الشرح الإجماليُّ للحديث:

يقول جَابِرُ بنُ عبدالله - رضي الله عنهما -: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ»: اللَّعْنُ هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، «آكِلَ الرِّبَا»؛ أي: آخِذه؛ كالمستقرِض، «وَمُؤْكِلَهُ»؛ أي: مُعْطيَه؛  كالْمُقرض، «وَكَاتِبَهُ» الذي يكتب العقد الذي فيه الربا، «وَشَاهِدَيْهِ» اللذينِ يشهدان على العقد. وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»؛ أي: متساوون في اللَّعْن؛ لأنهم متعاونون على ذلك.

الشرح المفصَّل للحديث:

إن دين الإسلام حَرَص على نشر المعاملات الطيِّبة بين الناس، وتحريم المعاملات الخبيثة، ومن ذلك أنه أحلَّ البيع وحرَّم الربا، وأَمَر المسلم أن لا يأكل إلا طيِّبًا؛ 

قال رسولُ الله ﷺ:

«أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال: ﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ  ﴾ [البقرة: 172]، ثم ذكَر الرجُلَ يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام؛ فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»

[1].

وحرَّم اللهُ تعالى أكلَ أموال الناس بالباطل؛

قال تعالى:

   ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ﴾ 

 [النساء: 29]،

وقال رسول الله ﷺ:

«كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ»

[2]،

وقَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ رحمه الله: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام" [3]. وسُئل أحمدُ بنُ حنبلٍ $: بمَ تَلين القلوب؟ ثم أطرَقَ ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: بأكل الحلال [4]. وقال وَهْب بن مُنبِّه رحمه الله: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه" [5].

والربا جُرْم عظيم ، وذنب كبير، ومن الموبقات الْمُهلكات، وقد جاء فيه من الوعيد الشديد ما هو معروف مشهور؛ منه:

عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

«رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ مُقَدَّسَةٍ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ وَعَلَى وَسَطِ  النَّهَرِ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُ الرِّبا»

[6].

وفي هذا الحديث بيان إثم الربا وخطورته وعاقبته؛ حيث إن الرِّبا من أشدِّ أنواع الاستغلال في الْمُعامَلاتِ، وفيه قدْرٌ كبير من الضَّررِ، وهو كسبٌ فيه سُحتٌ، وأخْذُ زيادة بالباطل، فكان تحريمه مؤكَّدًا.

يقول جَابِرُ بنُ عبدالله - رضي الله عنهما -: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ ﷺ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ»

"قوله: «آكِلَ الرِّبَا»؛ أي: آخِذه ولو لم يأكل، «ومُوكِلَهُ»؛ أي: مُعْطِيَهِ؛ إنما لُعِنَ الكلُّ لِمُشاركتهم في الإثم" [7]، "وإنما خصَّ بالأكل؛ لأنه أعظم الانتفاع؛ كما

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا﴾ 

[النساء: ١٠]" [8].

"واللَّعْنُ هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ويكون هذا الملعون مشاركًا لإبليسَ في العقوبة؛ لأن الله قال لإبليس:

﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ﴾ 

[الحجر: ٣٥]

كذلك آكل الربا عليه اللعنة، وموكله عليه اللعنة، مطرود مبعَد عن رحمة الله، ثم هذا الذي يأكله، يأكله سُحْتًا، وكل جسد نبت من السُّحت، فالنار أولى به، ثم إن هذا الربا الذي يدخل عليك يَنزِع الله به البركة من مالك، وربما يوالي عليه النَّكَبات حتى يتلف" [9].

وقد ذكر النَّبِيُّ  الربا من الموبقات في الحديث:

«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: «... وَأَكْلُ الرِّبَا...» الحديث

[10]. 

«وأكل الربا»: هُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، وهو تعاطيه بالأخذ أو الإعطاء، والأصلُ في معناه الزيادة، يقال: رَبا الشيء إذا زاد، ومن ذلك قول الله -

تبارك وتعالى -:

﴿يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَوٰا وَيُرْبِى ٱلصَّدَقَٰتِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ 

 [البقرة: 276]

وقال سبحانه:

﴿ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَٰنُ مِنَ ٱلْمَسِّ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوٓا إِنَّمَا ٱلْبَيْعُ مِثْلُ ٱلرِّبَوٰا ۗ وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ فَمَن جَآءَهُۥ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُۥ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِ ۖ وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰٓئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾

[البقرة: 275].

و"من تأمَّل أبوابَ الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ ﴾

[البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [11].

"قَوْله: «وآكل الرِّبَا»؛ أي: ونهى آكل الرِّبا عن أكله، وكذا نهى مُوكله عن إطعامه غيره، ويُقال: الْمُراد من الآكِل آخِذه؛ كالمستقرِض، ومن الموكِل مُعْطيه؛ كالْمُقرض، والنَّهيُ في هذا كلِّه عن الفِعل... وخصَّ الآكِل من بين سائر الانتفاعات؛ لأنه أعظم المقاصد" [12].

و"آكل الرِّبَا وموكله، إنما اشتركا في الإثم، وإن كان الرابحُ أحدَهما؛ لأنهما في الفِعل شريكان" [13]. 

وقد "سوَّى رسول الله ﷺ بين آكل الربا ومُوكله، إذا كان لا يتوصَّل إلى أكله إلا بمعاونته ومشاركته إيَّاه، فهما شريكان في الإثم كما كانا شريكينِ في الفعل، وإن كان أحدهما مغتبِطًا بفعله لم يستفضله من البيع، والآخر منهما لِما يَلحَقه من النقص، ولله - عزَّ وجلَّ - حدود، فلا تُتجاوز في وقت الوجود من الرِّبح والعَدَم، وعند العُسر واليُسر، والضرورة لا تَلحَقه بوجه في أن يؤكِله الربا؛ لأنه قد يجد السبيل إلى أن يتوصَّل إلى حاجته بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة ونحوها" [14]. 

"وقد أجمعت الأمَّة على تحريم الرّبا في الجُملة، وإن اختلفوا في التّفاصيل، والأحاديثُ في النّهي عنه وذمِّ فاعله ومن أعانه كثيرة جدًّا، ووردت بلعنه... أي: دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرّحمة، وهو دليل على إثم من ذَكَر، وتحريم ما تعاطَوْه، وخصَّ الأكل لأنّه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله، والمراد من مُوكله الّذي أعطى الرّبا؛ لأنّه ما تحصَّل الرّبا إلّا منه، فكان داخلًا في الإثم" [15].

قوله: «وَكَاتِبَهُ» الذي يكتب العقد الذي فيه الربا، «وَشَاهِدَيْهِ» اللذين يشهدان على العقد، "وإثمُ الكاتب والشّاهدينِ لإعانتهم على المحظور، وذلك إذا قَصَدا وعَرَفا بالرّبا، ووَرَد في روايةٍ لعنُ الشّاهد بالإفراد على إرادة الجِنس" [16].

و"هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابِيَيْنِ والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل" [17]؛ لأن مَن أعان على معصية، ناله من إثمها ما يستحقُّ، والكاتب والشاهدان أعانوا على إثبات عَقد الربا، فنالهما ما يستحقَّان من اللعنة. وَقَالَ: «هُمْ سَوَاءٌ»؛ أي: متساوون في اللَّعْن؛ لأنهم متعاونون على ذلك.

وقد "ذكر كاتب الرّبا وشاهده على سبيل الإلحاق؛ لإعانتهما للآكِل على ذلك، وهذا إنّما يقع على من وَاطَأ صاحب الرّبا عليه، فأمَّا من كَتَبه أو شَهِد القصَّة ليَشهَد بها على ما هي عليه؛ ليُعمَل فيها بالحقِّ، فهذا جميلُ القَصد، لا يدخل في الوعيد المذكور؛ وإنّما يَدخُل فيه من أعان صاحب الرّبا بكتابته وشهادته، فيُنزَّل منزلة من قال: (إنّما البيع مثل الرّبا)" [18]. وجميل القصد هو من يشهد الواقعة، أو يكتبها؛ لتوثيقها، والشهادة على أصحابها بها، وهذا مَثَلُه كمَثَل من يرى جريمةَ قتل سرقة تحدث أمامه فيصوِّرها أو يسجِّل أحداثها؛ ليشهد بها عند الحاكم، ويساعد على الوصول إلى الجاني، وإقرار الحقِّ، فمِثل هذا لا علاقة له بأطراف الجريمة ولا بالجاني، ولا يمثِّل طَرَفًا من أطراف العمل المحرَّم، أو العقد المحرَّم، وليس له إعانة على المعصية أو الجريمة بوجه؛ وإنما هو في حقيقة أمره ساعٍ في تغيير المنكَر، وإقامة العدل، بما أَمكَنه.

"وأما الذي أعطى الربا، فإن وجه اللعنة في حقِّه أنه أعان على ذلك، فإذا قال قائل: هل للإنسان من توبة إذا كان يتعاطى الربا ثم منَّ الله عليه واهتدى، نقول: نعم، له توبة، ومَن الذي يَحُول بينه وبين توبة الله؟! ولكن لا بدَّ من صدق التوبة وإخلاصها، والنَّدَم على الذنب، والعزم على ألَّا يَعُود، ثم إن كان صاحب الربا الذي أُخِذ منه قد استفاد، فإن الربا يؤخذ من الْمُرابي ويُتصدَّق به أو يوضَع في بيت المال، وإن كان لم يستفِد، فإنه يُعطي المطلوب؛ لأنه إذا استفاد لا يمكِن أن نجمع له بين الحقِّ من الربا، وبين انتفاعه. نقول: أنت حظُّك الانتفاع؛ ولكن إذا كان لم ينتفع، فإنه يُعطي ما أخذ من الربا، والنبيُّ ﷺ لعن شاهدَيِ الربا وكاتبَه مع أن الشاهدين والكاتب ليس لهما منفعة؛ لكن أعانوا على تثبيت الربا؛ الشاهدان والكاتب يَثبُت بهما الربا؛ لأن الشاهدين يُثبتان الحقَّ، والكاتب يوثِّقه؛ ولهذا يكون هؤلاء الثلاثة - الشاهدان والكاتب - قد أعانوا على الإثم والعدوان، فنالهم من ذلك نصيب، فهؤلاء الخمسة كلُّهم ملعونون على لسان محمد ﷺ: آكل الربا، وموكله، والشاهدين، والكاتب، خمسة، وفي هذا الحديث دليل أن الْمُعين على الإثم مشارك للفاعل" [19].

و"يجوز للإنسان أن يتعامل مع شخص يتعامل بالربا؛ لكن معاملته إيَّاه بطريق سليم؛ فمثلًا يجوز أن يشترَي من هذا الرجل الْمُرَابي سلعة بثمن، ويجوز أن يستقرض منه ولا حَرَج؛ فإن النبيَّ  كان يُعامل اليهود، مع أنهم أكَّالون للسُّحت، فقد قَبِل هَديَّتهم، وقد قَبِل دعوتهم، وقد باع واشترى منهم ... والخلاصة: أن من كان يكتسب الحرام، وتعاملتَ معه معاملةً مباحة، لا حرج عليك فيها"[20].

المراجع 

1. رواه مسلم (1015).

2. رواه مسلم (2564).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).

4. "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزيِّ  (ص 269).

5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).

6. رواه البخاريُّ (2085).

7.  "حاشية السندي على سنن ابن ماجه" (2/ 40).

8. "شرح المشكاة" للطِّيبيِّ (7/ 2124).

9. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 333، 334).

10. رواه البخاريُّ (6857)، ومسلم (89).

11. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

12. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (11/ 203).

13.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (11/ 204).

14. "شرح المشكاة" للطِّيبيِّ (7/ 2124).

15.  "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 49).

16. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 49).

17. "شرح النووي على مسلم" (11/ 26).

18. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 314).

19.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 333).

20. "فتاوى نور على الدرب" (16/ 2) بترقيم الشاملة.


النقول:

قال ابن عثيمين رحمه الله: "واللَّعْنُ هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ويكون هذا الملعون مشاركًا لإبليس في العقوبة؛ لأن الله قال لإبليس:

﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ ٱللَّعْنَةَ﴾ 

[الحجر: ٣٥]

كذلك آكل الربا عليه اللعنة، وموكله عليه اللعنة، مطرود مبعَد عن رحمة الله، ثم هذا الذي يأكله، يأكله سُحْتًا، وكل جسد نبت من السُّحت، فالنار أولى به، ثم إن هذا الربا الذي يدخل عليك ينزع الله به البركة من مالك، وربما يوالي عليه النَّكَبات حتى يتلف" [1].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "أكل الرِّبَا، وَهُوَ فضل مَال بِلَا عوض فِي مُعَاوضَة مَال بِمَال، كَمَا عرِّف فِي الْفِقْه" [2].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قوله: «آكل الربا»؛ أي: الآخذ؛ وإنما خصَّ بالأكل؛ لأنه أعظم الانتفاع؛

كما قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَٰلَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا﴾ 

[النساء: ١٠]

سوَّى رسول الله ﷺ بين آكل الربا ومُوكله، إذا كان لا يتوصَّل إلى أكله إلا بمعاونته ومشاركته إيَّاه، فهما شريكان في الإثم كما كانا شريكينِ في الفعل، وإن كان أحدهما مغتبِطًا بفعله لم يستفضله من البيع، والآخر منهما لِما يَلحَقه من النقص، ولله - عزَّ وجلَّ - حدود، فلا تُتجاوز في وقت الوجود من الرِّبح والعَدَم، وعند العُسر واليُسر، والضرورة لا تَلحَقه بوجه في أن يؤكِله الربا؛ لأنه قد يجد السبيل إلى أن يتوصَّل إلى حاجته بوجه من وجوه المعاملة والمبايعة ونحوها" [3]. 

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وأما الذي أعطى الربا، فإن وجه اللعنة في حقِّه أنه أعان على ذلك، فإذا قال قائل: هل للإنسان من توبة إذا كان يتعاطى الربا ثم منَّ الله عليه واهتدى، نقول: نعم، له توبة، ومَن الذي يَحُول بينه وبين توبة الله؟! ولكن لا بدَّ من صدق التوبة وإخلاصها، والنَّدَم على الذنب، والعزم على ألَّا يَعُود، ثم إن كان صاحب الربا الذي أُخِذ منه قد استفاد، فإن الربا يؤخذ من الْمُرابي ويُتصدَّق به أو يوضَع في بيت المال، وإن كان لم يستفِد، فإنه يُعطي المطلوب؛ لأنه إذا استفاد لا يمكِن أن نجمع له بين الحقِّ من الربا، وبين انتفاعه. نقول: أنت حظُّك الانتفاع؛ ولكن إذا كان لم ينتفع، فإنه يُعطي ما أخذ من الربا، وذكر الترمذيُّ وغيره في رواية أخرى أن النبيَّ ﷺ لعن شاهدَيِ الربا وكاتبَه مع أن الشاهدين والكاتب ليس لهما منفعة؛ لكن أعانوا على تثبيت الربا؛ الشاهدان والكاتب يَثبُت بهما الربا؛ لأن الشاهدين يُثبتان الحقَّ، والكاتب يوثِّقه؛ ولهذا يكون هؤلاء الثلاثة - الشاهدان والكاتب - قد أعانوا على الإثم والعدوان، فنالهم من ذلك نصيب، فهؤلاء الخمسة كلُّهم ملعونون على لسان محمد ﷺ: آكل الربا، وموكله، والشاهدين، والكاتب، خمسة، وفي هذا الحديث دليل أن الْمُعين على الإثم مشارك للفاعل" [4].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: قَوْله: «وآكل الرِّبَا»؛ أي: ونهى آكل الرِّبا عن أكله، وكذا نهى مُوكله عن إطعامه غيره، ويُقال: الْمُراد من الآكِل آخِذه؛ كالمستقرِض، ومن الموكِل مُعْطيه؛ كالْمُقرض، والنَّهيُ في هذا كلِّه عن الفِعل... وخصَّ الآكِل من بين سائر الانتفاعات؛ لأنه أعظم المقاصد" [5].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "آكل الرِّبَا وموكله، وإنما اشتركا في الإثم، وإن كان الرابحُ أحدَهما؛ لأنهما في الفِعل شريكان" [6].

قال السنديُّ رحمه الله: "قوله: «آكِلَ الرِّبَا»؛ أي: آخِذه ولو لم يأكل، «ومُوكِلَهُ»؛ أي: مُعْطِيَهِ؛ إنما لُعِنَ الكلُّ لِمُشاركتهم في الإثم" [7].

قال النوويُّ رحمه الله: "هذا تصريح بتحريم كتابة المبايعة بين المترابِيَيْنِ والشهادة عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل" [8].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقد أجمعت الأمَّة على تحريم الرّبا في الجُملة، وإن اختلفوا في التّفاصيل، والأحاديثُ في النّهي عنه وذمِّ فاعله ومن أعانه كثيرة جدًّا، ووردت بلعنه... أي: دعا على المذكورين بالإبعاد عن الرّحمة، وهو دليل على إثم من ذَكَر، وتحريم ما تعاطَوْه، وخصَّ الأكل لأنّه الأغلب في الانتفاع، وغيره مثله، والمراد من مُوكله الّذي أعطى الرّبا؛ لأنّه ما تحصَّل الرّبا إلّا منه، فكان داخلًا في الإثم، وإثمُ الكاتب والشّاهدينِ لإعانتهم على المحظور، وذلك إذا قَصَدا وعَرَفا بالرّبا، ووَرَد في روايةٍ لعنُ الشّاهد بالإفراد على إرادة الجِنس" [9].

قال ابن حجر رحمه الله: "قال ابن التِّين: ذكر كاتب الرّبا وشاهده على سبيل الإلحاق؛ لإعانتهما للآكِل على ذلك، وهذا إنّما يقع على من وَاطَأ صاحب الرّبا عليه، فأمَّا من كَتَبه أو شَهِد القصَّة ليَشهَد بها على ما هي عليه؛ ليُعمَل فيها بالحقِّ، فهذا جميلُ القَصد، لا يدخل في الوعيد المذكور؛ وإنّما يَدخُل فيه من أعان صاحب الرّبا بكتابته وشهادته، فيُنزَّل منزلة من قال: (إنّما البيع مثل الرّبا)" [10].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "يجوز للإنسان أن يتعامل مع شخص يتعامل بالربا؛ لكن معاملته إيَّاه بطريق سليم؛ فمثلًا يجوز أن يشترَي من هذا الرجل الْمُرَابي سلعة بثمن، ويجوز أن يستقرض منه ولا حَرَج؛ فإن النبيَّ كان يُعامل اليهود، مع أنهم أكَّالون للسُّحت، فقد قَبِل هَديَّتهم، وقد قَبِل دعوتهم، وقد باع واشترى منهم ... والخلاصة: أن من كان يكتسب الحرام، وتعاملتَ معه معاملةً مباحة، لا حرج عليك فيها" [11].

قال السهيليُّ رحمه الله: "من تأمَّل أبواب الربا، لاح له سرُّ التحريم من جهة الجشع المانع من حُسن المعاشرة، والذريعة إلى ترك القرض، وما في التوسعة من مكارم الأخلاق؛

ولذلك قال تعالى:

﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ ﴾

[البقرة: 279]

غضبًا على أهله" [12].

قال النوويُّ رحمه الله: "قولُه ﷺ في الرِّبا: «إنّه موضوعٌ كلُّه»؛ معناه: الزّائد على رأس المال؛

كما قال اللّه تعالى:

﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ۖ ﴾

[البقرة: 279]

وهذا الّذي ذكرتُه إيضاحٌ، وإلَّا فالمقصود مفهومٌ من نفس لفظ الحديث؛ لأنّ الرّبا هو الزِّيادة، فإذا وُضِع الرَّبا، فمعناه: وَضْعُ الزّيادة، والمرادُ بالوضع الرَّدُّ والإبطال" [13].

