله قبض نبيِّه، فدلَّت هذه الآية، أن كمال الدين إنما حصل بتمام الشريعة، فمن حافَظ على التزامها، فإيمانه أكملُ من إيمان من قَصَّر في ذلك، وضيَّع؛ ولذلك قال البخاريُّ: فإذا ترك شيئًا من الكمال فهو ناقص، وقد تقدَّم في أول كتاب الإيمان، أن القول بزيادة الإيمان ونقصانه هو مذهب أهل السُّنَّة وجمهور الأُمَّة"[2].

قال ابن رجب رحمه الله: "«قد عرفنا ذلك اليوم والمكان» أشار عمرُ - رضي الله عنه - إلى أن يوم نزولها يوم عيد عند المسلمين؛ فقد نزلت يوم الجمعة، وهو يوم عيد لنا، ويوم عرفة الذي يتحقَّق العيد بأوله... فهذا قد يؤخذ من أن الأعياد لا تكون بالرأي والاختراع كما يفعله أهل الكتابين من قبلنا؛ إنما تكون بالشرع والاتِّباع، فهذه الآية لما تضمَّنت إكمال الدين وإتمام النعمة، أنزلها الله في يوم شرعه عيدًا لهذه الأمَّة من وجهين: أحدهما: أنه يوم عيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. والثاني: أنه يوم عيد أهل الْمَوسم، وهو يوم مَجمَعهم الأكبر، وموقفهم الأعظم، وقد قيل: إنه يوم الحجِّ الأكبر. وقد جاء تسميته عيدًا من حديث مرفوع، خرَّجه أهل السنن من حديث عقبة بن عامر، عن النبيِّ ﷺ قال: «يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ»[3]. وقد أَشكَل وجهه على كثير من العلماء؛ لأنه يدلُّ على أن يوم عرفة يومُ عيد لا يُصام، كما رُوي ذلك عن بعض المتقدِّمين، وحَمَله بعضهم على أهل الموقف، وهو الأصحُّ؛ لأنه اليوم الذي فيه أعظم مجامعهم ومواقفهم، بخلاف أهل الأمصار؛ فإن اجتماعهم يوم النحر، وأما أيَّام التشريق، فيشارك أهل الأمصار أهلَ الْمَوسم فيها؛ لأنها أيام ضحاياهم وأكلهم من نُسُكهم. هذا قول جمهور العلماء. وقال عطاء: إنما هي أعياد لأهل الْمَوسم، فلا يُنهى أهل الأمصار عن صيامها. وقول الجمهور أصحُّ"[4].

قال الألوسيُّ رحمه الله: "اليومَ أكملتُ لكم دينكم بالنصر والإظهار؛ لأنهم بذلك يُجرون أحكام الدين من غير مانع، وبه تمامه، وهذا كما تقول: تمَّ لي الْمُلك إذا كُفِيتَ ما تخافه، وإلى ذلك ذهب الزجَّاج، وعن ابن عبَّاس والسُّدِّيِّ أن المعنى: اليوم أكملتُ لكم حدودي وفرائضي وحلالي وحرامي بتنزيل ما أَنزلتُ، وبيان ما بيَّنتُ لكم؛ فلا زيادةَ في ذلك ولا نقصان منه بالنَّسخ بعد هذا اليوم، وكان يوم عرفةَ عام حجَّة الوداع، واختاره الجبائيُّ والبلخيُّ وغيرهما، وادَّعَوا أنه لم ينزل بعد ذلك شيء من الفرائض على رسول الله ﷺ في تحليل ولا تحريم، وأنه عليه الصلاة والسلام لم يَلبَث بعدُ سوى أحدٍ وثمانين يومًا، ومضى - روحي فِدَاه - إلى الرفيق الأعلى ﷺ. وفَهِم عمرُ - رضي الله تعالى عنه - لما سمع الآية نعى رسول الله ﷺ؛ فقد أخرج ابن أبى شَيبةَ عن عنترةَ أن عمرَ رضى الله تعالى عنه لَمَّا نزلت الآية بكى، فقال له النبيُّ ﷺ: «ما يُبكيك؟»، قال: أبكاني أنا كنَّا في زيادة من ديننا، فأما إذا كَمُل، فإنه لم يَكمُل شيء قطُّ إلا نَقَص. فقال عليه الصلاة والسلام: «صدقتَ»، ولا يُحتجُّ بها على هذا القول على إبطال القياس كما زعم بعضهم؛ لأن المراد إكمال الدين نفسِه ببيان ما يَلزَم بيانه، ويُستنبَط منه غيره، والتنصيص على قواعد العقائد، والتوقيف على أصول الشرع وقوانين الاجتهاد، ورُوي عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ وقتادةَ أن المعنى: اليومَ أكملت لكم حَجَّكم، وأقْرَرْتُكم بالبلد الحرام تحجُّونه دون المشركين. واختاره الطبريُّ، وقال: يردُّ ما رُوي عن ابن عباس والسُّدِّيِّ رضى الله تعالى عنهم أن الله تعالى أنزل آية الكَلالة، وهى آخر آية نزلت، واعترض بالمنع، وتقديم الجارِّ؛ للإيذان من أول الأمر بأن الإكمال لمنفعتهم ومصلحتهم، وفيه أيضًا تشويقٌ إلى ذكر المؤخَّر

كما في قوله تعالى:

﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾

وليس الجارُّ فيه متعلِّقًا بنعمتي؛ لأن المصدر لا يتقدَّم عليه معموله. وقيل: متعلِّق به، ولا بأس بتقدُّم معمول المصدر إذا كان ظرفًا، وإتمام النعمة على المخاطبين بفتح مكةَ، ودخولها"[5].

قال المباركفوري رحمه الله: "«لاتَّخَذنا ذلك اليومَ عيدًا»؛ أي: لعظَّمناه وجعلناه عيدًا لنا في كلِّ سنة؛ لعِظم ما حصل فيه من إكمال الدين. «فقال عمرُ: إني لأعلم أيَّ يومٍ أُنزلت هذه الآية، أُنزلت يوم عرفة في يوم الجمعة». فإن قيل: كيف طابق الجواب السؤال؛ لأنه قال: «لاتَّخذناه عيدًا»، وأجاب عمرُ رضي الله عنه بمعرفة الوقت والمكان، ولم يَقُل: جعلناه عيدًا. والجواب: أن هذه الرواية اكتفى فيها بالإشارة، وإلا فرواية إسحاقَ قد نصَّت على المراد، ولفظُه: «نزلت يوم الجمعة، يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد»، لفظ الطبريِّ والطبرانيِّ: «وهما لنا عيدان»، وكذا عند الترمذيِّ من حديث ابن عباس أن يهوديًّا سأله عن ذلك فقال: «نزلت في يوم عيدين: يوم جمعة ويوم عرفة»، فظهر أن الجواب تضمَّن أنهم اتَّخذوا ذلك اليوم عيدًا، وهو يوم الجمعة، واتَّخذوا يوم عرفة؛ لأنه ليلة العيد، وهذا كما جاء في الحديث: «شهرا عيد لا ينقصان: رمضان وذو الحجة»، فسمَّى رمضان عيدًا؛ لأنه يُعقِبه العيد. قاله الحافظ. قوله: "هذا حديث حسن صحيح" وأخرجه البخاري في الإيمان والتفسير وغيرهما، ومسلم في آخر الكتاب، والنسائي في الحج والإيمان. قوله:

﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾   

[المائدة:3]

أحكامه وفرائضه فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام

﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾

بإكماله، وقيل بدخول مكة آمنين

﴿ وَرَضِيتُ ﴾

اخترت

﴿ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾

حال؛ أي: اخترتُه لكم من بين الأديان، وآذنتُكم بأنه هو الدين الْمَرضيِّ وحدَه، وأخرجه ابن جرير في تفسيره"[6].

قال ابن رجب رحمه الله: "فلمَّا رَأَوا عزَّ الإسلام وانتصاره وظهوره، يَئِسوا كلَّ اليأس من المؤمنين، أن يرجعوا إلى دينهم، وصاروا يخافون منهم ويخشَون؛ ولهذا في هذه السَّنَة التي حجَّ فيها النبيُّ ﷺ سنةَ عشْرٍ حَجَّة الوداع، لم يَحُجَّ فيها مشرك، ولم يَطُف بالبيت عُريان؛ ولهذا قال:

فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ 

[المائدة: ٣]

 أي: فلا تخشَوِا المشركين، واخشَوِا اللهَ الذي نصركم عليهم وخذلهم، وردَّ كيدهم في نحورهم.

﴿  الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾

  [المائدة:3]

بتمام النصر، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة، الأصول والفروع؛ ولهذا كان الكتاب والسنَّة كافِيَين كلَّ الكفاية، في أحكام الدين أصوله وفروعه؛ فكل متكلِّف يَزعُم أنه لا بدَّ للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنَّة، من علم الكلام وغيره، فهو جاهل، مبطِل في دَعْواه، قد زعم أن الدين لا يَكمُل إلا بما قاله ودعا إليه، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.

﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾

الظاهرة والباطنة 

﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

 أي: اخترته واصطفَيْتُه لكم دينًا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرًا لربِّكم، واحمَدُوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها"[7].

المراجع

  1. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172).
  2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 101، 102).
  3. أخرجه أبو داود (2419)، والترمذيُّ (773) والنسائيُّ (4186)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (2090).
  4. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 172، 173).
  5. "تفسير الألوسي = روح المعاني" (6/ 60).
  6. "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (8/ 408، 409).
  7. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 173).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ  عن رَسُولِ اللهِ  أنه قال: «الإِيمَانُ» وهو يَشمَل هنا جميعَ الطاعات الظاهرة والباطنة «بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ – شُعْبَةً»: البِضْع مِن الثلاث إلى التِّسع، والمرادُ أنَّ شُعب الإيمان وخِصالَه تنحصر في هذا العدد. «فَأَفْضَلُهَا»؛ أي: إن هذه الشُّعب متفاوتة في الفضل والْمَكانة. «قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»: القول المواطئ للقلب، بإخلاص وصِدق ويقين، فلا يصحُّ شيءٌ من هذه الشُّعب إلا بها. «وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»؛ أي: إن أدنى شعب الإيمان إزالة الأذى عن الناس في طُرقهم.

قال : «وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»: نصَّ على الحياء؛ تأكيدًا على فضله وقَدْره.

الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث جعل النبيُّ الإيمانَ كالشجرة التي تتفرَّع عن غصون وأوراق؛ تقريبًا للمعنى، وتَيْسيرًا لفَهم الكلام.

قوله : «الإيمانُ بِضعٌ وسبعون شُعبةً»: وفيه "بيانُ أن الإيمانَ الشرعيَّ اسمٌ لمعنًى ذي شُعَب وأجزاء، له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلَّق ببعضها كما يتعلَّق بكلِّها، والحقيقةُ تقتضي جميعَ شُعَبها، وتستوفي جُملة أجزائها؛ كالصلاة الشرعية لها شُعَبٌ وأجزاء، والاسم يتعلَّق ببعضها كما يتعلَّق بكلِّها، والحقيقةُ تقتضي جميعَ أجزائها وتستوفيها، ويدلُّ على ذلك قولُه: «الحياء شعبة من الإيمان»، فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشُّعَب"[1].

فدلَّ ذلك على أن العملَ داخلٌ في مسمَّى الإيمان؛ إذ الإيمانُ قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح. وأخبر أن هذه الشُّعبَ تتفاوتُ في الفضل والْمَكانة، فأعلى تلك الشُّعَبِ التوحيدُ، الذي هو "قول: لا إله إلا اللهُ"، فلا يصحُّ شيءٌ من هذه الشُّعب إلا بها[2]، وأقلُّ هذه الشُّعب أن يُميطَ المسلمُ الأذى عن طريق الناس.

وقد نصَّ النبيُّ على الحياء، وأنه من شُعَب الإيمان؛ تأكيدًا على فضله وقَدْره.

"والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[3].

وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نَهَاكَ، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملةٍ، ومُراقبةٍ له حاصلةٍ، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنَّكَ تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه، فإنه يراكَ»[4] [5].

وهو ما أراده النبيُّ بجعله من شُعَب الإيمان؛ كما روى الترمذيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ الْمَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ» [6].

وهذا الحديث حجَّةٌ في أن الإيمان قولٌ واعتقادٌ وعملٌ؛ فقول: "لا إله إلا الله" يشمَل القول باللسان، والتصديقَ والاعتقادَ بالقلب، وإماطة الأذى، والحياء من الأعمال.

وقد "جعل النبيُّ في هذا الحديث – حديث جبريل - الإسلامَ اسمًا لما ظهَر من الأعمال، وجعل الإيمانَ اسمًا لما بطَن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام؛ بل ذلك تفصيلٌ لجملة هي كلها شيء واحدٌ، وجِماعُها الدِّينُ، ولذلك قال: «ذاك جبريلُ أتاكم يُعلِّمكم أمرَ دينكم».

والتصديق والعمل يتناولهما اسمُ الإيمان والإسلام جميعًا، يدُلُّ عليه

قوله سبحانه وتعالى:

﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

[آل عمرَان: 19]


﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾

[الْمَائِدَة: 3]


﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾

[آل عمران: 85].

فأخبر أن الدِّينَ الذي رَضِيَه ويَقبلُه من عباده هو الإسلامُ، ولن يكون الدين في محلِّ القَبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل"[7].

وإذا كان العمل داخلًا في مُسمَّى الإيمان، تطرَّق إليه الزيادةُ والنقصُ، وهذا مذهَب السَّلَف؛ فـ"مذهَبُ جماعة أهل السُّنَّة من سَلَف الأمة وخَلَفها أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويَزيد ويَنقُص"[8]، وبهذا تدُلُّ الأدلَّة والأخبار من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - منها

قوله تعالى:

﴿فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا﴾

[آل عمران: 173]


وقوله تعالى:

﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ 

[التوبة: 124]


وقوله تعالى:

﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾  

 [الكهف: 13]


وقوله تعالى:

﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾   

[مريم: 76]


 وقوله تعالى:

﴿ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ 

[الأحزاب: 22]


وقوله تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾

 [الفتح: 4]


وقوله تعالى:

﴿وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا﴾

[المدثر: 31].

وقد حصر النبيُّ تلك الشُّعبَ بذِكْر أعلاها، وهو التوحيدُ، وأدْناها وهو رَفْع ما يُتوقَّع ضررُه من الأذى بالمسلمين، وإن لم يحدُث الضررُ بعدُ، وبين تلك الشُّعبَتَين من خصال الخير، وشُعَب الإيمان، ما لو اجتهَدَ الإنسانُ في حصرها لأمكَنَ[9].

وقد اجتهد بعض العلماء، وعَدَّ تلك الشُّعَب؛ كالحليميِّ في كتابه "المنهاج في شعب الإيمان"، والبيهقيِّ في "الجامع لشُعَب الإيمان"، وغيرهما؛ لكنَّ القَطْعَ بأن ما ذَكَراه، أو اتَّفَقا عليه، هو الصوابُ، أمرٌ صعبٌ، على أنه لا يجب على الإنسان أن يجتهدَ لبيان ماهيَّتها أو لحفظها، ولا يؤثِّر ذلك على إيمان الشخص.

"والصحيح أنها مُنحصِرة في عِلم الله تعالى، وعِلم رسوله، وموجودة في الشريعة، مُفصَّلة فيها، غيرَ أن الشرع لم يوقِفْنا على أشخاص تلك الأبواب، ولا عَيَّن لنا عددَها، ولا كيفيَّة انقسامها، وذلك لا يضُرُّنا في علمنا بتفاصيل ما كُلِّفنا به من شريعتنا، ولا في عملنا؛ إذ كل ذلك مفصَّل مُبيَّن في جملة الشريعة، فما أُمِرنا بالعمل به عَمِلناه، وما نُهينا عنه انتهَيْنا، وإن لم نُحِطْ بحصر أعداد ذلك، والله تعالى أعلم"[10].

وقد رأى بعضُ العلماء أن شُعَب الإيمان يمكِن أن تفصَّل إلى أكثرَ من بِضْع وسبعين شُعبةً، فاختلفوا في توجيه ذلك بأقوال، منها: 

  • أنَّ عدَّ تلك الخصال كان أولَ زمان النبيِّ مُنحصرًا في هذا العدد، ثم حصَلَت الزيادة بعد ذلك في حياة النبيِّ .

  • أن تكون خصالُ الإيمان كلها تنحصِر في بِضْعة وسبعين نوعًا، وإن كان أفرادُ كلِّ نوعٍ تتعدَّى كثيرًا، وربما كان بعضها لا ينحصر.

  • أن ذِكْر السبعين على وجه التكثير للعدد، لا على وجه الحصر؛ كما في

    قوله تعالى:

    ﴿إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾

    [التوبة: 80].

  • أن هذه البِضْع والسبعين هي أشرف خصال الإيمان وأعلاها، وهو الذي تدعو إليه الحاجةُ منها.

  • أن هذه الشُّعب تتفرَّع عن أعمال القلب، وأعمال اللسان، وأعمال البدن [11].


المراجع

  1. "معالم السنن" للخطَّابيِّ (4/ 312).
  2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 272).
  3. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
  4. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).
  6. رواه الترمذيُّ (2458)، وحسَّنه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (2/ 894)، والألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 319).
  7. "شرح السنَّة" للبغويِّ (1/ 10).
  8. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 56).
  9. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 272).
  10. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 217).
  11. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 34)، "فتح الباري" لابن حجر (1/ 52).
النقول

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث بيانُ أن الإيمانَ الشرعيَّ اسم لمعنًى ذي شُعَب وأجزاء، له أعلى وأدنى، فالاسم يتعلَّق ببعضها كما يتعلَّق بكلِّها، والحقيقةُ تقتضي جميعَ شُعَبها، وتستوفي جُملة أجزائها؛ كالصلاة الشرعية لها شُعَبٌ وأجزاء، والاسم يتعلَّق ببعضها كما يتعلَّق بكلِّها، والحقيقةُ تقتضي جميعَ أجزائها وتستوفيها، ويدلُّ على ذلك قولُه: «الحياء شعبة من الإيمان»، فأخبر أن الحياء إحدى تلك الشُّعَب"[1].

قال البغويُّ رحمه الله - في شرح حديث جبريل -: "جعل النبيُّ في هذا الحديث الإسلامَ اسمًا لما ظهَر من الأعمال، وجعل الإيمانَ اسمًا لما بطَن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام؛ بل ذلك تفصيلٌ لجملة هي كلها شيء واحدٌ، وجِماعُها الدِّينُ، ولذلك قال: «ذاك جبريلُ أتاكم يُعلِّمكم أمرَ دينكم».

والتصديق والعمل يتناولهما اسمُ الإيمان والإسلام جميعًا، يدُلُّ عليه

قوله سبحانه وتعالى:

﴿نَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾

[آل عمرَان: 19]

،

﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ﴾

[الْمَائِدَة: 3]

،

﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾

[آل عمران: 85].

فأخبر أن الدِّينَ الذي رَضِيَه ويَقبلُه من عباده هو الإسلامُ، ولن يكون الدين في محلِّ القَبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل"[2].

قال ابن بطَّال  رحمه الله: "مذهَبُ جماعة أهل السُّنَّة من سَلَف الأمة وخَلَفها أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويَزيد ويَنقُص"[3].

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ  رحمه الله: "والصحيح أنها مُنحصِرة في عِلم الله تعالى، وعِلم رسوله، وموجودة في الشريعة، مُفصَّلة فيها، غيرَ أن الشرع لم يوقِفْنا على أشخاص تلك الأبواب، ولا عَيَّن لنا عددَها، ولا كيفيَّة انقسامها، وذلك لا يضُرُّنا في علمنا بتفاصيل ما كُلِّفنا به من شريعتنا، ولا في عملنا؛ إذ كل ذلك مفصَّل مُبيَّن في جملة الشريعة، فما أُمِرنا بالعمل به عَمِلناه، وما نُهينا عنه انتهَيْنا، وإن لم نُحِطْ بحصر أعداد ذلك، والله تعالى أعلم"[4].

قال ابن عبد البرِّ  رحمه الله: "للإيمان أصولٌ وفروعٌ؛ فمن أصوله: الإقرارُ باللسان مع اعتقاد القلب بما نطق به اللسانُ من الشهادة بأنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وأنَّ كلَّ ما جاء به عن ربِّه حقٌّ من البعث بعد الموت، والإيمان بملائكة الله، وكتبه، ورسله، وكل ما أحكمه الله في كتابه، ونقلَتْه الكافَّةُ عن النبيِّ من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحجِّ، وسائر الفرائض.

وبعد هذا فكلُّ عملٍ صالحٍ فهو من فروع الإيمان؛ فبرُّ الوالِدَين من الإيمان، وأداءُ الأمانة من الإيمان، وحُسنُ العهد من الإيمان، وحُسنُ الجِوار من الإيمان، وتوقيرُ الكبير من الإيمان، ورحمةُ الصغير، حتى إطعامُ الطعام وإفشاءُ السلام من الإيمان، فهذه الفروعُ مَن ترَك شيئًا منها لم يكُن ناقصَ الإيمان بتركها كما يكون ناقصَ الإيمان بارتكاب الكبائر، وترك عمل الفرائض"[5].

قال ابن تيميَّة  رحمه الله: "وَأَجْمَعَ السَّلَفُ أن الإيمانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَزِيدُ وينقُص، ومعنى ذلك: أنه قولُ القلب، وَعَمَلُ القلب، ثم قولُ اللسان، وعَمَلُ الجوارح. فأمَّا قَوْلُ القلب، فهو التصديق الجازِمُ باللَّه وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخِرِ، ويَدخُل فيه الإيمانُ بكلِّ ما جاء به الرسولُ "[6].

قال الزمخشريُّ  رحمه الله: "وَأما الْأَذَى فِي قَوْله: «الْإِيمَان نَيِّف وَسَبْعُونَ دَرَجَة، أدناها إمَاطَة الْأَذَى عَن الطَّرِيق»، فَهُوَ الشَّوك، وَالْحجر، وكلُّ مَا يُؤْذِي المسالك"[7].

قال ابن القيم  رحمه الله: "ثمَّ تَأمل هَذَا الْخُلق الَّذِي خصَّ بِهِ الإنسان دون جَمِيع الْحَيَوَان، وَهُوَ خُلق الْحيَاء، الَّذِي هُوَ من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ بل هُوَ خَاصَّة الإنسانية، فَمن لَا حَيَاءَ فِيهِ، لَيْسَ  مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم، وصورتهم الظَّاهِرَة، كَمَا أنه لَيْسَ مَعَه من الْخَيْر شَيْء، وَلَوْلَا هذا الخُلقُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يقْض لأحَدٍ حَاجَة، وَلَا تحرَّى الرجل الْجَمِيل، فآثره، والقبيح، فتجنَّبه، وَلَا ستر لَهُ عَورَة، وَلَا امْتنع من فَاحِشَة، وَكثير من النَّاس لَوْلَا الْحيَاءُ الَّذِي فِيهِ، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترضة عَلَيْهِ، وَلم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، وَلم يصل لَهُ رحمًا، وَلَا برَّ لَهُ والدًا؛ فَإِن الْبَاعِث على هَذِه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وَهُوَ رَجَاء عَاقبَتهَا الحميدة، وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وَهُوَ حَيَاء فاعلها من الْخَلق، قد تبيَّن أنه لَوْلَا الْحيَاءُ إِمَّا من الْخَالِق اَوْ من الْخَلَائق لم يَفْعَلهَا صَاحبها"[8].

قال ابن رجب  رحمه الله: "والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[9].

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ  رحمه الله: "وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[10]"[11].

المراجع

  1. انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 312).
  2. "شرح السنة" للبغويِّ (1/ 10).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطّال (1/ 56).
  4. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 217).
  5. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 282).
  6. "مجموع الفتاوى" (7/ 672).
  7. "الفائق في غريب الحديث" للزمخشريِّ (1/ 32).
  8. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
  9. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
  10. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
  11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).


غريب الحديث

حاكَ: أَي: أَثَّرَ في النفْس، وأَخذ في القلب[1].

المراجع

  1. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (10/ 419).
المعنى الإجماليُّ للحديث

قال النَّوَّاسُ بن سَمْعانَ رضي الله عنه : (سألتُ رسولَ الله عن البِرِّ والإثمِ)؛ أي: سألته عن ماهيَّة البِرِّ والإثم وعلاماتِهما. فقال : «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقِ»؛ أي: البرُّ هو حُسن الخُلق. «والإِثْمُ ما حاكَ في صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ»؛ أي: والإثم هو الأمرُ الذي يؤثِّر في نفسك، ويَحصُل في القلب منه شكٌّ وخوفٌ أن يكون ذنْبًا، وتَكرَه أن يَعرِف الناس أنك تفعله.

الشرح المفصَّل للحديث

كان الصحابة الكرام ﭫ أحرَصَ الناس على معرفة أبواب الخير، وأكثرَهم اجتهادًا في طريقه، ومِن ثَمَّ كانوا يَسألون رسولَ الله ﷺ عن كلِّ ما يوصِّلهم إليه.

وفي هذا الحديث يُخبر الصحابيُّ النَّوَّاسُ بنُ سَمْعانَ رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ عن البرِّ والإثم؛ أي: سأله عن ماهيَّة البِرِّ والإثم وعلاماتِهما؛ "أي: عما يَبَرُّ فاعلُه فيَلحَق بالأبرار، وهم المطيعون لله تعالى، وعمَّا يأثم فاعلُه، فيَلحَق بالآثمين"[1].

والبِرُّ في أصله "هو كلمة جامعةٌ لجميع أفعال الخير وخِصال المعروف"[2]، و"البِرُّ يُطلَق باعتبارين؛ أحدُهما: باعتبار معامَلة الخَلق بالإحسان إليهم، وربما خُصَّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: بِرُّ الوالدين، ويُطلَق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلق عمومًا.

والمعنى الثاني من معنى البِرِّ: أن يُراد به فِعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة؛ كقوله تعالى:

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾

[البقرة: 177]"[3].

وأما الإثمُ "فهو كلمةٌ جامعةٌ لجميع أفعال الشرِّ والقبائح، كبيرِها وصغيرها"[4]، وهو اسمٌ للمعصية والذنب، ومخالَفة أمر الله عزَّ وجلَّ[5]. 

وقد أجاب النبيُّ ﷺ بجوابٍ بيِّنٍ شافٍ جامعٍ من جوامع كلامه ﷺ، فقال عن البِرِّ: «البِرُّ حُسنُ الخُلُقِ»، فبيَّن ﷺ أن البِرَّ هو حُسن الخُلق، و"حُسن الخُلق أعظم خِصال البِرِّ، ويعني بحُسن الخُلق: الإنصافَ في المعامَلة، والرِّفق في المجادَلة، والعدل في الأحكام، والبذل، والإحسان"[6]، أو أن حُسن الخلُق يشمَل كلَّ خصال الخير والطاعة؛ فـ"البِرُّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللُّطف، والْمَبَرَّة، وحُسن الصُّحبة والعِشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامعُ حُسن الخلُق"[7].

والمراد بحُسن الخُلق: "أي: حُسن الخُلق مع الله، وحُسن الخُلق مع عباد الله، فأما حُسن الخُلق مع الله، فأن تتلقَّى أحكامَه الشرعيةَ بالرضا والتسليم، وألَّا يكون في نفْسك حرجٌ منها، ولا تَضِيقَ بها ذَرْعًا، فإذا أمرك الله بالصلاة، والزكاة، والصيام وغيرها، فإنكَ تُقابل هذا بصَدر مُنشرِح. وأيضًا حُسن الخُلق مع الله في أحكامه القدَرية؛ فالإنسان ليس دائمًا مسرورًا حيث يأتيه ما يُحْزنه في ماله، أو في أهله، أو في نفْسه، أو في مجتمَعه، والذي قدَّر ذلك هو اللهُ عزَّ وجلَّ، فتكون حَسنَ الخُلق مع الله، وتقوم بما أُمِرْتَ به، وتَنزجر عمَّا نُهِيتَ عنه. أما حُسن الخُلق مع الناس، فهو: بَذْل النَّدى، وكفُّ الأذى، والصبر على الأذى، وطَلاقة الوجه"[8].

وأما الإثمُ فقال عنه ﷺ: «والإِثْمُ ما حاكَ في صَدرِكَ، وَكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ»، يضَع النبيُّ ﷺ قاعدةً نَبَوِيَّةً عظيمةً لمعرفة علامة الإثم إذا لم يكنْ هناكَ نصٌّ صريحٌ، أو نقلٌ صحيحٌ، واشتبه الأمرُ، والتَبَس الحُكم.

وفي معنى «ما حاكَ في صَدرِكَ»؛ "أي: تحرَّك فيه القلب وتردَّد، ولم ينشرحْ له الصدرُ، وحصل في القلب منه الشكُّ، وخوفُ كونِه ذنْبًا"[9]، و"المراد: ما أثَّر في القلب ضِيقًا وحرَجًا، ونُفورًا وكَراهةً"[10]، فما حاك في الصدر فهو من الإثم، وذلك كما في رواية الحسنِ بنِ عليٍّ ﭭ قال: حفظتُ من رسول الله ﷺ: «دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ»[11].

وبيَّن ﷺ من علامات الإثم أيضًا: أن فاعله يَكره اطِّلاعَ الناس عليه، فقال: «وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ»، وفي هذا المعنى إشارةٌ إلى أن الإثم عند الناس مُستَنكَر، بحيث يُنكِرونه عند اطِّلاعهم عليه. لذا؛ فإن صاحبه يَكره اطِّلاعَ الناس عليه فيه، وهذا أعْلى مراتب معرفة الإثم عند الاشتباه، وهو ما استنْكَره الناس على فاعله وغير فاعله، ومن هذا المعنى قولُ ابن مسعود: "ما رآه المؤمنون حَسنًا، فهو عند الله حَسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيحٌ"[12].

وجديرٌ بالذكْر هنا أن القَلْب المراد هو القلبُ العامر بالعلم والإيمان، "وإنما أحاله النبيُّ ﷺ على هذا الإدراك القلبيِّ؛ لِما عَلِم من جَودة فَهْمه، وحُسن قَريحته، وتَنْوير قلبه، وأنه يُدرك ذلك من نفْسه. وهذا الجوابُ لا يَصلُح لغليظ الطَّبع، قليلِ الفَهْم، فإذا سأل عن ذلك مَن قلَّ فَهْمُه، فُصِّلت له الأوامرُ والنواهي الشرعية"[13].

"وهذه الجملةُ لِمَن كان قلبُه صافيًا سليمًا؛ فهذا هو الذي يَحيك في نفْسِه ما كان إثمًا، ويَكره أن يطَّلِع عليه الناس، أما المتمرِّدون الخارجون عن طاعة الله، الذين قسَت قلوبهم، فهؤلاء لا‌ يُبالون؛ بل ربما يَتبجَّحون بفِعل المنكَر والإثم؛ فالكلام هنا ليس عامًّا لكل أحد؛ بل هو خاصٌّ لِمَن كان قلبُه سليمًا طاهرًا نقيًّا؛ فإنه إذا همَّ بإثم - وإن لم يعلم أنه إثمٌ من قِبَل الشرع - تَجِدُه متردِّدًا، يكرَه أن يَطَّلِعَ الناسُ عليه، وهذا أمارةٌ وليس بقاعدة؛ أي: علامةٌ على الإثم في قلب المؤمن"[14].

وهذا البيان من رسول الله ﷺ لمعنى البِرِّ والإثم "يدُلُّ على أن اللهَ فطَر عِباده على معرفة الحقِّ والسكون إليه وقَبوله، ورَكَز في الطِّباع محبةَ ذلك والنفور من ضدِّه...، فهذا يدُلُّ على أن الحقَّ والباطل لا يَلتبس أمرُهما على المؤمن البصير؛ بل يَعرِف الحقَّ بالنُّور الذي عليه، فيَقبَله قلبُه، ويَنفِر عن الباطل، فيُنكِره ولا يَعرفه. ومن هذا المعنى قولُ النبيِّ ﷺ:

«سيكون في آخِرِ أمتي أُناس يحدِّثونكم ما لم تَسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإيَّاكم وإيَّاهم»

[15]

يعني: أنهم يأتون بما تَستَنكِره قلوبُ المؤمنين، ولا تَعرِفه، وفي قوله: «أنتم ولا آباؤكم» إشارةٌ إلى أن ما استقرَّت معرفتُه عند المؤمنين مع تقادُم العهد، وتطاوُل الزمان، فهو الحقُّ، وأن ما أُحدِث بعد ذلك مما يُستَنكَر فلا خيرَ فيه"[16].

