غريب الحديث:
البراجم: جمع بُرْجُمة، وهي عُقَد الأصابع ومفاصلها كلِّها.
السِّوَاكُ: هو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفمَ، ويُزيل الرّوائح الكريهة.
العانة: هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ[1]
المراجع
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).
المعنى الإجماليُّ للحديث
تروي عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ»: والفِطرة هي الخِلقة التي خلق الله عباده عليها: «قَصُّ الشَّارِبِ» حفُّه حتى تبدوَ الشَّفَة؛ لِما في ذلك من النظافة، والتحرُّز مما يَخرُج من الأنف، «وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ»: بترك الشّعر النّابت على الذّقن والخدَّين، وعدم الأخذ منه، فلا يتعرَّض لها بحلق ولا بتقصير، «وَالسِّوَاكُ»: وهو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفمَ، ويُزيل الرّوائح الكريهة؛ ولهذا يُشرَع كلَّ وقت، ويتأكَّد عند الوضوء والصلاة، والانتباه من النوم، وتغيُّر الفم، ونحو ذلك، «وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ»: وهو إدخال الماء في الأنف، ثمّ نثره مرّةً أخرى؛ ليخرج ما فيه من أذًى وقذر؛ فهو إزالة لما في الأنف من الأوساخ التي قد تسبِّب له الأذيَّة والضَّرر، ويكون في الوضوء وفي غير الوضوء لتنظيف الأنف، «وَقَصُّ الْأَظْفَارِ»: قصُّ ما طال من أظفار اليدين والرجلين؛ لأنّها مَظِنَّة الأوساخ والضَّرر، «وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ»؛ أي:
غَسْلُ مفاصل الأصابع الظاهرة والباطنة؛ لأنها مواضع تجتمع فيها الأوساخ؛ لتجعُّدها وانكماشها؛ فقد لا يصلها الماء، «وَنَتْفُ الْإِبِطِ»؛ أي: إزالة ونزع الشّعر النّابت تحت الإبط؛ وذلك أنه في مكان يَكثُر فيه العَرَق، وتجتمع فيه الأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة، والأفضل فيه النَّتْف لمن قَوِي عليه، ويحصل أصل السُّنَّة بإزالته بأيِّ وسيلةٍ كانت؛ كالحَلق وغيره، «وَحَلْقُ الْعَانَةِ»: وهو إزالة الشّعر النابت حول القُبل، من الرجل والمرأة بأي وسيلة؛ كالحلق أو النتف أو القصِّ أو باستعمال المستحضرات الحديثة؛ لأن المقصود التنظيف، «وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»: وهو الاستنجاء، والاستنجاء: إزالة الخارج من السبيلينِ بطاهر؛ كالماء والحَجَر والخِرَق والمناديل، ونحو ذلك مما له خاصية الإزالة.
قَالَ مُصْعَبٌ: (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ): والمضمضة هي إدارة الماء في الفم ثمّ مجُّه وإخراجه منها، فيغسل الفم بالماء كلَّما استلزم الأمر ذلك، وخاصّةً بعد الطّعام وأكل ما له رائحة.
الشرح المفصَّل للحديث
إن الإسلام دين سامٍ كاملٌ يهتمُّ بكلِّ شؤون الإنسان ظاهرًا وباطنًا، ومن ذلك الطهارةُ والنظافة والجمال، فجعل الطهارةَ من أَجَلِّ العبادات، وأعظمِ القُرُبات التي يَتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحَّةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوَّـٰبِينَ وَيُحِبُّ ٱلۡمُتَطَهِّرِينَ ﴾
؛ بل جعل الإسلامُ الطُّهور شطرَ الإيمان؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»[1]
وأمر الله تعالى بالهيئة الحسنة عند الذهاب للمسجد؛
يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ
، "وجعل الدخولَ عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يَدخُل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخولَ إلى جنَّته موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يَدخُلها إلا طيِّب طاهر؛ فهما طهارتان: طهارةُ البَدَن، وطهارة القَلب؛ ولهذا شُرع للمتوضِّئ أن يقول عَقِيب وضوئه: «أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحّمدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ المُتَطَهِّرِينَ». فطهارةُ القلب بالتوبة، وطهارة البدن بالماء، فلمَّا اجتمع له الطُّهران، صَلَح للدخول على الله تعالى، والوقوف بين يديه ومناجاته"[2]
وفي هذا الحديث يُرشِد النبيُّ ﷺ المسلم إلى خصال الفطرة؛ أي: خصال السُّنَّة التي فَطَر الله عليها العباد وشَرَعها لهم، وجعل استحسانها مفطورًا في العقول، تشهد بحُسنها العقول السليمة، ولا جَرَمَ أنّ خصال الفطرة يتعلّق بها أمور دينيّة ودنيويّة؛ مثل تحسين الهيئة، وتنظيف البَدَن، والاحتياط للطّهارة، وحسن مخالطة النّاس بكفِّ ما يُتأذَّى بريحه عنهم، ومخالفة شأن الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى.
تروي عَائِشَةُ – رضي الله عنها – عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ»: "والفِطْرة يعني التي فَطَر الخَلق على استحسانها، وأنها من الخير، والمراد بذلك الفِطَر السليمة؛ لأن الفِطَر المنحرِفة لا عبرة بها؛ لقول النبيِّ ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه»"[3]
وخصال الفطرة ليست منحصرةً في عشْر، وقد أشار ﷺ إلى عدم انحصارها فيها بقوله: «من الفطرة»، فـ(من) للتبعيض هنا، وقد ثبت في أحاديثَ أخرى زيادةٌ على ذلك، فدلَّ على أن الحصر فيها غير مُراد.
وأمّا الفِطرةُ، فقد اختُلف في المراد بها هنا، فذَهَب أكثر العلماء إلى أنّها السُّنَّة، وقيل: معناه أنّها من سُنن الأنبياء، وقيل: هي الدِّين.
ومعظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلافٌ في وجوبه؛ كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يَمتنِع قَرْنُ الواجب بغيره.
"ويتعلَّق بهذه الخِصال مصالحُ دينيَّة ودنيويّة تُدرَك بالتّتبُّع، منها تحسينُ الهيئة، وتنظيف البَدَن جُملةً وتفصيلًا، والاحتياط للطّهارتين والإحسان إلى المخالَط والمقارَن بكفِّ ما يتأذَّى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى وعبَّاد الأوثان، وامتثال أمر الشّارع، والمحافظة على ما أشار إليه
وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ
لِما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنّه قيل: قد حسَّنتُ صوركم فلا تشوِّهوها بما يقبِّحها، أو حافظوا على ما يستمرُّ به حُسْنُها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التّآلف المطلوب؛ لأنّ الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النّفس إليه، فيُقبَل قوله، ويُحمَد رأيُه، والعكسُ بالعكس"[4]
قوله ﷺ: «قَصُّ الشَّارِبِ»: "وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا، وحدُّه: كلُّ ما طال على الشَّفة العليا فهو شارب، فهذا يُحَفُّ؛ لأن بقاءه يكون فيه تلويث بما يخرج من الأنف من الأذى، ثم عند الشُّرب أيضًا يباشر الشَّعر المتلوِّث الماء، فيقذِّره، وربما يَحمِل ميكروباتٍ مُضرَّةً"[5]
و"ذهب كثير من السَّلَف إلى استئصال الشارب وحَلْقه، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حَلْقَه مُثْلَةً، ويَأمُر بأَدَب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أنّ الإحفاء والجزَّ والقصَّ بمعنًى واحد، وهو الأخذ منه حتّى يبدوَ طرَف الشَّفَة، وذهب بعض العلماء إلى التّخيير بين الأمرين... والمختار في الشّارب ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشَّفة، واللّه أعلم”[6]
"وهو سُنَّة، ويُستحبُّ أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخيَّر بين القصِّ بنفسه، وبين أن يُوَلِّيَ ذلك غيره؛ لحصول المقصود من غير هَتْك مروءة ولا حُرمة، بخلاف الإبط والعانة، وأمّا حدُّ ما يَقُصُّه، فالمختار أنّه يَقُصُّ حتّى يبدوَ طَرَف الشَّفَة ولا يَحِفُّه من أصله، وأمّا روايات «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، فمعناها: أَحْفُوا ما طال على الشَّفَتين، واللّه أعلم"[7]
قوله ﷺ: «وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ» واللحية: ما نَبَت على الذَّقن واللحيينِ، والمقصود من إعفائها: تركها موفَّرةً لا يتعرَّض لها بحلق ولا بتقصير، لا بقليل ولا بكثير؛ لأن الإعفاء مأخوذ من الكثرة أو التوفير، فاعفوها وكثِّروها، وقد جاءت أحاديثُ كثيرةٌ عن رسول الله ﷺ بالأمر بإعفائها بألفاظ متعددة، "هي: (أَعْفُوا، وأَوْفوا، وأَرْخوا، وأَرْجوا، ووفِّروا)، فحصل خمسُ روايات، ومعناها كلِّها تَرْكُها على حالها، هذا هو الظّاهر من الحديث الّذي تقتضيه ألفاظه، وقال القاضي عياض - رحمه اللّه تعالى -: يُكرَه حَلْقُها وقصُّها وتحريقها، وأمّا الأخذ من طولها وعَرْضِها فحَسَنٌ، وتُكرَه الشُّهرة في تعظيمها كما تُكرَه في قصِّها وجَزِّها. قال: وقد اختلف السَّلَف: هل لذلك حدٌّ؟ فمنهم من لم يحدِّد شيئًا في ذلك؛ إلّا أنّه لا يَترُكها لحدِّ الشُّهرة، ويأخذ منها، وكَرِه مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة، فيُزال، ومنهم من كَرِه الأخذ منها إلا في حجٍّ أو عُمرة. والمختار ترك اللّحية على حالها، وألّا يتعرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، واللّه أعلم"[8]
"وقد ذكر العلماء في اللّحية خصالاً مكروهة، بعضُها أشدُّ قُبحًا من بعض؛ إحداها: خِضَابُها بالسَّوَاد إلا لغرض الجهاد، الثّانية: خِضَابها بالصُّفْرة تشبيهًا بالصّالحين، لا لاتِّباع السنَّة، الثالثة: تبييضها بالكِبْريت أو غيره؛ استعجالًا للشّيخوخة؛ لأجل الرّياسة والتّعظيم، وإيهام أنّه من المشايخ، الرّابعة: نَتْفُها أو حَلْقُها أوَّلَ طُلوعها؛ إيثارًا للمُرُودة وحُسن الصّورة، الخامسة: نتف الشَّيْب، السّادسة: تصفيفها طاقةً فوقَ طاقة تَصنُّعًا؛ ليَستحسِنَه النّساء وغيرُهنّ، السّابعة: الزّيادة فيها والنّقصُ منها بالزّيادة في شَعر العِذار من الصُّدْغينِ، أو أخذ بعض العِذار في حلق الرّأس، ونتف جانبَيِ العَنْفَقة وغير ذلك، الثّامنة: تسريحها تصنُّعًا لأجل النّاس، التّاسعة: تركها شَعِثةً مُلبَّدةً؛ إظهارًا للزَّهَادة وقِلَّة الْمُبالاة بنفسه، العاشرة: النَّظر إلى سَوادها وبياضها؛ إعجابًا وخُيَلاءَ وغِرَّةً بالشّباب، وفخرًا بالْمَشيب، وتطاولًا على الشباب، الحاديةَ عَشْرةَ: عَقْدُها وضَفْرها، الثانيةَ عشْرةَ: حَلْقُها إلّا إذا نَبَت للمرأة لحيةٌ، فيُستحبُّ لها حَلْقُها، واللّه أعلم"[9]
قوله ﷺ: «وَالسِّوَاكُ»: وهو عود يُقطَع من جذور شجرة الأراك، ويُستخدَم في تنظيف الفم والأسنان، ويطيِّب الفم، ويُزيل الرّوائح الكريهة؛ ولهذا يُشرَع كلَّ وقت، ويتأكَّد عند الوضوء، والصلاة، والانتباه من النوم، وتغيُّر الفم، وصُفرة الأسنان، ونحوها، وقد قال النَّبِيُّ ﷺ: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ، مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ»[10]، وقال ﷺ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي، لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ»[11]، ويُشرَع حتى في الصيام، وَيُذْكَرُ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، قَالَ: «رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ مَا لاَ أُحْصِي أَوْ أَعُدُّ»[12]
قوله ﷺ: «وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ»: وهو إدخال الماء في الأنف، ثمّ نثره مرّةً أخرى؛ ليخرج ما فيه من أذًى وقذر وأوساخ، والاستنشاق يكون في الوضوء، ويكون في غير الوضوء عند الحاجة لتنظيف الأنف.