المراجع

1.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 333، 334).

2. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للبخاريِّ (14/ 62).

3. "شرح المشكاة" للطِّيبيِّ (7/ 2124).

4. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 333).

5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (11/ 203).

6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" بدر الدين العيني (11/ 204).

7. "حاشية السندي على سنن ابن ماجه" (2/ 40).

8. "شرح النووي على مسلم" (11/ 26).

9. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 49).

10. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 314). 

11. "فتاوى نور على الدرب" (16/ 2) بترقيم الشاملة.

12. "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (12/ 370).

13. "شرح النوويِّ على مسلم" (8/ 183).



المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيرة رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ أنه قال:

«تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ»:

يُخبِر النبيُّ ﷺ بما يفعله الناس في العادة عند الزواج؛ فإنهم يَقصِدون هذه الخصالَ الأربع – مالها، ومآثر أهلها، وجمالها، ودينها - وآخرُها عندهم ذاتُ الدين، فاظْفَرْ وفُزْ أنت أيها المؤمِن بذات الدين. «تَرِبَتْ يَدَاكَ!»؛ أي: لَصِقت يداك بالتُّراب؛ أي: افتقرتَ إن لم تفعل ذلك.


الشرح التفصيليُّ

اهتمَّ الإسلام اهتمامًا كبيرًا بالأسرة واستقرارها؛ لأنها عِماد المجتمع المسلم، ومَفْرَخة الأجيال، فإن صحَّت وصلَحت، صلَحت الأجيال، وإن مَرِضت، مَرِضت الأجيال، وإذا مَرِضت الأجيال، مرضت الأمم، وإذا مرضت الأمم، فَقَدتِ الفاعلية، وفقدت القدرة على القيام بالْمَهمَّة التي وَكَلها الله إليها، وفقدت الخيرية؛

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ

[آل عمران:110]. 

وأول منازل الاهتمام بالأسرة منزلةُ اختيار الزوجة الصالحة، التي تُحسِن حضانة الزوج وإعفافه وإعانته على الطاعة والرزق الحلال، وتُحسِن تربية الأبناء، وتُحسن إقامة العلاقات السَّوِية مع أهل الزوج، وتساعد على صلة الرحم... إلخ، وكما قال الشاعر:

وأَوَّلُ خُبْثِ الْمَرْءِ خُبْثُ تُرَابِهِ = وأَوَّلُ لُؤْمِ الْمَرْءِ لُؤْمُ الْمَنَاكِحِ

لذا؛ بيَّن الرسول ﷺ في هذا الحديث المبدأ الذي يختار على أساسه الشابُّ زوجته، فقال: «تُنكح المرأة لأربع»؛ أي: تُزوَّج المرأة لأجل أربع صفات:

«لِمالها»؛ أي: تُزوَّج المرأة لأجل مالها وغِناها؛ حتى لا تُكْثِر عليه في الإنفاق؛ بل تستغني بمالها عن سؤاله، ولا تكلِّفه في الإنفاق فوق طاقته، وحتى يكون أولادُه منها أغنياءَ ينتفعون بمالها في حياتها، وبعد مَماتها.

«ولحَسَبِها»؛ أي: لشَرَفها بآبائها وأقاربها؛ لأن العرب كانوا إذا تفاخروا، عَدُّوا مآثر آبائهم وحَسَبوها ليُرى مَن الأكثرُ مآثرَ من الآخَر؟

«وجمالها»؛ أي: من أسباب نكاح المرأة جمالها.

«فاظفر بذات الدين»؛ أي: عليك بذات الدِّين، التي يكون الدين عندها غايةَ البُغية، وتحكُّمه في كلِّ شيء.

«تَرِبت يَدَاك»؛ أي: لَصِقت يداك بالتُّراب؛ أي: افتقرتَ إن لم تفعل ذلك.

فقد بيَّن الرسول ﷺ الأسباب التي تدعو الشابَّ للزواج من امرأة بعينها، وحَصَرها في أربعة أسباب: مالها، ومآثر أهلها وشرفهم، وجمالها، ودينها. فهذا ترتيب للصفات المرغِّبة في الزواج؛ فإن وُجِدت المرأة الغنية الحسيبة الجميلة الديِّنة، فهو الغاية التي ما بعدها غاية، ثم تُرتَّب الأولويات بعد ذلك على النحو الآتي: المرأة الغنية الديِّنة أفضل من الغنية غير الديِّنة، والديِّنة الفقيرة خير من الغنية غير الديِّنة، والمرأة الحَسيبة النَّسيبة الديِّنة خير من الحسيبة النسيبة غير الديِّنة، والديِّنة غير الحسيبة النسيبة خير من الحسيبة النسيبة غير الديِّنة، والمرأة الجميلة الديِّنة خير من المرأة الجميلة غير الديِّنة، والمرأة الديِّنة غير الجميلة خير من المرأة الجميلة غير الديِّنة؛ فالمهم أن يكون الدين هو المعيارَ المرجِّح في اختيار الشابِّ لشريكة حياته ومربِّية أبنائه.

 وقد علَّل الرسول ﷺ سبب هذه المعايير في الاختيار في قوله: 

«لَا تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ؛ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلَا تَزَوَّجُوهُنَّ لِأَمْوَالِهِنَّ؛ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ؛ وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلَأَمَةٌ حَرْماءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ»

[2].

فهذه الصفات الحسنة دون دين يمكِن أن تتحوَّل في أيِّ وقت إلى نِقمة، تُفسِد الحياة الزوجية وتَهدِم الأسرة.

وهذا لا ينفي أن يتزوجَّ الشابُّ من أجل صفة من هذه الصفات؛ فمعنى الحديث أنّ هذه الخصالَ الأربعَ هي الّتي يُرغَب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خَبَر عمّا في الوجود من ذلك، لا أنّه وقع الأمر بذلك؛ بل ظاهره إباحة النّكاح لقصد كلٍّ من ذلك؛ لكنَّ قصد الدّين أَوْلى.

وأضاف الفقهاء صفاتٍ يَحسُن مراعاتها فوق هذه الصفات، وهي: أن تكون المرأة عاقلةً قادرةً على التدبير والتسيير، وأن تكون قد بلغت؛ إلا لحاجة؛ كما في زواج الرسول ﷺ من عائشة، وألَّا تكون ذاتَ ولد من غيره إلا لمصلحةٍ، وألَّا يكون لها مُطلِّقٌ يرغب في نكاحها، كما يُستحسن الابتعاد عن زواج القرابة في النَّسَب؛ لتوسيع دائرة التعارف والتقارب بين القبائل والأسر، ولضمان نجابة الأبناء وقوَّتهم وسلامتهم من النواقص والأمراض المتوارَثة؛ لقول الشَّاعر:

تَخيَّرتُها للنَّسْلِ وهْيَ غَرِيبةٌ = فقَدْ أَنجبَتْ والْمُنْجِباتُ الغَرَائبُ

ومن أجل ضمان سلامة الأبناء من مَعرَّة الأمِّ؛ كُرِه نكاحُ بنت الزِّنا، وبنت الفاسق، واللقيطة التي لا يُعرف أبوها؛ لأن العِرْق دسَّاسٌ كما اشتَهرَ.


المراجع

1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/116)، "إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (8/21).

2. رواه ابن ماجه، (1864)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الترغيب والترهيب" (1209).


النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «تنكح المرأة لأربع»؛ أي: لأجل أربع. قوله: «لمالها ولحسبها» بفتح المهملتين ثمّ موحَّدة؛ أي: شرفها، والحسب في الأصل: الشّرف بالآباء وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنّهم كانوا إذا تفاخروا، عدُّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحَسَبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره. وقيل: المراد بالحسب هنا: الفعال الحسنة، وقيل: المال، وهو مردود؛ لذكر المال قبله، وذكره معطوفًا عليه، وقد وقع في مرسل يحيى بن جعدة عند سعيد بن منصور: «على دينها ومالها، وعلى حسبها ونسبها»، وذكر النّسب على هذا تأكيد، ويؤخذ منه أنّ الشّريف النّسيب يُستحبُّ له أن يتزوَّج نسيبةً، إلّا أن تعارض نسيبةً غير ديِّنة، وغير نسيبة ديّنة، فتُقدَّم ذاتُ الدّين، وهكذا في كلّ الصّفات. وأمّا قول بعض الشّافعيّة: يُستحبُّ أن لا تكون المرأة ذاتَ قرابة قريبة، فإن كان مستنِدًا إلى الخبر، فلا أصل له، أو إلى التّجربة، وهو أنّ الغالب أنّ الولد بين القريبين يكون أحمقَ، فهو متَّجِه، وأما ما أخرجه أحمد والنّسائيُّ وصحَّحه ابن حبّان والحاكم من حديث بُريدةَ رفعه: «إِنَّ أَحْسَابَ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِي يَذْهَبُونَ إلَيْهِ الْمَالُ»، فيَحْتَمِل أن يكون المراد أنّه حَسَبُ من لا حَسَبَ له، فيقوم النّسب الشّريف لصاحبه مقام المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة رفعه: «الحسب المال، والكرم التّقوى» أخرجه أحمدُ والتّرمذيُّ وصحَّحه هو والحاكم، وبهذا الحديث تمسَّك من اعتبر الكفاءة بالمال، أو أنّ من شأن أهل الدّنيا رِفْعةَ من كان كثيرَ المال ولو كان وضيعًا، وضِعَةَ من كان مُقلًّا ولو كان رفيع النّسب، كما هو موجود مشاهَد، فعلى الاحتمال الأوَّل يمكِن أن يؤخذ من الحديث اعتبار الكفاءة بالمال كما سيأتي البحث فيه، لا على الثّاني؛ لكونه سيق في الإنكار على من يفعل ذلك، وقد أخرج مسلم الحديث من طريق عطاء عن جابر، وليس فيه ذكر الحسب، اقتصر على الدّين والمال والجمال. قوله: «وجمالها» يؤخذ منه استحباب تزوُّج الجميلة إلّا أن تُعارِض الجميلةَ غيرُ الدّيِّنة، وغيرَ الجميلة الدّيِّنةُ. نعم، لو تساوتا في الدّين، فالجميلة أولى، ويلتحق بالحسنة الذّات الحسنةُ الصّفات، ومن ذلك أن تكون خفيفةَ الصَّداق. قوله: «فاظفر بذات الدّين»، في حديث جابر: «فعليك بذات الدّين»، والمعنى: أنّ اللّائق بذي الدّين والمروءة أن يكون الدّين مطمح نظره في كلّ شيء، لا سيّما فيما تطول صُحبته، فأمره النّبيُّ  بتحصيل صاحبة الدّين الّذي هو غاية البُغية" [1].

قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: «تربت يداك»؛ أي: لَصِقتا بالتّراب، وهي كناية عن الفَقر، وهو خبر بمعنى الدّعاء؛ لكن لا يُراد به حقيقته، وبهذا جزم صاحب العمدة، زاد غيره أنّ صدور ذلك من النّبيِّ ﷺ في حقِّ مسلم لا يُستجاب لشرطه ذلك على ربِّه. قال القرطبيُّ: معنى الحديث أنّ هذه الخصال الأربعَ هي الّتي يُرغَب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عمّا في الوجود من ذلك، لا أنّه وَقَع الأمر بذلك؛ بل ظاهرُه إباحة النّكاح لقصد كلٍّ من ذلك؛ لكنّ قصد الدّين أولى. قال: ولا يُظنّ من هذا الحديث أنّ هذه الأربع تؤخذ منها الكفاءة؛ أي: تنحصر فيها؛ فإنّ ذلك لم يقل به أحد فيما علمتُ، وإن كانوا اختلفوا في الكفاءة ما هي" [2].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «تنكح المرأة» على صيغة المجهول، والمرأة مرفوع به. قوله: «لأربع»؛ أي: لأربع خصال. قوله: «لمالها»؛ لأنّها إذا كانت صاحبة مال، لا تُلزم زوجها بما لا يُطيق، ولا تكلِّفه في الإنفاق وغيره... قوله: «ولحسبها» هو إخباره عن عادة النّاس في ذلك، والحسب ما يَعُدُّه النّاس من مفاخر الآباء، ويقال: الحسب في الأصل الشَّرف بالآباء وبالأقارب، مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عَدُّوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها، فيُحكم لمن زاد عدده على غيره، وقيل: المراد بالحسب هنا الفِعال الحسنة، وقيل: المال، وهذا ليس بشيء لأن المال ذُكِر قبله. قوله: «وجمالها» لأن الجمال مطلوب في كل شيء، ولا سيّما في المرأة الّتي تكون قَرينتَه وضَجيعته. قوله: «ولدينها» لأنّه به يحصل خير الدّنيا والآخرة، واللائق بأرباب الديانات وذوي المروءات أن يكون الدّين مَطمَح نظرهم في كلِّ شيء، ولا سيّما فيما يَدُوم أمره؛ ولذلك اختاره الرّسول ﷺ بآكد وجه وأَبلَغِه، فأمر بالظَّفر الّذي هو غاية البُغية؛ فلذلك قال: «فاظفر بذات الدّين» فإن بها تكتسب منافع الدّارين. «تربت يداك» إن لم تفعل ما أُمرتَ به. وقال الكرمانيّ: «فاظفر» جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا تحقّقت تفصيلها، فاظفر أيّها المسترشد بها. واختلفوا في معنى «تربت يداك». فقيل: هو دعاء في الأصل، إلّا أن العرب تستعملها للإنكار والتعجُّب والتعظيم والحثِّ على الشّيء، وهذا هو المراد به ههنا، وفيه التّرغيب في صحبة أهل الدّين في كلِّ شيء؛ لأن من صاحبهم يستفيد من أخلاقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم. وقال محيي السنَّة: هي كلمة جارية على ألسنتهم كقولهم: لا أب لك، ولم يريدوا وقوع الأمر، وقيل: قصده بها وقوعه لتعدية ذوات الدّين إلى ذوات المال ونحوه؛ أي: تربت يداك إن لم تفعل ما قلت لك من الظّفر بذات الدّين، وقيل: معنى «تربت يداك»؛ أي: لصقت بالتّراب، وهو كناية عن الفقر" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "الصّحيح في معنى هذا الحديث أنّ النّبيَّ ﷺ أخبر بما يفعله النّاس في العادة؛ فإنّهم يقصدون هذه الخصال الأربعَ، وآخرها عندهم ذات الدّين، فاظفر أنت أيّها المسترشد بذات الدّين، لا أنّه أَمَر بذلك. قال شِمْرٌ: الحسب: الفعل الجميل للرّجل وآبائه، وفي هذا الحديث الحثُّ على مصاحبة أهل الدّين في كلِّ شيء؛ لأنّ صاحبهم يستفيد من أخلاقهم وبَرَكتهم وحُسن طرائقهم، ويأمن المفسدة من جهتهم" [4].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "رُوِيَ أن رجلًا جاء إلى الحسن وقال له: إن لي بنتًا أحبُّها، وقد خَطَبها غير واحد، فمن تُشير عليَّ أن أزوِّجها؟ قال: زوِّجْها رجلًا يتَّقي الله؛ فإنه إن أحبَّها أَكرَمها، وإن أَبغَضها لم يَظلِهْما.

قوله: (فاظفر) جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا تحقَّق ما فصَّلتُ لك تفصيلًا بيِّنًا، فاظفر أيُّها المسترشِد بذات الدين؛ فإنها تَكسِبُك منافع الدارين. واللامات المكرَّرة مُؤذِنة بأن كلًّا منهن مستقلَّة في الغرض" [5].

قال ابن تيمية رحمه الله: "المرأة الصالحة تكون في صُحبة زوجها الرجل الصالح سنينَ كثيرةً، وهي متاعه الذي قال فيها رسول الله: «الدنيا متاعٌ، وخيرُ متاعها المرأةُ المؤمنة، إن نظرتَ إليها أعجبتْكَ، وإن أمرتها أطاعتك، وإن غبتَ عنها حفظتك في نفسها ومالك». وهي التي أمر بها النبيُّ في قوله لَمَّا سأله المهاجرون: أيَّ المال نتَّخِذُ؟ فقال: «لِسَانًا ذَاكِرًا، وقَلْبًا شَاكِرًا، أو امرأة صالحةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى إيمانه» رواه الترمذيُّ، من حديث سالم بن أبي الجعد، عن ثوبانَ. ويكون منها من المودَّة والرحمة ما امتنَّ الله تعالى بها في كتابه، فيكون ألم الفراق أشدَّ عليها من الموت أحيانًا، وأشدَّ من ذَهاب المال، وأشدَّ من فراق الأوطان، خصوصًا إن كان بأحدهما علاقةٌ من صاحبه، أو كان بينهما أطفالٌ يَضِيعون بالفِراق، ويَفسَد حالهم" [6].

قال الخطيب الشربينيُّ رحمه الله: "والمراد بالدِّين: الطاعات، والأعمال الصالحات، والعفَّة عن المحرَّمات" [7].



المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 135).

2. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 135، 136).

3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (20/ 86).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 51، 52).

5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2259).

6. "مجموع الفتاوى" (35 / 299).

7. "مغني المحتاج" (3 / 127).



المعنى الإجماليُّ للحديث

(عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ  كَانَ عِنْدَهَا، وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) تُخبر أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أنها كانت مع النبيِّ ﷺ في حُجرتها، فسَمِعت صوت رجل يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ أمِّ المؤمنين حَفْصَةَ بنتِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما.

قَالَتْ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ)؛ أي: فأَخبرتْ رسول الله ﷺ  بسماعها لصوت رجل يستأذن في الدخول على حفصةَ رضي الله عنها.

فَقَالَ النَّبِيُّ : «أُرَاهُ فُلاَنًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ؛ أي: ردَّ عليها النبيُّ ﷺ: أظنُّه فلانًا، وذكر اسم عمِّ حفصةَ من الرضاعة.

قَالَتْ عَائِشَةُ: (لَوْ كَانَ فُلاَنٌ حَيًّا - لِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ؟)؛ أي: فسألتْ عائشة رضي الله عنها النبيَّ ﷺ: هل يجوز أن يَدخُل عليَّ عمِّي من الرضاعة لو كان حيًّا؟

فقال: «نَعَمْ، الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الوِلاَدَةُ» فأجابها ﷺ: بأنه يجوز أن يَدخُل عليها؛ لأن الرضاعة تحرِّم ما يحرِّمه النَّسَب.


الشرح المفصَّل للحديث

الإسلام دين الفِطرة السَّوِيَّة، يهذِّب الغرائز الإنسانية، ويحدِّد الأُطُر بين النساء والرجال في العلاقات الاجتماعية، يترفَّع بها عن الحيوانية، ويصل بها إلى الراحة المنشودة لكلٍّ من الرجل والمرأة، فلا يَنكِح الرجل أمَّه، ولا أختَه، ولا ابنتَه، ولا عمَّته، ولا خالتَه... إلى آخر المحرَّمات من النَّسَب؛

قال تعالى:

﴿وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَآؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَٰحِشَةً وَمَقْتًا وَسَآءَ سَبِيلًا  حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَٰتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَٰتُكُمْ وَعَمَّٰتُكُمْ وَخَٰلَٰتُكُمْ وَبَنَاتُ ٱلْأَخِ وَبَنَاتُ ٱلْأُخْتِ وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ وَأُمَّهَٰتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَٰٓئِبُكُمُ ٱلَّٰتِى فِى حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ ٱلَّٰتِى دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَٰٓئِلُ أَبْنَآئِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ ٱلْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾

[النساء: 22- 23]،

وعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:

أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلاَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا»

[1]،

وحرِّم كذلك من الرضاع مثلُ الذي يُحرَّم من النَّسَب، فلا شكَّ أن المرأة التي تُرضع طفلاً تكون بمثابة الأمِّ له، فقد غذَّته بلبنها، وضمَّته إلى صدرها؛ حتى نبت لحمُه، واشتدَّ عظمُه، وفي الحديث

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما، قَالَ:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بِنْتِ حَمْزَةَ: «لاَ تَحِلُّ لِي، يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ، هِيَ بِنْتُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»

[2].

