المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي اللَّه عنه - عمَّا حصل في ليلة العقبة من مبايعة النُّقباء للنبيِّ ﷺ، وكان هو أحدَ النُّقباء الاثْنَيْ عَشَرَ الّذين تقدَّموا لأخذ البيعة لنُصرة رسول الله ﷺ في تلك الليلة، حين كان الرّسول ﷺ بمكَّةَ قبل هجرته إلى المدينة، قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ»: بايَعهم النبيُّ ﷺ وعاهَدهم وعاقَدهم على أن يكونوا على التّوحيد الخالص من الشِّرك، مقابل أن تكون لهم الجنَّة، وعلى ألّا يسرقوا ولا يزنوا؛ فالإسلام يحمي أعراض النّاس وأنسابهم وأموالهم، وبايَعهم على ألّا يقتلوا أولادهم، وكانوا – غالبًا - يقتلونهم بسبب الفقر أو خشيته، أو وَأْدًا للبنات. «وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ»: وبايعهم على ألّا يختلقوا الأكاذيب. «وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ»: وبايَعَهم على ألّا يعصوا أمرَه ﷺ في طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس. «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»؛ أي: فمن ثبت على ما بايَع عليه، فله الأجرُ من الله، وجزاؤه الجنَّةُ. «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ»: ومن ارتكب معصيةً من المعاصي الّتي تستوجب الحدَّ الشّرعيَّ؛ كالسَّرقة والزِّنا، فأُقِيم عليه الحدُّ في الدُّنيا، فإنّ ذلك محوٌ للذنب، وتطهير للنفس من إثمه، ويُسقط عنه عقوبتها في الآخرة. «وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»: ومن سَتَره الله في الدّنيا، ولم يعاقَب على تلك المعصية، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غَفَر له هذه المعصية بفضله، فأدخله الجنّة دون عقاب، وإن شاء، عاقَبَه بالعذاب على جنايته في النار، ثم أخرجه منها، وأدخله الجنَّة.

الشرح المفصَّل للحديث:

لقد كانت رسالة النبيِّ ﷺ منذ أن أُرسِل هي الدعوةَ إلى توحيد الله تعالى، ونبذ الشرك به، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، ونبذ مساوئها، وقد لاقى العَنَت والْمُحادَّة من كفَّار قُريش، حتى وصلوا إلى فجورهم بتعذيب المؤمنين، وإيذاء النبيِّ ﷺ، ثم أخذ النبيُّ ﷺ في توسيع نطاق الدعوة، فأخذ يُرسل الصحابة لدعوة القبائل والناس خارجَ مكَّةَ، وممَّن آمن به أهلُ يَثْرَبَ (المدينة المنوَّرة)، الذين أَتَوا فرِحين بإيمانهم مستبشرين لمبايعة النبيِّ ﷺ.  
وفي هذا الحديث كان عبادةُ بنُ الصّامت - رضي الله عنه - أحدَ النُّقباء الّذين تقدَّموا لأخذ البيعة لنُصرة رسول الله ﷺ ليلةَ العقبة، حين كان الرّسول ﷺ بمكَّةَ قبل هجرته إلى المدينة، وكانوا اثْنَيْ عَشَرَ رجلًا.
والنُّقَباء: جمع (نقيب)، وهو عرِّيف القَوم وناظرُهم، والْمُراد الذين اختارهم الأَوْسُ والخَزْرَج نُقَباءَ عليهم بطلب من النبيِّ ﷺ وأقرَّهم على ذلك ليلةَ العقبة، وهي الليلة التي بايع فيها ﷺ الذين آمنوا من الأَوْسِ والخزرج على النُّصرة، وهي بيعة العقبة الثانية، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمِنى.

يروي عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي اللَّه عنه - عمَّا حصل في ليلة العقبة من مبايعة النُّقباء للنبيِّ ﷺ في تلك الليلة قَالَ:

بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي رَهْطٍ، فَقَالَ: «أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ»

المبايعة: هي المعاقَدةُ والمعاهَدة، فبايَعهم النبيُّ ﷺ وعاقدهم على أن يكونوا على التّوحيد الخالص من الشِّرك، وأن يُفْرِدوا الله تعالى بالعبادة، ولا يُشرِكوا به شيئًا، مقابل أن تكون لهم الجنَّة، وبايعهم على ألّا يسرقوا؛ فالإسلام قد جاء بحماية الأموال، ولا يزنوا؛ فالإسلام يحمي أعراض النّاس وأنسابهم، وبايَعهم على ألّا يقتلوا أولادهم، وإنّما خَصَّ الأولادَ لأنّه قتلٌ وقطيعة رحم، وكانوا – غالبًا – يقتلون أولادهم بسبب الفقر أو خشيته، أو وَأْدًا للبنات.

"قوله: «لا تشركوا باللّه شيئًا»؛ أي: وحِّدوه سبحانه وتعالى، وهذا هو أصلُ الإيمان، وأساس الإسلام؛ فلذلك قدَّمه على إخوته. قوله: «شيئًا»: عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق النّهي؛ لأنّه كالنفيِ"[1].
والشِّرْكُ بِاللَّهِ هو اتِّخَاذ إلَهٍ غير الله، وهو أعظم الكبائر على الإطلاق؛ فإن الشرك لظُلمٌ عظيم

قال الله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}

[لقمان: 13]

وإن أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به

عن عَبْدِاللهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ:

أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: «أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: إِنَّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ... [2]

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:

«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلاَتِ»[3]. 

وقد نفى الله تعالى الإيمانَ عن السارق والزاني وشارب الخمر

قال ﷺ:

«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[4].

"والمراد بِنَفْيِ الإيمان نَفْيُ بُلُوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنْفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته"[5].

قوله ﷺ:

«وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ»

وبايعهم على ألّا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، والافتراء هو الاختلاق والكذب، ونسب الافتراء إلى اليد والرّجل بسبب أنّ معظم الأفعال تقع بهما، وإن شاركهما سائرُ الأعضاء.

"قوله: «ببهتان»: البُهتان بالضّمِّ: الكَذِب الّذي يَبهَتُ سامعَه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته، يقال: بَهَته بُهتانًا إذا كَذَب عليه بما يَبهَته من شدَّة نُكره، وقال الهرويُّ:

{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}

[الممتحنة: 12]

أي: لا يأتين بولد عن معارضته فتَنسُبه إلى الزّوج، كان ذلك بهتانًا وفِرْية، ويُقال: كانت المرأة تلتقط الولد فتتبنَّاه. وقال الخطابيُّ: معناه ههنا قَذْفُ المحصَنات، وهو من الكبائر، ويَدخُل فيه الاغتياب لهنّ، ورَمْيهن بالمعصية. وقال أيضًا: لا تبهتوا النّاس بالمعايب كِفاحًا ومواجهة، وهذا كما يقول الرجل: فعلتُ هذا بين يديك؛ أي: بحضرتك. قوله: «تفترونه» من الافتراء، وهو الاختلاق، والفِرْية: الكذب. يقال: فَرى فلان كذا، إذا اختَلَقه، وافتراه: اختلقه، والاسم: الفِرْية، وفلان يَفْري الفِرى، إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله

قال تعالى:

{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}

[مريم: 27]

أي: مصنوعًا مختلَقًا، ويقال: عظيمًا"[6].

قوله: «وَلاَ تَعْصُونِي فِي مَعْرُوفٍ»: وبايَعَهم على ألّا يعصوا أمرَه ﷺ في معروف، والعصيان خلاف الطّاعة، والمعروف: اسم جامع لكلّ ما عُرف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس.
"والعِصْيان خلافُ الطّاعة، قوله: «في معروف»؛ أي: حُسن، وهو ما لم يَنْهَ الشّارع فيه، أو معناه مشهور؛ أي: ما عُرِف فِعْله من الشّارع واشتَهَر منه، ويقال: في معروف؛ أي: في طاعة الله تعالى، ويُقال: في كلِّ برٍّ وتقوى. وقال البيضاويُّ: المعروف ما عُرِف من الشّارع حُسْنه، وقال الزّجَّاج: أي: المأمور به، وفي "النّهاية": هو اسمٌ جامع لكلِّ ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس، وكلِّ ما نَدَب إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات"[7].

قوله: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»؛ أي: فمن ثبت على ما بايَع عليه، فله الأجرُ من الله، وجزاؤه الجنَّةُ. «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا، فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَطَهُورٌ»؛ أي: ومن ارتكب معصيةً من المعاصي الّتي تستوجب الحدَّ الشّرعيَّ؛ كالسَّرقة والزِّنا، فأُقِيم عليه الحدُّ في الدُّنيا، فإنّ ذلك محوٌ للذنب، وتطهير للنفس من إثمه، ويُسقط عنه عقوبتها في الآخرة.
فـ"إذا تاب السارقُ بعدَ ما قُطِعَ يَدُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ محدود كذلك إذا تاب، قُبِلت شهادتُه"[8].

"قوله: «فعوقِب به في الدّنيا» يريد به القَطع في السَّرِقة، والحدَّ في الزّنا، وأما قتلُ الولد، فليس له عقوبة معلومة، إلا أن يُريد قتل النّفس، فكنَّى بالأولاد عنه، وعلى هذا؛ إذا قُتل القاتل، كان كفَّارةً له، وحُكي عن القاضي إسماعيل وغيره: أن قتل القاتل حدٌّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة، فالطَّلَب للمقتول قائمٌ؛ لأنّه لم يَصِل إليه حقٌّ، وقيل: يبقى له حقُّ التشفِّي... وقوله: إن قتل القاتل حدٌّ وإرداع... إلخ، فيه نظر؛ لأنّه لو كان كذلك لم يَجُزِ العفوُ عن القاتل. وقال القاضي عياض: ذهب أكثرُ العلماء إلى أن الحدود كفَّارةٌ؛ لهذا الحديث"[9].

قوله: «وَمَنْ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»: ومن سَتَره الله في الدّنيا، ولم يعاقَب على تلك المعصية، فهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غَفَر له هذه المعصية بفضله، فأدخله الجنّة دون عقاب، وإن شاء، عاقَبَه بالعذاب على جنايته في النار، ثم أخرجه منها، وأدخله الجنَّة.

"«ولا تعصوا في معروف»، وهو ما عُرِف من الشارع حُسْنُه نَهْيًا وأمْرًا، «فمن وَفَى» بالتخفيف ويُشدَّد؛ أي: ثَبَت على العهد، «منكم فأجرُه على الله» فضلًا ووعدًا بالجنَّة، «ومن أصاب» منكم أيها المؤمنون «من ذلك شيئًا» غير الشرك، «فأُخِذ به»؛ أي: فعوقب به «في الدنيا» بأن أُقِيم عليه الحُّد، «فهو»؛ أي: العقاب «كفَّارة له»، فلا يُعاقَب عليه في الآخرة، «وطَهور» يطهِّره الله به من دَنَس المعصية، وإذا وُصِف بالتطهير مع التوبة، عاد إلى ما كان عليه قبلُ، فتُقبَل شهادته، «ومن ستره الله فذلك» مفوَّض «إلى الله، إن شاء عذَّبه» بعدله، «وإن شاء غفر له» بفَضْلِه"[10].
هذا وإن الشريعة الإسلامية قد قسَّمت العقوباتِ إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: القِصَاص: وهو معاملةُ الجاني بمثل اعتدائه؛ فإن القصاص معناه المماثَلة، ولا يُسمَّى القصاصُ حدًّا؛ لأنه حقٌّ للعبد، له أن يعفوَ عنه

قال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ 178 وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}

[البقرة: 178 – 179]

القسم الثاني: التَّعْزير: وهو تأديبٌ على ذنب لا حدَّ فيه، ولا كفَّارةَ له.

القسم الثالث: الحدودُ: و"الحدُّ لغةً: الْمَنْع، ومنه سُمِّي البوَّاب حدَّادًا، وسُمِّيت عقوباتُ المعاصي حدودًا؛ لأنها تمنع العاصيَ من العَود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب، وأصلُ الحدِّ الشيءُ الحاجز بين الشيئين، ويُقال على ما ميَّز الشيءَ عن غيره، ومنه حدودُ الدار والأرض، ويُطلَق الحدُّ أيضًا على نفس المعصية

ومنه قوله تعالى:

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}

[البقرة: ١٨٧]

وتعريف الحدِّ في الشَّرع: هو عقوبةٌ مقدَّرة لأجل حقِّ الله، فيَخرُج التَّعْزِير؛ لعدم تقديره، والقصاصُ؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ"[11].

وقد شرع الله تعالى حدودًا على بعض المعاصي الكبيرة؛ حمايةً للمجتمع، وقطعًا للفساد، كما أن فيها تكفيرًا لذنوب صاحبها، فحدود الشرع موانعُ، وزواجِرُ عن ارتكاب أسبابها، والحدود في الإسلام ثابتة بآيات القرآن الكريم؛ مثل: آية الزنا، وآية السَّرِقة، وآية قذف المحصنات، وآية المحاربة، وثابتة بالسنَّة الصحيحة والمتواترة، وفعل رَسُول اللَّهِ ﷺ؛ مثل حديث ماعز، وحديث الغامدية، وغيرها من الأحاديث الثابتة، وثابتة بفعل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وعليها إجماع الأمَّة. وقد اقتضت حِكمة الشرع تشريع هذه الحدود؛ حسمًا لهذه الكبائر أن تستشريَ، وزجرًا عن ارتكابها؛ حتى يظلَّ العالم على طريق الاستقامة والأمان؛ فإن عدم وجود الزواجر والعقوبات يؤدِّي إلى استشراء الفساد والانحراف، وفيه من الفساد ما لا يخفى، فمتى عَلِم الحاكم بمُجرِم استحقَّ عقوبةَ الحدِّ، فإنه يجب عليه التنفيذ، ولا يَملِك العفوَ عنه.

والجرائمُ الكبرى التي رتَّب عليها الشارع عقوباتٍ محدَّدةً، فتستوجب الحدَّ هي في الجُملة: الزنا، ومثلُه اللواط، والسرقة، والقذف، وشُرب الخمر، والحِرابة، والرِّدَّة. وللفقهاء تفصيلاتٌ كثيرة في كيفية إثبات هذه الجرائم وعقوباتها في كتب الفقه، نذكر نُبْذةً عنها[12].

حدُّ الزنا: وهو ثابت بالقرآن والسنَّة والإجماع، والزّناة تختلف العقوبة باختلاف أصنافهم: بِكر وثَيِّب، وذكور وإناث. والحدود ثلاثة: رجم، وجَلد، وتغريب. فالبكرُ: هو الذي لم يطأ في نكاح صحيح، وقد أجمعوا على أنّ حدَّ البكر في الزِّنا جلد مِائة

لقوله تعالى:

{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}

[النور:2]

واختلفوا في التّغريب مع الجلد؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تغريب أصلًا، وقال الشّافعيُّ: لا بدَّ من التّغريب مع الجلد لكلِّ زانٍ، ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا كان أو عبدًا. وقال مالكٌ: يغرَّب الرَّجل، ولا تغرَّب المرأة. وأمّا الثّيِّب فإنّ المسلمين أجمعوا على أنّ حدَّه الرّجم إلَّا فرقةً من أهل الأهواء؛ فإنّهم رأوا أنّ حدَّ كلِّ زانٍ الجلد، وإنّما صار الجمهور للرّجم؛ لثبوت أحاديث الرّجم، ومنها رجم النبيِّ ﷺ ماعزًا والغامدية، وأحاديثهما في الصحيحين. ويَثبُت الزنا بالإقرار أو بأربعة شهود عدول، يَرَون الإيلاج بالفعل بمعاينة فَرْجِه في فرجها، وأن تكون الشهادةُ بالتصريح، لا بالكِناية.

اللواط: وهو داخلٌ في معنى الزنا، واختلفوا في حد اللائط، والصحيح هو قتلُه بكلِّ حال، مُحصَنًا أم غيرَ محصَن، فاعلًا أو مفعولًا به، بشرط أن يكون مكلَّفًا، وألا يكون مُكرَهًا،
وعلى ذلك إجماع الصحابة، وإن اختلفوا في صفة قتلِه.

حدُّ القذف: وهو الرَّمْيُ بزِنًا أو ِلواط، أو الشَّهادةُ بذلك ولم تكتمِل البيِّنة، وقد اتَّفَقوا على وجهين في القذف الّذي يجب به الحدُّ؛ أحدُهما: أن يرميَ القاذفُ المقذوف بالزّنا، والثّاني: أن ينفيَه عن نسبه إذا كانت أمُّه حرَّةً مسلمةً، وأمّا القاذف فإنّهم اتَّفقوا على أنّ من شروطه وصفين، وهما البلوغ والعقل، وسواء أكان ذكرًا أو أنثى، حرًّا أو عبدًا، مسلمًا أو غير مسلم. وأمّا المقذوف فاتّفقوا على أنّ من شروطه أن يجتمع فيه خمسة أوصاف وهي: البلوغ، والحرّيّة، والعَفاف، والإسلام، وأن يكون معه آلة (عضو) الزِّنا، فإن انخرم من هذه الأوصاف وصف، لم يَجِب الحدُّ. وحدُّه جَلْد القاذف ثمانين جلدة

كما قال تعالى:

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}

[النور: 4]

فإن كان القاذفُ هو الزوجَ، لم يُقَم عليه الحدُّ؛ بل يؤمَر بالْمُلاعَنة مع زوجته، فإن تلاعَنا، فرَّق القاضي بينهما.

السَّرقة: هي أخذ مال الغير مستتِرًا من غير أن يؤتمن عليه، فقد أجمعوا أنّه ليس في الخيانة ولا في الاختلاس قطعٌ إلّا إياسَ بنَ معاويةَ، فإنّه أوجب في الخلسة القطع. وأمّا السّارق الّذي يجب عليه حدُّ السَّرقة فإنّهم اتَّفَقوا على أنّ من شروطه أن يكون مكلَّفًا، وسواء أكان حرًّا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى، مسلمًا أو ذِمِّيًّا، وأمّا المسروق، فإنّ له شرائطَ مختلَفًا فيها، فمن أشهرها اشتراط النِّصاب، وذلك أنّ الجمهور على اشتراطه في وجوب القطع، واختلفوا في قدره اختلافًا كثيرًا، ما بين درهمين، وعشَرةِ دراهمَ من الفضَّة، وربع دينار من الذّهب.

فإذا توفَّرت شروط وجوب الحدِّ على صاحبها، وَجَب قطع يَدِه من مِفْصَل الكفِّ اليُمنى في المرَّة الأولى، وفي الثانية تُقطَع رجلُه من نصف القَدَم، وفي الثالثة قيل: تُقطَع يده الأخرى، وقيل: يُسجَن حتى يتوب

قال تعالى:

{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}

[المائدة: 38]

شُرب الخمر: اتَّفَقوا على أن موجِب الحدِّ هو شُرب الخَمر دون إكراه، قليلِها وكَثيرِها، واختلفوا في المسكِرات من غيرها إلى فريقين، فقال أحدهما: حُكْمُها حُكم الخمر في تحريمها، وإيجابِ الحدِّ على مَن شَرِبها، قليلًا كان أو كثيرًا، أسكر أو لم يُسكِر. وقال الفريق الثاني: المحرَّم منها هو السُّكْر، وهو الّذي يوجِب الحدَّ. وأمّا الواجب فهو الحدُّ والتَّفْسِيق، إلّا أن تكون التَّوبةُ، والتّفسيقُ في شارب الخمر باتّفاق وإن لم يَبلُغ حدَّ السُّكْرِ، وفيمن بلغ حَدَّ السُّكر فيما سوى الخمر. واختلف الّذين رأوا تحريم قليل الأَنبِذة في وجوب الحدِّ، وأكثرُ هؤلاء على وجوبه، إلّا أنّهم اختلفوا في مقدار الحدِّ الواجب، فقال الجمهور: الحدُّ في ذلك ثمانون جلدةً، وقال الشّافعيُّ، وأبو ثور، وداودُ: الحدُّ في ذلك أربعون جلدةً.

الرِّدَّة عن الإسلام: الْمُرْتدُّ إذا ظُفر به قبل أن يحارِب، فاتَّفَقوا على أنّه يُقتَل الرّجل

لقوله ﷺ:

«مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ»[13]

واختلفوا في قتل المرأة، وهل تُستتاب قبل أن تُقتَل؟ فقال الجمهور: تُقتَل المرأة؛ حيث اعتمدوا العمومَ الوارد في ذلك، وقال أبو حنيفة: لا تُقتل، وشبَّهها بالكافرة الأصليَّة. وأمّا الاستتابةُ، فإنَّ مالكًا شَرَط في قتل المرتدِّ ذلك. وأمّا إذا حارب المرتدُّ، ثمّ ظُهر عليه، فإنّه يُقتَل بالحِرابة، ولا يُستتاب، كانت حِرابته بدار الإسلام، أو بعد أن لحق بدار الحرب، إلَّا أن يُسلِم. وقد اختُلِف في هذا الباب في حُكم السّاحر، فقال مالكٌ: يُقتَل كُفرًا، وقال قوم: لا يُقتَل، والأصلُ أن لا يُقتَل إلّا مع الكُفر.

الحِرابة: اتَّفَقوا على أنّها إشهار السِّلاح، وقطع الطريق

والأَصلُ فيها قوله تعالى:

{ إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ 33 إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}

[المائدة: 33، 34]

والحدُّ كما نصَّت الآية هو القتل، والصَّلب، وقطع الأيدي، وقطع الأرجل من خلاف، والنّفيُ، على ما نصَّ اللّه تعالى في آية الحرابة. واختلفوا في هذه العقوبات، هل هي على التّخيير أو مرتَّبةٌ على قدر جناية المحارِب؟ فقال مالك: إن قَتَل فلا بدَّ من قتله، وليس للإمام تخيير في قَطْعِه ولا في نَفْيِه؛ وإنّما التّخيير في قتله أو صَلْبِه، وأمّا إن أخذ المال، ولم يَقتُل، فلا تخيير في نفيِه؛ وإنّما التّخييرُ في قتله، أو صَلبه، أو قَطعه من خلاف، وأمّا إذا أخاف السّبيلَ فقط، فالإمام عنده مخيَّر في قتله، أو صلبه، أو قطعه، أو نفيه. وذهب الشّافعيُّ، وأبو حنيفةَ، وجماعة من العلماء إلى أنَّ هذه العقوبة هي مرتَّبةٌ على الجنايات المعلومِ من الشّرع ترتيبُها عليه، فلا يُقتَل من المحاربين إلّا من قَتَل، ولا يُقطَع إلّا من أخذ المال، ولا يُنفى إلّا من لم يأخذ المال ولا قَتَل. وقال قوم: بل الإمام مخيَّر فيهم على الإطلاق، وسواءٌ قَتَل أم لم يقتل، أخذ المال أو لم يأخذه.

القتل: ويُدخِله الفقهاء فيما يُسمَّى بالجنايات، وليس من باب الحدود، وهو ثلاثة أنواع: عَمْدٌ، وشِبْهُ عَمْدٍ، وخطأ، فالعمدُ عقوبتُه القِصَاص بالقتل، أو الدِّيَة، وهي مِائةٌ من الإبل، أو يعفو أولياءُ الدَّمِ. وشِبْهُ العَمد: وهو أن يَقصِد القاتل إنسانًا بجناية لا تَقتُل غالبًا؛ كمن ضَرَب غيرَه بسَوط أو لَكَمَه، فمات، وعقوبتُه الكفَّارة على الجاني (وهي تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين)، والدِّيَةُ على عاقِلَته؛ أي: أهلِه من جِهَة أبيه. والقتلُ الخَطَأ: مثلُ أن يرميَ صَيْدًا بسلاح فيُصيب إنسانًا لا يَقصِد قَتْلَه فيَقتُله، وفيه الكفَّارة على الجاني، والدِّية على عاقلته

قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ۖ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}

[النساء:92]

المراجع

  1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154).
  2. رواه البخاريُّ (4477)، ومسلم (86).
  3. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).
  4. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).
  6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154، 155).
  7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 155).
  8. صحيح البخاريِّ (8/ 162) حديث رقم (6801). 
  9. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 157).
  10. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 463).
  11. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 146).
  12. انظر: "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" لابن رشد الحفيد (4/ 177 - 242)، "الفقه على المذاهب الأربعة" للجزيريِّ (5/ 55 - 138)، وغيرهما من كتب الفقه.
  13. رواه البخاريُّ (3017).


النقول:

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «لا تشركوا باللّه شيئًا»؛ أي: وحِّدوه سبحانه وتعالى، وهذا هو أصلُ الإيمان، وأساس الإسلام؛ فلذلك قدَّمه على إخوته. قوله: «شيئًا»: عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق النّهي؛ لأنّه كالنفيِ، قوله: «ببهتان»: البُهتان بالضّمِّ: الكَذِب الّذي يَبهَتُ سامعَه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته، يقال: بَهَته بُهتانًا إذا كَذَب عليه بما يَبهَته من شدَّة نُكره، وزعم البنانيُّ أن أبا زيد قال: بَهَته يَبهَته بُهتانًا: رَماه في وَجهِه، أو مِن ورائه بما لم يكن، والبَهَّاتُ الّذي يَعِيب النّاس بما لم يفعلوا، وقال يعقوب والكسائيُّ: هو الكذب. وقال صاحب "العين": البَهْتُ استقبالُك بأمرٍ تَقذِفه به وهو منه بَريء لا يعلمه، والاسم: البُهتان. والبَهْت أيضًا: الحَيرة، وقال الزَّجَّاج وقُطْرُب: بُهِت الرجل انقطع وتحيَّر، وبهذا المعنى بَهِتَ وبَهُتَ. قال: والبُهتان الكذب الّذي يتحيَّر من عظَّمه وشأنه، وقد بَهَته إذا كذب عليه؛ زاد قُطرب: بهاتة وبهتًا، وفي "المحكم": باهتَه استقبله بأمر يقذفه به وهو منه بريء لا يَعلَمه، والبهيتة: الباطل الّذي يتحيَّر من بُطلانه، والبَهوت: المباهِت، والجمع: بُهْت وبُهُوت، وعندي أن بُهوتًا جمع باهت، لا جمع بهوت، وقال الهرويّ:

{وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ}

[الممتحنة: 12]

أي: لا يأتين بولد عن معارضته فتَنسُبه إلى الزّوج، كان ذلك بهتانًا وفِرْية، ويُقال: كانت المرأة تلتقط الولد فتتبنَّاه. وقال الخطابيُّ: معناه ههنا قَذْفُ المحصَنات، وهو من الكبائر، ويَدخُل فيه الاغتياب لهنّ، ورَمْيهن بالمعصية. وقال أيضًا: لا تبهتوا النّاس بالمعايب كِفاحًا ومواجهة، وهذا كما يقول الرجل: فعلتُ هذا بين يديك؛ أي: بحضرتك. قوله: «تفترونه» من الافتراء، وهو الاختلاق، والفِرْية: الكذب. يقال: فَرى فلان كذا، إذا اختَلَقه، وافتراه: اختلقه، والاسم: الفِرْية، وفلان يَفْري الفِرى، إذا كان يأتي بالعَجَب في عمله

قال تعالى:

{لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا}

[مريم: 27]

أي: مصنوعًا مختلَقًا، ويقال: عظيمًا. قوله: «ولا تعصوا»، وفي باب وفود الأنصار: ولا تعصوني، والعِصْيان خلاف الطّاعة، قوله: «في معروف»؛ أي: حسن، وهو ما لم يَنْهَ الشّارع فيه، أو معناه مشهور؛ أي: ما عُرِف فِعْله من الشّارع واشتَهَر منه، ويقال: في معروف؛ أي: في طاعة الله تعالى، ويُقال: في كلِّ برٍّ وتقوى. وقال البيضاويُّ: المعروف ما عُرِف من الشّارع حُسْنه، وقال الزّجاج: أي: المأمور به، وفي "النّهاية": هو اسمٌ جامع لكلِّ ما عُرِف من طاعة الله تعالى، والإحسان إلى النّاس، وكلِّ ما نَدَب إليه الشَّرع ونهى عنه من المحسِّنات والمقبِّحات. قوله: «فمن وفى منكم»؛ أي: ثبت على ما بايَع عليه، يُقال بتخفيف الفاء وتشديدها، يُقال: وَفَى بالعهد، وأَوْفى، ووفَّى، ثلاثيٌّ ورباعيٌّ، ووفَى بالشّيء ثلاثيٌّ، ووَفَت ذِمَّتك أيضًا وأوفى الشَّيء ووفى، وأوفى الكَيل ووفاه، ولا يُقال فيهما وفى. قوله: «ومن أصاب من ذلك شيئًا»: (من) هي التبعيضية، و(شيئًا): عامٌّ؛ لأنّه نَكِرة في سياق الشَّرط، وصرَّح ابن الحاجب بأنَّه كالنَّفْيِ في إفادة العموم كنَكِرة وقعت في سِيَاقه. قوله: «كفّارة» الكفَّارة: الفِعلة الّتي من شأنها أن تكفِّر الخطيئة؛ أي: تَستُرها، يقال: كَفَرت الشّيء أَكفِر، بالكسر، كُفْرًا؛ أي: سَترتُه، ورماد مكفور إذا سَفَتِ الرّيح التّرابَ عليه حتّى غطَّته، ومنه الكافرُ؛ لأنّه ستر الإيمان وغطَّاه. قوله: «على أن» كلمة (أن) مصدريّة؛ أي: على ترك الإشراك باللّه شيئًا، قوله: «ولا تَسرِقوا» وما بعدَه كلُّها عطفٌ على «لا تشركوا». قوله: «تفترونه»: جملة في محلِّ الجرِّ على أنّها صفةٌ لـ(بُهتان). قوله: «ولا تعصوا» أيضًا عطفٌ على المنفيِّ فيما قبلَه، قوله: «فمن وفى» كلمة (من) شرطيّة مبتدأ، و(وفى) جملة صلتها، قوله: «فأجره» مبتدأ ثانٍ، وقوله: «على الله» خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، ودخلت الفاء لتضمُّن المبتدأ الشّرط، قوله: «ومن»: مبتدأ، موصولة تتضمَّن معنى الشَّرط، و«أصاب»: جملة صلتها، «شيئًا» مفعوله. قوله: «فعوقب»: على صيغة المجهول، عطفٌ على قوله (أصاب)، قوله: «فهو» مبتدأ ثان، وقوله: «كفّارة» خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والفاء لأجل الشّرط، قوله: «ومن أصاب...» إلخ، إعرابه مثل إعراب ما قبله. فإن قلتَ: فلِمَ قال في قوله: «فعوقب»، بالفاء، وفي قوله: «ثمّ ستره الله»، بـ(ثم)؟ قلتُ: الفاء ههنا للتعقيب، ثمّ التعقيب في كلِّ شيء بحسَبِه، فيجوز ههنا أن يكون بين الإصابة والعقاب مدَّة طويلة أو قصيرة، وذلك بحسب الوقوع، ويجوز أن تكون الفاء للسّببيّة، وأما (ثمّ)، فإن وضعها للتراخي، وقد يتخلَّف، وههنا (ثمّ) ليست على بابها؛ لأن السّتر عند إرادة الله تعالى تكون عَقِيب الإصابة ولا يتراخى. فافهم.

