عن أبي هُرَيرة رضي الله عنه، قال: خطَبَنا رسولُ الله ﷺ، فقال: «أيُّها الناسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا»، فقال رجُلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكَتَ حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله ﷺ: «لو قلتُ: نَعمْ، لوجَبتْ، ولَمَا استطعتم». ثم قال: «ذَروني ما تركتُكم؛ فإنما هلَك مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نَهيتكم عن شيء فدَعوه»

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو هُرَيرة رضي الله عنه

أن رسول الله ﷺ خطبهم فقال: «أيُّها الناسُ، قد فرَضَ اللهُ عليكم الحجَّ؛ فحُجُّوا» بيتَ الله الحرام واستجيبوا للأمر. (فقال رجُلٌ: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟)؛ أي: هل فُرِض علينا أن نحجَّ كلَّ عام؟ (فسكَتَ حتى قالها ثلاثًا)؛ أي: فسكت ﷺ حتى كرَّر الرجل سؤال النبيِّ ﷺ ثلاث مرَّات، والنبيُّ ﷺ لا يجيبه.

فقال : «لو قلتُ: نَعمْ، لوجَبتْ، ولَمَا استطعتم»؛ أي: لو أجابه النبيُّ ﷺ بالإيجاب، لوجب الحجُّ كلَّ عام، ولما استطاعوا الامتثال لهذا الفرض الشاقِّ كلَّ عام.

ثم قال ﷺ: «ذَروني ما تركتُكم»؛ أي: دعوني واتركوني ما تركتكم. «فإنما هلَك مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»؛ أي: إن سبب هلاك الأمم السابقة كثرة سؤالهم أنبياءهم، فشدَّدوا على أنفسهم، فشُدِّد عليهم، فلم يمتثلوا، فهَلَكوا. «فإذا أمرتُكم بشيء، فأْتوا منه ما استطعتم، وإذا نَهيتُكم عن شيء، فدَعوه»؛ أي: انتهوا عما أنهاكم عنه على أيِّ حال، وافعلوا ما تؤمرون به ما دام في وُسعكم واستطاعتكم.


الشرح المفصَّل للحديث:

هذا الحديث يدُلُّ على رأفة النبي ﷺ بأُمَّته وشَفقته عليهم؛ ولهذا نهاهم عن السؤال عمَّا لم يَرِدْ فيه شرعٌ بأمر أو نهيٍ.

قوله: «قد فرض الله عليكم الحجَّ»: الحجُّ لُغةً: القصدُ، وشرعًا: قصْدُ بيت الله الحرام بنيَّة التقرُّب إلى الله في زمان مخصوص، بأداء شعائرَ مخصوصةٍ [1].

قوله: فقال رجل: هو الأقرع بن حابِسٍ، كما في الروايات الأخرى [2].

وقوله: (أكلَّ عام يا رسول الله؟): لَمَّا كان أمر النبيِّ ﷺ بوجوب الحجِّ خاليًا عن ذِكْر التَّكرار؛ هل يتكرَّر ذلك الوجوب أو لا؟ فلهذا سأل الصحابيُّ رسول الله ﷺ؛ ولهذا اختلف الأصوليون في الأمر المطلَق، هل يدُلُّ على التَّكرار أو على المرَّة الواحدة؟ فلمَّا لم يعرِف الصحابيُّ ذلك، سأل النبيَّ ﷺ، وربما ساعَده على ذلك أن الحجَّ في اللغة قصدٌ فيه تَكرارٌ، فلهذا فَهِم ذلك، وأراد الاستفسار [3].

وإنما سكت النبيُّ ﷺ في المرتينِ زجرًا له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أَوْلى بأُولي الفَهْم بين يدَيْ رسول الله ﷺ؛ وذلك لأن رسول الله ﷺ إنما بُعِث لبيان الشريعة، فلم يكن ليَسكُت عن بيان أمرٍ عَلِم أن الأُمَّة بحاجة إلى الكشف عنه، فالسؤال عن مِثله تقدُّمٌ بين يدي رسول الله ﷺ، وقد نُهوا عنه بقوله تعالى: 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾

[الحجرات: 1] 

وفي الإقدام عليه ضربٌ من الجهل، ثم فيه احتمالُ أن يُعاقَبوا بزيادة التكليف، وإليه أشار بقوله ﷺ: «ولو قلت: نعمْ، لوجبتْ، ولَما استطعتم» [4].