قوله ﷺ: «وَقَصُّ الْأَظْفَارِ»: وهو قصُّ ما طال من أظفار اليدين والرجلين، وعدم تركها طويلةً؛ فهي مَظِنَّة الأوساخ والضَّرر، "ولا ينبغي أن نقصَّ حتى يصل إلى اللحم؛ لأن هذا يَضُرُّ الإنسان، وربما يَحصُل فيه خُرَّاج أو ما أشبه ذلك؛ لكن نقصُّهما قصًّا معتدِلاً"[13]
"وهو سُنَّة، ليس بواجب، ويُستحبُّ أن يبدأ باليدين قبل الرِّجلين، فيَبدأ بمُسبِّحة يده اليمنى، ثمّ الوسطى، ثمّ البِنصر ثمّ الخِنصر ثمّ الإبهام، ثمّ يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخِنصرها ثمّ ببِنْصرها إلى آخرها، ثمّ يعود إلى الرِّجلين، اليمنى، فيبدأ بخِنصرها، ويختم بخِنصر اليسرى، واللّه أعلم"[14]
قوله ﷺ: «وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ»: "وهو سُنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء، والبَرَاجم: جمعُ (بُرْجُمة)، وهي عُقَدُ الأصابع ومَفاصِلها كلِّها، ويَلحَق بالبراجم ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذُن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنّه ربّما أضرَّت كَثْرَته بالسَّمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوَسَخ المجتمع على أيِّ موضعٍ كان من البَدَن بالعَرَق والغُبار ونحوهما"[15]
قوله ﷺ: «وَنَتْفُ الْإِبِطِ»؛ أي: إزالة ونزع الشّعر النّابت تحت الإبط؛ وذلك أنه في مكان يَكثُر فيه العَرَق، وتجتمع فيه الأوساخ، وتتغيَّر معه الرائحة، والإبِط بكسر الهمزة والباء، وسكونها (الإبْط)، وهو المشهور، وهو يذكَّر ويؤنَّث، ويتأدّى أصل السُّنَّة بإزالته بأيّ وسيلة كانت؛ كالحلق وغيره، ولا سيَّما من يؤلمه النّتف؛ لأن الغرض إزالتها وتنظيف المحلِّ، وقد حصل، "وهو سُنَّة بالاتِّفاق، والأفضلُ فيه النَّتف لمن قَوِيَ عليه، ويُستحبُّ أن يبدأ بالإبط الأيمن"[16]
قوله ﷺ: «وَحَلْقُ الْعَانَةِ»: ويسمَّى استحدادًا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، "والعانة هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ، فمن الفِطرة أن يَحلِق الإنسان هذا الشعر؛ لأنه إذا طال، فربما يتلوَّث بالنجاسة من أسفلَ، أو من القُبل، ويَحصُل في ذلك وَسَخ وقَذر، ولأنه مُضِرٌّ"[17]
"وهو سنَّة، والمراد به نظافة ذلك الموضع، والأفضل فيه الحَلْق، ويجوز بالقصِّ والنَّتف وغير ذلك، والمراد بالعانة الشَّعر الّذي فوق ذَكَر الرَّجُل وحَوَالَيْه، وكذاك الشَّعر الّذي حَوَالَيْ فرجِ المرأة، ونُقل عن أبي العبَّاس بنِ سُرَيْجٍ أنّه الشَّعر النّابت حول حَلْقة الدُّبُر، فيَحصُل من مجموع هذا استحباب حَلْق جميع ما على القُبُل والدُّبُر وحولَهما"[18]
قوله ﷺ: «وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ»: وهو التّطهّر بالماء بعد قضاء الحاجة، كما فسَّره وكيع في آخر الحديث بأنّه الاستنجاء، أو هو رشُّ الماء على الفرج بعد الوضوء لينفيَ عنه الوسواس[19]
قَالَ مُصْعَبٌ: (وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ)، والمضمضة هي إدارة الماء في الفم ثمّ مجُّه وإخراجه منها، فيغسل الفم بالماء كلَّما استلزم الأمر ذلك، وخاصّةً بعد الطّعام وأكل ما له رائحة.