«ولا تسرقوا» فيه حذف المفعول ليدلَّ على العموم، قوله: «فعوقب» فيه حذف أيضًا تقديرُه: فعوقب به، وهكذا هو في رواية أحمد. قوله: «فهو»؛ أي: العقاب. «كفّارة» فيه حذف أيضًا، تقديرُه: كفَّارة له، وهكذا في رواية أحمدَ. وكذا في رواية للبخاريِّ في باب المشيئة من كتاب التّوحيد، وزاد أيضًا: «وطَهور». قال النّوويُّ: عموم هذا الحديث مخصوص

بقوله تعالى:

{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}

[النساء: 48]

فالمرتَدُّ إذا قُتِل على الرِّدَّة لا يكون القتلُ له كفَّارة. قلتُ: أو يكون مخصوصًا بالإجماع. أو لفظ ذلك إشارة إلى غير الشّرك بقرينة السَّتر، فإنّه يستقيم في الأفعال الّتي يمكِن إظهارها وإخفاؤها. وأما الشّركُ - أي: الكفر - فهو من الأمور الباطنة، فإنّه ضدُّ الإيمان، وهو التّصديق القلبيُّ على الأصحِّ. وقال الطِّيبيُّ: قالوا: المراد منه المؤمنون خاصَّةً؛ لأنّه معطوف على قوله: «فمن وفى»، وهو خاصٌّ بهم؛ لقوله: «منكم»، تقديره: ومن أصاب منكم أيُّها المؤمنون من ذلك شيئًا، فعوقب في الدُّنيا؛ أي: أُقِيم الحدُّ عليه، لم يكن له عقوبة لأجل ذلك القيام، وهو ضعيفٌ؛ لأن الفاء في (فمن) لترتُّب ما بعدها على ما قبلها، والضّمير في (منكم) للعصابة المعهودة، فكيف يخصّص الشّرك بالغَير؟ فالصّحيحُ أن المراد بالشرك الرّياءُ؛ لأنّه الشّرك الخفيُّ

قال الله تعالى:

{وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}

[الكهف: 110]

ويدلُّ عليه تنكير (شيئًا)؛ أي: شِرْكًا أيًّا ما كان، وفيه نظر؛ لأن عُرف الشّارع يقتضي أن لفظة (الشّرك) عند الإطلاق تُحمَل على مقابل التَّوحيد، سيَّما في أوائل البَعثة، وكثرة عَبَدة الأصنام، وأيضًا عَقِيب الإصابة بالعقوبة في الدُّنيا، والرياءُ لا عقوبة فيه، فتبيَّن أن المراد الشّرك، وأنه مخصوص.

وقال الشّيخ الفقيه عبد الواحد السفاقسيُّ في شرحه للبخاريِّ في قوله: «فعوقِب به في الدّنيا» يريد به القَطع في السَّرِقة، والحدَّ في الزّنا، وأما قتلُ الولد، فليس له عقوبة معلومة، إلاّ أن يُريد قتل النّفس، فكنَّى بالأولاد عنه، وعلى هذا؛ إذا قُتل القاتل، كان كفَّارةً له، وحُكي عن القاضي إسماعيل وغيره: أن قتل القاتل حدٌّ وإرداع لغيره، وأما في الآخرة، فالطَّلَب للمقتول قائمٌ؛ لأنّه لم يَصِل إليه حقٌّ، وقيل: يبقى له حقُّ التشفِّي... وقوله: إن قتل القاتل حدٌّ وإرداع... إلخ، فيه نظر؛ لأنّه لو كان كذلك لم يَجُزِ العفوُ عن القاتل. وقال القاضي عياض: ذهب أكثرُ العلماء إلى أن الحدود كفَّارةٌ؛ لهذا الحديث"[1].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "«أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا ولا تسرقوا» حذَفَ المفعول ليعمَّ، «ولا تقتلوا أولادكم»؛ يُريد وَأْدَ البنات، ولأبي ذرٍّ: «ولا تسرقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تقتلوا أولادكم»، «ولا تأتوا ببُهتان»: بكَذِب يَبهَت سامعه؛ أي: يُدهِشه لفظاعته؛ كالرَّمي بالزنا، «تفترونه بين أيديكم وأرجلكم»؛ أي: من قِبَل أنفسكم، فكنَّى باليَدِ والرِّجل عن الذَّات؛ لأن معظم الأفعال بهما، «ولا تعصوني»، ولأبي ذرٍّ: «ولا تعصوا»، «في معروف»، وهو ما عُرِف من الشارع حُسْنُه نَهْيًا وأمْرًا، «فمن وَفَى» بالتخفيف ويشدَّد؛ أي: ثَبَت على العهد، «منكم فأجرُه على الله» فضلًا ووعدًا بالجنَّة، «ومن أصاب» منكم أيها المؤمنون «من ذلك شيئًا» غير الشرك، «فأُخِذ به»؛ أي: فعوقب به «في الدنيا» بأن أُقِيم عليه الحُّد، «فهو»؛ أي: العقاب «كفَّارة له»، فلا يُعاقَب عليه في الآخرة، «وطَهور» يطهِّره الله به من دَنَس المعصية، وإذا وُصِف بالتطهير مع التوبة، عاد إلى ما كان عليه قبلُ، فتُقبَل شهادته، «ومن ستره الله فذلك» مفوَّض «إلى الله، إن شاء عذَّبه» بعدله، «وإن شاء غفر له» بفَضْلِه"[2].

قال ابن رجب رحمه الله: "(النُّقَباء): جمع (نقيب)، وهو عرِّيف القَوم وناظرُهم، والْمُراد الذين اختارهم الأَوْسُ والخَزْرَج نُقَباءَ عليهم بطلب من النبيِّ ﷺ وأقرَّهم على ذلك (ليلةَ العقبة) الليلة التي بايع فيها ﷺ الذين آمنوا من الأَوْسِ والخزرج على النُّصرة، وهي بيعة العقبة الثانية، وكان ذلك عند جمرة العقبة بمِنى، والعقبة من الشيء: الْمَوضِع المرتفع منه. (عصابة): الجماعة من الناس، وهم ما بين العشَرة إلى الأربعين. «بايعوني»: عاهِدوني، «بهتان»: كَذِب فَظِيع يُدهِش سامعَه، «تفترونه» تختلقونه، «بين أيديكم وأرجلكم» من عند أنفسكم، «ولا تعصوا في معروف»: لا تخالفوا في أمر لم يَنْهَ عنه الشرع، «وَفَى»: ثَبَت على العهد، «أصاب من ذلك شيئًا»: وَقَع في مخالفة مما ذُكِر، «فعوقب»: نفِّذت عليه عقوبته من حدٍّ أو غيره، «ستره الله»: لم يَصِل أمره إلى القضاء"[3].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«الشرك بالله»، وهذا أعظم الموبقات أن تُشرك بالله عزَّ وجلَّ، وهو خَلَقك وأَنعَم عليك في بطن أمِّكَ، وبعد وَضعك وفي حال صِباكَ، أَنعَم الله عليك بنِعَم كثيرة، فتُشرك به"[4].

قال البخاريُّ رحمه الله: "إذا تاب السارقُ بعدَ ما قُطِعَ يَدُهُ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَكُلُّ مَحْدُودٍ كذلك إذا تاب، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وأن المراد بنَفي الإيمان نفيُ بُلوغ حقيقته ونهايته؛ فإن الإيمان كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته

كقوله ﷺ:

«لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ»[6]"[7]

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "الحدُّ لغةً: الْمَنْع، ومنه سُمِّي البوَّاب حدَّادًا، وسُمِّيت عقوباتُ المعاصي حدودًا؛ لأنها تمنع العاصيَ من العَود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب، وأصلُ الحدِّ الشيءُ الحاجز بين الشيئين، ويُقال على ما ميَّز الشيءَ عن غيره، ومنه حدودُ الدار والأرض، ويُطلَق الحدُّ أيضًا على نفس المعصية، ومنه

{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}

[البقرة: ١٨٧]

وفي الشَّرع: عقوبةٌ مقدَّرة لأجل حقِّ الله، فيَخرُج التَّعْزِير؛ لعدم تقديره، والقصاصُ؛ لأنه حقٌّ لآدميٍّ"[8].

قال الجزيريُّ رحمه الله: "إن الشريعة الإسلامية قسَّمت العقوباتِ إلى ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: الحدودُ: وقد عرَّف الفقهاء الحدَّ، بأنه عقوبة مقدَّرة حقًّا للًّه تعالى. فمتى عَلِم الحاكم بمُجرِم استحقَّ عقوبةَ الحدِّ، فإنه يجب عليه التنفيذ، ولا يَملِك العفوَ عنه. والجرائم التي تستوجب الحدَّ هي: أولًا: الزنا. ومثلُه اللواط. ثانيًا: السرقة. ثالثًا: القذف. رابعًا: شُرب الخمر.

أما حدُّ الذين يَسعَون في الأرض فسادًا، فلا يَخرُج عن حدِّ السَّرِقة، أو القِصاص، أو التَّعْزير.

القسم الثاني: القصاص: وهو معاملةُ الجاني بمثل اعتدائه؛ فإن القصاص معناه المماثلة، ومنه قصَّ الحديث، إذا أتى به على وجهه، ولا يسمَّى القصاص حدًّا؛ لأنه حقٌّ للعبد، له أن يعفوَ عنه.
القسم الثالث: التَّعْزير: وهو تأديبٌ على ذنب لا حدَّ فيه، ولا كفَّارةَ له"[9].

المراجع

  1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيّ (1/ 154 - 157).
  2. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (9/ 462، 463).
  3. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 67).
  4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 309-311).
  5. صحيح البخاريِّ (8/ 162) حديث رقم (6801).
  6. رواه البخاريُّ (2475)، ومسلم (100).
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 302).
  8. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 146).
  9. "الفقه على المذاهب الأربعة" للجزيريِّ (5/ 12، 13).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو هُرَيرة رضي الله عنه

أن رسول الله ﷺ خطبهم فقال: «أيُّها الناسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا» بيتَ الله الحرام واستجيبوا للأمر. (فقال رجُلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟)؛ أي: هل فُرِض علينا أن نحجَّ كلَّ عام؟ (فسكَتَ حتى قالها ثلاثًا)؛ أي: فسكت ﷺ حتى كرَّر الرجل سؤال النبيِّ ﷺ ثلاث مرَّات، والنبيُّ ﷺ لا يجيبه.

فقال : «لو قلتُ: نَعمْ، لوجَبتْ، ولَمَا استطعتم»؛ أي: لو أجابه النبيُّ ﷺ بالإيجاب، لوجب الحجُّ كلَّ عام، ولما استطاعوا الامتثال لهذا الفرض الشاقِّ كلَّ عام.

ثم قال ﷺ: «ذَروني ما تركتُكم»؛ أي: دعوني واتركوني ما تركتكم. «فإنما هلَك مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»؛ أي: إن سبب هلاك الأمم السابقة كثرة سؤالهم أنبياءهم، فشدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّد عليهم، فلم يمتثلوا، فهَلَكوا. «فإذا أمرتُكم بشيء، فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نَهيتُكم عن شيء، فدَعوه»؛ أي: انتهوا عما أنهاكم عنه على أيِّ حال، وافعلوا ما تؤمرون به ما دام في وُسعكم واستطاعتكم.


الشرح المفصَّل للحديث:

هذا الحديث يدُلُّ على رأفة النبي ﷺ بأُمَّته وشَفقته عليهم؛ ولهذا نهاهم عن السؤال عمَّا لم يَرِدْ فيه شرعٌ بأمر أو نهيٍ.

قوله: «قد فرض الله عليكم الحجَّ»: الحجُّ لُغةً: القصدُ، وشرعًا: قصْدُ بيت الله الحرام بنيَّة التقرُّب إلى الله في زمان مخصوص، بأداء شعائرَ مخصوصةٍ [1].

قوله: فقال رجل: هو الأقرع بن حابِسٍ، كما في الروايات الأخرى [2].

وقوله: (أكلَّ عام يا رسول الله؟): لَمَّا كان أمر النبيِّ ﷺ بوجوب الحجِّ خاليًا عن ذِكْر التَّكرار؛ هل يتكرَّر ذلك الوجوب أو لا؟ فلهذا سأل الصحابيُّ رسول الله ﷺ؛ ولهذا اختلف الأصوليون في الأمر المطلَق، هل يدُلُّ على التَّكرار أو على المرَّة الواحدة؟ فلمَّا لم يعرِف الصحابيُّ ذلك، سأل النبيَّ ﷺ، وربما ساعَده على ذلك أن الحجَّ في اللغة قصدٌ فيه تَكرارٌ، فلهذا فَهِم ذلك، وأراد الاستفسار [3].

وإنما سكت النبيُّ ﷺ في المرتينِ زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أَوْلى بأُولي الفَهْم بين يدَيْ رسول الله ﷺ؛ وذلك لأن رسول الله ﷺ إنما بُعِث لبيان الشريعة، فلم يكن ليَسكُت عن بيان أمرٍ عَلِم أن الأُمَّة بحاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مِثله تقدُّمٌ بين يدي رسول الله ﷺ، وقد نُهوا عنه بقوله تعالى: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

[الحجرات: 1] 

وفي الإقدام عليه ضربٌ من الجهل، ثم فيه احتمالُ أن يُعاقَبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار بقوله ﷺ: «ولو قلت: نعمْ، لوجبتْ، ولَما استطعتم» [4].

وقوله: «لو قلت: نعمْ، لوجبتْ» هذا زجرٌ للسائل لَمَّا رآه لا ينزجِرُ بسكوته، فبيَّن أنه ﷺ إنما سكت خشيةَ أن تُفرضَ على الناس، وفي قوله: «لو» دليلٌ على أن الحجَّ لا يجب إلا مرَّةً واحدةً في العمر؛ إذ لم يقُل النبيُّ ﷺ بالوجوب، وعلَّقه على إجابته، ولم تحصُل؛ بدليل «لو»، وهي تُفيد الامتناع، فامتنع الوجوب بامتناع القول منه [5].

وإنما قال: «لوجبتْ» بالتأنيث؛ أي: لوجبتْ حججٌ كثيرةٌ، أو: لَوَجبتْ حجَّةٌ كلَّ عام [6].

وقوله: «ذَروني ما تركتكم» أي: لا تُكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مُقيَّدةً بوجه ما؛ فإذا أُمِرْتم بأمرٍ، فافعلوا ما يقع عليه اسمُ ذلك الفعل؛ فإذا أُمرتم بالصَّدقة، أو الحجِّ، أو غير ذلك، فيُجزئكم ما تقع عليه التسمية، وهي مرَّةٌ واحدة، فهي مدلولُ اللفظ، وما زاد عليه من التَّكرار المحتمَل من اللفظ، يُتغافَل عنه. وفيه النهيُ عن الاقتراح والسؤال عمَّا لا يَعْنيهم ولا يَليق بهم؛ فإنه تضييع للعمر، ودليلٌ على التردُّد في الأمر، وقد يَصير سببَ الوقوع في الزَّيغ والبِدَع؛ لسوء الفَهْم، وضعف البصيرة [7].

وفيه أن الأصل في الأشياء استصحابُ حُكم الإباحة فيما لم ينزل فيه حكمٌ، وأن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكمَ إلا بورود الشرع [8].

قوله: «فإنما هلَكَ مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»؛ أي: إنما كان كثرة السؤال والاختلاف سببًا للهلاك؛ لأنهما من أَمارات التردُّد في أمر المبعوث، وإساءة الأدَب بين يدَيه، ومن حقِّ المبعوث إليه أن يَعلَم أن الله بعث نبيَّه إليه ليُعرفه مصالحَ مَعاده ومَعاشه، ويُبَصِّره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلَّم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة؛ فإن الله تعالى لم يجعله مستعدًّا لنبوَّته، ولا أمينًا على وَحْيه، إلا وقد تكفَّل له بالإصابة، وأيَّده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يُلقيَ سمعَه إليه، ويَشهَد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلَّم، ويسُدَّ دونَه باب الاختلاف، ويجتنب معه مَظانَّ الاعتراض. فمهما عوَّد نفْسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف، حُرِم بركة الصُّحبة، فابْتُلِي بسوء الأدب، وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك [9].

وقصة أصحاب البقرة أعظم دليل على ذلك؛ فإن الله لَمَّا أمرهم على لسان نبيِّه موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرةً، تشدَّدوا في السؤال، فشدَّد الله عليهم، ولو امتثلوا الأمرَ من البداية، لَمَا كان الحال كما وَصلوا إليه، فخاف النبيُّ ﷺ على أُمَّته أن تصل إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل [10] لذا؛ نهى النبيُّ ﷺ عن السؤال، وأنزل الله عز وجل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْـَٔلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـَٔلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ  ﴾

[المائدة: 101]

وقال ﷺ في حديث المغيرة بن شُعبة:

«إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمَّهات، ووَأْد البنات، ومنع وهات، وكَرِه لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»

[11]، 

وقال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه:

«نُهِينا أن نسألَ رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجُل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع»

[12]،

فإنما رخَّص لأهل البادية؛ لعدم علمهم، وعدم وصول أوامر الشرع إليهم، بخلاف أصحابه الملازمين له.

وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله ﷺ:

«إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا: مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين، فحَرُمَ عليهم من أجْل مسألته»

[13].

قوله: «فإذا أمرتُكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم» هذه قاعدةٌ من قواعد الإسلام المهمَّة، ومن جوامع الكَلِم التي أُعطِيها رسولُ الله ﷺ، ويدخل فيها ما لا يُحْصى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها؛ فإذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها، أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء، أو الغُسل، غَسَل الممكن، وإذا وجد بعض ما يَكفيه من الماء لطهارته، أو لغُسل النجاسة، فعَل الممكن...، وهكذا في جميع الأمور الأخرى؛ لقوله تعالى: 

﴿فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ  ﴾

[التغابن: 16] [14].

وقد اختلف العلماء في توجيه الآية السابقة والحديث مع قوله تعالى:

﴿ وَٱعْتَصِمُوا بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَٱذْكُرُوا نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[آل عمران: 102]؛

فقيل: إن آية التغابن نسخَتْها، وقيل: إنه لا تعارضَ بين الآيتين؛ إذ تقوى الله حق تُقاته هي بفعل ما أمر، والله سبحانه لم يأمُر بغير المستطاع؛ لقوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ۖ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ ﴾

[البقرة: 286]،

وقوله تعالى:

﴿ وَجَٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُوا بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ﴾

[الحج: 78] [15].

قوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه» دليلٌ على أن النهيَ على نقيض الأمر؛ فإن الأمرَ يَقتضي فِعلَ ما ينطبق عليه الاسم، أما النهيُ فإن المنهيَّ لا يكون ممتثلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومَن فَعَل واحدًا فقد خالف وعصى، فليس في النهي إلا ترْكُ ما نُهِيَ عنه مطلَقًا دائمًا، وحينئذٍ يكون ممتثلًا لترك ما أُمر بتركه [16].

لكن إذا طرأ عذرٌ على المنهيِّ يقتضي منه فِعل المنهيِّ عنه، فهنا لا يكون منهيًّا عنه في تلك الحال؛ كالتلفُّظ بكلمة الكفر للمُكْرَه، أو أكل الميتة، أو شرب الخمر للمضطرِّ، وغير ذلك [17].


المراجع

1. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

2. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120). 

3. انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 109)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447). 

4. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 447)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101). 

6.  انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586). 

7. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 130). 

8. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57). 

9. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 79). 

10. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 448)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 58). 

11. رواه البخاريُّ (2408)، ومسلم (593). 

12. رواه مسلم (12). 

13. رواه البخاريُّ (7289)، ومسلم (2358). 

14. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57). 

15. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 444)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102). 

16. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 448). 

17. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57).



النقول

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الحجُّ في اللغة القَصْدُ، وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوَّال، وذو القَعْدَة، وعَشْرُ ليالٍ من ذي الحِجَّة. «فقال رجلٌ» يعني الأقرعَ بنَ حابسٍ: «أكلَّ عامٍّ؟»؛ أي: أتأمرنا أن نحجَّ كلَّ عام؟ وهذا يدلُّ على أن مجرَّد الأمر لا يفيد التَّكرار، ولا المرَّة، وإلَّا لَمَا صحَّ الاستفهام. وإنما سكت ﷺ حتى قالها ثلاثًا؛ زجرًا له عن السؤال، فإن التقدُّم بين يدَيْ رسول الله ﷺ منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى:

﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[الحجرات: 1] 

لأنه ﷺ مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحجُّ كلَّ سنةٍ، لبيَّنه الرسول - صلوات الله عليه - لا محالةَ، ولا يقتصر على الأمر به مُطلَقًا، سواءٌ سُئل عنه أو لم يُسأل، فيكون السؤال استعجالًا ضائعًا، ثم لَمَّا رأى أنه لا ينزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح، أجاب عنه بقوله: «ولو قلتُ: نعم، لوَجَبت كلَّ عام حَجَّة»، فأفاد به أنه لا يجب كلَّ عام؛ لما في (لو) من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه إنما لم يتكرَّر؛ لِما فيه من الحَرَج، والكُلْفة الشاقَّة. ونبَّه على أن العاقل ينبغي له أن لا يستقبل الكُلَف الخارجة عن سَمعه، وأن لا يَسأل عن شيء إن يُبْدَ له أساءه" [1].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الإمام: اختلف الناس في الأمر المطلَق، فقال بعضهم: يُحمَل على فعل مرَّة واحدة، وقال بعضهم: على التَّكرار. وقال بعضهم: بالوقف فيما زاد على مرَّة، وظاهر هذا أن السائل لرسول الله ﷺ إنما سأله لأن ذلك عنده يُحتمَل، فيصحُّ أن يكون ذَهَب إلى بعض هذه الطُّرق، ويصحُّ أن يكون إنما احتُمِل عنده من وجه آخَرَ؛ وذلك أن الحج في اللغة: قصدٌ فيه تكرير، فيكون احتَمَل عنده التكرير من جهة اشتقاق اللفظ، وما يقتضيه من التَّكرار، وقد تعلَّق بما ذكرنا عن أهل اللغة هاهنا من قال بإيجاب العُمرة، وقال: لما كان قوله تعالى:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ﴾

[آل عمران: ٩٧]

يقتضي على حُكم الاشتقاق المتكرِّر، واتُّفِق على أن الحجَّ لا يَلزَم إلا مرَّةً واحدة، كانت العودة إلى البيت تقتضي أن تكون في عُمرة حتى يَحصُل التردُّد إلى البيت، كما اقتضاه الاشتقاق.

قال القاضي رحمه الله: فيه ما كان - عليه السلام - من صفة الرأفة والرحمة بأمَّته، وفيه دليل على أنه كان له أن يشرِّع في الدين برأيه ويجتهد فيه. وقد اختُلِف في هذا الأصل لقوله: «لو قلت: نعم، لوجبت». وقوله: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم...» الحديث: دليلٌ على أن الأشياء على استصحاب حال الإباحة فيما لم يَنزِل فيه حُكم.

وقوله: «فإذا أمرتكم بأمر، فَأْتوا منه ما استطعتم»، من قول الله تعالى:

﴿ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ﴾

[التغابن: 16] 

وقد قيل: إنها ناسخة لقوله تعالى:

﴿ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

[آل عمران: 102]

وقيل: لا نسخ فيها، وهى مفسِّرة ومُبيِّنة؛ لأن حقَّ تُقاته تعالى: هو امتثال العبد ما أُمِر به، وما أَمَره إلا بما استطاع، وما جعل عليه في الدين من حرج" [2].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ما تركتكم»؛ أي: مدَّةَ تركي إيّاكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء، وإنّما غايَر بين اللّفظين لأنّهم أماتوا الفعلَ الماضيَ، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو يَذَر، وفعل الأمر وهو (ذَرْ)، ومثلُه دَعْ ويَدَعُ؛ ولكن سُمِع (وَدَعَ) كما قرئ به في الشّاذِّ في قوله تعالى:

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ 

[الضحى: ٣]، 

قرأ بذلك إبراهيمُ بنُ أبي عبلة، وطائفة، وقال الشّاعر: (وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ = فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السَّمْرِ)، ويَحتمِل أن يكون ذَكَر ذلك على سبيل التّفنُّن في العبارة، وإلّا لقال: اتركوني. والمراد بهذا الأمر: ترك السّؤال عن شيء لم يقع؛ خشيةَ أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السّؤال لما فيه غالبًا من التّعنُّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَل؛ فقد يؤدِّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة؛ قال ابن فرج: معنى قوله: «ذروني ما تركتكم»: لا تُكثروا من الاستفصال عن المواضع الّتي تكون مفيدةً لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحةً لغيره، كما أنّ قوله: «حجُّوا» وإن كان صالحًا للتَّكرار، فينبغي أن يُكتفى بما يَصدُق عليه اللّفظ، وهو المرّة؛ فإنّ الأصل عدم الزّيادة، ولا تُكثروا التّنقيب عن ذلك؛ لأنّه قد يُفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أُمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت، لامتثلوا؛ ولكنّهم شدَّدوا، فشُدِّد عليهم" [3].