المراجع

  1. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 522).
  2. "الفتح المبين بشرح الأربعين" لابن حجَرٍ الهيتميِّ (ص: 462).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 98- 99).
  4. "الفتح المبين بشرح الأربعين" لابن حجرٍ الهيْتَميِّ (ص: 462).
  5. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (8/ 3178).
  6. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
  8. "شرح الأربعين النووية" لابن عُثيمين (ص: 268).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
  10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحَنْبليِّ (2/ 99).
  11. رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)، وقال الترمذيُّ: حديث صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 637).
  12. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحنبليِّ (2/ 101).
  13. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
  14. "شرح الأربعين النووية" لابن عُثَيمين (ص: 268).
  15. رواه مسلم (6).
  16. "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحنبليِّ (2/ 101).


النقول

قال ابن القيم رحمه الله: "الدين كلُّه خُلُقٌ، فمن زاد عليك في الخُلق، زاد عليك في الدين"[1].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "أي: عما يَبَرُّ فاعلُه فيَلحَق بالأبرار، وهم المطيعون لله تعالى، وعمَّا يأثم فاعلُه، فيَلحَق بالآثمين"[2].

قال ابن رجبٍ رحمه الله: "البِرُّ يُطلَق باعتبارين؛ أحدُهما: باعتبار معامَلة الخَلق بالإحسان إليهم، وربما خُصَّ بالإحسان إلى الوالدين، فيقال: بِرُّ الوالدين، ويُطلَق كثيرًا على الإحسان إلى الخَلق عمومًا.

والمعنى الثاني من معنى البِرِّ: أن يُراد به فِعلُ جميع الطاعات الظاهرة والباطنة؛ كقوله تعالى:

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾

[البقرة: 177]"[3].

قال ابن القيم رحمه الله: "فقابَلَ البِرَّ بالإثم، وأخبر أن البرَّ حُسْنُ الخُلق، والإثمَ: حَوازُّ الصدور، وهذا يدلُّ على أن حُسن الخُلق: هو الدين كلُّه، وهو حقائق الإيمان، وشرائع الإسلام؛ ولهذا قابَله بالإثم. وفي حديث آخر:

«البرُّ ما اطمأنَّت إليه النفس، والإثمُ ما حاك في الصدر»

[4]

وقد فسَّر حُسن الخُلق بأنه البرُّ، فدلَّ على أن حُسن الخلق: طمأنينةُ النفس والقلب، والإثم حَوَازُّ الصدور وما حاك فيها واسترابت به، وهذا غيرُ حُسن الخُلق وسوئه في عُرف كثير من الناس كما سيأتي في الصحيحين عن رسول الله ﷺ: «خيارُكم أحاسنُكم أخلاقًا»[5]،

وفي الترمذيِّ عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ:

«ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلق، وإن الله تعالى ليُبغِضُ الفاحشَ البذيء»

[6]

قال الترمذيُّ: حديث حسن صحيح. وفيه أيضًا وصحَّحه عن أبي هريرة رضي الله عنه:

أن رسول الله ﷺ سُئل عن أكثرِ ما يُدخل الناسَ الجنَّةَ، فقال: «تقوى الله وحُسن الخُلق»

وسُئل عن أكثرِ ما يُدخل الناس النار، فقال: «الفَمُ والفَرْجُ»[7] وفيه أيضًا عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ ﷺ وصحَّحه: «إن من أكمل المؤمنين إيمانا: أحسنَهم خُلقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»[8]

قال القرطبيُّ رحمه الله: "إن حُسن الخُلق أعظم خِصال البِرِّ، ويعني بحُسن الخُلق: الإنصافَ في المعامَلة، والرِّفق في المجادَلة، والعدل في الأحكام، والبذل، والإحسان"[9].

قال النوويُّ رحمه الله: "البِرُّ يكون بمعنى الصلة، وبمعنى اللُّطف، والْمَبَرَّة، وحُسن الصحبة والعِشرة، وبمعنى الطاعة، وهذه الأمور هي مجامعُ حُسن الخلُق"[10].

قال ابن عُثَيمين رحمه الله: «أي: حُسن الخُلق مع الله، وحُسن الخُلق مع عباد الله، فأما حُسن الخُلق مع الله، فأن تتلقَّى أحكامَه الشرعيةَ بالرضا والتسليم، وألَّا يكون في نفْسك حرجٌ منها، ولا تَضِيقَ بها ذَرْعًا، فإذا أمرك الله بالصلاة، والزكاة، والصيام وغيرها، فإنكَ تُقابل هذا بصَدر مُنشرِح. وأيضًا حُسن الخُلق مع الله في أحكامه القدَرية؛ فالإنسان ليس دائمًا مسرورًا حيث يأتيه ما يُحْزنه في ماله، أو في أهله، أو في نفْسه، أو في مجتمعه، والذي قدَّر ذلك هو اللهُ عزَّ وجلَّ، فتكون حَسنَ الخُلق مع الله، وتقوم بما أُمِرْتَ به، وتَنزجر عمَّا نُهِيتَ عنه. أما حُسن الخُلق مع الناس، فهو: بَذْل النَّدى، وكفُّ الأذى، والصبر على الأذى، وطَلاقة الوجه"[11].

قال النوويُّ رحمه الله: " ومعنى حَاكَ في صدرك؛ أي: تحرَّك فيه القلب وتردَّد، ولم ينشرحْ له الصدرُ، وحصل في القلب منه الشكُّ، وخوفُ كونِه ذنْبًا"[12].

قال ابن رجب رحمه الله: "المراد: ما أثَّر في القلب ضِيقًا وحرَجًا، ونُفورًا وكَراهةً"[13].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد قيل: إن حُسن الخُلق بذلُ النَّدى، وكفُّ الأذى، واحتمال الأذى. وقيل: حُسن الخُلق: بذل الجميل، وكفُّ القبيح، وقيل: التخلِّي من الرذائل، والتحلِّي بالفضائل"[14].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "وإنما أحاله النبيُّ ﷺ على هذا الإدراك القلبيِّ؛ لِما عَلِم من جَودة فَهْمه، وحُسن قَريحته، وتَنْوير قلبه، وأنه يُدرك ذلك من نفْسه. وهذا الجوابُ لا يَصلُح لغليظ الطَّبع، قليلِ الفَهْم، فإذا سأل عن ذلك مَن قلَّ فَهْمُه، فُصِّلت له الأوامرُ والنواهي الشرعية"[15].

قال ابن عُثيمين رحمه الله: "وهذه الجملةُ لِمَن كان قلبُه صافيًا سليمًا؛ فهذا هو الذي يَحيك في نفْسِه ما كان إثمًا، ويَكره أن يطَّلِع عليه الناس، أما المتمرِّدون الخارجون عن طاعة الله، الذين قسَت قلوبهم، فهؤلاء لا‌ يُبالون؛ بل ربما يَتبجَّحون بفِعل المنكَر والإثم؛ فالكلام هنا ليس عامًّا لكل أحد؛ بل هو خاصٌّ لِمَن كان قلبُه سليمًا طاهرًا نقيًّا؛ فإنه إذا همَّ بإثم - وإن لم يعلم أنه إثمٌ من قِبَل الشرع - تَجِدُه متردِّدًا، يكرَه أن يَطَّلِعَ الناسُ عليه، وهذا أمارةٌ وليس بقاعدة؛ أي: علامةٌ على الإثم في قلب المؤمن"[16].

قال ابن القيم رحمه الله: "وحُسن الخُلق يقوم على أربعة أركان، لا يُتصوَّر قيام ساقه إلا عليها: الصبرِ والعفَّة والشجاعة والعدل؛ فالصبر: يَحمِله على الاحتمال، وكَظْمِ الغَيظ، وكفِّ الأذى، والحلم والأناة والرفق، وعدم الطَّيش والعَجَلة. والعفَّة: تَحمِله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتَحمِله على الحياء، وهو رأس كلِّ خير، وتمنعه من الفحشاء والبُخل والكَذب والغِيبة والنميمة. والشجاعة: تَحمِله على عزَّة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشِّيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعةُ النفس وقوَّتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتَحمِله على كظم الغيظ والحِلم؛ فإنه بقوَّة نفسه وشجاعتها يُمْسِكُ عِنَانَهَا، وَيَكْبَحُهَا بِلِجَامِهَا عَنِ النَّزْغِ وَالْبَطْش؛ كما قال النبيُّ صلي الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»، وهو حقيقة الشجاعة، وهي مَلَكة يقتدر بها العبد على قهر خَصمه. والعدل: يَحمِله على اعتدال أخلاقه وتوسُّطه فيها بين طرفَيِ الإفراط والتفريط، فيَحمِله على خُلق الجود والسخاء الذي هو توسُّط بين الذُّلِّ والقِحَة، وعلى خُلق الشجاعة الذي هو توسُّط بين الجُبن والتهوُّر، وعلى خُلق الحِلم الذي هو توسُّط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة"[17].

المراجع

  1. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (6/ 522).
  3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 98- 99).
  4. رواه أحمد (18006)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1734)
  5. رواه البخاريُّ (6035)، ومسلم (68).
  6. رواه الترمذيُّ (2002)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2641).
  7. رواه الترمذيُّ (2004)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1723).
  8. رواه الترمذيُّ (1162)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1923).
  9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
  11. "شرح الأربعين النووية" لابن عُثيمين (ص: 268).
  12. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 111).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجبٍ الحَنْبليِّ (2/ 99).
  14. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 307).
  15. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 523).
  16. "شرح الأربعين النووية" لابن عُثَيمين (ص: 268).
  17. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 308).

سبب الحديث:

اشْتَهَرَ أَنَّ سَبَبَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «مَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا»: أن رجلاً خَطَبَ امرأة يقال لها: أَمُّ قَيْسٍ، فَأَبَتْ أن تتزوَّجه حتى يُهاجِرَ، فهاجر، فتزوَّجته، فكانوا يسمُّونه (مُهَاجِرَ أَمِّ قَيْسٍ) [1].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 74).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ عن رَسُولُ اللهِ ﷺ أنه قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ أي: الأعمال لا يُعتدُّ بها ولا تصحُّ شرعًا إلا بنيَّة. «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى»؛ أي: إنه لا يَحْصُلُ للمرء مِنْ عَمَله إلَّا مَا نَوَاه به، فَإِنْ نَوَى خَيْرًا، حصل له خيرٌ، وَإِن نَوَى به شَرًّا، حَصَلَ له شَرٌّ. «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ أي: مَن قصد بهجرته من دار الكفر أو الخوف إلى دار الإسلام أو الأمن وجهَ الله، وقَع أجرُه على الله، ومن قَصَد بهجرته مَكسَبًا دنيويًّا؛ كالزواج بامرأة، فلا أجرَ له عند الله.

الشرح المفصَّل للحديث:

بيَّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الأعمال إنما يرتفع شأنها ويَعظُم أجرها بالنيَّة، فقال : «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ أي: إن ثوابها وفضلَها يعود إلى نيَّة صالحة وإرادة صادقة، والمراد بالأعمال هنا: "أعمالُ الجوارح كلُّها، حتى تَدخُل في ذلك الأقوال؛ فإنها من عَمَل اللسان، وهو من الجوارح"، فالأعمالُ مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالنيَّات، فلا يغترَّ إنسانٌ بحُسن علانيَته مع سوء سَريرته؛ فإنما يثاب الإنسان بنيَّته، "والنيَّة في اللغة: نوعٌ من القصد والإرادة، وفي كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدهما: بمعنى تمييز العبادات بعضِها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصـر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغُسل من الجنابة من غُسل التبرُّد والتنظُّف، ونحو ذلك، والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أم غيره، أم اللهُ وغيره"[1]، ولربما كانت نيَّةُ الْمَرْءِ خيرًا من عَمَله، ويَشهَد لذلك حديث النبيِّ ﷺ:

«مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ، يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا، وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ »، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ.....»[2]

فهذا رجلٌ لم يَبذُل جهدًا أو يقدِّم عملًا، أثابه الله عزَّ وجلَّ بنيَّته، ورفع أجره إلى مرتبة العاملين المنفِقين؛ فـ"رُبَّ عمل صغير تُعظّمه النية، ورُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية"[3]، فالأمر المعوَّل عليه في الأعمال كلِّها هو النيَّة، وأشار النبيُّ ﷺ إلى هذا المعنى بقوله:

«إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»

[4]؛

فالله تعالى إنما يَنظُر إلى القلوب؛ لأنها مَظِنَّة النيَّة. وأكثرُ من ذلك، فإن الإنسان يُضاعَفُ أجرُه وثوابُه على قدر نيَّاته، فمن دَخَل إلى مسجد يريد الصلاة ونَوَى بدخوله انتظارَ الصلاة واعتكافًا في المسجد، وذِكْرَ اللهَ، وكفَّ جوارِحِه عن المعاصي، وخَلْوةً مع الله - فإنه يُثاب على هذه النيَّات كلِّها، وأكَّد النبيُّ ﷺ هذا المعنى بقوله: «وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى» تأكيدًا لما قبله، وأن المرء يؤجَر بنيَّته، وليس في هذه الجملة تكريرٌ لما سبق من قوله ﷺ: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»؛ بل مُفاد الأولى: أن صلاح الأعمال وقَبولها متوقِّف على النيَّة، ومُفادُ الثانية: أن ثواب العبد وعقابه بحسب نيَّته، صالحةً كانت أو فاسدة.

ثم ضرب النبيُّ ﷺ مثالاً على ذلك فقال: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِـهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»؛ أي: مَن قصد بهجرته من مكَّةَ إلى المدينة المنوَّرة وجهَ الله، وقَع أجرُه على الله، ومن قَصَد بهجرته مَكسَبًا دنيويًّا، أو الزواج بامرأة، فهي حظُّه ومكسبُه، ولا َنصيبَ له في الآخرة.

"والهجرةُ بمعنى الترك والهجرةِ إلى الشـيء: الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشـرع: تركُ ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا"[5].

فالإنسان قد يجتهد ويَبذُل كثيرًا من المشقَّة يَقصِد بذلك غيرَ وجه الله، فيكون عمله محبَطًا، وسببًا في هلاكه؛ فرُبَّ عمل صالح أُريد به ثناءُ الناس واستحسانهم لعمله كان سببًا في هلاك صاحبه ودخوله النار؛

ففي الحديث أن رَسُولَ ﷺ قال:

«إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَـى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[6]

فهذه الخصال من أفضل الأعمال وأعظمِها ثوابًا وأحبِّها إلى الله، ومع ذلك أَدخَلت صاحبها النار

قَالَ ﷺ:

«مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

يَعْنِي رِيحَهَا[7]، والسبب في هذا الوعيدِ الشديد: أن الله عزَّ وجلَّ غنيٌّ عن مثل هذه الأعمال التي يُشرَك فيها مع الله غيرُه

وفي الحديث القدسيِّ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ»[8]

فالله عزَّ وجلَّ لا يَقبَل من العمل إلا ما أُريد به وجهُه، فـ"قولوا لمن لم يكن صادقًا لا تتعب"[9].

ولِعَظم أمر النيَّة وخطورتها؛ فإنها تحتاج إلى مِران وتعلُّم؛ ولهذا رُوي عن السَّلف أنهم كانوا لا يعملون ولا يقولون حتى تتقدَّم النيَّة وتصحُّ[10]، فالواجب على المؤمن أن يدرِّب نفسه على تصحيح النيَّة في أعماله، وأن يَصبِر على المشاقِّ التي تواجهه في سبيل تحصيل ذلك؛ فالأمر ليس بالهيِّن اليسير؛ بل يحتاج إلى صبر وتصبُّر، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يتعهَّدون قلوبهم حتى يُخلصوا نيَّاتِهم؛ "كانوا يتعلَّمون النيَّة للعمل كما تتعلَّمون العمل"[11]، فلو صَلَحت نيَّة المرء، أعانه الله تعالى على عمله، حتى وإن لم يتيسَّـر له أسبابه.

فـ"اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النيَّة، فمن تمَّت نيَّته، تمَّ عَوْنُ الله له، وإن نَقَصت نَقَص بقَدْرِه"[12].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/66).
  2. رواه أحمد (18024)، وابن ماجه (4228)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (16).
  3. هذا قول عبدالله بن المبارك. انظر: "البحر المحيط الثجاج" للولوي (32/606).
  4. رواه مسلم (2564).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
  6. رواه مسلم (1905).
  7. رواه أحمد (8457)، وأبو داود (3664)، وابن ماجه (252)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (105).
  8. رواه مسلم (2985).
  9. "تلبيس إبليس" لابن الجوزيِّ (137).
  10. "صيد الخاطر" لابن الجوزيِّ (481).
  11. "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).
  12. "إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزاليِّ (4/364).


النقول:

1. قال ابن تيمية رحمه الله: "هذا حديث صحيح متَّفَقٌ على صحَّته، تلقَّته الأمَّة بالقَبول والتَّصديق مع أنّه من غرائب الصَّحيح؛ فإنّه وإن كان قد رُوِي عن النّبيِّ ﷺ من طرق متعدِّدة كما جمعها ابن منده وغيرُه من الحفَّاظ، فأهل الحديث متَّفقون على أنّه لا يصحُّ منها إلّا من طريق عمرَ بنِ الخطَّاب هذه المذكورةِ، ولم يَرْوه عنه إلَّا علقمةُ بنُ وقَّاص الليثيُّ، ولا عن علقمةَ إلّا محمّدُ بنُ إبراهيمَ، ولا عن محمّدٍ إلّا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ قاضي المدينة، ورواه عن يحيى بنِ سعيد أئمَّة الإسلام. يُقال: إنَّه روى هذا الحديث عن يحيى بنِ سعيدٍ نحوٌ من مِائتَيْ عالم مثلِ مالك، والثّوريِّ، وابن عُيَيْنةَ، وحمَّاد، وعبد الوهَّاب الثَّقَفيِّ، وأبي خالدٍ الأحمر، وزائدةَ، ويحيى بنِ سعيدٍ القطَّان، ويزيدَ بنِ هارونَ، وغيرُ هؤلاء خَلْقٌ من أهل مكَّةَ والمدينة والكوفة والبصرة والشّام وغيرها من شيوخ الشّافعيِّ وأحمدَ وإسحاقَ وطبقتهم، ويحيى بنِ مَعين، وعليِّ بنِ المدينيِّ، وأبي عُبيد[1].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا حديث صحيح متَّفَقٌ على صحته وعظيم موقعه، وجلالته وكثرة فوائده، رواه الإمام أبو عبد الله البخاريُّ في غير موضع من كتابه، ورواه أبو الحُسين مسلمُ بنُ الحجَّاج في آخِر كتاب الجهاد، وهو أحد الأحاديث التي عليها مَدَارُ الإسلام، قال الإمام أحمدُ والشافعيُّ رحمهما الله: يدخل في حديث (الأعمال بالنيات) ثُلث العلم. قاله البيهقيُّ وغيره؛ وسببُ ذلك أن كسب العبد يكون بقلبه ولسانه وجوارحه، والنيَّة أحد الأقسام الثلاثة. ورُوي عن الشافعيِّ رضي الله تعالى عنه أن قال: يَدخُل هذا الحديثُ في سبعين بابًا من الفقه. وقال جماعة من العلماء: هذا الحديث ثُلث الإسلام.

واستحبَّ العلماء أن تُستفتَح المصنَّفات بهذا الحديث، وممن ابتدأ به في أول كتابه: الإمام أبو عبد الله البخاريُّ. وقال عبد الرحمن بن مهديٍّ: ينبغي لكلِّ من صنَّف كتابًا أن يبتدئ فيه بهذا الحديث؛ تنبيهًا للطالب على تصحيح النيَّة.

وهذا حديث مشهور بالنسبة إلى آخره، غريبٌ بالنسبة إلى أوَّله؛ لأنه لم يَرْوِه عن النبيِّ ﷺ إلا عمرُ بنُ الخطَّاب - رضي الله عنه - ولم يَرْوِه عن عمرَ إلا علقمةُ بنُ أبي وقَّاص، ولم يَروِه عن علقمةَ إلا محمدُ بنُ إبراهيمَ التيميُّ، ولم يَروِه عن محمدِ بنِ إبراهيمَ إلا يحيى بنُ سعيدٍ الأنصاريُّ، ثم اشتَهَر بعد ذلك، فرواه عنه أكثرُ من مِائتي إنسان، أكثرُهم أئمَّةٌ"[2].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ولفظ (النّيَّة) يُراد بها النّوع من المصدر، ويُراد بها الْمَنْويُّ (اسم المفعول)، واستعمالها في هذا لعلَّه أغلب في كلام العرب، فيكون المراد: إنّما الأعمال بحسب ما نواه العامل؛ أي: بحسب منويِّه؛ ولهذا قال في تمامه: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، فذَكَر ما ينويه العامل ويُريده بعمله، وهو الغاية المطلوبة له؛ فإنّ كلَّ متحرِّك بالإرادة لا بدَّ له من مراد"[3].

قال ابن رجب رحمه الله: "وبهذا يُعْلَمُ معنى ما رَوى الإمامُ أَحْمَدُ أَنَّ أُصُولَ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةُ أَحَادِيثَ: حَدِيثُ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، وَحَدِيثُ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ،»، وَحَدِيثُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ»؛ فَإِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ يَرْجِعُ إلى فِعل المأمورات، وَتَرْكِ المحظورات، وَالتَّوَقُّفِ عن الشُّبُهَاتِ، وهذا كُلُّهُ تَضَمَّنَهُ حَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.

وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذلك بأمرين: أحدُهما: أن يكون العملُ في ظاهره على مُوَافَقَةِ السُّنّة، وهذا هو الذي تَضَمَّنَهُ حديثُ عائشةَ: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ»، والثاني: أن يكون العملُ في باطنه يُقصَد به وجهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، كما تَضَمَّنه حديثُ عُمَرَ: «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّات»، وقال الفُضيل في قوله تعالى:

{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

[الملك: 2]

قال: أَخلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالصُ إذا كان للّه عزَّ وجلَّ، والصَّوابُ إذا كان على السُّنَّة... وَقَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: إِنَّمَا تَفَاضَلُوا بِالْإِرَادَاتِ، وَلَمْ يَتَفَاضَلُوا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ"[4].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الحديثُ من أَجمَع الكَلِم الجوامعِ الّتي بُعث بها ﷺ؛ فإنَّ كلَّ عمل يعمله عامل من خير وشرٍّ هو بحسَبِ ما نواه، فإن قَصَد بعمله مقصودًا حسنًا، كان له ذلك المقصود الحسَنُ، وإن قصد به مقصودًا سيِّئًا، كان له ما نَوَاه"[5].

قال ابن حجر رحمه الله: "والهجرةُ بمعنى الترك والهجرةِ إلى الشـيء: الانتقالُ إليه عن غيره، وفي الشـرع: تركُ ما نهى الله عنه، وقد وقعت في الإسلام على وجهين؛ الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن؛ كما في هجرتَيِ الحبشة وابتداء الهجرة من مكَّةَ إلى المدينة، والثاني: الهجرةُ من دار الكفر إلى دار الإيمان، وذلك بعد أن استقرَّ النبيُّ ﷺ بالمدينة وهاجر إليه مَن أَمكَنه ذلك من المسلمين، وكانت الهجرة إذ ذاك تختصُّ بالانتقال إلى المدينة، إلى أن فُتحت مكةُ، فانقطع الاختصاص، وبقيَ عموم الانتقال من دار الكفر لمن قَدَر عليه باقيًا"[6].

قال ابن تيمية رحمه الله: "ولفظُ (النّيّة) يجري في كلام العلماء على نوعين: فتارةً يريدون بها تمييز عمل من عمل، وعبادةٍ من عبادة، وتارةً يريدون بها تمييزَ معبود عن معبود، ومعمولٍ له عن معمول له. فالأوَّل كلامهم في النّيّة: هل هي شرطٌ في طهارة الأحداث؟ وهل تُشترط نيَّة التّعيين والتَّبْيِيت في الصّيام؟ وإذا نوى بطهارته ما يُستحَبُّ لها، هل تَجْزِيه عن الواجب؟ أو أنّه لا بدَّ في الصّلاة من نيَّة التّعيين؟ ونحو ذلك، والثّاني: كالتّمييز بين إخلاص العمل للّه وبين أهل الرّياء والسُّمعة"[7].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد اختُلف في تقدير قوله: «الأعمال بالنّيّات»، فكثير من المتأخّرين يزعم أنّ تقديره: الأعمالُ صحيحةٌ أو معتبَرة ومقبولة بالنّيَّات، وعلى هذا؛ فالأعمال إنّما أريد بها الأعمال الشّرعيّةُ المفتقِرة إلى النّيّة، فأمّا ما لا يَفتقِر إلى النّيّة؛ كالعادات من الأكل والشُّرب، واللُّبس وغيرها، أو مثل ردِّ الأمانات والمضمونات؛ كالودائع والغصوب، فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نيَّة، فيُخصُّ هذا كلُّه من عموم الأعمال المذكورة هاهنا.

وقال آخرون: بل الأعمالُ هاهنا على عُمومها، لا يُخصُّ منها شيء. وحكاه بعضهم عن الجمهور، وكأنّه يريد به جمهور المتقدِّمين، وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطّبريِّ، وأبي طالب المكّيِّ وغيرهما من المتقدِّمين، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد. قال في رواية حنبلٍ: أُحِبُّ لكلِّ مَن عَمِل عملًا من صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من أنواع البرِّ أن تكون النّيّةُ متقدِّمةً في ذلك قبل الفعل؛ قال النّبيُّ ﷺ: «الأعمال بالنّيّات»، فهذا يأتي على كلِّ أمر من الأمور.

وقال الفَضل بنُ زياد: سألتُ أبا عبد اللّه - يعني أحمدَ - عن النّيّة في العمل، قلت: كيف النّيّة؟ قال: يعالج نفسه، إذا أراد عملًا لا يريد به النّاس. وقال أحمدُ بنُ داودَ الحربيُّ: قال: حدَّث يَزيدُ بنُ هارونَ بحديث عمرَ: «الأعمال بالنّيّات»، وأحمدُ جالس، فقال أحمدُ ليزيدَ: يا أبا خالد، هذا الخِنَاق. وعلى هذا القول فقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعةٌ أو حاصلة بالنّيّات، فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختياريّة أنّها لا تقع إلّا عن قصد من العامل هو سببُ عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك: «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» إخبارًا عن حكم الشّرع، وهو أنّ حظَّ العامل من عمله نيَّته، فإن كانت صالحةً، فعمله صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدةً، فعمله فاسد، فعليه وِزره. ويُحتمل أن يكون التّقدير في قوله: «الأعمال بالنّيّات»: الأعمالُ صالحةٌ، أو فاسدة، أو مقبولة، أو مردودة، أو مُثاب عليها، أو غير مثاب عليها بالنّيّات، فيكون خبرًا عن حكم شرعيٍّ، وهو أنّ صلاح الأعمال وفسادها بحسب صلاح النّيّات وفسادها؛ كقوله: ﷺ «إنّما الأعمال بالخواتيم»؛ أي: إنّ صلاحها وفسادها وقبولها وعدمه بحسب الخاتمة. وقوله بعد ذلك: «وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» إخبار أنّه لا يحصل له من عمله إلّا ما نواه به، فإن نوى خيرًا حصل له خير، وإن نوى به شرًّا حصل له شرٌّ، وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولى؛ فإنّ الجملة الأولى دلّت على أنّ صلاح العمل وفساده بحسب النّيّة الْمُقتضية لإيجاده، والجملة الثّانية دلّت على أنّ ثواب العامل على عمله بحسب نيَّته الصّالحة، وأنّ عقابه عليه بحسب نيّته الفاسدة، وقد تكون نيّته مباحةً، فيكون العمل مباحًا، فلا يَحصُل له ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحه وفساده وإباحته بحسب النّيّة الحاملة عليه، المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النّيّة الّتي بها صار العمل صالحًا، أو فاسدًا، أو مباحًا"[8].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المؤِّلف: غرضُه في هذا الباب أيضًا الردُّ على من زعم من المرجئة أن الإيمان قول باللسان دون عقد بالقلب؛ ألا ترى أنه ﷺ لم يقتصر على قوله: «الأعمال بالنيات، ولكل امرئٍ ما نوى»، وإن كان ذلك كافيًا في البيان عن أن كلَّ ما لم تَصحَبْه نيَّة من الأعمال فهو ساقط غير معتدٍّ به، حتى أكَّد ذلك ببيان آخَرَ فقال: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه»[9].

قال ابن رجب رحمه الله: "واعلم أنّ النّيّة في اللّغة نوعٌ من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضعَ ذِكْرِه. والنّيّة في كلام العلماء تقع بمعنيين: أحدُهما: بمعنى تمييز العبادات بعضِها عن بعض؛ كتمييز صلاة الظُّهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضانَ من صيام غيره، أو تمييز العبادات من العادات؛ كتمييز الغُسل من الجنابة من غسل التّبرُّد والتّنظُّف، ونحو ذلك، وهذه النّيّة هي الّتي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم. والمعنى الثّاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو اللّه وحده لا شريك له، أم غيره، أم اللّه وغيره؟ وهذه النّيّة هي الّتي يتكلَّم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي الّتي توجد كثيرًا في كلام السَّلَف المتقدِّمين. وقد صنَّف أبو بكر بنُ أبي الدّنيا مصنَّفًا سمَّاه: كتاب "الإخلاص والنّيّة"، وإنّما أراد هذه النّيّة، وهي النّيّة الّتي يتكرَّر ذكرها في كلام النّبيِّ ﷺ تارةً بلفظ النّيّة، وتارةً بلفظ الإرادة، وتارةً بلفظ مقارب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب اللّه عزّ وجلّ بغير لفظ النّيّة أيضًا من الألفاظ المقاربة لها. وإنّما فرَّق من فرّق بين النّيّة وبين الإرادة والقصد ونحوهما؛ لظنّهم اختصاصَ النّيّة بالمعنى الأوّل الّذي يذكره الفقهاء، فمنهم من قال: النّيّة تختصُّ بفعل النّاوي، والإرادة لا تختصُّ بذلك، كما يريد الإنسان من اللّه أن يغفر له، ولا ينوي ذلك. وقد ذكرنا أنّ النّيّة في كلام النّبيِّ ﷺ وسلف الأمّة إنّما يُراد بها هذا المعنى الثّاني غالبًا، فهي حينئذ بمعنى الإرادة؛ ولذلك يعبَّر عنها بلفظ الإرادة في القرآن كثيرًا

كما في قوله تعالى:

{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}

[آل عمران: 152]

وقوله:

{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ}

[الأنفال: 67]

وقوله:

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} " [10].