"وأمّا قوله: (ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة)، فهذا شكٌّ منه فيها، قال القاضي عياض: ولعلَّها الختان المذكور مع الخمس، وهو أَوْلى"[20]؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ ﷺ قال: «الفِطْرَةُ خَمْسٌ، أَوْ خَمْسٌ مِنَ الفِطْرَةِ: الخِتَانُ، وَالِاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإِبْطِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ»[21]
قوله ﷺ: «الختان»: الذي يسمَّى عند الناس (الطهارة)، وهو للرجال والنساء، أما الرجال فختانهم واجب، بأن يُقطَع جميع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة حتّى ينكشف جميع الحَشَفة، وأما النساء فختانهن سنَّة وليس بواجب، بقطع أدنى جزء من الجلدة الّتي في أعلى الفَرْج؛ وذلك أن الرجل إذا لم يُختَن وبَقِيت الجِلدة التي فوق الحشفة، فإنه يحتقن بها البَول، وتكون سببًا في النجاسة؛ لأنه إذا احتقن بها البول ثم حصل ضغط عليها، خرج البول الذي صار بينها وبين الحشفة، فتلوَّثت الثياب وتنجَّست، ثم هي أيضًا عند الكِبر وعندما يصل الإنسان إلى حدِّ الزواج يكون هناك مشقَّة شديدة عند الجِماع؛ فلذلك كان من الفِطرة أن تُقَصَّ هذه الجِلدة؛ ولهذا كان كثير من الكفار الآن يختتنون؛ لا لأجل الطهارة والنظافة لأنهم نَجَس؛ لكنهم يختتنون من أجل التلذُّذ عند الجماع، وعدم المشقَّة، هذه واحدة.
ومتى يكون الختان؟ يكون الختان من اليوم السابع فما بعدَه، وكلَّما كان في الصِّغَر، فهو أفضلُ؛ لأن ختان الصغير لا يكون فيه إلا الألم الجسميُّ دون الألم القلبيِّ، أما الكبير لو ختنَّا من له عشْر سنوات مثلاً، فإنه يكون فيه ألم قلبيٌّ وجسميٌّ، ثم إن نموَّ اللحم ونبات اللحم وسرعة البُرء في الصغار أكثرُ؛ لهذا قال العلماء: إن الختان في زمن الصِّغر أفضل، وهو كذلك[22]
وأمّا وقت الحلق والقص للشعر والأظفار في (حلق العانة، وقصِّ الشّارب، ونَتْف الإبِط، وتقليم الأظفار)، فالمختار أنّه يُضبَط بالحاجة وطُولِه، فإذا طال، حُلِق، وأمّا حديث أنس بن مالك قال: «وُقِّتَ لَنَا فِي قَصِّ الشَّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الْإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لَا نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً»[23]، "فمعناه: لا يُترَك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنّهم وُقِّت لهم التّرك أربعين، واللّه أعلم"[24]
المراجع
- رواه مسلم (223).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 56).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 228).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
- رواه البخاريُّ (27).
- رواه البخاريُّ (27).
- رواه البخاريُّ (27).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- رواه البخاريُّ (5889)، ومسلم (257).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
- رواه مسلم (258).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).
النقول
قال النوويُّ رحمه الله: "وليست منحصرةً في العشْر، وقد أشار ﷺ إلى عدم انحصارها فيها بقوله: «من الفطرة» واللّه أعلم، وأمّا الفِطرةُ، فقد اختُلف في المراد بها هنا، فقال أبو
سليمانَ الخطّابيُّ: ذَهَب أكثر العلماء إلى أنّها السُّنَّة، وكذا ذكره جماعة غير الخطّابيِّ، قالوا: ومعناه أنّها من سُنن الأنبياء - صلوات اللّه وسلامه عليهم – وقيل: هي الدِّين، ثمّ إنّ معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلافٌ في وجوبه؛ كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يَمتنِع قَرْنُ الواجب بغيره؛
كُلُواْ مِن ثَمَرِهِۦٓ إِذَآ أَثۡمَرَ وَءَاتُواْ حَقَّهُۥ يَوۡمَ حَصَادِهِۦۖ
والإيتاءُ واجبٌ، والأكل ليس بواجب، واللّه أعلم. أمّا تفصيلُها، فالختان واجب عند الشّافعيِّ وكثيرٍ من العلماء، وسُنَّة عند مالك وأكثرِ العلماء، وهو عند الشّافعيِّ واجب على الرّجال والنّساء جميعًا، ثمّ إنّ الواجب في الرَّجُل أن يُقطَع جميع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة حتّى ينكشف جميع الحَشَفة، وفي المرأة يَجِب قطع أدنى جزء من الجلدة الّتي في أعلى الفَرْج، والصّحيحُ من مذهبنا الّذي عليه جمهور أصحابنا أنّ الختان جائز في حال الصِّغَر، ليس بواجب، ولنا وجه أنّه يجب على الوليِّ أن يَختِن الصَّغير قبل بلوغه، ووجهٌ أنّه يَحرُم ختانه قبل عشْر سنينَ، وإذا قلنا بالصّحيح استُحبَّ أن يُختَن في اليوم السّابع من ولادته، وهل يُحسَب يومُ الولادة من السّبع أم تكون سبعةً سواه؟ فيه وجهان، أظهرُهما يُحسَب، واختَلَف أصحابنا في الخُنثى المشكِل، فقيل: يجب ختانه في فرجَيْه بعد البلوغ، وقيل: لا يجوز حتّى يتبيَّن، وهو الأظهر، وأمّا من له ذَكَران، فإن كانا عاملينِ، وَجَب ختانهما، وإن كان أحدُهما عاملًا دون الآخَر، خُتِن العامل، وفيما يُعتبَر العمل به وجهان، أحدُهما بالبَول، والآخَر بالجِماع، ولو مات إنسان غير مختون، ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا، الصّحيح المشهور أنّه لا يُختَن صغيرًا كان أو كبيرًا، والثّاني يُختَن الكبير دون الصّغير، واللّه أعلم"[1]
قال ابن حجر رحمه الله: "ويتعلَّق بهذه الخِصال مصالحُ دينيَّة ودنيويّة تُدرَك بالتّتبُّع، منها تحسينُ الهيئة، وتنظيف البَدَن جُملةً وتفصيلًا، والاحتياط للطّهارتين والإحسان إلى المخالَط والمقارَن بكفِّ ما يتأذَّى به من رائحة كريهة، ومخالفة شعار الكفّار من المجوس واليهود والنّصارى وعبَّاد الأوثان، وامتثال أمر الشّارع، والمحافظة على ما أشار إليه
وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ
لِما في المحافظة على هذه الخصال من مناسبة ذلك، وكأنّه قيل: قد حسَّنتُ صوركم فلا تشوِّهوها بما يقبِّحها، أو حافظوا على ما يستمرُّ به حُسْنُها، وفي المحافظة عليها محافظة على المروءة، وعلى التّآلف المطلوب؛ لأنّ الإنسان إذا بدا في الهيئة الجميلة، كان أدعى لانبساط النّفس إليه، فيُقبَل قوله، ويُحمَد رأيُه، والعكسُ بالعكس"[2]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والفِطْرة يعني التي فَطَر الخَلق على استحسانها، وأنها من الخير، والمراد بذلك الفِطَر السليمة؛ لأن الفِطَر المنحرِفة لا عبرة بها؛ لقول النبيِّ ﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه»"[3]
قال ابن حجر رحمه الله: "وأمّا شرح الفِطرة، فقال الخطّابيُّ: ذَهَب أكثر العلماء إلى أنّ المراد بالفِطرة هنا السُّنَّة، وكذا قاله غيره، قالوا: والمعنى أنّها من سُنن الأنبياء، وقالت طائفة: المعنيُّ بالفِطرة الدِّين، وبه جَزَم أبو نُعيم في المستخرج، وقال النّوويُّ في "شرح المهذّب": جزم الماورديُّ والشّيخ أبو إسحاق بأنّ المراد بالفِطرة في هذا الحديث الدِّين، واستشكل ابن الصّلاح ما ذكره الخطّابيُّ، وقال: معنى الفطرة بعيد من معنى السُّنّة؛ لكن لعلَّ المراد أنّه على حذف مضاف؛ أي: سُنَّة الفِطرة، وتعقَّبه النّوويُّ بأنّ الّذي نقله الخطّابيُّ هو الصّواب؛ فإن في صحيح البخاريِّ عن ابن عمر عن النّبيِّ ﷺ قال: «من السُّنَّة قصُّ الشّارب، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار»، قال: وأصحُّ ما فسّر الحديث بما جاء في رواية أخرى، لا سيَّما في البخاريِّ"[4]
قال ابن حجر رحمه الله: "دلالة (من) على التّبعيض فيه أظهرُ من دلالة هذه الرّواية على الحَصْر، وقد ثبت في أحاديثَ أخرى زيادةٌ على ذلك، فدلَّ على أن الحصر فيها غير مُراد، واختُلف في النُّكتة في الإتيان بهذه الصّيغة، فقيل برفع الدَّلالة، وأنّ مفهوم العدد ليس بحُجَّة، وقيل: بل كان أُعلِم أوّلًا بالخمس، ثمّ أُعلِم بالزّيادة، وقيل: بل الاختلاف في ذلك بحسَبِ المقام، فذَكَر في كلِّ موضع اللّائقَ بالمخاطَبين... وذَكَر ابن العربيِّ أنّ خصال الفِطرة تبلغ ثلاثين خَصْلةً، فإذا أراد خصوص ما ورد بلفظ الفِطرة، فليس كذلك، وإن أراد أعمَّ من ذلك، فلا تنحصر في الثّلاثين؛ بل تزيد كثيرًا، وأقلُّ ما ورد في خصال الفطرة حديث ابن عمر، فإنّه لم يذكر فيه إلّا ثلاثًا"[5]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا الاستحدادُ، فهو حَلْقُ العانة، سُمِّي استحدادًا لاستعمال الحديدة، وهي الموسى، وهو سنَّة، والمراد به نظافة ذلك الموضع، والأفضل فيه الحَلْق، ويجوز بالقصِّ والنَّتف والنُّورة، والمراد بالعانة الشَّعر الّذي فوق ذَكَر الرَّجُل وحَوَالَيْه، وكذاك الشَّعر الّذي حَوَالَيْ فرجِ المرأة، ونُقل عن أبي العبَّاس بنِ سُرَيْجٍ أنّه الشَّعر النّابت حول حَلْقة الدُّبُر، فيَحصُل من مجموع هذا استحباب حَلْق جميع ما على القُبُل والدُّبُر وحولَهما، وأمّا وقت حَلْقه فالمختار أنّه يُضبَط بالحاجة وطُولِه، فإذا طال، حُلِق، وكذلك الضَّبْط في قصِّ الشّارب، ونَتْف الإبِط، وتقليم الأظفار، وأمّا حديث أنس المذكور في الكتاب «وُقِّت لنا في قصِّ الشّارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، وحلق العانة، ألَّا يُترَك أكثرَ من أربعين ليلةً»، فمعناه: لا يُترَك تركًا يتجاوز به أربعين، لا أنّهم وُقِّت لهم التّرك أربعين، واللّه أعلم"[6]