قال التوربشتيُّ رحمه الله: «إنما كان كثرة السؤال والاختلاف سببًا للهلاك؛ لأنهما من أَمارات التردُّد في أمر المبعوث، وإساءة الأدَب بين يدَيه، ومن حقِّ المبعوث إليه أن يَعلَم أن الله بعث نبيَّه إليه ليُعرفه مصالحَ مَعاده ومَعاشه، ويُبَصِّره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلَّم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة؛ فإن الله تعالى لم يجعله مستعدًّا لنبوَّته، ولا أمينًا على وحيه، إلا وقد تكفَّل له بالإصابة، وأيَّده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يُلقيَ سمعَه إليه، ويَشهَد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلَّم، ويسُدُّ دونَه باب الاختلاف، ويجتنب معه مَظانَّ الاعتراض. فمهما عوَّد نفْسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف، حُرِم بركة الصحبة، فابْتُلِي بسوء الأدب، وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك» [4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "واحتجَّ بهذا الحديث من جوَّز تفويض الحكم إلى رأي النبيِّ ﷺ، فيقول الله له: احكمْ بما شئتَ، فإنكَ لا تَحكُم إلا بالصواب؛ فإن قوله ﷺ: «لو قلتُ: نعم، لوَجَبَتْ» يدلُّ على أنه كان إليه إيجاب ما شاء. وهو ضعيفٌ؛ لأن قوله: «لو قلتُ»، أعمُّ من أن يكون قولًا من تلقاء نفسه، أو من وحيٍ نازل، أو رأيٍ يراه، إن جوَّزنا له الاجتهاد، والدالُّ على الأعمِّ لا يدلُّ على الأخصِّ؛ لكنه يدلُّ على أن الأمر للوجوب؛ لأن قوله: «لو قلتُ: نعم، لوجبت» تقديره: لو قلت: نعم حُجُّوا كلَّ سنة، لوَجَبت كلَّ عام حَجَّة. وذلك إنما يَصِحُّ إذا كان الأمر مقتضيًا للوجوب.

أقول: والاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يُفيد التَّكرار ولا المرَّة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه؛ ولهذا زَجَره، وقال: «ذروني ما تَرَكْتُكم»، فعَمَّ الخِطابُ؛ يعني: اقتصِروا على ما أمرتُكم، فَأْتُوا به على قدر استطاعتكم. وكذا قوله تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْـَٔلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾

[المائدة: 101]

نازلٌ في هذا الشأن، فقد عَلِم أن الرجل لو لم يَسأَل لم يُفِدِ الأمرُ غيرَ الْمَرَّة، وأن التَّكرار مفتقِرٌ إلى دليل خارجيٍّ" [5].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "أي: أتأمرنا أن نحجَّ كلَّ عام؟ وهذا يدلُّ على أن مجرَّد الأمر لا يفيد التَّكرار، ولا المرَّةَ، وإلَّا لَما صحَّ الاستفهام؛ وإنما سكت ﷺ حتى قالها ثلاثًا؛ زجرًا له عن السؤال؛ فإن التقدُّم بين يدَيْ رسول الله ﷺ منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى:

﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[الحجرات: 1] 

لأنه ﷺ مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كلَّ سنة، لبيَّنه عليه الصلاة والسلام لهم لا محالة، ولا يقتصر على الأمر مطلقًا، سواء سُئل عنه أو لم يُسأل عنه، فيكون استعجالًا ضائعًا، ثم لَمَّا رأى أنه لا يَزجُر به ولا يُقنِع، 

 يجيب (في كل عام)؛ لِما في (لو) من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه لم يتكرَّر؛ لِما فيه من الحَرَج والكُلَف الشاقَّة. قاله البيضاويُّ، وتعقَّبه الطِّيبيُّ بأن الاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يفيد التَّكرار ولا المرَّة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه؛ ولهذا زَجَره، وقال: «ذروني ما تركتكم» يعمُّ الخطاب؛ يعني: اقتصروا على ما أمرتكم به على قدر استطاعتكم، فقد علم أن الرجل لو لم يَسأَل لم يُفِدْ غير المرَّة، وأن التَّكرار يفتقر إلى دليل خارجيٍّ. انتهى.

ثم إن الحجَّ مُطلَقًا إما فرضُ عين أو فرض كفاية أو تطوُّع، واستشكل تصويره. وأُجيب: بأنه يُتصوَّر في العبيد والصبيان؛ لأن الفرضين لا يتوجَّهان إليهما، وبأن في حجِّ من ليس عليه فرضُ عين جهتين: جهةَ تطوُّع، من حيث إنه ليس عليه فرضُ عين، وجهةَ فرضِ كفاية، من حيث إحياءُ الكعبة.

قال الزركشيُّ: وفيه التزام السؤال إذ لم يَخلُص لنا حجُّ تطوُّع على حِدَتِه، وفي الأول التزامه بالنسبة للمكلَّفين، ثم إنه لا يَبعُد وقوعه من غيرهم فرضًا، ويَسقُط به فرض الكفاية عن المكلَّفين، كما في الجهاد وصلاة الجنازة. انتهى.

واختُلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ فعند الشافعية على التراخي؛ لأن الحج فُرِض سنةَ خمس؛ كما جزم به الرافعيُّ في كتاب "الحج"، أو سنةَ ستٍّ كما صحَّحه في "السير"، وتَبِعه عليه في "الروضة"، ونقله في "شرح المهذَّب" عن الأصحاب، وعليه الجمهور؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى:

﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ﴾

[البقرة: 196]،

وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداءُ الفرض، ويؤيِّده ما أخرجه الطبريُّ بأسانيدَ صحيحةٍ عن علقمةَ ومسروقٍ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ أنهم قرؤوا: (وأقيموا الحج)، وقيل: المراد بالإتمام الإكمالُ بعد الشروع، وهو يقتضي تقدُّم فرضِه قبل ذلك، وقد أخَّره ﷺ إلى سنة عشْرٍ من غير مانع، فدلَّ على التراخي، وإليه ذهب اللخميُّ، وصاحب المقدِّمات، والتلمسانيُّ من المالكية، وحكى ابن القصَّار عن مالك أنه على الفور، وتابعه العراقيون، وشَهَره صاحب الذخيرة، وصاحب العدَّة، وابن بزيزة؛ لكن القول بالتراخي مقيَّد بعدم خوف الفَوَات" [6].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "الحَجُّ بفتح الحاء، وهو المصدر، وبالفتح والكسر هو الاسم منه، وأصله القصد، ويُطلق على العمل أيضًا، وعلى الإتيان مرّةً بعد أخرى، وأصل العمرة: الزّيارة. وقال الخليل: الحجُّ كثرة القصد إلى معظَّم. ووجوب الحجِّ معلوم بالضّرورة الدّينيّة، واختُلف في العمرة، فقيل: واجبة، وقيل: مستحبّة، وللشّافعيِّ قولان أصحُّهما وجوبها... والأحاديث المذكورة في الباب تدلُّ على أنّ الحجَّ لا يجب إلّا مرّةً واحدةً، وهو مُجمَع عليه؛ كما قال النّوويُّ والحافظ وغيرهما، وكذلك العمرة عند من قال بوجوبها، لا تجب إلّا مرّةً، إلّا أن ينذر بالحجّ أو العمرة، وجب الوفاء بالنّذر بشرطه، وقد اختلف: هل الحجّ على الفور أو التّراخي؟ وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى، واختُلف أيضًا في وقت ابتداء افتراض الحجّ، فقيل: قبل الهجرة، قال في الفتح: وهو شاذٌّ، وقيل: بعدها، ثمّ اختُلف في سنته، فالجمهور على أنّها سنة ستٍّ؛ لأنّه نزل فيها قوله تعالى:

﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ﴾

[البقرة: 196]،

قال في الفتح: وهذا ينبني على أنّ المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيّده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النَّخَعيِّ بلفظ: (وأقيموا)، أخرجه الطّبرانيُّ بأسانيدَ صحيحةٍ عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشّروع، وهذا يقتضي تقدُّم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصّة ضمام ذكر الأمر بالحجِّ، وكان قدومه على ما ذكر الواقديُّ سنة خمس. وهذا يدلُّ - إن ثبت عنه تقدُّمه - على سنة خمس، أو وقوعه فيها، وقيل: سنة تسع، حكاه النّوويّ في الرّوضة، والماورديُّ في الأحكام السّلطانيّة، ورجّح صاحب الهدي أنّ افتراض الحجّ كان في سنة تسع أو عشر، واستدلّ على ذلك بأدلّة، فلتؤخذ منه. قوله: «لو قلتها لوجبت» استُدلَّ به على أنّ النّبيَّ ﷺ مفوَّض في شرع الأحكام، وفي ذلك خلاف مبسوط في الأصول" [7].

قال الطِّيبيُّ: "وفي قوله: «لو قلتُ: نعم»، أيضًا بحث؛ لأن القول إذا صرِّح به، يجب أن يجريَ على حقيقته إلا إذا منع مانع، فيجري على المجاز... وفي قوله: «لما استطعتم» إشارة إلى أن بناء الأمر على اليُسر والسهولة، لا العُسر والصعوبة، كما ظنَّ السائل.

قوله: «ذروني ما تركتكم»: فيه دليلٌ على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالى:

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾

[الإسراء: ١٥].

وقوله: «فإذا أمرتكم بشيء فَأْتُوا منه ما استطعتم» من أَجَلِّ قواعد الإسلام، ومن جوامع الكَلِم؛ لِمَا يَدخُل فيه ما لا يُحصى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها، فإنه إذا عجز عن بعض أركانها أو شروطها، أتى بالباقي، وإذا عَجَز عن غَسْلِ بعض أعضاء الوضوء أو الغُسل، أو غَسْلِ الممكِن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته، أو لغَسل النجاسة، فعل ما يمكِن، وإذا وجد ما يَستُر بعضَ عَورته، أو حفظ بعض الفاتحة، أتى بالممكِن، وأشباهها غير محصور" [8].

قال ابن القيم رحمه الله: "كانت هِمَمُهم مقصورةً على تنفيذ ما أَمرَهم به، فإذا وَقَع بهم أمر، سألوا عنه، فأجابهم، وقد قال اللّه تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}

[المائدة: 101، 102].

وقد اختُلف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل هي أحكام قَدَريّة أو أحكام شرعيّة؟ على قولين، فقيل: إنّها أحكام شرعيّة عفا اللّه عنها؛ أي: سكت عن تحريمها، فيكون سؤالهم عنها سببَ تحريمها، ولو لم يسألوا لكانت عفوًا، ومنه قوله ﷺ وقد سُئل عن الحجِّ: أفي كلّ عام؟ فقال: «لو قلت: نعم، لوجبت، ذروني ما تركتكم؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم». ويدلُّ على هذا التّأويل حديث أبي ثعلبةَ المذكور: «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا...» الحديث، ومنه الحديث الآخر: «إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وفسّرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدريّة؛ كقول عبد اللّه بن حذافة: من أبي يا رسول اللّه؟ وقول آخر: أين أبي يا رسول اللّه؟ قال: «في النّار». والتّحقيق أنّ الآية تعمُّ النّهي عن النّوعين، وعلى هذا فقوله تعالى:

﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾

[المائدة: 101]

أمّا في أحكام الخلق والقدر، فإنّه يسوءهم أن يبدوَ لهم ما يكرهونه ممّا سألوا عنه، وأمّا في أحكام التّكليف، فإنّه يسوءهم أن يبدوَ لهم ما يشقُّ عليهم تكليفه ممّا سألوا عنه،

وقوله تعالى:

﴿وَإِن تَسْـَٔلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ﴾

[المائدة: 101]

فيه قولان: أحدهما: أنّ القرآن إذا نزل بها ابتداءً بغير سؤال، فسألتم عن تفصيلها وعلمها، أبدى لكم وبيَّن لكم، والمراد بحين النّزول: زمنه المتَّصل به، لا الوقت المقارن للنّزول، وكأنّ في هذا إذنًا لهم في السّؤال عن تفصيل المنزّل ومعرفته بعد إنزاله؛ ففيه رفع لتوهُّم المنع من السّؤال عن الأشياء مطلقًا، والقول الثّاني: أنّه من باب التّهديد والتّحذير؛ أي: ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوءكم، والمعنى لا تتعرّضوا للسّؤال عمّا يسوءكم بيانه، وإن تعرّضتم له في زمن الوحي أبدى لكم.

وقوله:

﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ ﴾

[المائدة: 101]

أي: عن بيانها خبرًا وأمرًا؛ بل طوي بيانها عنكم رحمةً ومغفرةً وحلمًا، واللّه غفور حليم؛ فعلى القول الأوّل، عفا اللّه عن التّكليف بها توسعةً عليكم، وعلى القول الثّاني: عفا اللّه عن بيانها؛ لئلّا يسوءكم بيانها.

﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾

[المائدة:102].

أراد نوع تلك المسائل، لا أعيانها؛ أي: قد تعرّض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلمّا بيّنت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتهم والتّعرُّض لما تعرَّضوا له.

ولم ينقطع حكم هذه الآية؛ بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسّؤال عمّا إن بدا له ساءه؛ بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو اللّه، ومن ههنا قال عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه -: "يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا"، لمّا سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربّه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعلّه يسوءه إن أُبديَ له، فالسّؤال عن جميع ذلك تعرّض لما يكرهه اللّه؛ فإنّه سبحانه يكره إبداءها؛ ولذلك سكت عنها، واللّه أعلم" [9].

قال محمد عبد العزيز الخولي رحمه الله: "يعلِّم الرسول ﷺ الاقتصار في السؤال على ما لا بدَّ لهم منه، وعدم الإلحاح فيما لا فائدة فيه؛ مخافةَ أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَل فيؤدِّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة والمعصية، فيكون العذابُ، وهذا إذا لم يكن المقامُ مَقامَ استفهام واسترشاد، حيث يُحمَد السؤال، ويُذمُّ السكوت، وربما تفضي كثرة السؤال إلى مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، إذ أُمروا أن يذبحوا بقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرةٍ كانت، لامتثلوا؛ ولكنهم شدَّدوا، فشُدِّد عليهم.

ثم أرشدهم إلى أنه يجب عليهم أن يقفوا عند نواهي الرسول ﷺ، ويجتنبوا كلَّ ما حُظر عليهم فعله، فلا يسوغ لهم الإتيان بشيء منه.

وقد استدلَّ بعض العلماء بعموم النهي في هذا الحديث على أن الإكراه أو الضرورة لا تُبيح فعل المنهيِّ عنه؛ كالتداوي بمحرَّم، أو دفع العطش به.

وأن الشرع لم يكلِّفهم إلا بما يطيقونه، فلا يكلِّفهم بما فوق طاقتهم، ولا بما يستحيل عليهم فعله، ويدخل في ذلك كثير من الأحكام؛ كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط، فيأتي بما في مقدوره، وكذا الوضوء، وسَتر العَورة، وحفظ بعض الفاتحة.

وقد استُدلَّ بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالْمَنهيَّات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع مشقَّة الترك، وقيَّد في المأمورات بقدر الطاقة، وقد يقال: إن النهيَ يقتضي الكفَّ عن الشيء، وهذا مقدور لكلِّ أحد، ولا مشقَّةَ فيه، فلا يُتصوَّر عدم الاستطاعة، بخلاف الأمر، فإنه يقتضي الفعل، وقد يُعجَز عن مباشرته، كما هو مشاهَد؛ فلذا قيّد الأمر بالاستطاعة دون النهي" [10].

قال العبّاد رحمه الله: "قوله: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»: فيه تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة دون النهي؛ وذلك أن النهيَ من باب التروك، وهي مستطاعة، فالإنسان مستطيع ألَّا يفعل، وأما الأمر، فقد قيِّد بالاستطاعة؛ لأنه تكليف بفعل، فقد يُستطاع ذلك الفعل، وقد لا يُستطاع، فالمأمور يأتي الإنسان به حسب استطاعته؛ فمثلًا: نُهي عن شُرب الخَمر، والمنهيُّ مستطيع لعدم شُربها، والصلاة مأمور بها، وهو يصلِّيها على حسب استطاعته عن قيام، وإلا فعن جلوس، وإلا فمُضْطَجِع، ومما يوضِّحه في الحِّسَّيات ما لو قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب. فإنه مستطيع ألَّا يَدخُل؛ لأنه تركٌ، ولو قيل له: احمل هذه الصخرة. فقد يستطيع حَمْلَها، وقد لا يستطيع؛ لأنه فعل" [11].



المراجع

1. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1936، 1937). 

2.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 443، 444). 

3. فتح الباري لابن حجر (13/ 260). 

4. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 79). 

5. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1937). 

6. “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” للقسطلانيِّ (3/ 92). 

7. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 331، 332). 

8. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1937، 1938). 

9. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 57، 58). 

10. "الأدب النبوي" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 279). 

11. "شرح الأربعين النووية" للعباد (16/ 9).



ترجمة راوي الحديث:

هو: صُهَيْبُ بنُ سِنانِ بنِ مالك، أبو يحيى، من النَّمِر بن قاسط، ويُعرَف بالرُّوميِّ لأنّه أقام في الرّوم مدَّةً، وهو من أهل الجزيرة سُبي من قرية نِينوى من أعمال الْمَوْصِل، وقد كان أبوه أو عمُّه عاملًا لكسرى، ثمّ إنّه جُلب إلى مكّةَ فاشتراه عبدالله بنُ جُدْعانَ، ويُقال: بل هرب فأتى مكّة وحالَف ابنَ جُدْعان. كان من كبار السابقين البدريِّين، فكان إسلامه بعد بضعةٍ وثلاثين رجلًا، وكان من المستضعفين من المؤمنين الّذين كانوا يُعذَّبون في اللّه بمكّة، قال له النبيُّ ﷺ: «رَبِحَ البَيْعُ أبا يحيى، ربح البيع» عندما ترك مالَه أَجْمَعَ لكفَّار قريش ليُخَلُّوا سبيله للهجرة إلى المدينة، وشَهِد صهيب بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهد كلَّها مع رسول اللّه ﷺ، ولَمّا طُعن عمرُ استنابه على الصّلاة بالمسلمين إلى أن يتَّفِق أهل الشّورى على إمام، وكان موصوفًا بالكرم والسّماحة -رضي الله عنه - تُوُفِّيَ سنة (38هـ)، وهو ابن سبعين سنةً بالمدينة، ودُفِنَ بالبقيع[1].

المراجع

  1. تراجع ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (3/ 169)، "سير أعلام النبلاء" للذهبي (3/ 349)، "الوافي بالوفيات" للصفدي (16/ 195)، "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (3/ 364).


الشرح المفصَّل للحديث:

إن المؤمن كلُّ أحواله خير له، وإن "الإيمان نصفان: نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر

قال تعالى:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}

[لقمان: 31]"[1]

وفي الحديث يروي أبو يحيى صُهَيْبِ بنِ سِنانٍ - رضي الله عنه -

عن رسول الله ﷺ أنه قال:

«عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ»

"أي: عجبتُ عَجَبًا لأمر المؤمن وشأنه، وما له في كلِّ الأحوال، فإنّ جميع أموره خيرٌ له في المآل، وإن كان بعضُه شرًّا صُوريًّا في الحال.

"«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير»؛ أي: إن الرسول ﷺ أظهر العَجَب على وجه الاستحسان «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه؛ فإن شأنه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن"[2].

ثم فصَّل الرسول ﷺ هذا الأمر الخير، فقال:

«إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»

"هذه حال المؤمن، وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدَره بين أمرين: مؤمن وغير مؤمن؛ فالمؤمن على كلِّ حال ما قدَّر الله له، فهو خير له، إن أصابته الضرَّاء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجر الصابرين، وإن أصابته سرَّاءُ من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل، شَكَر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - فيشكر الله، فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا؛ نعمة الدنيا بالسرَّاء، ونعمة الدين بالشُّكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أُصِيب بضرَّاءَ أم سرَّاء. وأما الكافر فهو على شرٍّ، إن أصابته الضرَّاء لم يصبر؛ بل يتضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسبَّ الدهر، وسبَّ الزمن؛ بل وسبَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإن أصابته سرَّاء لم يشكر الله، فكانت هذه السرَّاء عقابًا عليه في الآخرة؛ لأن الكافر لا يأكل أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم"[3].

"قوله: «إن أصابته سرَّاء»؛ أي: نَعْماءُ، وسَعَةُ عَيش، ورَخَاء، وتوفيق طاعة من أداء وقضاء، «شَكَر فكان»؛ أي: شُكْرُه «خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ»؛ أي: فَقْرٌ ومرض ومحنة وبَليَّة «صَبَر، فكان»؛ أي: صبرُه «خيرًا له»، وبهذا تبيَّن قول بعض العارفين: إنّه لا يُقال على الإطلاق: إنَّ الفقير الصّابر أفضلُ من الغنيِّ الشّاكر؛ بل حالة التّفويض والتّسليم أَوْلى، والقيامُ بمقتضى الوقت أعلى بحسب اختلاف الأحوال وتفاوت الرّجال... لذا؛ قال عمر - رضي اللّه تعالى عنه -: الفقر والغنى مطيَّتان لا أبالي أيَّتهما أركب. وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر لطاعة اللّه، أو طلب الموت لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء اللّه تعالى، ثمّ المعتمَد التّفويض والتّسليم

كما أشار إليه ﷺ في دعائه:

«اللّهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لي من كلّ شرّ»

ثمّ وجَّه حصر الخير في كلِّ حال للمؤمن الكامل؛ لأنّ غيره إن أصابته سرَّاءُ شَبِع وبَطَر، وإن أصابته ضرَّاءُ جزع وكَفَر، بخلاف حال المؤمن"[4].

وقد "جعل الله - سبحانَه وتعالى - عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمة من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدِّرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم، الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به - صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال:

«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلَّا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له»

فهذا الحديث يَعمُّ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها، وشكرَ لمحبوبها؛ بل هذا داخلٌ في مسمَّى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر" [5].

منزلة الشكر:

"وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضى، وزيادة؛ فالرضى مندرج في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان كما تقدَّم، والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووَصَف به خواصَّ خلقه، وجعله غايةَ خَلقه وأمْرِه، ووَعَد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه؛ فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره؛ بل يعيد الشاكر مشكورًا، وهو غاية الربِّ من عبده، وأهله هم القليل من عباده"[6].

و"الشكر: اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعِم؛ ولهذا سمَّى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن (شُكرًا)، فمعرفة النعمة ركنٌ من أركان الشكر، لا أنها جُملة الشكر؛ فالشكر: الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له، ومحبَّته، والعمل بما يرضيه فيها؛ لكن لَمَّا كان معرفتها رُكْنَ الشُّكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، جعل أحدَهما اسمًا للآخر. ومعنى أن الشكر هو السبيل إلى معرفة المنعم، يعني: أنه إذا عَرَف النعمة توصَّل بمعرفتها إلى معرفة المنعِم بها، وهذا من جهة معرفة كونها نعمةً، لا من أيِّ جهة عَرَفها بها، ومتى عَرَف المنعِم أحبَّه، وجدَّ في طلبه، فإنَّ من عرف الله أحبَّه لا محالةَ، ومن عَرَف الدنيا أبغضها لا محالة"[7].

والله تعالى "سمَّى نفسه شاكرًا وشَكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذينِ الاسمين، فأعطاهم من وصفه، وسمَّاهم باسمه، وحسبُك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا، وإعادته للشاكر مشكورًا

كقوله:

{إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}

[الإنسان: 22]

ورضى الرب عن عبده به

كقوله:

{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

[الزمر: 7]

وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنهم هم خواصُّه

كقوله:

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

[سبأ: 13]

وفي الصحيحين

عن النبيِّ ﷺ أنه قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: تَفْعَلُ هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[8]

وقال لمعاذ:

«والله، يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك»[9]"[10].

"والشكر معه المزيد أبدًا

لقوله تعالى:

{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}

[إبراهيم: 7]

فمتى لم تَرَ حالك في مزيد، فاستقبل الشُّكر"[11].

الفرق بين الحمد والشكر:

"الحمد يتضمَّن المدحَ، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه: الحمد أعمُّ من الشُّكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان؛ فإن الله تعالى يُحمَد على ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والْمَثَل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى... وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمُّ من جهة أنواعه، والحمد أعمُّ من جهة أسبابه"[12].

منزلة الصبر:

"الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا، وهو واجب بإجماع الأمَّة، وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"[13].

"والصبر في اللغة: الحبس والكفُّ، ومنه: قُتِل فلان صَبْرًا إذا أُمسِك وحُبس

ومنه قوله تعالى:

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}

[الكهف: 28]

أي: احبس نفسك معهم، فالصبر: حبس النفس عن الجَزَع والتسخُّط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأولان: صبر على ما يتعلَّق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه"[14].

و"الصبر جِماع الأمر، ونظام الَحزم، ودِعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقُّظ، ثم التثبُّت، ثم التصبُّر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات"[15].

و"إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثالُه وتنفيذه، ونهيٍ يجب عليه اجتنابه وتركه، وقَدَر يجري عليه اتِّفاقًا، ونعمةٍ يجب عليه شُكر الْمُنعِم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازمٌ له إلى الْمَمات، وكلُّ ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين؛ أحدُهما: يوافق هواه ومُراده، والآخر: يُخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما"[16]. 

"وفي الحديث: الحثُّ على الصبر على الضرَّاء، وأن ذلك من خصال المؤمنين، فإذا رأيتَ نفسك عند إصابة الضرَّاء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى - وتحتسب الأجر على الله، فذلك عُنوان الإيمان، وإن رأيتَ العكس، فلُمْ نفسَكَ، وعدِّلْ مَسِيرك، وتُبْ إلى الله. وفي الحديث أيضًا: الحثُّ على الشُّكر عند السرَّاء؛ لأنه إذا شكر الإنسان ربَّه على نعمة، فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم

كما قال الله تعالى:

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}

[إبراهيم: 7]

وإذا وفَّق الله الإنسان للشُّكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شُكرها مرَّة ثالثة، وهكذا؛ لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه، فهذه نعمة"[17].

أنواع الصبر:

"والصبر على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله؛ فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأن صبر العبد بربِّه لا بنفسه

كما قال تعالى:

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}

[النحل: 127]

يعني: إن لم يصبِّرك هو لم تَصبِر، والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبَّةَ الله، وإرادة وجهه، والتقرُّب إليه، لا لإظهار قوَّة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض، والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الدينيِّ منه، ومع أحكامه الدينية صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مُقِيمًا بإقامتها، يتوجَّه معها أين توجَّهت ركائبها، وينزل معها أين استقلَّت مَضَارِبها، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله؛ أي: قد جعل نفسه وَقْفًا على أوامره ومَحابِّه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصدِّيقين"[18].

"وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فالصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"[19].

مراتب الصابرين:

"هي خمس مراتب: صابر، ومصطبرِ، ومتصبِّر، وصَبور، وصبَّار؛ فالصابر: أعمُّها، والمصطبر: المكتسب الصبرَ المليء به، والمتصبِّر: المتكلِّف حامل نفسه عليه، والصَّبور: العظيم الصبر، الذي صبره أشدُّ من صبر غيره، والصبَّار: الكثير الصبر؛ فهذا في القَدْر والكمِّ، والذي قبلَه في الوصف والكَيف. وقال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: الصبر مطيَّةٌ لا تكبو"[20].