وفي الحديث: (عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النَّبِيِّ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ عِنْدَهَا): تُخبر السيدة عائشةُ رضي الله عنها، أمُّ المؤمنين، وزوجُ النبيِّ ﷺ، أنها كانت مع النبيِّ ﷺ في حُجرتها، وقد كانت حُجُرات زوجاته بجوار المسجد النبويِّ، (وَأَنَّهَا سَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) فسَمِعت صوت رجل، ولم تُسَمِّ هذا الرجلَ، سمعته (يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ) بنتِ عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنهما، أمِّ المؤمنين، وزوجِ النبيِّ ﷺ، "وإنما أضافت أولاً البيت إلى حفصة؛ باعتبارها مختصَّةً به ساكنةً فيه، وليس باعتبار الْمِلك، ففي امتلاك أمَّهات المؤمنين لبيوتهن خلاف، وأضافته ثانيًا إلى ضمير رسول الله ﷺ؛ باعتباره المالكَ صاحب الأمر والنهي فيه، وأن الزوجة شرعًا لا تأذن في بيته إلا بإذنه" [3].

قَالَتْ: (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ)؛ أي: فأَعلَمت رسول الله ﷺ بسماعها لصوت رجل يستأذن في الدخول على حفصةَ رضي الله عنها.

(فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «أُرَاهُ فُلَانًا»، لِعَمِّ حَفْصَةَ مِنَ الرَّضَاعَةِ)؛ أي: فردَّ عليها رسول الله ﷺ بقوله: أظنُّه فلانًا، وذكر اسم عمِّ حفصةَ من الرضاعة، وفيه دلالة على جواز دخوله على حفصةَ رضي الله عنها؛ لأنه يَحرُم عليها بسبب الرضاع.

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: (يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ كَانَ فُلَانٌ حَيًّا - ِلِعَمِّهَا مِنَ الرَّضَاعَةِ - دَخَلَ عَلَيَّ؟)؛ أي: فسألتْ عائشة رضي الله عنها رسول الله ﷺ: هل يجوز أن يَدخُل عليَّ عمِّي من الرضاعة لو كان حيًّا؟ وكانت قد سألته آنفًا عن دخول عمِّها "أَفْلَحَ" عليها، فأَذِن لها، فدلَّ ذلك على أنه عمٌّ آخَرُ غير "أفلح"؛ ولذلك سألت النبيَّ ﷺ مرَّةً ثانية؛ فعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ عَلَيَّ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي القُعَيْسِ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الحِجَابُ، فَقُلْتُ: لاَ آذَنُ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ فِيهِ النَّبِيَّ ﷺ، فَإِنَّ أَخَاهُ أَبَا القُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ ﷺ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي القُعَيْسِ اسْتَأْذَنَ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَمَا مَنَعَكِ أَنْ تَأْذَنِي؛ عَمُّكِ؟»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي؛ وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَةُ أَبِي القُعَيْسِ، فَقَالَ: «ائْذَنِي لَهُ؛ فَإِنَّهُ عَمُّكِ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ» [4].

ولا يُعرَف اسم عمِّ عائشةَ الذي سألتْ عنه، و"لم أَقِف على اسمه، ووَهِمَ من فسَّره بأفلحَ أخي أبي القُعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلحُ فهو أخوه، وهو عمُّها من الرضاعة، وفي الحديث: أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشةَ، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها: "لو كان حيًّا" يدلُّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخَرَ، ويَحْتَمِل أن تكون ظنَّت أنه مات لبُعْدِ عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن" [5].

 قَالَ رَسُولُ اللهِ : «نَعَمْ، إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ»؛ أي: فأجاب النبيُّ ﷺ عن سؤال عائشة رضي الله عنها بأنه يجوز أن يَدخُل عليكِ، وأنه يَحرُم من الرضاعة مثلُ الذي يَحرُم من الولادة والنَّسَب، وتُبيح ما تُبيحه، "وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين الأئمَّة، فإذا حَرُمت الأمُّ، فكذا زوجُها؛ لأنه والدُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وانتشرت الحُرمة إلى أولاده، فأخو صاحب اللبن عمٌّ، وأخوها خالُه من الرَّضاع، فيَحرُم من الرضاع: العمَّاتُ، والخالاتُ، والأعمام، والأخوات، وبناتهن كالنسب، فيترتَّب على ذلك تنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النَّظَر، والخلوة، والسفر، ولا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، وإسقاط القصاص" [6].

ولم يتعرَّض هذا الحديث إلى عدد الرضعات التي تحرِّم، بينما أثبتت الأحاديثُ الأخرى أن التحريم يَحصُل بخمس رَضَعات مُشبِعات معلومات؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، ثُمَّ نُسِخْنَ، بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ» [7].


المراجع

1.  رواه البخاريُّ (5109)، ومسلم (1408)

2. رواه البخاريُّ (2645)، ومسلم (1447).

3. "فتح المنعم شرح صحيح مسلم" لموسى شاهين لاشين (5/ 509).

4. رواه البخاريُّ (4796)، ومسلم (1445).

5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 140).

6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).

7.  رواه مسلم (1452).


النقول

قال ابن بطال رحمه الله: "لا خلاف بين الأمَّة أنه يَحرُم من الرَّضاع ما يَحرُم من النَّسَب؛

لقوله تعالى:

﴿وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ﴾

[النساء: 23]

فإذا كانت الأمُّ من الرَّضاع محرَّمةً، كان كذلك زوجُها، وصار أبًا لمن أرضعتْه زوجتُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التي أرضعت أبًا، كان أخوه عمًّا، وكانت أخت المرأة خالةً، يَحرُم من الرَّضاع العمَّات، والخالات، والأعمام، والأخوال، والأخوات، وبناتُهن، كما يَحرُم من النَّسَب، هذا معنى قوله عليه السلام: «الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة». قال ابن المنذر: إذا أرضعتِ امرأةُ الرجل جاريةً، حَرُمت على ابنه، وعلى أبيه، وعلى جَدِّه، وعلى بني بَنِيه وبني بَناتِه، وعلى كلِّ وَلَدٍ ذكر، وولَد وَلَده، وعلى كلِّ جَدٍّ له من قِبَلِ أبيه وأمِّه، وإذا كان المرضَعُ غلامًا، حرَّم الله عليه وَلَدَ المرأة التي أرضعتْه، وأولادَ الرجل الذي أُرضِع هذا الصبىُّ بلَبَنِه، وهو زوج المرضِعة، ولا تَحِلُّ له عمَّتُه من الرضاعة، ولا خالتُه، ولا بنتُ أخيه، ولا بنتُ أخته من الرضاعة" [1].

قال ابن المنذر رحمه الله: "ولا بأس أن يتزوَّج الرجل المرأةَ التي أرضعت ابنَه، وكذلك يتزوَّج بنتَ المرأة التي هي رضيعةُ ابنه، ولأخي هذا الصبيِّ المرضَع أن يتزوَّج المرأة التي أرضعت أخاه، ويتزوَّج ابنتها التي هي رضيعُ أخيه، وما أراد من ولدها ووَلَدِ ولدها؛ وإنما يَحرُم نكاحهن على المرضَع" [2].

قال ابن عبد البرِّ رحمه الله: "هذا حديث صحيح نَقَله العُدول، وهو يبيِّن كتاب اللّه في الزّيادة في معناه؛ لأنّ اللّه إنّما ذَكَر في كتابه في التّحريم بالرّضاعة الأمَّهات والأخوات؛

فقال تعالى:

﴿وَأُمَّهَٰتُكُمُ ٱلَّٰتِىٓ أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَٰتُكُم مِّنَ ٱلرَّضَٰعَةِ﴾

[النساء: 23]

وبيَّن رسول اللّه ﷺ أنّ كلَّ ما يَحرُم من النَّسَب، فمثلُه يَحرُم من الرّضاع، وإذا كانت الأمُّ من الرّضاع محرَّمةً، كان كذلك الأب؛ لأنّ اللّبن منهما جميعًا، وإذا كان زوج التي أرضعت أبًا، كان أخوه عمًّا، وكانت أخت المرأة خالةً، فحرَّم بالرّضاعة العمَّاتِ والخالات والأعمامَ والأخوال والأخوات وبناتهن كما يحرَّم بالنَّسَب، هكذا معنى قوله ﷺ: «إنّ الرّضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة»، وفي هذا الحديث دليل واضح على أنّ لبن الفحل يحرِّم الذَّكَر العمَّ، ولولا لبنُ الفحل ما ذُكِر العمُّ؛ لأنّ بمراعاة لبن الرّجل صار أبًا، فصار أخوه عمًّا. فإن قيل: إنّه ليس في هذا الحديث شيء يدلُّ على التّحريم بلبن الفحل، فإنّه ممكِن أن يكون عمُّ حفصةَ المذكورُ قد أرضعته مع عمرَ بنِ الخطّاب امرأةٌ واحدة، فصار عمًّا لحفصة. فالجواب أن قوله: «إنّ الرّضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة» يقضي بتحريم لبن الفحل؛ لأنّه معلوم أنّ الأب لم يلد أولاده بالحَمْل والوضع كما صنعت الأمُّ؛ وإنما وَلَدهم بما كان من مَائه المتولِّد منه الحَمل واللّبن، فصار بذلك والدًا كما صارت الأمُّ بالحَمل والولادة أمًّا، فإذا أرضعت بلبنها طفلًا كانت أمَّه، وكان هو أباه، وهذا يوضِّح ويرفع الإشكال فيه" [3].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد أجمع العلماء على العمل بهذه الأحاديث في الجُمْلة، وأنّ الرَّضَاع يحرِّم ما يحرِّمه النَّسَب، ولنذكر المحرَّمات من النَّسَب كلَّهنّ حتّى يُعلَم بذلك ما يَحرُم من الرّضاع، فنقول: الوِلادة والنَّسَب قد يؤثِّران التّحريم في النِّكاح، وهو على قسمين؛ أحدهما: تحريم مؤبَّد على الانفراد، وهو نوعان؛ أحدهما: ما يَحرُم بمجرَّد النّسب.

والنّوع الثّاني: ما يَحرُم من النَّسَب مع سبب آخَرَ، وهو المصاهرة، فيَحرُم على الرّجل حلائلُ آبائه، وحلائل أبنائه، وأمَّهات نسائه، وبنات نسائه المدخولُ بهنّ، فيَحرُم على الرّجل أمُّ امرأته وأمَّهاتها من جهة الأمِّ والأب وإن عَلَوْنَ، ويَحرُم عليه بنات امرأته، وهنّ الرّبائب وبناتهنّ وإن سَفَلْنَ، وكذلك بناتُ بني زوجته، وهنّ بنات الرّبائب، نصَّ عليه الشّافعيُّ وأحمدُ، ولا يُعلَم فيه خلاف. ويَحرُم عليه أن يتزوَّج بامرأة أبيه، وإن علا، وبامرأة ابنه وإن سَفَل، ودخولُ هؤلاء في التّحريم بالنَّسَب ظاهر؛ لأنّ تحريمهنّ من جهة نسب الرّجل مع سبب المصاهرة. وأمّا أمّهاتُ نسائه وبناتُهنّ، فتحريمهنّ مع المصاهرة بسبب نسب المرأة، فلم يَخرُج التّحريم بذلك عن أن يكون بالنّسب مع انضمامه إلى سبب المصاهرة، فإنّ التّحريم بالسّبب المجرَّد، والنَّسَبِ المضاف إلى المصاهَرة، يشترك فيه الرّجال والنّساء، فيَحرُم على المرأة أن تتزوَّج أصولَها وإن عَلَوا، وفروعَها وإن سَفَلوا، وفروعَ أصولها الأدنى وإن سَفَلوا من إخوتها، وأولاد الإخوة وإن سفلوا، وفروع أصولها البعيدة وهم الأعمام والأخوال وإن علوا دون أبنائهم، فهذا كلُّه بالنَّسَب المجرَّد، وأمّا بالنَّسَب المضاف إلى الْمُصاهرة، فيَحرُم عليها نكاح أبي زوجها وإن علا، ونكاح ابنه وإن سَفَل بمجرَّد العقد، ويَحرُم عليها زوج ابنتها وإن سَفَلت بالعقد، وزوجُ أمِّها وإن علت؛ لكن بشرط الدّخول بها.

والقسم الثاني: التّحريم المؤبَّد على الاجتماع دون الانفراد، وتحريمُه يختصُّ بالرّجال؛ لاستحالة إباحة جمع المرأة بين زوجين، فكلُّ امرأتين بينهما رَحِم محرَّم يَحرُم الجمع بينهما، بحيث لو كانت إحداهما ذَكَرًا لم يَجُز له التّزوُّج بالأخرى، فإنّه يَحرُم الجمع بينهما بعقد النِّكاح. قال الشّعبيُّ: كان أصحاب محمّد ﷺ يقولون: لا يَجمَع الرّجلُ بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلًا لم يَصلُح له أن يتزوَّجها. وهذا إذا كان التّحريم لأجل النَّسَب، وبذلك فسَّره سفيانُ الثَّوْريُّ وأكثر العلماء، فلو كان لغير النَّسَب مثلَ أن يجمع بين زوجة رجل وابنته من غيرها، فإنّه يُباح عند الأكثرين، وكرهه بعض السَّلَف. فإذا عُلِم ما يَحرُم من النَّسَب، فكلُّ ما يَحرُم منه، فإنّه يَحرُم من الرَّضاع نَظيرُه، فيَحرُم على الرّجل أن يتزوَّج أمّهاتِه من الرَّضاعة وإن عَلَون، وبناتِه من الرّضاعة وإن سَفَلن، وأخواتِه من الرّضاعة، وبناتِ أخواته من الرّضاعة وعمَّاته وخالاته من الرّضاعة، وإن عَلَون دون بناتهنّ" [4].

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم أَقِف على اسمه، ووَهِمَ من فسَّره بأفلحَ أخي أبي القُعيس؛ لأن أبا القُعيس أبو عائشة من الرضاعة، وأما أفلحُ فهو أخوه، وهو عمُّها من الرضاعة، وفي الحديث: أنه عاش حتى جاء يستأذن على عائشةَ، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تأذن له بعد أن امتنعت، وقولها: "لو كان حيًّا" يدلُّ على أنه كان مات، فيَحْتَمِل أن يكون أخًا لهما آخَرَ، ويَحْتَمِل أن تكون ظنَّت أنه مات لبُعْدِ عهدها به، ثم قَدِم بعد ذلك، فاستأذن" [5].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وهذا إجماعٌ لا خلاف فيه بين الأئمَّة، فإذا حَرُمت الأمُّ، فكذا زوجُها؛ لأنه والدُه؛ لأن اللبن منهما جميعًا، وانتشرت الحُرمة إلى أولاده، فأخو صاحب اللبن عمٌّ، وأخوها خالُه من الرَّضاع، فيَحرُم من الرضاع: العمَّاتُ، والخالاتُ، والأعمام، والأخوات، وبناتهن كالنسب، فيترتَّب على ذلك تنزيلهم منزلة الأقارب في جواز النَّظَر، والخلوة، والسفر، ولا يترتّب عليه باقي أحكام الأمومة، من التوارث، ووجوب الإنفاق، وإسقاط القصاص" [6].

قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى هذا أن المرأة إذا أَرضَعت طفلًا الرَّضاعَ الْمُعتبَر في المدَّة المعتبَرة، صارت أمًّا له بنصِّ كتاب اللّه، فتَحرُم عليه هي وأمَّهاتها، وإن عَلَون من نسب أو رَضاع، وتصير بناتها كلُّهنّ أخواتٍ له من الرّضاعة، فيَحرُمن عليه بنصِّ القرآن، وبقيَّة التّحريم من الرّضاعة استُفيد من السّنَّة. كما استُفيد من السُّنَّة أنّ تحريم الجمع لا يختصُّ بالأختين؛ بل المرأةِ وعمَّتها، والمرأة وخالتِها كذلك، وإذا كان أولاد المرضِعة من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، فيَحرُم عليه بنات إخوته أيضًا، وقد امتنع النّبيُّ ﷺ من تزويج ابنة عمِّه حمزةَ، وابنةِ أبي سلمةَ، وعلَّل بأنّ أبوَيهما كانا أخوين له من الرّضاعة.

ويَحرُم عليه أيضًا أخواتُ المرضِعة؛ لأنّهنّ خالاتُه، وينتشر التّحريم أيضًا إلى الفحل صاحب اللّبن الّذي ارتضع منه الطّفل، فيصير صاحبُ اللّبن أبًا للطّفل، وتصير أولاده كلُّهم من المرضِعة أو من غيرها من نسب أو رضاع إخوةً للمرتضِع، ويصير إخوته أعمامًا للطّفل المرتضِع، وهذا قول جمهور العلماء من السَّلَف، وأجمع عليه الأئمّة الأربعة ومن بعدَهم. وقد دلَّ على ذلك من السّنَّة ما روت عائشة أنّ أفلحَ أخا أبي القُعيس استأذن عليها بعد ما أُنزل الحجاب، قالت عائشة: فقلت: واللّه لا آذَنُ له حتّى أستأذن رسول الله ، فإنّ أبا القُعيس ليس هو أرضعني؛ ولكن أرضعتني امرأتُه، قالت: فلمَّا دخل رسول اللّه ﷺ، ذَكَرت ذلك له، فقال: «ائذني له؛ فإنّه عمُّكِ، تَرِبَتْ يَمينك»، وكان أبو القعيس زوجَ المرأة الّتي أرضعت عائشة. خرَّجاه في "الصّحيحين" بمعناه. وسُئل ابن عبّاس عن رجل له جاريتان، أرضعت إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيحلُّ للغلام أن يتزوَّج الجارية؟ فقال: لا، اللّقاح واحد" [7].

المراجع

1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 193).

2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (7/ 194).

3.  "الاستذكار" لابن عبد البرِّ (6/ 241).

4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 438-440).

5. "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (9/ 140).

6. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (20/ 92).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 440، 441).


المعنى الإجماليُّ للحديث

سأل عَبْدُ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه النَّبِيَّ قال: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟ قَالَ : «الصَّلاةُ عَلى وقْتِهَا»؛ أي: أداء الصلاة في الوقت المحدَّد لها هو أحبُّ الأعمال إلى الله. [قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ]؛ أي: ثم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله بعد الصلاة؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»؛ لعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما. [قَالَ: ثُمَّ أَيٌّ؟]؛ أي: ثم أيُّ العمل أحبُّ إلى الله بعد برِّ الوالدين؟ قَالَ: «الجِهَادُ في سَبِيل اللهِ»؛ أي: الجهاد والقتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله.  ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي: أي: ولو طلبت منه الزيادة بالسؤال لزادني بالإجابة عن أسئلتي.


الشرح المفصَّل للحديث

تتنوَّع الأعمالُ الموصِّلةُ إلى رِضا اللهِ عز وجل وتتفاوتُ دَرَجاتُها كذلك، وكان الصحابةُ - رِضْوانُ الله عليهم - يحرصون على أفْضَلِها وأحبِّها إلى اللهِ عز وجل، وكانُوا يَسألونَ عن بيان منازلها ومراتبها؛ حُبًّا في العلم، ورغبةً فيه؛ حتَّى يلزموها فينالوا رضا الله عز وجل وثوابه.  