وقوله: «لو قلت: نعمْ، لوجبتْ» هذا زجرٌ للسائل لَمَّا رآه لا ينزجِرُ بسكوته، فبيَّن أنه ﷺ إنما سكت خشيةَ أن تُفرضَ على الناس، وفي قوله: «لو» دليلٌ على أن الحجَّ لا يجب إلا مرَّةً واحدةً في العمر؛ إذ لم يقُل النبيُّ ﷺ بالوجوب، وعلَّقه على إجابته، ولم تحصُل؛ بدليل «لو»، وهي تُفيد الامتناع، فامتنع الوجوب بامتناع القول منه [5].

وإنما قال: «لوجبتْ» بالتأنيث؛ أي: لوجبتْ حججٌ كثيرةٌ، أو: لَوَجبتْ حجَّةٌ كلَّ عام [6].

وقوله: «ذَروني ما تركتكم» أي: لا تُكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مُقيَّدةً بوجه ما؛ فإذا أُمِرْتم بأمرٍ، فافعلوا ما يقع عليه اسمُ ذلك الفعل؛ فإذا أُمرتم بالصَّدقة، أو الحجِّ، أو غير ذلك، فيُجزئكم ما تقع عليه التسمية، وهي مرَّةٌ واحدة، فهي مدلولُ اللفظ، وما زاد عليه من التَّكرار المحتمَل من اللفظ، يُتغافَل عنه. وفيه النهيُ عن الاقتراح والسؤال عمَّا لا يَعْنيهم ولا يَليق بهم؛ فإنه تضييع للعمر، ودليلٌ على التردُّد في الأمر، وقد يَصير سببَ الوقوع في الزَّيغ والبِدَع؛ لسوء الفَهْم، وضعف البصيرة [7].

وفيه أن الأصل في الأشياء استصحابُ حُكم الإباحة فيما لم ينزل فيه حكمٌ، وأن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا حكمَ إلا بورود الشرع [8].

قوله: «فإنما هلَكَ مَن كان قبلَكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم»؛ أي: إنما كان كثرة السؤال والاختلاف سببًا للهلاك؛ لأنهما من أَمارات التردُّد في أمر المبعوث، وإساءة الأدَب بين يدَيه، ومن حقِّ المبعوث إليه أن يَعلَم أن الله بعث نبيَّه إليه ليُعرفه مصالحَ مَعاده ومَعاشه، ويُبَصِّره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلَّم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة؛ فإن الله تعالى لم يجعله مستعدًّا لنبوَّته، ولا أمينًا على وَحْيه، إلا وقد تكفَّل له بالإصابة، وأيَّده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يُلقيَ سمعَه إليه، ويَشهَد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلَّم، ويسُدَّ دونَه باب الاختلاف، ويجتنب معه مَظانَّ الاعتراض. فمهما عوَّد نفْسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف، حُرِم بركة الصُّحبة، فابْتُلِي بسوء الأدب، وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك [9].

وقصة أصحاب البقرة أعظم دليل على ذلك؛ فإن الله لَمَّا أمرهم على لسان نبيِّه موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرةً، تشدَّدوا في السؤال، فشدَّد الله عليهم، ولو امتثلوا الأمرَ من البداية، لَمَا كان الحال كما وَصلوا إليه، فخاف النبيُّ ﷺ على أُمَّته أن تصل إلى ما وصل إليه بنو إسرائيل [10] لذا؛ نهى النبيُّ ﷺ عن السؤال، وأنزل الله عز وجل:

﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْـَٔلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْـَٔلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ  ﴾

[المائدة: 101]

وقال ﷺ في حديث المغيرة بن شُعبة:

«إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمَّهات، ووَأْد البنات، ومنع وهات، وكَرِه لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»

[11]، 

وقال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه:

«نُهِينا أن نسألَ رسول الله ﷺ عن شيء، فكان يُعجبنا أن يجيء الرجُل من أهل البادية العاقل، فيسأله، ونحن نسمع»

[12]،

فإنما رخَّص لأهل البادية؛ لعدم علمهم، وعدم وصول أوامر الشرع إليهم، بخلاف أصحابه الملازمين له.

وفي الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله ﷺ:

«إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا: مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين، فحَرُمَ عليهم من أجْل مسألته»

[13].

قوله: «فإذا أمرتُكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم» هذه قاعدةٌ من قواعد الإسلام المهمَّة، ومن جوامع الكَلِم التي أُعطِيها رسولُ الله ﷺ، ويدخل فيها ما لا يُحْصى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها؛ فإذا عجز عن بعض أركانها، أو بعض شروطها، أتى بالباقي، وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء، أو الغُسل، غَسَل الممكن، وإذا وجد بعض ما يَكفيه من الماء لطهارته، أو لغُسل النجاسة، فعَل الممكن...، وهكذا في جميع الأمور الأخرى؛ لقوله تعالى: 

﴿فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِۦ فَأُولَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ  ﴾

[التغابن: 16] [14].