"وإذا اعتبر العبدُ الدِّينَ كلَّه، رآه يَرجِعُ بجُملته إلى الصبر والشكر، وذلك؛ لأن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة حتى يفعلَها؛ فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلَّا بعد صبر ومُصابرة، ومجاهدةٍ لعدوِّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات، وفِعلُه للمستحبَّات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهيِّ حتى لا يفعلَه؛ فإنّ النفسَ ودواعيَها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَرِّئُه عليها، فبحسب قوَّة الصبر، يكون تركُه لها. قال بعض السَّلَف: أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلَّا صِدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ فيه؛ كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يَسهُل الصبر فيها؛ لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدَرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمَّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفِكرة في فوائدها، وما في حَشْوِها من النِّعَم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها، والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقِّه نعمةً، فلا يزالُ ترديد قلبِه ولسانِه فيها: "ربِّ أَعِنِّي على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك"، وهذا يَقْوى ويَضعُف بحسب قوَّة محبَّة العبد لله وضعفِها. النوع الرابع: ما يَحصُل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا؛ لأنّ النفس تستشعِرُ الْمُؤذيَ لها، وهي تكره الغَلَبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدِّيقون.

وكان نبيُّنا ﷺ إذا أُوذِيَ يقول:

«يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر»[21].

ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدَّةُ أشياءَ؛ أحدها: أن يشهدَ أن الله - سبحانه وتعالى - خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرَّك في العالم العُلْوِيِّ والسُّفليِّ ذرَّة إلَّا بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بك، تَسْتَرِحْ من الهمِّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه

كما قال تعالى:

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}

[الشورى: 30]

فإذا شَهِد العبدُ أن جميع ما يناله من المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلَّا ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولا رُفِع إلَّا بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر

كما قال تعالى:

{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}

[الشورى: ٤٠]" [22]

وقد اقترن الصبر "بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين، وبالإيمان، وبالتقوى، والتوكُّل، وبالشُّكر، والعمل الصالح، والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له"[23].
"والشكوى إلى الله - عزَّ وجلَّ - لا تنافي الصبر؛ فإن يعقوب - عليه السلام - وَعَد بالصبر الجميل، والنبيُّ إذا وَعَد لا يُخلِف

ثم قال:

{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}

[يوسف: 86]

وكذلك أيوب أخبر الله عنه أنه وَجَده صابرًا

مع قوله:

{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

[الأنبياء: 83]

وإنما ينافي الصبرَ شكوى الله، لا الشكوى إلى الله"[24].

المراجع

  1. "جامع المسائل" لابن تيمية (1/ 165).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 197، 198).
  3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 198).
  4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3317).
  5. "جامع المسائل" لابن تيمية (1/ 165).
  6. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 242).
  7. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 247).
  8. رواه البخاريُّ (4836)، ومسلم (2819).
  9. رواه أحمد (22470)، وأبو داود (1522)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (7969).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 243).
  11. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 246).
  12. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 378، 379).
  13. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 152).
  14. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 155، 156).
  15. "روضة العقلاء" لابن حبَّانَ البُستيِّ (ص 161).
  16. "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم ( ص 101).
  17. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 199).
  18. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 157، 158).
  19. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 160).
  20. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 158).
  21. رواه البخاريُّ (3405)، ومسلم (1062).
  22. "جامع المسائل" لابن تيمية (1/ 165 - 168).
  23. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 154، 155).
  24. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 161).


النقول:

قال الملا علي القاري رحمه الله:  "«عجبًا»؛ أي: عجبتُ عَجَبًا «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه، وما له في كلِّ حالِه «إنّ أمره كلَّه» بالنَّصب، ويجوز رفعُه؛ أي: جميع أموره «له خير»؛ أي: خيرٌ له في المآل، وإن كان بعضُه شرًّا صُوريًّا في الحال، وقُدِّم الظّرف اهتمامًا، «وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن»، قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "مَظهَر وقع موقع الْمُضمَر ليُشعِر بالعليَّة" انتهى. وفيه أنّ الإظهار والإضمار مستويانِ في الإشعار بالعليَّة، ولعلَّ النُّكتة هي إظهار الإشعار على وجه التَّصريح؛ فإنّه آكَد من طريق التَّلويح، ثمّ بيَّنه على وجه التّوضيح بقوله: «إن أصابته سرَّاء»"[1].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير»؛ أي: إن الرسول ﷺ أظهر العَجَب على وجه الاستحسان «لأمر المؤمن»؛ أي: لشأنه؛ فإن شأنه كلَّه خير، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن"[2].

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين: منزلة الشكر، وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرضى، وزيادة؛ فالرضى مندرج في الشكر؛ إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الإيمان كما تقدَّم، والإيمان نصفان: نصف شكر ونصف صبر، وقد أمر الله به، ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووَصَف به خواصَّ خلقه، وجعله غايةَ خَلقه وأمْرِه، ووَعَد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته، وأخبر أن أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه؛ فإنه سبحانه هو الشكور، وهو يوصل الشاكر إلى مشكوره؛ بل يعيد الشاكر مشكورًا، وهو غاية الربِّ من عبده، وأهله هم القليل من عباده"[3].

قال ابن القيم رحمه الله: "والشكر على نِعَمه يتضمَّن رؤية كلِّ ما منه نعمةً وإحسانًا وإن ساء عبدَه"[4].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "قوله: «إن أصابته سرَّاء»؛ أي: نَعْماءُ، وسَعَةُ عَيش، ورَخَاء، وتوفيق طاعة من أداء وقضاء، «شَكَر فكان»؛ أي: شُكْرُه «خيرًا له، وإن أصابته ضرَّاءُ»؛ أي: فَقْرٌ ومرض ومحنة وبَليَّة «صَبَر، فكان»؛ أي: صبرُه «خيرًا له»، وبهذا تبيَّن قول بعض العارفين: إنّه لا يُقال على الإطلاق: إنَّ الفقير الصّابر أفضلُ من الغنيِّ الشّاكر؛ بل حالة التّفويض والتّسليم أَوْلى، والقيامُ بمقتضى الوقت أعلى بحسب اختلاف الأحوال وتفاوت الرّجال... لذا؛ قال عمر - رضي اللّه تعالى عنه -: الفقر والغنى مطيَّتان لا أبالي أيَّتهما أركب. وعلى هذا الاختلاف الواقع بين القوم في طلب طول العمر لطاعة اللّه، أو طلب الموت لخوف الفتنة، أو للاشتياق إلى لقاء اللّه تعالى، ثمّ المعتمَد التّفويض والتّسليم

كما أشار إليه ﷺ في دعائه:

«اللّهمَّ أَحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي، واجعل الحياة زيادةً لي في كلّ خير، واجعل الموت راحةً لي من كلّ شرّ»

ثمّ وجَّه حصر الخير في كلِّ حال للمؤمن الكامل؛ لأنّ غيره إن أصابته سرَّاءُ شَبِع وبَطَر، وإن أصابته ضرَّاءُ جزع وكَفَر، بخلاف حال المؤمن"[5].

قال ابن القيم رحمه الله: "وسمى نفسه شاكرًا وشكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذينِ الاسمين، فأعطاهم من وصفه، وسمَّاهم باسمه، وحسبُك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا، وإعادته للشاكر مشكورًا

كقوله:

{إِنَّ هَٰذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}

[الإنسان: 22]

ورضى الرب عن عبده به

كقوله:

{وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}

[الزمر: 7]

وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنهم هم خواصُّه

كقوله:

{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}

[سبأ: 13]

وفي الصحيحين

عن النبيِّ ﷺ أنه قام حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: تَفْعَلُ هذا وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: «أفلا أكون عبدًا شكورًا»[6]

وقال لمعاذ:

«والله، يا معاذ إني لأحبك فلا تنس أن تقول في دبر كل صلاة: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»[7]"[8].

قال ابن عثيمين رحمه الله:

"ثم فصَّل الرسول ﷺ هذا الأمر الخير، فقال:

«إن أصابته سرَّاءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له»

هذه حال المؤمن. وكل إنسان فإنه في قضاء الله وقدَره بين أمرين: مؤمن وغير مؤمن؛ فالمؤمن على كلِّ حال ما قدَّر الله له، فهو خير له، إن أصابته الضراء صبر على أقدار الله، وانتظر الفرج من الله، واحتسب الأجر على الله؛ فكان ذلك خيرًا له، فنال بهذا أجر الصابرين، وإن أصابته سرَّاءُ من نعمة دينية؛ كالعلم والعمل الصالح، ونعمة دنيوية؛ كالمال والبنين والأهل، شَكَر الله، وذلك بالقيام بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - فيشكر الله، فيكون خيرًا له، ويكون عليه نعمتان: نعمة الدين، ونعمة الدنيا؛ نعمة الدنيا بالسرَّاء، ونعمة الدين بالشُّكر، هذه حال المؤمن، فهو على خير، سواء أُصِيب بضرَّاءَ أم سرَّاء. وأما الكافر فهو على شرٍّ - والعياذ بالله - إن أصابته الضرَّاء لم يصبر؛ بل يتضجَّر، ودعا بالويل والثُّبور، وسبَّ الدهر، وسبَّ الزمن؛ بل وسبَّ الله - عزَّ وجلَّ - ونعوذ بالله، وإن أصابته سرَّاء لم يشكر الله، فكانت هذه السرَّاء عقابًا عليه في الآخرة؛ لأن الكافر لا يأكل أكلة، ولا يشرب إلا كان عليه فيها إثم"[9].

قال ابن القيم رحمه الله: "والشكر معه المزيد أبدًا

لقوله تعالى:

{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}

[إبراهيم: 7]

فمتى لم تَرَ حالك في مزيد، فاستقبل الشُّكر"[10].

قال ابن القيم رحمه الله: "الشكر: اسم لمعرفة النعمة؛ لأنها السبيل إلى معرفة المنعِم؛ ولهذا سمَّى الله تعالى الإسلام والإيمان في القرآن (شُكرًا)، فمعرفة النعمة ركنٌ من أركان الشكر، لا أنها جُملة الشكر؛ فالشكر: الاعتراف بها، والثناء عليه بها، والخضوع له، ومحبَّته، والعمل بما يرضيه فيها؛ لكن لَمَّا كان معرفتها رُكْنَ الشُّكر الأعظم الذي يستحيل وجود الشكر بدونه، جعل أحدَهما اسمًا للآخر. قوله: لأنه السبيل إلى معرفة المنعم يعني: أنه إذا عَرَف النعمة توصَّل بمعرفتها إلى معرفة المنعِم بها، وهذا من جهة معرفة كونها نعمةً، لا من أيِّ جهة عَرَفها بها، ومتى عَرَف المنعِم أحبَّه، وجدَّ في طلبه، فإنَّ من عرف الله أحبَّه لا محالةَ، ومن عَرَف الدنيا أبغضها لا محالة"[11].

قال ابن تيمية: "الحمد يتضمَّن المدحَ، والثناء على المحمود بذكر محاسنه، سواء كان الإحسان إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور إلى الشاكر، فمن هذا الوجه: الحمد أعمُّ من الشُّكر؛ لأنه يكون على المحاسن والإحسان؛ فإن الله تعالى يُحمَد على ما لَهُ من الأسماء الحسنى، والْمَثَل الأعلى، وما خلقه في الآخرة والأولى... وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام، فهو أخصُّ من الحمد من هذا الوجه؛ لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعمُّ من جهة أنواعه، والحمد أعمُّ من جهة أسبابه"[12].

قال ابن القيم رحمه الله: "ومعاني الشكر ثلاثة أشياء: معرفة النعمة، ثم قبول النعمة، ثم الثناء بها"[13].

قال ابن القيم رحمه الله: "والصبر في اللغة: الحبس والكفُّ، ومنه: قُتِل فلان صَبْرًا إذا أُمسِك وحُبس

ومنه قوله تعالى:

{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}

[الكهف: 28]

أي: احبس نفسك معهم، فالصبر: حبس النفس عن الجَزَع والتسخُّط، وحبس اللسان عن الشكوى، وحبس الجوارح عن التشويش، وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على امتحان الله، فالأولان: صبر على ما يتعلَّق بالكسب، والثالث: صبر على ما لا كسب للعبد فيه"[14].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفيه أيضًا: الحثُّ على الصبر على الضرَّاء، وأن ذلك من خصال المؤمنين، فإذا رأيتَ نفسك عند إصابة الضرَّاء صابرًا محتسبًا، تنتظر الفرج من الله - سبحانه وتعالى - وتحتسب الأجر على الله، فذلك عُنوان الإيمان، وإن رأيتَ العكس، فلُمْ نفسَكَ، وعدِّلْ مَسِيرك، وتُبْ إلى الله. وفي الحديث أيضًا: الحثُّ على الشُّكر عند السرَّاء؛ لأنه إذا شكر الإنسان ربَّه على نعمة، فهذا من توفيق الله له، وهو من أسباب زيادة النعم

كما قال الله تعالى:

{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}

[إبراهيم: 7]

وإذا وفَّق الله الإنسان للشُّكر، فهذه نعمة تحتاج إلى شُكرها مرَّة ثالثة، وهكذا؛ لأن الشكر قلَّ من يقوم به، فإذا منَّ الله عليك وأعانك عليه، فهذه نعمة"[15].

قال ابن القيم رحمه الله: "وهو على ثلاثة أنواع: صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله؛ فالأول: أول الاستعانة به ورؤيته أنه هو المصبِّر، وأن صبر العبد بربِّه لا بنفسه

كما قال تعالى:

{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ}

[النحل: 127]

يعني: إن لم يصبِّرك هو لم تَصبِر، والثاني: الصبر لله، وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبَّةَ الله، وإرادة وجهه، والتقرُّب إليه، لا لإظهار قوَّة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض، والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مراد الله الدينيِّ منه، ومع أحكامه الدينية صابرًا نفسَه معها، سائرًا بسيرها، مُقِيمًا بإقامتها، يتوجَّه معها أين توجَّهت ركائبها، وينزل معها أين استقلَّت مَضَارِبها، فهذا معنى كونه صابرًا مع الله؛ أي: قد جعل نفسه وَقْفًا على أوامره ومَحابِّه، وهو أشدُّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبر الصدِّيقين. قال الجُنَيد: الْمَسِير من الدنيا إلى الآخرة سهل هيِّن على المؤمن، وهجران الخلق في جَنْب الله شديد، والْمَسير من النفس إلى الله صعب شديد، والصبر مع الله أشدُّ. وسُئل عن الصبر فقال: تجرّع المرارة من غير تعبُّس.

قال ذو النون المصريُّ: الصبر: التباعد من المخالفات، والسكون عند تجرُّع غُصَص البَليَّة، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقيل: الصبر: الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور ولا شكوى. وقيل: تعويد النفس الهجومَ على المكاره. وقيل: الْمُقام مع البلاء بحُسن الصُّحبة كالْمُقام مع العافية. وقال عمرو بن عثمان: هو الثبات مع الله، وتلقِّي بلائه بالرَّحب والدَّعَة. وقال الخوَّاص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنَّة. وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبِّين أشدُّ من صبر الزاهدين، واعَجبا! كيف يصبرون؟! وقيل: الصبر هو الاستعانة بالله. وقيل: هو ترك الشكوى"[16].

قال ابن تيمية رحمه الله: "جعل الله - سبحانَه وتعالى - عبادَه المؤمنين بكل منزلة خيرًا منه، فهم دائمًا في نعمة من ربهم، أصابَهم ما يُحِبَّون أو ما يكرهون، وجعل أقضيته وأقداره التي يقضيها لهم ويُقدِّرها عليهم متاجرَ يَربحون بها عليه، وطُرُقًا يصلون منها إليه، كما ثبت في الصحيح عن إمامهم ومتبوعهم، الذي إذا دُعي يوم القيامة كل أناسٍ بإمامهم دُعُوا به - صلواتُ الله وسلامه عليه - أنه قال: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله عجب، ما يقضي الله له من قضاء إلَّا كان خيرًا له، إن أصابته سرَّاءُ شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له»، فهذا الحديث يَعمُّ جميعَ أَقضيتِه لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها، وشكرَ لمحبوبها؛ بل هذا داخلٌ في مسمَّى الإيمان، فإنه كما قال السلف: الإيمان نصفان، نصفٌ صبر، ونصفٌ شكر

كقوله تعالى:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}

[لقمان: 31]" [17]

قال ابن القيم رحمه الله: "وقيل: مراتب الصابرين خمسة: صابر، ومصطبرِ، ومتصبِّر، وصَبور، وصبَّار؛ فالصابر: أعمُّها، والمصطبر: المكتسب الصبرَ المليء به، والمتصبِّر: المتكلِّف حامل نفسه عليه، والصَّبور: العظيم الصبر، الذي صبره أشدُّ من صبر غيره، والصبَّار: الكثير الصبر؛ فهذا في القَدْر والكمِّ، والذي قبلَه في الوصف والكَيف. وقال عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه -: الصبر مطيَّةٌ لا تكبو"[18].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وإذا اعتبر العبدُ الدِّينَ كلَّه، رآه يَرجِعُ بجُملته إلى الصبر والشكر، وذلك؛ لأن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة حتى يفعلَها؛ فإن العبد لا يكاد يفعل المأمورَ به إلَّا بعد صبر ومُصابرة، ومجاهدةٍ لعدوِّه الظاهر والباطن، فبحسب هذا الصبر يكون أداؤُه للمأمورات، وفِعلُه للمستحبَّات. النوع الثاني: صبرٌ عن المنهيِّ حتى لا يفعلَه؛ فإنّ النفسَ ودواعيَها وتزيين الشيطان وقُرَناء السوء تأمرُه بالمعصية، وتُجَرِّئُه عليها، فبحسب قوَّة الصبر، يكون تركُه لها. قال بعض السَّلَف: أعمالُ البِرِّ يَفعلُها البَرُّ والفاجر، ولا يَقدِرُ على ترك المعاصي إلَّا صِدِّيق. النوع الثالث: الصبر على ما يُصِيبُه بغير اختيارِه من المصائب، وهي نوعان: نوع لا اختيارَ للخلقِ فيه؛ كالأمراضِ وغيرِها من المصائب السماوية، فهذه يَسهُل الصبر فيها؛ لأن العبْدَ يشهدُ فيها قضاءَ اللهِ وقدَرَه، وأنه لا مدخلَ للناس فيها، فيصبر إمّا اضطرارًا وإمَّا اختيارًا، فإن فتحَ الله على قلبه بابَ الفِكرة في فوائدها، وما في حَشْوِها من النِّعَم والألطاف، انتقل من الصبر عليها إلى الشكر لها، والرضا بها، فانقلبت حينئذٍ في حقِّه نعمةً، فلا يزالُ هِجِّيرا قلبِه ولسانِه فيها: "رب أَعِنِّي على ذكرِك وشكرك وحسنِ عبادتك"، وهذا يَقْوى ويَضعُف بحسب قوَّة محبَّة العبد لله وضعفِها. النوع الرابع: ما يَحصُل له بفعل الناس في ماله أو عِرضِه أو نفسِه، فهذا النوع يَصعُب الصبرُ عليه جدًّا؛ لأنّ النفس تستشعِرُ الْمُؤذيَ لها، وهي تكره الغَلَبة، فتَطلبُ الانتقام، فلا يَصبِر على هذا النوع إلاّ الأنبياء والصدِّيقون.

وكان نبيُّنا ﷺ إذا أُوذِيَ يقول:

«يَرحمُ اللهُ موسى، لقد أُوذِي بأكثر من هذا فصَبر»[19].

ويُعِينُ العبدَ على هذا الصبر عدَّةُ أشياءَ؛ أحدها: أن يشهدَ أن الله - سبحانه وتعالى - خالقُ أفعالِ العباد، حركاتِهم وسَكَناتِهم وإراداتِهم، فما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يتحرَّك في العالم العُلْوِيِّ والسُّفليِّ ذرَّة إلَّا بإذنه ومشيئتِه، فالعباد آلة، فانظر إلى الذي سَلَّطَهم عليك، ولا تَنظُرْ إلى فِعلِهم بك، تَسْتَرِحْ من الهمِّ والغَمِّ. الثاني: أن يَشْهَد ذُنُوبَه، وأنّ الله إنما سلَّطهم عليه بذنبه

كما قال تعالى:

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}

[الشورى: 30]

فإذا شَهِد العبدُ أن جميع ما يناله من المكروه فسببُه ذنوبُه، اشتغلَ بالتوبة والاستغفار من الذنوب التي سلَّطهم عليه بسببها، عن ذَمِّهم ولَومِهم والوقيعةِ فيهم، وإذا رأيتَ العبدَ يقع في الناس إذا آذَوْه، ولا يَرجع إلى نفسِه باللوم والاستغفار، فاعلمْ أن مصيبتَه مصيبةٌ حقيقية، وإذا تاب واستغفر وقال: هذا بذنوبي، صارتْ في حقّهِ نعمةً. قال علي بن أبي طالب -كرَّمَ الله وجهَه- كلمةً من جواهرِ الكلام: لا يَرجُوَنَّ عبدٌ إلَّا ربَّه، ولا يَخافَنَّ عبدٌ إلاّ ذنبَه. ورُوِي عنه وعن غيرِه: ما نزلَ بلاءٌ إلَّا بذنبٍ، ولا رُفِع إلَّا بتوبة. الثالث: أن يشهد العبدُ حُسْنَ الثواب الذي وعده الله لمن عَفَا وصَبَر

كما قال تعالى:

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}

[الشورى: ٤٠]" [20]

قال ابن القيم رحمه الله: "وقد أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه بالصبر الجميل، والصفح الجميل، والهجر الجميل، فسمعتُ شيخ الاسلام ابن تيمية - قدَّس الله روحه – يقول: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه ولا معه، والصفح الجميل هو الذى لا عتاب معه، والهجر الجميل هو الذي لا أذى معه"[21].

قال أبو حاتم رحمه الله: "الصبر على ضروب ثلاثة: فالصبر عن المعاصي، والصبر على الطاعات، والصبر عند الشدائد المصيبات، فأفضلها الصبر عن المعاصي، فالعاقلُ يدبِّر أحواله بالتثبُّت عند الأحوال الثلاثة التي ذكرناها بلزوم الصبر على المراتب التي وصفناها قبلُ، حتى يرتقيَ بها إلى درجة الرضا عن الله - جل وعلا - في حال العُسر واليُسر معًا"[22]. 
قال ابن القيم رحمه الله: "قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا، وهو واجب بإجماع الأمَّة، وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر"[23].

قال ابن القيم رحمه الله: "اقترانه بمقامات الإسلام والإيمان كما قرنه الله سبحانه باليقين، وبالإيمان، وبالتقوى، والتوكُّل، وبالشُّكر، والعمل الصالح، والرحمة؛ ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبرَ له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له"[24].

قال ابن القيم رحمه الله: "والشكوى إلى الله - عزَّ وجلَّ - لا تنافي الصبر؛ فإن يعقوب - عليه السلام - وَعَد بالصبر الجميل، والنبيُّ إذا وَعَد لا يُخلِف

ثم قال:

{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}

[يوسف: 86]

وكذلك أيوب أخبر الله عنه أنه وَجَده صابرًا

مع قوله:

{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}

[الأنبياء: 83]

وإنما ينافي الصبرَ شكوى الله، لا الشكوى إلى الله"[25].

قال أبو حاتم رحمه الله: "الصبر جِماع الأمر، ونظام الَحزم، ودِعامة العقل، وبذر الخير، وحيلة من لا حيلة له، وأول درجته الاهتمام، ثم التيقُّظ، ثم التثبُّت، ثم التصبُّر، ثم الصبر، ثم الرضا، وهو النهاية في الحالات"[26].

قال ابن القيم رحمه الله: "إن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثالُه وتنفيذه، ونهيٍ يجب عليه اجتنابه وتركه، وقَدَر يجري عليه اتِّفاقًا، ونعمةٍ يجب عليه شُكر الْمُنعِم عليها، وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه، فالصبر لازمٌ له إلى الْمَمات، وكلُّ ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين؛ أحدُهما: يوافق هواه ومُراده، والآخر: يُخالفه، وهو محتاج إلى الصبر في كلٍّ منهما"[27].

 

المراجع

  1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3317).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 197، 198).
  3. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 242).
  4. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 185).
  5. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3317).
  6. رواه البخاريُّ (4836)، ومسلم (2819).
  7. رواه أحمد (22470)، وأبو داود (1522)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (7969).
  8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 243).
  9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 198).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 246).
  11. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 247).
  12. "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 378، 379).
  13. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 247).
  14. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 155، 156).
  15. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 199).
  16. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 157، 158).
  17. "جامع المسائل" لابن تيمية (1/ 165).
  18. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 158).
  19. رواه البخاريُّ (3405)، ومسلم (1062).
  20. "جامع المسائل" لابن تيمية (1/ 165 - 168).
  21. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 160).
  22. "روضة العقلاء" لابن حبَّانَ البُستيِّ (ص 162).
  23. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 152).
  24. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 154، 155).
  25. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 161).
  26. "روضة العقلاء" لابن حبَّانَ البُستيِّ (ص 161).
  27. "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" لابن القيم ( ص 101).

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،

عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ:

«إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي»؛ أي: يُوصِل «إِلَى البِرِّ»؛

أي: العمل الصالح الخالص من كلِّ ذَمٍّ، والبرُّ اسم جامع لكلِّ خير.

«وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ»؛ أي: يعتاد الصدق في كلِّ أمر «حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا»؛ أي: يصير الصِّدْقُ صفةً ذاتية له، فيَدخُل في زُمرة الصِّدِّيقين، ويستحقُّ ثوابهم. «وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ»؛ أي: الْمَيل عن الاستقامة إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي، والفجور: اسمٌ جامع لكلِّ شرٍّ. «وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ»؛ أي: يُحكَم له «عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»؛ أي: يصير الكذب صفةً ملازمة له.

الشرح المفصَّل للحديث:

لقد أمر الإسلام بالصِّدق، وحثَّ عليه في جميع المعاملات التي يقوم بها المسلم، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين

يقول الله - عزَّ وجلَّ -:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

وعن أبي سفيان في حديثه الطويل في قصة هِرَقْلَ عظيمِ الروم: قال هرقلُ: فماذا يأمركم؟ - يعني النبيَّ ﷺ - قال أبو سفيانَ: قلتُ: "يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والصدقة، والعفاف، والصلة"[1].

ومنزلة الصدق هي المنزلة العظمى في الدين؛ فالصدق هو "الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأَقْوَم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطِعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ الْمُنعَمَ عليهم بالنبيِّين والصِّديقين والشهداء والصالحين

فقال تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]"[2]

و"إنَّ الله - جلَّ وعلا - فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعوِّد آلةً خَلَقها الله للنُّطق بتوحيده بالكذب؛ بل يجب عليه المداوَمة برعايته بلزوم الصدق، وما يَعُود عليه نفعه في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا"[3].

وفي حديث الباب يروي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي»؛ أي: يُوصِل «إِلَى البِرِّ»؛ أي: العمل الصالح الخالص من كلِّ ذَمٍّ، والبرُّ اسم جامع لكلِّ خير. «وَإِنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ»؛ أي: يعتاد الصدق في كلِّ أمر «حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا»؛ أي: يصير الصِّدْقُ صفةً ذاتية له، فيَدخُل في زُمرة الصِّدِّيقين، ويستحقُّ ثوابهم. «وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ»؛ أي: الْمَيل عن الاستقامة إلى الفساد، والانطلاق إلى المعاصي، والفجور: اسمٌ جامع لكلِّ شرٍّ. «وَإِنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ»؛ أي: يُحكَم له «عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»؛ أي: يصير الكذب صفةً ملازمة له.