وفي هذا الحديث يُخبِر عبدُ الله بنُ مسعودٍ رضي الله عنه أنه سأل رسول الله ﷺ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلى اللهِ؟»؛ أيْ: أيُّ العمل أكثر تقرُّبًا إلى الله تعالى لكونه أفضلَ [1]؟ وقد سأل هذا السؤال؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمُه من العمل، وما هو الأصلُ الذي يجب أن تشتدَّ المحافَظةُ عليه [2]، وقد تكرَّر مثلُ هذا السؤال من الصحابة الكرام ﭫ، وأجاب رسولُ الله ﷺ بأجوبة مختلفة، وقد ذكر العلماءُ أن ذلك راجعٌ لاختلاف أحوال السائلين؛ بأن أعلم النبيُّ ﷺ كلَّ سائل كلامًا هو إليه أحوجُ، أو هو به ألْيقُ، أو راجعٌ لاختلاف الأوقات، ونحو ذلك [3].

وكان جوابُ رسول الله ﷺ: أن أوَّلها وأحبَّها إلى اللهِ: «الصَّلَاة عَلى وقْتِهَا»، والصلاةُ هي العبادة البَدنية المعروفة، وهي رُكنُ الإسلام الثاني بعد الشَّهادتينِ، وهي أساسُ العَلاقة بين العبد وربِّه، ولذا؛ جعل النبيُّ ﷺ الصلاةَ على وقتها أحبَّ الأعمال إلى الله عز وجل.

ومعنى قوله ﷺ: «عَلى وقْتِهَا»؛ أي: أداء الصلاة في الوقت المحدَّد لها؛ فليس في لفظ: «عَلى وقْتِهَا» ما يقتضي أولَ الوقت وآخرَه. وكأن المقصود به الاحترازُ عما إذا وقعت خارجَ الوقت قضاءً. وقد ورد في حديث آخر «الصلاة لوقتها» [4]، وهو أقرب لأن يُستدَلَّ به على تقديم الصلاة في أول الوقت من هذا اللفظ [5].

وللصلاة مكانةٌ عُظمى في دين الله عز وجل، وقد أمر اللهُ تعالى في كتابه العزيز بالمحافظة عليها،

فقال تعالى:

﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾  

[البقرة: 238]،

وبيَّن سبحانه أن من صفات المؤمنين المحافظةَ على الصلاة، فقال سبحانه:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾

[المؤمنون: 9].

وتوعَّد مَن يُضيع الصلاة بأشدِّ العقوبات، فقال تعالى:

﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾  

 [مريم: 59]. 

ويذكر عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسولَ الله ﷺ عن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل بعد الصلاة، قائلًا: «ثُمَّ أَيٌّ؟» فأجابه النبيُّ ﷺ قائلًا: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»، فأتى ببِرِّ الوالدينِ في المنزلة الثانية بعد الصلاة؛ تأكيدًا لأهمية ذلك، وعِظَم منزلةِ وحقِّ الوالدينِ، وبِرُّ الوالدينِ يكون "بالإحسان إليهما، والقيام بخِدمتهما، وتَرْك عُقوقهما"[6].

وقد جاء الأمرُ ببِرِّ الوالدَين في القرآن الكريم في أكثرَ من موضعٍ؛ قال تعالى:

﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا۞ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾

[الإسراء: 23، 24]،

وقال تعالى:

﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾  

[لقمان: 14].  

ويُخبر عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه

أنه سأل رسولَ الله ﷺ عن أحبِّ الأعمال إلى الله عز وجل بعد بِرِّ الوالدين، قائلًا: «ثُمَّ أَيٌّ؟» فبيَّن له النبيُّ ﷺ أن العملَ الثالث في المنزلةِ بعدَ هذيْنِ العمَلَين العظيمينِ هو الجِهادُ في سبيلِ اللهِ عز وجل؛ وهو: "محاربة الكفَّار لإعلاء كلمة الله، وإظهار شعائر الإسلام بالنفْس والمال"

[7].

والجهادُ هو ذِرْوةُ سَنام الإسلام؛ به تُرفَع رايةُ الدِّين، وتعلو كلمة الحقِّ إلى قيام الساعة، وبه يُعِزُّ الله المؤمنين، ويُذِلُّ أعداءه. 

ولقد مدَح اللهُ الجهادَ، ووعد المجاهدين بالأجر العظيم فضلًا منه وكرَمًا،

 فقال في كتابه العزيز:

 ﴿لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ۞ دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ۚ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴾  

[النساء: 95، 96]

وقال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾     

[التوبة: 111].

"والحكمةُ في تخصيص الذِّكر بهذه الأشياء الثلاثة أن هذه الثلاثةَ أفضلُ الأعمال بعد الإيمان؛ مَن ضيَّع الصلاةَ التي هي عمادُ الدين مع العلم بفضيلتها، كان لغيرها من أمر الدين أشدَّ تضييعًا، وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا مَن ترَك بِرَّ والدَيْه، فهو لغير ذلك من حقوق الله أشد ترْكًا، وكذا الجهاد، مَن ترَكه مع قدرته عليه عند تعيُّنه، فهو لغير ذلك من الأعمال التي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى أشدُّ ترْكًا، فالمحافِظُ على هذه الثلاثة محافظٌ على ما سواها، والمضيِّع لها كان لِما سواها أضيَعَ" [8].

ويَذكر ابنُ مسعود رضي الله عنه أن رسولَ الله ﷺ حدَّثه بهذه الأمور الثلاثة، قال: «ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِ‍ي»؛ أي: ولو طلبتُ من النبيِّ ﷺ الزيادةَ في السؤال، لزادني رسولُ الله ﷺ في الجواب. وطلبُه الزيادةَ يَحتمِل أن يكون أرادها من هذا النوع - وهي مراتب أفضل الأعمال - ويَحتمِل أن يكون أرادها من مُطلَق المسائل الْمُحتاج إليها بوجْهٍ عامٍّ. 

وسُكوتُه عن الاستزادة من رسول الله ﷺ إنما هو من باب الأدب مع رسول الله ﷺ، وشفقةً عليه؛ لئلا يسْأَم ﷺ، ويؤيِّدُه ما رواه عبدُ الله بن مسعود رضي الله عنه:

«فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلَّا إِرْعَاءً عَلَيْهِ»

[ 9]؛

أي: شفقةً عليه؛ لئلا يسْأم [10].

المراجع

  1. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد بن علان الصديقي (3/ 145).
  2. انظر: "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163).
  3. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (2/ 9).
  4. رواه البخاريُّ (75349)، ومسلم (85).
  5. "إحكام الأحكام شرع عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163).
  6. "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (1/ 482).
  7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيْنيِّ (5/ 14).
  8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).
  9. رواه مسلم (85).
  10. انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العَيني (5/ 14).


النقول

قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله : "وسؤاله عن أفضل الأعمال؛ طلبًا لمعرفة ما ينبغي تقديمه منها، وحرصًا على علم الأصل؛ ليتأكَّد القصد إليه، وتشتدَّ المحافظة عليه.

و"الأعمال" هاهنا لعلّها محمولة على الأعمال البدنيّة، كما قال الفقهاء: أفضل عبادات البدن الصّلاة. واحترزوا بذلك عن عبادة المال، وقد تقدَّم لنا كلام في العمل: هل يتناول عمل القلب أم لا؟ فإذا جعلناه مخصوصًا بأعمال البدن، تبيَّن من هذا الحديث: أنّه لم يُرِد أعمال القلوب؛ فإنّ من عملها ما هو أفضل؛ كالإيمان؛ وقد ورد في بعض الحديث ذكره مصرَّحًا به - أعني الإيمان - فتبيَّن بذلك الحديث: أنّه أريد بالأعمال ما يدخل فيه أعمال القلوب، وأريد بها في هذا الحديث: ما يختصُّ بعمل الجوارح. وقوله: «الصّلاة على وقتها» ليس فيه ما يقتضي أوّل الوقت وآخِره، وكأنّ المقصود به: الاحتراز عمّا إذا وقعت خارج الوقت قضاءً، وأنّها لا تتنزّل هذه المنزلة، وقد ورد في حديث آخر: «الصّلاة لوقتها» وهو أقرب لأن يُستدلَّ به على تقديم الصّلاة في أوّل الوقت من هذا اللّفظ، وقد اختلفت الأحاديث في فضائل الأعمال، وتقديم بعضها على بعض، والّذي قيل في هذا: إنّها أجوبة مخصوصة لسائل مخصوص، أو من هو في مثل حاله، أو هي مخصوصة ببعض الأحوال الّتي ترشد القرائن إلى أنّها المراد، ومثال ذلك: أن يحمل ما ورد عنه ﷺ من قوله: «ألا أخبركم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم؟» [1] وفسّره بذكر اللّه تعالى، على أن يكون ذلك أفضل الأعمال بالنّسبة إلى المخاطَبين بذلك، أو من هو في مثل حالهم، أو من هو في صفاتهم. ولو خوطب بذلك الشّجاع الباسل المتأهِّل للنّفع الأكبر في القتال، لقيل له: "الجهاد"، ولو خوطب به من لا يقوم مقامه في القتال ولا يتمحَّض حاله لصلاحيّة التّبتُّل لذكر اللّه تعالى، وكان غنيًّا ينتفع بصدقة ماله، لقيل له: "الصّدقة"، وهكذا في بقيّة أحوال النّاس، قد يكون الأفضل في حقِّ هذا مخالفًا للأفضل في حقّ ذاك، بحسب ترجيح المصلحة الّتي تليق به" [2].

قال ابنُ رجب رحمه الله: "وفي قول النبيِّ ﷺ: «الصلاة على وقتها - أو على مواقيتها»: دليلٌ أيضًا على فضل أول الوقت للصلاة؛ لأن "على" للظرفية؛ كقولهم: "كان كذا على عهد فلان"، والأفعال الواقعة في الأزمان المتَّسِعة عنها لا تستقرُّ فيها؛ بل تقع في جزء منها؛ لكنها إذا وقعت في أول ذلك الوقت، فقد صار الوقت كلُّه ظرفًا لها حُكمًا؛ ولهذا سُمِّي المصلِّي مصلِّيًا في حال صلاته وبعدها، إما حقيقةً أو مجازًا، على اختلاف في ذلك، وأما قبل الفعل في الوقت، فليس بمصلٍّ حقيقةً ولا حُكمًا؛ وإنما هو مصلٍّ بمعنى استباحة الصلاة فقط، فإذا صلَّى في أول الوقت، فإنه لم يُسمَّ مصلِّيًا إلا في آخر الوقت" [3].

قال ابنُ حجر رحمه الله: "وَمُحَصِّلُ ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث وغيره ممّا اختلفت فيه الأجوبة بأنّه أفضل الأعمال: أنّ الجواب اختلف لاختلاف أحوال السّائلين، بأن أعلم كلَّ قوم بما يحتاجون إليه، أو بما لهم فيه رغبة، أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضلَ منه في غيره؛ فقد كان الجهاد في ابتداء الإسلام أفضلَ الأعمال؛ لأنّه الوسيلة إلى القيام بها والتّمكُّن من أدائها، وقد تضافرت النّصوص على أنّ الصّلاة أفضل من الصّدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة المضطرِّ تكون الصّدقة أفضلَ، أو أنّ "أفضل" ليست على بابها؛ بل المراد بها الفضل المطلَق، أو المراد من أفضل الأعمال، فحُذفت "من"، وهي مرادة، وقال ابن دقيق العيد: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنيّة، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان؛ لأنّه من أعمال القلوب، فلا تعارض حينئذ بينه وبين حديث أبي هريرة: «أفضل الأعمال إيمان باللّه» الحديث، وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين، لأنّه يتوقّف على إذن الوالدين، فيكون برُّهما مقدَّمًا عليه قوله: «الصّلاة على وقتها». قال ابن بطّال فيه: إنّ البِدَار إلى الصّلاة في أوّل أوقاتها أفضل من التّراخي فيها؛ لأنّه إنّما شرط فيها أن تكون أحبَّ الأعمال إذا أُقيمت لوقتها المستحبِّ. قلت: وفي أخذ ذلك من اللّفظ المذكور نظر. قال ابن دقيق العيد: ليس في هذا اللّفظ ما يقتضي أوّلًا ولا آخرًا، وكأنّ المقصود به الاحتراز عمّا إذا وقعت قضاءً، وتُعقِّب بأنّ إخراجها عن وقتها محرَّم، ولفظ "أحبّ" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت، وأجيب بأنّ المشاركة إنّما هي بالنّسبة إلى الصّلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصّلاة في وقتها كانت أحبَّ إلى اللّه من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عمّا إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنّائم والنّاسي، فإنّ إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتّحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال، مع كونه محبوبًا؛ لكنّ إيقاعها في الوقت أحبُّ" [4].

قال ابنُ رجب رحمه الله: "وقولُه: «ثم بِرُّ الوالدين»: لَمَّا كان ابنُ مسعود له أمٌّ احتاج إلى ذكر بِرِّ والدَيه بعد الصلاة؛ لأن الصلاة حقُّ الله، وحقَّ الوالدَين متعقِّب لحقِّ الله عزَّ وجلَّ

كما قال تعالى:

{أَنِ ٱشْكُرْ لِى وَلِوَٰلِدَيْكَ إِلَىَّ ٱلْمَصِيرُ}

[لقمان:14]. 

وقولُه: «ثم الجهادُ في سبيل الله»؛ لأن الجهاد فرض كفاية، والدخول فيه بعد قيام مَن سَقَط به حقُّ فرض الكفاية تطوُّعٌ إذا لم يتعيَّن بحضور العدوِّ؛ ولهذا تقدَّم بِرُّ الوالدين على الجهاد إذا لم يتعيَّن

كما قال النبيُّ ﷺ لمن أراد أن يجاهد معه:

«ألكَ والدان؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»

[5]،

وفي رواية: «فأمره أن يرجع إليهما». فَذَكر النبيُّ ﷺ لابن مسعود أن أفضل الأعمال القيامُ بحقوق الله التي فرضها على عباده فرضًا، وأفضلها: الصلاة لوقتها، ثم القيامُ بحقوق عباده، وآكَدُه بِرُّ الوالدينِ، ثم التطوُّع بأعمال البِرِّ، وأفضلُها الجهادُ في سبيل الله. وهذا مما يستدِلُّ به الإمام أحمدُ ومن وافقه على أن أفضل أعمال التطوُّع الجهاد. فإن قيل: فقد رُوي خلاف ما يُفهَم منه ما دلَّ عليه حديث ابن مسعود هذا؛ ففي الصحيحين، عن أبي هريرة، أن النبيَّ ﷺ سئل: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله ورسوله»، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: «الجهاد في سبيل الله»، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: «حجٌّ مبرور». وفيهما أيضًا: عن أبي ذرٍّ، أنه سأل النبيَّ ﷺ: أيُّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «الإيمان بالله، والجهادُ في سبيله»، ولم يَذكُر في هذين الحديثين الصلاةَ ولا بِرَّ الوالدين، ورُوِيَ نصوصٌ أُخَرُ بأن الجهاد أفضل الأعمال مطلَقًا، ورُوي ما يدلُّ على أن أفضل الأعمال ذكرُ الله عزَّ وجلَّ، وجاء ذلك صريحًا عن جماعة كثيرة من الصحابة - رضي الله عنهم - قيل: هذا مما أَشكَل فَهْمُه على كثير من الناس، وذكروا في توجيهه والجمع بين النصوص الواردة به وجوهًا غير مُرْضِيَة؛ فمنهم من قال: أراد بقوله: "أفضل الأعمال كذا"؛ أي: أن ذلك من أفضل الأعمال، لا أنه أفضلها مطلقًا. وهذا في غاية البُعد. ومنهم من قال: أجاب كلَّ سائل بحسَبِ ما هو أفضلُ الأعمال له خاصَّةً، كما خصَّ ابنَ مسعود بذكر الوالدينِ؛ لحاجته إليه، ولم يَذكُر ذلك لغيره؛ لكنْ أبو هريرة كانت له أمٌّ أيضًا" [6].

قال ابنُ دقيقِ العيد رحمه الله: "وَأَمَّا بِرُّ الوالدين، فقد قُدِّم في هذا الحديث على الجهاد، وهو دليل على تعظيمه. ولا شكَّ في أنّ أذاهما بغير ما يجب ممنوع منه. وأمّا ما يجب من البرِّ في غير هذا ففي ضبطه إشكال كبير. وأمّا الجهاد في سبيل اللّه تعالى، فمرتبتُه في الدّين عظيمة، والقياس يقتضي أنّه أفضل من سائر الأعمال الّتي هي وسائلُ؛ فإنّ العباداتِ على قسمين، منها ما هو مقصود لنفسه، ومنها ما هو وسيلة إلى غيره. وفضيلة الوسيلة بحسب فضيلة المتوسَّل إليه، فحيث تُعظَّم فضيلة المتوسَّل إليه تعظَّم فضيلة الوسيلة، ولَمّا كان الجهاد في سبيل اللّه وسيلةً إلى إعلان الإيمان ونشره، وإخمال الكفر ودحضه، كانت فضيلة الجهاد بحسَبِ فضيلة ذلك. واللّه أعلم" [7].

قال ابنُ رجب رحمه الله: "والجهاد أفضل ما تُطُوِّع به من الأعمال، على ما دلَّت عليه النصوص الصحيحة الكثيرة، وهو مذهب الإمام أحمد. وفي الصحيحين: عن أبي سعيد عن النبيِّ ﷺ قال: «أفضل الناس مؤمِنٌ آخذٌ بعِنان فرسه في سبيل الله، ثم رجل معتزل في شعب من الشِّعاب يعبد ربَّه، ويَدَع الناس من شرِّه». فهذا نصٌّ في أن المجاهد أفضل من المتخلِّي لنوافل العبادات من الصلاة والذكر وغير ذلك، فأما النصوص التي جاءت بتفضيل الذكر على الجهاد وغيره من الأعمال، وأن الذاكرين لله أفضلُ الناس عند الله مطلقًا، فالمراد بذلك أهل الذكر الكثير المستدام في أغلب الأوقات، وليس الذكرَ مما يُقطَع عن غيره من الأعمال كبقية الأعمال؛ بل يمكِن اجتماع الذكر مع سائر الأعمال، فمن عَمِل عملًا صالحًا، وكان أكثرَ لله ذِكرًا فيه من غيره، فهو أفضل ممن عَمِل مثل ذلك العمل من غير أن يذكر الله معه، وقد وَرَد في نصوص متعدِّدة أن أفضل المصلِّين والمتصدِّقين والمجاهدين والحاجِّ وغيرهم من أهل العبادات أكثرُهم لله ذِكرًا" [8].