وقد اختلف العلماء في توجيه الآية السابقة والحديث مع قوله تعالى:

﴿ وَٱعْتَصِمُوا بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَٱذْكُرُوا نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِۦٓ إِخْوَٰنًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍۢ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾

[آل عمران: 102]؛

فقيل: إن آية التغابن نسخَتْها، وقيل: إنه لا تعارضَ بين الآيتين؛ إذ تقوى الله حق تُقاته هي بفعل ما أمر، والله سبحانه لم يأمُر بغير المستطاع؛ لقوله تعالى:

﴿ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِۦ ۖ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ ۚ أَنتَ مَوْلَىٰنَا فَٱنصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَٰفِرِينَ ﴾

[البقرة: 286]،

وقوله تعالى:

﴿ وَجَٰهِدُوا فِى ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦ ۚ هُوَ ٱجْتَبَىٰكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍۢ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَٰهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَٰذَا لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعْتَصِمُوا بِٱللَّهِ هُوَ مَوْلَىٰكُمْ ۖ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ﴾

[الحج: 78] [15].

قوله: «وإذا نهيتكم عن شيء فدَعُوه» دليلٌ على أن النهيَ على نقيض الأمر؛ فإن الأمرَ يَقتضي فِعلَ ما ينطبق عليه الاسم، أما النهيُ فإن المنهيَّ لا يكون ممتثلًا بمقتضى النهي حتى لا يفعل واحدًا من آحاد ما يتناوله النهي، ومَن فَعَل واحدًا فقد خالف وعصى، فليس في النهي إلا ترْكُ ما نُهِيَ عنه مطلَقًا دائمًا، وحينئذٍ يكون ممتثلًا لترك ما أُمر بتركه [16].

لكن إذا طرأ عذرٌ على المنهيِّ يقتضي منه فِعل المنهيِّ عنه، فهنا لا يكون منهيًّا عنه في تلك الحال؛ كالتلفُّظ بكلمة الكفر للمُكْرَه، أو أكل الميتة، أو شرب الخمر للمضطرِّ، وغير ذلك [17].


المراجع

1. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

2. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120). 

3. انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 109)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447). 

4. انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (2/ 120).

5. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 447)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101). 

6.  انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 586). 

7. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 447)، "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 130). 

8. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 101)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57). 

9. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 79). 

10. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (3/ 448)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 58). 

11. رواه البخاريُّ (2408)، ومسلم (593). 

12. رواه مسلم (12). 

13. رواه البخاريُّ (7289)، ومسلم (2358). 

14. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57). 

15. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 444)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102). 

16. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 448). 

17. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 102)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 57).



النقول

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الحجُّ في اللغة القَصْدُ، وفي الشرع: قَصْدُ البيت على الوجه المخصوص في الزمان المخصوص، وهو شوَّال، وذو القَعْدَة، وعَشْرُ ليالٍ من ذي الحِجَّة. «فقال رجلٌ» يعني الأقرعَ بنَ حابسٍ: «أكلَّ عامٍّ؟»؛ أي: أتأمرنا أن نحجَّ كلَّ عام؟ وهذا يدلُّ على أن مجرَّد الأمر لا يفيد التَّكرار، ولا المرَّة، وإلَّا لَمَا صحَّ الاستفهام. وإنما سكت ﷺ حتى قالها ثلاثًا؛ زجرًا له عن السؤال، فإن التقدُّم بين يدَيْ رسول الله ﷺ منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى:

﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[الحجرات: 1] 

لأنه ﷺ مبعوث لبيان الشرائع، وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحجُّ كلَّ سنةٍ، لبيَّنه الرسول - صلوات الله عليه - لا محالةَ، ولا يقتصر على الأمر به مُطلَقًا، سواءٌ سُئل عنه أو لم يُسأل، فيكون السؤال استعجالًا ضائعًا، ثم لَمَّا رأى أنه لا ينزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح، أجاب عنه بقوله: «ولو قلتُ: نعم، لوَجَبت كلَّ عام حَجَّة»، فأفاد به أنه لا يجب كلَّ عام؛ لما في (لو) من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه إنما لم يتكرَّر؛ لِما فيه من الحَرَج، والكُلْفة الشاقَّة. ونبَّه على أن العاقل ينبغي له أن لا يستقبل الكُلَف الخارجة عن سَمعه، وأن لا يَسأل عن شيء إن يُبْدَ له أساءه" [1].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الإمام: اختلف الناس في الأمر المطلَق، فقال بعضهم: يُحمَل على فعل مرَّة واحدة، وقال بعضهم: على التَّكرار. وقال بعضهم: بالوقف فيما زاد على مرَّة، وظاهر هذا أن السائل لرسول الله ﷺ إنما سأله لأن ذلك عنده يُحتمَل، فيصحُّ أن يكون ذَهَب إلى بعض هذه الطُّرق، ويصحُّ أن يكون إنما احتُمِل عنده من وجه آخَرَ؛ وذلك أن الحج في اللغة: قصدٌ فيه تكرير، فيكون احتَمَل عنده التكرير من جهة اشتقاق اللفظ، وما يقتضيه من التَّكرار، وقد تعلَّق بما ذكرنا عن أهل اللغة هاهنا من قال بإيجاب العُمرة، وقال: لما كان قوله تعالى:

﴿وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ﴾

[آل عمران: ٩٧]

يقتضي على حُكم الاشتقاق المتكرِّر، واتُّفِق على أن الحجَّ لا يَلزَم إلا مرَّةً واحدة، كانت العودة إلى البيت تقتضي أن تكون في عُمرة حتى يَحصُل التردُّد إلى البيت، كما اقتضاه الاشتقاق.

قال القاضي رحمه الله: فيه ما كان - عليه السلام - من صفة الرأفة والرحمة بأمَّته، وفيه دليل على أنه كان له أن يشرِّع في الدين برأيه ويجتهد فيه. وقد اختُلِف في هذا الأصل لقوله: «لو قلت: نعم، لوجبت». وقوله: «ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم...» الحديث: دليلٌ على أن الأشياء على استصحاب حال الإباحة فيما لم يَنزِل فيه حُكم.

وقوله: «فإذا أمرتكم بأمر، فَأْتوا منه ما استطعتم»، من قول الله تعالى:

﴿ فَٱتَّقُوا ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ﴾

[التغابن: 16] 

وقد قيل: إنها ناسخة لقوله تعالى:

﴿ ٱتَّقُوا ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ

[آل عمران: 102]

وقيل: لا نسخ فيها، وهى مفسِّرة ومُبيِّنة؛ لأن حقَّ تُقاته تعالى: هو امتثال العبد ما أُمِر به، وما أَمَره إلا بما استطاع، وما جعل عليه في الدين من حرج" [2].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «ما تركتكم»؛ أي: مدَّةَ تركي إيّاكم بغير أمر بشيء ولا نهي عن شيء، وإنّما غايَر بين اللّفظين لأنّهم أماتوا الفعلَ الماضيَ، واسمَ الفاعل منهما، واسمَ مفعولهما، وأثبتوا الفعل المضارع، وهو يَذَر، وفعل الأمر وهو (ذَرْ)، ومثلُه دَعْ ويَدَعُ؛ ولكن سُمِع (وَدَعَ) كما قرئ به في الشّاذِّ في قوله تعالى:

﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ﴾ 

[الضحى: ٣]، 

قرأ بذلك إبراهيمُ بنُ أبي عبلة، وطائفة، وقال الشّاعر: (وَنَحْنُ وَدَعْنَا آلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ = فَرَائِسَ أَطْرَافِ الْمُثَقَّفَةِ السَّمْرِ)، ويَحتمِل أن يكون ذَكَر ذلك على سبيل التّفنُّن في العبارة، وإلّا لقال: اتركوني. والمراد بهذا الأمر: ترك السّؤال عن شيء لم يقع؛ خشيةَ أن ينزل به وجوبه أو تحريمه، وعن كثرة السّؤال لما فيه غالبًا من التّعنُّت، وخشية أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَل؛ فقد يؤدِّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة؛ قال ابن فرج: معنى قوله: «ذروني ما تركتكم»: لا تُكثروا من الاستفصال عن المواضع الّتي تكون مفيدةً لوجه ما ظهر، ولو كانت صالحةً لغيره، كما أنّ قوله: «حجُّوا» وإن كان صالحًا للتَّكرار، فينبغي أن يُكتفى بما يَصدُق عليه اللّفظ، وهو المرّة؛ فإنّ الأصل عدم الزّيادة، ولا تُكثروا التّنقيب عن ذلك؛ لأنّه قد يُفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل إذ أُمروا أن يذبحوا البقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرة كانت، لامتثلوا؛ ولكنّهم شدَّدوا، فشُدِّد عليهم" [3].