ومعنى الحديث "أنّ الصّدق يهدي إلى العمل الصّالح الخالص من كلِّ مذموم، والبرَّ اسم جامع للخير كلِّه، وقيل: البرُّ الجنَّة، ويجوز أن يتناول العمل الصّالح والجنّة، وأمّا الكذب فيُوصِل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي.

قوله ﷺ:

«وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند اللّه صدِّيقًا، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذَّابًا»

وفي رواية: «ليتحرَّى الصّدق، وليتحرَّى الكذب»، وفي رواية: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإيّاكم والكذبَ»، قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى (يُكتَب) هنا: يُحكَم له بذلك، ويستحقُّ الوصف بمنزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذَّابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظِّه من الصّفتين في الملأ الأعلى، وإمّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوب النّاس وألسنتهم، كما يوضَع له القبول والبغضاء، وإلّا فقَدَرُ اللّه تعالى وكتابه السابق قد سبق بكلِّ ذلك"[4].

و"مصداق حديث عبد الله في كتاب الله: 

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}

[الانفطار: 13 – 14]

والصدقُ أرفع خلال المؤمنين

ألا ترى قوله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني

وروى مالكٌ عن صفوانَ بنِ سليمٍ أنه قيل للنبيِّ ﷺ:

أيكون المؤمن كذَّابًا؟ قال: «لا»[5]

وظاهر هذا معارِض لحديث عبد الله، والتأويلُ الجامع بينهما أن معنى حديث صفوانَ لا يكون المؤمن المستكمِل لأعلى درجات الإيمان كذَّابًا حتى يَغلِب عليه الكَذِب؛ لأن (كذَّاب) وزنُه (فعَّال)، وهو من أبنية المبالغة لمن يَكثُر منه الكذب، ويكرّر حتى يُعرَف به، ومثالُه الكَذُوب أيضًا، ويبيِّن هذا قوله عليه السلام: «إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الصدق منه حتى يستحقَّ اسم المبالغة في الصدق، وكذلك قوله: «إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفةَ علية المؤمنين؛ بل هي من صفات المنافقين وعلاماتهم"[6].

واعلم أنه "متى طَهُر اللسان من الكذب، طَهُر من غيره من الكلام السيِّئ المحرَّم، واستقام حال العبد كلُّه، ومتى لم يستقم اللسان، فَسَد حال العبد كلُّه. وربَّما يعبَّر عن صدق اللسان باستقامة المقال كلِّه

كما في قوله تعالى:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}

[الشعراء: 84]

وقوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ}

[مريم: 50]

يريد الثَّناء عليهم بحقٍّ.

وكما تنقسم الأعمال إلى صِدق وغيرِ صدق - والمراد بالصِّدق ما له نفعٌ ودَوَام - فكذلك أقوال الصِّدق، قد يراد بها ما هو حقٌّ، له نفعٌ وثبات

وجاء من حديث أنس مرفوعًا:

«لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[7].

ويُروى من حديث أبي سعيد رَفَعه:

«إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[8]"[9].

وقد أمر الله تعالى بالصدق، وحثَّ على هذا الخُلُق النبيل كثيرًا في القرآن الكريم

فقال الله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

"أي: اصدُقوا، والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا"[10]. 

وقال تعالى:

{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

[المائدة: 119]

"أي: ينفع الصادقين في الدنيا صِدْقُهم في الآخرة، ولو كَذَبوا، خَتَم الله على أفواههم، ونَطَقت به جوارحهم، فافتُضِحوا"[11].

ووصف الله به نفسه فقال:

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا}

[النساء: 87]

{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}

[النساء: 122]

ووعد أهل الطاعة بأنهم سيكونون مع الصدِّيقين فقال:

{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا}

[النساء: 69]

"قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنَف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله: (فَأُولَئِكَ) إلى الْمُطِيعين، كما تُفيده مَن (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدَّ الله لهم، والصدِّيق المبالِغ في الصدق، كما تفيده الصِّيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة"[12]. 

وقال تعالى:

{ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }

[الأحزاب: 35]

"(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ)؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشرِّ، الذي من قام بهنَّ، فقد قام بالدين كلِّه، ظاهرِه وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم؛ لأن الحسناتِ يُذهِبن السيئاتِ. (وَأَجْرًا عَظِيمًا) لا يَقدُر قَدْرَه، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم"[13].
وغير ذلك من الآيات، وكذلك السنَّة

فعن الحسنِ بنِ عليِّ بنِ أبي طالب - رضي الله عنهما - قال:

حفظتُ من رسول الله ﷺ: «دعْ ما يَريبكَ إلى ما لا يَريبكَ؛ فإن الصدقَ طمأنينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ»[14]

أي: اترك ما تشكُّ في كونه حسنًا أو قبيحًا، أو حلالًا أو حرامًا، واعْدِل عنه إلى ما لا شكَّ فيه، مما تيقَّنْتَ حُسْنَه وحِلَّه؛ فإنَّ الصدق محلُّ الطمأنينة أو سبب الطمأنينة، يطمئنُّ إليه القلب ويَسكُن، وإنَّ الكذب ريبة وقلق للقلب، فإذا وجدتَ نفسك ترتاب في الشيء فاتركه؛ فإنَّ المؤمنَ - ذا النفس الشريفة المطهَّرة عن دَنَس الذنوب، ووَسَخ العيوب – تطمئنُّ نفسه إلى الصدق وترتاب من الكذب، فارتيابك من الشيء مُنبئ عن كونه مَظِنَّة للباطل، فاحذره، وطمأنينتك للشيء إشعار بحقيقته، فتمسَّك به.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ:

قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ»[15].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -

أن رسول الله ﷺ قال:

«أربع إذا كنَّ فيك فلا عليك ما فاتك في الدنيا: حِفْظُ أمانة، وصدق حديث، وحُسن خليقة، وعفَّة في طُعمة»

[16].

واعلم أن "حقيقة الصِّدق أن يَصدُق العبد في موطن يَرى أنه لا يُنجيه فيه إلا الكذب"[17].

قال تعالى:

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}

[الجاثية: 7]

"أي: كذَّاب في مَقَاله، أَثِيم في فِعَاله، وأخبر أنَّ له عذابًا أليمًا، وأنَّ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّم تكفي في عقوبتهم البليغة"[18].

وقال ابن مسعود: "إِنَّ الكذب لا يَصلُح في جِدٍّ ولا هَزْل.

ثم تلا قوله تعالى:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]" [19]

وقال رسول الله ﷺ:

«كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»[20]

و"فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم"[21].

ومن أشدِّ أنواع الكذب افتراءُ الكذب على الله تعالى بالتحليل والتحريم بالهوى

قال الله تعالى:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ 116 مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

[النحل: 116 – 117]

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ}

أي: لا تحرِّموا وتحلِّلوا من تلقاء أنفسكم، كَذِبًا وافتراء على الله، وتقوُّلاً عليه

{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}

لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا بدَّ أن يُظهِر الله خِزْيَهم وإن تمتَّعوا في الدنيا فإنه

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ}ﱠ

ومصيرهم إلى النار

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}ﱠ

فالله تعالى ما حرَّم علينا إلا الخبيثاتِ تفضُّلاً منه، وصيانةً عن كلِّ مستقذَر"[22]. 

وإن من أوضح علامات النفاق الكذب

قال النبيُّ ﷺ:

«أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ»[23].


وقال ﷺ:

«آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا اؤتمنَ خانَ»[24].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (7)، ومسلم (1773).
  2. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  3. "روضة العقلاء" لأبي حاتم (ص 51).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 160).
  5. رواه مالك في "الموطَّأ" (772)، وضعفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1752).
  6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 280، 281).
  7. رواه أحمد (13079)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2554).
  8. رواه الترمذيُّ (2407)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2871).
  9. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 357).
  10. "تفسير ابن كثير" (4/230).
  11. "معالم التنزيل" للبغويِّ (3/123).
  12. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/172).
  13. "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (664).
  14. رواه الترمذيُّ (2518)، والنسائيُّ (5711)، وقال الترمذيُّ: حديث صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 637).
  15. رواه ابن ماجه (4216)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (3291).
  16. رواه أحمد (6652)، والبيهقيُّ في "شعب الإيمان" (6/449)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1718).
  17. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 356).
  18. "تفسير السعديِّ" (ص: 775).
  19. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 356).
  20. رواه مسلم (4).
  21. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (1/340).
  22. "تفسير السعديِّ" (ص: 451).
  23. رواه البخاريُّ (34)، ومسلم (58).
  24. رواه البخاريُّ (33)، ومسلم (59).
النقول:

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: معناه: أنّ الصِّدق يهدي إلى العمل الصّالح الخالص من كلِّ مذموم، والبرَّ اسم جامع للخير كلِّه، وقيل: البرُّ الجنَّة، ويجوز أن يتناول العمل الصّالح والجنّة، وأمّا الكذب فيُوصِل إلى الفجور، وهو الميل عن الاستقامة، وقيل: الانبعاث في المعاصي. قوله ﷺ: «وإنّ الرّجل ليصدق حتّى يكتب عند اللّه صدِّيقًا، وإنّ الرّجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذَّابًا»، وفي رواية: «ليتحرَّى الصّدق، وليتحرَّى الكذب»، وفي رواية: «عليكم بالصّدق؛ فإنّ الصّدق يهدي إلى البرِّ، وإيّاكم والكذبَ»، قال العلماء: هذا فيه حثٌّ على تحرِّي الصِّدق، وهو قصدُه، والاعتناء به، وعلى التّحذير من الكذب والتّساهل فيه؛ فإنّه إذا تساهَل فيه كَثُر منه، فعُرِف به، وكتبه اللّه لمبالغته صدِّيقًا إن اعتاده، أو كذَّابًا إن اعتاده، ومعنى (يُكتَب) هنا: يُحكَم له بذلك، ويستحقُّ الوصف بمنزلة الصِّدِّيقين وثوابهم، أو صفة الكذَّابين وعقابهم، والمراد إظهار ذلك للمخلوقين، إمَّا بأن يكتبه في ذلك ليشتهر بحظِّه من الصّفتين في الملأ الأعلى، وإمّا بأن يُلقيَ ذلك في قلوب النّاس وألسنتهم، كما يوضَع له القبول والبغضاء، وإلّا فقَدَرُ اللّه تعالى وكتابه السابق قد سبق بكلِّ ذلك، واللّه أعلم"[1].

قال ابن بطَّال رحمه الله:

"مصداق حديث عبد الله في كتاب الله:

{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ 13 وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}

[الانفطار: ١٣ – ١٤]

والصدقُ أرفع خلال المؤمنين

ألا ترى قوله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

فجعل الصدق مقارنًا للتقوى، وقيل للقمان الحكيم: ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداءُ الأمانة، وتركي ما لا يَعنيني

وروى مالكٌ عن صفوانَ بنِ سليمٍ أنه قيل للنبيِّ ﷺ:

أيكون المؤمن كذَّابًا؟ قال: «لا»[2]

وظاهر هذا معارِض لحديث عبد الله، والتأويلُ الجامع بينهما أن معنى حديث صفوانَ لا يكون المؤمن المستكمِل لأعلى درجات الإيمان كذَّابًا حتى يَغلِب عليه الكَذِب؛ لأن (كذَّاب) وزنُه (فعَّال)، وهو من أبنية المبالغة لمن يَكثُر منه الكذب، ويكرّر حتى يُعرَف به، ومثالُه الكَذُوب أيضًا، ويبيِّن هذا قوله عليه السلام: «إن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صدوقًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الصدق منه حتى يستحقَّ اسم المبالغة في الصدق، وكذلك قوله: «إن الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابًا»؛ يعني: لا يزال يتكرَّر الكذب منه حتى يغلب عليه، وهذه الصفة ليست صفةَ علية المؤمنين؛ بل هي من صفات المنافقين وعلاماتهم"[3].

قال ابن رجب رحمه الله: "ومتى طَهُر اللسان من الكذب، طَهُر من غيره من الكلام السيِّئ المحرَّم، واستقام حال العبد كلُّه، ومتى لم يستقم اللسان، فَسَد حال العبد كلُّه. وربَّما يعبَّر عن صدق اللسان باستقامة المقال كلِّه

كما في قوله تعالى:

{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}

[الشعراء: ٨٤]

وقوله تعالى:

{وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّ}

[مريم: ٥٠]

يريد الثَّناء عليهم بحقٍّ.

وكما تنقسم الأعمال إلى صِدق وغيرِ صدق - والمراد بالصِّدق ما له نفعٌ ودَوَام - فكذلك أقوال الصِّدق، قد يراد بها ما هو حقٌّ، له نفعٌ وثبات

وجاء من حديث أنس مرفوعًا:

«لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»[4]

أخرَّجه الإمام أحمد. ويُروى من حديث أبي سعيد رَفَعه: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»[5].

وقال مطرّف: من صفا عملُه صفا لسانُه، ومن خلَّط خُلِّط له. وقال يونسُ بنُ عبيد: ما رأيت أحدًا لسانُه منه على بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله"[6].

قال ابن كثير رحمه الله:

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]

أي: اصدُقوا، والزموا الصدق، تكونوا مع أهله، وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم فرجًا من أموركم ومخرجًا"[7]. 

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنَف لبيان فضل طاعة الله والرسول، والإشارة بقوله: (فَأُولَئِكَ) إلى الْمُطِيعين، كما تُفيده مَن (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة، والوصول إلى ما أعدَّ الله لهم، والصدِّيق المبالِغ في الصدق، كما تفيده الصِّيغة، وقيل: هم فضلاء أتباع الأنبياء، والشهداء: من ثبتت لهم الشهادة، والصالحين: أهل الأعمال الصالحة"[8]. 

قال البغويُّ رحمه الله:

{قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}

[المائدة: 119]

أي: ينفع الصادقين في الدنيا صِدْقُهم في الآخرة، ولو كَذَبوا، خَتَم الله على أفواههم، ونَطَقت به جوارحهم، فافتُضِحوا"[9].

قال السعديُّ رحمه الله:

"قوله تعالى:

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}

[الأحزاب: 35]

(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ)؛ أي: لهؤلاء الموصوفين بتلك الصفات الجميلة، والمناقب الجليلة، التي هي ما بين اعتقادات، وأعمال قلوب، وأعمال جوارح، وأقوال لسان، ونفع متعدٍّ وقاصر، وما بين أفعال الخير، وترك الشرِّ، الذي من قام بهنَّ، فقد قام بالدين كلِّه، ظاهرِه وباطنه، بالإسلام والإيمان والإحسان. فجازاهم على عملهم بالمغفرة لذنوبهم؛ لأن الحسناتِ يُذهِبن السيئاتِ. (وَأَجْرًا عَظِيمًا) لا يَقدُر قَدْرَه، إلا الذي أعطاه، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، نسأل الله أن يجعلنا منهم"[10].

قال أبو حاتم رحمه الله: "إنَّ الله - جلَّ وعلا - فضَّل اللسان على سائر الجوارح، ورفع درجته، وأبان فضيلتَه، بأن أنطقه من بين سائر الجوارح بتوحيده، فلا يجب للعاقل أن يعوِّد آلةً خَلَقها الله للنُّطق بتوحيده بالكذب؛ بل يجب عليه المداوَمة برعايته بلزوم الصدق، وما يَعُود عليه نفعه في دارَيْهِ؛ لأنَّ اللسان يقتضي ما عُوِّد؛ إن صدقًا فصدقًا، وإن كذبًا فكذبًا"[11].

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق، وهي منزلة القوم الأعظمِ، الذي منه تنشأ جميع منازل السالكين، والطريق الأَقْوَم الذي من لم يَسِرْ عليه فهو من المنقطِعين الهالكين، وبه تميَّز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكَّان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه، الذي ما وُضع على شيء إلا قطعه، ولا واجَه باطلًا إلا أَرْداه وصَرَعه، مَن صال به لم تُردَّ صَوْلته، ومن نَطَق به، عَلَت على الخصوم كلمته، فهو رُوح الأعمال، ومَحَكُّ الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوَّة، التي هي أرفع درجات العالمين، ومن مساكنهم في الجنَّات، تُجرى العيون والأنهار إلى مساكن الصدِّيقين، كما كان من قلوبهم إلى قلوبهم في هذه الدار مدد متَّصِل ومَعِين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخصَّ الْمُنعَمَ عليهم بالنبيِّين والصِّديقين والشهداء والصالحين

فقال تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}

[التوبة: 119]" {12}

قال السعديُّ رحمه الله:

{وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ}

أي: لا تحرِّموا وتحلِّلوا من تلقاء أنفسكم، كَذِبًا وافتراء على الله، وتقوُّلاً عليه

{لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}

لا في الدنيا، ولا في الآخرة، ولا بدَّ أن يُظهِر الله خِزْيَهم وإن تمتَّعوا في الدنيا فإنه

{مَتَاعٌ قَلِيلٌ }

ومصيرهم إلى النار

{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}

فالله تعالى ما حرَّم علينا إلا الخبيثاتِ تفضُّلاً منه، وصيانةً عن كلِّ مستقذَر"[13].

قال ابن القيم رحمه الله: "إياك والكَذِبَ؛ فإنه يُفسِد عليك تصوُّر المعلومات على ما هي عليه، ويُفسِد عليك تصويرها وتعليمها للناس"[14].  

قال السعديُّ رحمه الله:

{وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}

[الجاثية: 7]

أي: كذَّاب في مَقَاله، أَثِيم في فِعَاله، وأخبر أنَّ له عذابًا أليمًا، وأنَّ مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّم تكفي في عقوبتهم البليغة"[15].

قال ابن الجوزيِّ رحمه الله:

"قوله ﷺ:

«كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلِّ ما سمع»[16].

فيه تأويلان؛ أحدُهما: أن يَرويَ ما يَعلَمه كذبًا، ولا يبيِّنه؛ فهو أحدُ الكاذبين، والثاني: أن يكون المعنى: بحسب المرء أن يكذَّب؛ لأنَّه ليس كلُّ مسموع يصدَّق به، فينبغي تحديث الناس بما تحتمله عقولهم"[17].

المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 160).
  2. رواه مالك في "الموطَّأ" (772)، وضعفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1752).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/ 280، 281).
  4. رواه أحمد (13079)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2554).
  5. رواه الترمذيُّ (2407)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2871).
  6. "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 357).
  7. "تفسير ابن كثير" (4/230).
  8. "فتح القدير" للشوكانيِّ (2/172).
  9. "معالم التنزيل" للبغويِّ (3/123).
  10. "تيسير الكريم الرحمن" للسعدي (664).
  11. "روضة العقلاء" لأبي حاتم (ص 51).
  12. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 257).
  13. "تفسير السعديِّ" (ص: 451).
  14. "الفوائد" لابن القيم (ص 135).
  15. "تفسير السعديِّ" (ص: 775).
  16. رواه مسلم (4).
  17. "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (1/340).

غريب الحديث

مناسككم: المناسك جمعُ مَنْسك -بفَتح السين وكَسرها-: أفعال الحجِّ وشعائره [1].

المراجع

1. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 48): "الْمَنْسك هو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحج كلها مناسك".

المعنى الإجماليُّ للحديث

(يروي جابر رضي الله عنهما يقول: رأيتُ النبيَّ يَرْمي على راحلتِهِ يومَ النَّحْرِ)؛ أي: يرمي راكبًا؛ ليُريَ أصحابه كيف يَرمي، وليُبيِّن لهم أن الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا.

يقول : «لِتأخُذوا مناسكَكم»؛ أي: خُذوا عني مناسكَكم. «فإني لا أدْري لعلِّي لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه»: فيه إشارةٌ إلى توديعهم وإعلامِهم بقُرب وفاته ﷺ، وحثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهازِ الفُرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدّين.


الشرح المفصَّل للحديث

في هذا الحديث بيانُ قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام، وهي تقريرُ حُجِّيَّة أفعال النبيِّ ﷺ، وأنها كقوله في الاتِّباع ووجوب الامتثال.

قوله: (رأيتُ النبيَّ ﷺ يَرْمي على راحلته يومَ النحر)؛ أي: يرمي راكبًا، وهذا ليُريَ أصحابه كيف يَرمي، وكيف يؤدِّي مناسك الحجِّ [1]، وليُبيِّن لهم أن الرميَ يجوز ماشيًا وراكبًا [2].

وقد أجمع أهلُ العلم على أن الرميَ يُجزئ كيف كان ماشيًا أو راكبًا إذا رمى في الْمَرمى، غيرَ أنهم اختلفوا في الأفضل؛ فذهب مالك والشافعيُّ إلى أن السُّنَّة لِمَن وصل مِنًى راكبًا أن يرميَ جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، ومَن وَصَل إليها ماشيًا، استُحِبَّ له أن يرميَها ماشيًا، أما أيام التشريق، ففي السُّنَّة في اليومينِ الأوَّلين أن يرميَ ماشيًا، وفي اليوم الثالث يرمي راكبًا، تأسِّيًا بفعله، وذهب أحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحاقُ بنُ راهوَيْهِ إلى أن السُّنَّة يوم النحر الرمي ماشيًا، وهذا - كما قلنا - خلافٌ في الأحسن والأفضل [3].

وقوله: «لتأخذوا مناسكَكم» اللام هنا لام الأمر، والمعنى: خُذوا عني مناسكَكم، أمرٌ للاقتداء به، وإحالة على فِعله الذي وقع به البيانُ لِمُجمَلات الحجِّ في كتاب الله تعالى، فهو كقوله ﷺ في الصلاة في الحديث عن مالكِ بنِ الحُوَيرث: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي» [4]، فيَلزَم من هذا أن تكون أفعاله في الصلاة والحجِّ واجبةً، إلا ما دلَّ الدليل على عدم وجوبها [5].

قال ابن الطيِّب: "ما كان من أفعال الرسول ﷺ بيانًا لِمُجمَل؛ كالصلاة، والصيام، والحجِّ، وما دعا إلى فعله كقوله: «خذوا عني مناسككم»، وقوله: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصلي»؛ فلا خلافَ بين العلماء أنها على الوجوب" [6].

وتقدير هذا الأمر: هذه الأمور التي أتيتُ بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصفته، وهي مناسكُكم فخُذوها عني، واقْبَلوها، واحفَظوها، واعملوا بها، وعلِّموها الناس [7].

وقوله: «لعلِّي لا أحُجُّ بعد حجَّتي هذه»، (لعلَّ) قد تُفيد الظن، فيكون المراد: لا أدْري ما يُفعَل بي، وأظنُّ أني لا أحُجُّ بعد حَجَّتي هذه، وقد تُفيد التحقيق كما تُستخدم في القرآن، فيكون قد أيقن ﷺ بموته؛ وذلك لأنه قد أُنزِلَت عليه:

﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾

[المائدة: 3]،

ولقول فاطمة رضي الله عنها في الحديث لَمَّا أسرَّ إليها النبيُّ ﷺ قبل موته فبكت، فلمَّا مات قالت: "أَسَرَّ إليَّ: «إن جبريل كان يُعارِضُني القرآن كلَّ سَنة مرةً، وإنه عارضني العام مرتينِ، ولا أراه إلا حضر أَجَلي» [8]؛ فربما قال ذلك بناءً على هذه الْمُنَبِّئات [9].

فقوله ذلك فيه إشارةٌ إلى توديعهم وإعلامهم بقُرْب وفاته ﷺ، وحَثِّهم على الاعتناء بالأخذِ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدين منه قبل أن يُدركه الأجَل [10].

وهذه الحَجَّة التي حَجَّها هي حجَّته الوحيدة، وقد سُمِّيت حَجَّة الوداع لقوله ﷺ فيها: «لعلي لا أحجُّ بعد حجَّتي هذه»، وطفِق بعدها يودِّع أصحابه ويَعِظهم [11].





المراجع

1. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 400).

2. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 312).

3. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1997)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (3/ 549).

4. رواه البخاريُّ (6008).

5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 399).

6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 345).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

8. رواه البخاريُّ (3624)، ومسلم (2450).

9. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1998)، "تفسير ابن رجب الحنبليِّ" (1/ 312).

10. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45)، "فيض القدير" للمناويِّ (5/ 260).

11. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 297)، "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقن (11/ 565).






النقول

قال ابن الأثير رحمه الله: "الْمَنْسك هو المتعبَّد، ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سُمِّيت أمور الحجِّ كلها مناسك" [1].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الحجُّ في اللغة القَصْدُ، وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوَّال، وذو القَعْدَة، وعَشْرُ ليالٍ من ذي الحِجَّة" [2].

قال النوويُّ رحمه الله: "فيه دلالة لما قاله الشّافعيُّ وموافقوه أنّه يُستحبُّ لمن وصل منًى راكبًا أن يرميَ جمرة العقبة يوم النّحر راكبًا، ولو رماها ماشيًا جاز، وأمّا من وصلها ماشيًا فيرميها ماشيًا، وهذا في يوم النّحر، وأمّا اليومان الأوّلان من أيّام التّشريق، فالسُّنّة أن يرميَ فيهما جميع الجمرات ماشيًا، وفي اليوم الثّالث يرمي راكبًا، ويَنفِر، هذا كلُّه مذهب مالك والشّافعيِّ وغيرهما، وقال أحمدُ وإسحاق: يُستحبُّ يومَ النحر أن يرميَ ماشيًا. قال ابن المنذر: وكان ابن عمر وابن الزُّبير وسالم يرمون مشاةً، قال: وأجمعوا على أنّ الرّميَ يجزيه على أيِّ حال رماه إذا وقع في المرمى، وأمّا قوله ﷺ: «لتأخذوا مناسككم»، فهذه اللّام لام الأمر، ومعناه: خذوا مناسككم، وهكذا وقع في رواية غير مسلم، وتقديره هذه الأمور الّتي أتيت بها في حَجَّتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحجِّ وصِفته، وهي مناسككم، فخذوها عني، واقبلوها، واحفظوها، واعملوا بها، وعلِّموها النّاس، وهذا الحديث أصل عظيم في مناسك الحجِّ، وهو نحو قوله ﷺ في الصّلاة: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي»،

وقوله ﷺ:

«لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي هذه»

فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقُرب وفاته ﷺ، وحثِّهم على الاعتناء بالأخذ عنه، وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلُّم أمور الدّين، وبهذا سُمِّيت حجَّة الوداع، واللّه أعلم" [3].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "ويجوز أن تكون اللام للتعليل، والمعلَّل محذوف، و(لعلي) مستأنف؛ أي: لا أدري ما يُفعَل بي؛ أي: أظن أني لا أحجُّ، ويُحتمَل أن يكون للتحقيق، كما يقع في كلام الله تعالى كثيرًا" [4].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "وفي فتاوى قاضِيخَانْ، قال أبو حنيفة ومحمّد - رحمهما اللّه -: الرّميُ كلُّه راكبًا أفضل. اهـ؛ لأنّه رُوي ركوبه - عليه والصّلاة والسّلام - فيه كلِّه، وكأنّ أبا يوسف يحمل ما رُوي من ركوبه - عليه الصّلاة والسّلام - في رمي الجمار كلِّها على أنّه ليُظهِر فعلَه فيُقتدى به، ويُسأل، ويُحفَظ عنه المناسك، كما ذكر في طوافه راكبًا في الظَّهيريّة أطلق استحباب المشي. قال: يُستحبُّ المشيُ إلى الجمار، وإن ركب إليها فلا بأس به، والمشيُ أفضل، وتظهر أولويّته لأنّا إذا حملنا ركوبه - عليه الصّلاة والسّلام - على ما قلنا، يبقى كونه مؤدِّيًا عبادةً، وأداؤها ماشيًا أقرب إلى التّواضع، والخشوع، وخصوصًا في هذا الزّمان، فإنّ عامَّة المسلمين مُشاة في جميع الرّمي، فلا يأمن من الأذى بالرّكوب منهم بالزّحمة اهـ. كلامه عليه الرّحمة. (ويقول): عطف على يرمي، فيكون من قَبيل: عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا، أو الجملة حاليَّة. (لتأخذوا): واللّام لام أمر؛ أي: خذوا عنّي مناسككم، واحفظوها وعلّموها النّاس على طريقة: (فلتفرحوا) بالخطاب شاذًّا. قال الطّيبيُّ - رحمه اللّه -: ويجوز أن تكون اللّام للتّعليل، والمعلَّل محذوف؛ أي: يقول: إنّما فعلت لتأخذوا عنّي مناسككم؛ «فإنّي لا أدري» مفعوله محذوف؛ أي: لا أعلم ماذا يكون «لعلّي لا أحجّ بعد حجّتي» بفتح الحاء، وهي محتمَل أن يكون مصدرًا، وأن يكون بمعنى السَّنة (هذه)؛ أي: الّتي أنا فيها" [5].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» فيه إشارة إلى توديعهم، وإعلامِهم بقُرب وفاته ﷺ؛ ولهذا سمُّيِت حَجَّةَ الوداع" [6].