قال ابنُ حجر رحمه الله: قال القرطبيُّ وغيره: قوله: [لوقتها] اللّام للاستقبال

مثل قوله تعالى:

{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}

[الطلاق: ١]

أي: مستقبِلات عدَّتهنّ. وقيل: للابتداء

كقوله تعالى:

{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}

[الإسراء: ٧٨]

وقيل: بمعنى [في]؛ أي: في وقتها. وقوله: [على وقتها]. قيل: على بمعنى اللّام، ففيه ما تقدَّم، وقيل: لإرادة الاستعلاء على الوقت، وفائدته تحقُّق دخول الوقت ليقع الأداء فيه. قوله: [ثمّ أيّ؟] قيل: الصّواب أنّه غير منوَّن؛ لأنّه غير موقوف عليه في الكلام، والسّائل ينتظر الجواب، والتّنوين لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه وقفةً لطيفةً ثمّ يؤتى بما بعده. قاله الفاكهانيُّ، وحكى ابن الجوزيِّ عن ابن الخشّاب الجزم بتنوينه؛ لأنّه معرَب غيرُ مضاف، وتُعقِّب بأنّه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف لفظًا، والتّقدير: ثمّ أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوين، وقد نصَّ سيبويهِ على أنّها تعرَب؛ ولكنّها تُبنى إذا أُضيفت، واستشكله الزّجّاج. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأنّ أعمال البرّ يفضَّل بعضها على بعض، وفيه السّؤال عن مسائلَ شتَّى في وقت واحد، والرّفق بالعالم، والتّوقُّف عن الإكثار عليه خشية مَلاله، وما كان عليه الصّحابة من تعظيم النّبيّ ﷺ والشّفقة عليه، وما كان هو عليه من إرشاد المسترشدين ولو شقّ عليه، وفيه أنّ الإشارة تتنزَّل منزلة التّصريح إذا كانت معيِّنةً للمشار إليه مميِّزةً له عن غيره. قال ابن بزيزة: الّذي يقتضيه النّظر تقديم الجهاد على جميع أعمال البدن؛ لأنّ فيه بذل النّفس، إلّا أنّ الصّبر على المحافظة على الصّلوات وأدائها في أوقاتها، والمحافظة على برِّ الوالدينِ، أمر لازم متكرِّر دائم لا يصبر على مراقبة أمر اللّه فيه إلا الصدّيقون، والله أعلم" [9].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «قَالَ: ثمَّ أَي؟»: قال الفاكهانيُّ: إنّه غير منوَّن لأنّه غير موقوف عليه في الكلام، والسائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينُه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة ثمّ يؤتى بما بعدَه. وقال ابن الجوزيِّ في هذا الحديث: [أيّ]: مشدَّد منوَّن، كذلك سمعت من ابن الخشّاب. وقال: لا يجوز إلّا تنوينه؛ لأنّه معرَب غير مضاف. وقال بعضهم: وتُعقِّب بأنّه مضاف تقديرًا، والمضاف إليه محذوف، والتّقدير: ثمّ أيُّ العمل أحبُّ؟ فيوقف عليه بلا تنوين. قلت: قال النّحاة: إن أيًّا الموصولة والشرطية والاستفهامية معرَبة دائمًا، فإذا كانت: [أي] هذه معربة عند الإفراد، فكيف يقال: إنّها مبنيّة عند الإضافة؟ ولَمّا نُقل عن سيبويهِ هذا هكذا، أنكر عليه الزّجَّاج، فقال: ما تبيَّن لي أن سيبويهِ غلط إلّا في موضعين: هذا أحدهما، فإنّه يسلِّم أنّها تعرَب إذا أُفردت، فكيف يقول ببنائها إذا أُضيفت؟!

فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص الذّكر بهذه الأشياء الثّلاثة؟ قلت: هذه الثّلاثة أفضل الأعمال بعد الإيمان، من ضيَّع الصّلاة الّتي هي عمادُ الدّين مع العلم بفضيلتها، كان لغيرها من أمر الدّين أشدَّ تضييعًا، وأشدَّ تهاونًا واستخفافًا، وكذا من ترك برَّ والديه فهو لغير ذلك من حقوق الله أشدَّ تركًا، وكذا الجهاد: من تركه مع قدرته عليه عند تعيُّنه، فهو لغير ذلك من الأعمال الّتي يتقرَّب بها إلى الله تعالى أشدُّ تركًا، فالمحافظ على هذه الثّلاثة حافظ على ما سواها، والمضيِّع لها كان لما سواها أضيعَ" [10].

المراجع

  1. رواه أحمد (21702)، والترمذيّ (3377)، وصحّحه الألبانيّ في صحيح الترغيب والترهيب (1493).
  2. "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 162، 163).
  3. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 209، 210).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 9، 10).
  5. رواه البخاريُّ (3004)، ومسلم (2549).
  6. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 210 - 212).
  7. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (1/ 163، 164).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (4/ 218).
  9. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 10، 11).
  10. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (5/ 13، 14).


غريب الحديث:

الحِمى: أيُّ محظورٍ لا يُقرَب[1].

يرتَعُ: تأكل فيها الماشيةُ[2].

مُضغة: قطعة لحم[3].

المراجع

  1. "مختار الصحاح" للرازيِّ، مادَّة (ح م ي).
  2. "مختار الصحاح" للرازيِّ، مادَّة (ر ت ع).
  3. "مختار الصحاح" للرازيِّ، مادَّة (م ض غ).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي النُّعْمانُ بنُ بَشيرٍ – رضي الله عنهما – ما سمعه من رسول اللهِ ﷺ وقد أَهْوى النُّعمانُ بإصْبَعَيْهِ إلى أُذُنَيْهِ يُشير إلى أنه سمعه بأُذنيه مباشرةً من النبيِّ ﷺ، يقول ﷺ: «إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ»؛ أي: إن ما أحلَّه الله وأباحه واضحٌ لا اشتباهَ فيه. «وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ»؛ وإن ما حرَّمه الله، وقام الدليلُ على تحريمه، واضحٌ لا اشتباهَ فيه. «وبَيْنَهُما مُشْتَبِهاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»؛ أي: بين الحلال والحرام أمورٌ تَشتَبِهُ على كثير من الناس، هل هي من الحلال أو من الحرام؟ «فَمَنِ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ»؛ أي: فمن اتَّقى الشُّبهاتِ، حَصَل له البَراءةُ لدينه من الذمِّ الشرعيِّ، وصَانَ عِرْضَه عن كلام الناس فيه. «ومَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ وقَعَ في الحَرامِ» حيث يتساهل ويتجرَّأ على تعاطي الشُّبهات حتى يقعَ في الحرام عمدًا، أو أنه من جُرأته على تَعاطي الشُّبُهاتِ يُصادف الحرام، وإن لم يتعمَّدْه. «كالرَّاعِي يَرْعى حَوْلَ الحِمى، يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ»؛ أي: إن حاله مثلُ الراعي الذي يرعى حولَ حمى الملِك، فإن تساهُله يؤدِّي به إلى أن يقارب الوقوع في حمى الملك. «ألا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى» معناه: أن لكل مَلِك من ملوك الدنيا حمًى يَحميه عن الناس، ومَن دخله منهم أوقع به العقوبة. «ألا وإنَّ حِمى اللهِ مَحارِمُهُ» ولله تعالى أيضًا حمًى، وهي محارمُه التي حرَّمها. «ألا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً، إذا صَلَحَتْ، صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ، فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القَلْبُ» إن في جسد الإنسان قطعةً صغيرة من اللحم، بها صلاح الجسد وفساده، وهي القلب.

الشرح المفصَّل للحديث:

شَرَع اللهُ تعالى لعباده ما ينفُعهم في دينهم ودنياهم، فأحلَّ لهم الطيِّباتِ، وحرَّم عليهم الخبائثَ، وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ الحلالَ والحرامَ والأمورَ المشتبِهةَ بينَهما، فيقول: «إن الحلالَ بيِّنٌ، وإن الحرامَ بيِّنٌ»؛ أي: إن الحلالَ الْمَحْضَ - وهو ما أحلَّه الله وأباحه - واضحٌ لا اشتباهَ فيه، وكذلك الحرامُ الْمَحْضُ - وهو ما قام الدليل على تحريمه - واضحٌ لا اشتباهَ فيه. «وبينَهما أمورٌ مُشتبِهاتٌ لا يعلمُهنَّ كثيرٌ من الناس»؛ أي: بين الحلال والحرام أمورٌ تَشتَبِهُ على كثير من الناس، هل هي من الحلال أو من الحرام؟ وليس المراد أنها في نفْسها مشتبِهةٌ؛ لأن الله تعالى بعث رسوله ﷺ مُبيِّنًا للأُمَّة جميعَ ما يحتاجونه في دينهم[1].

فمن الحلال المحضِ: أكلُ الطيِّبات من الزُّروع، والثِّمار، وبهيمة الأنعام، وشُربُ الأشربة الطيِّبة، ولُبْس ما يُحتاج إليه من القُطن والكتّان والصُّوف، والزواجُ، وغيرُ ذلك.
ومن الحرام المحض: أكلُ الْمَيْتَة، والدمِ، ولحمِ الخِنزير، وشُربُ الخَمر، ولِباسُ الحرير للرجال، وأكلُ الرِّبا، والْمَيْسِرُ، وغيرُ ذلك.
وهناك أمورٌ متردِّدةٌ بين التحليل والتحريم، وهي كلُّ ما تتنازَعُه الأدلَّةُ من الكتاب والسُّنة، وتتجاذَبُه المعاني، فهي المتشابِهات، وهذا القِسْمُ يجهله كثيرٌ من الناس، وإنما يَعلَمها العلماءُ بنصٍّ، أو قياس، أو استصحاب، أو غيرِ ذلك من الأدلَّة[2].

فما تَرَك الله ورسوله حلالًا ولا حرامًا إلا وهو واضحٌ بيِّنٌ؛ "لكن تفاوَتَ بعضُه؛ فمنه ما هو أظهرُ بيانًا من بعض، فما ظهر بيانُه واشتَهَر، وعُلم من الدين بالضرورة من ذلك، لم يبقَ فيه شكٌّ، ولا يُعذَر أحدٌ بجهله في بلد يَظهَر فيه الإسلامُ"[3]. 

وقوله ﷺ: «فمَنِ اتَّقَى الشُّبهات، فقد استبرأ لدينه وعِرضه»؛ أي: حَصَل له البَراءةُ لدينه من الذمِّ الشرعيِّ، وصَانَ عِرضَه عن كلام الناس فيه.

وقوله ﷺ: «ومَن وقع في الشُّبُهات وقع في الحرام»، ووقوعه في الحرام يَحتمِل وجهين:

أولهما: أنه من كثرة تَعاطيه الشُّبُهاتِ يُصادف الحرام، وإن لم يتعمَّدْه.

والآخَر: أنه يَعتَاد التساهُلَ، ويتمرَّن عليه، ويَجسُر على شُبهة، ثم أخرى أَغلَظَ منها، حتى يقعَ في الحرام عمدًا[4].

قيل: المشتبِهات ثلاثة أقسام:

• منها ما يَعلَم الإنسانُ أنه حرامٌ، ثم يشُكُّ فيه، هل زال تحريمُه أو لا؟ كالذي يَحرُم على المرء أكلُه قبل الذَّكاة إذا شكَّ في ذَكاته، لم يزُلْ التحريمُ إلا بيقين الذَّكاة. 

• والثاني عكسُ ذلك، وهو أن يكون الشيءُ حلالًا، فيَشُكَّ في تحريمه؛ كرجل له زوجةٌ، فشَكَّ في طلاقها. فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يَعلَم تحريمه.

• والقسم الثالث: أن يَشُكَّ في شيء، فلا يَدْري أحلالٌ أم حرام؟ ويحتمل الأمرين جميعًا ولا دلالةَ على أحدهما، فالأحسنُ التنزُّهُ؛ كما فعل النبيُّ ﷺ في التَّمْرةِ الساقطة حين وجدَها في بيته، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصَّدَقَة لأكلتُها»[5].

وقوله ﷺ: «كالراعي يَرْعى حولَ الحمى يوشِك أن يرتعَ فيه»؛ أي: إن حاله مثل الراعي الذي يرعى حولَ حمى الملِك، فإن تساهله يؤدِّي به إلى أن يقارب الوقوع في الحمى. ووجه التشبيه هو حصولُ العقاب بعدم الاحتراز في ذلك، كما أن الراعيَ إذا جرَّه رعيُه حول الحِمى إلى وقوعه، استحقَّ العقاب لذلك، فكذا مَن أكثَرَ من الشُّبهات، وتعرَّض لمقدِّماتها، وقعَ في الحرام، فاستحقَّ العقاب[6]. 

وقوله ﷺ: «ألا وإن لكلِّ ملك حمًى، ألا وإن حمى الله محارمُه»، معناه: أن الملوك من العرب وغيرهم يكون لكلِّ مَلك منهم حمًى يَحميه عن الناس، ويمنعهم من دخوله، فمَن دخله أوقع به العقوبة، ومَن احتاط لنفْسه لا يقارب ذلك الحمى؛ خوفًا من الوقوع فيه. ولله تعالى أيضًا حمًى، وهي محارمُه؛ أي: المعاصي التي حرَّمها؛ كالقتل، والزنا، والسرقة وأشباهها، فكلُّ هذا حمى الله، مَن دخلَه بارتكابه شيئًا من المعاصي استحقَّ العقوبة، ومَن قاربَه يوشكُ أن يقع فيه، فمن احتاط لنفْسه ولم يقاربْه فلا يتعلَّق بشيء يقرِّبه من المعصية، ولا يدخل في شيء من الشبهات[7].

 وقوله ﷺ: «ألا وإن في الجسد مُضغة» هي القطعةُ من اللحم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تُمضَغ في الفم لصغرها، والمراد تصغيرُ القلب بالنسبة إلى باقي الجسد. «إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسدت فسَدَ الجسدُ كله».

المراجع

  1. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/194)، و"إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (4/7).
  2. انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق (44)، و"شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
  3. "الأحاديث النبوية الكلية التي عليها مدار أحكام الإسلام" لصالح أحمد الشامي (ص: 59).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).
  5. رواه البخاريُّ (2431)، ومسلم (1071). وانظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (46).
  6. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/194)، و"إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (4/7).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/190).


النقول:

قال النوويُّ رحمه الله: "أَجمَع العلماء على عِظَم وَقْع هذا الحديث وكثرة فوائده، وأنّه أحد الأحاديث الّتي عليها مَدَار الإسلام. قال جماعة: هو ثُلُثُ الإسلام، وإن الإسلام يَدُور عليه وعلى حديث «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ»، وحديثِ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المرء تركه ما لا يَعْنِيه»، وقال أبو داود السَّخْتيانيُّ: يدور الإسلام على أربعة أحاديثَ: هذه الثلاثة: حديث: «الحلال بيّن والحرام بيِّن»، وحديث: «الأعمال بالنيَّة»، وحديث: «مِن حُسن إسلام المرءِ ترْكُه ما لا يَعنيه»، وحديث: «لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»، وقيل: حديث «ازهد في الدنيا يحبَّك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبَّك الناس»، قال العلماء: وسبب عِظَم موقعه أنّه ﷺ نبَّه فيه على إصلاح الْمَطعَم والْمَشرَب والْمَلبَس وغيرها، وأنّه ينبغي ترك المشتبِهات؛ فإنّه سبب لحماية دينه وعِرْضه، وحذَّر من مُوَاقعة الشُّبهات، وأوضح ذلك بضرب المثل بالحِمَى، ثمّ بيَّن أهمَّ الأمور، وهو مُراعاة القلب، فقال ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغةً...» إلى آخره، فبيَّن ﷺ أن بصلاح القلب يَصلُح باقي الجسد، وبفساده يفسد باقيه"[1].

قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ..» إِلَخ، فيه تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء، وهو صحيح؛ لأنّ الشّيء إمّا أن يُنصَّ على طلبه مع الوعيد على تركه، أو يُنصَّ على تركه مع الوعيد على فِعله، أو لا يُنصَّ على واحد منهما؛ فالأوّل: الحلال البيِّن، والثّاني: الحرام البيّن، والثّالث: مشتبِه لخفائه، فلا يُدرى هل هو حلال أو حرام؟ وما كان هذا سبيلَه، ينبغي اجتنابه؛ لأنّه إن كان في نفس الأمر حرامًا، فقد برئ من تَبِعتها، وإن كان حلالًا، فقد أُجِر على تركها بهذا القصد؛ لأنّ الأصل في الأشياء مختلَف فيه حظرًا وإباحةً، والأوّلان قد يُردَّان جميعًا؛ فإن عُلِم المتأخّر منهما، وإلّا فهو من حيّز القسم الثّالث"[2].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ، وَأَهْوَى النُّعْمَانُ بِإِصْبَعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ» هذا تصريح بسماع النّعمان عن النّبيّ ﷺ وهذا هو الصّواب الّذي قاله أهل العراق وجماهير العلماء. قال القاضي، وقال يحيى بن معين: إنّ أهل المدينة لا يُصِحُّون سماع النّعمان من النّبيِّ ﷺ وهذه حكاية ضعيفة أو باطلة واللّه أعلم. قوله ﷺ: «ومن وقع في الشّبهات وقع في الحرام»: يَحتمِل وجهين؛ أحدهما: أنّه من كثرة تعاطيه الشّبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمَّده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير. والثّاني: أنّه يعتاد التّساهل ويتمرّن عليه، ويَجسُر على شُبْهة، ثمّ شُبهة أغلظ منها، ثمّ أخرى أغلظ، وهكذا حتّى يقع في الحرام عمدًا، وهذا نحو قول السّلف: المعاصي بريد الكفر؛ أي: تَسُوق إليه، عافانا اللّه تعالى من الشّرِّ"[3].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وقد اختلف العلماء في المشتبِهات التي أشار إليها النبيُّ ﷺ في هذا الحديث، فقالت طائفة: هي حرامٌ؛ لقوله: «استبرأ لدينه وعرضه»" قالوا: ومن لم يستبرئ لدينه وعِرضه، فقد وقع في الحرام، وقال الآخرون: هي حلال؛ بدليل قوله ﷺ في الحديث: «كالراعي يرعى حول الحمى»، فيدلُّ على أن ذلك حلال، وأن تركه وَرَع. وقالت طائفة أخرى: المشتبِهات المذكورة في هذا الحديث لا نقول: إنها حلال، ولا إنها حرام؛ فإنه ﷺ جعلها بين الحلال البيِّن والحرام البيِّن، فينبغي أن نتوقَّف عنها، وهذا من باب الورَعَ أيضًا"[4].

قال ابن رجب رحمه الله: "ومعنى الحديث: أن الله أنزل كتابه، وبيَّن فيه حلاله وحرامه، وبيَّن النبيُّ ﷺ لأمَّته ما خَفِي من دلالة الكتاب على التحليل والتحريم، فصرَّح بتحريم أشياءَ غيرِ مصرَّح بها في الكتاب، وإن كانت عامَّتها مستنبَطةً من الكتاب، وراجعةً إليه، فصار الحلال والحرام على قسمين: أحدهما: ما هو واضحٌ لا خَفَاءَ به على عموم الأمة؛ لاستفاضته بينهم وانتشاره فيهم، ولا يَكاد إلا على من نشأ ببادية بعيدة عن دار الإسلام؛ فهذا هو الحلال البيِّن، والحرام البيِّن. ومنه: ما تحليلُه وتحريمُه لعَيْنِه؛ كالطيِّبات من المطاعم والمشارب والملابس والْمَناِكح والخبائث من ذلك كلِّه، ومنه: ما تحليلُه وتحريمه من جهة كَسْبِه؛ كالبيع والنكاح والهبة والهديَّة، وكالربا والقمار والزنا والسرقة والغصب والخيانة وغير ذلك. القسم الثاني: ما لم ينتشر تحريمه وتحليله في عموم الأمة؛ لخفاء دلالة النص عليه، ووقوع تنازع العلماء فيه، ونحوِ ذلك، فيَشتبِه على كثير من الناس، هل هو من الحلال أو من الحرام؟ وأما خواصُّ أهل العلم الراسخون فيه، فلا يَشتبِه عليهم؛ بل عندهم من العلم الذي اختُصُّوا به عن أكثر الناس ما يستدِلُّون به على حِلِّ ذلك أو حُرمته، فهؤلاء لا يكون ذلك مشتبِهًا عليهم؛ لوضوح حُكمه عندهم. أما من لم يَصِلْ إلى ما وصلوا إليه، فهو مشتبِهٌ عليه؛ فهذا الذي اشتَبَه عليه إن اتَّقَى ما اشتَبَه عليه حِلُّه وحرمته، واجتنبه، فقد استبرأ لدينه وعِرضه؛ بمعنى: أنه طلب لهما البراءة مما يَشِينهما... وهذا هو الورع، وبه يحصل كمال التقوى"[5].