قال التوربشتيُّ رحمه الله: «إنما كان كثرة السؤال والاختلاف سببًا للهلاك؛ لأنهما من أَمارات التردُّد في أمر المبعوث، وإساءة الأدَب بين يدَيه، ومن حقِّ المبعوث إليه أن يَعلَم أن الله بعث نبيَّه إليه ليُعرفه مصالحَ مَعاده ومَعاشه، ويُبَصِّره بمعالم دينه، ولا جائز أن يسكت عند الحاجة، أو يتكلَّم على خلاف المصلحة، أو يغفل عن مواطن الضرورة؛ فإن الله تعالى لم يجعله مستعدًّا لنبوَّته، ولا أمينًا على وحيه، إلا وقد تكفَّل له بالإصابة، وأيَّده بالهداية إلى الأرشد والأصلح، فعلى المبعوث إليه أن يُلقيَ سمعَه إليه، ويَشهَد بقلبه بين يديه، ويغتنم سكوته إذا سكت، وكلامه إذا تكلَّم، ويسُدُّ دونَه باب الاختلاف، ويجتنب معه مَظانَّ الاعتراض. فمهما عوَّد نفْسه كثرة السؤال، وفتح عليها باب الاختلاف، حُرِم بركة الصحبة، فابْتُلِي بسوء الأدب، وذلك منشأ الوبال، ومطلع الهلاك» [4].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "واحتجَّ بهذا الحديث من جوَّز تفويض الحكم إلى رأي النبيِّ ﷺ، فيقول الله له: احكمْ بما شئتَ، فإنكَ لا تَحكُم إلا بالصواب؛ فإن قوله ﷺ: «لو قلتُ: نعم، لوَجَبَتْ» يدلُّ على أنه كان إليه إيجاب ما شاء. وهو ضعيفٌ؛ لأن قوله: «لو قلتُ»، أعمُّ من أن يكون قولًا من تلقاء نفسه، أو من وحيٍ نازل، أو رأيٍ يراه، إن جوَّزنا له الاجتهاد، والدالُّ على الأعمِّ لا يدلُّ على الأخصِّ؛ لكنه يدلُّ على أن الأمر للوجوب؛ لأن قوله: «لو قلتُ: نعم، لوجبت» تقديره: لو قلت: نعم حُجُّوا كلَّ سنة، لوَجَبت كلَّ عام حَجَّة. وذلك إنما يَصِحُّ إذا كان الأمر مقتضيًا للوجوب.

أقول: والاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يُفيد التَّكرار ولا المرَّة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه؛ ولهذا زَجَره، وقال: «ذروني ما تَرَكْتُكم»، فعَمَّ الخِطابُ؛ يعني: اقتصِروا على ما أمرتُكم، فَأْتُوا به على قدر استطاعتكم. وكذا قوله تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَسْـَٔلُوا عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾

[المائدة: 101]

نازلٌ في هذا الشأن، فقد عَلِم أن الرجل لو لم يَسأَل لم يُفِدِ الأمرُ غيرَ الْمَرَّة، وأن التَّكرار مفتقِرٌ إلى دليل خارجيٍّ" [5].

قال القسطلانيُّ رحمه الله: "أي: أتأمرنا أن نحجَّ كلَّ عام؟ وهذا يدلُّ على أن مجرَّد الأمر لا يفيد التَّكرار، ولا المرَّةَ، وإلَّا لَما صحَّ الاستفهام؛ وإنما سكت ﷺ حتى قالها ثلاثًا؛ زجرًا له عن السؤال؛ فإن التقدُّم بين يدَيْ رسول الله ﷺ منهيٌّ عنه؛ لقوله تعالى:

﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾

[الحجرات: 1] 

لأنه ﷺ مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كلَّ سنة، لبيَّنه عليه الصلاة والسلام لهم لا محالة، ولا يقتصر على الأمر مطلقًا، سواء سُئل عنه أو لم يُسأل عنه، فيكون استعجالًا ضائعًا، ثم لَمَّا رأى أنه لا يَزجُر به ولا يُقنِع، 

 يجيب (في كل عام)؛ لِما في (لو) من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وأنه لم يتكرَّر؛ لِما فيه من الحَرَج والكُلَف الشاقَّة. قاله البيضاويُّ، وتعقَّبه الطِّيبيُّ بأن الاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يفيد التَّكرار ولا المرَّة ضعيف؛ لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه؛ ولهذا زَجَره، وقال: «ذروني ما تركتكم» يعمُّ الخطاب؛ يعني: اقتصروا على ما أمرتكم به على قدر استطاعتكم، فقد علم أن الرجل لو لم يَسأَل لم يُفِدْ غير المرَّة، وأن التَّكرار يفتقر إلى دليل خارجيٍّ. انتهى.