قال ابن القيم رحمه الله: "فالله سبحانه جعل لأهل كل مِلَّة يومًا يتفرَّغون فيه للعبادة، ويتخلَّون فيه عن أشغال الدنيا، فيومُ الجمعة يومُ عبادة، وهو في الأيام كشهر رمضانَ في الشهور، وساعةُ الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صحَّ له يوم جمعته وسَلِم، سَلِمت له سائر جُمعته، ومن صحَّ له رمضان وسلم، سلمت له سائر سنته، ومن صحت له حجته وسلمت له، صحَّ له سائر عمره، فيومُ الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضانُ ميزان العام، والحجُّ ميزانُ العمر" [7].

قال نافع رحمه الله: كان ابن عمر ﭭ يأتي الجمارَ في الأيام الثلاثة بعدَ يومِ النحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا، ويُخبر أنَّ النبيَّ ﷺ كان يفعلُ ذلك [8].



المراجع

1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (5/ 48).

2. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1936).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 45).

4. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1998).

5. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (5/ 1814، 1815).

6. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (5/ 80).

7. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 386).

8. "شرح مسند الشافعي" للرافعي (4/ 280).




غريب الحديث

سِرْبه: بكسر السين على الأشهر؛ أي: في نفسه، ورُوِي بفتحها (سَرْبه)؛ أي: في مَسلَكه، وقيل: (سَرَبِه) بفتحتين؛ أي: في بيته [1].

حيزت: أي: ضُمَّت وجُمِعت.


المراجع

    1. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).

    المعنى الإجماليُّ للحديث

    يروي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ مِحْصَنٍ الخَطْمِيُّ، عن النبيِّ أنه قال: «مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ»؛ أي: من أصبح آمنًا في نفسِه وأهله وعياله، أو في طريقه، غيرَ خائف من عدوٍّ ونحو ذلك. «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ»؛ أي: صحيحًا في بَدَنه. «عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِهِ»؛ أي: توفَّر له رِزقُ يومِه وما يَحتاجُه مِن مَؤونةٍ وطعامٍ وشرابٍ يَكْفي يومَه. «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»؛ أي: فكأنما ضُمَّت وجُمِعت له الدنيا؛ لأنه اجتمعت له النِّعَم وما يحتاجه، وتمكَّن من الانتفاع بها، فقد تكاملت في حقِّه النِّعمة.

    الشرح المفصَّل للحديث

    إن نِعَم الله تعالى على الإنسان لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فضلًا عن أن يستطيع شُكرَها؛ حتى إن أكثر النِّعَم لا يَدرِيها الإنسان؛ لأنه يَألَفُها، وهذه النِّعَم تَغمُر الإنسانَ، وتَكمُن فيه هو ذاته، وتَفيِض منه، وهو ذاتُه إحدى هذه النِّعَم، التي لا يَشعُر بها إلا حين يفتقدها؛ فمثلًا لا يُدرك الإنسان نِعَم الله تعالى في جسده وما به من أعضاء وأجهزة ووظائفَ مُحكَمةٍ تعمل بغاية الدقَّة، ولا يَشعُر بما في جسده من إنعام إلا حين يُدرِكه الْمَرَض، فيُحِسُّ بالاختلال، وقيمة نعمة صحَّة جَسَده، وكذلك لا يُدرك قيمة الماء إلا حين يَفقِده فيشتدُّ عليه العطش، وهلمَّ جرًّا.

    فكيف يَشكُر المرء هذا الفَيض الغامر من النِّعم الْمُتاحة الْمُباحة من غير ثمن ولا كَدٍّ ولا معاناة؟! ولو أمضى المرء حياته يستعرض آلاء الله عليه، فسيُنفِق عُمُرَه كلَّه، ويبذل جُهده كلَّه، ولا يبلغ من شكر النِّعَم شيئًا.

    وفي هذا الحديث بيانُ ضَرورةِ حاجةِ الإنسانِ إلى الأمانِ والعافيةِ والقُوتِ؛ يقول النبيُّ : «مَنْ أَصْبَحَ»؛ أي: من أصبح في يومه، وفيه إشارة للمؤمن ألَّا يخشى المستقبَل ولا يَحمِل همَّه؛ فإن أمره بيد ربِّه، مدبِّر الأمور، ومقدِّر الأقدار، ومصرِّف الأحوال، وما عليه إلا أن يُحسِن الظنَّ بالله تعالى، ويستبشر ويتفاءل بالخير.

    «آمِنًا فِي سِرْبِهِ»؛ أي: آمنًا في نفسِه وأهله وعياله وبَيته، أو في طريقه، غيرَ خائف من عدوٍّ، آمنًا أن يقتله أحدٌ أو يَسرِقه أو نحو ذلك. 

    "«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ»؛ أي: أيّها المؤمنون «آمنًا»؛ أي: غيرَ خائف من عدوٍّ، أو من أسباب عذابه تعالى بالتَّوبة عن المعاصي، والعِصمة عن الْمَناهي، ولذا؛ قيل: ليس العيدُ لمن لَبِس الجديد؛ إنّما العيد لمن أَمِن الوعيد" [1].

     والأمنُ من أعظم نعم الله على عباده في الدنيا والآخرة، وهو كسائر النِّعم، لا يُدرِك قيمتَها حقًّا إلَّا مَن فَقَدها، وقد وعد الله المؤمنين بالأمن في الدنيا إن حقَّقوا التوحيد، وأخلصوا الإيمان، وعملوا الصالحاتِ؛

    قال تعالى:

    وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ

    [النور: 55].

      ووعد المؤمنين المخلِصين الذين لم يَلبِسوا إيمانهم بظُلم بأن لهم الأمنَ من المخاوفِ والعذاب والشقاء؛ قال تعالى:

    ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوٓا إِيمَٰنَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ

    [الأنعام: 82].

    وبشَّر أولياءه بالأمن وعدم الخوف؛

    قال تعالى:

    ﴿أَلَآ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾ لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلْأَخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ﴾

    [يونس: 62 - 64].

    قوله ﷺ: «مُعَافًى فِي جَسَدِهِ»؛ أي: صحيحًا سالِمًا من العلل والأسقام، حيث تَحصَّلَت له العافيةُ في الجسَدِ فسَلِم مِن المرَضِ والبلاءِ، وكان النبيُّ ﷺ يسأل ربَّه صباحَ مساءَ العافية يقول: «اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْت» [2].

    وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن الكثير من الناس مغبون في هذه النعمة؛

    فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال:

    قال النبيُّ ﷺ: «نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحةُ والفراغُ»

    [3].

    وأرشد النبيُّ ﷺ أمَّته إلى اغتنام الصحَّة قبل المرض؛

    عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»

    [4].

    وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ، وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ» [5].

    قوله ﷺ: «عِنْدَهُ طَعَامُ يَوْمِه»؛ أي: توفَّر له رِزقُ يومِه وما يَحتاجُه مِن مَؤونةٍ وطعامٍ وشرابٍ يَكْفي يومَه. «فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا»؛ أي: فكَأنَّما مَلَك الدُّنيا وجمَعها كلَّها؛ فمَن توَفَّر له الأمانُ والعافيةُ والرِّزقُ لا يَحتاجُ إلى شيءٍ بعدَ ذلك، فكان كمَن ملَك الدُّنيا، وجمَعها، فلا يَحتاجُ إلى شيءٍ آخَرَ، وعلى العبدِ أنْ يحَمْدَ اللهَ تعالى ويشكُرَه على هذه النِّعمِ.

    "يعني: مَن جَمَع الله له بين عافية بَدَنه وأَمْنِ قَلْبِه حيث توجَّه، وكَفَاف عَيْشِه بقُوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع اللهُ له جميع النِّعَم التي مَن مَلَك الدنيا لم يَحصُل على غيرها، فينبغي أن لا يَستقبِل يومَه ذلك إلا بشُكرها بأن يَصرِفها في طاعة المنعِم، لا في معصية، ولا يَفتُر عن ذكره" [6].

    المراجع

    1."مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3250).

    2. رواه البخاريُّ في "الأدب المفرد" (701)، وأحمد (20701)، وأبو داود (5090)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".

    3. رواه البخاريُّ (6412).

    4. رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخَين ولم يُخَرِّجاه، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).

    5. رواه البخاريُّ (6416).

    6. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).



    النقول:

    قال الملا علي القاري رحمه الله: "«مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ»؛ أي: أيّها المؤمنون «آمنًا»؛ أي: غيرَ خائف من عدوٍّ، أو من أسباب عذابه تعالى بالتَّوبة عن المعاصي، والعِصمة عن الْمَناهي، ولذا؛ قيل: ليس العيدُ لمن لَبِس الجديد؛ إنّما العيد لمن أَمِن الوعيد. «فِي سِرْبِهِ»: المشهور كسر السّين؛ أي: في نفسِه، وقيل: السِّرْب الجماعة، فالمعنى: في أهله وعياله، وقيل: بفتح السِّين؛ أي: في مَسلَكه وطريقه، وقيل: بفتحتين؛ أي: في بيته؛ كذا ذَكَره شارح. وقال التُّورِبِشْتِيُّ رحمه اللّه: أبى بعضهم إلّا السَّرَب بفتح السّين والرّاء أن: في بيته، ولم يذكر فيه روايةً، ولو سَلِم له قوله أن يُطلَق السِّرْب على كلِّ بيت، كان قوله هذا حَرِيًّا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلّا أنّ السَّرَب يُقال للبيت الّذي هو في الأرض. وفي القاموس: السِّرْب الطّريق، وبالكسر: الطّريق والبال والقلب والنّفس، وبالتّحريك: جحر الوحش، والحقير تحت الأرض. اه. فيكون المراد من الحديث المبالغة في حصول الأمن، ولو في بيت تحت الأرض ضيِّق كجحر الوحش، أو التّشبيه به في خفائه وعدم ضيائه. «معافًى»: اسم مفعول من باب المفاعلة؛ أي: صحيحًا سالِمًا من العيوب، «في جسده»؛ أي: بدنه ظاهرًا وباطنًا، «عنده قوت يومه»؛ أي: كفاية قوته من وجه الحلال، «فكأنّما حيزت»: بصيغة المجهول من الحيازة، وهي الجمع والضّمُّ. «له»: والضّمير عائد لـ(مَن) رابط للجملة؛ أي: جُمعت له «الدّنيا»؛ أي: «بحذافيرها»: كما في نسخة مصحَّحة؛ أي: بتمامها، والحذافير: الجوانب، وقيل: الأعالي، واحدها حِذْفار أو حُذْفُور، والمعنى، فكأنّما أُعطِي الدّنيا بأسرها" [1].

    قال المناويُّ رحمه الله: "«من أصبح منكم آمنًا في سربه»: بكسر السين على الأشهر؛ أي: في نفسه، ورُوِي بفتحها؛ أي: في مَسلَكه، وقيل: بفتحتين؛ أي: في بيته. «معافًى في جسدِه»؛ 

    أي: صحيحًا بَدَنُه، «عنده قوتُ يومه»؛ أي: غداؤه وعشاؤه الذي يحتاجه في يومه ذلك؛ يعني: مَن جَمَع الله له بين عافية بَدَنه وأَمْنِ قَلْبِه حيث توجَّه، وكَفَاف عَيْشِه بقُوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع اللهُ له جميع النِّعَم التي مَن مَلَك الدنيا لم يَحصُل على غيرها، فينبغي أن لا يَستقبِل يومَه ذلك إلا بشُكرها بأن يَصرِفها في طاعة المنعِم، لا في معصية، ولا يَفتُر عن ذكره، «فكأنما حِيزت» بكسر المهمَلة «له الدنيا»؛ أي: ضُمَّت وجُمِعت «بحذافيرها»؛ أي: بجوانبها؛ أي: فكأنما أُعطيَ الدنيا بأسرها... وفيه حُجَّةٌ لمن فضَّل الفَقْرَ على الغنى" [2].

    قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «في سربه»: هو بالكسر؛ أي: في نفسِه، وفلانٌ واسِع السِّرب؛ أي: رَخِيَّ البال، ويُروى بالفتح، وهو الْمَسلَك والطريق، يقال: خل سربه؛ أي: طريقه. أبي بعضهم إلا (السَّرَب) بفتح السين والراء؛ أي: في بيته. ولم يَذكُر فيه رواية، ولو سَلِم له قوله - أن يُطلَق السَّرَب على كلِّ بيت - كان قولُه هذا حَريًّا بأن يكون أقوى الأقاويل، إلا أن السرب يُقال للبيت الذي هو في الأرض. والحيازة: الضمُّ والجمع" [3].


    المراجع

    1.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3250).

    2. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 68).

    3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3292).


    غريب الحديث:

    الحياء: هو انقباضُ النَّفْسِ مِن شيءٍ، وتَرْكُه حَذَرًا عن اللَّوْمِ فيه[1]. وقيل: هو "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسانَ مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومَحَلُّه الوَجْهُ"[2].

    المراجع

    1. "التعريفات" للجُرْجانيِّ (ص 94). 
    2. "التبيان في تفسير غريب القرآن" لابن الهائم (ص 61).

     

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو مَسْعُودٍ البدريُّ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قال: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ»؛ أي: بَلغَهم وعَلِموه. «مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ»؛ أي: من حِكَم الأنبياء وشرائعهم التي لم تُنسَخ؛ لاتِّفاق العقول عليها. لذا؛ كان مما اتَّفَق عليه الأنبياءُ جميعُهم، ودَعَوْا إليه. «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ»؛ أي: إذا لم يكن لَدَيْكَ حياءٌ يَمنَعُكَ من فِعل القبيح. «فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»؛ أي: افعلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ الله تعالى سيُجازيكَ عليه.

    الشرح المفصَّل للحديث:

       إن الحياءَ هو رأسُ الفضائلِ والشِّيم والأخلاق، وهو عِمادُ شُعَب الإيمان، وبه يتمُّ الدين، وهو دليلُ الإيمان، ورائدُ الإنسان إلى الخير والهدى، وإن الحياء خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَع من التقصير في حقِّ ذي الحقِّ.

    والحياءُ خُلُق جميل يدعو إلى التحلِّي بالفضائل، والبُعد عن الرذائل.

    والحياءُ من الحياة، ومنه الحيا للمطر، وقِلَّةُ الحياءِ من موت القلب والرُّوح، وكلَّما كان القلبُ أحْيا، كان الحياءُ أَتَمَّ.

    والحياء: هو انقباض النَّفس مِن شيءٍ، وتَرْكُه حَذَرًا عن اللَّوْمِ فيه[1].

    وقيل: هو "تغيُّر وانكسار يعتري الإنسانَ مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومَحَلُّه الوَجْهُ"[2]. 

    والحياءُ يَعصِم المرءَ من المعاصي والمنكَرات، ويَحمِله على الاستقامة والطاعة، وبدون الحياء يَغرَق الناسُ في أوحال المعاصي والمنكَرات.

    يقول النبيُّ ﷺ:

    «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى»

    "يُشير إلى أنّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدِّمين، وأنّ النّاس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قَرْنًا بعد قرن، وهذا يدلُّ على أنّ النّبوَّات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنّه اشتَهَر بين النّاس حتّى وصل إلى أوّل هذه الأمَّة"[3].

    و"معنى قوله: «النُّبوَّة الأولى» أن الحياء لم يَزَل أمرُه ثابتًا، واستعمالُه واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحياء وبُعِث عليه، وأنَّه لم يُنسَخ فيما نُسِخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها؛ وذلك أنه أمرٌ قد عُلم صوابُه، وبان فضله، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل"[4].

    قوله: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ»؛ أي: إذا لم يكن لَدَيْكَ حياءٌ يَمنَعُكَ من فِعل القبيح، «فَاصنعْ مَا شِئْتَ»؛ أي: افعلْ ما بَدَا لك؛ فإنَّ الله تعالى سيُجازيكَ عليه.

    وقيل: إن المعنى: إذا كان ما تَفعَلُه ليس مما يُستحيا منه، فافعلْ ما شئتَ؛ أي: لك أن تفعل ما لا يُعاب عليه أو يُذَمُّ.

    "وَقَوْلُهُ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان؛ أحدهما: أنّه ليس بمعنى الأمر أن يَصنَع ما شاء؛ ولكنّه على معنى الذّمِّ والنّهي عنه، وأهلُ هذه المقالة لهم طريقان؛ أحدهما: أنّه أمر بمعنى التّهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت، فاللّه يجازيك عليه

    كقوله:

    {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

    [فصلت: 40]

    والطّريق الثّاني: أنّه أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أنّ من لم يستحيِ، صنع ما شاء، فإنّ المانع من فِعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاء ومنكَر، وما يمتنع من مثله من له حياء

    على حدِّ قوله ﷺ:

    «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار»[5]

    فإنّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وأنّ من كذب عليه تبوَّأ مقعده من النّار"[6].

    "وقوله: «فافعل ما شئت» فيه ثلاثةُ أقوال؛ أحدُها: أن يكون معناه الخبرَ وإن كان لفظُه لفظَ الأمر؛ كأنه يقول: إذا لم يَمْنَعْكَ الحياءُ فَعَلْتَ ما شئتَ؛ أي: ما تدعوك إليه نفسُك من القبيح. والثاني: معناه الوعيدُ

    كقوله تعالى:

    {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}

    [فصلت: 40]

    والثالث: معناه أن يَنظُر، فإذا كان الشيءُ الذي يريد أن يَفعَله مما لا يُستحى منه، فليفْعَلْه، وإن كان مما يُستحى منه، فلا يَفعَله"[7].

    هذا، وقد ذكر النبيُّ ﷺ الحياءَ في أحاديثَ كثيرةٍ، تدلُّ على مكانته بين المكارم والشِّيم؛ منها:

    قال النبيُّ ﷺ:

    «الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ»[8].

    وفي حديثٍ آخَرَ: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ» أَوْ قَالَ: «الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ»[9].

    وحياءُ المؤمن يدلُّ على كمال إيمانه، وحُسْن أَدَبه، ونقاء سَرِيرته

    فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﷺ قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ: بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»[10].

    وقد مَرَّ النبيُّ ﷺ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاء، فَقَالَ له: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ»[11].

    "ثمَّ تَأمَّلْ هَذَا الْخُلق الَّذِي خُصَّ به الإنسانُ دون جَمِيع الْحَيَوَان، وهو خُلق الْحيَاء، الذي هو من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ بل هو خَاصَّةُ الإنسانية، فمن لا حَيَاءَ فيه، لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم، وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخُلقُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يُقْضَ لأحَدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الْجَمِيل، فآثَرَه، والقبيحَ، فتجنَّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة، وَكثيرٌ من الناس لولا الحياءُ الذي فيه، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، ولم يصل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا؛ فإن الباعث على هذه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وهو رَجَاء عاقبتها الحميدة، وإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وهو حياء فاعلها من الْخَلق، وقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ، إِمَّا من الخالق أو من الخلائق، لم يفعلها صاحبها"[12].

    "والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[13].

    ويكفي الحياءَ شرفًا أنه من صفات الله تعالى

    قال النبيُّ ﷺ:

    «إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَرْفَعَ إِلَيْهِ يَدَيْهِ، فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا – أَوْ قال: خَائِبَتَيْنِ»[14].

    "وأمَّا حياءُ الربِّ تعالى من عبده، فنوعٌ آخَر، لا تُدركه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجودٍ، فإنه تبارك وتعالى حيِيٌّ كريم يَستَحيي من عبده إذا رَفَع إليه يديه أن يَرُدَّهما صِفرًا، ويستحيي أن يُعذِّب ذا شَيْبةٍ شابت في الإسلام، وكان يحيى بنُ معاذ يقول: سبحان من يُذنب عبدُه ويستحيي هو. وفي أثر: من استحيا من الله استحيا الله منه"[15].

    والحياءُ من خُلق النبيِّ ﷺ وصفاته

    فقد وَصَفه أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه - بقوله:

    «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، فَإِذَا رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»[16]. 

    والحياءُ من خُلُقِ الملائكة والأنبياء

    قال النبيُّ ﷺ في عثمانَ - رضي الله عنه -:

    «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلاَئِكَةُ؟!»[17].

    وقال النبيُّ ﷺ:

    «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا سِتِّيرًا، لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ؛ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ»[18].

    "وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[19]"[20]. 

    وهو ما أراده النبيُّ ﷺ بجعله من شُعَب الإيمان

    عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ». قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالحَمْدُ لِلَّهِ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ؛ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ»[21].

    ومن أعظم فضائل الحياء أنه يُفضي إلى جنةٍ عَرْضُها السماوات والأرض

    قال النبيُّ ﷺ:

    «الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ، وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ»[22]

    وأخيرًا: إن الحياء زينةُ الأخلاق

    قال النبيُّ ﷺ:

    «مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَه»[23].

    المراجع

    1. "التعريفات" للجُرْجانيِّ (ص 94).
    2. "التبيان في تفسير غريب القرآن" لابن الهائم (ص 61).
    3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497).
    4. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
    5. رواه البخاريّ (1291)، ومسلم (3).
    6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497، 498).
    7. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
    8. رواه البخاريُّ (6117)، ومسلم (37).
    9. رواه مسلم (61).
    10. رواه البخاريُّ (9)، ومسلم (35).
    11. رواه البخاريُّ (6118).
    12. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
    13. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
    14. رواه ابن ماجه (3865)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (2070).
    15. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 261).
    16. رواه البخاريُّ (3562)، ومسلم (67).
    17. رواه مسلم (36).
    18. رواه البخاريُّ (3404).
    19. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
    20. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).
    21. رواه الترمذيُّ (2458)، وحسَّنه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (2/ 894)، والألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2/ 319).
    22. رواه أحمد (10512)، والترمذيُّ (2009)، وابن ماجه (4184)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2628): حسن صحيح.
    23. رواه الترمذيُّ (1974)، والبخاريُّ في الأدب المفرد (601)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".


    النقول:

    قال الخطابيُّ رحمه الله: "قال الشَّيخ: معنى قوله: «النُّبوَّة الأولى» أنَّ الحَيَاء لم يَزَل أمرُه ثابتًا، واستعمالُه واجبًا منذ زمان النُّبوَّة الأولى، وأنه ما مِن نبيٍّ إلَّا وقد نَدَب إلى الحَيَاء وبُعِث عليه، وأنَّه لم يُنسَخ فيما نُسِخ مِن شرائعهم، ولم يُبَدَّل فيما بُدِّل منها؛ وذلك أنه أمر قد عُلم صوابُه، وبان فضله، واتَّفَقت العقول على حُسنه، وما كان هذا صفتَه، لم يَجُزْ عليه النَّسخ والتبديل. وقوله: «فافعل ما شئت» فيه ثلاثةُ أقوال؛ أحدُها: أن يكون معناه الخبرَ وإن كان لفظُه لفظَ الأمر؛ كأنه يقول: إذا لم يَمْنَعْكَ الحياءُ فَعَلْتَ ما شئتَ؛ أي: ما تدعوك إليه نفسُك من القبيح. وإلى نحوٍ من هذا ذَهَب أبو عُبيد القاسمُ بنُ سلام - رحمة الله عليه - وقال أبو العبَّاس أحمدُ بنُ يحيى: معناه الوعيدُ

    كقوله تعالى:

    {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

    [فصلت: 40]

    وقال أبو إسحاقَ المروزيُّ فقيهُ الشافعية: معناه أن يَنظُر فإذا كان الشيءُ الذي يريد أن يَفعَله مما لا يُستحى منه، فافْعَلْه، يُريد أن ما يُستحى منه، فلا يَفعَله"[1].

    قال ابن رجب رحمه الله: "فَقَوْلُهُ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى» يُشير إلى أنّ هذا مأثور عن الأنبياء المتقدِّمين، وأنّ النّاس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قَرْنًا بعد قرن، وهذا يدلُّ على أنّ النّبوَّات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنّه اشتَهَر بين النّاس حتّى وصل إلى أوّل هذه الأمَّة"[2].

    قال ابن حجر رحمه الله: "الحَياءُ: خُلُقٌ يَبعَث صاحبَه على اجتناب القَبِيح، ويَمنَع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ"[3].

    قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان؛ أحدهما: أنّه ليس بمعنى الأمر أن يَصنَع ما شاء؛ ولكنّه على معنى الذّمِّ والنّهي عنه، وأهلُ هذه المقالة لهم طريقان؛ أحدهما: أنّه أمر بمعنى التّهديد والوعيد، والمعنى: إذا لم يكن حياء، فاعمل ما شئت، فاللّه يجازيك عليه

    كقوله:

    {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ۖ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

    [فصلت: 40]

    والطّريق الثّاني: أنّه أمر، ومعناه الخبر، والمعنى: أنّ من لم يستحيِ، صنع ما شاء، فإنّ المانع من فِعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كلِّ فحشاءَ ومنكَر، وما يمتنع من مثله من له حياء

    على حدِّ قوله ﷺ:

    «من كذب عليّ فليتبوّأ مقعده من النّار»[4]

    فإنّ لفظه لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وأنّ من كذب عليه تبوَّأ مقعده من النّار"[5]. 

    قال ابن القيِّم رحمه الله: "ثمَّ تَأمَّلْ هَذَا الْخُلق الَّذِي خُصَّ به الإنسانُ دون جَمِيع الْحَيَوَان، وهو خُلق الْحيَاء، الذي هو من أفضل الأخلاق وأجلِّها وأعظمها قدرًا، وأكثرها نفعًا؛ بل هو خَاصَّةُ الإنسانية، فمن لا حَيَاءَ فيه، لَيْسَ مَعَه من الإنسانية إلا اللَّحْم وَالدَّم، وصورتهم الظاهرة، كما أنه ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخُلقُ، لم يُقْرَ الضَّيْف، وَلم يُوفَ بالوعد، وَلم يؤدَّ أمانة، وَلم يُقْضَ لأحَدٍ حاجة، ولا تحرَّى الرجلُ الْجَمِيل، فآثَرَه، والقبيحَ، فتجنَّبه، ولا ستر له عورة، ولا امتنع من فاحشة، وَكثيرٌ من الناس لولا الحياءُ الذي فيه، لم يؤدِّ شَيْئًا من الأمور المفترَضة عليه، ولم يَرْعَ لمخلوق حَقًّا، ولم يصل له رَحِمًا، ولا برَّ له والدًا؛ فإن الباعث على هذه الأفعال، إِمَّا دينيٌّ، وهو رَجَاء عاقبتها الحميدة، وإِمَّا دُنْيَوِيٌّ عُلويٌّ، وهو حياء فاعلها من الْخَلق، وقد تبيَّن أنه لولا الحياءُ، إِمَّا من الخالق أو من الخلائق، لم يفعلها صاحبها"[6].