[الشورى: 20]

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "ولفظةُ "إنما" للحصر، تُثبِت المذكورَ، وتنفي ما عداه، وهي تارةً تقتضي الحصرَ المطلَق، وتارة تقتضي حصرًا مخصوصًا، ويُفهم ذلك بالقرائن

كقوله تعالى:

{إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}

[الرعد: ٧]

فظاهره الحصرُ في النِّذارة، والرسول لا يَنحصِر في ذلك؛ بل له أوصافٌ كثيرة جميلة؛ كالبِشارة وغيرها

وكذلك قوله تعالى:

{إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}

[محمد: ٣٦]

فظاهرُه - والله أعلم – الحصرُ، باعتبار مَن آثَرَها، وأما بالنسبة إلى ما في نفس الأمر، فقد تكون سببًا إلى الخيرات، ويكون ذلك من باب التغليب، فإذا وردت هذه اللفظة، فاعتبرها، فإن دلَّ السياق والمقصودُ من الكلام الحصر في شيءٍ مخصوص، فقل به، وإلا فاحمل الحصر على الإطلاق، ومن هذا قوله ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات»، والمراد بالأعمال: الأعمالُ الشرعية. ومعناه: لا يُعتدُّ بالأعمال بدون النية؛ مثل الوضوء والغسل والتيمُّم، وكذلك الصلاةُ والزكاة والصوم والحجُّ والاعتكاف وسائر العبادات، فأما إزالة النجاسة، فلا تحتاج إلى نيَّة؛ لأنها من باب الترك، والتركُ لا يحتاج إلى نيَّة، وذهب جماعة إلى صحة الوضوء والغُسل بغير نيَّة. وفي قوله: «إنما الأعمال بالنيات» محذوفٌ، واختَلَف العلماء في تقديره، فالذين اشترطوا النيَّة قدَّروا: صحَّة الأعمال بالنيَّات، والذين لم يشترطوها قدَّروا: كمالُ الأعمال بالنيَّات. وقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى». قال الخطَّابيُّ: يُفيد معنًى خاصًّا غير الأول، وهو تعيين العمل بالنيَّة، وقال الشيخ محي الدين النوويُّ: فائدة ذكره أن تعيين المنويِّ شرطٌ، فلو كان على إنسان صلاة مَقضيَّة، لا يكفيه أن ينويَ الصلاة الفائتة؛ بل يُشترَط أن ينويَ كونَها ظُهرًا أو عصرًا أو غيرَهما، ولولا اللفظُ الثاني، لاقتضى الأوَّلُ صحة النيَّة بلا تعيين، أو أَوهَم ذلك، والله أعلم"[11]. 

قال ابن رجب رحمه الله: "وعن يَحْيَى بنِ أبي كَثِيرٍ، قال: تعلَّموا النّيَّة؛ فإنّها أبلغ من العمل. وعن زُبَيد الياميِّ، قال: إنّي لأحبُّ أن تكون لي نيّة في كلِّ شيء، حتّى في الطّعام والشّراب. وعنه أنّه قال: انوِ في كلّ شيء تريده الخير، حتّى خروجِك إلى الكُنَاسة. وعن داودَ الطّائيِّ، قال: رأيتُ الخير كلَّه إنّما يجمعه حُسن النّيّة، وكفاك بها خيرًا وإن لم تنصَب. قال داودُ: والبرُّ هِمَّة التَّقِيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدّنيا، لردَّته يومًا نيَّته إلى أصله. وعن سفيان الثّوريِّ، قال: ما عالجت شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنّها تنقلب عليَّ. وعن يوسفَ بنِ أسباطٍ، قال: تخليص النّيّة من فسادها أشدُّ على العاملين من طول الاجتهاد.

وعن مطرِّف بن عبد اللّه قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاحُ العمل بصلاح النّيَّة. وعن بعض السّلف قال: من سَرَّه أن يَكمُل له عملُه، فليُحسِنْ نيّته؛ فإنّ اللّه عزّ وجلَّ يَأجُر العبد إذا حَسُنت نيّته حتّى باللُّقْمة. وعن ابن المبارك، قال: رُبَّ عمل صغير تعظِّمه النّيّة، وربَّ عمل كبير تصغِّره النّيّة. وقال ابن عجلانَ: لا يصلح العمل إلّا بثلاث: التّقوى للّه، والنّيّة الحسنة، والإصابة. وقال الفُضيل بن عياض: إنّما يريد اللّه عزّ وجلّ منك نيّتك وإرادتك. وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثار اللّه عزّ وجلّ أفضلُ من القتل في سبيله. خرَّج ذلك كلّه ابن أبي الدّنيا في كتاب "الإخلاص والنّيّة". وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر رضي اللّه عنه، قال: أفضلُ الأعمال أداء ما افترض اللّه عزّ وجلّ، والورع عمَّا حرَّم اللّه عزّ وجلّ، وصِدق النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ"[12].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قال بعض شيوخنا: قوله: «إنما الأعمال بالنيات» يرجع إلى معنيين؛ أحدهما: تجريد العمل من الشرك بالله بخالص التوحيد، والآخر: تجريده بخالص السنَّة"[13].

قال ابن تيمية رحمه الله: " وقد اتَّفق العلماء على أنّ العبادة المقصودة لنفسها كالصّلاة والصّيام والحجِّ، لا تَصِحُّ إلّا بنيّة، وتنازعوا في الطّهارة"[14].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وقوله: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله»: المتقرِّر عند أهل العربية: أن الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بدَّ أن يتغايرا، وههنا قد وقع الاتِّحاد، وجوابُه: «فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله» نيَّةً وقصدًا، «فهجرتُه إلى الله ورسوله» حُكمًا وشرعًا"[15].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ ﷺ: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»: لَمّا ذَكَر ﷺ أنّ الأعمال بحسب النّيّات، وأنّ حظَّ العامل من عمله نيَّته من خير أو شرٍّ، وهاتان كلمتان جامعتان، وقاعدتان كلّيَّتان، لا يخرج عنهما شيء، ذكر بعد ذلك مثالًا من أمثال الأعمال الّتي صورتها واحدة، ويختلف صلاحها وفسادها باختلاف النّيّات، وكأنّه يقول: سائر الأعمال على حذو هذا المثال. وأصل الهجرة: هجران بلد الشِّرك، والانتقال منه إلى دار الإسلام، كما كان المهاجرون قبل فتح مكّة يهاجرون منها إلى مدينة النّبيِّ ﷺ، وقد هاجر من هاجر منهم قبل ذلك إلى أرض الحبشة إلى النّجاشيِّ، فأخبر ﷺ أنّ هذه الهجرة تختلف باختلاف النّيّات والمقاصد بها، فمن هاجر إلى دار الإسلام حبًّا للّه ورسوله، ورغبةً في تعلّم دين الإسلام، وإظهار دينه حيث كان يَعجِز عنه في دار الشّرك، فهذا هو المهاجر إلى اللّه ورسوله حقًّا، وكفاه شرفًا وفخرًا أنّه حصل له ما نواه من هجرته إلى اللّه ورسوله. ولهذا المعنى اقتصر في جواب هذا الشّرط على إعادته بلفظه؛ لأنّ حصول ما نواه بهجرته نهاية المطلوب في الدّنيا والآخرة. ومن كانت هجرته من دار الشّرك إلى دار الإسلام لطلب دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها في دار الإسلام، فهجرته إلى ما هاجر إليه من ذلك، فالأوّل تاجِر، والثّاني خاطِب، وليس واحد منهما بمهاجِر. وفي قوله: «إلى ما هاجر إليه» تحقير لما طلبه من أمر الدّنيا، واستهانة به، حيث لم يُذكَر بلفظه. وأيضًا فالهجرة إلى اللّه ورسوله واحدة فلا تعدُّد فيها؛ فلذلك أعاد الجواب فيها بلفظ الشّرط. والهجرة لأمور الدّنيا لا تنحصر، فقد يهاجر الإنسان لطلب دنيا مباحة تارةً، ومحرَّمة تارةً، وأفراد ما يقصد بالهجرة من أمور الدّنيا لا تنحصر؛ فلذلك قال: «فهجرته إلى ما هاجر إليه» يعني كائنًا ما كان"[16].

قال ابن تيمية رحمه الله: " والمعنى الّذي دلَّ عليه هذا الحديثُ أصلٌ عظيم من أصول الدّين؛ بل هو أصل كلِّ عمل؛ ولهذا قالوا: مَدَار الإسلام على ثلاثة أحاديثَ، فذكروه منها"[17].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد روى وكيعٌ في كتابه، عن الأعمش، عن شقيق - هو أبو وائل - قال: خطب أعرابيٌّ من الحيِّ امرأةً يقال لها: أمُّ قَيس، فأبت أن تزوَّجَه حتّى يهاجِر، فهاجَر، فتزوَّجته، فكنَّا نسمِّيه (مهاجر أمِّ قيس). قال: فقال عبد اللّه - يعني ابن مسعود -: من هاجَر يبتغي شيئًا، فهو له. وهذا السّياق يقتضي أنّ هذا لم يكن في عهد النّبيِّ ﷺ، إنّما كان في عهد ابن مسعود؛ ولكن رُوي من طريق سفيان الثّوريِّ، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأةً يقال لها: أمُّ قيس، فأبت أن تزوَّجه حتّى يهاجر، فهاجر، فتزوَّجها، فكنّا نسمِّيه (مهاجر أمِّ قيس). قال ابن مسعود: من هاجر لشيء فهو له. وقد اشتَهَر أنّ قصّة مهاجر أمِّ قيس هي كانت سببَ قول النّبيِّ ﷺ: «من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها،» وذكر ذلك كثير من المتأخِّرين في كتبهم، ولم نرَ لذلك أصلًا بإسناد يصحُّ، واللّه أعلم"[18].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد تنازَعَ النّاس في قوله ﷺ: «إنّما الأعمال بالنّيّات»: هل فيه إضمارٌ أو تخصيص؟ أو هو على ظاهره وعمومه؟ فذهب طائفة من المتأخِّرين إلى الأوّل، قالوا: لأنّ المراد بالنّيّات الأعمال الشّرعيّة الّتي تجب أو تُستحبُّ، والأعمال كلُّها لا تُشترَط في صحَّتها هذه النّيّات؛ فإنّ قضاء الحقوق الواجبة من الغصوب والعواريِّ والودائع والدّيون تبرأ ذمَّة الدّافع، وإن لم يكن له في ذلك نيَّة شرعيّة؛ بل تبرأ ذمَّته منها من غير فعل منه كما لو تسلَّم المستحقُّ عين ماله، أو أطارت الرّيح الثّوب المودع أو المغصوب فأوقعته في يد صاحبه، ونحو ذلك. ثمّ قال بعض هؤلاء: تقديره: إنّما ثواب الأعمال المترتّبة عليها بالنّيّات، أو إنّما تُقبَل بالنّيّات. وقال بعضهم: تقديره: إنّما الأعمال الشّرعيّة أو إنّما صحّتها أو إنّما أجزاؤها، ونحو ذلك. وقال الجمهور: بل الحديث على ظاهره وعمومه؛ فإنّه لم يرد بالنّيّات فيه الأعمال الصّالحة وحدها؛ بل أراد النّيّة المحمودة والمذمومة، والعمل المحمود والمذموم؛ ولهذا قال في تمامه: «فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله...» إلخ، فذكر النّيّة المحمودة بالهجرة إلى اللّه ورسوله فقط، والنّيّة المذمومة، وهي الهجرة إلى امرأة أو مال، وهذا ذكره تفصيلًا بعد إجمال، فقال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى»، ثمّ فصّل ذلك بقوله: «فمن كانت هجرته...» إلخ"[19]. 

قال ابن رجب رحمه الله: "وسائر الأعمال كالهجرة في هذا المعنى، فصلاحها وفسادها بحسب النّيّة الباعثة عليها؛ كالجهاد والحجّ وغيرهما، وقد سُئل النّبيُّ ﷺ عن اختلاف نيّات النّاس في الجهاد وما يُقصد به من الرّياء، وإظهار الشّجاعة والعصبيّة، وغير ذلك: أيُّ ذلك في سبيل اللّه؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمةُ اللّه هي العليا، فهو في سبيل اللّه،» فخرج بهذا كلُّ ما سألوا عنه من المقاصد الدّنيويّة؛ ففي الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريِّ أنّ أعرابيًّا أتى النّبيَّ ﷺ، فقال: يا رسول اللّه، الرّجل يقاتل للمَغنَم، والرّجل يقاتل للذِّكر، والرّجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل اللّه؟ فقال رسول اللّه ﷺ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»"[20].

قال ابن تيمية رحمه الله: "والنّيَّة مَحَلُّها القلب باتِّفاق العلماء؛ فإن نوى بقلبه ولم يتكلَّم بلسانه، أجزأته النّيَّة باتّفاقهم"[21].

المراجع

  1. "مجموع الفتاوى" (18/ 247، 248).
  2. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 24، 25).
  3. "مجموع الفتاوى" (18/ 255).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
  5. "مجموع الفتاوى" (18/ 254).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (1/16).
  7. "مجموع الفتاوى" (18/ 256).
  8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 63 - 65).
  9. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 120).
  10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 65، 66).
  11. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 25، 26).
  12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 70، 71).
  13. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (6/ 332).
  14. "مجموع الفتاوى" (18/ 257).
  15. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 26).
  16. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 72، 73).
  17. "مجموع الفتاوى" (18/ 249).
  18. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 74، 75).
  19. "مجموع الفتاوى" (18/ 252، 253).
  20. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 75).
  21. "مجموع الفتاوى" (18/ 262).


غريب الحديث

هَمَّ: أَرَادَ وقَصَد، والهمُّ بالشيء: القَصْدُ إليه بالقَلْبِ، والعَزْمُ على فعله.

كَتَبها الله: أَمَر الحفَظَةَ بكتابتها.

المعنى الإجماليُّ للحديث

روى ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ»؛ أي: قدَّر الحسناتِ والسيِّئات. «ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ»؛ أي: ثم وضَّح أمر الكتابة، وكَشَفَ اللَّبْسَ عنها، وفصَّل حُكْمها، فلا حاجة إلى الاستفسار في كلِّ وقت عن كيفية الكتابة؛ لكونه أمرًا مفروغًا منه. «فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»؛ أي: فمن قَصَد حسنةً، وحدَّث نَفسَه بها، وعَقَد العَزْمَ عليها؛ ولكنه لم يعملها لعائقٍ حالَ بينه وبين فعلها، كَتَبها الله له حسنةً كاملة. «وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ»؛ أي: إن قَصَدها وعَمِلها، فإن الله يَكْتُبها عشْرَ حسناتٍ، إلى سبعمائة ضِعف، إلى أضعاف كثيرة. «وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً»؛ أي: وإن قَصَد إلى فعل سيِّئة فتركها لله، كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة. «وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً»؛ أي: وإن عَمِلها، كَتَبها الله سيِّئةً واحدة.

الشرح المفصَّل للحديث

إن أفعالَ الله تعالى تَدُور بين الفضل والعَدْل، فما كتبه الله تعالى وقدَّره في هذه الحياة الدنيا، وكلُّ ما في الدنيا والآخرة، هو دائرٌ بين فضل الله وعَدْلِه؛ فرحمةُ الله تعالى فضلٌ، وتعذيبُه للعاصين عَدْلٌ، وقد أخبر سبحانه أن رحمتَه سَبَقت غضبه، وأن رحمته وَسِعَتْ كلَّ شيء، وأَمَرَنا أن نسأله من فضله وعطائه الجزيل.

وقد خَلَق الله تعالى الخَلْقَ لغايات عظيمة، وحِكَم جليلة، من أجلِّها عبادةُ الله عزَّ وجلَّ وتوحيده؛

قال تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]،

وقال تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}

[الأنبياء: 25]،

والإنسانُ مأمورٌ بمعرفة الله، وتوحيده، وعبادته، وأَوْدَع اللهُ في كلِّ إنسان خَلَقَه القُدرةَ على فعل الخير والشرِّ؛

قال تعالى:

{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}

[البلد: 10]؛

أي: دَلَلْناه على طريق الخير وطريق الشرِّ، وتَركْنا له حرية الاختيار بينهما،

وقال تعالى:

{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}

[الشمس: 7-8]

أي: بيَّن لها الخير والشرَّ، وهداها لما قُدِّر لها، ثم أرسل الرُّسل، وأنزل الكتب؛ حتى يستقيم الإنسان على عبادته، فيَحُوز خيرَيِ الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث القدسيِّ الشريف يروي رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، قَالَ:

«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا اللهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً».

فقد بَيَّن الحديثُ مقدارَ تفضُّل الله على عباده، بأن جَعَلَ همَّ العبدِ بالحسنة، وإن لم يَعمَلها، حسنةً، وجعل همَّه بالسيِّئةِ، إن لم يَعمَلها، حسنةً، وإن عَمِلها كُتِبت سيِّئةً واحدة، وإن عَمِل الحسنةَ كُتِبت عَشْرًا، وربما تضاعفت إلى أكثرَ من سبعمائة ضعف.

 ولولا هذا التفضُّلُ العظيم من الله تعالى على عباده المؤمنين، لم يَدخُلِ أحدٌ الجنَّة؛ لأن السيِّئاتِ من العباد أكثرُ من الحسنات، والإنسان بطبعه كثيرُ الذنوب والمعاصي؛

فعَنْ أَنَسِ بْن مَالِكٍ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله ليه وسلم قَالَ:

«كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»

[1]،

ومهما عظُمت الذنوب، فرحمةُ الله أعظم؛ طالما أن الْمَرْءَ موحِّد لربِّه، لا يُشرك به شيئًا؛

قال تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ }

[النساء: 48].

بل إن الكافرَ إذا أَسلَم، فإنه يُمحى عنه كلُّ سيِّئة؛

قال تعالى:

{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}

[الأنفال: 38]،

وعن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النبيَّ صلي الله عليه وسلم قال:

«إِذَا أَسْلَمَ العَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلامُهُ، يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ القِصَاصُ: الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا»

[2].

فكان من لُطْفُ الله بعباده أن ضاعَفَ لهم الحسناتِ، ولم يُضاعِف عليهم السيِّئاتِ، وكان من رحمة الله تعالى أن فَتَح له أبواب مغفرته، مهما عظُمت ذنوبُه.

وإنما جَعَل الله تعالى الهمَّ بالحسنةِ حَسَنةً؛ لأن الهمَّ بالخَير هو فعلُ القلب بعقد النيَّة على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغي على هذا القول أن يَكتُب لمن همَّ بالشرِّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهمَّ بالشرِّ عَمَلٌ من أعمال القلب للشرِّ. قيل: ليس كما توهَّمْتَ، ومن كفَّ عن فعل الشَّرِّ، فقد نَسَخ اعتقاده للسيِّئة باعتقادٍ آخَرَ نوى به الخير، وعصى هَواه الْمُريد للشَّرِّ، فذلك عَمَلٌ للقلب من أعمال الخير، فجُوزِيَ على ذلك بحسنة،

وهذا كقوله ﷺ:

«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»

[3]؛

فالكفُّ عن الشر والسيئات صدقة[4].

فهذا الحديث خصَّص من هَمَّ بسيِّئة، فتَرَكها لوجه الله تعالى، وأما من تَرَكها مُكرَهًا على تركها بأن يُحالَ بينه وبينها، فلا تُكتَب له حسنة، ولا يَدخُل في معنى الحديث.

"وفى هذا الحديث تصحيحُ مقالة من يقول: إن الحَفَظَة تَكتُب ما يَهُمُّ به العبد من حسنة أو سيِّئة، وتَعلَم اعتقادَه لذلك، وردُّ مَقَالة من زَعَم أن الحَفَظة، إنما تَكتُب ما ظَهَر من عمل العبد وسُمِع"[5].

وفي معنى هذا الحديث أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدة، فتضمَّنت هذه النّصوص كتابة الحسنات والسّيّئات، والهمَّ بالحسنة والسّيّئة، فهذه أربعة أنواع[6]:

النّوع الأوّل: عمل الحسنات، فتُضاعف الحسنة بعشْر أمثالها إلى سَبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه قوله تعالى:

{مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ}

[الأنعام: 160].

وأمّا زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللّه أن يضاعِف له، فدلَّ عليه قوله تعالى:

{مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍۢ مِّائَةُ حَبَّةٍۢ ۗ وَٱللَّهُ يُضَٰعِفُ لِمَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ }

[البقرة: 261]،

فدلّت هذه الآية على أنّ النّفقة في سبيل اللّه تُضاعَف بسبعمائة ضعف.

النّوع الثّاني: عمل السّيّئات، فتُكتَب السّيّئة بمثلها، من غير مضاعفة؛

كما قال تعالى:

{وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰٓ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

[الأنعام: 160]،

وقوله: «كُتبت له سيّئة واحدة» إشارة إلى أنّها غير مضاعفة؛ لكنّ السّيّئة تَعظُم أحيانًا بشرف الزّمان أو المكان؛

كما قال تعالى:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36].

قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عبّاس في هذه الآية: 

{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36]

في كلّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حُرمًا، وعظَّم حُرماتِهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظَم، والعمل الصّالح والأجر أعظم. وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أنّ الظُّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلم في كلِّ حال غير طائل؛ ولكنّ اللّه تعالى يعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربُّنا.

وقد تُضاعف السّيّئات بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته باللّه، وقُربه منه؛ فإنّ من عصى السّلطان على بِساطه أعظم جُرمًا ممّن عصاه على بُعد؛ ولهذا توعَّد اللّه خاصَّة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها؛ ليبيِّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك؛

كما قال تعالى:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ}

[الإسراء: 74، 75]،

وقال تعالى:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً 30  وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}

[الأحزاب: 30 - 31].

النّوع الثّالث: الهمُّ بالحسنات، فتُكتب حسنةً كاملةً، وإن لم يعملها؛ كما في حديث ابن عبّاس وغيره،

وفي حديث أبي هريرة الّذي أخرَّجه مسلم كما تقدَّم:

«إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»،

والظّاهر أنّ المراد بالتّحدُّث حديث النّفس، وهو الهمُّ،

وفي حديث خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ:

«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»

[7]

وهذا يدلُّ على أنّ المراد بالهمِّ هنا هو العزم المصمِّم الّذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرَّد الخطرة الّتي تَخطُر، ثمّ تنفسخ من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدّرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلِّيَ من اللّيل، فغلبته عيناه حتّى يُصبح، كُتب له ما نوى.

والهمُّ بالحسنة إنما هو فعل العبد بقلبه دون سائر الجوارح؛ كذكر الله بقلبه، فالمعنى الذي به يصل الملَكان الموكَّلان بالعبد إلى علم ما يَهمُّ به بقلبه، هو المعنى الذى به يصل إلى علم ذكر ربّه بقلبه، ويجوز أن يكون جعل الله لهما إلى علم ذلك سبيلاً؛ كما جعل لكثير من أنبيائه السبيل إلى كثير من علم الغيب، فغير مستنكَر أن يكون الكاتبان الموكَّلان بابن آدم، قد جعل لهما سبيلاً إلى علم ما في قلوب بنى آدم من خير أو شرٍّ، فيكتبانه إذا حدَّث به نفسه أو عزم عليه[8].

النّوع الرّابع: الهمُّ بالسّيّئات من غير عمل لها؛ ففي حديث ابن عبّاس: أنّها تُكتب حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنّها تُكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: «إنّما تركها من جرَّاي»[9] يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنّ المراد من قَدَر على ما همَّ به من المعصية، فتركه للّه تعالى، وهذا لا ريب في أنّه يُكتب له بذلك حسنة؛ لأنّ تركه المعصيةَ بهذا القصد عمل صالح. فأمّا إن همَّ بمعصية، ثمّ ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنّه يعاقَب على تركها بهذه النّيّة؛ لأنّ تقديم خوف المخلوقين على خوف اللّه محرَّم، وكذلك قصد الرّياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا التّرك. قال الفُضيل بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للنّاس رياء، والعمل لهم شرك. وأمّا إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثمّ حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنّه يعاقَب عليها حينئذ؛

لقول النّبيِّ ﷺ:

«إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه»

[10].

وقد قال النبيُّ ﷺ:

«إنّ اللّه تجاوز لأمّتي عمّا حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلَّم به، أو تعمل به»

[11]

وفيه دليلٌ على أنّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه، فإنّه يعاقَب على الهمِّ حينئذ؛ لأنّه قد عَمِل بجوارحه معصيةً، وهو التّكلُّم باللّسان.

المراجع

  1. رواه أحمد (13049)، والترمذيُّ (2499)، وابن ماجه (4251)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3139).
  2. رواه البخاريُّ (41).
  3. رواه البخاريُّ (1445)، ومسلم (1008).
  4. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 199، 200).
  5. شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (10/ 200).
  6. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 313 - 322).
  7. رواه أحمد (19244)، وحسّنه شعيب الأرنؤوط.
  8. "شرح صحيح البخاريّ" لابن بطال (10/ 199، 201).
  9. رواه مسلم (129).
  10. رواه البخاريّ (31)، ومسلم (2888).
  11. رواه أحمد (9097)، والترمذيّ (1183)، وقال: حديث حسن صحيح.


النقول

قال ابن رجب رحمه الله : "وفي المعنى أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدة، فتضمَّنت هذه النّصوص كتابة الحسنات والسّيّئات، والهمَّ بالحسنة والسّيّئة، فهذه أربعة أنواع:

النّوع الأوّل: عمل الحسنات، فتُضاعف الحسنة بعشْر أمثالها إلى سَبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومضاعفة الحسنة بعشر أمثالها لازم لكلِّ الحسنات، وقد دلَّ عليه

قوله تعالى:

{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ۖ }

[الأنعام: 160].

وأمّا زيادة المضاعفة على العشر لمن شاء اللّه أن يضاعِف له، فدلَّ عليه قوله تعالى:

{ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}

[البقرة: 261]،

فدلّت هذه الآية على أنّ النّفقة في سبيل اللّه تُضاعَف بسبعمائة ضعف"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "هذا حديثٌ شريف بَيَّن فيه النبيُّ ﷺ مقدارَ تفضُّل الله على عباده بأن جعل همومَ العبدِ بالحسنة، وإن لم يَعمَلها، حسنةً، وجعل همومَه بالسيِّئةِ إن لم يَعمَلها حسنةً، وإن عَمِلها كُتِبت سيِّئةً واحدة، وإن عَمِل الحسنةَ كُتِبت عَشْرًا، ولولا هذا التفضُّلُ العظيم، لم يَدخُل أحدٌ الجنَّة؛ لأن السيِّئاتِ من العباد أكثرُ من الحسنات، فلَطُف الله بعباده بأن ضاعَف لهم الحسناتِ، ولم يضاعِف عليهم السيِّئاتِ. وإنما جَعَل الهمومَ بالحسنةِ حَسَنةً؛ لأن الهموم بالخَير هو فعلُ القلب بعقد النيَّة على ذلك. فإن قيل: فكان ينبغي على هذا القول أن يَكتُب لمن همَّ بالشرِّ ولم يعمله سيئةً؛ لأن الهمومَ بالشرِّ عَمَلٌ من أعمال القلب للشرِّ. قيل: ليس كما توهَّمت، ومن كفَّ عن فعل الشَّرِّ، فقد نَسَخ اعتقاده للسيِّئة باعتقادٍ آخَرَ نوى به الخير، وعصى هَواه الْمُريد للشَّرِّ، فذلك عَمَلٌ للقلب من أعمال الخير، فجُوزِيَ على ذلك بحسنة،

وهذا كقوله ﷺ:

«على كلِّ مُسلمٍ صَدَقةٌ». قالوا: فإن لم يَفعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنه صَدَقةٌ»

[2]

ذكره في كتاب "الأدب" في باب "كلُّ معروف صدقة"[3]. 

قال ابن رجب رحمه الله: " النّوع الثّاني: عمل السّيّئات، فتُكتَب السّيّئة بمثلها، من غير مضاعفة؛

كما قال تعالى:

{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}

 [الأنعام: 160]،

وقوله: «كُتبت له سيّئة واحدة» إشارة إلى أنّها غير مضاعفة؛ لكنّ السّيّئة تَعظُم أحيانًا بشرف الزّمان أو المكان؛

كما قال تعالى:

{ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36].

قال عليُّ بنُ أبي طلحةَ عن ابن عبّاس في هذه الآية:

{فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ}

[التوبة: 36]:

في كلّهنّ، ثمّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر، فجعلهنّ حُرمًا، وعظَّم حُرماتِهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ أعظَم، والعمل الصّالح والأجر أعظم. وقال قتادة في هذه الآية: اعلموا أنّ الظُّلم في الأشهر الحُرم أعظم خطيئةً ووزرًا فيما سوى ذلك، وإن كان الظُّلم في كلِّ حال غير طائل؛ ولكنّ اللّه تعالى يعظِّم من أمره ما يشاء تعالى ربُّنا.

وقد تُضاعف السّيّئات بشرف فاعلها، وقوَّة معرفته باللّه، وقُربه منه؛ فإنّ من عصى السّلطان على بِساطه أعظم جُرمًا ممّن عصاه على بُعد؛ ولهذا توعَّد اللّه خاصَّة عباده على المعصية بمضاعفة الجزاء، وإن كان قد عصمهم منها؛ ليبيِّن لهم فضله عليهم بعصمتهم من ذلك؛

كما قال تعالى:

{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا }

[الإسراء: 74، 75]،

وقال تعالى:

{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ۚ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرً 30  وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا}

[الأحزاب: 30 - 31]"[4].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "وحديث ابن عباس معناه الخصوص لمن هَمَّ بسيِّئة، فتَرَكها لوجه الله تعالى، وأما من تَرَكها مُكرَهًا على تركها بأن يُحالَ بينه وبينها، فلا تُكتَب له حسنة، ولا يَدخُل في معنى الحديث. قال الطبريُّ: وفى هذا الحديث تصحيحُ مقالة من يقول: إن الحَفَظَة تَكتُب ما يَهُمُّ به العبد من حسنة أو سيِّئة، وتَعلَم اعتقادَه لذلك، وردُّ مَقَالة من زَعَم أن الحَفَظة، إنما تَكتُب ما ظَهَر من عمل العبد وسُمِع"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: " النّوع الثّالث: الهمُّ بالحسنات، فتُكتب حسنةً كاملةً، وإن لم يعملها؛ كما في حديث ابن عبّاس وغيره

وفي حديث أبي هريرة الّذي خرَّجه مسلم كما تقدَّم:

«إذا تحدَّث عبدي بأن يعمل حسنةً، فأنا أكتبها له حسنةً»

والظّاهر أنّ المراد بالتّحدُّث حديث النّفس، وهو الهمُّ

وفي حديث خُرَيمِ بْنِ فَاتَكٍ:

«مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، فَعَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ أَنَّهُ قَدْ أَشْعَرَ قَلْبَهُ، وَحَرَصَ عَلَيْهَا، كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً»

[6]

وهذا يدلُّ على أنّ المراد بالهمِّ هنا هو العزم المصمِّم الّذي يوجد معه الحرص على العمل، لا مجرَّد الخطرة الّتي تَخطُر، ثمّ تنفسخ من غير عزم ولا تصميم. قال أبو الدّرداء: من أتى فراشه وهو ينوي أن يصلِّيَ من اللّيل، فغلبته عيناه حتّى يُصبح، كُتب له ما نوى" [7].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "والهمُّ بالحسنة إنما هو فِعْلُ العبد بقلبه دون سائر الجوارح؛ كذِكْرِ الله بقلبه، فالمعنى الذي به يَصِل الْمَلَكانِ الموكَّلان بالعبدِ إلى عِلْمِ ما يَهُمُّ به بقلبه؛ هو المعنى الذى به يَصِل إلى علم ذِكْرِ ربِّه بقلبه، ويَجُوز أن يكون جَعَل الله لهما إلى عِلْمِ ذلك سبيلاً؛ كما جَعَل لكثير من أنبيائه السبيلَ إلى كثير من علم الغيب... قالوا: فغيرُ مستنكَر أن يكون الكاتبانِ الموكَّلان بابن آدمَ، قد جَعَل لهما سبيلاً إلى علم ما في قلوب بنى آدَمَ من خير أو شرٍّ، فيَكتُبانِه إذا حدَّث به نفسَه أو عَزَم عليه"[8].