ثم إن الحجَّ مُطلَقًا إما فرضُ عين أو فرض كفاية أو تطوُّع، واستشكل تصويره. وأُجيب: بأنه يُتصوَّر في العبيد والصبيان؛ لأن الفرضين لا يتوجَّهان إليهما، وبأن في حجِّ من ليس عليه فرضُ عين جهتين: جهةَ تطوُّع، من حيث إنه ليس عليه فرضُ عين، وجهةَ فرضِ كفاية، من حيث إحياءُ الكعبة.

قال الزركشيُّ: وفيه التزام السؤال إذ لم يَخلُص لنا حجُّ تطوُّع على حِدَتِه، وفي الأول التزامه بالنسبة للمكلَّفين، ثم إنه لا يَبعُد وقوعه من غيرهم فرضًا، ويَسقُط به فرض الكفاية عن المكلَّفين، كما في الجهاد وصلاة الجنازة. انتهى.

واختُلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ فعند الشافعية على التراخي؛ لأن الحج فُرِض سنةَ خمس؛ كما جزم به الرافعيُّ في كتاب "الحج"، أو سنةَ ستٍّ كما صحَّحه في "السير"، وتَبِعه عليه في "الروضة"، ونقله في "شرح المهذَّب" عن الأصحاب، وعليه الجمهور؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى:

﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ﴾

[البقرة: 196]،

وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداءُ الفرض، ويؤيِّده ما أخرجه الطبريُّ بأسانيدَ صحيحةٍ عن علقمةَ ومسروقٍ وإبراهيمَ النَّخَعيِّ أنهم قرؤوا: (وأقيموا الحج)، وقيل: المراد بالإتمام الإكمالُ بعد الشروع، وهو يقتضي تقدُّم فرضِه قبل ذلك، وقد أخَّره ﷺ إلى سنة عشْرٍ من غير مانع، فدلَّ على التراخي، وإليه ذهب اللخميُّ، وصاحب المقدِّمات، والتلمسانيُّ من المالكية، وحكى ابن القصَّار عن مالك أنه على الفور، وتابعه العراقيون، وشَهَره صاحب الذخيرة، وصاحب العدَّة، وابن بزيزة؛ لكن القول بالتراخي مقيَّد بعدم خوف الفَوَات" [6].

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "الحَجُّ بفتح الحاء، وهو المصدر، وبالفتح والكسر هو الاسم منه، وأصله القصد، ويُطلق على العمل أيضًا، وعلى الإتيان مرّةً بعد أخرى، وأصل العمرة: الزّيارة. وقال الخليل: الحجُّ كثرة القصد إلى معظَّم. ووجوب الحجِّ معلوم بالضّرورة الدّينيّة، واختُلف في العمرة، فقيل: واجبة، وقيل: مستحبّة، وللشّافعيِّ قولان أصحُّهما وجوبها... والأحاديث المذكورة في الباب تدلُّ على أنّ الحجَّ لا يجب إلّا مرّةً واحدةً، وهو مُجمَع عليه؛ كما قال النّوويُّ والحافظ وغيرهما، وكذلك العمرة عند من قال بوجوبها، لا تجب إلّا مرّةً، إلّا أن ينذر بالحجّ أو العمرة، وجب الوفاء بالنّذر بشرطه، وقد اختلف: هل الحجّ على الفور أو التّراخي؟ وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى، واختُلف أيضًا في وقت ابتداء افتراض الحجّ، فقيل: قبل الهجرة، قال في الفتح: وهو شاذٌّ، وقيل: بعدها، ثمّ اختُلف في سنته، فالجمهور على أنّها سنة ستٍّ؛ لأنّه نزل فيها قوله تعالى:

﴿وَأَتِمُّوا ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ﴾

[البقرة: 196]،

قال في الفتح: وهذا ينبني على أنّ المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيّده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النَّخَعيِّ بلفظ: (وأقيموا)، أخرجه الطّبرانيُّ بأسانيدَ صحيحةٍ عنهم. وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشّروع، وهذا يقتضي تقدُّم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصّة ضمام ذكر الأمر بالحجِّ، وكان قدومه على ما ذكر الواقديُّ سنة خمس. وهذا يدلُّ - إن ثبت عنه تقدُّمه - على سنة خمس، أو وقوعه فيها، وقيل: سنة تسع، حكاه النّوويّ في الرّوضة، والماورديُّ في الأحكام السّلطانيّة، ورجّح صاحب الهدي أنّ افتراض الحجّ كان في سنة تسع أو عشر، واستدلّ على ذلك بأدلّة، فلتؤخذ منه. قوله: «لو قلتها لوجبت» استُدلَّ به على أنّ النّبيَّ ﷺ مفوَّض في شرع الأحكام، وفي ذلك خلاف مبسوط في الأصول" [7].