قال النوويُّ رحمه الله: "وأما قوله ﷺ: «الحلال بيّن والحرام بيّن»، فمعناه أنّ الأشياء ثلاثة أقسام: حلال بيِّن واضح لا يخفى حِلُّه؛ كالخُبز والفواكه والزّيت والعسل والسَّمن، ولبن مأكول اللّحم وبيضه، وغير ذلك من المطعومات، وكذلك الكلامُ والنّظر والمشيُ وغير ذلك من التّصرُّفات، فيها حلال بيِّن واضح لا شكَّ في حِلِّه، وأمّا الحرام البيِّن؛ فكالخمر والخنزير والميتة والبول والدم المسفوح، وكذلك الزنا والكذب والغِيبة والنّميمة والنّظر إلى الأجنبيّة، وأشباه ذلك، وأمّا المشتبِهات فمعناه أنّها ليست بواضحة الحِلِّ ولا الحُرمة؛ فلهذا لا يعرفها كثير من النّاس، ولا يعلمون حُكمها، وأمّا العلماء فيعرفون حكمها بنصٍّ أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردَّد الشّيء بين الحِلِّ والحُرمة ولم يكن فيه نصٌّ ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدّليل الشرعيِّ، فإذا ألحقه به صار حلالاً، وقد يكون دليله غيرَ خال عن الاحتمال البيِّن، فيكون الوَرَعُ تركَه، ويكون داخلًا في قوله ﷺ: «فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبِه، فهل يؤخذ بحِلِّه أم بحرمته أم يُتوقَّف فيه؟ ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظّاهر أنّها مخرَّجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشّرع، وفيه أربعة مذاهب. 

لأصحُّ أنّه لا يُحكَم بحِلٍّ ولا حُرمة ولا إباحة ولا غيرها؛ لأنّ التّكليف عند أهل الحقّ لا يَثبُت إلّا بالشّرع، والثّاني أنّ حكمها التّحريم، والثّالث الإباحة، والرّابع التّوقُّف، واللّه أعلم"[6].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وقوله ﷺ: «لا يعلمهن كثير من الناس»؛ أي: لا يعلم حُكمَهن من التحليل والتحريم، وإلا فالذي يَعلَم الشُّبهة يعلمها من حيث إنها مشكِلة لتردُّدها بين أمور محتمَلة، فإذا علم بأيِّ أصل يَلتحِق، زال كونُها شُبهةً، وكانت إما من الحلال أو من الحرام، وفيه دليلٌ على أن الشُّبهة لها حكم خاصٌّ بها يدلُّ عليه دليل شرعيٌّ يمكِن أن يصل إليه بعض الناس. وقوله: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» مما يَشتبِه. وأما قوله: «ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام»، فذلك يكون بوجهين؛ أحدهما: أن من لم يتَّقِ الله وتجرَّأ على الشُّبهات، أفضت به إلى المحرَّمات، ويحمله التساهل في أمرها على الجُرأة على الحرام؛ كما قال بعضهم: الصغيرة تجرُّ الكبيرة، والكبيرةُ تجرُّ الكُفْرَ، وكما رُوِي: المعاصي بَرِيد الكُفر.

الوجه الثاني: أن مَن أَكثَر من مُواقَعة الشُّبهات أَظلَم عليه قلبُه؛ لفُقدان نور العلم، ونور الوَرَع، فيقع في الحرام وهو لا يَشعُر به، وقد يَأثَم بذلك إذا تسبَّب منه إلى تقصير. وقوله ﷺ: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه»: هذا مَثَلٌ ضَرَبه لمحارم الله عزَّ وجلَّ، وأصله أن العرب كانت تحمي مراعيَ لمواشيها، وتَخرُج بالتوعُّد بالعقوبة لمن قَربها، فالخائف من عقوبة السلطان يَبعُد بماشيته عن ذلك الحمى؛ لأنه إن قَرُب منه، فالغالبُ الوقوعُ فيه؛ لأنه قد تَنفرِد الفاذَّة وتَشِذُّ الشاذَّة، ولا ينضبط، فالحَذَرُ أن يَجعَل بينه وبين ذلك الحمى مسافةً يَأمَن فيها وقوعَ ذلك، وهكذا محارمُ الله عزَّ وجلَّ من القتل والربا والسرقة وشرب الخمر"[7].

قال ابن رجب رحمه الله: "«ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه». ومعنى هذا: أن من وقع في الشبهات كان جديرًا بأن يقع في الحرام بالتدريج؛ فإنه يسامح نفسه في الوقوع في الأمور المشتبهة، فتدعوه نفسه إلى مواقعة الحرام بعده... ومن هنا كان السلف يحبُّون أن يجعلوا بينهم وبين الحرام حاجزًا من الحلال يكون وقايةً بينهم وبين الحرام، فإن اضطُرُّوا واقعوا ذلك الحلال ولم يتعدَّوه، وأما من وقع في المشتبِه، فإنه لا يبقى له إلا الوقوع في الحرام المحضِ، فيوشك أن يتجرَّأ عليه ويَجسُر. وقوله: «ألا وإن لكل ملك حمى، وإن حمى الله في الأرض محارمه»: ضَرَب مثلاً لمحارم الله بالحمى الذي يحميه الملك من الأرض، ويمنع الناس من الدخول إليه، فمن تباعد عنه فقد توقَّى سَخَط الملك وعُقوبته، ومن رعى بقُرب الحمى، فقد تعرَّض لمساخِط الْمَلِك وعقوبته؛ لأنه ربما دعته نفسه إلى الولوج في أطراف الحمى؛ وفي هذا دليل على سدِّ الذرائع والوسائل إلى المحرَّمات، كما يَحرُم الخَلْوَة بالأجنبية... وفي الحديث دليل على صحة القياس وتمثيل الأحكام وتشبيهها، وفيه دليلٌ على أن الْمُصِيب من المجتهِدين في مسائل الاشتباه واحد؛ لأنه جعل المشتبِهاتِ لا يَعلَمها كثير من الناس، مع كون بعضهم في طلب حُكمها مجتهدين، فدلَّ على أن من يَعلَمها هو الْمُصيب العالِم بها دون غيره ممن هي مشتبِهة عليه، وإن كان قد يجتهد في طلب حُكمها، ويصير إلى ما أدَّاه إليه اجتهاده وطلبُه. ثم ذكر النبيُّ ﷺ كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كلَّه بحسَب صلاح القلب وفساده، فإذا صَلَح القلب صَلَحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تَنبَعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقَنَعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلُّها، وانبعث في معاصي الله عزَّ وجلَّ، وما فيه سَخَطُه، ولم تَقنَع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب، ومَيله عن الحقِّ، فالقلب الصالحُ هو القلب السليم الذي لا يَنفَع يومَ القيامة عند الله غيرُه، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبَّة الله وإرادته ومحبَّة ما يحبُّه الله، وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنُّفور عنه.

والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الْمَيل على الأهواء المضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يكفُّ الجوارح عن اتِّباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانُها، والجوارح جنوده ورعيَّته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك، صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك، فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه"[8].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ»؛ أي: حَصَل له البراءة لدينه من الذّمِّ الشّرعيِّ، وصان عِرضه عن كلام النّاس فيه. قوله ﷺ: «إنّ لكلّ ملك حمًى، وإن حمى اللّه محارمه» معناه أنّ الملوك من العرب وغيرهم يكون لكلِّ مَلِك منهم حمًى يحميه عن النّاس،  ويمنعهم دخوله، فمن دخله أوقع به العقوبة، ومن احتاط لنفسه لا يقارب ذلك الحمى؛ خوفًا من الوقوع فيه، وللّه تعالى أيضًا حمًى وهي محارمه؛ أي: المعاصي الّتي حرّمها اللّه؛ كالقتل والزّنا والسّرقة والقذف والخمر والكذب والغِيبة والنّميمة وأكل المال بالباطل وأشباه ذلك؛ فكلُّ هذا حمى اللّه تعالى، من دخله بارتكابه شيئًا من المعاصي استحقَّ العقوبة، ومن قاربه يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه لم يقاربه، ولا يتعلَّق بشيء يقرِّبه من المعصية، فلا يدخل في شيء من الشّبهات"[9].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: وقال بعض العلماء: المشتبِهات ثلاثةُ أقسامٍ: منها ما يَعلَم الإنسانُ أنه حرامٌ، ثم يشُكُّ فيه، هل زال تحريمُه أو لا؟ كالذي يَحرُم على المرء أكلُه قبل الذَّكاة إذا شكَّ في ذَكاته، لم يَزُلْ التحريمُ إلا بيقين الذَّكاة، والثاني عكسُ ذلك، وهو أن يكون الشيءُ حلالًا، فيَشُكَّ في تحريمه؛ كرجل له زوجةٌ، فشَكَّ في طلاقها، فما كان من هذا القسم فهو على الإباحة حتى يَعلَم تحريمه، والقسم الثالث: أن يَشُكَّ في شيء، فلا يَدْري أحلالٌ أم حرام؟ ويَحتمِل الأمرين جميعًا، ولا دلالةَ على أحدهما، فالأحسنُ التنزُّهُ؛ كما فعل النبيُّ ﷺ في التَّمْرةِ الساقطة حين وجدَها في بيته، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصَّدَقَة لأكلتُها»[10]"[11].

قال ابن القيم رحمه الله: "ولَمَّا كان القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يَعقِده من العَزْمِ أو يَحُلُّه، قال النبيُّ ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلُّه»، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به، القابلةُ لِما كان يأتيها من هديَّته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تَصدُر عن قصده ونيَّتِه، وهو المسؤول عنها كلِّها؛ لأن كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيَّته - كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون.

ولَمَّا عَلِم عدوُّ الله إبليسُ أن الْمَدَار على القلب، والاعتمادَ عليه، أَجلَب عليه بالوَساوس، وأَقبَل بوجوه الشَّهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأَمَدَّه من أسباب الغيِّ بما يَقطَعه عن أسباب التوفيق، ونَصَبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها، لم يَسلَم من أن يَحصُل له بها التعْوِيق، فلا نجاةَ من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مَرْضَاته، والْتِجَاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسَكناته، والتحقُّق بذُلِّ العُبودية الذى هو أولى ما تلبَّس به الإنسان؛ ليَحصُل له الدخول في ضمان:

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}

[الحجر: 42]

فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولُها يسبِّب تحقيق مقام العبودية لربِّ العالمين، وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين، فإذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقرَّبين، وشَمِله استثناء:

{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}" [12].

 [الحجر: 40]

 قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» قال أهل اللّغة: يُقال: صَلَح الشيء وفَسَد، بفتح اللّام والسّين وضمّهما، والفتحُ أفصح وأشهر. والمضغة: القطعة من اللّحم، سُمِّيت بذلك لأنّها تُمضَغ في الفم لصِغَرها. قالوا: المراد تصغير القلب بالنّسبة إلى باقي الجسد، مع أنّ صلاح الجسد وفساده تابعان للقلب، وفي هذا الحديث التأكيد على السّعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد"[13].

قال ابن القيم رحمه الله: "وَبِالْجُمْلَةِ فسائرُ الأعضاء خَدَمُه وَجُنُوده، وَقَالَ النَّبيُّ: «ألا إن فِي الْجَسَد مُضْغَة، إِذا صلحت صلح لَهَا سَائِر الْجَسَد، وَإِذا فَسدتْ فسد لَهَا سَائِر الْجَسَد، ألا وَهِي الْقلب». وَقَالَ أبو هُرَيْرَة: الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإن طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده، وَجُعِلت الرِّئة لَهُ كالْمَرْوَحة تَرُوح عَلَيْهِ دَائِمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً؛ بل هُوَ مَنبَع الْحَرَارَة وأما الدِّمَاغُ، وَهُوَ المخُّ، فَإِنَّهُ جُعِل بَارِدًا"[14].

قال ابن القيم رحمه الله: "متى رأيتَ القلبَ قد ترحَّل عنه حبُّ الله، والاستعدادُ للقائه، وحلَّ فيه حبُّ المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خُسِف به. ومتى أَقحَطت العينُ من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَها من قسوة القلب، وأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي"[15].

قال ابن القيم رحمه الله: "القلب يَمرَض كما يمرض البَدَن، وشفاؤه في التوبة والحَمِيَّة، ويصدأ كما تصدأ الْمِرآة، وجِلاؤه بالذكر، ويَعرى كما يعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة، والتوكُّل، والإنابة، والخِدمة"[16].

قال ابن القيم رحمه الله:  "وهو سبحانه الذي جَعَل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضَها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا، فمن آثار القسوة: تحريفُ الكَلِم عن مواضعه، وذلك من سوء الفَهم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيانُ ما ذكِّر به، وهو تركُ ما أُمِر به علمًا وعملاً، ومن آثار الإخبات: وجَلُ القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه"[17].

المراجع

  1. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 27).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 291)
  3. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 28، 29).
  4. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 44).
  5. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 225، 226).
  6. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 27، 28).
  7. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 47).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (1/ 227 - 229).
  9. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/  28).
  10. رواه البخاريُّ (2431)، ومسلم (1071). وانظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (46).
  11. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 45، 46).
  12. "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5، 6).
  13. "شرح النَّوويِّ على مسلم" (11/ 28، 29).
  14. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193، 194).
  15. "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 224).
  16. "الفوائد" لابن القيم (ص: 98).
  17. "شفاء العليل" لابن القيم (ص: 106).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة»؛ الكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي تُوقِع صاحبها في الكَرْبِ، فمن خفَّفها عن مؤمِن أو أَزَالها وفرَّجها، كان الجزاءُ من جِنس العمل، بتفريج كُربته يومَ القيامة. «وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»؛ أي: من يسَّر على مُعسِر بإنظاره إلى الْمَيْسَرة، أو بالوضع عنه إن كان غَريمًا لا يستطيع سَدَادَ دَيْنِه، أو بإعطائه ما يَزُول به إعسارُه، يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة. «وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»؛ أي: من سَتَر زلَّاتِ مسلم في معصية وَقَعت وانقَضَت، سَتَره الله في الدنيا والآخرة. «وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»؛ فمن أَعَانَ أخاه المسلِمَ، كان جزاؤه من جنس عَمَله بأن يُعِينَه الله تعالى. «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة»؛ أي: من سعى إلى طريق يَطلُب فيه العلمَ النافع، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة. «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه» يدلُّ على فضل الاجتماع على تلاوة القرآن ومُدارَسَتِه في المسجد، حيث تَنزِل الطمأنينة، وتَشمَلهم الرحمة، وتُحيط بهم الملائكة، ويَذكُرهم الله تعالى فيمن عنده من كرام الملائكة. «وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»؛ أي: مَن قصَّر في الطاعة والعبادات والأعمال الصالحة، ينبغي أن لا يتَّكِل على شَرَف النَّسَب، وفضيلة الآباء؛ فلن يَنفَعَه إلا عملُه الصالح.

الشرح المفصَّل للحديث

إن رسولَ الله ﷺ لم يَدَعْ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمَّةَ عليه، ورغَّبها فيه، وهذا الحديثُ حديث عظيمٌ، يُعدُّ أصلًا من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وجامعًا لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، فيه فضلُ قضاء حوائج المسلمين ونَفْعِهم، بما يتيسَّر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك.

يقول النبيُّ ﷺ:

«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَة»

والكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقِع صاحبَها في الكَرْبِ، وتنفيسُها أن يخفِّف عنه منها، أو يُزيلَها ويفرِّجها، والتفريجُ أعظمُ من التنفيس، حيث يُزيل عنه الكُربة، ويفرِّج عنه، فيَزُول همُّه وغمُّه، وجزاءُ التّنفيسِ التّنفيسُ، وجزاءُ التّفريج التّفريجُ، وهذا يرجع إلى أنّ الجزاء من جِنس العمل، وقد تكاثرت النّصوص بهذا المعنى؛

كقوله ﷺ:

«إنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ من عبادِه الرُّحَماءَ»

[1]. 

قوله ﷺ:

«وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

والتَّيسير على المعسِر في الدُّنيا من جهة المال يكون إمَّا بإنظاره إلى الْمَيْسَرة، أو بالوضع عنه إن كان غريمًا لا يستطيع سَدَاد دَيْنِه، أو بإعطائه ما يَزُول به إعسارُه، وهذا كلُّه فضلٌ عظيم، يجزي الله به بالتيسير على ذلك الميسِّر في الدنيا، وكذلك في الآخرة يومَ القيامة، وقد وصف اللّه يوم القيامة بأنّه عسير، وأنّه على الكافرين غير يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، و

عن أبي هريرة عن النّبيِّ ﷺ، قال:

«كان تاجرٌ يُدَايِنُ النّاس، فإذا رأى معسِرًا قال لصِبيانه: تجاوزوا عنه؛ لعلَّ اللّه أن يتجاوز عنَّا، فتجاوز اللّهُ عنه»

[2].

قوله ﷺ:

«وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وهذا ممّا تكاثرت النُّصوص بمعناه، و"السَّتْرُ على المسلم: أن يَستُر زلَّاتِه، والمرادُ به السَّتر على ذَوي الهَيئات ونحوِهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في سَتر معصية وَقَعت وانقَضَت، أما إذا عَلِم معصيته وهو متلبِّس بها، فيجب المبادَرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإن عجز، لَزِمه رفعها إلى وليِّ الأمر إن لم يترتَّب على ذلك مَفسَدة؛ فالمعروفُ بذلك لا يُستَر عليه؛ لأن السَّتر على هذا يُطمِّعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرَّمات، وجسارة غيره على مثل ذلك؛ بل يُستحبُّ أن يرفعه إلى الإمام إن لم يَخَفْ من ذلك مَفسَدة، وكذلك القول في جَرح الرُّواة والشهود والأُمَناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحلُّ السَّتر عليهم إذا رأى منهم ما يَقدَح في أهليَّتهم، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة؛ بل من النصيحة الواجبة" [3].

وقد رُوِيَ عن بعض السَّلَف أنَّه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عُيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب النَّاس، فنُسِيت عيوبهم

وقد قال النّبيُّ ﷺ:

«يا مَعْشَرَ من آمَن بلسانه، ولم يَدخُلِ الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْرَاتِهم؛ فإنّه من اتَّبَع عَوْراتِهم، تتبَّع اللَّهُ عورته، ومن تتبَّع اللَّهُ عورته، يَفْضَحْهُ في بيته»

[4].

"واعلم أنّ النّاس على ضربين؛ أحدُهما: من كان مستورًا لا يُعرَف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز كشفُها، ولا هَتْكُها، ولا التّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غِيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوص

وفي ذلك قد قال اللّه تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ }

[النور: 19].

والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستَتِر فيما وَقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يَأمُر بالمعروف: اجتهد أن تَستُر العصاة؛ فإنّ ظهور معاصيهم عَيْبٌ في أهل الإسلام، وأَوْلى الأمور سَتْرُ العُيوب، ومِثْلُ هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْه، لم يُسْتَفْسَرْ؛ بل يُؤمَر بأن يرجع ويَستُر نفسه؛ كما أمر النّبيُّ ﷺ ماعزًا والغامديَّة، وكما لم يُستفسَر الَّذي قال: "أصبتُ حدًّا، فأقمْه عليَّ". ومِثْلُ هذا لو أُخِذ بجريمته، ولم يَبلُغِ الإمامَ، فإنّه يُشفَع له حتَّى لا يَبلُغَ الإمام. والثَّاني: من كان مُشتهِرًا بالمعاصي، مُعْلِنًا بها، لا يُبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلِن، وليس له غِيبةٌ، كما نصَّ على ذلك الحسن البصريُّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتُقام عليه الحدود... ومثل هذا لا يُشفَع له إذا أُخِذ، ولو لم يَبلُغ السُّلطان؛ بل يُترَك حتّى يقام عليه الحدُّ؛ لينكفَّ شَرُّه، ويرتدع به أمثاله" [5].