قال ابن رجب رحمه الله: "النّوع الرّابع: الهمُّ بالسّيّئات من غير عمل لها؛ ففي حديث ابن عبّاس: أنّها تُكتب حسنةً كاملةً، وكذلك في حديث أبي هريرة وأنس وغيرهما: أنّها تُكتب حسنةً، وفي حديث أبي هريرة قال: «إنّما تركها من جرَّاي»[9] يعني: من أجلي. وهذا يدلُّ على أنّ المراد من قَدَر على ما همَّ به من المعصية، فتركه للّه تعالى، وهذا لا ريب في أنّه يُكتب له بذلك حسنة؛ لأنّ تركه المعصيةَ بهذا القصد عمل صالح. فأمّا إن همَّ بمعصية، ثمّ ترك عملها خوفًا من المخلوقين، أو مراءاةً لهم، فقد قيل: إنّه يعاقَب على تركها بهذه النّيّة؛ لأنّ تقديم خوف المخلوقين على خوف اللّه محرَّم، وكذلك قصد الرّياء للمخلوقين محرَّم، فإذا اقترن به ترك المعصية لأجله، عوقب على هذا التّرك... وقال الفُضيل بن عياض: كانوا يقولون: ترك العمل للنّاس رياء، والعمل لهم شرك. وأمّا إن سعى في حصولها بما أمكنه، ثمّ حال بينه وبينها القدر، فقد ذكر جماعة أنّه يعاقَب عليها حينئذ؛ لقول النّبيِّ ﷺ: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النّار»، قالوا: يا رسول اللّه، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنّه كان حريصًا على قتل صاحبه»[10].

وقوله: «مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ»[11] يدلُّ على أنّ الهامَّ بالمعصية إذا تكلَّم بما همَّ به بلسانه، فإنّه يعاقَب على الهمِّ حينئذ؛ لأنّه قد عَمِل بجوارحه معصيةً، وهو التّكلُّم باللّسان"[12].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.

القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:

الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام

كما قال تعالى:

{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}

[النحل: 102]،

وقال:

{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }

[الشعراء: 193-195].

الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.

ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ

كما قال سبحانه:

{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

[الحجر: 9]،

والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [13].


المراجع

1. جامع العلوم والحكم لابن (2/313)

2. رواه البخاري (1445) ومسلم (1008)

3. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 199، 200)

4. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 316- 318)

5. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 200)

6. رواه أحمد (19244)، وحسنه شعيب الأرنؤوط

7. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 319)

8. شرح صحيح البخاري لابن بطال (10/ 199، 201)

9. رواه مسلم (129)

10. رواه البخاري (31)، ومسلم (2888)

11. رواه أحمد (9097)، والترمذي (1183)، وقال: حديث حسن صحيح

12. جامع العلوم والحكم لابن رجب (2/ 321، 322)

13.  "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238)


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي جَرِيرُ بْن عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»؛ أي: الذي لا يَرْحَمُ الخَلْقَ من الإنسان والحيوان والطير، لا يَرْحَمُه الخَالِقُ سبحانه وتعالى.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الله سبحانَهُ وتعالى أرْحمُ الراحمينَ، وأكرَمُ الأكرَمينَ، ورحمتُه سبحانه وَسِعت كلَّ شيء؛ فهي لا تقتصِرُ على الإنسانِ فحسبُ؛ بلْ وسِعَت كلَّ شيءٍ، حتَّى الحيوانَ والطيرَ. وإن الله تعالى متَّصِفٌ بالرحمة، وهو سُبحانَه الرحمنُ الرحيم، الموصِلُ الرَّحمةَ إلى عباده، وليست رَحمتُه سبحانَه كرحمةِ المخلوق؛ فإنَّه عزَّ وجلَّ ليس كمِثلِه شيءٌ.

ورحمة الله تعالى لا حدود لها، وقد أنزل الله تعالى جزءًا واحدًا من الرحمة يتراحم به جميع المخلوقات؛

فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:

«جَعَلَ اللهُ الرَّحمةَ في مِائَةِ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الأرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلْقُ، حَتَّى تَرْفَعَ الفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا؛ خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ»

[1]؛

أي: إن ما يُرى من أثَر الرحمة في جميع المخلوقات، في الإنسان وغيره، ما يَعقِل منها، وما لا يعقِل، حتى ما يُرى في رحمة الفرس بولدها وغير ذلك، كلُّه أثرُ رحمة واحدة، فكيف برحمته تعالى التي لا حدود لها؟!

وإن "من رحمته تعالى أنه أَحْوَجَ الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته [2].

"والرحمةُ سببٌ واصلٌ بين الله تعالى وبين عباده، بها أَرسَل إليهم رُسلَه، وأنزل عليهم كُتبَه، وبها هداهم، وبها أسكنهم دارَ ثوابه، وبها رَزَقهم وعافاهم، وأَنعَم عليهم، فبَيْنَهم وبينَه سببُ العبودية، وبينَه وبينَهم سببُ الرحمة" [3].

وإن المؤمن رحيمٌ بالخلق، يتميَّز بقلب حيٍّ مرهَف رقيقٍ ليِّن، يَرِقُّ للضعيف، ويأسى للحزين، ويَأْلَمُ للمُبْتلى، ويحنُّ على اليتامى والفقراء والمساكين، ويُعِين ذا الحاجة الملهوف، ويُبغِض القسوة والإيذاء؛ فهو مصدر رحمةٍ وخَيْرٍ وبِرٍّ وسلام.

وإنَّ ممَّا تُستجلَبُ به رحمة الله، وتُستنزَل به من السَّماء: أن يتراحم الناس، ويُشِيعوا الإحسان والرفق والرأفة فيما بينهم، وأن يَعطِف بعضُهم على بعض، وأن يحبَّ المرء لأخيه من الخير ما يحبُّه لنفسه، وأن يتواصَوْا بالرحمة فيما بينهم؛

قال الله تعالى مادحًا أهلَ الْمَيمنة: 

{وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْمَرْحَمَةِ}

 [البلد: 17].

فمن لم يكن في قلبه رحمةٌ للخلق، فقد نُزِع منه رحمة ربما لا تدركه بعدها رحمةُ الله لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ بل إن حديث الباب يبيِّن أن الأمر أبعدُ من ذلك؛ فقد ربط الله رحمته وتحقُّقها للمرء بأن يحقِّقها هو مع الخلق؛ فإن الله تعالى قد أنزل الرحمة بين عباده ليتراحَمُوا، وطلب منهم ذلك، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن الله يرحم من عباده الرحماء؛

قال ﷺ:

«إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»

[4].

وقد قال النَّبِيُّ ﷺ:

«الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ»

[5]؛

أي: إن الَّذين يَرحَمون مَن في الأرضِ مِن إنسانٍ أو حيوانٍ أو طيرٍ أو غيرِه؛ شَفَقةً ورَحمةً ومُواساةً، يَرحَمُهم الرَّحمنُ برَحمتِه الَّتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ، فيَتفضَّل عليهم بعَفوِه وغُفرانِه وبرِّه وإحسانِه؛ جزاءً وفاقًا. فارحَموا جميعَ مَن في الأرضِ مِن أنواعِ الخَلْقِ، يَرحَمْكم مَن في السَّماء، وهو اللهُ تعالى العليُّ بذاتِه، المستوِي على العرشِ فوقَ سَمَواتِه.

وفي حديث الباب يقول النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»؛ فالذي لا يرحمُ الخَلْقَ ولا يتَّصِف بالرحمة، لا يرحمُه الله تعالى.

ويروي أبو هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه سبب هذا الحديث قَالَ:

قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِيُّ جَالِسًا، فَقَالَ الأَقْرَعُ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قَالَ: «مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ»

[6].

فهذا النبيُّ ﷺ الأسوُة الحسنة والرحمةُ المهداة، يَضرِب الْمَثَل بالرحمة بالضُّعفاء من الصبية والأطفال؛ بل انظر إلى رحمته ﷺ حين يقول:

«إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ»

[7].

وانظر إلى رحمته ﷺ بالطَّير والحيوان:

عن عبد الله بن مسعود قَالَ:

كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟» قُلْنَا: نَحْنُ. قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»

[8].

إنه رسول الله، وخَيْرُ خلق الله كلِّهم، وسيِّد ولد آدَمَ، الذي أرسله الله تعالى رحمةً للعالمين؛

قال تعالى:

{وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ}

[الأنبياء: ١٠٧].

وإن رسالته عمادُها الرحمة، التي لولاها ما قامت رسالة الإسلام؛

قال تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ ٱلْقَلْبِ لَٱنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ٱلْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَوَكِّلِينَ}

[آل عمران: ١٥٩].

إن الرحمة علامة على الإيمان، وعَدَم الرحمة علامةٌ على الشَّقَاء، ومن رحمة الله على المرء أن يضع في قلبه الرحمة؛

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ:

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ»

[9].

وينبغي أن تسع الرحمة الخلق جميعًا؛

فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَا يَضَعُ اللَّهُ رَحْمَتَهُ إِلَّا عَلَى رَحِيمٍ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، كُلُّنَا يَرْحَمُ، قَالَ: «لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»

[10].

بل انظر إلى ذلك الخبر العظيم؛ أن يَرحَمَ الله تعالى بَغِيًّا جزاءً وفاقًا لرحمتها بكَلْبٍ؛ فكيف بمن يرحم الإنسان؟!

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»

[11].

وفيما ذكرنا من الأحاديث "الحضُّ على استعمال الرحمة للخلق كلِّهم، كافرهم ومؤمنِهم، ولجميع البهائم، والرفق بها، وأن ذلك مما يَغفِر الله به الذنوب، ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن يَرغَب في الأخذ بحظِّه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه، وفي كلِّ حيوان، فلم يَخلُقْه الله عَبَثًا، وكل أحد مسؤول عمَّا استُرْعِيَه ومُلِّكه من إنسان أو بهيمة لا تَقدِر على النُّطق، وتبيين ما بها من الضرِّ، وكذلك ينبغي أن يَرحَم كلَّ بهيمة، وإن كانت في غير مُلْكه؛ ألا ترى أن الذى سقى الكلب الذى وجده بالفلاة، لم يكن له ملكًا، فغَفَر الله له؟!" [12].

"ومما ينبغي أن يُعلَم: أن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كَرِهَتْها نفسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمة الحقيقية، فأرحمُ الناس بك من شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفع الْمَضارِّ عنك؛ فمن رحمةِ الأبِ بولده: أن يُكرِهَه على التَّأدُّب بالعلم والعمل، ويشقَّ عليه في ذلك بالضَّرب وغيره، ويَمنَعه شَهَواتِه التي تعود بضرره، ومتى أَهمَل ذلك من ولده، كان لقِلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يَرحَمه ويُرفِّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل؛ كرحمة الأمِّ؛ ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أَعلَم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته، من رحمته به؛ ولكن العبد لجهله وظُلمه يتَّهِم ربَّه بابتلائه، ولا يَعلَم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه" [13].


المراجع

1. رواه البخاريُّ (6000)، ومسلم (2752).

2.  "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 483).

3.  "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 35).

4. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).

5. رواه أبو داود (4941)، والترمذيُّ (1924)، وقال: حديث حسن صحيح.

6.  رواه البخاريُّ (5997)، ومسلم (2318).

7.  رواه البخاريُّ (707).

8.  رواه أبو داود (2675)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2268).

9.  رواه أحمد (9700)، وأبو داود (4942)، والترمذيُّ (1923)، وقال الألبانيُّ في صحيح الترغيب والترهيب" (2261): حسن.

10. رواه أبو يعلى (4258)، وصحَّحه الألباني في "الصَّحِيحَة" (167)، وفي "صَحِيح التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيب" (2253).

11. رواه البخاريُّ (3467)، ومسلم (2245).

12. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 219).

13. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 174).





النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «من لا يرحم لا يرحم» هو بالرَّفع فيهما على الخبر، وقال عياض: هو للأكثر، وقال أبو البقاء: (من) موصولة، ويجوز أن تكون شرطيّةً، فيُقرَأ بالجزم فيهما. قال السُّهَيليُّ: جعلُه على الخبر أشبهُ بسياق الكلام؛ لأنّه سيق للرَّدِّ على من قال: إنَّ لي عشَرةً من الولد... إلخ؛ أي: الَّذي يَفعَل هذا الفعلَ لا يُرحَم، ولو كانت شرطيَّةً لكان في الكلام بعضُ انقطاع؛ لأنّ الشَّرط وجوابَه كلامٌ مستأنَف. قلتُ: وهو أولى من جهة أخرى؛ لأنّه يَصير من نوع ضرب الْمَثَل، ورجَّح بعضهم كونها موصولةً؛ لكون الشَّرط إذا أعقَبه نفيٌ يُنفى غالبًا بـ(لم)، وهذا لا يقتضي ترجيحًا إذا كان الْمُقام لائقًا بكونها شرطيّةً، وأجاز بعض شرَّاح المشارق الرَّفع في الجُزءين، والجزمَ فيهما، والرّفعَ في الأولى، والجزم في الثّاني، وبالعكس، فيَحصُل أربعةُ أوجه، واستُبعِد الثّالث، ووجِّه بأنّه يكون في الثّاني بمعنى النَّهي؛ أي: لا ترحموا من لا يَرحَم النّاس، وأمّا الرّابع فظاهرٌ، وتقديرُه: من لا يكن من أهل الرّحمة، فإنّه لا يُرحَم، ومثله قول الشّاعر: فَقُلْتُ لَهُ: احْمِلْ فَوْقَ طَوْقِكَ إِنَّهَا = مُطَوَّقَةٌ مَنْ يَأْتِهَا لَا يَضِيرُهَا" [1].

قال ابن القيّم رحمه الله: "ومما ينبغي أن يُعلَم: أن الرحمةَ صفةٌ تقتضي إيصال المنافع والمصالح إلى العبد، وإن كَرِهَتْها نفسُه، وشقَّت عليها، فهذه هي الرَّحمة الحقيقية، فأرحم الناس بك من شَقَّ عليك في إيصال مصالحك، ودفع الْمَضارِّ عنك؛ فمن رحمةِ الأبِ بولده: أن يُكرِهَه على التَّأدُّب بالعلم والعمل، ويشقُّ عليه في ذلك بالضَّرب وغيره، ويَمنَعه شَهَواتِه التي تعود بضرره، ومتى أَهمَل ذلك من ولده، كان لقِلَّة رحمته به، وإن ظنَّ أنه يَرحَمه ويُرفِّهُه ويُريحه، فهذه رحمة مقرونة بجهل؛ كرحمة الأمِّ؛ ولهذا كان من إتمام رحمة أرحم الراحمين: تسليطُ أنواع البلاء على العبد؛ فإنه أَعلَم بمصلحته، فابتلاؤه له وامتحانه ومنعه من كثير من أعراضه وشهواته، من رحمته به؛ ولكن العبد لجهله وظُلمه يتَّهِم ربَّه بابتلائه، ولا يَعلَم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه" [2].

قال ابن بطال رحمه الله: "في هذه الأحاديث الحضُّ على استعمال الرحمة للخلق كلِّهم، كافرهم ومؤمنهم، ولجميع البهائم، والرفق بها، وأن ذلك مما يَغفِر الله به الذنوب، ويكفِّر به الخطايا، فينبغي لكلِّ مؤمن عاقل أن يَرغَب في الأخذ بحظِّه من الرحمة، ويستعملها في أبناء جنسه، وفي كلِّ حيوان، فلم يَخلُقْه الله عَبَثًا، وكل أحد مسؤول عمَّا استُرْعِيَه وملكه من إنسان أو بهيمة لا تَقدِر على النُّطق، وتبيين ما بها من الضرِّ، وكذلك ينبغي أن يَرحَم كلَّ بهيمة، وإن كانت في غير مُلْكه؛ ألا ترى أن الذي سقى الكلب الذى وجده بالفلاة، لم يكن له ملكًا، فغَفَر الله له" [3].

قال محمد خليل هرَّاس رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرةُ والمعتزِلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضَعْفٌ وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضُّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خَوَرًا؛ بل قد تكون مع غاية العزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصَّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتصّفين بها، وأمرهم أن يتواصَوا بها؟!

وَقَوْلُهُ:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

إلخ [غافر: ٧]

من كلام اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حكايةً عن حَمَلَةِ الْعَرْشِ والذين حَوْلَهُ، يتوسَّلون إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ وَسَعَةِ عِلْمِه ورحمته في دُعائِهم للمؤمنين، وهو من أَحْسَنِ التوسُّلات التِي يُرجى معها الإجابةُ. ونَصَبَ 

 قَوْلَه:

{رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

على التميِيزِ المحوَّل عنِ الفاعلِ، والتَّقديرُ: وَسِعَتْ رحمتُك وعلمُك كُلَّ شَيْءٍ. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين؛

كما قال تعالى:

{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلَّذِينَ هُم بِـَٔايَٰتِنَا يُؤْمِنُونَ}

[الأعراف: ١٥٦]

وقال تعالى:

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }

[الأنعام: ٥٤]

أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجِبْها عليه أحد" [4].

قال ابن عثيمين رحمه الله:

وقوله:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا؛

لأن الله يقول:

{مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ }

[النحل: 97]،

والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة:

قوله:

{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}

[الأحزاب: 43].

(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها:

{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْءٍۢ رَّحْمَةً وَعِلْمًا}

[غافر: 7]

نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة" [5].

قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا،

فتأمَّل قوله:

{وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا}

[الأحزاب: 43]،

﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[التوبة: 117]

ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته" [6].

 قال ابن عثيمين رحمه الله:

قوله:

{كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ ۖ }

[الأنعام: ٥٤].

(كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه؛

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍۢ}

[فاطر: 45]

لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى" [7].

قال ابن القيم رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة؛ فبرحمته أرسل إلينا رسوله ﷺ وأنزل علينا كتابه، وعصمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصَّرنا من العمي، وأرشدنا من الغيِّ، وبرحمته عرَّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عَرَفنا به أنه ربُّنا ومولانا، وبرحمته علَّمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهادًا وفراشًا وقرارًا وكِفاتًا للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر، وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخَّر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذلَّلها منقادة للركوب والحمل والأكل والدَّرِّ، وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان. فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمتُه، واشتقَّ لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم، وأوصل إلى خلقه معانيَ خطابه برحمته، وبصَّرهم ومكَّن لهم أسباب مصالحهم برحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، وأوسع الصفات رحمته، فاستوى على عرشه الذي وَسِع المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي اشتقَّه من صفته وتسمَّى به دون خلقه، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين قضى الخلق كتابًا، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه، وكان هذا الكتاب العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم، والعفو عنهم، والمغفرة والتجاوز، والستر والإمهال، والحلم والأناة، فكان قيام العالم العلويِّ والسُّفليِّ بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأنٌ آخَرُ، وكان عن صفة الرحمة الجنة وسكانها وأعمالها؛ فبرحمته خُلقت، وبرحمته عمِّرت بأهلها، وبرحمته وَصَلوا إليه، وبرحمته طاب عيشهم فيها، وبرحمته احتجبت عن خلقه بالنور، ولو كُشِف ذلك الحجاب لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. ومن رحمته أنه يعيذ من سخطه برضاه، ومن عقوبته بعفوه، ومن نفسه بنفسه، ومن رحمته أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما التواصل الذي به دَوَامُ التناسل وانتفاع الزوجين، ويمتَّع كلُّ واحد منهما بصاحبه، ومن رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتمَّ مصالحهم، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطَّلت مصالحهم وانحلَّ نظامها، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغنيَّ والفقير، والعزيز والذليل، والعاجز والقادر، والراعيَ والمرعيَّ، ثم أفقر الجميع إليه، ثم عمَّ الجميع برحمته.

ومن رحمته أن خلق مائة رحمة، كلُّ رحمة منها طِبَاقَ ما بين السماء والأرض، فأنزل منها إلى الأرض رحمة واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والطير والوحش والبهائم، وبهذه الرحمة قِوَام العالم ونظامه" [8].


المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 429).

2. "إغاثة اللهفان" لابن القيم (2/ 174).

3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (9/ 219).

4. "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).

5. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248 - 251).

6. "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).

7. "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).

8. "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481 - 483).



غريب الحديث:

نَجْد: منطقة مرتفعة بالسعودية، تمتَدُّ من الحجاز شرقًا إلى اليمامة غربًا، ومن مدنها اليومَ الرياضُ، 

والقصيمُ، والأفلاج، وقديمًا عَدَّ الناسُ ما كان على بُعد مِائة كيلو متر من شرق المدينة نجدًا[1]

ثَائِرُ الرأس: مُتَفرِّقُ الشَّعر[2]

دَوِيُّ صَوْتِهِ: الدَّوِيُّ: صوت مُتكرِّر لا يُفْهَم؛ وذلك لأنه نادى من بُعْدٍ [3].

 

المراجع

  1. انظر: "أطلس الحديث النبوي" شوقي أبو خليل (ص: 365)
  2.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
  3.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ رضي الله عنه أنه: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرَّأْسِ)؛ أي: أتى رسولَ الله ﷺ رجلٌ من أعراب نَجْدٍ، منتفِشُ ومُتَفَرِّقُ الشَّعْرِ. (يُسْمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ، وَلاَ يُفْقَهُ مَا يَقُولُ)؛ أي: يسمعون صوته دون فَهم كلامه. (حتَّى دَنَا، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلامِ): فلَمَّا اقترب منهم، فَهِموا أنه يسأل عن شرائع الإسلام.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليوْمِ وَاللَّيْلَةِ»؛ أي: فأجابه ﷺ أن عليه خمسَ صلوات فرائضَ في اليوم والليلة. فَقَالَ الرجل: (هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: فسأله: هل هناك صلوات مفروضة عليه غير هذه الخمس؟

قَالَ : «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»: فأجابه ﷺ أنه ليس عليه غير هذه الخمس، إلا أن يتطوَّع بالسُّنن والنوافل.

قَالَ رَسُولُ اللهِ : «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»؛ أي: وصيام شهر رمضان فرضٌ عليك.

قَالَ الرجل: هَلْ عَليَّ غَيْرُهُ؟ قَالَ : «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: إلا أن تتطوَّع بنوافلِ الصِّيَامِ.

وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ: قَالَ: هَلْ عَليَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: ذكر له أن الزكاة مفروضة عليه، وليس عليه نَفقةٌ غيرها إلَّا أن يتطوَّع بالصَّدَقة.

قَالَ طلحة: (فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ)؛ أي: غادر الرجل وهو يقول: والله لا أُغيِّر الفروضَ المذكورَةَ بزيادةٍ فيها ولا نُقْصَانٍ منها، وألتزم بأداء تلك الفروض.

قَالَ رَسُولُ اللهِ : «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ»؛ أي: أفلح إن صدق في التزامه بقوله هذا.

الشرح المفصَّل للحديث:

من القواعد الأساسية التي بُنِيَ عليها الإسلامُ: الرحمةُ والتيسيرُ في كلِّ الفرائض والعبادات؛ فالإسلام دين مُلائمٌ للفِطرة السليمة في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، تلك الفطرةُ التي لا تَستجيبُ إلا لـما تُطِيقُ، فاللهُ عز وجل لا يُكَلِّفُ نفْسًا إلا وُسْعَها، وحينما أمر اللهُ عبادَهُ بالتقوى، رَبَطَ هذه التقوى بالاستطاعةِ؛ فالإنسانُ يُحاولُ أن يَتَّقِيَ اللهَ ما استطاع إلى ذلك سبيلًا دُونَ مشقَّةٍ، ودُونَ إلزامٍ من شأنه إلحاقُ الضَّرَرِ بالنفْس البشرية؛ فشريعتُنا شريعةٌ لا إفراطَ فيها ولا تَفْرِيطَ؛ تتميَّزُ بالكثير من مظاهرِ التيسير التي لا حَصْرَ لها، ومن ذلك التيسيرُ في أبواب العبادات.

وفي هذا الحديث يأتي رسولَ الله ﷺ رجُلٌ من الأعراب من ساكني الصحراء، وهو من أهل نَجْد، قيل: اسمُه ضِمَامُ بنُ ثعلبةَ t وافدُ بني سعدِ بنِ بكرٍ[1] ووصفه راوي الحديث طلحةُ بنُ عُبيد الله رضي الله عنه بأنه كان (ثَائِرَ الرَّأْسِ)؛ أي: منتفِشَ ومُتَفَرِّقَ الشَّعْرِ؛ وذلك لِتَرْكِ الرفاهية على عادة الأعراب، وأَوْقَعَ اسمَ الرأسِ على الشَّعْرِ إما على سبيل الْمُبالَغة، أو لأن الشَّعرَ يَنْبُتُ من الرأس[2]. ومثل الحالة التي كان عليها في شكله الظاهريِّ من انتفاش شَعره، كان صوته ومنطقه، فيذكر طلحةُ  أن هذا الأعرابيَّ كان (يُسمَعُ دَوِيُّ صَوْتِهِ)؛ أي: بُعدُهُ في الهواء؛ مأخوذٌ من دَوِيِّ الرَّعْدِ، والدَّوِيُّ: صوتٌ مرتفعٌ متكرِّر، (ولا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ)؛ أي: ولا يُفهَم ما يقوله؛ وإنما لم يَفهموا ما يقول لأنه نَادَى من بُعْدٍ، فلمَّا دَنَا فَهِموه[3]. (فإذا هُو يسألُ عن الإسلام)؛ أي: جاء هذا الرجُلُ يسأل عن شرائع الإسلام، وإنما لم يَذكُر له ﷺ الشهادةَ؛ لأنه علِم أنه يَعلَمها، أو عَلِم ﷺ أنه إنما يسأل عن شرائع الإسلام الفِعلية دون القَولية، أو ذكَرَها ولم يَنقُلها الراوي لشُهرتها، وإنما لم يَذكُر الحجَّ؛ إما لأنه لم يكن فُرِض بعدُ، أو لأنه لم يكن واجبًا عليه، أو أنه ذكَره وراوي الحديث اختصره[4]

فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ»؛ وهي الصَّلَوَاتُ التي فرضَها اللهُ I على نبيِّه في ليلة الإسراء والمِعْرَاج، وهي صلاةُ الفجر، والظُّهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وهي أعظمُ أركان الإسلامِ بعد الشهادتين، وهي عَمودُ دين الإسلام، وأَكثَرُ العبادات ذِكْرًا في القرآن، وآخرُ وصايا الرسول ﷺ، وقد سَمَّاها اللهُ تعالى إِيمانًا.

فسأل الأعرابيُّ رسولَ الله ﷺ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟»؛ أيْ: إذا أَدَّيْتُها على الوجه الذي أراده الله I في أوقاتِها، وَأَتَيْتُ بِكَامِلِ أركانِها وواجباتِها وهَيْئَاتِها، مُخْلِصًا لله وَحْدَهُ فيها، فهل أنا مُكَلَّفٌ بصلاةٍ غيرِها؟

فأجاب النبيُّ ﷺ «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: ليس عليك صلواتٌ مفروضةٌ غير هذه الخمس، إلا أن تَزيد عليها بطَواعِيَتكَ من غير إلزام من الشرع[5]، فتتطوَّع بالنوافل؛ وفي ذلك إشارةٌ إلى أن الفرائضَ وحدها إذا التزمها صاحِبُها على الوجه الذي يرضاه الخالقُ سبحانه فهو من الناجين يومَ القيامة بلا شكٍّ، وإن تَرَكَ غيرها من النوافل، وإنْ كان هذا التَّرْكُ مذمومًا، فإنَّ الله سبحانه بَيَّن أنه ما تَقَرَّب إليه العبدُ بشيءٍ أحبَّ إليه مما افترضه عليه.

وقوله: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»: الفعل بتشديد الطاء والواو، وأصلُه "تَتَطَوَّع"، فأُدغمت التاء الثانية في الطاء، وصارت طاءً مُشدَّدةً[6]، والتَّطَوُّعُ معناه: أن يتقرَّب العبد إلى الله تعالى بما لم يَفرضه عليه من العبادات؛ رَغْبَةً في عُلُوِّ الدرجات يَوْمَ القيامة، وهذه الأعمالُ في الشَّرْعِ مندوبٌ إليها، يُثَابُ فاعلها، ولا يُعاقَب تَارِكُها[7]

وقوله ﷺ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ استثناءٌ منقطعٌ، ومعناه: لكن يُستحبُّ لك أن تتطوَّع، وَجَعَله بعضُ العلماء استثناءً متَّصِلًا، ومعناه: لا يجب عليك غيرُها إلا أن تتطوَّع فتَصير مُلزَمًا بإتمام التطوُّع؛ لأنك شرعتَ فيه، واستدلُّوا بهذا المعنى على أن مَن شرع في صلاة نفل، أو صوم نفل، وَجَب عليه إتمامُه.

ونوافلُ الصلاة كثيرةٌ، آكَدُها ما كان يَحرِصُ عليه النبيُّ ﷺ في كلِّ يَوْمٍ وليلة؛ وهي صلاةُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ ركعةً، مَن صلَّاهَا بَنَى الله له بيتًا في الجنَّة[8]؛ فعن أمِّ حبيبةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسولُ الله ﷺ: «مَن صلَّى في يوم وليلة ثِنْتَيْ عَشْرةَ ركعةً، بُني له بيتٌ في الجنَّة: أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر صلاة الغداة»[9]

وأمّا أفضل هذه النّوافل، فصلاةٌ في الثُّلث الأخير من الليل؛ فهو وقتٌ مبارك ينزل فيه ربُّنا إلى السماء الدُّنيا، فيغفر للمستغفرين، ويتوب على التّائبين، ويُعطي السّائلين؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسولَ الله ﷺ قال: «يَنزِلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا، حين يَبقى ثلثُ الليل الآخر يقول: مَن يدعوني، فأستجيبَ له؟ مَن يسألني فأُعطيَه؟ مَن يستغفرني فأغفرَ له؟»[10]

ولا يَعْلَمُ أحدٌ ما أَعَدَّ اللهُ للمُتَهَجِّدِينَ بالليلِ يومَ القيامةِ مِن قُرَّةِ أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون، مِصداقَ

قول الله تعالى:

﴿تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمۡ عَنِ ٱلۡمَضَاجِعِ يَدۡعُونَ رَبَّهُمۡ خَوۡفٗا وَطَمَعٗا وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ16 فَلَا تَعۡلَمُ نَفۡسٞ مَّآ أُخۡفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعۡيُنٖ جَزَآءَۢ بِمَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ﴾    

[السجدة: 16، 17].

ثم يستأنفُ النبيُّ ﷺ بيانَ ما على الأعرابيِّ مِنَ الفرائضِ المخاطَبِ بها، فيقول ﷺ «وَصِيَامُ رَمَضَانَ»، وهو الرُّكْنُ الرابعُ من أركان الإسلام، وهو الإمساكُ عن الطعام والشراب وسائر المفطِّرات من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس[11]، وصيامُ شهر رمضانَ من أَعْظَمِ الفروض وأَجَلِّها، خصَّهُ اللهُ ﷺ بالكثير من الخصائص؛ منها أنَّ كُلَّ عَمَلِ الإنسان له إلا الصَّوْمَ، فإنَّهُ لله؛ كما أخبرَ بذلك الله U، وكلُّ الأعمالِ معلومٌ جزاؤُها إلا الصَّوْمَ، فالله سبحانه يُوَفِّي الصائمين أجرَهم يومَ القيامة جزاءً مَوْفورًا؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:

«قال الله: كلُّ عملِ ابنِ آدمَ له، إلا الصيامَ، فإنه لي، وأنا أَجْزي به، والصيامُ جُنَّةٌ ...»

[12]

وقوله: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: إذا صُمْتُ شَهْرَ رمضانَ كاملًا، ورَاعَيْتُ أركانَ الصيام وواجباتِه، وأمسكتُ عليَّ جوارحي، كما أمسكتُ عن الطعام والشراب والشهوة، فهل أنا مُكَلَّفٌ بصيام أيَّامٍ أُخَرَ غير أيام هذا الشهرِ المبارَك؟

فأجاب النبيُّ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: بنوافلِ الصِّيَامِ؛ وهي كثيرةٌ؛ منها صيامُ شهرِ الله المحرَّمِ، وهو أفضلُ الصيامِ بعد شَهْرِ رمضانَ[13]، وصيامُ يوم عَرَفةَ الذي يُكَفِّرُ ذُنوبَ سنتين: سنةٍ ماضية، وسنةٍ باقية، وصيامُ يومِ عاشوراءَ، يُكَفِّرُ ذنوبَ سنةٍ ماضيةٍ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر هجريٍّ[14]، ونحو ذلك.