قال الطِّيبيُّ: "وفي قوله: «لو قلتُ: نعم»، أيضًا بحث؛ لأن القول إذا صرِّح به، يجب أن يجريَ على حقيقته إلا إذا منع مانع، فيجري على المجاز... وفي قوله: «لما استطعتم» إشارة إلى أن بناء الأمر على اليُسر والسهولة، لا العُسر والصعوبة، كما ظنَّ السائل.

قوله: «ذروني ما تركتكم»: فيه دليلٌ على أن الأصل عدم الوجوب، وأنه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ لقوله تعالى:

﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا﴾

[الإسراء: ١٥].

وقوله: «فإذا أمرتكم بشيء فَأْتُوا منه ما استطعتم» من أَجَلِّ قواعد الإسلام، ومن جوامع الكَلِم؛ لِمَا يَدخُل فيه ما لا يُحصى من الأحكام؛ كالصلاة بأنواعها، فإنه إذا عجز عن بعض أركانها أو شروطها، أتى بالباقي، وإذا عَجَز عن غَسْلِ بعض أعضاء الوضوء أو الغُسل، أو غَسْلِ الممكِن، وإذا وجد بعض ما يكفيه من الماء لطهارته، أو لغَسل النجاسة، فعل ما يمكِن، وإذا وجد ما يَستُر بعضَ عَورته، أو حفظ بعض الفاتحة، أتى بالممكِن، وأشباهها غير محصور" [8].

قال ابن القيم رحمه الله: "كانت هِمَمُهم مقصورةً على تنفيذ ما أَمرَهم به، فإذا وَقَع بهم أمر، سألوا عنه، فأجابهم، وقد قال اللّه تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}

[المائدة: 101، 102].

وقد اختُلف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل هي أحكام قَدَريّة أو أحكام شرعيّة؟ على قولين، فقيل: إنّها أحكام شرعيّة عفا اللّه عنها؛ أي: سكت عن تحريمها، فيكون سؤالهم عنها سببَ تحريمها، ولو لم يسألوا لكانت عفوًا، ومنه قوله ﷺ وقد سُئل عن الحجِّ: أفي كلّ عام؟ فقال: «لو قلت: نعم، لوجبت، ذروني ما تركتكم؛ فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم». ويدلُّ على هذا التّأويل حديث أبي ثعلبةَ المذكور: «إنّ أعظم المسلمين في المسلمين جُرمًا...» الحديث، ومنه الحديث الآخر: «إنّ اللّه فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياءَ رحمةً من غير نسيان فلا تبحثوا عنها»، وفسّرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدريّة؛ كقول عبد اللّه بن حذافة: من أبي يا رسول اللّه؟ وقول آخر: أين أبي يا رسول اللّه؟ قال: «في النّار». والتّحقيق أنّ الآية تعمُّ النّهي عن النّوعين، وعلى هذا فقوله تعالى:

﴿إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾

[المائدة: 101]

أمّا في أحكام الخلق والقدر، فإنّه يسوءهم أن يبدوَ لهم ما يكرهونه ممّا سألوا عنه، وأمّا في أحكام التّكليف، فإنّه يسوءهم أن يبدوَ لهم ما يشقُّ عليهم تكليفه ممّا سألوا عنه،

وقوله تعالى:

﴿وَإِن تَسْـَٔلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ﴾

[المائدة: 101]

فيه قولان: أحدهما: أنّ القرآن إذا نزل بها ابتداءً بغير سؤال، فسألتم عن تفصيلها وعلمها، أبدى لكم وبيَّن لكم، والمراد بحين النّزول: زمنه المتَّصل به، لا الوقت المقارن للنّزول، وكأنّ في هذا إذنًا لهم في السّؤال عن تفصيل المنزّل ومعرفته بعد إنزاله؛ ففيه رفع لتوهُّم المنع من السّؤال عن الأشياء مطلقًا، والقول الثّاني: أنّه من باب التّهديد والتّحذير؛ أي: ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوءكم، والمعنى لا تتعرّضوا للسّؤال عمّا يسوءكم بيانه، وإن تعرّضتم له في زمن الوحي أبدى لكم.

وقوله:

﴿عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ۗ ﴾

[المائدة: 101]

أي: عن بيانها خبرًا وأمرًا؛ بل طوي بيانها عنكم رحمةً ومغفرةً وحلمًا، واللّه غفور حليم؛ فعلى القول الأوّل، عفا اللّه عن التّكليف بها توسعةً عليكم، وعلى القول الثّاني: عفا اللّه عن بيانها؛ لئلّا يسوءكم بيانها.

﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ﴾

[المائدة:102].

أراد نوع تلك المسائل، لا أعيانها؛ أي: قد تعرّض قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلمّا بيّنت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتهم والتّعرُّض لما تعرَّضوا له.