قال ابن حجر رحمه الله: "والاستحداد: استعمال الموسى في حلق الشّعر من مكان مخصوص من الجسد... فتحصّل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القُبل والدُّبر وحولهما"[7]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الاستحداد يعني حلق العانة، والعانة هي الشَّعر الخَشِن الذي يَنبُت حول القُبل، وهو من علامات البلوغ، فمن الفِطرة أن يَحلِق الإنسان هذا الشعر؛ لأنه إذا طال، فربما يتلوَّث بالنجاسة من أسفلَ، أو من القُبل، ويَحصُل في ذلك وَسَخ وقَذر، ولأنه مُضِرٌّ، وإن كان بعض الناس مثل البهائم يُبقي العانة، ويجعلها تزداد وتطول، نسأل الله السلامة"[8]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا تقليم الأظفار، فسُنَّة، ليس بواجب، وهو (تَفْعِيلٌ) من القَلْم، وهو القَطْع، ويُستحبُّ أن يبدأ باليدين قبل الرِّجلين، فيَبدأ بمُسبِّحة يده اليمنى، ثمّ الوسطى، ثمّ البِنصر ثمّ الخِنصر ثمّ الإبهام، ثمّ يعود إلى اليسرى، فيبدأ بخِنصرها ثمّ ببِنْصرها إلى آخرها، ثمّ يعود إلى الرِّجلين اليمنى، فيبدأ بخِنصرها، ويختم بخِنصر اليسرى، واللّه أعلم"[9]
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «وتقليم الأظفار»، وهو تفعيل من القَلْم، وهو القطع، ووقع في حديث ابن عمر: «قصّ الأظفار»، كما في حديث الباب، ووقع في حديثه في الباب الّذي يليه بلفظ (تقليم)، وفي حديث عائشة وأنس «قصّ الأظفار»، والتّقليم أعمُّ، والأظفار جمع ظُفْر بضمِّ الظّاء والفاء وبسكونها"[10]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قصُّ الأظفار يعني تقليمها، والمراد بذلك أظفار اليدين والرجلين، ولا ينبغي أن نقصَّ حتى يصل إلى اللحم؛ لأن هذا يَضُرُّ الإنسان، وربما يَحصُل فيه خُرَّاج أو ما أشبه ذلك؛ لكن نقصُّهما قصًّا معتدِلاً"[11]
قال النوويُّ رحمه الله: "أمّا نتف الإبط، فسُنَّة بالاتِّفاق، والأفضلُ فيه النَّتف لمن قَوِيَ عليه، ويَحصُل أيضًا بالحَلْق وبالنُّورة، وحُكِي عن يونسَ بنِ عبد الأعلى قال: دخلتُ على الشّافعيِّ وعنده الْمُزيِّن يَحلِق إبطه، فقال الشّافعيُّ: علمتُ أنّ السُّنَّة النَّتف؛ ولكن لا أقوى على الوجع. ويُستحبُّ أن يبدأ بالإبط الأيمن"[12]
قال ابن حجر رحمه الله: "والإبط بكسر الهمزة والموحَّدة وسكونها، وهو المشهور، وصوَّبه الجواليقيُّ، وهو يذكَّر ويؤنَّث، وتأبَّط الشّيء: وضعه تحت إبطه، والمستحبُّ البَداءة فيه باليمنى، ويتأدّى أصل السّنَّة بالحلق، ولا سيَّما من يؤلمه النّتف"[13]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "نتف الإبط إذا كان فيه شَعر، فإنها تُنتَف ولا تُقصُّ ولا تُحلَق؛ بل نتفُها أَوْلى؛ لأن النتف يُزيلها بالكلية، ويُضعف أصولها حتى لا تَنبُت فيما بعدُ، وهذا أمر مطلوب شرعًا"[14]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قصُّ الشّارب، فسُنَّة أيضًا، ويُستحبُّ أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخيَّر بين القصِّ بنفسه، وبين أن يُوَلِّيَ ذلك غيره؛ لحصول المقصود من غير هَتْك مروءة ولا حُرمة، بخلاف الإبط والعانة، وأمّا حدُّ ما يَقُصُّه، فالمختار أنّه يَقُصُّ حتّى يبدوَ طَرَف الشَّفَة ولا يَحِفُّه من أصله، وأمّا روايات «أَحْفُوا الشَّوَارِبَ»، فمعناها: أَحْفُوا ما طال على الشَّفَتين، واللّه أعلم"[15]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قص الشارب: وهو الشعر النابت فوق الشَّفة العليا، وحدُّه: كلُّ ما طال على الشَّفة العليا فهو شارب، فهذا يُحَفُّ؛ لأن بقاءه يكون فيه تلويث بما يخرج من الأنف من الأذى، ثم عند الشُّرب أيضًا يباشر الشَّعر المتلوِّث الماء، فيقذِّره، وربما يَحمِل ميكروباتٍ مُضرَّةً، وعلى كلِّ حال، فهو من السنَّة، أهمُّ شيء أنه من السنَّة، والتقرُّب إلى الله عزَّ وجلَّ إذا حفَفْتَه"[16]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا إعفاء اللِّحْية، فمعناه: توفيرُها، وهو معنى «أَوْفُوا اللِّحَى» في الرّواية الأخرى، وكان من عادة الفُرْس قصُّ اللِّحية، فنهى الشّرع عن ذلك، وقد ذكر العلماء في اللّحية عَشْرَ خصال مكروهة، بعضُها أشدُّ قُبحًا من بعض: إحداها: خِضَابُها بالسَّوَاد إلا لغرض الجهاد، الثّانية: خِضَابها بالصُّفْرة تشبيهًا بالصّالحين، لا لاتِّباع السنَّة، الثالثة: تبييضها بالكِبْريت أو غيره؛ استعجالًا للشّيخوخة؛ لأجل الرّياسة والتّعظيم، وإيهام أنّه من المشايخ، الرّابعة: نَتْفُها أو حَلْقُها أوَّلَ طُلوعها؛ إيثارًا للمُرُودة وحُسن الصّورة، الخامسة: نتف الشَّيْب، السّادسة: تصفيفها طاقةً فوقَ طاقة تَصنُّعًا؛ ليَستحسِنَه النّساء وغيرُهنّ، السّابعة: الزّيادة فيها والنّقصُ منها بالزّيادة في شَعر العِذار من الصُّدْغينِ، أو أخذ بعض العِذار في حلق الرّأس، ونتف جانبَيِ العَنْفَقة وغير ذلك، الثّامنة: تسريحها تصنُّعًا لأجل النّاس، التّاسعة: تركها شَعِثةً مُلبَّدةً؛ إظهارًا للزَّهَادة وقِلَّة الْمُبالاة بنفسه، العاشرة: النَّظر إلى سَوادها وبياضها؛ إعجابًا وخُيَلاءَ وغِرَّةً بالشّباب، وفخرًا بالْمَشيب، وتطاولًا على الشباب، الحاديةَ عَشْرةَ: عَقْدُها وضَفْرها، الثانيةَ عشْرةَ: حَلْقُها إلّا إذا نَبَت للمرأة لحيةٌ، فيُستحبُّ لها حَلْقُها، واللّه أعلم"[17]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا غَسْل البَرَاجم فسُنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء، والبَرَاجم بفتح الباء وبالجيم: جمعُ (بُرْجُمة) بضمّ ِالباء والجيم، وهي عُقَدُ الأصابع ومَفاصِلها كلِّها، قال العلماء: ويَلحَق بالبراجم ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذُن، وهو الصِّمَاخ، فيُزيله بالمسح؛ لأنّه ربّما أضرَّت كَثْرَته بالسَّمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوَسَخ المجتمع على أيِّ موضعٍ كان من البَدَن بالعَرَق والغُبار ونحوهما، واللّه أعلم"[18]
قال ابن حجر رحمه الله: "وأمّا غَسْلُ البراجم فهو بالموحَّدة والجيم، جمع بُرْجُمة بضمَّتين، وهي عُقَد الأصابع الّتي في ظهر الكفِّ. قال الخطّابيُّ: هي المواضع الّتي تتّسخ ويجتمع فيها الوَسَخ، ولا سيَّما ممّن لا يكون طريَّ البَدَن، وقال الغزاليُّ: كانت العرب لا تغسل اليد عَقِب الطّعام فيجتمع في تلك الغُضُون وَسَخ، فأمَر بغَسلها، قال النّوويُّ: وهي سنَّة مستقلَّة ليست مختصَّةً بالوضوء يعني أنّها يُحتاج إلى غَسلها في الوضوء والغُسل والتّنظيف، وقد أَلحَق بها إزالة ما يجتمع من الوَسَخ في معاطف الأُذن وقَعر الصِّمَاخ، فإنّ في بقائه إضرارًا بالسّمع، وقد أخرج ابن عَدِيٍّ من حديث أنس أنّ النّبيَّ ﷺ أمر بتعاهد البراجم عند الوضوء؛ لأنّ الوَسَخ إليها سريع... قال أبو عُبيد: البراجم والرواجب مفاصل الأصابع كلِّها، وقال ابن سِيده: البُرْجُمة الْمِفصَل الباطن عند بعضهم، والرَّواجب بواطن مفاصل أصول الأصابع، وقيل: قَصَب الأصابع... وأمّا الانتضاح فقال أبو عُبيد الهرويُّ: هو أن يأخذ قليلًا من الماء فيَنضَح به مَذاكيره بعد الوضوء ليَنفيَ عنه الوَسواس، وقال الخطّابيُّ: انتضاح الماء الاستنجاء به، وأصله من النَّضح وهو الماء القليل، فعلى هذا هو والاستنجاء خَصْلة واحدة، وعلى الأوّل فهو غيره"[19]
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (الختان) بكسر المعجمة وتخفيف المثنَّاة، مصدر خَتَن؛ أي: قَطَع، وللخَتْن بفتح ثمّ سكون: قطعُ بعضٍ مخصوص من عضوٍ مخصوص، ووقع في رواية يونس عند مسلم (الاختتان)، والختان اسمٌ لفعل الخاتن، ولموضع الختان أيضًا؛ كما في حديث عائشةَ: «إذا التقى الختانان»، والأوّل المراد هنا. قال الماورديُّ: ختان الذَّكَر قطع الجِلدة الّتي تغطِّي الحَشَفة، والمستحبُّ أن تُستوعَب من أصلها عند أوَّل الحَشَفة، وأقلُّ ما يُجزئ أن لا يبقى منها ما يتغشَّى به شيء من الحَشَفة... والمستحقُّ من ختان المرأة ما ينطلق عليه الاسم، قال الماورديُّ: ختانها قطع جِلدة تكون في أعلى فرجها فوقَ مدخل الذَّكَر؛ كالنَّوَاة أو كعُرف الدِّيك، والواجب قطع الجلدة المستعْلِيَة منه دون استئصاله"[20]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الختان: الذي يسمَّى عند الناس (الطهارة)، وهو للرجال والنساء، أما الرجال فختانهم واجب، وأما النساء فختانهن سنَّة وليس بواجب؛ وذلك أن الرجل إذا لم يُختَن وبَقِيت الجِلدة التي فوق الحشفة، فإنه يحتقن بها البَول، وتكون سببًا في النجاسة؛ لأنه إذا احتقن بها البول ثم حصل ضغط عليها، خرج البول الذي صار بينها وبين الحشفة، فتلوَّثت الثياب وتنجَّست، ثم هي أيضًا عند الكِبر وعندما يصل الإنسان إلى حدِّ الزواج يكون هناك مشقَّة شديدة عند الجِماع؛ فلذلك كان من الفِطرة أن تُقَصَّ هذه الجِلدة؛ ولهذا كان كثير من الكفار الآن يختتنون؛ لا لأجل الطهارة والنظافة لأنهم نَجَس؛ لكنهم يختتنون من أجل التلذُّذ عند الجماع، وعدم المشقَّة، هذه واحدة.