ثم ذكَر له النبيُّ ﷺ الزكاةَ، وهي: "التعبُّدُ لله تعالى بإخراج جزءٍ واجبٍ شرعًا في مال مُعيَّن لطائفة، أو جهة مخصوصة"[15]، وإنما سُمِّيت زكاةً لأنها تُزَكِّي النَّفْسَ وتُطَهِّرُهَا من الآثام؛ كما

قال تعالى:

﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ﴾

[التوبة: 103]

وهي حقٌّ معلوم فَرَضَهُ الله سبحانه للفقراءِ في أموال الأغنياء؛

كما قال تعالى:

﴿ وَٱلَّذِينَ فِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقّٞ مَّعۡلُومٞ24 لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ﴾ 

 [المعارج: 24، 25].

فسأل الرجُل رسول الله ﷺ: (هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟)؛ أي: إذا أَدَّيْتُها على التقدير الذي افترضه الله، فهل يَلْزَمُني إنفاقُ المال في وجوه أخرى؟

فأجابه النبيُّ ﷺ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ»؛ أي: بالصَّدَقة بفضل مالك، والصَّدَقةُ بُرهانٌ على إيمان العبد، وإنما ينال ما عند الله من الخير في الدُّنيا، والنعيم المقيم في الآخرة بالإنفاق في سبيله، والإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين، والإنفاق على طلبة العلم، والإنفاق على الزّوجة والأولاد؛ ابتغاءَ مرضاة الله، وهو أفضلُ أنواع الصّدقة، وما من عبد يُنفق نفقةً إلا ويأتي يومَ القيامة يجدها أضعافًا مضاعفةً مثلَ جبل أُحد حَسَنات.

وقوله: (فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ)، قيل: معناه: لا أُغيِّر الفروضَ المذكورة بزيادة فيها ولا نُقْصانٍ منها. ولا يصحُّ أن يُقال: إنَّ معناه: لا أفعلُ شيئًا زائدًا على هذه الفروض المذكورة منَ السُّنَنِ، ولا من فُرُوضٍ أُخَرَ إن فُرِضَتْ؛ فإنَّ ذلك لا يجوزُ أن يقوله ولا يعتقده؛ لأنه مُنكَر، والنبيُّ ﷺ لا يُقِرُّ على مثله.

"فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرضُ النهيِ عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتِّباع النبيِّ فيما سنَّه لأمَّته، فكيف يُفلح مَن لم ينتهِ عما نهاه الله، ولم يتَّبِع ما سنَّه ﷺ، وقد توعَّد الله على مخالفة نبيِّه ﷺ،

بقوله:

﴿فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾

[النور: 63]

فالجواب: أنه يُحتمَل أن يكون هذا الحديثُ كان في أول الإسلام قبل ورود النواهي... ويُحتمَل أن يكون قوله على معنى التأكيد في المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شيء من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أَمَره بأمر مهمٍّ عنده: والله لا أَزيد على ما أمرتني به ولا أنقُص؛ أي: أفعله على حسب ما حدَّدته لي، لا أُخِلُّ بشيء منه، ولا أَزيد فيه من عند نَفْسي غير ما أمرتني به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار، ومن كان في المحافظة على ما أمر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلُّق في هذا الحديث لمن احتجَّ أن تارك السُّنن غير حَرِج، ولا آثِم؛ لتوعُّد الله تعالى على مخالفة أمر نبيِّه. وبهذا التأويل تتَّفِق معاني الآثار والكتاب، ولا يتضادُّ شيء من ذلك"[16]

"فإن قيل: فكيف أقرَّه على حَلِفه، وقد وَرَد النكيرُ على مَن حلف ألَّا يفعل خيرًا؟ أجيب: بأن ذلك مختلِف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثمَ على غير تارك الفرائض، فهو مفلِحٌ، وإنْ كان غيرُه أكثرَ فلاحًا منه"[17]

"ومراد الأعرابيِّ أنَّه لا يَزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعِ الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكر فيها اجتنابُ المحرَّمات؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة"[18]

وقوله ﷺ: «أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ»؛ أي: فاز بمطلوبِهِ؛ "فأفلح من الإفلاح، وهو الفوزُ والبقاءُ، وقيل: هو الظفَرُ وإدراكُ البُغية، وقيل: إنه عبارةٌ عن أربعة أشياءَ: بقاء بلا فناء، وغناء بلا فقر، وعزٌّ بلا ذُلٍّ، وعلمٌ بلا جهل. قالوا: ولا كلمةَ في اللغة أجمعُ للخيرات منه، والعربُ تقول لكلِّ مَن أصاب خيرًا: مُفلح، وقال ابن دُريد: أفلح الرجُلُ وأنجحَ: أدرك مطلوبَه"[19]

المراجع

  1.  انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 106).
  2.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
  3.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 106).
  4.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 107).
  5.  انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 266).
  6.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 107).
  7.  انظر: "مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج" للخطيب الشربينيِّ (2/ 182).
  8.  رواه مسلم (728).
  9.  رواه الترمذيُّ (415)، وقال: حديث حسن صحيح. وقال الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1088): صحيح.
  10.  رواه البخاريُّ (1145)، ومسلم (758).
  11.  انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" ابن عثيمين (3/ 5).
  12.  رواه البخاريُّ (1904)، ومسلم (1151).
  13.  كما في حديث مسلم (1163)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أفضلُ الصيام بعدَ رمضانَ: شهرُ الله المحرَّم، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة: صلاةُ الليل».
  14.  كما في حديث مسلم (1162)، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «ثلاث من كلِّ شهر، ورمضانُ إلى رمضانَ، فهذا صيام الدهر كلِّه، وصيام يومِ عرفةَ، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبلَه، والسنةَ التي بعدَه، وصيام يوم عاشوراءَ، أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله».
  15.  "الشرح الممتع على زاد المستقنع" لابن عثيمين (6/ 13).
  16.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104- 105).
  17. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 108).
  18.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).
  19.  "عمدة القاري بشرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (1/ 266).

النقول

قال ابن بطَّال : "فإن قيل: إن هذا الحديث ليس فيه فرضُ النهي عن المحارم، وعن ركوب الكبائر، وليس فيه الأمر باتِّباع النبيِّ r فيما سنَّه لأمَّته، فكيف يُفلح مَن لم ينتهِ عما نهاه الله، ولم يتَّبِع ما سنَّه ، وقد توعَّد الله على مخالفة نبيِّه ﷺ،

بقوله:

﴿ فَلۡيَحۡذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦٓ أَن تُصِيبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ يُصِيبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾

[النور: 63]

فالجواب: أنه يُحتمَل أن يكون هذا الحديثُ كان في أول الإسلام قبل ورود النواهي... ويُحتمَل أن يكون قوله على معنى التأكيد في المحافظة على الوفاء بالفرائض المذكورة، من غير نقصان شيء من حدودها، كما يقول العبد لمولاه إذا أَمَره بأمر مهمٍّ عنده: والله لا أَزيد على ما أمرتني به ولا أنقُص؛ أي: أفعله على حسب ما حدَّدته لي، لا أُخِلُّ بشيء منه، ولا أَزيد فيه من عند نفْسي غير ما أمرتني به، ويكون الكلام إخبارًا عن صدق الطاعة وصحيح الائتمار، ومن كان في المحافظة على ما أمر به بهذه المنزلة، فإنه متى وَرَد عليه أمرٌ لله تعالى أو لرسوله، فإنه يُبادر إليه، ولا يتوقَّف عنه، فرضًا كان أو سُنَّةً. فلا تعلُّق في هذا الحديث لمن احتجَّ أن تارك السُّنن غير حَرِج، ولا آثم؛ لتوعُّد الله تعالى على مخالفة أمر نبيِّه. وبهذا التأويل تتَّفِق معاني الآثار والكتاب، ولا يتضادُّ شيء من ذلك"[1]

قال ابن حجر : "فإن قيل: فكيف أقرَّه على حَلِفه، وقد وَرَد النكيرُ على مَن حلف ألَّا يفعل خيرًا؟ أجيب: بأن ذلك مختلِف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جارٍ على الأصل بأنه لا إثمَ على غير تارك الفرائض، فهو مفلِحٌ، وإنْ كان غيرُه أكثرَ فلاحًا منه"[2]

قال الحافظ ابن رجب : "ومراد الأعرابيِّ أنَّه لا يَزيدُ على الصلاة المكتوبة، والزكاة المفروضة، وصيامِ رمضانَ، وحجِّ البيت شيئًا من التطوُّع، ليس مرادُه أنَّه لا يعمل بشيءٍ من شرائعِ الإسلام وواجباته غير ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكر فيها اجتنابُ المحرَّمات؛ لأنَّ السائل إنَّما سأله عَنِ الأعمال التي يدخل بها عامِلُها الجنَّة"[3]

قال ابن بطَّال : "هذا الحديث حُجَّةٌ أن الفرائض تُسمَّى إسلامًا، ودلَّ قوله: «أفلح إن صدق» على أنه إن لم يَصدُق في التزامها أنه ليس بمفلِح، وهذا خلاف قول المرجئة"[4]

قال ابن حجر : "«لا، إِلَّا أَنْ تَطوَّعَ»: (تَطَّوَّعَ) بتشديد الطّاء والواو، وأصله (تتطوَّع) بتاءين، فأُدغمت إحداهما، ويجوز تخفيف الطّاء على حذف إحداهما، واستُدلَّ بهذا على أنّ الشّروع في التّطوُّع يوجب إتمامه تمسُّكًا بأنّ الاستثناء فيه متَّصل. قال القرطبيُّ: لأنّه نفيُ وجوب شيء آخر إلّا ما تطوَّع به، والاستثناء من النّفي إثبات، ولا قائل بوجوب التّطوُّع، فيتعيَّن أن يكون المراد إلّا أن تَشرَع في تطوُّع فيَلزَمك إتمامه. وتعقَّبه الطّيبيُّ بأنّ ما تمسَّك به مغالطة؛ لأنّ الاستثناء هنا من غير الجنس؛ لأنّ التّطوُّع لا يقال فيه: عليك. فكأنّه قال: لا يجب عليك شيء إلّا إن أردتَ أن تطَّوَّع فذلك لك، وقد عُلم أنّ التّطوُّع ليس بواجب، فلا يجب شيء آخر أصلًا. كذا قال. وحرف المسألة دائر على الاستثناء، فمن قال: إنّه متَّصِل، تمسَّك بالأصل، ومن قال: إنّه منقطع، احتاج إلى دليل، والدّليل عليه ما روى النّسائيُّ وغيره أنّ النّبيَّ ﷺ كان أحيانًا ينوي صوم التّطوُّع ثمّ يُفطر، وفي البخاريِّ أنّه أمر جُويرية بنتَ الحارث أن تُفطر يومَ الجمعة بعد أن شَرَعت فيه، فدلَّ على أنّ الشّروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلةً، بهذا النّصِ في الصّوم، وبالقياس في الباقي، فإن قيل: يَرِدُ الحجَّ. قلنا: لا؛ لأنّه امتاز عن غيره بلزوم الْمُضيِّ في فاسده؛ فكيف في صحيحه؟! وكذلك امتاز بلزوم الكفّارة في نفله كفرضه، واللّه أعلم. على أنّ في استدلال الحنفيّة نظرًا؛ لأنّهم لا يقولون بفرضيّة الإتمام؛ بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع؛ لتباينهما، وأيضًا فإنّ الاستثناء من النّفي عندهم ليس للإثبات؛ بل مسكوت عنه، وقوله: «إلّا أن تطوَّع» استثناء من قوله: «لا»؛ أي: لا فرض عليك غيرها. قوله: «وذكر رسول اللّه ﷺ الزّكاة» في رواية إسماعيل بن جعفر قال: «أخبرني بما فرض اللّه عليَّ من الزّكاة» قال: «فأخبره رسول اللّه ﷺ بشرائع الإسلام»، فتضمَّنت هذه الرّواية أنّ في القصّة أشياءَ أُجملت؛ منها: بيان نصب الزّكاة، فإنّها لم تفسَّر في الرّوايتين، وكذا أسماء الصّلوات، وكأنّ السّبب فيه شهرة ذلك عندهم، أو القصد من القصّة بيان أنّ المتمسِّك بالفرائض ناجٍ، وإن لم يفعل النّوافل"[5]

قال ابن بطَّال : "وقوله ﷺ: «إلا أن تطَّوع» ندبٌ إلى التطوُّع، وقوله: «أفلح إن صدق»؛ أي: فاز بالبقاء الدائم في الخير والنعيم الذي لا يَبِيد. والفلاح في اللغة: البقاء، وهو معنى قول المؤذِّن: حيَّ على الفلاح؛ أي: هلمُّوا إلى العمل المؤدِّي إلى البقاء"[6]

قال النوويُّ : "قَوْلُهُ ﷺ: «إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ» استثناء منقطع، ومعناه: لكن يُستحبُّ لك أن تطَّوَّع، وجعله بعض العلماء استثناءً متَّصلًا، واستدلُّوا به على أن من شرع في صلاة نَفْل أو صوم نفل، وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنّه يُستحبُّ الإتمام ولا يجب، واللّه أعلم. قوله: (فأدبر الرّجل وهو يقول: واللّه لا أزيد على هذا ولا أنقص)، فقال رسول اللّه ﷺ: «أفلح إن صدق» قيل: هذا الفلاح راجع إلى قوله: (لا أنقص) خاصّةً، وإلا ظهر أنّه عائد إلى المجموع؛ بمعنى: أنّه إذا لم يزد ولم يَنقُص كان مُفلِحًا؛ لأنّه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه فهو مفلح، وليس في هذا أنّه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحًا؛ لأنّ هذا ممّا يُعرَف بالضّرورة، فإنّه إذا أفلح بالواجب، فلأن يُفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل: كيف قال: «لا أزيد على هذا»، وليس في هذا الحديث جميع الواجبات ولا المنهيَّات الشّرعيّة، ولا السُّنن المندوبات؟ فالجواب: أنّه جاء في رواية البخاريِّ في آخر هذا الحديث زيادة توضِّح المقصود؛ قال: فأخبره رسول اللّه ﷺ بشرائع الإسلام، فأدبر الرّجل وهو يقول: (واللّه لا أزيد ولا أنقص ممّا فرض اللّه تعالى عليّ شيئًا)، فعلى عموم قوله: (بشرائع الإسلام)، وقوله: (ممّا فرض اللّه عليّ) يزول الإشكال في الفرائض، وأمّا النّوافل، فقيل: يُحتمَل أنّ هذا كان قبل شرعها، وقيل: يُحتمَل أنّه أراد: لا أزيد في الفرض بتغيير صفته؛ كأنّه يقول: لا أصلِّي الظُّهْرَ خمسًا، وهذا تأويل ضعيف، ويُحتمَل أنّه أراد: أنّه لا يصلّي النّافلة مع أنّه لا يُخِلُّ بشيء من الفرائض، وهذا مُفلح بلا شكٍّ، وإن كانت مواظبته على ترك السُّنن مذمومةً، وتُرَدُّ بها الشّهادة، إلّا أنّه ليس بعاصٍ؛ بل هو مفلح ناجٍ، واللّه أعلم"[7]

قال ابن رجب : "ومُراد الأعرابيِّ أنّه لا يَزيد على الصّلاة المكتوبة، والزّكاة المفروضة، وصيام رمضان، وحجِّ البيت شيئًا من التّطوُّع، ليس مرادُه أنّه لا يعمل بشيء من شرائع الإسلام وواجباته غيرِ ذلك، وهذه الأحاديثُ لم يُذكَر فيها اجتناب المحرَّمات؛ لأنّ السّائل إنّما سأله عن الأعمال الّتي يَدخُل بها عاملها الجنَّة"[8]

المراجع

  1.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (1/ 104- 105).
  2.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 108).
  3.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).
  4.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 104).
  5.  "فتح الباري" لابن حجر (1/ 107).
  6.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 107).
  7.  "شرح النوويِّ على مسلم" (1/ 167).
  8.  "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 517).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهمَا - عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»: يحثُّ النَّبيُّ ﷺ على الْمُبادَرة بكتابة الوصية قبل مُباغَتة الموت، ويبيِّن أنه لا ينبغي للمسلم - رجُلًا كان أو امرأةً - ولا يحقُّ له إذا كان يمتلك شَيئًا يُوصي فيه من الأموال ونحوها، أو عليه من الحقوق والديون، أو فرَّط في شيء من الكفَّارات والزَّكوات، وهَلُمَّ جرًّا، أن تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ إلَّا ووَصيَّتُه بما يتطلَّب الإيصاء به مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عندَه، فإذا وصَّى بذلك، أُخرِجَت الدِّيونُ مِن رأس المال، وأُخرج غيرُها مِن ثُلثِ التَّرِكة.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد كتب اللهُ تعالى الموتَ على الإنسان، فيحيا المؤمنُ في الدنيا الفانية ليتزوَّد للآخرة الباقية، ومما يُعِين على ذلك ذِكْرُ الموت، والخوفُ والحَذَر من سوء الخاتمة، وتجديد التوبة، والإنابة لله تعالى، فتذكُّرُ الموت والاستعداد الدائم له مما يُعِين المسلمَ على الاستقامة والتقوى، وكان النبيُّ ﷺ يوضِّح للمؤمنين حقيقة الدنيا؛

فعن عبد الله بنِ عمرَ - رضي الله عنهما - قال:

أخَذَ رَسولُ اللهِ ﷺ بمَنْكِبِي، فَقالَ: «كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ»، وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ»

[1].

فعلى المسلم أن يجعل الموتَ نُصبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، ويقصِّر أمله في الدنيا، ويترك الْمَيل إلى غرور الدنيا.

لقد حثَّ الإسلام ونَدَب إلى التَّأهُّبِ للموت، والاحترازِ قبلَ الفَوت؛ لأنَّ الإنسانَ لا يَدْري متى يَفجَؤُه الموت. لذا؛ شَرَعَ اللهُ - عزَّ وجلَّ – الوصيَّةَ؛ رحمةً بعباده ولُطفًا بهم؛ حيث يتذكَّر المؤمن دائمًا الموت، ويؤدِّي ما عليه من حقوق، أو يوصي بما عليه من الحقوق متذكِّرًا الموتَ، مستعدًّا له، ويُوصي مما رزقه الله في أعمالِ البِرِّ التي تَعُود على الناس بالخيرِ، وتَعود على الموصي بالأجْرِ والثَّوابِ.

وفي حديث الباب يروي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضي اللَّه عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:

«مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إِلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»

فيحثُّ النَّبيُّ ﷺ على الْمُبادَرة بكتابة الوَصيَّةِ قبلَ مُباغَتة الموت، ويبيِّن أنه لا ينبغي للمسلم -رجُلًا كان أو امرأةً - ولا يحقُّ له إذا كان يمتلك شَيئًا يُوصِي فيه من الأموال ونحوها، أو عليه من الحقوق والديون، أو فرَّط في شيء من الكفَّارات والزَّكواتِ، وهَلُمَّ جرًّا، أن تَمضِيَ عليه لَيلتانِ أو أكثرُ إلَّا ووَصيَّتُه بما يتطلَّب الإيصاءَ به مَكتوبةٌ ومَحفوظةٌ عِندَه، فإذا وصَّى بذلك، أُخرِجَت الدِّيونُ من رأس المال، وأُخرِجَ غيرُها مِن ثُلثِ التَّرِكة.

و"الوصيَّة: مشتقَّة من وَصَيْتُ الشيءَ أُوصيه إذا وَصَلْتُهُ، وَسُمِّيَتْ وصيَّةً؛ لأَنَّه وَصَلَ ما كان في حياته بما بَعْدَه، ويُقال: وَصَّى وَأَوْصَى إِيصاءً، والاسمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوَصَاةُ" [2].

"قوله ﷺ:

«ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيَّتُه مكتوبة عنده»

يعني: ما حقُّه أن يَبِيت ليلتين إلا وقد كَتَب وصيَّتَه التي يريد أن يوصيَ بها، وكان ابن عمرَ - رضي الله عنهما - منذ سمع هذا الكلام من رسول الله لا يَبِيت ليلةً إلا وقد كتب وصيَّته.

والوصيةُ معناها: العَهد، وهي أن يَعهَد الإنسانُ بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو يَعهَد لشخص بالنظر على أولاده الصغار، أو يَعهَد لشخص في أيِّ شيء من الأعمال التي يَملِكها بعد موته، فيُوصي به؛ مِثْلُ أن يَكتُب الرجل: وصيَّتي إلى فلان بن فلان، بالنظر على أولادي الصغار، ووصيَّتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثُلث مالي أو رُبعه أو خُمُسه في سبيل الله. وصيَّتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلَّفت من عقار أو غيره، أو ما أشبه ذلك؛ فالوصيةُ: عهدُ الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يَملِكه" [3].

"قوله ﷺ:

«يَبِيت ليلتين إلّا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده»

وفي رواية: «ثلاثَ لَيَالٍ»: فيه الحثُّ على الوصيَّة، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها؛ لكنَّ مذهب الجماهير أنّها مندوبةٌ لا واجبة، وقال داود وغيره من أهل الظّاهر: هي واجبةٌ؛ لهذا الحديث، ولا دلالةَ لهم فيه؛ فليس فيه تصريح بإيجابها؛ لكن إن كان على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ، أو عنده وَدِيعة ونحوُها، لَزِمه الإيصاء بذلك. قال الشّافعيُّ - رحمه اللّه -: معنى الحديث: ما الحَزْمُ والاحتياط للمسلم إلّا أن تكون وصيَّتُه مكتوبةً عنده، ويُستحبُّ تعجيلُها، وأن يَكتُبها في صحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويَكتُب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد له أمرٌ يحتاج إلى الوصيَّة به، ألحقه بها. قالوا: ولا يُكلَّف أن يَكتُب كلَّ يوم محقَّرات المعاملات، وجُزئيَّات الأمور المتكرِّرة، وأمّا قوله ﷺ: «ووصيَّتُه مكتوبة عنده»، فمعناه: مكتوبةٌ وقد أَشهَد عليه بها، لا أنّه يَقتصِر على الكتابة؛ بل لا يُعمَل بها، ولا تَنفَع إلَّا إذا كان أَشهَد عليه بها، هذا مذهبُ الجمهور، وقال الإمام محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزيُّ: يكفي الكتابُ من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث" [4].

"قولُه: «ما حقُّ امرئٍ مسلم»: كذا في أكثر الرّوايات، وسقط لفظ (مسلم) من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصفُ بالمسلم خَرَج مَخرَج الغالب، فلا مفهومَ له، أو ذُكِر للتَّهْيِيج لتقع المبادرة لامتثاله؛ لِما يَشعُر به من نفيِ الإسلام عن تارك ذلك، ووصيَّة الكافر جائزةٌ في الجُمْلة، وحكى ابنُ الْمُنذِر فيه الإجماعَ، وقد بحث فيه السُّبكيُّ من جهة أنّ الوصيَّةَ شُرِعت زيادةً في العمل الصّالح، والكافرُ لا عَمل له بعدَ الموت، وأجاب بأنّهم نظروا إلى أنّ الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحُّ من الذِّمِّيِّ والحربيِّ" [5].

"والوصية أنواع: واجبة، ومحرَّمة، وجائزة:

أولًا: الوصية الواجبة: وهي أن يُوصِيَ الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلَّا يَجحَدها الوَرَثة، لا سيَّما إذا لم يكن عليها بيِّنة؛ كأن يكون على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ لغيره، فيجب أن يُوصيَ به، لا سيَّما إذا لم يكن فيه بيِّنة؛ لأنه إذا لم يوصِ به، فإن الورثة قد يُنكِرونه، والورثة لا يُلزَمون أن يصدِّقوا كلَّ من جاء من الناس وقال: إن لي على ميِّتِكم كذا وكذا، لا يَلزَمهم أن يصدِّقوا، فإذا لم يوصِ الميِّت بذلك، فإنه ربما يكون ضائعًا، فمن عليه دَيْنٌ؛ يعني: حقٌّ في ذمَّته لأحد، فإنه يجب عليه أن يوصيَ به. كذلك أيضًا أن يوصيَ لأقاربه غير الوارثين بما تيسَّر؛

لقول الله تعالى:

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ }

ﱠ [البقرة: 180]

يعني مالًا كثيرًا. (الْوَصِيَّة): نائب الفاعل، (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فخرج من ذلك، من الوالدين والأقربين من كانوا ورثةً؛ فإن الورثة لا يُوصى لهم، وبَقِيت الآيةُ مُحكَمةً فيما عدا الوارثين. هكذا دلالة الآية، وبها فسَّرها ابن عباس - رضي الله عنهما - وذهب إليها كثيرٌ من أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يُوصيَ إذا كان عنده مالٌ كثيرٌ بما تيسَّر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارثُ، فلا يجوز أن يوصى له؛ لأن حقَّه من الإرث يكفيه، فهذان أمران تجب فيهما الوصية: الأول: إذا كان عليه دَيْنٌ؛ يعني حقًّا للناس. والثاني: إذا ترك مالًا كثيرًا، فإنه يَلزَمه أن يوصيَ لأقاربه من غير الوارثين.

ثانيًا: الوصيَّة المحرَّمة: وهي محرَّمة إذا أوصى لأحد من الورثة، فإنه حرامٌ عليه؛ مثلُ أن يوصيَ لولده الكبير بشيء من بين سائر الوَرَثة، أو يوصيَ لزوجته بشيء من بين سائر الورثة، فإن هذا حرامٌ عليه، حتى ولو قدِّر أن المرأة – أي: الزوجة - كانت تَخدُمه في حياته وتُطيعه وتحترمه، وأراد أن يكافئها؛ فإنه لا يحلُّ له أن يوصيَ لها بشيء، وكذلك لو كان أحد أولاده يَبَرُّ به ويَخدُمه ويسعى في ماله، فأراد أن يوصيَ له بشيء؛ فإن ذلك حرامٌ عليه. وكذلك ما يَفعَله بعض الناس إذا كان له أولاد عِدَّةٌ، وزوَّج الكبير، أوصى للصغار بمثل المال الذي زوَّج به الكبير، فإن هذا حرامٌ أيضًا؛ لأن التزويج دَفْعُ حاجةٍ كالأكل والشُّرب، فمن احتاج إليه من الأولاد وعند أبيهم قُدرةٌ، وجب عليه أن يزوِّجه، ومن لم يحتَجْ إليه، فإنه لا يحلُّ له أن يُعطيَه شيئًا مثل ما أعطى أخاه الذي احتاج للزواج. وهذه مسألة تخفى على كثيرٍ من الناس، حتى على طلبة العلم، يظنُّون أنك إذا زوَّجتَ ولدك، فإنك يجب أن توصيَ للأولاد الصغار بمثل ما زوَّجته به، وهذا ليس بصحيح؛ فالوصيةُ للوارث لا تجوز مُطلَقًا، فإن قدِّر أن أحدًا كان جاهلًا، وأوصى لأحد الورثة بشيء، فإنه يُرجَع إلى الورثة بعد موته، إن شاؤوا نفَّذوا الوصية، وإن شاؤوا ردُّوها.

ثالثًا: الوصية المباحة: فهي أن يوصيَ الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثُّلث؛ لأن تجاوُزَ الثُّلث ممنوع؛ لكن ما دون الثُّلث أنت حرٌّ فيه، ولك أن توصيَ فيه لمن شئتَ إلا الورثةَ؛ هذه جائزة.

ولكن هل الأفضل الثُّلث أو الربع أو ما دون ذلك؟ نقول: أكثرُ شيء الثُّلث لا تَزِد عليه، وما دون الثُّلث فهو أفضلُ منه؛ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو أن الناس غضُّوا من الثُّلث إلى الربع، فإن النبيَّ ﷺ قال لسعدِ بن أبي وقَّاص: «الثُّلث والثُّلث كثير» [6]، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أوصى بخُمس ماله، وقال: أرضى بما رضيَ الله لنفسه الخُمس، فأوصى بخُمس ماله؛ وهذا أحسن ما يكون.

وليت طلبةَ العلم والذين يَكتُبون الوَصايا ينبِّهون الموصِين على أن الأفضل الوصيةُ بالخُمس لا بالثُّلث، وقد شاع عند الناس الثُّلث دائمًا، وهذا الحدُّ الأعلى الذي حدَّه الرسول ﷺ وما دونه أفضلُ منه؛ فالرُّبع أفضلُ من الثُّلث، والخُمس أفضلُ من الرُّبع. وإذا كان الورثة محتاجين، فتركُ الوصية أولى، هم أحقُّ من غيرهم؛

قال النبيُّ ﷺ:

«إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»

[7].

فإذا كان الورثةُ الذين يَرِثونك تَعرِف أن حالهم وَسَطٌ والمالُ شَحيحٌ عندهم، وأنهم إلى الفقر أقربُ، فالأفضلُ ألَّا توصِي" [8].

"قوله: «يبيت»: كأنَّ فيه حذفًا، تقديرُه: (أن يبيت)، ويجوز أن يكون (يبيت) صفةً لمسلم، وبه جزم الطّيبيُّ، قال: هي صفة ثانية، وقولُه: «يوصي فيه» صفةُ (شيء)... نعم قال العلماء: لا يُندَب أن يَكتُب جميع الأشياء المحقَّرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء له عن قُرب.

قوله: «ليلتين» كذا لأكثر الرّواة، ولأبي عوانة والبيهقيِّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوبَ: «يبيت ليلةً أو ليلتين»، ولمسلم والنّسائيِّ من طريق الزُّهْريِّ عن سالم عن أبيه: «يبيت ثلاث ليال»، وكأنّ ذكر اللّيلتين والثّلاث لرفع الحرج؛ لتزاحُم أشغال المرء الّتي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر ليتذكَّر ما يحتاج إليه، واختلاف الرّوايات فيه دالٌّ على أنه للتقريب لا التَّحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلًا إلّا ووصيّته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزّمن اليسير، وكأنّ الثّلاث غاية للتّأخير؛ ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة: لم أبت ليلةً منذ سمعتُ رسول اللّه ﷺ يقول ذلك إلّا ووصيَّتي عندي. قال الطِّيبيُّ في تخصيص اللّيلتين والثّلاث بالذّكر: تسامح في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في اللّيلتين والثّلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك" [9].

"ولفظُه عند الدَّارَقُطْنيّ: «لا يَحِلُّ لمسلم أن يَبيت ليلتين إلَّا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده» واستُدِلَّ بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصيَّة، وبه قال الزُّهْريُّ وأبو مِجْلَز وعطاء وطلحةُ بنُ مصرِّف في آخرين، وحكاه البيهقيُّ عن الشّافعيِّ في القديم، وبه قال إسحاق وداودُ، واختاره أبو عوانة الإسفرايينيِّ وابن جرير وآخرون، ونسب ابن عبد البرِّ القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذَّ، كذا قال، واستُدِلَّ لعدم الوجوب من حيث المعنى؛ لأنّه لو لم يوصِ لقُسِّم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصيَّةُ واجبةً، لأُخرِج من ماله سهمٌ يَنُوب عن الوصيَّة، وأجابوا عن الآية بأنّها منسوخة كما قال ابن عبَّاس: كان المال للولد، وكانت الوصيَّة للوالدينِ، فنسخ اللّه من ذلك ما أحبَّ، فجعل لكلِّ واحد من الأبوين السُّدُس. الحديث، وأجاب من قال بالوجوب بأنّ الّذي نُسِخ الوصيَّة للوالدينِ والأقارب، الّذين يرثون، وأمّا الّذي لا يَرِث، فليس في الآية ولا في تفسير ابن عبّاس ما يقتضي النّسخ في حقِّه، وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأنّ قوله: (ما حقّ امرئ) بأنّ المراد الحزم والاحتياط؛ لأنّه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصيّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يَغفُل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشّافعيِّ، وقال غيره: الحقُّ لغةً: الشّيء الثّابت، ويُطلَق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحُكم الثّابت أعمُّ من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، وقد يُطلَق على الْمُباح أيضًا؛ لكن بقلَّة، قاله القرطبيُّ، قال: فإن اقترن به على أو نحوها، كان ظاهرًا في الوجوب، وإلّا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التّقدير فلا حجَّةَ في هذا الحديث لمن قال بالوجوب؛ بل اقترن هذا الحقُّ بما يدلُّ على النَّدْب، وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي، حيث قال: «له شيء يريد أن يوصي فيه» فلو كانت واجبةً، لَمَا علَّقها بإرادته، وأمّا الجواب عن الرّواية الّتي بلفظ (لا يحلُّ) فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي الحلِّ ثبوتَ الجَوَاز بالمعنى الأعمِّ الّذي يَدخُل تحته الواجب والمندوب والمباح" [10].