ولم ينقطع حكم هذه الآية؛ بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسّؤال عمّا إن بدا له ساءه؛ بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو اللّه، ومن ههنا قال عمر بن الخطّاب - رضي اللّه عنه -: "يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا"، لمّا سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربّه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعلّه يسوءه إن أُبديَ له، فالسّؤال عن جميع ذلك تعرّض لما يكرهه اللّه؛ فإنّه سبحانه يكره إبداءها؛ ولذلك سكت عنها، واللّه أعلم" [9].

قال محمد عبد العزيز الخولي رحمه الله: "يعلِّم الرسول ﷺ الاقتصار في السؤال على ما لا بدَّ لهم منه، وعدم الإلحاح فيما لا فائدة فيه؛ مخافةَ أن تقع الإجابة بأمر يُستثقَل فيؤدِّي لترك الامتثال، فتقع المخالفة والمعصية، فيكون العذابُ، وهذا إذا لم يكن المقامُ مَقامَ استفهام واسترشاد، حيث يُحمَد السؤال، ويُذمُّ السكوت، وربما تفضي كثرة السؤال إلى مثل ما وقع فيه بنو إسرائيل، إذ أُمروا أن يذبحوا بقرة، فلو ذبحوا أيَّ بقرةٍ كانت، لامتثلوا؛ ولكنهم شدَّدوا، فشُدِّد عليهم.

ثم أرشدهم إلى أنه يجب عليهم أن يقفوا عند نواهي الرسول ﷺ، ويجتنبوا كلَّ ما حُظر عليهم فعله، فلا يسوغ لهم الإتيان بشيء منه.

وقد استدلَّ بعض العلماء بعموم النهي في هذا الحديث على أن الإكراه أو الضرورة لا تُبيح فعل المنهيِّ عنه؛ كالتداوي بمحرَّم، أو دفع العطش به.

وأن الشرع لم يكلِّفهم إلا بما يطيقونه، فلا يكلِّفهم بما فوق طاقتهم، ولا بما يستحيل عليهم فعله، ويدخل في ذلك كثير من الأحكام؛ كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط، فيأتي بما في مقدوره، وكذا الوضوء، وسَتر العَورة، وحفظ بعض الفاتحة.

وقد استُدلَّ بهذا الحديث على أن اعتناء الشرع بالْمَنهيَّات فوق اعتنائه بالمأمورات؛ لأنه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع مشقَّة الترك، وقيَّد في المأمورات بقدر الطاقة، وقد يقال: إن النهيَ يقتضي الكفَّ عن الشيء، وهذا مقدور لكلِّ أحد، ولا مشقَّةَ فيه، فلا يُتصوَّر عدم الاستطاعة، بخلاف الأمر، فإنه يقتضي الفعل، وقد يُعجَز عن مباشرته، كما هو مشاهَد؛ فلذا قيّد الأمر بالاستطاعة دون النهي" [10].

قال العبّاد رحمه الله: "قوله: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم»: فيه تقييد امتثال الأمر بالاستطاعة دون النهي؛ وذلك أن النهيَ من باب التروك، وهي مستطاعة، فالإنسان مستطيع ألَّا يفعل، وأما الأمر، فقد قيِّد بالاستطاعة؛ لأنه تكليف بفعل، فقد يُستطاع ذلك الفعل، وقد لا يُستطاع، فالمأمور يأتي الإنسان به حسب استطاعته؛ فمثلًا: نُهي عن شُرب الخَمر، والمنهيُّ مستطيع لعدم شُربها، والصلاة مأمور بها، وهو يصلِّيها على حسب استطاعته عن قيام، وإلا فعن جلوس، وإلا فمُضْطَجِع، ومما يوضِّحه في الحِّسَّيات ما لو قيل لإنسان: لا تدخل من هذا الباب. فإنه مستطيع ألَّا يَدخُل؛ لأنه تركٌ، ولو قيل له: احمل هذه الصخرة. فقد يستطيع حَمْلَها، وقد لا يستطيع؛ لأنه فعل" [11].



المراجع

1. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1936، 1937). 

2.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4/ 443، 444). 

3. فتح الباري لابن حجر (13/ 260). 

4. "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 79). 

5. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1937). 

6. “إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري” للقسطلانيِّ (3/ 92). 

7. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 331، 332). 

8. "شرح المشكاة = الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (6/ 1937، 1938). 

9. "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (1/ 57، 58). 

10. "الأدب النبوي" لمحمد عبد العزيز الخولي (ص: 279). 

11. "شرح الأربعين النووية" للعباد (16/ 9).



مشاريع الأحاديث الكلية