"وقوله: «كربةً من كرب يوم القيامة»، ولم يقل: من كُرَب الدّنيا والآخرة كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنّ الكُرَب هي الشّدائد العظيمة، وليس كلُّ أحد يحصل له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعَوْرات المحتاجة إلى السَّتر، فإنَّ أحدًا لا يكاد يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَب الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلَا شيءٍ، فادَّخَر اللّه جزاء تنفيس الكُرَب عنده، لينفِّس به كُرَب الآخرة" [6].

قوله ﷺ:

«وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ»

وعن ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال:

«المسلمُ أخو المسلِمِ؛ لا يَظلِمُه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»

[7].

وبعث الحسن البصريُّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مُرُّوا بثابت البنانيِّ، فخذوه معكم، فأَتَوا ثابتًا، فقال: أنا معتكِفٌ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمشُ، أما تَعلَم أنَّ مَشْيَكَ في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حَجَّة بعد حجَّة؟! فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم.

قوله ﷺ:

«وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّة»؛

أي: من سعى إلى طريق يَطلُب فيه العلم النافع، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة. وسلوكُ الطريق يَشمَل الطريقَ الحسيَّ، والطريقَ المعنويَّ؛ فأما الحسيُّ فهو الطريق الذي يسير فيه طالبُ العلم، سواءٌ كان ماشيًا أو راكبًا؛ كأن يأتيَ الإنسانُ من بيته إلى مكان العلم، سواءٌ كان مكانُ العلم مسجدًا، أو مدرسةً، أو جامعةً، أو غيرَ ذلك، ومن ذلك أيضًا الرحلة في طلب العلم؛ كأن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخَرَ يلتمس العلمَ، ونحو ذلك. والثاني: الطريق المعنويُّ، وهو الطريق الذي يُتوصَّل به إلى العلم؛ كالحفظ والفَهْم، والْمُدارسة، والمذاكرة، والمطالَعة، سواءٌ أكان مِن أفواه العلماء، أو مِن بُطون الكتب مراجعةً وبحثًا، فمِثلُ هذا يكون سالكًا لطريق العلم وإن كان جالسًا [8].

وكما أطلق ﷺ لفظ الطريق، وأتى به عامًّا ليشمل جميع الطُّرق الحِسِّية والمعنوية الموصِّلة للعلم، كذا أطلق لفظ العلم، وأتى به منكَّرًا؛ ليشمل جميع فروع عِلم الدين ومسائله، وليندرجَ فيه القليل والكثير منه[9]. 

وقوله: «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة»؛ فمَن كان هذا حالَه، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة، أو يُسهِّل الله له العلم الذي طلبه، وسَلَك طريقه، ويُيسِّره عليه؛ فإن العلم طريقٌ موصِّلٌ إلى الجنة؛ بل هو من أقربها؛ إذ بالعلم الشرعيِّ يُعرَف الحلال والحرام، ومُرادُ الله من العباد، والوسائل الْمُعينة على رضاه سبحانه وتعالى. والجَنَّة هي دار كرامة الله تعالى ونعيمه لعباده الطائعين، وقد كثُر ذِكرها بأوصافها، وكذا ذِكرُ ما يوصِّل إليها في الكتاب والسُّنة. 

قوله ﷺ:

«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمِ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه»

وهذا دليلٌ على فضل الاجتماع من أيِّ مجموعة على تلاوة القرآن ومُدارسته في المسجد، والسكينة ها هنا بمعنى الطمأنينة والوقار. «وغَشِيَتهم الرحمة»؛ أي شَمِلتهم وغطَّتهم، «وحفَّتهم الملائكة»؛ أي: أحاطت بهم؛ فكأن الملائكة قريبة منهم قُربًا حفَّتهم حتى لم تدع فُرجةً تتَّسِع لشيطان. «وذكرهم الله فيمن عنده»؛ أي: ذكرهم الله تعالى فيمن عنده من كِرام الملائكة.

و"هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومُدَارَستِه، وهذا إن حُمِل على تعلُّم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه

قال النّبيُّ ﷺ:

«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

[10]،

وإن حُمِل على ما هو أعمُّ من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلَقًا"[11].

قوله ﷺ:

«وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ»؛

أي: مَن كان عملُه ناقصًا لم يُلحِقْه بمرتبة أصحاب الأعمال، ينبغي أن لا يتَّكِل على شرف النَّسَب، وفضيلة الآباء، ويُقصِّر في العمل.

"وقولُه: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسرِع به نَسَبُه»: يريد آخرة عمله السيِّئ، أو تفريطه في الحسنات الْمُعْلِيَة للدرجات عن اللحاق بمنازل المتَّقِين والأبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة، لم ترفعه رِفْعَةُ نَسَبه ومكانته في الدنيا، ولا جَبَر هذا النقص الذي ثَلَم حاله"[12].

و"معناه: أنّ العمل هو الّذي يَبلُغ بالعبد درجاتِ الآخرة

كما قال تعالى:

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ}

[الأنعام: 132]،

فمن أبطأ به عملُه أن يَبلُغ به المنازل العالية عند اللّه تعالى، لم يُسرِع به نَسَبُه، فيبلِّغه تلك الدَّرجات؛ فإنّ اللّه تعالى رتَّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب؛ 

كما قال تعالى:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}

[المؤمنون: 101]،

وقد أمر اللّه تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال،

كما قال:

{ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}

[آل عمران: 133 - 134].

قال ابن مسعود: يَأمُر اللّه بالصِّراط، فيُضرَب على جهنَّمَ، فيَمُرُّ النَّاس على قَدْرِ أعمالهم زُمَرًا زُمرًا، أوائلُهم كلمح البَرْقِ، ثمّ كمَرِّ الرِّيح، ثمّ كمَرِّ الطَّير، ثمّ كمَرِّ البهائم، حتى يمرَّ الرَّجل سعيًا، وحتى يمرَّ الرّجل مَشْيًا، حتى يمرَّ آخرُهم يَتَلَبَّطُ على بَطْنِه، فيقول: يا ربِّ، لِمَ أبطأتَ بي؟ فيقول: إنّي لم أُبطِئْ بك؛ إنّما أَبطَأَ بك عَمَلُكَ.

وفي "الصّحيحين" عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ﷺ:

حين أُنزِل عليه:{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا»

[13]"[14].

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
  2. رواه البخاريُّ (2078)، ومسلم (1562).
  3. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 119، 120).
  4. رواه أحمد (20014)، وأبو داود (4880)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2340): حسن صحيح.
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 285 - 287).
  7. رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
  8. انظر: "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (5/ 433- 434).
  9. انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160)
  10. رواه البخاريُّ (5027)
  11. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 300، 301).
  12. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 195).
  13. رواه البخاريُّ (2753)، ومسلم (206).
  14. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 308).


النقول

قال ابن رجب رحمه الله:

"فَقَوْلُهُ ﷺ:

«مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»

هذا يرجع إلى أنّ الجزاء من جنس العمل، وقد تكاثرت النّصوص بهذا المعنى

كقوله ﷺ:

«إنَّما يَرْحَمُ اللَّهُ من عبادِه الرُّحَماءَ»

[1]،

والكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكَرْبِ، وتنفيسُها أن يخفِّف عنه منها، مأخوذٌ من تنفيس الخِنَاق؛ كأنَّه يُرخَى له الخِنَاق حتى يَأخُذ نَفَسًا، والتفريجُ أعظمُ من ذلك، وهو أن يُزيل عنه الكُربة، فتُفرَّج عنه كُربته، ويزول همُّه وغمُّه، فجزاء التّنفيِس التّنفيسُ، وجزاء التّفريج التّفريج. وقوله: «كربةً من كرب يوم القيامة»، ولم يقل: من كُرَب الدّنيا والآخرة كما قيل في التَّيسير والسَّتر، وقد قيل في مناسبة ذلك: إنّ الكُرَب هي الشّدائد العظيمة، وليس كلُّ أحد يحصل له ذلك في الدُّنيا، بخلاف الإعسار والعَوْرات المحتاجة إلى السَّتر، فإنَّ أحدًا لا يكاد يخلو في الدُّنيا من ذلك، ولو بتعسُّر الحاجات المهمَّة. وقيل: لأنَّ كُرَب الدُّنيا بالنِّسبة إلى كُرَب الآخرة كلَا شيءٍ، فادَّخَر اللّه جزاء تنفيس الكُرَب عنده، لينفِّس به كُرَب الآخرة"[2].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن يسّر على معسر، يسّر اللّه عليه في الدّنيا والآخرة». وهذا أيضًا يدلّ على أنّ الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف اللّه يوم القيامة بأنّه عسير وأنّه على الكافرين غير يسير، فدلّ على أنّه يسير على غيرهم... والتّيسير على المعسر في الدّنيا من جهة المال يكون بأحد أمرين: إمّا بإنظاره إلى الميسرة، وذلك واجب... وتارةً بالوضع عنه إن كان غريمًا، وإلّا فبإعطائه ما يزول به إعساره، وكلاهما له فضل عظيم. وفي الصّحيحين عن أبي هريرة عن النّبيّ ﷺ، قال: «كان تاجر يداين النّاس، فإذا رأى معسرًا قال لصبيانه: تجاوزوا عنه، لعلّ اللّه أن يتجاوز عنّا، فتجاوز اللّه عنه»[3]"[4].


قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا الحديثُ عَظيمٌ جامع لأنواع من العلوم والقواعد والآداب، فيه فضلُ قضاء حوائج المسلمين ونَفْعِهم بما يتيسَّر من علم، أو مال، أو معاونة، أو إشارة بمصلحة، أو نصيحة، أو غير ذلك. ومعنى تنفيس الكُربة: إزالتُها. قولُه: «من ستر مسلمًا» السَّتْرُ عليه: أن يَستُر زلَّاتِه، والمرادُ به السَّتر على ذَوي الهَيئات ونحوِهم ممَّن ليس معروفًا بالفساد، وهذا في سَتر معصية وَقَعت وانقَضَت، أما إذا عَلِم معصيته وهو متلبِّس بها، فيجب المبادَرة بالإنكار عليه، ومنعه منها، فإن عجز، لَزِمه رفعها إلى وليِّ الأمر إن لم يترتَّب على ذلك مَفسَدة؛ فالمعروفُ بذلك لا يُستَر عليه؛ لأن السِّتر على هذا يُطمِّعه في الفساد والإيذاء وانتهاك المحرَّمات، وجسارة غيره على مثل ذلك؛ بل يُستحبُّ أن يرفعه إلى الإمام إن لم يَخَفْ من ذلك مَفسَدة، وكذلك القول في جَرح الرُّواة والشهود والأُمَناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة، ولا يحلُّ السَّتر عليهم إذا رأى منهم ما يَقدَح في أهليَّتهم، وليس هذا من الغِيبة المحرَّمة؛ بل من النصيحة الواجبة"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقوله ﷺ: «ومن ستر مسلمًا، ستره اللّه في الدُّنيا والآخرة»: هذا ممّا تكاثرت النُّصوص بمعناه... وقد رُوِيَ عن بعض السَّلَف أنَّه قال: أدركتُ قومًا لم يكن لهم عُيوب، فذكروا عيوب النَّاس، فذكر النَّاس لهم عيوبًا، وأدركتُ أقوامًا كانت لهم عيوبٌ، فكفُّوا عن عيوب النَّاس، فنُسِيت عيوبهم، أو كما قال. وشاهد هذا حديث أبي برزة، عن النّبيّ ﷺ، أنّه قال: «يا مَعْشَرَ من آمَن بلسانه، ولم يَدخُلِ الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عَوْرَاتِهم؛ فإنّه من اتَّبَع عَوْراتِهم، تتبَّع اللَّهُ عورته، ومن تتبَّع اللَّهُ عورته، يَفْضَحْهُ في بيته»[6]. واعلم أنّ النّاس على ضربين؛ أحدُهما: من كان مستورًا لا يُعرَف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلَّة، فإنَّه لا يجوز كشفُها، ولا هَتْكُها، ولا التّحدُّث بها؛ لأنَّ ذلك غِيبةٌ محرَّمة، وهذا هو الذي وردت فيه النُّصوص،

وفي ذلك قد قال اللّه تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}

[النور: 19].

والمراد: إشاعة الفاحشة على المؤمن المستَتِر فيما وَقَع منه، أو اتُّهِم به وهو بريءٌ منه، كما في قصَّة الإفك. قال بعض الوزراء الصَّالحين لبعض من يَأمُر بالمعروف: اجتهد أن تَستُر العصاة؛ فإنّ ظهور معاصيهم عَيْبٌ في أهل الإسلام، وأولى الأمور سَتْرُ العُيوب، ومِثْلُ هذا لو جاء تائبًا نادمًا وأقرَّ بحدٍّ، ولم يفسِّرْه، لم يُسْتَفْسَرْ؛ بل يُؤمَر بأن يرجع ويَستُر نفسه؛ كما أمر النّبيُّ ﷺ ماعزًا والغامديَّة، وكما لم يستفسر الَّذي قال: "أصبتُ حدًّا، فأقمه عليَّ". ومِثْلُ هذا لو أُخِذ بجريمته، ولم يَبلُغِ الإمامَ، فإنّه يُشفَع له حتَّى لا يَبلُغَ الإمام. والثَّاني: من كان مُشتهِرًا بالمعاصي، مُعْلِنًا بها، لا يُبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلِن، وليس له غِيبةٌ، كما نصَّ على ذلك الحسن البصريُّ وغيره، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتُقام عليه الحدود... ومثل هذا لا يُشفَع له إذا أُخِذ، ولو لم يَبلُغ السُّلطان؛ بل يُترَك حتّى يقام عليه الحدُّ؛ لينكفَّ شَرُّه، ويرتدع به أمثاله"[7].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله: «واللّه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، وبعث الحسن البصريُّ قومًا من أصحابه في قضاء حاجة لرجل وقال لهم: مُرُّوا بثابت البنانيِّ، فخذوه معكم، فأَتَوا ثابتًا، فقال: أنا معتكِفٌ، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، فقال: قولوا له: يا أعمشُ، أما تَعلَم أنَّ مَشْيَكَ في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حَجَّة بعد حجَّة؟ فرجعوا إلى ثابت، فترك اعتكافه، وذهب معهم"[8].

قال القاضي عياض رحمه الله: وقوله: «من نفَّس عن مسلم كُربة»؛ أي: أَزَالَها عنه وفرَّجَها... وقولُه: «ونَزَلَت عليهم السكينة»؛ أي: الرحمة، وهو أحد الوجوه في تأويل السكينة في القرآن، وهذا أَلْيَقُ الوجوه هنا. وقيل: السكينة أيضًا في ذلك، وفي قوله:

{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}

[التوبة: ٢٦]

أي: الوقار والطُّمَأْنِينة.

قال الإمام: وقوله: «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله»: ظاهرُه يُبيح الاجتماع لقراءة القرآن في المساجد... قال القاضي: قد يكون هذا الاجتماع للتعلُّم بعضهم من بعض؛ بدليل قوله: «ويتدارسونه بينهم»... وقولُه: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسرِع به نَسَبُه»: يريد آخرة عمله السيِّئ، أو تفريطه في الحسنات الْمُعْلِيَة للدرجات عن اللحاق بمنازل المتَّقِين والأبرار، وعن دخول الجنة في أول زمرة لم ترفعه رِفْعَةُ نَسَبه ومكانته في الدنيا، ولا جَبَر هذا النقص الذى ثَلَم حاله"[9].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة»، وسُلوك الطَّريق لالتماس العلم يدخل فيه سلوك الطّريق الحقيقيِّ، وهو الْمَشْيُ بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويَدخُل فيه سلوك الطُّرق المعنويَّة المؤدِّية إلى حصول العلم؛ مثل حِفْظِه، ودارسته، ومذاكرته، ومُطالعته، وكتابته، والتّفهُّم له، ونحو ذلك من الطّرق المعنويَّة التي يُتوصَّل بها إلى العلم.

وقوله: «سهَّل اللّه له به طريقًا إلى الجنَّة» قد يُراد بذلك أنّ اللّه يسهِّل له العلم الذي طلبه، وسلك طريقه، وييسِّره عليه؛ فإنّ العلم طريق موصِّل إلى الجنَّة، وقد يراد أيضًا: أنَّ اللّه ييسِّر لطالب العلم - إذا قصد بطلبه وجه اللّه - الانتفاعَ به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنَّة بذلك. وقد ييسِّر اللّه لطالب العلم علومًا أُخَرَ ينتفع بها، وتكون موصِّلةً له إلى الجنَّة، كما قيل: من عَمِل بما عَلِم، أورثه اللّه عِلْمَ ما لم يَعلَم، وكما قيل: ثواب الحسنة الحسنة بعدها... وقد يَدخُل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنّة الحسِّيِّ يومَ القيامة - وهو الصّراط - وما قبلَه، وما بعدَه من الأهوال، فييسِّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به؛ فإنّ العلم يدلُّ على اللّه من أقرب الطَّريق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يَعرُج عنه، وصل إلى اللّه وإلى الجنَّة من أقرب الطّرق وأسهلها، فسَهُلت عليه الطُّرق الموصِّلة إلى الجنَّة كلُّها في الدّنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة اللَّه وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقُربه ومجاورته في الآخرة إلّا بالعلم النّافع الذي بَعَث اللّه به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدَّليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشُّبَه والشُّكوك؛ ولهذا سمَّى اللّه كتابه نورًا؛ لأنّه يُهتدى به في الظّلمات"[10].

قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «وما جلس قومٌ في بيت من بيوت اللّه، يتلون كتاب اللّه، ويتدارسونه بينهم، إلّا نزلت عليهم السّكينة، وغشيتهم الرّحمة، وحفّتهم الملائكة، وذكرهم اللّه فيمن عنده»: هذا يدلُّ على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومُدَارَستِه، وهذا إن حُمِل على تعلُّم القرآن وتعليمه، فلا خلاف في استحبابه، وفي " صحيح البخاريّ "

عن عثمان، عن النّبيّ ﷺ، قال:

«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»

[11]،

وإن حُمِل على ما هو أعمُّ من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلَقًا"[12].

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "قولُه: «والله في عَون العبد ما دام العبد في عون أخيه»: هذا الإجمال لا يَسَع تفسيره إلَّا أن منه أن العبد إذا عَزَم على معاونة أخيه، ينبغي أن لا يَجبْنُ عن إنفاذ قول، أو صَدْع بحقٍّ؛ إيمانًا بأن الله تعالى في عَونه، وفي الحديث: فضلُ التيسير على المعسِر، وفضلُ السعيِ في طلب العلم، ويَلزَم من ذلك فضلُ الاشتغال بالعلم، والمرادُ العلم الشرعيُّ، ويُشترَط أن يُقصَد به وجه الله تعالى، وإن كان شرطًا في كلِّ عبادة.