    قال ابن رجب رحمه الله: "والحياءُ نوعان؛ أحدهما: غَريزيٌّ، وهو خُلُقٌ يمنحُه الله العبدَ ويجبُلُه عليه، فيكُفُّه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثُّه على فعل الجميل، وهو من أعلى مواهب الله للعبد، فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثِّر ما يؤثِّره الإيمان من فعل الجميل، والكَفِّ عن القبيح، وربما ارتقى صاحبُه بعده إلى درجة الإيمان... والنوع الثاني: أن يكون مُكتَسَبًا، إما من مقام الإيمان؛ كحياء العبد من مقامه بين يدَيِ الله يوم القيامة، فيوجِب له ذلك الاستعدادَ للقائه، أو من مقام الإحسان؛ كحياء العبد من اطِّلاع الله عليه وقُربه منه؛ فهذا من أعلى خصال الإيمان[7].

    قال ابن القيِّم رحمه الله: "وأمَّا حياءُ الربِّ تعالى من عبده، فنوعٌ آخَر، لا تُدركه الأفهام، ولا تُكيِّفه العقول؛ فإنه حياءُ كرمٍ وبِرٍّ وجودٍ، فإنه تبارك وتعالى حيِيٌّ كريم يَستَحيي من عبده إذا رَفَع إليه يديه أن يَرُدَّهما صِفرًا، ويستحيي أن يُعذِّب ذا شَيْبةٍ شابت في الإسلام، وكان يحيى بنُ معاذ يقول: سبحان من يُذنب عبدُه ويستحيي هو. وفي أثر: من استحيا من الله استحيا الله منه"[8].

    قال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "وأول الحياء وأوْلاه: الحياءُ من الله تعالى، وهو ألَّا يراك حيث نهاك، وذلك لا يكون إلا عن معرفة بالله تعالى كاملة، ومُراقبة له حاصلة، وهي المعبَّر عنها بقوله: «أن تعبُدَ اللهَ كأنك تراه؛ فإن لم تكُنْ تراه فإنه يراكَ»[9]"[10].

    المراجع

    1. "معالم السنن" للخطابيِّ (4/ 109، 110).
    2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497).
    3. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 52).
    4. رواه البخاريّ (1291)، ومسلم (3).
    5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 497، 498).
    6. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 277).
    7. انظر: "فتح الباري" لابن رجب (1/ 102).
    8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 261).
    9. رواه البخاريُّ (50)، ومسلم (8).
    10. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/135).


    غريب الحديث:

    ضَيْفَهُ: يقال: ضِفْتُ فلانًا: إذا مِلْتُ إليه ونَزَلت به، وأَضَفْتُه فأنا أُضيفه: إذا أملتَه إليكَ وأنزلتَه عليك؛ ولذلك قيل: هو مضافٌ إلى كذا وكذا؛ أي: هو مُمَالٌ إليه[1].

    جَائِزَتَهُ: قيل: ما يَجُوز به ويَكْفِيه في سَفَره يومًا وليلةً بعد ضِيافته، والجائزةُ: العَطِيَّة، وجمعُها جوائزُ، وقيل: حقُّه إذا اجتاز به، وثلاثةَ أيام إذا قَصَد، وقيل: جائزتُه تُحْفَتُه والمبالغةُ في مُكارَمَته، وباقي الثلاثةِ الأيامِ ما حَضَره[2]. 

    لِيَصْمُتْ: الصَّمت: معروفٌ، صَمَت يَصمُت صمتًا إذا سَكَت، وأُصمِته أنا إصماتًا إذا أسكَتُّه، ويقال: أَخَذه الصُّمات إذا سكت فلم يتكلَّم[3].


    المراجع

    1. "غريب الحديث" للقاسم بن سلَّام (1/ 18).
    2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 164).
    3. "جمهرة اللغة" لأبي بكر الأزديِّ (1/ 400).


    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي أبو شُرَيْحٍ الكَعْبيُّ ، عن النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»؛ أي: من كان يؤمن بالله إيمانًا حقًّا، فليُحسِن إلى جاره، ويتعاهَدْه بالبِرِّ والإكرام، ولا يتعمَّد إيذاءه. «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ»: قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ»؛ أي: ومن كمال إيمان المؤمن إكرامُ الضيف يومًا وليلة، وهي جائزة الْمُضِيف للضَّيف، وكمالُ الضيافة ثلاثة أيام، وما بعدَ الثلاثة الأيام فهو صَدَقةٌ من الْمُضيف على ضَيفه. «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»؛ أي: ومن كمال إيمان المؤمن أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فلينظر إن كان كلامه خيرًا يُثاب عليه، فلْيَقُلْه، وإلَّا فلْيَصْمُت.

    الشرح المفصَّل للحديث:

    الإيمانُ يَزيد ويَنقُص، يَزيد بالطاعة ويَنقُص بالمعصية

    قال تعالى:

    {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}

    [الأنفال: 2]

    وقال تعالى:

    {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}

    [المدثر: ٣١]

    لذا؛ حَرَص الشارع الحكيم على توجيه المسلمين إلى فعل الطاعات التي تكون سببًا في زيادة إيمانهم، والبُعد عن المعاصي والسيِّئات التي تكون سببًا في نقصان إيمانهم.

    وفي الحديث يُرشد النبيُّ ﷺ إلى بعض خصال الخير، التي تَزيد من إيمان العبد، وتَرفع درجته، ويَكمُل بها إيمانه، ويَستقيم بها حاله، وهي من جملة الآداب والأخلاق الإسلامية، أوَّلُها: الإحسان إلى الجار وإكرامُه، فقال ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ»؛ أي: من كان يؤمن بالله حقًّا، فليُحسِن إلى جاره، ويتعاهَدْه بالبِرِّ والإكرام، ولا يتعمَّد إيذاءه؛ ولهذا أقسم النبيُّ ﷺ ثلاثًا على عدم كمال إيمان من يُؤذي جاره

    عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

    «وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لا يُؤْمِنُ» قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ»[1].

    وأنه لا يدخل الجنَّة

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:

    «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ»[2]

    فـ"حِفْظُ الجار من كمال الإيمان، وكان أهل الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَب الطاقة؛ كالهدية والسلام وطلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه على اختلاف أنواعه، حسِّيةً كانت أو معنويةً"[3]، وليس المقصود نفيَ الإيمان عمَّن لم يتَّصِف بالصفات الثلاث المذكورة في الحديث؛ وإنما ذلك من باب التشجيع والترغيب والحثِّ على فِعلها والتخلُّق بها.

    و"ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتَّصِف بما ذُكر، وليس مرادًا؛ بل أُريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنتَ ابني فأَطِعْني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونُه ابنَه"[4].

    وثانيها: إكرام الضيف والإحسان إليه

    فقال ﷺ:

    «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ جَائِزَتَهُ»: قَالَ: وَمَا جَائِزَتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَالضِّيَافَةُ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ، فَمَا كَانَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلَيْهِ»

    أي: من كمال إيمان المؤمن إكرامُ الضيف يومًا وليلة، وهي جائزة الضَّيف، وهديَّة الْمُضيف وعطيَّته له، وكمال الضيافة ثلاثة أيام، وما بعد ذلك فضلٌ وإحسان، وليس بواجب عليه، فما زاد على ذلك فهو صَدَقة من الْمُضيف على ضَيفه، والقيامُ بحقِّ الضيافة خُلق من أخلاق المسلمين، ينبغي للمسلم أن لا يَعدِل عنه؛ لِما فيه من ثواب عظيم، وقيام بحقِّ المسافر، وتخفيفِ بعضٍ من الْمَشاقِّ التي تقابله، "وقد أفاد هذا الحديث أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يَحصُل عليها من الثواب في الآخرة، ولِمَا يترتَّب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيِّبة، وطِيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضَّيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة، ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لَدُنْ إبراهيمَ ﷺ؛ لأنَّه أول من ضَيَّف الضَّيف، وعادة مستمِرَّة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا، فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من الْمَضَارِّ عادَةً وعُرفًا"[5]، وثالثها: التكلُّم بطِيب الأقوال، أو السُّكوت عما لا فائدةَ تُرجى منه

    فقال ﷺ:

    «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»

    أي: من أراد أن يتكلَّم، فلينظر في كلامه، إن كان فيه خيرٌ يُثاب عليه، أجراه، وإن كان فيه ضررٌ على نفسه أو غيره، أو كان يَحتمِل الأمرين، سَكَت عنه. فـ"معناه أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا

    وقد قال الله تعالى:

    {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

    [ق: 18]"[6]

    فالسكوت غنيمةٌ إذا كان الكلام مُفْضِيًا إلى معصية أو إثم محقَّق، فلربما كلمة ارتقت بصاحبها في درجات الجنة، وأخرى أَوْدَت بصاحبها إلى دركات النار

    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

    «إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، لا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ»[7]

    فالصمتُ نجاةٌ للعبد من المهالك

    عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ:

    قَالَ رَسُولُ ﷺ: «مَنْ صَمَتَ نَجَا»[8]

    والواجب على المسلم أن يعمِّر وقته وحياته في الطاعات، ولا ينشغِل بغير ذكر الله - عزَّ وجلَّ - حتى لا يتحسَّر على ما فاته يومَ القيامة، "قال بعض السَّلَف: يُعرَض على ابن آدم يومَ القيامة ساعاتُ عُمُره، فكلُّ ساعة لم يَذكُر الله فيها، تتقطَّع نفسُه عليها حسرات، فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوتُ عنه أفضلُ من التكلُّم به، اللهمَّ إلَّا ما تدعو إليه الحاجة مما لابدَّ منه"[9].

    هذا وإن "جِمَاع آداب الخير يتفرَّع من أربعة أحاديث:

    قول النبيِّ ﷺ:

    «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت»

    وقوله ﷺ:

    «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

    وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»

    وقوله ﷺ:

    «لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»"[10].

    وقد "اشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة، تَجمَع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية"، و"هذا الحديث من جوامع الكَلِم؛ لأن القول كلَّه إمَّا خيرٌ، وإما شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحدهما، فدَخَل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال، فرضِها ونَدْبِها، فأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودَخَل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يَؤُول إلى الشرِّ، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[11].

    المراجع

    1. رواه البخاريُّ (6016).
    2. رواه مسلم (46).
    3. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 442).
    4. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 533).
    5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
    6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
    7. رواه البخاريُّ (6478)، ومسلم (2988).
    8. رواه أحمد (6481) والترمذيُّ (2501)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2874).
    9. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 338).
    10. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
    11. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 446).


    النقول:

    قال أبو محمد بن أبي جمرة  رحمه الله: "حِفْظُ الجار من كمالِ الإيمان، وكان أهلُ الجاهلية يحافظون عليه، ويَحصُل امتثال الوصيَّة به بإيصال ضُروب الإحسان إليه بحسَبِ الطاقة؛ كالهَدِيَّة، والسلام، وطَلاقة الوجه عند لقائه، وتفقُّد حاله، ومعاونته فيما يحتاج إليه، إلى غير ذلك، وكفِّ أسباب الأذى عنه، على اختلاف أنواعه، حسيَّةً كانت أو معنوية"[1].

    قال الطوفيُّ  رحمه الله: "ظاهر الحديث انتفاء الإيمان عمن لم يتَّصِف بما ذُكر، وليس مرادًا؛ بل أُريد به المبالغة، كما يقول القائل: إن كنتَ ابني فأَطِعْني؛ تهييجًا له على الطاعة، لا أنه بانتفاء طاعته ينتفي كونُه ابنَه"[2].

    قال القرطبيُّ  رحمه الله: "وقد أفاد هذا الحديث أنَّها من أخلاق المؤمنين، ومما لا ينبغي لهم أن يتخلَّفوا عنها؛ لِمَا يَحصُل عليها من الثواب في الآخرة، ولِمَا يترتَّب عليها في الدنيا من إظهار العمل بمكارم الأخلاق، وحُسن الأحدوثة الطيِّبة، وطِيب الثناء، وحصول الرَّاحة للضَّيف المتعوب بمشقَّات السَّفر، المحتاج إلى ما يخفِّف عليه ما هو فيه من المشقَّة، والحاجة، ولم تزل الضيافة معمولًا بها في العرب من لَدُنْ إبراهيمَ ﷺ؛ لأنَّه أول من ضَيَّف الضَّيف، وعادة مستمِرَّة فيهم، حتى إنَّ من تركها يُذَمُّ عُرْفًا، ويُبَخَّلُ ويُقَبَّحُ عليه عادة، فنحن وإن لَمْ نقل: إنَّها واجبة شرعًا، فهي متعيِّنة لِمَا يحصل منها من المصالح، ويندفع بها من الْمَضَارِّ عادَةً وعُرفًا"[3].

    قال النوويُّ  رحمه الله: "معناه أنه إذا أراد أن يتكلَّم، فإن كان ما يتكلَّم به خيرًا محقَّقًا، يُثاب عليه، واجبًا أو مندوبًا، فليتكلَّم، وإن لم يَظهَر له أنه خيرٌ يُثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواءٌ ظَهَر له أنه حرامٌ أو مكروه، أو مباحٌ مستوي الطَّرفينِ، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافةً من انجراره إلى المحرَّم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا

    وقد قال الله تعالى:

    {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}

    [ق: 18]"[4]

    قال ابن رجب  رحمه الله: "قال بعض السَّلَف: يُعرَض على ابن آدم يومَ القيامة ساعاتُ عُمُره، فكلُّ ساعة لم يَذكُر الله فيها، تتقطَّع نفسُه عليها حسرات، فمن هنا يُعلَم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوتُ عنه أفضلُ من التكلُّم به، اللهمَّ إلَّا ما تدعو إليه الحاجة مما لابدَّ منه"[5].

    قال عبد الله بن أبي زيد المغربيُّ  رحمه الله: "جِمَاعُ آداب الخير يتفرَّع من أربعة أحاديث:

    قول النبيِّ ﷺ:

    «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُت»

    وقوله ﷺ:

    «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

    وقوله ﷺ للذي اختصر له الوصية: «لا تغضب»

    وقوله ﷺ:

    «لا يؤمن أحدكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه»"[6].

    قال ابن حجر  رحمه الله: "اشتمل حديث الباب من الطريقين على أمور ثلاثة، تَجمَع مكارم الأخلاق الفعلية والقولية... هذا الحديث من جوامع الكلم؛ لأن القول كلَّه إمَّا خيرٌ، وإما شرٌّ، وإمَّا آيِلٌ إلى أحدهما، فدَخَل في الخير كلُّ مطلوب من الأقوال، فرضِها ونَدْبِها، فأَذِن فيه على اختلاف أنواعه، ودَخَل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرٌّ أو يَؤُول إلى الشرِّ، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت"[7].

    قال ابن حجر  رحمه الله: "واسم الجار يَشمَل المسلم والكافر، والعابد والفاسق، والصّديق والعدوَّ، والغريب والبلديَّ، والنّافع والضّارَّ، والقريب والأجنبيَّ، والأقربَ دارًا والأبعد، وله مراتبُ بعضها أعلى من بعض، فأعلاها من اجتمعت فيه الصّفات الأُوَل كلُّها، ثمّ أكثرها، وهلمَّ جرًّا، إلى الواحد، وعكسُه من اجتمعت فيه الصّفات الأخرى كذلك، فيُعطى كلٌّ حقَّه بحسَبِ حاله. وقد تتعارض صفتان فأكثرُ، فيرجِّح أو يساوي، وقد حمله عبد اللّه بن عمرو - أحد من روى الحديث - على العموم، فأَمَر لَمّا ذُبِحت له شاة أن يُهدى منها لجاره اليهوديِّ، أخرجه البخاريُّ في "الأدب المفرد"، والتّرمذيُّ وحسَّنه، وقد وردت الإشارة إلى ما ذكرتُه في حديث مرفوع أخرجه الطّبرانيُّ من حديث جابر رفعه: «الجيران ثلاثة: جار له حقٌّ، وهو المشرِك له حقُّ الجِوار، وجار له حقَّان، وهو المسلم له حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، مسلم له رحم، له حقُّ الجوار والإسلام والرّحم». قال القرطبيُّ: الجار يُطلَق ويُراد به الدّاخل في الجوار، ويُطلَق ويراد به المجاوِر في الدّار، وهو الأغلب، والّذي يظهر أنّه المراد به في الحديث الثّاني؛ لأنّ الأوّل كان يَرِث ويورَث، فإن كان هذا الخبر صدر قبل نسخ التّوريث بين المتعاقدينِ، فقد كان ثابتًا، فكيف يُترجَّى وقوعه وإن كان بعد النّسخ؛ فكيف يظنُّ رجوعه بعد رفعه؟! فتعيَّن أنّ المراد به المجاور في الدّار"[8]. 

    قال السعديُّ  رحمه الله: " ﱡ ﲔ  ﲕ ﲖ ﱠ؛ أي: الجار القريب الذي له حقَّانِ: حقُّ الجِوار وحقُّ القَرابة، فله على جاره حقٌّ وإحسان راجع إلى العرف. (و) كذلك ﱡ ﲗ ﲘ ﱠ؛ أي: الذي ليس له قَرَابةٌ، وكلَّما كان الجارُ أقربَ بابًا، كان آكَدَ حقًّا، فينبغي للجار أن يتعاهَدَ جارَه بالهَدية والصَّدَقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال، وعدم أذيَّته بقول أو فعل"[9].

    قال ابن حجر رحمه الله: "وقد نفى ﷺ الإيمان عمَّن لم يأمن جاره بوائقه؛ كما في الحديث الّذي يليه، وهي مبالغة تُنبئ عن تعظيم حقِّ الجار، وأنّ إضراره من الكبائر. قال: ويفترق الحال في ذلك بالنّسبة للجار الصّالح وغير الصّالح، والّذي يشمل الجميعَ إرادةُ الخير له، وموعظتُه بالحسنى، والدّعاءُ له بالهداية، وتركُ الإضرار له إلّا في الموضع الّذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والّذي يخصُّ الصّالح هو جميعُ ما تقدَّم، وغير الصّالح كفُّه عن الّذي يرتكبه بالحسنى على حسَبِ مراتب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكَر، ويَعِظُ الكافرَ بعرض الإسلام عليه، ويبيِّن محاسنه، والتّرغيب فيه برِفق، ويَعِظ الفاسق بما يناسبه بالرّفق أيضًا، ويَستُر عليه زَلَلـه عن غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فبِهِ، وإلّا فيهجره قاصدًا تأديبَه على ذلك مع إعلامه بالسّبب ليكُفَّ"[10].

    المراجع

    1. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).
    2. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 533).
    3. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (5/ 197).
    4. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
    5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 338).
    6. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 19).
    7. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (10/ 446).
    8. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 441، 442).
    9. "تفسير السعديِّ" (ص: 178).
    10. "فتح الباري" لابن حجر (10/ 442).


    غريب الحديث:

    تغدو: تذهب أوَّلَ النهار.

    خِماصًا: ضامرةَ البطون من الجوع.

    تَرُوح: تعود آخِرَ النهار.

    بِطانًا: ممتلئة البطون بالطعام

    المعنى الإجماليُّ للحديث:

    يروي عمرُ رضي الله عنه، عنْ النّبيِّ ﷺ أنه قال: «لو أنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ على اللّهِ حقَّ توكُّلِه»؛ أي: لو أنكم تتوكَّلون على الله بتسليم الأمر لله تعالى، وتَمام الثقة فيه، مع الأخذ بالأسباب. «لرُزِقْتُمْ كما تُرْزق الطَّيْرُ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا»؛ أي: لرزقكم الله تعالى كما يرزق الطير، تذهب أوَّلَ النهار ضامِرَةَ البُطون من الجوع، وتعود آخِرَ النهار ممتلئةَ البطون بالطعام.

    الشرح المفصَّل للحديث:

     العباداتُ في الإسلام تَنقسِم إلى عبادات قَلْبية، وعباداتٍ بَدَنية كالصلاة والصوم، وعبادات ماليَّة كالزكاة، وعبادات ماليَّة وبَدَنية كالحَجِّ، وأصعبُ هذه العبادات هي العباداتُ القَلْبية، ومنها: التوحيدُ، والإخلاصُ، والخوف، والرجاء، والتوكُّل، والتوبة، والإنابة، والرضا، والصبر، وغيرها، وتأتي صعوبتها من مقاومة النفس والهوى والشيطان، فعبادةٌ مثلُ الإخلاص تُشعِرُك بكَمِّ المعاناة التي تعانيها من أجل أن تجعل نِيَّتَكَ في عملٍ خالصةً لوجه الله، وليس فيها دَخَلٌ من رياءٍ وسُمعةٍ وجَاهٍ وحبِّ ظهورٍ، وغيرها من الآفات التي تُبطل الإخلاص، وتَذهَب بأجر العمل.

     والتوكُّل من هذه العبادات القَلْبيَّة الصعبة التي تحتاج إلى مِرانٍ وتدريب، وهي مُهمَّة جدًّا في حياة المؤمن. لذا؛ حثَّنا النبيُّ عليها فقال: «لَوْ أَنَّكم تَوَكَّلون»: و"لو" أداة شرط غير جازمة، تُفيد الامتناع؛ مما يعني أن التوكُّلَ الحقَّ يَصعُب على البشر الوصولُ إليه، ولا يعني هذا اليأسَ؛ ولكن يعني المحاولة مِرارًا وتَكرارًا حتى نصل إلى أبعد ما يمكِن الوصولُ إليه من التوكُّل، فالصعبُ علينا ليس التوكُّلَ ذاتَه؛ ولكن الوصول إلى حقيقته.

    قوله : «حقَّ توكُّله»؛ أي: تمام التوكُّل، ولو وَصَلْنا لهذه الحالة، لصار رزقنا كرزق الطير، تَبِيت ليلَها لا تدري شيئًا عن رزق الغد، أتجدُ أم لا تَجِد، وتعود مساءً وبَطْنُها مليئةٌ بفضل الله.

    فضل التوكُّل [1]

        أَمَرنا الله تعالى بهذه العبادة في غير موضع من القرآن الكريم، منها قولُه تعالى عن سلطان الشيطان على العباد:

    ﴿لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ 

    [النحل: 9]،

    فالمتوكِّلون على الله ليس للشيطان عليهم سبيلٌ،

    وقال تعالى:

    ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾

    [الطلاق: 3]،

    فاللهُ تعالى يكفي من يتوكَّل عليه،

    وقال تعالى:

    ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا َيَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا﴾

    [الفرقان: 58]،

    وقال تعالى:

    ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ 

    [آل عمران: 122]،

    وقال تعالى:

    ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّليِنَ﴾

    [آل عمران: 159]،

    فهي عبادة يحبُّها الله تعالى. قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: "التَّوكُّل على اللَّه جِمَاع الإيمان".

    وقيل: "أربعٌ لا يُعطِيهنَّ اللّهُ إلَّا من أحبَّ: الصَّمْتُ، وهو أوَّل العبادة، والتّوكُّل على اللّه، والتَّواضُع، والزُّهد في الدّنيا". 

    وقال لقمانُ لابنه: "يا بُنيَّ، الدُّنيا بحرٌ غَرِق فيه أناسٌ كثيرٌ، فإن استطعتَ أن تكون سفينتُكَ فيها الإيمانَ باللّه، وحشوُها العملَ بطاعة اللّه عزَّ وجلَّ، وشراعُها التّوكُّلَ على اللّه؛ لعلَّكَ تنجو". 

    والْتَقى عبدُ اللّه بنُ سلامٍ وسَلْمانُ، فقال أحدهما لصاحبه: إن متَّ قَبلي فالْقَنِي، فأخبرْني ما لَقِيتَ من ربِّك، وإن متُّ قبلَك لَقِيتُكَ، فأخبرتُك. فقال أحدهما للآخَر: أوَتلقى الأمواتُ الأحياء؟ قال: نعم، أرواحُهم تذهب في الجنَّة حيث شاءت. قال: فمات فلانٌ، فلَقِيه في الْمَنام، فقال: "توكَّل وأَبْشِرْ، فلم أرَ مثلَ التّوكُّل قطُّ، توكَّلْ وأبشرْ، فلم أرَ مثلَ التّوكُّل قطُّ".

     وعن خُليدٍ قال: "ما من عبدٍ ألجأته حاجةٌ، فأخذ بأمانته توكُّلًا على ربِّه، ثمّ أنفقه على أهله في غير إسرافٍ، فأدركه الموت ولم يَقضِه، إلَّا قال اللّه تبارك وتعالى لملائكته: عبدي هذا ألجأته حاجةٌ، فأخذ بأمانته توكُّلًا عليَّ، وثِقةً بي، فأنفقه على أهله في غير سَرفٍ، أُشهِدُكم أنّي قد قضيتُ عنه دَيْنَه، وأَرْضَيْتُ هذا من حقِّه ". 

    وسُئل الحسنُ عن التّوكُّل، فقال: "الرّضا عن اللّهِ". 

    التوكُّل والتواكل:

       ليس معنى التوكُّل القعودَ عن الأخذ بالأسباب؛ فقد لَبِس الرسولُ ﷺ دِرْعَين في إحدى مَعَاركه، وحَفَر الخندق في الأحزاب، ودبَّر خُطَّة مُحكَمة في الهجرة، وهو خيرُ من يتوكَّل على الله تعالى من البَشَر.

    وعن عمرَ بنِ الخطَّاب، أنه لَقِي ناسًا من أهل اليمن، فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن المتوكِّلون.  قال: بل أنتم المتَّكِلون؛ إنّما المتوكِّل الَّذي يُلقي حبَّه في الأرض، ويتوكَّل على اللّه" [2]. 

     فـ"ليس في هذا الحديث دلالةٌ على القعود عن الكسب؛ بل فيه ما يدلُّ على طلب الرزق؛ لأن الطَّيْرَ إذا غَدَت، فإنها تغدو لطلب الرزق، وإنما أراد - واللهُ أعلمُ -: لو توكَّلوا على الله تعالى في ذَهابهم ومجيئهم وتصرُّفهم، ورَأَوا أن الخير بيده ومن عندِه، لم ينصرفوا إلَّا سالمين غانمين؛ كالطير تغدو خِماصًا وتعود بِطانًا؛ لكنهم يعتمدون على قوَّتهم وجَلَدهم، ويغشُّون ويَكذِبون ولا يَنصَحون، وهذا خلافُ التوكُّل" [3].

    أدعية في التوكُّل:

    وقد أُثِر عن النبيِّ ﷺ عدَّة أدعية تُعين على تحقيق التوكُّل، منها: ما رواه ابن عباس، أنّ رسول اللّه ﷺ كان يقول:

    «اللّهمَّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكَّلت، وإليك أَنَبت، وبك خاصمت، أعوذ بعِزَّتك، لا إله إلَّا أنت الحيُّ الّذي لا يموت، والجنُّ والإنس يموتون»

    [4]. 

    وقال رسول اللّه ﷺ:

    « مَنْ قَالَ – يَعْنِي: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ -: بِسْمِ اللهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ، لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ، وَوُقِيتَ، وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ»

    [5]. 

    وكان من دعاء النّبيِّ ﷺ: «اللّهمَّ إنّي أسألك التَّوفيق لمحابِّك من الأعمال، وصدق التّوكُّل عليك، وحُسن الظّنِّ بك» [6].


    المراجع

      1. انظر: "التوكل" لابن أبي الدنيا (ص47-54).

      2.  رواه البخاريُّ (1523).

      3.  "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان الصديقي (1/197-198).

      4. رواه البخاريُّ (7385).

      5. رواه الترمذيُّ (3426)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1605).

      6. الجامع الصغير للسيوطي (1517).