"وفي حديث ابن عمرَ - رضي الله عنهما - العملُ بالكتابة؛

لقوله ﷺ:

«إلا ووصيته مكتوبة عنده»،

فدلَّ هذا على جواز العمل؛ بل وجوب العمل بالكتابة. وفي قوله: «مكتوبة» اسم مفعول إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون هو الكاتبَ أو غيرَه ممن تَثبُت الوصية بكتابته، فلا بدَّ أن تكون الكتابة معلومةً، إما بخطِّ الموصي نفسِه، أو بخطِّ شخص معتمَد، وأما إذا كانت بخطٍّ مجهول، فلا عبرةَ بها، ولا عَمَلَ عليها.

وفي قوله: «عنده» إشارةٌ إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوثائق، وألَّا يسلِّط عليها أحدًا؛ بل تكون عنده في شيء محفوظ محرَّز؛ كالصندوق وغيره؛ لأنه إذا أهملها، فربَّما تضيع منه، أو يسلَّط عليها أحد يَأخُذها ويُتلِفها، أو ما أَشبَه ذلك.

المهمُّ في هذا الاعتناءُ بالوصية، وأن يحتفظ بها الإنسان حتى لا تضيع. وفيه أيضًا سرعةُ امتثال الصحابة لأمر النبيِّ ﷺ، لذلك؛ قال ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد ما سمع هذا الحديث من النبيِّ ﷺ:

(ما مرَّت علي ليلة منذ سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول هذا إلا ووصيَّتي مكتوبةٌ عندي)

فالذي ينبغي للإنسان أن يهتمَّ بالأمر حتى لا يَفْجَأَه الموت، وهو قد أضاع نفسه، وأضاع حقَّ غيره" [11].

"واختلف القائلون بوجوب الوصيَّة، فأكثرُهم ذَهَب إلى وجوبها في الجُملة، وعن طاوسٍ وقتادةَ والحسن وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقَرابة الّذين لا يَرِثون خاصّة، أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قَرابته، لم تَنْفُذ، ويُرَدُّ الثُّلث كلُّه إلى قرابته، وهذا قول طاوس، وقال الحسن وجابر بن زيد: ثُلثا الثُّلث، وقال قتادة: ثُلث الثُّلث، ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أنّ المراد بوجوب الوصيّة في الآية والحديث يختصُّ بمن عليه حقٌّ شرعيٌّ يَخشى أن يَضيع على صاحبه إن لم يُوصِ به؛ كوديعة ودَين للّه أو لآدميٍّ، قال: ويدلُّ على ذلك تقييده بقوله: «له شيء يريد أن يوصي فيه»؛ لأنَّ فيه إشارةً إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجَّلًا، فإنّه إذا أراد ذلك، ساغ له، وإن أراد أن يوصيَ به، ساغ له، وحاصله يرجع إلى قول الجمهور: إنّ الوصيّة غير واجبة لعَيْنها، وإنّ الواجب لعَينه الخروجُ من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز أو وصيَّة، ومحلُّ وجوب الوصيّة إنّما هو فيما إذا كان عاجزًا عن تنجيز ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره ممَّن يَثبُت الحقُّ بشهادته، فأمّا إذا كان قادرًا أو عَلم بها غيره، فلا وجوب، وعُرف من مجموع ما ذكرنا أنّ الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحةً فيمن استوى الأمران فيه، ومحرَّمةً فيما إذا كان فيها إضرارٌ؛ كما ثبت عن ابن عبّاس: الإضرار في الوصيّة من الكبائر، رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النّسائيُّ، ورجاله ثقات" [12].

 "واستُدِلَّ بقوله: «مكتوبة عنده» على جواز الاعتماد على الكتابة والخطِّ، ولو لم يقترن ذلك بالشّهادة، وخصَّ أحمدُ ومحمّد بن نصر من الشّافعيَّة ذلك بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام، وأجاب الجمهور بأنّ الكتابة ذُكِرت لِما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى (وصيّته مكتوبة عنده)؛ أي: بشرطها، وقال المحبُّ الطّبريُّ: إضمار الإشهاد فيه بُعْدٌ، وأُجيب بأنّهم استَدلُّوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج؛

كقوله تعالى:

{شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ}

[المائدة: ١٠٦]

فإنّه يدلُّ على اعتبار الإشهاد في الوصيَّة، وقال القرطبيُّ: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التّوثُّق، وإلّا فالوصيَّةُ المشهود بها متَّفق عليها ولو لم تكن مكتوبةً.

واستُدِلَّ بقوله: «وصيته مكتوبة عنده» على أنّ الوصيّة تَنفُذ وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره، وكذلك لو جعلها عند غيره وارتجعها، وفي الحديث منقبة لابن عمر لمبادرته لامتثال قول الشّارع ومواظبته عليه، وفيه النَّدب إلى التّأهُّب للموت والاحتراز قبل الفَوت؛ لأنّ الإنسان لا يدري متى يَفجَؤُه الموت؛ لأنّه ما من سنٍّ يُفرَض إلّا وقد مات فيه جمعٌ جمٌّ، وكلُّ واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهِّبًا لذلك، فيكتب وصيَّتَه، ويجمع فيها ما يَحصُل له به الأجر، ويُحبِط عنه الوِزْرَ من حقوق اللّه وحقوق عباده، واللّه المستعان" [13].

"واستُدِلَّ بقوله: «له شيء» أو «له مال» على صحّة الوصيَّة بالمنافع، وهو قول الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البرِّ، وفي الحديث الحضُّ على الوصيّة، ومُطلَقُها يتناول الصّحيح؛ لكنّ السَّلَف خصُّوها بالمريض؛ وإنّما لم يقيَّد به في الخبر لاطَّرِاد العادة به، وقوله: (مكتوبة) أعمُّ من أن تكون بخَطِّه أو بغير خطِّه، ويُستفاد منه أنّ الأشياء الْمُهمَّة ينبغي أن تُضبَط بالكتابة؛ لأنّها أثبتُ من الضَّبط بالحفظ؛ لأنّه يَخُون غالبًا" [14].


المراجع

1. رواه البخاريُّ (6416).

2. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74).

3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 460، 461).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74 - 76).

5. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).

6. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).

7. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).

8. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461 - 464).

9. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357، 358).

10. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358).

11. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 464، 465).

12. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358، 359).

13. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359، 360).

14. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 360).




النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "كتاب الوصيَّة: قال الأزهريُّ: هي مشتقَّة من وَصَيْتُ الشَّيْءَ أُوصِيهِ إذا وَصَلْتُهُ، وَسُمِّيَتْ وَصِيَّةً؛ لأَنَّه وَصَلَ ما كان في حياته بما بَعْدَه، ويُقال: وَصَّى وَأَوْصَى إِيصَاءً، والاسمُ الْوَصِيَّةُ وَالْوَصَاةُ" [1]. 

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«ما حقُّ امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيَّتُه مكتوبة عنده»؛ يعني: ما حقُّه أن يَبِيت ليلتين إلا وقد كَتَب وصيَّتَه التي يريد أن يوصيَ بها، وكان ابن عمرَ - رضي الله عنه - منذ سمع هذا الكلام من رسول الله لا يَبِيت ليلةً إلا وقد كتب وصيَّته.

والوصيةُ: معناها: العَهد، وهي أن يَعهَد الإنسانُ بعد موته لشخص في تصريف شيء من ماله، أو يَعهَد لشخص بالنظر على أولاده الصغار، أو يَعهَد لشخص في أيِّ شيء من الأعمال التي يَملِكها بعد موته، فيُوصي به؛ هذه هي الوصية؛ مِثْلُ أن يَكتُب الرجل: وصيَّتي إلى فلان بن فلان، بالنظر على أولادي الصغار، ووصيَّتي إلى فلان بن فلان بتفريق ثُلث مالي أو رُبعه أو خُمُسه في سبيل الله. وصيَّتي إلى فلان في أن ينتفع بما خلَّفت من عقار أو غيره، أو ما أشبه ذلك. المهمُّ أن هذه هي الوصية؛ عهدُ الإنسان بعد موته إلى شخص بشيء يَملِكه، هذه هي الوصية" [2].

قال ابن حجر رحمه الله: "قولُه: «ما حقُّ امرئٍ مسلم»: كذا في أكثر الرّوايات، وسقط لفظ (مسلم) من رواية أحمد عن إسحاق بن عيسى عن مالك، والوصفُ بالمسلم خَرَج مَخرَج الغالب، فلا مفهومَ له، أو ذُكِر للتَّهْيِيج لتقع المبادرة لامتثاله؛ لِما يَشعُر به من نفيِ الإسلام عن تارك ذلك، ووصيَّة الكافر جائزةٌ في الجُمْلة، وحكى ابنُ الْمُنذِر فيه الإجماعَ، وقد بحث فيه السُّبكيُّ من جهة أنّ الوصيَّةَ شُرِعت زيادةً في العمل الصّالح، والكافرُ لا عَمل له بعدَ الموت، وأجاب بأنّهم نظروا إلى أنّ الوصيّة كالإعتاق، وهو يصحُّ من الذِّمِّيِّ والحربيِّ، واللّه أعلمُ" [3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "والوصية أنواع: واجبة، ومحرَّمة، وجائزة.

أولًا: الوصية الواجبة: وهي أن يُوصِيَ الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلا يَجحَدها الوَرَثة، لا سيَّما إذا لم يكن عليها بيِّنة؛ كأن يكون على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ لغيره، فيجب أن يُوصيَ به، لا سيَّما إذا لم يكن فيه بيِّنة؛ لأنه إذا لم يوصِ به، فإن الورثة قد يُنكِرونه، والورثة لا يُلزَمون أن يصدِّقوا كلَّ من جاء من الناس وقال: إن لي على ميِّتِكم كذا وكذا، لا يَلزَمهم أن يصدِّقوا، فإذا لم يوصِ الميت بذلك، فإنه ربما يكون ضائعًا، فمن عليه دَيْنٌ؛ يعني: حقٌّ في ذمَّته لأحد، فإنه يجب عليه أن يوصيَ به. كذلك أيضًا أن يوصيَ لأقاربه غير الوارثين بما تيسَّر؛

لقول الله تعالى:

{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَٱلْأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ ۖ }

[البقرة: 180]

؛ يعني مالًا كثيرًا. (الْوَصِيَّة): هذه نائب الفاعل، (لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فخرج من ذلك، من الوالدين والأقربين من كانوا ورثةً؛ فإن الورثة لا يُوصى لهم، وبَقِيت الآيةُ مُحكَمةً فيما عدا الوارثين. هكذا دلالة الآية، وبها فسَّرها ابن عباس - رضي الله عنهما - وذهب إليها كثيرٌ من أهل العلم، أن الإنسان يجب أن يُوصيَ إذا كان عنده مالٌ كثيرٌ بما تيسَّر لأقاربه غير الوارثين، أما الوارثُ، فلا يجوز أن يوصى له؛ لأن حقَّه من الإرث يكفيه، فهذان أمران تجب فيهما الوصية: الأول: إذا كان عليه دَيْنٌ؛ يعني حقًّا للناس. والثاني: إذا ترك مالًا كثيرًا، فإنه يَلزَمه أن يوصيَ لأقاربه من غير الوارثين.

ثانيًا: الوصيَّة المحرَّمة: وهي محرَّمة إذا أوصى لأحد من الورثة، فإنه حرامٌ عليه؛ مثلُ أن يوصيَ لولده الكبير بشيء من بين سائر الوَرَثة، أو يوصيَ لزوجته بشيء من بين سائر الورثة، فإن هذا حرامٌ عليه، حتى ولو قدِّر أن المرأة – أي: الزوجة - كانت تَخدُمه في حياته وتُطيعه وتحترمه، وأراد أن يكافئها؛ فإنه لا يحلُّ له أن يوصيَ لها بشيء، وكذلك لو كان أحد أولاده يَبَرُّ به ويَخدُمه ويسعى في ماله، فأراد أن يوصيَ له بشيء؛ فإن ذلك حرامٌ عليه.

وكذلك ما يَفعَله بعض الناس إذا كان له أولاد عدَّةٌ، وزوَّج الكبير، أوصى للصغار بمثل المال الذي زوَّج به الكبير، فإن هذا حرامٌ أيضًا؛ لأن التزويج دَفْعُ حاجةٍ كالأكل والشُّرب، فمن احتاج إليه من الأولاد وعند أبيهم قُدرةٌ، وجب عليه أن يزوِّجه، ومن لم يحتَجْ إليه، فإنه لا يحلُّ له أن يُعطيَه شيئًا مثل ما أعطى أخاه الذي احتاج للزواج.

وهذه مسألة تخفى على كثيرٍ من الناس، حتى على طلبة العلم، يظنُّون أنك إذا زوَّجتَ ولدك، فإنك يجب أن توصيَ للأولاد الصغار بمثل ما زوَّجته به، وهذا ليس بصحيح؛ فالوصيةُ للوارث لا تجوز مُطلَقًا، فإن قدِّر أن أحدًا كان جاهلًا، وأوصى لأحد الورثة بشيء، فإنه يُرجَع إلى الورثة بعد موته، إن شاؤوا نفَّذوا الوصية، وإن شاؤوا ردُّوها.

ثالثًا: الوصية المباحة: فهي أن يوصيَ الإنسان بشيء من ماله لا يتجاوز الثُّلث؛ لأن تجاوُزَ الثُّلث ممنوع؛ لكن ما دون الثُّلث أنت حرٌّ فيه، ولك أن توصيَ فيه لمن شئتَ إلا الورثةَ؛ هذه جائزة.

ولكن هل الأفضل الثُّلث أو الربع أو ما دون ذلك؟ نقول: أكثرُ شيء الثُّلث لا تَزِد عليه، وما دون الثُّلث فهو أفضلُ منه؛ ولهذا قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو أن الناس غضُّوا من الثُّلث إلى الربع، فإن النبيَّ ﷺ قال لسعدِ بن أبي وقَّاص: «الثُّلث والثُّلث كثير»، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أوصى بخُمس ماله، وقال: أرضى بما رضيَ الله لنفسه الخُمس، فأوصى بخُمس ماله؛ وهذا أحسن ما يكون.

وليت طلبةَ العلم والذين يَكتُبون الوَصايا ينبِّهون الموصِين على أن الأفضل الوصيةُ بالخُمس لا بالثُّلث، وقد شاع عند الناس الثُّلث دائمًا، وهذا الحدُّ الأعلى الذي حدَّه الرسول - عليه الصلاة والسلام - وما دونه أفضلُ منه؛ فالرُّبع أفضلُ من الثُّلث، والخُمس أفضلُ من الرُّبع. وإذا كان الورثة محتاجين، فتركُ الوصية أولى، هم أحقُّ من غيرهم؛

قال النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -:

«إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ»

[4].

فإذا كان الورثةُ الذين يَرِثونك تَعرِف أن حالهم وَسَطٌ والمالُ شَحيحٌ عندهم، وأنهم إلى الفقر أقربُ، فالأفضلُ ألَّا توصِي.

ففي هذا الحديث الإشارةُ إلى أن الإنسان يوصي؛ ولكن الوصية تنقسم إلى أقسام كما أشرنا، منها واجبة، ومنها محرَّمة، ومنها مباحة؛ فالواجبة: أن يوصيَ الإنسان بما عليه من الحقوق الواجبة؛ لئلَّا يَجحَدها الورثةُ، فيَضِيع حقُّ مَن هي له، لا سيَّما إذا لم يكن بها بيِّنة.

والثانية من الوصية الواجبة: وصيةُ من ترك مالًا كثيرًا لأقاربه الذين لا يَرِثون بدون تقدير؛ لكن لا تَزيد عن الثلث.

والوصية المحرَّمة نوعان أيضًا: أن تكون لأحدٍ من الورثة، وأن تكون زائدةً على الثُّلُث.

والمباحة: ما سوى ذلك؛ ولكن الأفضل أن تكون المباحةُ من الخُمُس فأقلَّ، وإن زاد للرُّبع، فلا بأس، وإلى الثُّلث فلا بأس، ولا يَزيد على الثُّلث" [5].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «يبيت»: كأنَّ فيه حذفًا، تقديرُه: (أن يبيت)، ويجوز أن يكون (يبيت) صفةً لمسلم، وبه جزم الطّيبيُّ، قال: هي صفة ثانية، وقولُه: «يوصي فيه» صفةُ (شيء)، ومفعول (يبيت) محذوف، تقديرُه: (آمنًا أو ذاكرًا)، وقال ابن التِّين: تقديره: موعوكًا، والأوّل أولى؛ لأنّ استحباب الوصيّة لا يختصُّ بالمريض، نعم قال العلماء: لا يُندَب أن يَكتُب جميع الأشياء المحقَّرة، ولا ما جرت العادة بالخروج منه والوفاء له عن قُرب، واللّه أعلم. قوله: «ليلتين» كذا لأكثر الرّواة، ولأبي عوانة والبيهقيِّ من طريق حمّاد بن زيد عن أيّوبَ: «يبيت ليلةً أو ليلتين»، ولمسلم والنّسائيِّ من طريق الزُّهْريِّ عن سالم عن أبيه: «يبيت ثلاث ليال»، وكأنّ ذكر اللّيلتين والثّلاث لرفع الحرج؛ لتزاحُم أشغال المرء الّتي يحتاج إلى ذكرها، ففسح له هذا القدر ليتذكَّر ما يحتاج إليه، واختلاف الرّوايات فيه دالٌّ على أنه للتقريب لا التَّحديد، والمعنى: لا يمضي عليه زمان وإن كان قليلًا إلّا ووصيّته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزّمن اليسير، وكأنّ الثّلاث غاية للتّأخير؛ ولذلك قال ابن عمر في رواية سالم المذكورة: لم أبت ليلةً منذ سمعتُ رسول اللّه ﷺ يقول ذلك إلّا ووصيَّتي عندي. قال الطِّيبيُّ في تخصيص اللّيلتين والثّلاث بالذّكر: تسامح في إرادة المبالغة؛ أي: لا ينبغي أن يبيت زمانًا ما، وقد سامحناه في اللّيلتين والثّلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك" [6].

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه، يَبِيت ليلتين إلّا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده»، وفي رواية: «ثلاثَ لَيَالٍ»: فيه الحثُّ على الوصيَّة، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها؛ لكنَّ مذهبنا ومذهب الجماهير أنّها مندوبةٌ لا واجبة، وقال داود وغيره من أهل الظّاهر: هي واجبةٌ؛ لهذا الحديث، ولا دلالةَ لهم فيه؛ فليس فيه تصريح بإيجابها؛ لكن إن كان على الإنسان دَيْنٌ أو حقٌّ، أو عنده وَدِيعة ونحوُها، لَزِمه الإيصاء بذلك. قال الشّافعيُّ - رحمه اللّه -: معنى الحديث: ما الحَزْمُ والاحتياط للمسلم إلّا أن تكون وصيَّتُه مكتوبةً عنده، ويُستحبُّ تعجيلُها، وأن يَكتُبها في صحَّتِه، ويُشهِدَ عليه فيها، ويَكتُب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدَّد له أمرٌ يحتاج إلى الوصيَّة به، ألحقه بها. قالوا: ولا يُكلَّف أن يَكتُب كلَّ يوم محقَّرات المعاملات، وجُزئيَّات الأمور المتكرِّرة، وأمّا قوله ﷺ: «ووصيَّتُه مكتوبة عنده»، فمعناه: مكتوبةٌ وقد أَشهَد عليه بها، لا أنّه يَقتصِر على الكتابة؛ بل لا يعمل بها، ولا تَنفَع إلَّا إذا كان أَشهَد عليه بها، هذا مَذهَبنا ومذهبُ الجمهور، وقال الإمام محمّدُ بنُ نصرٍ الْمَرْوَزيُّ من أصحابنا: يكفي الكتابُ من غير إشهاد؛ لظاهر الحديث، واللّه أعلم" [7].

قال ابن حجر رحمه الله: "ولفظُه عند الدَّارَقُطْنيّ: «لا يَحِلُّ لمسلم أن يَبيت ليلتين إلَّا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده» واستُدِلَّ بهذا الحديث مع ظاهر الآية على وجوب الوصيَّة، وبه قال الزُّهْريُّ وأبو مِجْلَز وعطاء وطلحةُ بنُ مصرِّف في آخرين، وحكاه البيهقيُّ عن الشّافعيِّ في القديم، وبه قال إسحاق وداودُ، واختاره أبو عوانة الإسفرايينيِّ وابن جرير وآخرون، ونسب ابن عبد البرِّ القول بعدم الوجوب إلى الإجماع سوى من شذَّ، كذا قال، واستُدِلَّ لعدم الوجوب من حيث المعنى؛ لأنّه لو لم يوصِ لقُسِّم جميع ماله بين ورثته بالإجماع، فلو كانت الوصيَّةُ واجبةً، لأُخرِج من ماله سهمٌ يَنُوب عن الوصيَّة، وأجابوا عن الآية بأنّها منسوخة كما قال ابن عبَّاس: كان المال للولد، وكانت الوصيَّة للوالدينِ، فنسخ اللّه من ذلك ما أحبَّ، فجعل لكلِّ واحد من الأبوين السُّدُس. الحديث، وأجاب من قال بالوجوب بأنّ الّذي نُسِخ الوصيَّة للوالدينِ والأقارب، الّذين يرثون، وأمّا الّذي لا يَرِث، فليس في الآية ولا في تفسير ابن عبّاس ما يقتضي النّسخ في حقِّه، وأجاب من قال بعدم الوجوب عن الحديث بأنّ قوله: (ما حقّ امرئ) بأنّ المراد الحزم والاحتياط؛ لأنّه قد يفجؤه الموت وهو على غير وصيّة، ولا ينبغي للمؤمن أن يَغفُل عن ذكر الموت والاستعداد له، وهذا عن الشّافعيِّ، وقال غيره: الحقُّ لغةً: الشّيء الثّابت، ويُطلَق شرعًا على ما ثبت به الحكم، والحُكم الثّابت أعمُّ من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، وقد يُطلَق على الْمُباح أيضًا؛ لكن بقلَّة، قاله القرطبيُّ، قال: فإن اقترن به على أو نحوها، كان ظاهرًا في الوجوب، وإلّا فهو على الاحتمال، وعلى هذا التّقدير فلا حجَّةَ في هذا الحديث لمن قال بالوجوب؛ بل اقترن هذا الحقُّ بما يدلُّ على النَّدْب، وهو تفويض الوصيّة إلى إرادة الموصي، حيث قال: «له شيء يريد أن يوصي فيه» فلو كانت واجبةً، لَمَا علَّقها بإرادته، وأمّا الجواب عن الرّواية الّتي بلفظ (لا يحلُّ) فلاحتمال أن يكون راويها ذكرها وأراد بنفي الحلِّ ثبوتَ الجَوَاز بالمعنى الأعمِّ الّذي يَدخُل تحته الواجب والمندوب والمباح" [8].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي حديث ابن عمرَ - رضي الله عنهما - العملُ بالكتابة؛ لقوله ﷺ: «إلا ووصيته مكتوبة عنده»، فدلَّ هذا على جواز العمل؛ بل وجوب العمل بالكتابة. وفي قوله: «مكتوبة» اسم مفعول إشارة إلى أنه لا فرق بين أن يكون هو الكاتبَ أو غيرَه ممن تَثبُت الوصية بكتابته، فلا بدَّ أن تكون الكتابة معلومةً، إما بخطِّ الموصي نفسِه، أو بخطِّ شخص معتمَد، وأما إذا كانت بخطٍّ مجهول، فلا عبرةَ بها، ولا عَمَلَ عليها.

وفي قوله: «عنده» إشارةٌ إلى أنه ينبغي أن يحتفظ الإنسان بالوثائق، وألَّا يسلِّط عليها أحدًا؛ بل تكون عنده في شيء محفوظ محرَّز؛ كالصندوق وغيره؛ لأنه إذا أهملها، فربَّما تضيع منه، أو يسلَّط عليها أحد يَأخُذها ويُتلِفها، أو ما أَشبَه ذلك.

المهمُّ في هذا الاعتناءُ بالوصية، وأن يحتفظ بها الإنسان حتى لا تضيع. وفيه أيضًا سرعةُ امتثال الصحابة لأمر النبيِّ ﷺ، لذلك؛ قال ابن عمر - رضي الله عنهما - بعد ما سمع هذا الحديث من النبيِّ ﷺ:

(ما مرَّت علي ليلة منذ سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول هذا إلا ووصيَّتي مكتوبةٌ عندي)؛ فالذي ينبغي للإنسان أن يهتمَّ بالأمر حتى لا يَفْجَأَه الموت، وهو قد أضاع نفسه، وأضاع حقَّ غيره"

[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "واختلف القائلون بوجوب الوصيَّة، فأكثرُهم ذَهَب إلى وجوبها في الجُملة، وعن طاوس وقتادة والحسن وجابر بن زيد في آخرين: تجب للقَرابة الّذين لا يَرِثون خاصّة، أخرجه ابن جرير وغيره عنهم، قالوا: فإن أوصى لغير قَرابته، لم تَنْفُذ، ويُرَدُّ الثُّلث كلُّه إلى قرابته، وهذا قول طاوس، وقال الحسن وجابر بن زيد: ثُلثا الثُّلث، وقال قتادة: ثُلث الثُّلث، ونقل ابن المنذر عن أبي ثور أنّ المراد بوجوب الوصيّة في الآية والحديث يختصُّ بمن عليه حقٌّ شرعيٌّ يَخشى أن يَضيع على صاحبه إن لم يُوصِ به؛ كوديعة ودَين للّه أو لآدميٍّ، قال: ويدلُّ على ذلك تقييده بقوله: «له شيء يريد أن يوصي فيه»؛ لأنَّ فيه إشارةً إلى قدرته على تنجيزه ولو كان مؤجَّلًا، فإنّه إذا أراد ذلك، ساغ له، وإن أراد أن يوصيَ به، ساغ له، وحاصله يرجع إلى قول الجمهور: إنّ الوصيّة غير واجبة لعَيْنها، وإنّ الواجب لعَينه الخروجُ من الحقوق الواجبة للغير، سواء كانت بتنجيز أو وصيَّة، ومحلُّ وجوب الوصيّة إنّما هو فيما إذا كان عاجزًا عن تنجيز ما عليه، وكان لم يعلم بذلك غيره ممَّن يَثبُت الحقُّ بشهادته، فأمّا إذا كان قادرًا أو عَلم بها غيره، فلا وجوب، وعُرف من مجموع ما ذكرنا أنّ الوصيّة قد تكون واجبةً، وقد تكون مندوبةً فيمن رجا منها كثرة الأجر، ومكروهةً في عكسه، ومباحةً فيمن استوى الأمران فيه، ومحرَّمةً فيما إذا كان فيها إضرارٌ؛ كما ثبت عن ابن عبّاس: الإضرار في الوصيّة من الكبائر، رواه سعيد بن منصور موقوفًا بإسناد صحيح، ورواه النّسائيُّ، ورجاله ثقات" [10].

 قال ابن حجر رحمه الله: "واستُدِلَّ بقوله: «مكتوبة عنده» على جواز الاعتماد على الكتابة والخطِّ، ولو لم يقترن ذلك بالشّهادة، وخصَّ أحمدُ ومحمّد بن نصر من الشّافعيَّة ذلك بالوصيّة؛ لثبوت الخبر فيها دون غيرها من الأحكام، وأجاب الجمهور بأنّ الكتابة ذُكِرت لِما فيها من ضبط المشهود به، قالوا: ومعنى (وصيّته مكتوبة عنده)؛ أي: بشرطها، وقال المحبُّ الطّبريُّ: إضمار الإشهاد فيه بُعْدٌ، وأُجيب بأنّهم استَدلُّوا على اشتراط الإشهاد بأمر خارج؛

كقوله تعالى:

{شَهَٰدَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ}

[المائدة: ١٠٦]،

فإنّه يدلُّ على اعتبار الإشهاد في الوصيَّة، وقال القرطبيُّ: ذكر الكتابة مبالغة في زيادة التّوثُّق، وإلّا فالوصيَّةُ المشهود بها متَّفق عليها ولو لم تكن مكتوبةً واللّه أعلم.

واستُدِلَّ بقوله: «وصيته مكتوبة عنده» على أنّ الوصيّة تَنفُذ وإن كانت عند صاحبها ولم يجعلها عند غيره، وكذلك لو جعلها عند غيره وارتجعها، وفي الحديث منقبة لابن عمر لمبادرته لامتثال قول الشّارع ومواظبته عليه، وفيه النَّدب إلى التّأهُّب للموت والاحتراز قبل الفَوت؛ لأنّ الإنسان لا يدري متى يَفجَؤُه الموت؛ لأنّه ما من سنٍّ يُفرَض إلّا وقد مات فيه جمعٌ جمٌّ، وكلُّ واحد بعينه جائز أن يموت في الحال، فينبغي أن يكون متأهِّبًا لذلك، فيكتب وصيَّتَه، ويجمع فيها ما يَحصُل له به الأجر، ويُحبِط عنه الوِزْرَ من حقوق اللّه وحقوق عباده، واللّه المستعان" [11].

قال ابن حجر رحمه الله: "واستُدِلَّ بقوله: «له شيء» أو «له مال» على صحّة الوصيَّة بالمنافع، وهو قول الجمهور، ومنعه ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود وأتباعه، واختاره ابن عبد البرِّ، وفي الحديث الحضُّ على الوصيّة، ومُطلَقُها يتناول الصّحيح؛ لكنّ السَّلَف خصُّوها بالمريض؛ وإنّما لم يقيَّد به في الخبر لاطَّرِاد العادة به، وقوله: (مكتوبة) أعمُّ من أن تكون بخَطِّه أو بغير خطِّه، ويُستفاد منه أنّ الأشياء الْمُهمَّة ينبغي أن تُضبَط بالكتابة؛ لأنّها أثبتُ من الضَّبط بالحفظ؛ لأنّه يَخُون غالبًا" [12].


المراجع

1."شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74). 

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 460، 461).

3. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357).

4. رواه البخاريُّ (1295)، ومسلم (1628).

5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 461 - 464).

6. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 357، 358).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 74 - 76).

8. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358).

9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 464، 465).

10. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 358، 359).

11. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 359، 360).

12. "فتح الباري" لابن حجر (5/ 360).






غريب الحديث:

البراجم: جمع بُرْجُمة، وهي عُقَد الأصابع ومفاصلها كلِّها.

السِّوَاكُ: هو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفمَ، ويُزيل الرّوائح الكريهة.

العانة: هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ[1]

المراجع

  1.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).

المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ»: والفِطرة هي الخِلقة التي خلق الله عباده عليها: «قَصُّ الشَّارِبِ» حفُّه حتى تبدوَ الشَّفَة؛ لِما في ذلك من النظافة، والتحرُّز مما يَخرُج من الأنف، «وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ»: بترك الشّعر النّابت على الذّقن والخدَّين، وعدم الأخذ منه، فلا يتعرَّض لها بحلق ولا بتقصير، «وَالسِّوَاكُ»: وهو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفمَ، ويُزيل الرّوائح الكريهة؛ ولهذا يُشرَع كلَّ وقت، ويتأكَّد عند الوضوء والصلاة، والانتباه من النوم، وتغيُّر الفم، ونحو ذلك، «وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ»: وهو إدخال الماء في الأنف، ثمّ نثره مرّةً أخرى؛ ليخرج ما فيه من أذًى وقذر؛ فهو إزالة لما في الأنف من الأوساخ التي قد تسبِّب له الأذيَّة والضَّرر، ويكون في الوضوء وفي غير الوضوء لتنظيف الأنف، «وَقَصُّ الْأَظْفَارِ»: قصُّ ما طال من أظفار اليدين والرجلين؛ لأنّها مَظِنَّة الأوساخ والضَّرر، «وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ»؛ أي:

غَسْلُ مفاصل الأصابع الظاهرة والباطنة؛ لأنها مواضع تجتمع فيها الأوساخ؛ لتجعُّدها وانكماشها؛ فقد لا يصلها الماء، «وَنَتْفُ الْإِبِطِ»؛ أي: إزالة ونزع الشّعر النّابت تحت الإبط؛ وذلك أنه في مكان يَكثُر فيه العَرَق، وتجتمع فيه الأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة، والأفضل فيه النَّتْف لمن قَوِي عليه، ويحصل أصل السُّنَّة بإزالته بأيِّ وسيلةٍ كانت؛ كالحَلق وغيره، «وَحَلْقُ الْعَانَةِ»: وهو إزالة الشّعر النابت حول القُبل، من الرجل والمرأة بأي وسيلة؛ كالحلق أو النتف أو القصِّ أو باستعمال المستحضرات الحديثة؛ لأن المقصود التنظيف، «وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»: وهو الاستنجاء، والاستنجاء: إزالة الخارج من السبيلينِ بطاهر؛ كالماء والحَجَر والخِرَق والمناديل، ونحو ذلك مما له خاصية الإزالة.

قَالَ مُصْعَبٌ: (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ): والمضمضة هي إدارة الماء في الفم ثمّ مجُّه وإخراجه منها، فيغسل الفم بالماء كلَّما استلزم الأمر ذلك، وخاصّةً بعد الطّعام وأكل ما له رائحة.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الإسلام دين سامٍ كاملٌ يهتمُّ بكلِّ شؤون الإنسان ظاهرًا وباطنًا، ومن ذلك الطهارةُ والنظافة والجمال، فجعل الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -

قال تعالى:

﴿  إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ﴾

[البقرة: 222]

؛ بل جعل الإسلامُ الطُّهور شطرَ الإيمان؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]

وأمر الله تعالى بالهيئة الحسنة عند الذهاب للمسجد؛

قال تعالى:

   يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ 

[الأعراف: ٣١]

، "وجعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[2]

وفي هذا الحديث يُرشِد النبيُّ ﷺ المسلم إلى خصال الفطرة؛ أي: خصال السُّنَّة التي فَطَر الله عليها العباد وشَرَعها لهم، وجعل استحسانها مفطورًا في العقول، تشهد بحُسنها العقول السليمة، ولا جَرَمَ أنّ خصال الفطرة يتعلّق بها أمور دينيّة ودنيويّة؛ مثل تحسين الهيئة، وتنظيف البَدَن، والاحتياط للطّهارة، وحسن مخالطة النّاس بكفِّ ما يُتأذَّى بريحه عنهم، ومخالفة شأن الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى.

تروي عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ»: "والفِطْرة يعني التي فَطَر الخَلق على استحسانها، وأنها من الخير، والمراد بذلك الفِطَر السليمة؛ لأن الفِطَر المنحرِفة لا عبرة بها؛ لقول النبيِّ ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه»"[3]

وخصال الفطرة ليست منحصرةً في عشْر، وقد أشار ﷺ إلى عدم انحصارها فيها بقوله: «من الفطرة»، فـ(من) للتبعيض هنا، وقد ثبت في أحاديثَ أخرى زيادةٌ على ذلك، فدلَّ على أن الحصر فيها غير مُراد.

وأمّا الفِطرةُ، فقد اختُلف في المراد بها هنا، فذَهَب أكثر العلماء إلى أنّها السُّنَّة، وقيل: معناه أنّها من سُنن الأنبياء، وقيل: هي الدِّين.

ومعظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلافٌ في وجوبه؛ كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يَمتنِع قَرْنُ الواجب بغيره.

"ويتعلَّق بهذه الخِصال مصالحُ دينيَّة ودنيويّة تُدرَك بالتّتبُّع، منها تحسينُ الهيئة، وتنظيف البَدَن جُملةً وتفصيلًا، والاحتياط للطّهارتين والإحسان إلى المخالَط والمقارَن بكفِّ ما يتأذَّى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى وعبَّاد الأوثان، وامتثال أمر الشّارع، والمحافظة على ما أشار إليه

قوله تعالى:

 وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ

[غافر: ٦٤]؛

لِما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنّه قيل: قد حسَّنتُ صوركم فلا تشوِّهوها بما يقبِّحها، أو حافظوا على ما يستمرُّ به حُسْنُها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التّآلف المطلوب؛ لأنّ الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النّفس إليه، فيُقبَل قوله، ويُحمَد رأيُه، والعكسُ بالعكس"[4]

قوله ﷺ: «قَصُّ الشَّارِبِ»: "وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا، وحدُّه: كلُّ ما طال على الشَّفة العليا فهو شارب، فهذا يُحَفُّ؛ لأن بقاءه يكون فيه تلويث بما يخرج من الأنف من الأذى، ثم عند الشُّرب أيضًا يباشر الشَّعر المتلوِّث الماء، فيقذِّره، وربما يَحمِل ميكروباتٍ مُضرَّةً"[5]

و"ذهب كثير من السَّلَف إلى استئصال الشارب وحَلْقه، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حَلْقَه مُثْلَةً، ويَأمُر بأَدَب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أنّ الإحفاء والجزَّ والقصَّ بمعنًى واحد، وهو الأخذ منه حتّى يبدوَ طرَف الشَّفَة، وذهب بعض العلماء إلى التّخيير بين الأمرين... والمختار في الشّارب ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشَّفة، واللّه أعلم[6]

"وهو سُنَّة، ويُستحبُّ أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخيَّر بين القصِّ بنفسه، وبين أن يُوَلِّيَ ذلك غيره؛ لحصول المقصود من غير هَتْك مروءة ولا حُرمة، بخلاف الإبط والعانة، وأمّا حدُّ ما يَقُصُّه، فالمختار أنّه يَقُصُّ حتّى يبدوَ طَرَف الشَّفَة ولا يَحِفُّه من أصله، وأمّا روايات «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، فمعناها: أَحْفُوا ما طال على الشَّفَتين، واللّه أعلم"[7]

قوله ﷺ: «وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ» واللحية: ما نَبَت على الذَّقن واللحيينِ، والمقصود من إعفائها: تركها موفَّرةً لا يتعرَّض لها بحلق ولا بتقصير، لا بقليل ولا بكثير؛ لأن الإعفاء مأخوذ من الكثرة أو التوفير، فاعفوها وكثِّروها، وقد جاءت أحاديثُ كثيرةٌ عن رسول الله بالأمر بإعفائها بألفاظ متعددة، "هي: (أَعْفُوا، وأَوْفوا، وأَرْخوا، وأَرْجوا، ووفِّروا)، فحصل خمسُ روايات، ومعناها كلِّها تَرْكُها على حالها، هذا هو الظّاهر من الحديث الّذي تقتضيه ألفاظه، وقال القاضي عياض - رحمه اللّه تعالى -: يُكرَه حَلْقُها وقصُّها وتحريقها، وأمّا الأخذ من طولها وعَرْضِها فحَسَنٌ، وتُكرَه الشُّهرة في تعظيمها كما تُكرَه في قصِّها وجَزِّها. قال: وقد اختلف السَّلَف: هل لذلك حدٌّ؟ فمنهم من لم يحدِّد شيئًا في ذلك؛ إلّا أنّه لا يَترُكها لحدِّ الشُّهرة، ويأخذ منها، وكَرِه مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة، فيُزال، ومنهم من كَرِه الأخذ منها إلا في حجٍّ أو عُمرة. والمختار ترك اللّحية على حالها، وألّا يتعرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، واللّه أعلم"[8]

"وقد ذكر العلماء في اللّحية خصالاً مكروهة، بعضُها أشدُّ قُبحًا من بعض؛ إحداها: خِضَابُها بالسَّوَاد إلا لغرض الجهاد، الثّانية: خِضَابها بالصُّفْرة تشبيهًا بالصّالحين، لا لاتِّباع السنَّة، الثالثة: تبييضها بالكِبْريت أو غيره؛ استعجالًا للشّيخوخة؛ لأجل الرّياسة والتّعظيم، وإيهام أنّه من المشايخ، الرّابعة: نَتْفُها أو حَلْقُها أوَّلَ طُلوعها؛ إيثارًا للمُرُودة وحُسن الصّورة، الخامسة: نتف الشَّيْب، السّادسة: تصفيفها طاقةً فوقَ طاقة تَصنُّعًا؛ ليَستحسِنَه النّساء وغيرُهنّ، السّابعة: الزّيادة فيها والنّقصُ منها بالزّيادة في شَعر العِذار من الصُّدْغينِ، أو أخذ بعض العِذار في حلق الرّأس، ونتف جانبَيِ العَنْفَقة وغير ذلك، الثّامنة: تسريحها تصنُّعًا لأجل النّاس، التّاسعة: تركها شَعِثةً مُلبَّدةً؛ إظهارًا للزَّهَادة وقِلَّة الْمُبالاة بنفسه، العاشرة: النَّظر إلى سَوادها وبياضها؛ إعجابًا وخُيَلاءَ وغِرَّةً بالشّباب، وفخرًا بالْمَشيب، وتطاولًا على الشباب، الحاديةَ عَشْرةَ: عَقْدُها وضَفْرها، الثانيةَ عشْرةَ: حَلْقُها إلّا إذا نَبَت للمرأة لحيةٌ، فيُستحبُّ لها حَلْقُها، واللّه أعلم"[9]

قوله ﷺ: «وَالسِّوَاكُ»: وهو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفم، ويُزيل الرّوائح الكريهة؛ ولهذا يُشرَع كلَّ وقت، ويتأكَّد عند الوضوء، والصلاة، والانتباه من النوم، وتغيُّر الفم، وصُفرة الأسنان، ونحوها، وقد قال النَّبِيُّ : «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»[10]، وقال ﷺ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ»[11]، ويُشرَع حتى في الصيام، وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ»[12]

قوله ﷺ: «وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ»: وهو إدخال الماء في الأنف، ثمّ نثره مرّةً أخرى؛ ليخرج ما فيه من أذًى وقذر وأوساخ، والاستنشاق يكون في الوضوء، ويكون في غير الوضوء عند الحاجة لتنظيف الأنف.

قوله ﷺ: «وَقَصُّ الْأَظْفَارِ»: وهو قصُّ ما طال من أظفار اليدين والرجلين، وعدم تركها طويلةً؛ فهي مَظِنَّة الأوساخ والضَّرر، "ولا ينبغي أن نقصَّ حتى يصل إلى اللحم؛ لأن هذا يَضُرُّ الإنسان، وربما يَحصُل فيه خُرَّاج أو ما أشبه ذلك؛ لكن نقصُّهما قصًّا معتدِلاً"[13]

 "وهو سُنَّة، ليس بواجب، ويُستحبُّ أن يبدأ باليدين قبل الرِّجلين، فيَبدأ بمُسبِّحة يده اليمنى، ثمّ الوسطى، ثمّ البِنصر ثمّ الخِنصر ثمّ الإبهام، ثمّ يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخِنصرها ثمّ ببِنْصرها إلى آخرها، ثمّ يعود إلى الرِّجلين، اليمنى، فيبدأ بخِنصرها، ويختم بخِنصر اليسرى، واللّه أعلم"[14]

قوله ﷺ: «وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ»: "وهو سُنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء، والبَرَاجم: جمعُ (بُرْجُمة)، وهي عُقَدُ الأصابع ومَفاصِلها كلِّها، ويَلحَق بالبراجم ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذُن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنّه ربّما أضرَّت كَثْرَته بالسَّمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوَسَخ المجتمع على أيِّ موضعٍ كان من البَدَن بالعَرَق والغُبار ونحوهما"[15]

قوله ﷺ: «وَنَتْفُ الْإِبِطِ»؛ أي: إزالة ونزع الشّعر النّابت تحت الإبط؛ وذلك أنه في مكان يَكثُر فيه العَرَق، وتجتمع فيه الأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة، والإبِط بكسر الهمزة والباء، وسكونها (الإبْط)، وهو المشهور، وهو يذكَّر ويؤنَّث، ويتأدّى أصل السُّنَّة بإزالته بأيّ وسيلة كانت؛ كالحلق وغيره، ولا سيَّما من يؤلمه النّتف؛ لأن الغرض إزالتها وتنظيف المحلِّ، وقد حصل، "وهو سُنَّة بالاتِّفاق، والأفضلُ فيه النَّتف لمن قَوِيَ عليه، ويُستحبُّ أن يبدأ بالإبط الأيمن"[16]

قوله ﷺ: «وَحَلْقُ الْعَانَةِ»: ويسمَّى استحدادًا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، "والعانة هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ، فمن الفِطرة أن يَحلِق الإنسان هذا الشعر؛ لأنه إذا طال، فربما يتلوَّث بالنجاسة من أسفلَ، أو من القُبل، ويَحصُل في ذلك وَسَخ وقَذر، ولأنه مُضِرٌّ"[17]

"وهو سنَّة، والمراد به نظافة ذلك الموضع، والأفضل فيه الحَلْق، ويجوز بالقصِّ والنَّتف وغير ذلك، والمراد بالعانة الشَّعر الّذي فوق ذَكَر الرَّجُل وحَوَالَيْه، وكذاك الشَّعر الّذي حَوَالَيْ فرجِ المرأة، ونُقل عن أبي العبَّاس بنِ سُرَيْجٍ أنّه الشَّعر النّابت حول حَلْقة الدُّبُر، فيَحصُل من مجموع هذا استحباب حَلْق جميع ما على القُبُل والدُّبُر وحولَهما"[18]

قوله ﷺ: «وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»: وهو التّطهّر بالماء بعد قضاء الحاجة، كما فسَّره وكيع في آخر الحديث بأنّه الاستنجاء، أو هو رشُّ الماء على الفرج بعد الوضوء لينفيَ عنه الوسواس[19]

قَالَ مُصْعَبٌ: (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ)، والمضمضة هي إدارة الماء في الفم ثمّ مجُّه وإخراجه منها، فيغسل الفم بالماء كلَّما استلزم الأمر ذلك، وخاصّةً بعد الطّعام وأكل ما له رائحة.

"وأمّا قوله: (ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة)، فهذا شكٌّ منه فيها، قال القاضي عياض: ولعلَّها الختان المذكور مع الخمس، وهو أَوْلى"[20]؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ قال: «الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ»[21]

قوله ﷺ: «الختان»: الذي يسمَّى عند الناس (الطهارة)، وهو للرجال والنساء، أما الرجال فختانهم واجب، بأن يُقطَع جميع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة حتّى ينكشف جميع الحَشَفة، وأما النساء فختانهن سنَّة وليس بواجب، بقطع أدنى جزء من الجلدة الّتي في أعلى الفَرْج؛ وذلك أن الرجل إذا لم يُختَن وبَقِيت الجِلدة التي فوق الحشفة، فإنه يحتقن بها البَول، وتكون سببًا في النجاسة؛ لأنه إذا احتقن بها البول ثم حصل ضغط عليها، خرج البول الذي صار بينها وبين الحشفة، فتلوَّثت الثياب وتنجَّست، ثم هي أيضًا عند الكِبر وعندما يصل الإنسان إلى حدِّ الزواج يكون هناك مشقَّة شديدة عند الجِماع؛ فلذلك كان من الفِطرة أن تُقَصَّ هذه الجِلدة؛ ولهذا كان كثير من الكفار الآن يختتنون؛ لا لأجل الطهارة والنظافة لأنهم نَجَس؛ لكنهم يختتنون من أجل التلذُّذ عند الجماع، وعدم المشقَّة، هذه واحدة.

ومتى يكون الختان؟ يكون الختان من اليوم السابع فما بعدَه، وكلَّما كان في الصِّغَر، فهو أفضلُ؛ لأن ختان الصغير لا يكون فيه إلا الألم الجسميُّ دون الألم القلبيِّ، أما الكبير لو ختنَّا من له عشْر سنوات مثلاً، فإنه يكون فيه ألم قلبيٌّ وجسميٌّ، ثم إن نموَّ اللحم ونبات اللحم وسرعة البُرء في الصغار أكثرُ؛ لهذا قال العلماء: إن الختان في زمن الصِّغر أفضل، وهو كذلك[22]

وأمّا وقت الحلق والقص للشعر والأظفار في (حلق العانة، وقصِّ الشّارب، ونَتْف الإبِط، وتقليم الأظفار)، فالمختار أنّه يُضبَط بالحاجة وطُولِه، فإذا طال، حُلِق، وأمّا حديث أنس بن مالك قال: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[23]، "فمعناه: لا يُترَك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنّهم وُقِّت لهم التّرك أربعين، واللّه أعلم"[24]

المراجع

  1.  رواه مسلم (223).
  2.  "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
  3.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 228).
  4.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
  5.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
  6.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).
  7.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  8.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).
  9.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
  10.  رواه البخاريُّ (27).
  11.  رواه البخاريُّ (27).
  12.  رواه البخاريُّ (27).
  13.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
  14.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  15.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  16.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  17.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).
  18.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).
  19.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  20.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  21.  رواه البخاريُّ (5889)، ومسلم (257).
  22.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
  23.  رواه مسلم (258).
  24.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "وليست منحصرةً في العشْر، وقد أشار ﷺ إلى عدم انحصارها فيها بقوله: «من الفطرة» واللّه أعلم، وأمّا الفِطرةُ، فقد اختُلف في المراد بها هنا، فقال أبو

سليمانَ الخطّابيُّ: ذَهَب أكثر العلماء إلى أنّها السُّنَّة، وكذا ذكره جماعة غير الخطّابيِّ، قالوا: ومعناه أنّها من سُنن الأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم – وقيل: هي الدِّين، ثمّ إنّ معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلافٌ في وجوبه؛ كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يَمتنِع قَرْنُ الواجب بغيره؛

كما قال اللّه تعالى: 

 كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ

[الأنعام: ١٤١]

والإيتاءُ واجبٌ، والأكل ليس بواجب، واللّه أعلم. أمّا تفصيلُها، فالختان واجب عند الشّافعيِّ وكثيرٍ من العلماء، وسُنَّة عند مالك وأكثرِ العلماء، وهو عند الشّافعيِّ واجب على الرّجال والنّساء جميعًا، ثمّ إنّ الواجب في الرَّجُل أن يُقطَع جميع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة حتّى ينكشف جميع الحَشَفة، وفي المرأة يَجِب قطع أدنى جزء من الجلدة الّتي في أعلى الفَرْج، والصّحيحُ من مذهبنا الّذي عليه جمهور أصحابنا أنّ الختان جائز في حال الصِّغَر، ليس بواجب، ولنا وجه أنّه يجب على الوليِّ أن يَختِن الصَّغير قبل بلوغه، ووجهٌ أنّه يَحرُم ختانه قبل عشْر سنينَ، وإذا قلنا بالصّحيح استُحبَّ أن يُختَن في اليوم السّابع من ولادته، وهل يُحسَب يومُ الولادة من السّبع أم تكون سبعةً سواه؟ فيه وجهان، أظهرُهما يُحسَب، واختَلَف أصحابنا في الخُنثى المشكِل، فقيل: يجب ختانه في فرجَيْه بعد البلوغ، وقيل: لا يجوز حتّى يتبيَّن، وهو الأظهر، وأمّا من له ذَكَران، فإن كانا عاملينِ، وَجَب ختانهما، وإن كان أحدُهما عاملًا دون الآخَر، خُتِن العامل، وفيما يُعتبَر العمل به وجهان، أحدُهما بالبَول، والآخَر بالجِماع، ولو مات إنسان غير مختون، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا، الصّحيح المشهور أنّه لا يُختَن صغيرًا كان أو كبيرًا، والثّاني يُختَن الكبير دون الصّغير، واللّه أعلم"[1]

قال ابن حجر رحمه الله: "ويتعلَّق بهذه الخِصال مصالحُ دينيَّة ودنيويّة تُدرَك بالتّتبُّع، منها تحسينُ الهيئة، وتنظيف البَدَن جُملةً وتفصيلًا، والاحتياط للطّهارتين والإحسان إلى المخالَط والمقارَن بكفِّ ما يتأذَّى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى وعبَّاد الأوثان، وامتثال أمر الشّارع، والمحافظة على ما أشار إليه

قوله تعالى:

 وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ

[غافر: ٦٤]

لِما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنّه قيل: قد حسَّنتُ صوركم فلا تشوِّهوها بما يقبِّحها، أو حافظوا على ما يستمرُّ به حُسْنُها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التّآلف المطلوب؛ لأنّ الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النّفس إليه، فيُقبَل قوله، ويُحمَد رأيُه، والعكسُ بالعكس"[2]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "والفِطْرة يعني التي فَطَر الخَلق على استحسانها، وأنها من الخير، والمراد بذلك الفِطَر السليمة؛ لأن الفِطَر المنحرِفة لا عبرة بها؛ لقول النبيِّ ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه»"[3]

قال ابن حجر رحمه الله: "وأمّا شرح الفِطرة، فقال الخطّابيُّ: ذَهَب أكثر العلماء إلى أنّ المراد بالفِطرة هنا السُّنَّة، وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنّها من سُنن الأنبياء، وقالت طائفة: المعنيُّ بالفِطرة الدِّين، وبه جَزَم أبو نُعيم في المستخرج، وقال النّوويُّ في "شرح المهذّب": جزم الماورديُّ والشّيخ أبو إسحاق بأنّ المراد بالفِطرة في هذا الحديث الدِّين، واستشكل ابن الصّلاح ما ذكره الخطّابيُّ، وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السُّنّة؛ لكن لعلَّ المراد أنّه على حذف مضاف؛ أي: سُنَّة الفِطرة، وتعقَّبه النّوويُّ بأنّ الّذي نقله الخطّابيُّ هو الصّواب؛ فإن في صحيح البخاريِّ عن ابن عمر عن النّبيِّ ﷺ قال: «من السُّنَّة قصُّ الشّارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار»، قال: وأصحُّ ما فسّر الحديث بما جاء في رواية أخرى، لا سيَّما في البخاريِّ"[4]

قال ابن حجر رحمه الله: "دلالة (من) على التّبعيض فيه أظهرُ من دلالة هذه الرّواية على الحَصْر، وقد ثبت في أحاديثَ أخرى زيادةٌ على ذلك، فدلَّ على أن الحصر فيها غير مُراد، واختُلف في النُّكتة في الإتيان بهذه الصّيغة، فقيل برفع الدَّلالة، وأنّ مفهوم العدد ليس بحُجَّة، وقيل: بل كان أُعلِم أوّلًا بالخمس، ثمّ أُعلِم بالزّيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسَبِ المقام، فذَكَر في كلِّ موضع اللّائقَ بالمخاطَبين... وذَكَر ابن العربيِّ أنّ خصال الفِطرة تبلغ ثلاثين خَصْلةً، فإذا أراد خصوص ما ورد بلفظ الفِطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمَّ من ذلك، فلا تنحصر في الثّلاثين؛ بل تزيد كثيرًا، وأقلُّ ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر، فإنّه لم يذكر فيه إلّا ثلاثًا"[5]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا الاستحدادُ، فهو حَلْقُ العانة، سُمِّي استحدادًا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، وهو سنَّة، والمراد به نظافة ذلك الموضع، والأفضل فيه الحَلْق، ويجوز بالقصِّ والنَّتف والنُّورة، والمراد بالعانة الشَّعر الّذي فوق ذَكَر الرَّجُل وحَوَالَيْه، وكذاك الشَّعر الّذي حَوَالَيْ فرجِ المرأة، ونُقل عن أبي العبَّاس بنِ سُرَيْجٍ أنّه الشَّعر النّابت حول حَلْقة الدُّبُر، فيَحصُل من مجموع هذا استحباب حَلْق جميع ما على القُبُل والدُّبُر وحولَهما، وأمّا وقت حَلْقه فالمختار أنّه يُضبَط بالحاجة وطُولِه، فإذا طال، حُلِق، وكذلك الضَّبْط في قصِّ الشّارب، ونَتْف الإبِط، وتقليم الأظفار، وأمّا حديث أنس المذكور في الكتاب «وُقِّت لنا في قصِّ الشّارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ألَّا يُترَك أكثرَ من أربعين ليلةً»، فمعناه: لا يُترَك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنّهم وُقِّت لهم التّرك أربعين، واللّه أعلم"[6]

قال ابن حجر رحمه الله: "والاستحداد: استعمال الموسى في حلق الشّعر من مكان مخصوص من الجسد... فتحصّل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القُبل والدُّبر وحولهما"[7]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الاستحداد يعني حلق العانة، والعانة هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ، فمن الفِطرة أن يَحلِق الإنسان هذا الشعر؛ لأنه إذا طال، فربما يتلوَّث بالنجاسة من أسفلَ، أو من القُبل، ويَحصُل في ذلك وَسَخ وقَذر، ولأنه مُضِرٌّ، وإن كان بعض الناس مثل البهائم يُبقي العانة، ويجعلها تزداد وتطول، نسأل الله السلامة"[8]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا تقليم الأظفار، فسُنَّة، ليس بواجب، وهو (تَفْعِيلٌ) من القَلْم، وهو القَطْع، ويُستحبُّ أن يبدأ باليدين قبل الرِّجلين، فيَبدأ بمُسبِّحة يده اليمنى، ثمّ الوسطى، ثمّ البِنصر ثمّ الخِنصر ثمّ الإبهام، ثمّ يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخِنصرها ثمّ ببِنْصرها إلى آخرها، ثمّ يعود إلى الرِّجلين اليمنى، فيبدأ بخِنصرها، ويختم بخِنصر اليسرى، واللّه أعلم"[9]

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وتقليم الأظفار»، وهو تفعيل من القَلْم، وهو القطع، ووقع في حديث ابن عمر: «قصّ الأظفار»، كما في حديث الباب، ووقع في حديثه في الباب الّذي يليه بلفظ (تقليم)، وفي حديث عائشة وأنس «قصّ الأظفار»، والتّقليم أعمُّ، والأظفار جمع ظُفْر بضمِّ الظّاء والفاء وبسكونها"[10]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قصُّ الأظفار يعني تقليمها، والمراد بذلك أظفار اليدين والرجلين، ولا ينبغي أن نقصَّ حتى يصل إلى اللحم؛ لأن هذا يَضُرُّ الإنسان، وربما يَحصُل فيه خُرَّاج أو ما أشبه ذلك؛ لكن نقصُّهما قصًّا معتدِلاً"[11]

قال النوويُّ رحمه الله: "أمّا نتف الإبط، فسُنَّة بالاتِّفاق، والأفضلُ فيه النَّتف لمن قَوِيَ عليه، ويَحصُل أيضًا بالحَلْق وبالنُّورة، وحُكِي عن يونسَ بنِ عبد الأعلى قال: دخلتُ على الشّافعيِّ  وعنده الْمُزيِّن يَحلِق إبطه، فقال الشّافعيُّ: علمتُ أنّ السُّنَّة النَّتف؛ ولكن لا أقوى على الوجع. ويُستحبُّ أن يبدأ بالإبط الأيمن"[12]

قال ابن حجر رحمه الله: "والإبط بكسر الهمزة والموحَّدة وسكونها، وهو المشهور، وصوَّبه الجواليقيُّ، وهو يذكَّر ويؤنَّث، وتأبَّط الشّيء: وضعه تحت إبطه، والمستحبُّ البَداءة فيه باليمنى، ويتأدّى أصل السّنَّة بالحلق، ولا سيَّما من يؤلمه النّتف"[13]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "نتف الإبط إذا كان فيه شَعر، فإنها تُنتَف ولا تُقصُّ ولا تُحلَق؛ بل نتفُها أَوْلى؛ لأن النتف يُزيلها بالكلية، ويُضعف أصولها حتى لا تَنبُت فيما بعدُ، وهذا أمر مطلوب شرعًا"[14]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قصُّ الشّارب، فسُنَّة أيضًا، ويُستحبُّ أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخيَّر بين القصِّ بنفسه، وبين أن يُوَلِّيَ ذلك غيره؛ لحصول المقصود من غير هَتْك مروءة ولا حُرمة، بخلاف الإبط والعانة، وأمّا حدُّ ما يَقُصُّه، فالمختار أنّه يَقُصُّ حتّى يبدوَ طَرَف الشَّفَة ولا يَحِفُّه من أصله، وأمّا روايات «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، فمعناها: أَحْفُوا ما طال على الشَّفَتين، واللّه أعلم"[15]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قص الشارب: وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا، وحدُّه: كلُّ ما طال على الشَّفة العليا فهو شارب، فهذا يُحَفُّ؛ لأن بقاءه يكون فيه تلويث بما يخرج من الأنف من الأذى، ثم عند الشُّرب أيضًا يباشر الشَّعر المتلوِّث الماء، فيقذِّره، وربما يَحمِل ميكروباتٍ مُضرَّةً، وعلى كلِّ حال، فهو من السنَّة، أهمُّ شيء أنه من السنَّة، والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ إذا حفَفْتَه"[16]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا إعفاء اللِّحْية، فمعناه: توفيرُها، وهو معنى «أَوْفُوا اللِّحَى» في الرّواية الأخرى، وكان من عادة الفُرْس قصُّ اللِّحية، فنهى الشّرع عن ذلك، وقد ذكر العلماء في اللّحية عَشْرَ خصال مكروهة، بعضُها أشدُّ قُبحًا من بعض: إحداها: خِضَابُها بالسَّوَاد إلا لغرض الجهاد، الثّانية: خِضَابها بالصُّفْرة تشبيهًا بالصّالحين، لا لاتِّباع السنَّة، الثالثة: تبييضها بالكِبْريت أو غيره؛ استعجالًا للشّيخوخة؛ لأجل الرّياسة والتّعظيم، وإيهام أنّه من المشايخ، الرّابعة: نَتْفُها أو حَلْقُها أوَّلَ طُلوعها؛ إيثارًا للمُرُودة وحُسن الصّورة، الخامسة: نتف الشَّيْب، السّادسة: تصفيفها طاقةً فوقَ طاقة تَصنُّعًا؛ ليَستحسِنَه النّساء وغيرُهنّ، السّابعة: الزّيادة فيها والنّقصُ منها بالزّيادة في شَعر العِذار من الصُّدْغينِ، أو أخذ بعض العِذار في حلق الرّأس، ونتف جانبَيِ العَنْفَقة وغير ذلك، الثّامنة: تسريحها تصنُّعًا لأجل النّاس، التّاسعة: تركها شَعِثةً مُلبَّدةً؛ إظهارًا للزَّهَادة وقِلَّة الْمُبالاة بنفسه، العاشرة: النَّظر إلى سَوادها وبياضها؛ إعجابًا وخُيَلاءَ وغِرَّةً بالشّباب، وفخرًا بالْمَشيب، وتطاولًا على الشباب، الحاديةَ عَشْرةَ: عَقْدُها وضَفْرها، الثانيةَ عشْرةَ: حَلْقُها إلّا إذا نَبَت للمرأة لحيةٌ، فيُستحبُّ لها حَلْقُها، واللّه أعلم"[17]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا غَسْل البَرَاجم فسُنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء، والبَرَاجم بفتح الباء وبالجيم: جمعُ (بُرْجُمة) بضمّ ِالباء والجيم، وهي عُقَدُ الأصابع ومَفاصِلها كلِّها، قال العلماء: ويَلحَق بالبراجم ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذُن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنّه ربّما أضرَّت كَثْرَته بالسَّمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوَسَخ المجتمع على أيِّ موضعٍ كان من البَدَن بالعَرَق والغُبار ونحوهما، واللّه أعلم"[18]

قال ابن حجر رحمه الله: "وأمّا غَسْلُ البراجم فهو بالموحَّدة والجيم، جمع بُرْجُمة بضمَّتين، وهي عُقَد الأصابع الّتي في ظهر الكفِّ. قال الخطّابيُّ: هي المواضع الّتي تتّسخ ويجتمع فيها الوَسَخ، ولا سيَّما ممّن لا يكون طريَّ البَدَن، وقال الغزاليُّ: كانت العرب لا تغسل اليد عَقِب الطّعام فيجتمع في تلك الغُضُون وَسَخ، فأمَر بغَسلها، قال النّوويُّ: وهي سنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء يعني أنّها يُحتاج إلى غَسلها في الوضوء والغُسل والتّنظيف، وقد أَلحَق بها إزالة ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذن وقَعر الصِّمَاخ، فإنّ في بقائه إضرارًا بالسّمع، وقد أخرج ابن عَدِيٍّ من حديث أنس أنّ النّبيَّ ﷺ أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء؛ لأنّ الوَسَخ إليها سريع... قال أبو عُبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلِّها، وقال ابن سِيده: البُرْجُمة الْمِفصَل الباطن عند بعضهم، والرَّواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: قَصَب الأصابع... وأمّا الانتضاح فقال أبو عُبيد الهرويُّ: هو أن يأخذ قليلًا من الماء فيَنضَح به مَذاكيره بعد الوضوء ليَنفيَ عنه الوَسواس، وقال الخطّابيُّ: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النَّضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خَصْلة واحدة، وعلى الأوّل فهو غيره"[19]

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (الختان) بكسر المعجمة وتخفيف المثنَّاة، مصدر خَتَن؛ أي: قَطَع، وللخَتْن بفتح ثمّ سكون: قطعُ بعضٍ مخصوص من عضوٍ مخصوص، ووقع في رواية يونس عند مسلم (الاختتان)، والختان اسمٌ لفعل الخاتن، ولموضع الختان أيضًا؛ كما في حديث عائشةَ: «إذا التقى الختانان»، والأوّل المراد هنا. قال الماورديُّ: ختان الذَّكَر قطع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة، والمستحبُّ أن تُستوعَب من أصلها عند أوَّل الحَشَفة، وأقلُّ ما يُجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشَّى به شيء من الحَشَفة... والمستحقُّ من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم، قال الماورديُّ: ختانها قطع جِلدة تكون في أعلى فرجها فوقَ مدخل الذَّكَر؛ كالنَّوَاة أو كعُرف الدِّيك، والواجب قطع الجلدة المستعْلِيَة منه دون استئصاله"[20]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "الختان: الذي يسمَّى عند الناس (الطهارة)، وهو للرجال والنساء، أما الرجال فختانهم واجب، وأما النساء فختانهن سنَّة وليس بواجب؛ وذلك أن الرجل إذا لم يُختَن وبَقِيت الجِلدة التي فوق الحشفة، فإنه يحتقن بها البَول، وتكون سببًا في النجاسة؛ لأنه إذا احتقن بها البول ثم حصل ضغط عليها، خرج البول الذي صار بينها وبين الحشفة، فتلوَّثت الثياب وتنجَّست، ثم هي أيضًا عند الكِبر وعندما يصل الإنسان إلى حدِّ الزواج يكون هناك مشقَّة شديدة عند الجِماع؛ فلذلك كان من الفِطرة أن تُقَصَّ هذه الجِلدة؛ ولهذا كان كثير من الكفار الآن يختتنون؛ لا لأجل الطهارة والنظافة لأنهم نَجَس؛ لكنهم يختتنون من أجل التلذُّذ عند الجماع، وعدم المشقَّة، هذه واحدة.