ومتى يكون الختان؟ يكون الختان من اليوم السابع فما بعدَه، وكلَّما كان في الصِّغَر، فهو أفضلُ؛ لأن ختان الصغير لا يكون فيه إلا الألم الجسميُّ دون الألم القلبيِّ، أما الكبير لو ختنَّا من له عشْر سنوات مثلاً، فإنه يكون فيه ألم قلبيٌّ وجسميٌّ، ثم إن نموَّ اللحم ونبات اللحم وسرعة البُرء في الصغار أكثرُ؛ لهذا قال العلماء: إن الختان في زمن الصِّغر أفضل، وهو كذلك"[21]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا انتقاصُ الماء، فهو بالقاف والصّاد المهمَلة، وقد فسَّره وكيع في الكتاب بأنّه الاستنجاء، وقال أبو عُبيدة: معناه: انتقاص البَول بسبب استعمال الماء في غَسْل مَذَاكيره، وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في روايةٍ (الانتضاح)، بدل (انتقاص الماء)، قال الجمهور: الانتضاح نَضْح الفرج بماء قليل بعد الوضوء ليَنفيَ عنه الوَسْواس. وقيل: هو الاستنجاء بالماء، وذكر ابن الأثير أنه رُوِي (انتفاص الماء) بالفاء والصّاد المهمَلة، وقال في فصل الفاء، قيل: الصّواب أنّه بالفاء، قال: والمراد نَضْحُه على الذَّكَر، من قولهم لنَضْح الدّمِ القليل: نَفْصُه، وجمعُها: نُفَص، وهذا الّذي نقله شاذٌّ، والصّواب ما سبق، واللّه أعلم"[22]
قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قوله: (ونسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة)، فهذا شكٌّ منه فيها، قال القاضي عياض: ولعلَّها الختان المذكور مع الخمس، وهو أَوْلى، واللّه أعلم، فهذا مختصَر ما يتعلَّق بالفِطرة، وقد أَشبَعت القول فيها بدلائلها وفروعها في شرح المهذَّب، واللّه أعلم"[23]
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «أَحْفُوا الشّواربَ وأَعْفُوا اللِّحَى»، وفي الرّواية الأخرى: «وأوفوا اللّحى»، هو بقطع الهمزة في (أَحْفُوا وأَعْفُوا وأَوْفُوا)، وقال ابن دُرَيد: يُقال أيضًا: حَفا الرَّجُل شاربَه يَحْفُوه حَفْوًا إذا استأصل أَخَذَ شَعْرَه، فعلى هذا تكون همزة (أَحْفوا) همزةَ وصل، وقال غيره: عَفَوْتُ الشَّعْر وعَفَيْتُه، لغتان، وقد تقدَّم بيان معنى إحفاء الشّوارب وإعفاء اللِّحى، وأمّا أَوْفوا، فهو بمعنى أعفوا؛ أي: اتركوها وافيةً كاملةً لا تَقُصُّوها. قال ابن السِّكِّيت وغيره: يُقال في جمع اللِّحْية: لِحًى ولُحًى بكسر اللّام وبضمِّها، لغتان، الكسرُ أفصحُ. وأمّا قوله ﷺ: «وأَرْخُوا»، فهو أيضًا بقطع الهمزة، وبالخاء المعجَمة، ومعناه: اتركوها ولا تتعرَّضوا لها بتغيير، وذكر القاضي عياض أنّه وقع في رواية الأكثرين كما ذكرنا، وأنه وقع عند ابن مَاهانَ: «أَرْجُوا» بالجيم. قيل: هو بمعنى الأوّل، وأصلُه (أَرْجِئوا) بالهمزة، فحُذِفت الهمزة تخفيفًا، ومعناه: أخِّروها اتركوها، وجاء في رواية البخاريِّ: «وَفِّروا اللِّحى»، فحصل خمسُ روايات: (أعفوا، وأوفوا، وأرخوا، وأرجوا، ووفِّروا)، ومعناها كلِّها تَرْكُها على حالها، هذا هو الظّاهر من الحديث الّذي تقتضيه ألفاظه، وهو الّذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء، وقال القاضي عياض - رحمه اللّه تعالى -: يُكرَه حَلْقُها وقصُّها وتحريقها، وأمّا الأخذ من طولها وعَرْضِها فحَسَنٌ، وتُكرَه الشُّهرة في تعظيمها كما تُكرَه في قصِّها وجَزِّها. قال: وقد اختلف السَّلَف: هل لذلك حدٌّ؟ فمنهم من لم يحدِّد شيئًا في ذلك؛ إلّا أنّه لا يَترُكها لحدِّ الشُّهرة، ويأخذ منها، وكَرِه مالك طولها جدًّا، ومنهم من حدَّد بما زاد على القبضة، فيُزال، ومنهم من كَرِه الأخذ منها إلا في حجٍّ أو عُمرة. قال: وأمّا الشّارب فذهب كثير من السَّلَف إلى استئصاله وحَلْقه بظاهر قوله ﷺ: أَحْفوا وانْهَكوا، وهو قول الكوفيِّين، وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال، وقاله مالك، وكان يرى حَلْقَه مُثْلَةً، ويَأمُر بأَدَب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أنّ الإحفاء والجزَّ والقصَّ بمعنًى واحد، وهو الأخذ منه حتّى يبدوَ طرَف الشَّفَة، وذهب بعض العلماء إلى التّخيير بين الأمرين. هذا آخر كلام القاضي، والمختار ترك اللّحية على حالها، وألّا يتعرَّض لها بتقصير شيء أصلًا، والمختار في الشّارب ترك الاستئصال، والاقتصار على ما يبدو به طرف الشَّفة، واللّه أعلم"[24]
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 147، 148).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 228).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 339).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 337).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 148، 149).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 343).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229، 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 344).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 230).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 149، 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 338).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 340).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (5/ 229).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 150، 151).