      النقول

      قال ابن رجب رحمه الله: "وهذا الحديث أصل في التّوكُّل، وأنّه من أعظم الأسباب الّتي يُستجلب بها الرّزق. قال بعض السّلف: بحسبك من التّوسُّل إليه أن يعلم من قلبك حُسن توكّلك عليه، فكم من عبد من عباده قد فوّض إليه أمره، فكفاه منه ما أَهمّه!... وحقيقة التّوكّل: هو صدق اعتماد القلب على اللّه عزّ وجلّ في استجلاب المصالح، ودفع المضارِّ من أمور الدّنيا والآخرة كلّها، وكِلَة الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنّه لا يعطي ولا يمنع ولا يضرُّ ولا ينفع سواه. قال سعيد بن جبير: التّوكُّل جِمَاع الإيمان. وقال وهب بن منبِّه: الغاية القصوى التّوكُّل. قال الحسن: إنّ توكّل العبد على ربّه أن يعلم أنّ اللّه هو ثِقَتُه" [1].

      قال محمد صديق خان رحمه الله: "والمعنى أنها تذهب أوَّلَ النهار جِياعًا ضامرةَ البطون، وتَرُوح آخِرَ النهار إلى أوكارها شباعًا ممتلئة البطون، ولا تدَّخِر شيئًا" [2].

      قال ابن القيم رحمه الله: "التوكُّل نصف الدين، والنِّصف الثاني الإنابة؛ فإنَّ الدين استعانة وعبادة؛ فالتوكُّل هو الاستعانة، والإنابةُ هي العبادة، ومَنزِلتُه أوسعُ المنازل وأَجمَعُها، ولا تزال معمورةً بالنازلين لسَعَةِ متعلَّق التوكُّل، وكثرة حوائج العالَمين، وعموم التوكُّل ووقوعه من المؤمنين والكفَّار، والأبرار والفجَّار، والطير والوحش والبهائم؛ فأهل السموات والأرض المكلَّفون وغيرُهم في مقام التوكُّل، وإن تباين متعلَّق توكُّلهم، فأولياؤه وخاصَّته يتوكَّلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان، ونُصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه، وتنفيذ أوامره. ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله، فارغًا عن الناس، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في معلوم يناله منه من رزق أو عافية أو نصر على عدوٍّ أو زوجة أو ولد ونحو ذلك، ودون هؤلاء من يتوكَّل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله وتوكُّلهم عليه؛ بل قد يكون توكُّلهم أقوى من توكُّل كثير من أصحاب الطاعات؛ ولهذا يُلقون أنفسهم في الْمَتالف والْمَهالك، معتمِدين على الله أن يُسلِّمهم ويُظفرهم بمطالبهم، فأفضلُ التوكُّل: التوكُّلُ في الواجب؛ أعني: واجبَ الحقِّ، وواجبَ الخلق، وواجب النفس، وأوسعُه وأنفعه: التوكُّل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية، وهو توكُّل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض، وهذا توكُّل ورثتهم، ثم الناس بعدُ في التوكُّل على حَسَب هِمَمهم ومقاصدهم، فمن متوكِّل على الله في حصول الملك، ومن متوكِّل في حصول رغيف، ومن صدق توكُّله على الله في حصول شيء ناله، فإن كان محبوبًا له مَرْضيًّا، كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإن كان مسخوطًا مبغوضًا، كان ما حصل له بتوكُّله مَضرَّةً عليه، وإن كان مباحًا، حَصَلت له مصلحة التوكُّل دون مصلحة ما توكَّل فيه إن لم يَستعِنْ به على طاعاته، والله أعلم"[3].

      قال ابن رجب رحمه الله: " واعلم أنّ تحقيق التّوكُّل لا يُنافي السّعيَ في الأسباب الّتي قدّر اللّه سبحانه المقدوراتِ بها، وجَرَت سُنَّته في خلقه بذلك؛ فإنّ اللّه تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتّوكُّل، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتّوكُّل بالقلب عليه إيمان به؛

      كما قال اللّه تعالى:

      ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَٱنفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ ٱنفِرُوا جَمِيعًا﴾

      [النساء: 71].

      وَقَالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَن طَعَن في الحركة – يعني: في السَّعْيِ والكسب - فقد طعن في السُّنَّة، ومن طعن في التّوكُّل، فقد طعن في الإيمان؛ فالتّوكُّل حالُ النّبيِّ ﷺ، والكسبُ سُنَّته، فمن عَمِل على حاله، فلا يتركنَّ سُنَّته" [4].

      قال النوويُّ رحمه الله: "قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القُشَيْريُّ رحمه الله: اعلم أنّ التّوكُّل مَحَلُّه القلب، وأمّا الحركة بالظّاهر فلا تُنافي التّوكُّل بالقلب بعد ما تحقَّق العبد أنّ الثّقة من قِبَل اللّه تعالى، فإن تعسَّر شيء فبتقديره، وإن تيسَّر فبتيسيره. وقال سهلُ بن عبد اللّه التُّستريُّ - رضي اللّه عنه -: التّوكُّل: الاسترسال مع اللّه تعالى على ما يريد. وقال أبو عثمان الجَبَّريُّ: التّوكُّل الاكتفاء باللّه تعالى مع الاعتماد عليه. وقيل: التّوكُّل أن يستويَ الإكثار والتّقلُّل" [5].

      قال ابن رجب رحمه الله: "ومن لطائف أسرار اقتران الفَرَج بالكَرْبِ واليُسر بالعُسر: أنّ الكرب إذا اشتدَّ وعَظُم وتناهى، وحصل للعبد الإياسُ من كَشْفه من جهة المخلوقين، وتَعلَّق قلبه باللّه وحده - وهذا هو حقيقة التّوكّل على اللّه، وهو من أعظم الأسباب الّتي تُطلَب بها الحوائج - فإنّ اللّه يكفي من توكَّل عليه؛

      كما قال تعالى:

      ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ 

      [الطلاق: 3] [6].

      قال ابن القيم رحمه الله: "قال الإمام أحمد: التوكُّل عملُ القلب، ومعنى ذلك: أنه عمل قلبيٌّ، ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات، ومن الناس من يجعله من باب المعارف والعلوم، فيقول: هو علم القلب بكفاية الربِّ للعبد، ومنهم مَن يفسِّره بالسكون وخمود حركة القلب، فيقول: التوكُّل هو انطراح القلب بين يدَيِ الربِّ كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلِّبه كيف يشاء، وهو ترك الاختيار والاسترسال مع مجاري الأقدار. قال سهل: التوكُّل الاسترسال مع الله مع ما يريد. ومنهم من يفسِّره بالرضى، فيقول: هو الرضى بالمقدور. قال بشرٌ الحافي: يقول أحدهم: توكَّلت على الله، يَكذِب على الله؛ لو توكَّل على الله رَضِيَ بما يفعل الله، وسُئل يَحيى بنُ معاذ: متى يكون الرجل متوِّكلًا؟ فقال: إذا رَضِي بالله وكيلًا، ومنهم من يفسِّره بالثقة بالله، والطمأنينة إليه، والسكون إليه. 

      قال ابن عطاء رحمه الله: التوكُّل أن لا يَظهَر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدَّة فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحقِّ مع وقوفك عليها. قال ذو النون: هو ترك تدبير النفس والانخلاع من الحَوْلِ والقوَّة؛ وإنما يقوِّي العبد على التوكل إذا علم أن الحقَّ سبحانه يَعلَم ويرى ما هو فيه، وقال بعضهم: التوكُّل التعلُّق بالله في كلِّ حال، وقيل: التوكُّل أن تَرِد عليك موارد الفاقات، فلا تسمو إلَّا إلى من إليه الكفايات، وقيل: نفيُ الشكوك والتفويض إلى مالك الملوك، وقال ذو النون: خلع الأرباب وقطع الأسباب؛ يريد قطعها من تعلُّق القلب بها، لا من ملابسة الجوارح لها، ومنهم من جَعَله مركَّبًا من أمرين أو أمور، فقال أبو سعيد الخراز: التوكُّل اضطراب بلا سكون، وسكونٌ بلا اضطراب؛ يريد: حركة ذاته في الأسباب بالظاهر والباطن، وسكون إلى المسبِّب، وركون إليه، ولا يضطرب قلبه معه، ولا تسكن حركته عن الأسباب الموصِّلة إلى رضاه، وقال أبو تراب النخشبيُّ: هو طرح البدن في العبودية، وتعلُّق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أُعطِيَ شكر، وإن مُنِع صَبَر، فجعله مركَّبًا من خمسة أمور: القيام بحركات العبودية، وتعلُّق القلب بتدبير الربِّ، وسكونه إلى قضائه وقَدَره، وطمأنينته وكفايته له، وشكره إذا أُعطي، وصبره إذا مُنع. قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكُّل على الله بكمال الحقيقة كما وقع لإبراهيمَ الخليلِ - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريلَ عليه السلام: أما إليك فلا؛ لأنه غائب عن نفسه بالله، فلم يَرَ مع الله غير الله" [7].

      قال ابن القيم رحمه الله: "أجمع القوم على أن التوكُّل لا ينافي القيامَ بالأسباب، فلا يصحُّ التوكُّل إلا مع القيام بها، وإلَّا فهو بطالة وتوكُّل فاسد. قال سهل بن عبدالله: من طَعَن في الحركة، فقد طَعَن في السنَّة، ومن طعن في التوكُّل، فقد طعن في الإيمان؛ فالتوكُّل حال النبيِّ ﷺ والكسب سنَّته، فمن عَمِل على حاله، فلا يتركنَّ سنَّته، وهذا معنى قول أبي سعيد: هو اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب، وقول سهل أبينُ وأرفع، وقيل: التوكُّل قطع علائق القلب بغير الله، وسُئل سهلٌ عن التوكُّل فقال: قلبٌ عاش مع الله بلا علاقة، وقيل: التوكُّل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق، وقيل: التوكُّل أن يستويَ عندك الإكثار والإقلال، وهذا من موجِباته وآثاره؛ لأنه حقيقته" [8].


      المراجع


      1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 496، 497).

      2. "فتح البيان في مقاصد القرآن" لمحمد صديق خان (10/ 213).

      3. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 113، 114).

      4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 498).

      5. "شرح النوويِ على مسلم" (3/ 91، 92).

      6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 493).

      7. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 114 - 116).

      8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 116).





      المعنى الإجماليُّ للحديث

      يروي عُقبةُ بنُ عَامرٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللهِ ﷺ قال له:

      «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ»؛ هي: سورة الفلق: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾؛

       أي: (قل) متعوِّذًا: (أَعُوذُ)؛ أي: ألجأ وأَلُوذ وأعتصم (بِرَبِّ الْفَلَقِ)؛ أي: فالق الحبِّ والنَّوى، وفالق الإصباح.

      وسورة الناس:

      ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾

      أي: (قل) متعوِّذًا: (أَعُوذُ)؛ أي: ألجأ وألوذ وأعتصم (بِرَبِّ الناس).

      الشرح المفصَّل للحديث

      اختصَّ الله تعالى بعض سور القرآن بمَزيَّة خاصَّة، وفضَّل بعض القرآن على بعضه؛

      قال تعالى:

      ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍۢ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ﴾

      [البقرة : 106]،

      ومن بين هذه السور المعوِّذتان، وكان النبيُّ ﷺ حريصًا على ما يَنفَع أصحابه رضي الله عنهم وأمَّته في الدنيا والآخرة، فأخبر الصحابيَّ الجليل عقبةَ بنَ عامرٍ رضي الله عنه بفضل وعِظم هاتين السورتين: سورةِ الفَلَق، وسورة الناس، فقال: «أَلَمْ تَرَ آيَاتٍ أُنْزِلَتِ اللَّيْلَةَ»: والرؤية المرادُ يها هنا: العلمُ، والاستفهام تقريريٌّ، حاصلُه:  إثبات ما بعد النفيِ؛ أي: أَعلَمُ آياتٍ أُنزلت الليلةَ، «لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ:

      ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ﴾

      و

      ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾

      والمعنى: أنه لم يُنزِل اللهُ تعالى عليَّ فيما مضى من الزمان مثل هؤلاء الآيات في بابهن، وهو الاستعاذة؛ يعني: أنه لم تكن آياتُ سورةٍ كُلُّهُنَّ تعويذٌ للقارئ غير هاتين السورتين [1]، والمراد: فيما أُنزلن لأجله، وهو الاستعاذة، ودفع الأعين، وكفاية شرِّ الحاسد في العائن والنفَّاثات [2].

      وقد ورد في فضل هاتين السورتين الكثيرُ من الأحاديث، وأنهما كافيتان للمسلم من كلِّ شيء، وتَدفَعان السوء عن قارئهما؛

      فعن عبد الله بن خُبَيْبٍ رضي الله عنه قال:

      خرجنا في ليلة مَطيرة وظُلمة شديدة نَطلُب رسول الله ﷺ يصلِّي لنا، قال: فأدركتُه، فقال: «قل» فلم أقُلْ شيئًا، ثم قال: «قل»، فلم أقل شيئًا، قال: «قل»، فقلتُ: ما أقول؟ قال: «قل: قل هو الله أحد، والمعوِّذتين حين تُمسي وتُصبح ثلاثَ مرَّات تَكفِيك من كلِّ شيء»

      [3]،

      وكان النبيُّ ﷺ يتعوَّذ بالله تعالى من أَعْيُن الإنس والجانِّ، ويُكثِر من ذلك، حتى نزلت سورتا الفلق والناس، فأخذهما واكتفى بهما عن غيرهما؛

      فعن أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه قال:

      «كان رسول الله ﷺ يتعوَّذ من الجانِّ، وعَين الإنسان، حتى نزلت المعوِّذتان، فلمَّا نزلتا، أخذ بهما، وترك ما سواهما»

      [4]

      وكان ﷺ إذا مَرِض قرأهما في نفسِه، ومَسَح بيده على جسده، وكذلك كانت تفعل عائشةُ رضي الله عنها في مرضه الذي توفِّي فيه؛

      فعن عائشةَ زوجِ النبيِّ ﷺ:

      «أن رسول الله ﷺ كان إذا اشتكى، يقرأ في نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ ويَنفُث، فلما اشتدَّ وَجَعُه، كنتُ أقرأ عليه، وأمسح عليه بيده؛ رجاءَ بركتها»

      [5].


      المراجع

      1.  " البحر احمليط الثجاج" حملمد بن علي اإلتيويب 821/11(.

      2. " التنوير شرح اْلامع الصغري " للصنعاين /8 242(. 

      3. رواه أبو داود (5082)، والترمذيُّ (3575)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 158): حسن صحيح.

      4. رواه النسائيُّ (7804)، والترمذيُّ (2058)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (4902).

      5. رواه أبو داود (3902)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن أبي داود".



      النقول

      قال الطيبيُّ رحمه الله: قوله: «ألم تر» هي كلمةُ تعجُّب وتَعجِيب؛ ولذلك بيَّن معنى التعجُّب بقوله: «لم يُرَ مثلُهن»؛ يعني: لم تكن آياتُ سورة كلُّهن تعويذًا للقارئ من شرِّ الأشرار غيرَ هاتين السورتين. وأقول: ولذلك كان رسول الله ﷺ يتعوَّذ من عين الجانِّ، وعين الإنسان. فلمَّا نزلت المعوِّذتان، أخذ بهما، وتَرَك ما سواهما، ولَمَّا سُحِر استشفى بهما. وإنما كان كذلك؛ لأنهما من الجوامع في هذا الباب، فتأمَّل في أوَّلهما، كيف خصَّ وصف الْمُستعاذ به بـ «ربِّ الفلق»؛ أي: بفالق الإصباح؛ لأن هذا الوقت وقتُ فيضان الأنوار، ونزول الخيرات والبركات، وخصَّ المستعاذ منه بـ «ما خَلَق»، فابتدأ بالعامِّ من قوله:

      ﴿مِن شَرِّ مَا خَلَقَ﴾

      أي: من شرِّ خَلقِه، وشرِّ ما يَفعَله المكلَّفون من المعاصي، ومضارَّة بعضهم بعضًا من ظُلم وبغيٍ، وقتلٍ وضربٍ، وشَتْمٍ وغيرِه، وما يَفعَله غير المكلَّفين من الحيوان؛ كالسِّباع والحشرات، من الأكل والنَّهش، واللَّدغ والعضِّ، وما وضَعَه الله في غير الحيوان من أنواع الضرر؛ كالإحراق في النار، والقتل في السُّمِّ، ثم ثنَّى بالعطف عليه ما هو شرُّه أخفى من الزمان، ما هو نقيضُ انفلاق الصُّبح من دخول الظلام واعتكاره المعنيِّ بقوله:

      ﴿وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ﴾

      لأن انبثاث الشرِّ فيه أكثرُ، والتحرُّز منه أصعبُ، ومنه قولهم: الليلُ أخفى للوَيل. وخصَّ ما يَكِنُّ في الزمان بما غائلتُه خفيَّة من النفَّاثات والحاسد. الكشاف: وقد خصَّ شرَّ هؤلاء من كلِّ شرٍّ؛ لخفاء أمرِه، وأنه يَلحَق الإنسان من حيث لا يَعلَم كأنما يُغتال به، وقيَّد الحاسد بـ

      ﴿إِذَا حَسَدَ﴾

      لأن الحاسد إذا أَظهَر حَسَده، وعَمِل بمقتضاه من بغيِ الغوائل للمحسود، كان شرُّه أتمَّ، وضَرُّه أكملَ" [1].

      قال النوويُّ رحمه الله: "فيه بيانُ عِظَم فضل هاتين السّورتين، وفيه دليلٌ واضح على كونهما من القرآن، وردٌّ على من نَسَب إلى ابن مسعود خلاف هذا، وفيه أنّ لفظة (قل) من القرآن ثابتة من أوّل السّورتين بعد البسملة، وقد أجمعت الأمّة على هذا كلِّه. قوله ﷺ في الرّواية الأخرى: «أنزل - أو أنزلت - عليَّ آيات لم يُر مثلهنّ قطُّ؛ المعوّذتين» ضبطنا (نر) بالنّون المفتوحة، وبالياء المضمومة، وكلاهما صحيح. قوله : «المعوِّذتين» هكذا هو في جميع النّسخ، وهو صحيح، وهو منصوب بفعل محذوف؛ أي: أعني المعوّذتين، وهو بكسر الواو" [2].

      قال الطيبيُّ رحمه الله: "ثم تفكَّر في ثانِيَتهما، كيف وَصَف المستعاذَ به بالربِّ، ثم بالْمَلِك، ثم بالإله، وأضافها إلى الناس، وكرَّره، وخصَّ المستعاذَ منه بالوَسواس المعنيِّ به الْمُوَسْوِس من الجِنَّة والناس. الكشاف: إن الاستعاذة وقعت من شرِّ الموسوِس في صدور الناس، وكأنه قيل: أعوذ من شرِّ الموسوِس إلى الناس بربِّهم الذي يَملِك عليهم أمورَهم، وهو إلهُهم ومعبودُهم، كما يَستغيث بعضُ الْمَوالي إذا اعتراهم خَطْبٌ بسيِّدهم ومخدومهم ووَلِيِّ أمرهم. بيَّن بـ(ملك الناس)، ثم زِيدَ بيانًا بـ(إله الناس)؛ لأنه قد يُقال لغيره: ربُّ الناس، وقد يُقال: مَلِك الناس، وأما إلهُ الناس، فخاصٌّ لا شِرْكة فيه، فجُعِل غايةً للبيان.

      وأقول: هذه المبالَغة في جانب المستعاذ به، والترقِّي في الصفات يقتضي المبالغة في المستعاذ منه، ولَعَمْري، إن هذه الوسوسة إما أن تكون في صدور المستعيذ، وهي رأسُ كلِّ شرٍّ، ومَنشَأ كلِّ ضلالة وكُفر وبِدعة، أو في صدور من يناديه ويضادُّه، وهي مَعدِن كلِّ مضرَّة، ومَنبَع كلِّ نَكال وعقوبة، فيَدخُل فيه نَفْثَةُ كلِّ نافث، وحَسَدُ كلِّ حاسد" [3].

      قال ابن تيمية رحمه الله: " فقد أَخبَر في هذا الحديث الصّحيح أنّه لم يُرَ مثلُ المعوِّذتين، كما أخبر أنّه لم يَنزِل في التّوراة ولا في الإنجيل ولا في الزّبور ولا في القرآن مثلُ الفاتحة، وهذا ممّا يبيِّن فضل بعض القرآن على بعض" [4].

      قال ابن الجوزيُّ رحمه الله: "وفي (الفلق) أربعة أقوال؛ أحدها: الصبح، والثاني: الخَلق كلُّه. والثالث: سجن في جهنَّمَ، وهذه الأقوال عن ابن عباس. وقال وهب: حيَّة في جهنم. وقال السُّدِّيُّ: وادٍ في جهنَّم. والرابع: أنه كل ما انفلق عن شيءٍ؛ كالصُّبح والحَبِّ والنَّوى، قاله الحسن. وَفِي "أَحْدَاث الطلاب" مَن يَقُول: المعوّذتين بِفَتْح الْوَاو، وَالصَّوَاب الْكسر" [5]

      قال السعديُّ رحمه الله: "(قل) متعوِّذًا: (أَعُوذُ)؛ أي: ألجأ وألوذ، وأعتصم (بِرَبِّ الْفَلَقِ)؛ أي: فالق الحبِّ والنَّوى، وفالق الإصباح. (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)، وهذا يَشمَل جميع ما خَلَق الله، من إنس، وجنٍّ، وحيوانات، فيُستعاذ بخالقها من الشرِّ الذي فيها، ثم خصَّ بعد ما عمَّ، فقال: (وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ)؛ أي: من شرِّ ما يكون في الليل، حين يَغشى الناسَ، وتنتشر فيه كثيرٌ من الأرواح الشرِّيرة، والحيوانات المؤذِية. (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ)؛ أي: ومن شرِّ السواحر، اللاتي يستعنَّ على سحرهنَّ بالنَّفْثِ في العُقَد، التي يَعقِدْنَها على السِّحْرِ. (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ): والحاسدُ: هو الذي يحبُّ زوال النعمة عن المحسود، فيسعى في زوالها بما يَقدِر عليه من الأسباب، فاحتيجَ إلى الاستعاذة بالله من شرِّه، وإبطال كَيده، ويَدخُل في الحاسد العائنُ؛ لأنه لا تَصدُر العَيْنُ إلا من حاسد شرِّير الطَّبع، خبيثِ النفس، فهذه السورة، تضمَّنت الاستعاذة من جميع أنواع الشرور، عمومًا وخصوصًا. ودلَّت على أن السحر له حقيقةٌ يُخشى من ضَرَره، ويُستعاذ بالله منه ومن أهله" [6].

      قال ابن القيم رحمه الله: "وقوله: (من شرِّ حاسد إذا حسد) يعمُّ الحاسدَ من الجنِّ والإنس؛ فإن الشيطان وحزبه يَحسُدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله؛ كما حَسَد إبليسُ أبانا آدمَ، وهو عدوٌّ لذُرِّيته؛ ولكن الوسواس أخصُّ بشياطين الجنِّ، والحسد أخصُّ بشياطين الإنس، والوسواسُ يعمُّهما، والحسدُ يعمُّهما أيضًا؛ فكلا الشيطانين حاسدٌ مُوَسوِس، فالاستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعًا، فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كلِّ شر في العالم، وتضمَّنت شرورًا أربعة يُستعاذ منها شرًّا عامًّا، وهو شرُّ ما خَلَق، وشرُّ الغاسق إذا وقب، فهذا نوعان، ثم ذكر شرَّ الساحر والحاسد، وهي نوعان أيضًا؛ لأنهما من شرِّ النفس الشرِّيرة، وأحدهما يَستعين بالشيطان ويَعبُده، وهو الساحر، وقلَّما يتأتَّى السِّحر بدون نوع عبادة للشيطان، وتقرُّب إليه، إما بذَبْحٍ باسمه، أو بذَبح يُقصد به هو، فيكون ذبحًا لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق. والساحر وإن لم يُسَمِّ هذا عبادةً للشيطان، فهو عبادة له، وإن سمَّاه بما سمَّاه به؛ فإن الشِّرك والكفر هو شرك وكُفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولَفظِه؛ فمن سَجَد لمخلوق وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبِّلها بالنِّعم، أو هذا إكرام، لم يَخرُج بهذه الألفاظ عن كونه سجودًا لغير الله، فليسمِّه بما شاء" [7].

      قال السعديُّ رحمه الله: "وهذه السورةُ مشتمِلة على الاستعاذة بربِّ الناس ومالكِهم وإلهِهم، من الشيطان الذي هو أصلُ الشرور كلِّها ومادَّتها، الذي من فتنته وشرِّه، أنه يوسوِس في صدور الناس، فيُحسِّن لهم الشرَّ، ويُريهم إيَّاه في صورة حَسَنة، وينشِّط إرادتهم لفعلِه، ويقبِّح لهم الخير، ويثبِّطهم عنه، ويُريهم إيَّاه في صورة غير صورته، وهو دائمًا بهذه الحال يوسوِس ويَخْنُسُ؛ أي: يتأخَّر إذا ذَكَر العبدُ ربَّه واستعان على دَفْعِه، فينبغي له أن يستعين ويستعيذ ويعتصم بربوبية الله للناس كلِّهم. وأن الخلق كلَّهم داخلون تحت الربوبية والْمُلك، فكلُّ دابَّة هو آخِذٌ بناصيتها. وبألوهيته التي خلقهم لأجلها، فلا تتمُّ لهم إلا بدفع شرِّ عدوِّهم، الذي يريد أن يقتطِعَهم عنها، ويَحُول بينهم وبينها، ويُريد أن يَجعَلهم من حزبه؛ ليكونوا من أصحاب السعير، والوَسْوَاس كما يكون من الجنِّ يكون من الإنس؛ ولهذا قال: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)"  [8].

      قال ابن تيمية رحمه الله: ""أمّا الأوّل، فهو مسألة كبيرة، والنّاس متنازعون فيها نزاعًا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام اللّه أفضل من بعض كما نطقت به النّصوص النّبويّة؛ حيث أخبر عن الفاتحة أنّه لم يَنزِل في الكتب الثّلاثة مثلُها، وأخبر عن سورة الإخلاص أنّها تَعدِل ثُلث القرآن، وعَدْلُها لثُلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف، وجعل آية الكرسيِّ أعظم آية في القرآن؛ كما ثبت ذلك في الصّحيح أيضًا،

      وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أنّ النّبيَّ ﷺ قال لأُبيِّ بنِ كعب:

      «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «يا أبا المنذر، أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم؟» قال: قلت: ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ  قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليَهْنِكَ العلمُ أبا المنذر»، وقال في المعوِّذتين: لم ير مثلهنّ قطُّ، وقد قال تعالى: مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍۢ مِّنْهَآ أَوْ مِثْلِهَآ ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌﱠ [البقرة: ١٠٦] ، فأخبر أنّه يأتي بخير منها أو مثلها، وهذا بيان من اللّه لكون تلك الآية قد يأتي بمثلها تارةً، أو خير منها أخرى، فدلَّ ذلك على أنّ الآياتِ تتماثل تارةً، وتتفاضل أخرى. وأيضًا فالتّوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام اللّه، مع علم المسلمين بأنّ القرآن أفضل الكتب الثّلاثة.  قال تعالى: وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ [المائدة: ٤٨] 


      ... وقد سمّى اللّه القرآن كلّه مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدَّى الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشْرِ سور منه، أو بمثل سورة منه... والقول بأنّ كلام اللّه بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السّلف، وهو الّذي عليه أئمّة الفقهاء من الطّوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة" [9].

      المراجع

      1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1650)

      2. "شرح النوويِّ على مسلم" (6/ 96).

      3. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (5/ 1651).

      4.  "مجموع الفتاوى" (17/ 9).

      5. " كشف المشكل من حديث الصحيحين " لابن الجوزيِّ (4/ 141).

      6. "تفسير السعديِّ" (ص: 937).

      7. "بدائع الفوائد" لابن القيم (2/ 759، 760).

      8.  "تفسير السعديِّ" (ص: 937، 938).

      9. "مجموع الفتاوى" (17/ 10 - 13).