ومتى يكون الختان؟ يكون الختان من اليوم السابع فما بعدَه، وكلَّما كان في الصِّغَر، فهو أفضلُ؛ لأن ختان الصغير لا يكون فيه إلا الألم الجسميُّ دون الألم القلبيِّ، أما الكبير لو ختنَّا من له عشْر سنوات مثلاً، فإنه يكون فيه ألم قلبيٌّ وجسميٌّ، ثم إن نموَّ اللحم ونبات اللحم وسرعة البُرء في الصغار أكثرُ؛ لهذا قال العلماء: إن الختان في زمن الصِّغر أفضل، وهو كذلك"[21]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا انتقاصُ الماء، فهو بالقاف والصّاد المهمَلة، وقد فسَّره وكيع في الكتاب بأنّه الاستنجاء، وقال أبو عُبيدة: معناه: انتقاص البَول بسبب استعمال الماء في غَسْل مَذَاكيره، وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في روايةٍ (الانتضاح)، بدل (انتقاص الماء)، قال الجمهور: الانتضاح نَضْح الفرج بماء قليل بعد الوضوء ليَنفيَ عنه الوَسْواس. وقيل: هو الاستنجاء بالماء، وذكر ابن الأثير أنه رُوِي (انتفاص الماء) بالفاء والصّاد المهمَلة، وقال في فصل الفاء، قيل: الصّواب أنّه بالفاء، قال: والمراد نَضْحُه على الذَّكَر، من قولهم لنَضْح الدّمِ القليل: نَفْصُه، وجمعُها: نُفَص، وهذا الّذي نقله شاذٌّ، والصّواب ما سبق، واللّه أعلم"[22]

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قوله: (ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة)، فهذا شكٌّ منه فيها، قال القاضي عياض: ولعلَّها الختان المذكور مع الخمس، وهو أَوْلى، واللّه أعلم، فهذا مختصَر ما يتعلَّق بالفِطرة، وقد أَشبَعت القول فيها بدلائلها وفروعها في شرح المهذَّب، واللّه أعلم"[23]

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «أَحْفُوا الشّواربَ وأَعْفُوا اللِّحَى»، وفي الرّواية الأخرى: «وأوفوا اللّحى»، هو بقطع الهمزة في (أَحْفُوا وأَعْفُوا وأَوْفُوا)، وقال ابن دُرَيد: يُقال أيضًا: حَفا الرَّجُل شاربَه يَحْفُوه حَفْوًا إذا استأصل أَخَذَ شَعْرَه، فعلى هذا تكون همزة (أَحْفوا) همزةَ وصل، وقال غيره: عَفَوْتُ الشَّعْر وعَفَيْتُه، لغتان، وقد تقدَّم بيان معنى إحفاء الشّوارب وإعفاء اللِّحى، وأمّا أَوْفوا، فهو بمعنى أعفوا؛ أي: اتركوها وافيةً كاملةً لا تَقُصُّوها. قال ابن السِّكِّيت وغيره: يُقال في جمع اللِّحْية: لِحًى ولُحًى بكسر اللّام وبضمِّها، لغتان، الكسرُ أفصحُ. وأمّا قوله ﷺ: «وأَرْخُوا»، فهو أيضًا بقطع الهمزة، وبالخاء المعجَمة، ومعناه: اتركوها ولا تتعرَّضوا لها بتغيير، وذكر القاضي عياض أنّه وقع في رواية الأكثرين كما ذكرنا، وأنه وقع عند ابن مَاهانَ: «أَرْجُوا» بالجيم. قيل: هو بمعنى الأوّل، وأصلُه (أَرْجِئوا) بالهمزة، فحُذِفت الهمزة تخفيفًا، ومعناه: أخِّروها اتركوها، وجاء في رواية البخاريِّ: «وَفِّروا اللِّحى»، فحصل خمسُ روايات: (أعفوا، وأوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفِّروا)، ومعناها كلِّها تَرْكُها على حالها، هذا هو الظّاهر من الحديث الّذي تقتضيه ألفاظه، وهو الّذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء، وقال القاضي عياض - رحمه اللّه تعالى -: يُكرَه حَلْقُها وقصُّها وتحريقها، وأمّا الأخذ من طولها وعَرْضِها فحَسَنٌ، وتُكرَه الشُّهرة في تعظيمها كما تُكرَه في قصِّها وجَزِّها. قال: وقد اختلف السَّلَف: هل لذلك حدٌّ؟ فمنهم من لم يحدِّد شيئًا في ذلك؛ إلّا أنّه لا يَترُكها لحدِّ الشُّهرة، ويأخذ منها، وكَرِه مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة، فيُزال، ومنهم من كَرِه الأخذ منها إلا في حجٍّ أو عُمرة. قال: وأمّا الشّارب فذهب كثير من السَّلَف إلى استئصاله وحَلْقه بظاهر قوله ﷺ: أَحْفوا وانْهَكوا، وهو قول الكوفيِّين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حَلْقَه مُثْلَةً، ويَأمُر بأَدَب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أنّ الإحفاء والجزَّ والقصَّ بمعنًى واحد، وهو الأخذ منه حتّى يبدوَ طرَف الشَّفَة، وذهب بعض العلماء إلى التّخيير بين الأمرين. هذا آخر كلام القاضي، والمختار ترك اللّحية على حالها، وألّا يتعرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، والمختار في الشّارب ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشَّفة، واللّه أعلم"[24]

 

المراجع

  1.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 147، 148).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
  3.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 228).
  4.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
  5.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337).
  6.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).
  7.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343).
  8.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).
  9.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  10.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
  11.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
  12.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  13.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
  14. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
  15.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
  16.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
  17.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
  18.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  19.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).
  20.  "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
  21.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
  22.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  23.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
  24.  "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ، أنه قَالَ: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»؛ أي: احترزوا وابتعدوا عن السبع الأمور الْمُهلِكة: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ»؛ أي: اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله، وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛ فإن الشرك لظُلمٌ عظيم. «وَالسِّحْرُ» وهو إثم كبير، ووِزر عظيم. «وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ» وهو إزهاق النفس المعصومة (وتُعصَم النفس بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان). «إلا بالحقِّ» فلا يَأثَم القاتلُ بالحقِّ؛ كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو ردَّةً

«وَأَكْلُ الرِّبَا»؛ أخذًا للرِّبا أو إعطاءً. «وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ»؛ أي: الاستيلاء على مال من مات أبوه وهو صغير، أو إتلافه. «وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ»؛ أي: الفرار عن القتال يوم أن يمشيَ ويتوجَّه جيش المسلمين إلى العدوِّ. «وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاتِ»؛ أي: اتِّهام ورميُ العفيفات المؤمنات البريئات البعيدات عمَّا اتُّهمن به من الفاحشة بالزنى.


الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث يحذِّر النبيُّ ﷺ أمَّته من المهلِكات السَّبع، التي تُهلِك فاعلَها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وتُودِي به في نار جهنَّمَ.

قوله: «اجتبوا السبع الموبقات»؛ أي: ابتعدوا عن فعل الذنوب السبع المهلِكة لمن ارتكبها، وسببُ تسمية هذه الكبائر (موبقات)؛ لأنها تُهلِك فاعلها في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة من العذاب [1]، وقد سمَّاها رسول الله ﷺ موبقات؛ لأن الله تعالى إذا أراد أن يأخذ عبده بها، أَوْبَقه في نار جهنَّم [2].

وليس الغرضُ حَصْرَ الموبقات في هذه السَّبع؛ بل الغرضُ التَّنْبِيه بها إلى أمثالها، أو ما زاد فُحْشُه عن فُحْشِها؛ كالزنى والسَّرِقة، وسببُ الاقتصار على هذه السبع؛ "لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها، لا سيَّما فيما كانت عليه الجاهلية" [3].

"ولا شكَّ في أن الكبائر أكثرُ من هذه السبع؛ ولذلك قال ابن عباس حين سُئل عن الكبائر: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع» [4]، وعلى هذا؛ فاقتصاره على هذه السبع في هذا الحديث يَحتمِل أن تكون لأنها هي التي أُعلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلِم بغيرها، ويَحتمِل أن يكون ذلك؛ لأن تلك السبعَ هي التي دَعَت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر" [5].

قوله: «الشرك بالله»: وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛

قال الله تعالى:

(وَإِذْ قَالَ لُقْمَٰنُ لِٱبْنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِٱللَّهِ ۖ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)

 [لقمان: 13]،

وعن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ:

سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ...

[6].

"وأما قُبْحُ الكفر وكَوْنُه أكبرَ الكبائر، فكان معروفًا عندهم، ولا يتشكَّك أحدٌ من أهل القِبلة في ذلك" [7].

قوله: «والسحر»: أصلُ السِّحر: صرف الشيء عن حقيقته إلى غيره، فكأنَّ الساحر لَمَّا أَرَى الباطل في صورة الحقِّ، وخيَّل الشيء على غير حقيقته، قد سَحَر الشيء عن وجهه؛ أي: صَرَفه، وهو عمل يقرِّب فيه إلى الشيطان، وبمعونة منه، ومن السِّحر الأخذة التي تأخذ العين حتى تظنَّ أن الأمر كما ترى، وليس الأصل على ما ترى، ويجوز أن يكون في معرض المدح؛ لأنه تُستمال به القلوبُ، ويَرضى به الساخط، ويَستنزل به الصَّعب؛

كقوله ﷺ:

«إن من البيان لسحرا»

[8].

وهو إثم كبير، ووِزر عظيم؛ لأن فيه تلبيسًا وتَعْمِيةً وسَتْرًا للحقائق، ووَضْعَ غشاءٍ على الأبصار، وإضلالاً للعامَّة، وزلزالاً لعقيدتهم في ترتُّب المسبِّبات على أسبابها، والنتائجِ على مقدِّماتها، وهو حرام، من الكبائر فِعْلُه وتعلُّمه وتعليمه.

قوله: «وقتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحقِّ»: وهو إزهاقُ النَّفس المعصومة بالإسلام أو الذمَّة أو العهد أو الأمان. «إلا بالحقِّ» كالقتل قصاصًا أو حدًّا أو ردَّةً، وهي جريمة تَرفَع الأمن، وتَنشُر الخوف، وتَفتِك بالأمَّة وتُضعِفها، وتقطع روابط الإخاء بينها؛

قال تعالى:

(وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَٰلِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِيمًا )

 [النساء: 93].

وقتل النفس يَشمَل قتل العُدوان، وقتلَ الأولاد خشيةَ الإملاق، ووأدَ البنات مخافةَ العار [9].

قوله: «وأكل الربا»؛ أي: تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والأصلُ في معناه الزيادة، يقال: رَبا الشيء إذا زاد، ومن ذلك قول الله تبارك وتعالى:

(يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ)

 [البقرة: 276]،

وقال سبحانه:

(ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ)

 [البقرة: 275].

"من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

(فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ )

 [البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [10].

قوله: «وأكل مال اليتيم»: أي إتلاف ماله، والمراد من الأكل الاستيلاء، لا خصوص الأكل، وخُصَّ الأكل بالذكر لأنه المقصودُ الغالب من المال، واليتيم: من مات أبوه وهو صغير؛

قال الله عز وجل:

(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)  

[النساء: 10].

قوله: «والتولِّي يومَ الزحف»؛ أي: عن القتال، والتولِّي عن القتال إنما يكون كبيرةً إذا فرَّ إلى غير فئة، وإذا كان العدوُّ ضِعْفَيِ المسلمين [11].

قال الله تعالى:

(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلْأَدْبَارَ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍۢ دُبُرَهُۥٓ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍۢ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَىٰهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ)  

[الأنفال: 15 - 16]،

فإذا لَقِيَتْ فئةٌ من المؤمنين فئةً هي ضعفُ المؤمنين من المشركين، فالفرضُ ألَّا يَفِرُّوا أمامهم، فمن فَرَّ من اثنين، فهو فارٌّ من الزحف، ومن فَرَّ من ثلاثة، فليس بفارٍّ من الزحف، ولا يتوجَّه عليه الوعيد، والفرار كبيرةٌ مُوبِقة بظاهر القرآن، وإجماعُ الأكثرِ من الأئمَّة [12].

والزَّحْفُ أصله المشيُ المتثاقِل؛ كالصبيِّ يَزحَف قبل أن يمشيَ، وسُمِّي الجيشُ زَحْفًا؛ لأنه يزحف فيه، وإنما يكون الفرار كبيرةً إذا فرَّ إلى غير فئة، وإلا إذا كان العدوُّ زائدًا على ضِعفَيِ المسلمين [13].

قوله: «وقذف المحصَنات المؤمنات الغافلات»؛ أي: رَمْيُهن بالزنى، والإحصان هنا: العفَّة عن الفواحش، والغافلات، يعني: عمَّا رُمِين به من الفاحشة؛ أي: هن بريئات من ذلك، لا خبر عندهن منه.

وقيَّده بوصف "الغافلات" لتغليظ الذنب، وليس قيدًا للاحتراز يُبيح قذف غير الغافلات [14].

واحتُرز بـ«المؤمنات» عن قذف الكافرات؛ فإن قذفَهن ليس من الكبائر، فإن كانت ذِمِّيَّةً، فقَذْفُها من الصغائر لا يوجب الحَدَّ، وفي قذف الأَمَة المسلِمة التعزيرُ دون الحَدِّ [15].

قال الله تعالى:

(إِنَّ ٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْغَٰفِلَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ لُعِنُوا فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)  

[النور: 23].

ولا يَقتصِر ذلك على قذف النساء فقط بالفاحشة؛ وإنما يَدخُل فيه أيضًا قذف الرجال؛ فقد "قام الإجماع أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصَنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قَذَف حُرًّا عفيفًا مؤمنًا، عليه الحَدُّ ثمانون؛ كمن قَذَف حُرَّة مؤمِنة، وجاءت الأخبار عن الشارع بالتغليظ في رميِ المحصَنات، وأن ذلك من الكبائر" [16].



المراجع

1.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 489).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 84).

4. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (290). 

5. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

6. رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 88).

8. رواه البخاريُّ (5146).

9. "الأدب النبويُّ" لمحمد عبد العزيز الشاذلي (ص: 89).

10. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 284).

12. "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبيِّ (7/ 380).

13. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (17/ 264).

14. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (1/ 291).

15. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 506).

16.  "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (31/ 284).




النقول

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وقيل: الكبائر تسع، وروى الحاكم في حديث طويل: «والكبائر تسع» فذكر السبعة المذكورة، وزاد عليها: «عقوق الْوَالِدين الْمُسلمينِ، وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام»، وقيل: الكبيرة كلُّ معصية. وقيل: كلُّ ذنب قُرِن بنار أو لعنة أو غضب أو عذاب، وقال رجل لابن عَبَّاس، رضي الله عنهما: الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى سَبْعمِائة. وقيل: الكبيرة أمر نسبيٌّ، فكلُّ ذَنْب فَوْقَه ذَنْب، فهو بالنسبة إليه صغيرة، وبالنسبة إِلى ما تَحْتَه كبيرة" [1].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "اليتامى هم الذين مات آباؤهم قبل البلوغ، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، وهؤلاء - أعني اليتامى - محلُّ الرفقِ والعناية والرحمة والشفقة؛ لأنهم كُسرت قلوبهم بموت آبائهم، وليس لهم عائلٌ إلا اللهَ عزَّ وجلَّ، فكانوا محلَّ الرفق والعناية. قال: «الشرك بالله»، وهذا أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به" [2].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «الشّرك بِاللَّه»؛ أَي: أَحدها: الشّرك بِاللَّه. الشِّركُ جَعْلُ أحدٍ شَرِيكًا لآخَرَ، والمراد هنا: اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله. قوله: «والسحر»؛ أي: الثاني: السحر، وهو في اللُّغَة: صرف الشَّيْء عن وَجهه، وقال الْجَوْهَرِيُّ: السحر الأَخْذة، وكلُّ ما لَطُف مَأْخَذُه ورقَّ فهو سحر، وقد سَحَره سِحرًا، والساحر الْعَالِم، وسَحَره أيضًا بمعنى: خدَعَه، وذكر أبو عبد الله الرَّازِيُّ: أَنْوَاع السحر ثَمَانِيَة. الأول: سحر الْكَذَّابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة الْمُتَحَيِّرَة، وهي السيَّارة، وكانوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا مُدبِّرَة للعالم، وأنها تأتي بِالْخَيرِ وَالشَّرِّ، وهم الذين بَعَث الله إِبراهِيم الْخَلِيل مُبْطِلًا لمقالتهم، وردًّا لمذاهبهم. الثاني: سِحْرُ أَصْحَاب الأوهام والنفوس القوية. الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الْجِنُّ، خلافًا للفلاسفة والمعتزلة، وهم على قسمَيْنِ: مؤمنون وكفَّار، وهم الشَّيَاطِين، وهذا النَّوْع يحصل بأعمال من الرقى والدخن، وهذا النَّوْع الْمُسَمَّى بالعزائم وعمل تسخير. الرابع: التخيُّلات وَالْأَخْذ بالعيون والشَّعْبَذة، وقد قال بعض الْمُفَسِّرين: إِن سحر السَّحَرَة بين يَدَيْ فِرْعَوْنَ إنما كان من باب الشعبذة. الخامس: الْأَعْمَال العجيبة الَّتِي تَظهَر من تركيب الْآلَات المركَّبة. السادس: الاستعانة بخواصِّ الأدوية، يعني: في الأطعمة والدِّهانات. السابع: تعلُّق الْقلب، وهو أن يدَّعِيَ السَّاحر أَنه عرف الاسم الْأَعْظَم، وَأَن الْجِنَّ يُطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور. الثامن: من السحر: السَّعْيُ بالنميمة بالتصريف من وُجُوه خفية لطيفة، وذلك شائع في النَّاس، وَإِنَّمَا أُدخل كثير من هذه الأنواع المذكورة في فنِّ السحر للَطافة مداركها؛ لأن السحر فِي اللُّغَة عبارَة عَمَّا لَطُف وخَفِيَ سَببُه؛ ولهذا جاء في الحديث: «إِن من الْبَيَان لسحرًا»، وَسمِّي السُّحُور لكَونه يَقع خفِيًّا آخِرَ اللَّيْل، وَالسِّحر الرية، وَهِي مَحلُّ الْغَدَاء، وَسمِّيت بذلك لخفائها ولُطف مجاريها إِلَى أَجزَاء الْبدن وغصونه" [3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "السحر هو عبارة عن عُقَد وقراءات ونَفَثات يتوصَّل بها الساحر إلى الإضرار بالمسحور، فمنه ما يَقتُل، ومنه ما يُمرِض، ومنه ما يُذهب العقل، ومنه ما يُوجِب العَقد؛ يعني: تعلُّق الإنسان بغيره تعلُّقًا شديدًا، ومنه ما يوجِب الصرف؛ يعني: انصرافه عن غيره انصرافًا كاملاً، فهو أنواع؛ لكن كلُّه محرَّم، وقد تبرَّأ النبيُّ  ممَّن سَحَر وسُحِر له، ومنه ما يوصِّل إلى الكفر، فإذا كان الساحر يتوصَّل إلى سحره بالأرواح الشيطانية يتقرَّب إليها ويتعبَّد لها حتى تُطيعه فهذا كُفْرٌ لا شكَّ فيه، وأما إذا لم يكن كذلك، فإنه أذيَّة ومحرَّم، ومن كبائر الذنوب، ويجب على وليِّ الأمر أن يَقتُل الساحرَ قتلاً بدون توبة؛ بمعنى: أن يقتله قتلاً وإن تاب؛ لأنه إن تاب فأمرُه إلى الله عزَّ وجلَّ؛ لكننا نقتله دَرْءًا لمضرَّته ومفسدته، وأما إذا لم يَتُب، فهو من أهل النار، إذا كان سحره مكفِّرًا؛ لأن السحر من أعظم الفساد في الأرض، ومن أعظم الشرور؛ لأنه يأتي الإنسان من غير أن يَحترِز منه؛ ولكن هناك شيء يحميك منه بإذن الله عزَّ وجلَّ وهو قراءة الأوراد الشرعية؛ مثل آية الكرسيِّ، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وما أشبه ذلك مما جاء في الآيات والأحاديث عن النبيّ فإن هذا أكبر واقٍ يقي الإنسان من السحر" [4].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «وَقتل النَّفس»؛ أَي: الثَّالِث من السَّبع الموبقات: قتل النَّفس. قَوْله: «وَأكل الرِّبَا»؛ أَي: الرَّابِع: أكل الرِّبَا، وَهُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، كَمَا عرِّف فِي الْفِقْه. قَوْله: «وَأكل مَال الْيَتِيم»؛ أي: الخامس: أكل مال اليتيم، وهو الْمُنْفَرد في اللُّغَة، وهو: من مات أبوه وهو ما دون الْبلُوغ، وفي البهائم: ما ماتت أمُّه. قَوْله: «والتولِّي يَوْم الزَّحْف»؛ أَي: السَّادِس: الْفِرَار عن الْقِتَال يوم ازدحام الطائفتين، ويُقال: التولِّي: الْإِعراض عن الْحَرْب، والفرار من الْكفَّار إِذا كان بِإِزَاءِ كلِّ مُسلم كَافِرَانِ، وإن كان بِإِزَاءِ كلِّ مُسلم أَكثرُ من كَافِرينِ يجوز الْفِرَار، والزحف الجماعة الَّذين يزحفون إلى الْعَدوِّ؛ أي: يمشون إليهم بِمَشَقَّة، من زحف الصَّبِيِّ إِذا دبَّ على استِه. قَوْله: «وَقذف الْمُحْصنَات»؛ أَي: السَّابِع: قذف الْمُحْصنَات، الْقَذْف الرَّمْيُ الْبعيد، استُعير للشتم والعَيْب والبُهتان كما استعير للرمي، وَالْمُحصنَات جمع مُحصَنَة، بِفَتْح الصَّاد، اسْم مفعول؛ أَي: الَّتِي أَحصَنها الله تَعَالَى وحَفِظها من الزِّنَا، وبكسرها، اسْم فَاعل؛ أَي: الَّتِي حَفِظت فرجها من الزِّنَا. قَوْله: «الْمُؤْمِنَات» احْتَرز به عن قذف الكافرات؛ فإن قذفهن ليس من الكبائر، وإن كانت ذِمِّيَّةً فقذفُها من الصَّغَائِر لا يُوجب الْحَدَّ، وَفِي قَذْفِه الْأمَة الْمسلمَة التَّعْزِيرُ دون الْحَدِّ. قَوْله: «الْغَافِلَات» كِنَايَةٌ عَن البريئات؛ لِأَن البريء غافلٌ عَمَّا بُهت به من الزِّنَا" [5].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "فناب ذِكْرُ رمي النساء عن ذكر رمي الرجال، وأجمع المسلمون أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قذف حرًّا عفيفًا مؤمِنًا عليه الحدُّ ثمانون كمن قذف حرَّةً مؤمنة" [6].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "ذِكْرُ مَا يُسْتَفَاد منه: فيه: ذكر السَّبع، ولا يُنَافِي أن لا تكون كبيرة إلَّا هذه، فقد ذكر في غير هذا الموضع: قَولَ الزُّور، وزنا الرجل بحليلة جاره، وعقوق الْوَالِدين، وَالْيَمِين الْغَمُوس، واستحلال بيت الله، ومسك امرأة مُحصنَة لمن يزني بها، ومسك مُسلم لمن يقْتله، ودلّ الْكفَّار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبُون ويغنمون، والحكم بِغَيْر حقٍّ، والإصرار على الصغيرة. وقال الشَّافِعِيُّ: وأكبرها بعد الإشراك: الْقَتْل، وادَّعى بعضهم أَن الكبائر سبع، كأنه أَخذ ذلك من هذا الحديث. وقال بعضهم: إحدى عشْرَةَ، وقال ابْن عَبَّاس: إِلَى السّبْعين أقرب، ورُوي عَنهُ أَن سَبْعمِائة، وَالتَّحْقِيق هنا أن التَّنْصِيص على عدد لَا يُنَافِي أَكثرَ من ذلك، وَأما تعْيين السَّبع هنا فلاحتمال أَن يكون أعلم الشَّارِع ها في ذلك الْوَقْت، ثمّ أوحى إليه بعد ذلك غيرها، أو يكون السّبع هي الّتي دعت إليها الحاجة في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلّ حديث خصّ عددًا من الكبائر. وفيه: أن الموبقات الّتي هي الكبائر لا بدّ في مقابلتها الصّغائر، فلا بدّ من الفرق بينهما، فقال الشّيخ عز الدّين بن عبد السّلام: إذا أردت معرفة الفرق بين الصّغيرة والكبيرة، فاعرض مفسدة الذّنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإذا نقصت عن أقلّ مفاسد الكبائر، فهي من الصّغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو أربت عليه، فهي من الكبائر، فمن شتم الربّ، عزّ وجلّ، أو رسوله أو استهان بالرسل أو كذّب واحدًا منهم، أو ضمّخ الكعبة المشرّفة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرّح الشّرع بذكرها، وقال بعضهم: كلّ ذنب قرن به وعيد أو حدّ أو لعن فهو كبيرة، وروي هذا عن الحسن أيضًا، وقيل: الكبيرة ما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه. وعن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: الكبائر جميع ما نهى الله عنه من أول سورة النّساء إلى قوله:

﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾

[النساء: ٣١]" [7].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "ولا شكَّ في أن الكبائر أكثرُ من هذه السبع؛ ولذلك قال ابن عباس حين سُئل عن الكبائر: «هي إلى السبعين أقربُ منها إلى السبع» [8]، وعلى هذا؛ فاقتصاره على هذه السبع في هذا الحديث يَحتمِل أن تكون لأنها هي التي أُعلِمَ بها في ذلك الوقت بالوحي، ثم بعد ذلك أُعلِم بغيرها، ويَحتمِل أن يكون ذلك؛ لأن تلك السبعَ هي التي دَعَت الحاجة إليها في ذلك الوقت، أو التي سُئل عنها في ذلك الوقت، وكذلك القول في كلِّ حديث خصَّ عددًا من الكبائر" [9].

قال السهيليُّ رحمه الله: "من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

{فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ }  

[البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [10].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "اختلفوا فيمن يتعلَّم السحر ويستعمله. فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكفر بذلك، وعن بعض الحنفيّة: إن تعلَّمه ليتَّقيَه أو ليجتنَّبه فلا يكفر، ومن تعلَّمه معتقدًا جوازَه أو أن ينفعه، كفر، وكذا من اعتقد أن الشّياطين تفعل له ما يشاء، فهو كافر. وقال الشّافعيُّ: إذا تعلَّم السّحر، قلنا له: صِفْ لنا سحرك، فإن وصف ما يوجِب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التّقرُّب إلى الكواكب السّبعة، وأنّها تفعل ما يُلتمس منها، فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، فإن اعتقد إباحته فهو كافر" [11].

قال ابن القيم رحمه الله: "وقلَّما يتأتَّى السِّحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرُّب إليه، إما بذَبْحٍ باسمه، أو بذَبح يُقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق. والساحر وإن لم يُسَمِّ هذا عبادةً للشيطان، فهو عبادة له، وإن سمَّاه بما سمَّاه به؛ فإن الشِّرك والكفر هو شرك وكُفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولَفظِه؛ فمن سَجَد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبِّلها بالنِّعم، أو هذا إكرام، لم يَخرُج بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله، فليسمِّه بما شاء" [12].

قال ابن الملقِّن رحمه الله: "قام الإجماع أن حكم المحصَنين في القذف كحُكم المحصَنات قياسًا واستدلالاً، وأن من قَذَف حُرًّا عفيفًا مؤمنًا، عليه الحَدُّ ثمانون؛ كمن قَذَف حُرَّة مؤمِنة، وجاءت الأخبار عن الشارع بالتغليظ في رميِ المحصَنات، وأن ذلك من الكبائر"  [13].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وفيه: قذف المحصَنات، وقد ورد الإحصان في الشّرع على خمسة أقسام: الإسلام والعفَّة والتّزويج والحريّة والنّكاح. وقال أصحابنا: إحصان المقذوف بكونه مكلَّفًا؛ أي: عاقلاً بالغًا حرًّا مسلمًا عفيفًا عن زنا، فهذه خمس شرائطَ، يدخل تحت قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

[النور: ٤]،

فإذا فُقد واحد منها لا يكون محصَنًا" [14].

المراجع

1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (3/ 114).

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 309-311).

3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 61).

4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 573، 574).

5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 62).

6. شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 489).

7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 62).

8. رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (290).

9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (1/ 283).

10. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

11. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 63).

12. "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 759، 760).

13. "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (31/ 284).

14. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 64).