قوله ﷺ:

«وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يَتْلُون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم»

هذا دليلٌ على فضل الاجتماع على تلاوة القرآن في المسجد، و"السكينة" ها هنا قيل: المراد بها الرحمة، وهو ضعيف؛ لعطف الرحمة عليها، وقال بعضهم: السكينة: الطمأنينة والوقار، وهذا أحسنُ، وفي قوله: «وما اجتمع قوم» هذا نكرة شائعة في جنسها؛ كأنه يقول: أيُّ قوم اجتمعوا على ذلك، كان لهم ما ذكره من الفضل كله؛ فإنه لم يشترط ﷺ هنا فيهم أن يكونوا علماءَ ولا زهَّادًا ولا ذَوِي مقامات. ومعنى «حفَّتهم الملائكة»؛ أي: حافَّتهم،

من قوله عزَّ وجلَّ:

{حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}

[الزمر: ٧٥]؛

أي: مُحدِقين محيطين به، مُطيفين بجوانبه، فكأن الملائكة قريبٌ منهم قُربًا حفَّتهم حتى لم تدع فُرجةً تتَّسِع لشيطان. قوله: «وغَشِيَتهم الرحمة»: لا يُستعمَل [غَشِيَ] إلَّا في شيء شَمِل المغشيَّ من جميع أجزائه. قال الشيخ شهاب الدين بنُ فرج: والمعنى في هذا - فيما أرى - أن غشيانَ الرحمة يكون بحيث يَستوعِب كلَّ ذنب تقدَّم إن شاء الله تعالى. قوله: «وذكرهم الله فيمن عنده» يقتضي أن يكون ذكرُ الله تعالى لهم في الأنبياء وكرام الملائكة، والله أعلم" [13].

 قال ابن رجب رحمه الله: "قوله ﷺ: «ومن بطَّأ به عَمَلُه، لم يُسْرِعْ به نَسَبُه»؛ معناه: أنّ العمل هو الّذي يَبلُغ بالعبد درجاتِ الآخرة؛

كما قال تعالى:

{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا ۚ}

[الأنعام: 132]،

فمن أبطأ به عملُه أن يَبلُغ به المنازل العالية عند اللّه تعالى، لم يُسرِع به نَسَبُه، فيبلِّغه تلك الدَّرجات؛ فإنّ اللّه تعالى رتَّب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب؛

كما قال تعالى:

{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ}

[المؤمنون: 101]،

وقد أمر اللّه تعالى بالمسارعة إلى مغفرته ورحمته بالأعمال

كما قال:

{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۞ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ }

[آل عمران: 133 - 134].

قال ابن مسعود رحمه الله: يَأمُر اللّه بالصِّراط، فيُضرَب على جهنَّمَ، فيَمُرُّ النَّاس على قَدْرِ أعمالهم زُمَرًا زُمرًا، أوائلُهم كلمح البَرْقِ، ثمّ كمَرِّ الرِّيح، ثمّ كمَرِّ الطَّير، ثمّ كمَرِّ البهائم، حتى يمرَّ الرَّجل سعيًا، وحتى يمرَّ الرّجل مَشْيًا، حتى يمرَّ آخرُهم يَتَلَبَّطُ على بَطْنِه، فيقول: يا ربِّ، لِمَ أبطأتَ بي؟ فيقول: إنّي لم أُبطِئْ بك؛ إنّما أَبطَأَ بك عَمَلُكَ. وفي "الصّحيحين" 

عَن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه ﷺ: حين أُنزِل عليه:

 {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214]: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» 

 [14]"[15].


المراجع

  1. رواه البخاريُّ (7448) ومسلم (923).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 285 - 287).
  3. رواه البخاريُّ (2078)، ومسلم (1562).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 289 - 290).
  5. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 119، 120).
  6. رواه أحمد (20014)، وأبو داود (4880)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2340): حسن صحيح.
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 291 - 293).
  8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 294).
  9. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 195).
  10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 297 - 298).
  11. رواه البخاريُّ (5027).
  12. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 300، 301).
  13. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 120، 121).
  14. رواه البخاريُّ (2753)، ومسلم (206).
  15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 308).



غريب الحديث

الكُرْبَةُ: هي الشِّدَّة العظيمة التي توقع صاحبها في الكَرْبِ.

السَّكِينة: الطُّمَأْنينة والوَقَار.

غريب الحديث:

مَنكبي: الْمَنْكِب هو مَجْمَعُ عَظْم العَضُد والكَتِف[1].

المراجع

  1. "مختار الصحاح" للرازي (ص: 319).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي عبد الله بنِ عمرَ ﭭ أن رَسول اللهِ ﷺ أخذ بمَنْكِبِه، فَقالَ له: «كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ»؛ أي: عش حياتك كأنك غريب في هذه الدنيا، أو كأنك عابرُ سبيل، فلا إقامة طويلة، وعليك بالاستعداد للرحيل والرجوع إلى موطنك (الجنة).

وكانَ ابنُ عُمَرَ، يقولُ: «إذا أمْسَيْتَ فلا تَنْتَظِرِ الصَّباحَ، وإذا أصْبَحْتَ فلا تَنْتَظِرِ المَساءَ»: يحضُّ ابن عمر المسلمَ أن يجعل الموتَ نُصبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، ويحضُّه على تقصير الأمل، وترك الْمَيل إلى غرور الدنيا. «وخُذْ مِن صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ»؛ أي: اغتنم الطاعاتِ والأعمالَ الصالحة في صحتك قبلَ أن يَحُول بينك وبينها المرض. «ومِنْ حَياتِكَ لِمَوْتِكَ»؛ أي: اغتنم الطاعاتِ والأعمالَ الصالحة في حياتك قبلَ أن يَحُول بينك وبينها الموت.

الشرح المفصَّل للحديث:

كتب اللهُ تعالى على الدنيا الفناءَ والهوانَ، فلا يحياها المؤمنُ إلا ليتزوَّد منها للآخرة الباقية، فمَن ركن إليها، واطمأنَّ إليها، خَسِر آخرتَه، وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ حالَ المؤمن مع الدنيا، فيُخاطب عبدَ الله بنَ عمرَ ﭭ، وقد أخذ بمَنكِبه، فيقول له: «كنْ في الدنيا كأنكَ غريبٌ»؛ لأن الغريب في أرض غُربته تقِلُّ معرفته بالناس، فلا يَحمِل لهم حِقدًا وحَسَدًا، ومُقامُه في أرض الغربة قليلٌ، وهكذا حالُ السائر إلى الله، فلا يتَّخِذ الدنيا وطنًا له ومَسكنًا، بحيث يَشغَله ذلك عن وطنه الحقيقيِّ في الجنَّة.

ثم يقول ﷺ: «أو عابرُ سبيل»؛ وذلك لأن الغريبَ قد يَسكُن في بلاد الغُربة، بخلاف عابرِ السبيل، القاصدِ البلدَ الشاسع، وبينه وبينها مفاوزُ مُهلكةٌ، ومُراقَب من قُطَّاع الطريق، فلا يمكِنه الإقامةُ لحظةً. والأقربُ أن "أو" هنا ليست للتخيير والإباحة؛ ولكنها للإضراب؛ بمعنى "بل"؛ فكأنه قال: «كنْ في الدنيا كأنك غريب؛ بل عابر سبيل»[1].  

فالمؤمنُ حالُه في الدين على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريبٌ مقيمٌ في بلد غُربة، همُّه التزوُّدُ للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافرٌ غيرُ مُقيم البتَّةَ؛ بل هو ليلَه ونهارَه يَسير إلى بلد الإقامة، وفي كلا الحالين قلبُه متعلِّقٌ بوطنه الذي يرجِعُ إليه[2].

و"لَمَّا كان الغريبُ قليلَ الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحشٌ منهم؛ لأنه لا يكاد يعرفه أحدٌ، فهو ذليلٌ في نفْسه خائفٌ، وكذلك عابرُ السبيل لا يَنفُذ في سَفَره إلا بقوَّته، معه زادُه وراحلته يُبلِّغانِه إلى بُغيته من قصدِه - شبَّهه بهما، وفي ذلك إشارةٌ إلى إيثار الزُّهد في الدنيا، فكما لا يحتاج المسافرُ إلى أكثرَ مما يُبلِّغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمنُ في الدنيا إلى أكثرَ مما يُبلِّغه المحلَّ"[3].

وما أحسنَ ما قيل:

فحيَّ على جنَّات عدنٍ فإنَّها = منازلُكَ الأُولى وفيها المخيَّمُ

ولكنَّنا سَبيُ العدوِّ فهل ترى = نعودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ

وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى = وشطَّتْ به أوطانُه فَهْوَ مُغْرَمُ

وأيُّ اغتراب فوق غُربتنا التي = لها أضحتِ الأعداءُ فينا تَحَكَّمُ[4]

وقوله: "إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ"، هو من كلام ابن عمر ﭭ، وهو حضٌّ منه على أن يجعل المسلمُ الموتَ نُصبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ له على تقصير الأمل، وترك الْمَيل إلى غرور الدنيا.

وقوله: "وخُذْ من صحتك لمرضكَ"؛ أي: على المرء أن يغتنِم أيامَ صحته فيمهِّد فيها لنفْسه؛ خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: "ومن حياتكَ لموتكَ" تنبيهٌ على اغتنام أيام حياته؛ حتى لا يمرَّ عُمُرُه باطلًا في سهوٍ وغفلةٍ؛ لأن مَن مات فقد انقطعَ عملُه، وفاتَه أملُه، وعظُمت حسرتُه على تفريطه، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخير وأشرفَه![5].

المراجع

  1. انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/234).
  2. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/378).
  3. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطِّال (10/149) بتصرُّف.
  4. "حادي الأرواح" لابن القيم (ص: 11).
  5. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/149).


النقول:

قال ابن رجب رحمه الله: "وأمّا وصيّة ابن عمر رضي اللّه عنهما، فهي مأخوذة من هذا الحديث الّذي رواه، وهي متضمِّنة لنهاية قِصَر الأمل، وأنّ الإنسان إذا أمسى لم ينتظر الصّباح، وإذا أصبح لم ينتظر المساء، بل يظنُّ أنّ أجَلَه يُدركه قبل ذلك، وبهذا فسَّر غير واحد من العلماء الزّهد في الدّنيا، قال الْمَروزيُّ: قلتُ لأبي عبد اللّه - يعني أحمد - أيُّ شيء الزُّهْدُ في الدّنيا؟ قال: قِصَر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي، قال: وهكذا قال سفيان. قيل لأبي عبد اللّه: بأيّ شيء نستعين على قِصَر الأمل؟ قال: ما ندري إنّما هو توفيق. قال الحسن: اجتمع ثلاثة من العلماء، فقالوا لأحدهم: ما أَمَلُكَ؟ قال: ما أتى عليَّ شهر إلّا ظننت أنّي سأموت فيه، قال: فقال صاحباه: إنّ هذا لأمل، فقالا لأحدهم: فما أملك؟ قال: ما أتت عليَّ جُمعة إلّا ظننت أنّي سأموت فيها، قال: فقال صاحباه: إنّ هذا لأَمَلٌ، فقالا للآخر: فما أملك؟ قال: ما أَمَلُ مَن نفسُه في يد غيره؟! قوله: «وخذ من صحّتك لسقمك، ومن حياتك لموتك»؛ يعني: اغتنم الأعمال الصّالحة في الصّحّة قبل أن يَحُول بينك وبينها السَّقَم، وفي الحياة قبل أن يحول بينك وبينها الموت، وفي رواية: «فإنّك يا عبد اللّه لا تدري ما اسمك غدًا» يعني: لعلّك غدًا من الأموات دون الأحياء"[1]. 

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال أبو الزناد: معنى هذا الحديث الحضُّ على قلَّة المخالطة، وقلَّة الاقتناء، والزهد في الدنيا. قال المؤلِّف: بيانُ ذلك أن الغريبَ قليلُ الانبساط إلى الناس؛ بل هو مستوحشٌ منهم؛ إذ لا يكاد يمرُّ بمن يعرفه فيأنس به، ويَستكثِر بخُلطته؛ فهو ذليل في نفسه خائف، وكذلك عابرُ السبيل لا يَنفُذ في سَفَره إلا بقوَّته عليه، وخفَّته من الأثقال غير متشبِّث بما يمنعه من قطع سفره،، معه زادُه وراحلته يُبلِّغانِه إلى بُغيته من قصدِه، وهذا يدلُّ على إيثار الزُّهد في الدنيا، وأخذ البُلغة منها والكَفاف؛ فكما لا يحتاج المسافرُ إلى أكثرَ مما يُبلِّغه إلى غاية سفره، فكذلك لا يحتاج المؤمنُ في الدنيا إلى أكثرَ مما يُبلِّغه المحلَّ. وقوله: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء» حضٌّ منه على أن يجعل الموت نُصْبَ عينيه، فيستعدَّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ له على تقصير الأمل، وترك الميل إلى غرور الدنيا. وقوله: «خُذ من صحَّتك لمرضِكَ» حضٌّ على اغتنام أيام صحَّته، فيمهِّد فيها لنفسه؛ خوفًا من حلول مرض به يمنعه من العمل. وكذلك قوله: «ومن حياتك لموتك» تنبيهٌ على اغتنام أيَّام حياته، ولا يمرُّ عُمره باطلًا في سَهْوٍ وغَفلة؛ لأن من مات فقد انقطع عمله، وفاتَه أَمَلُه، وحَضَره على تفريطه نَدَمُه، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخيرِ وأشرفَه!"[2].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "في هذا الحديث ما يدلُّ على أن رسول الله ﷺ حضَّ على التشبُّه بالغريب؛ لأن الغريب إذا دخل بلدةً لم يُنافس أهلها في مجالسهم، ولا يَجزَع أن يراه أحدٌ على خلاف عادته في الملبوس، ولا يكون متدابرًا معهم، وكذلك عابر السبيل لا يتَّخِذ دارًا، ولا يَلِج في الخصومات مع الناس يُشاحِنهم، ناظرًا إلى أن لَبْثَه معهم أيَّامٌ يسيرة؛ فكلُّ أحوال الغريب وعابر السبيل مستحبَّةٌ أن تكون للمؤمن في الدنيا؛ لأن الدنيا ليست وطنًا له؛ لأنها تَحبِسه عن داره، وهي الحائلة بينه وبين قراره. وأما قول ابن عمر: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء»، فهو حضٌّ منه على أن المؤمن يستعدُّ أبدًا للموت، والموتُ يُستعَدُّ له بالعمل الصالح، وحضٌّ على تقصير الأمل؛ أي: لا تنتظر بأعمال الليل الصباح؛ بل بادر بالعمل، وكذلك إذا أصبحتَ فلا تحدِّث نفسك بالمساء، وتؤخِّر أعمال الصباح إلى الليل. 

قوله: «وخذ من صحتك لمرضك» حضٌّ على اغتنام صحَّته، فيجتهد فيها خوفًا من حلول مرض يمنعه من العمل، وكذلك قوله: «ومن حياتك لموتك» تنبيهٌ على اغتنام أيام حياته؛ لأن من مات انقطع عمله وفاتَ أَمَلُه، وعَظُمت حَسْرَتُه على تفريطه وندمه، ولْيَعْلَمْ أنه سيأتي عليه زمان طويل وهو تحت التراب لا يَستطيع عملاً، ولا يمكِنه أن يَذكُر اللهَ عزَّ وجلَّ، فيبادر في زمن سلامته، فما أجمعَ هذا الحديثَ لمعاني الخير وأشرفَه!" [3].

قال ابن رجب رحمه الله: " وإذا لم تكن الدّنيا للمؤمن دارَ إقامة، ولا وطنًا، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين: إمّا أن يكون كأنّه غريب مقيم في بلد غُربة، همُّه التّزوُّد للرّجوع إلى وطنه، أو يكون كأنّه مسافر غير مقيم البتَّةَ؛ بل هو ليلَه ونهارَه يسير إلى بلد الإقامة؛ فلهذا وصّى النّبيّ ﷺ ابن عمر أن يكون في الدّنيا على أحد هذين الحالين. فأحدهما: أن يترك المؤمن نفسه كأنّه غريب في الدّنيا يتخيَّل الإقامة؛ لكن في بلد غُربة، فهو غير متعلِّق القلب ببلد الغربة؛ بل قلبه متعلِّق بوطنه الّذي يرجع إليه، وإنّما هو مقيم في الدّنيا ليقضيَ مَرمَّة جهازه إلى الرّجوع إلى وطنه. قال الفُضيل بن عياض: المؤمن في الدّنيا مهموم حزين، همّه مرمَّة جهازه. ومن كان في الدّنيا كذلك، فلا همَّ له إلّا في التّزوّد بما ينفعه عند عَوده إلى وطنه، فلا ينافس أهل البلد الّذي هو غريب بينهم في عزِّهم، ولا يَجزَع من الذّلِّ عندهم. قال الحسن: المؤمن كالغريب لا يجزع من ذُلِّها، ولا ينافس في عزِّها، له شأن، وللنّاس شأن. لَمّا خُلق آدم عليه السّلام أُسكن هو وزوجته الجنّة، ثمّ أُهبطا منها ووُعدا بالرّجوع إليها، وصالح ذرّيّتهما، فالمؤمن أبدًا يحنُّ إلى وطنه الأوّل، وحبُّ الوطن من الإيمان، كما قيل:

كَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى = وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

كَانَ عَطَاءٌ السُّلَيْمِيُّ يقول في دعائه: اللّهمّ ارحم في الدّنيا غُربتي، وارحم في القبر وَحشتي، وارحم موقفي غدًا بين يديك"[4].

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «أو عابر سبيل»: (أو) فيه يجوز أن يكون للتخيير والإباحة، والأحسنُ أن يكون بمعنى (بل)... قال الجوهريُّ: يريد بل أنت، شبَّه الناسِكَ السالك أولًا بالغريب الذي ليس له مَسكَن يُؤويه، ولا سَكَن يُسْلِيه، ثم ترقَّى وأَضرَب عنه بقوله: «أو عابر سبيل»؛ لأن الغريب قد يَسكُن في بلاد الغُربة، ويُقيم فيها، بخلاف عابر السبيل القاصدِ للبلد الشاسع، وبينه وبينها أَوْدِيَة مُرْدِيَة، ومفاوزُ مُهلِكة، وهو بمرصد من قطَّاع طريقه، فهل له أن يُقيم لحظةً، أو يَسكُن لَمْحةً؟ لا؛ ومن ثَمَّ عقَّبه ابنُ عمر في باب الأمل بقوله: «وعُدَّ نفسك في أهل القبور»، وقال هنا: «إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء»؛ أي: سِر دائمًا، ولا تَفتُر عن السير ساعة؛ فإنك إن قصَّرت في السَّير، انقطعتَ عن المقصود، وهَلَكْتَ في تلك الأودية. هذا معنى المشبَّه به، والمشبَّه هو قوله: «وخذ من صحَّتك لمرضك»؛ يعني: عُمرك لا يخلو من الصحة والمرض، فإذا كنتَ صحيحًا، سِرْ سَيركَ القَصْدَ؛ بل لا تقنع به، وزِدْ عليه ما عسى أن يَحصُل لك الفتورُ بسبب المرض. وفي قوله: «ومن حياتك لموتك» إشارةٌ إلى أخذ نصيب الموت، وما يَحصُل فيه من الفتور من السُّقْم؛ يعني: لا تَقعُد في المرض من السَّير كلَّ القعود؛ بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه، حتى تنتهيَ إلى لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح، وإلا خبتَ وخسرتَ"[5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وكان عليُّ بنُ أبي طالب رضي اللّه عنه يقول: إنّ الدّنيا قد ارتحلت مدبرةً، وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلةً، ولكلّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدّنيا؛ فإنّ اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل. قال بعض الحكماء: عجبتُ ممّن الدّنيا مولِّية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يَشغَل بالمدبِرة، ويُعرِض عن المقبِلة. وقال عمر بن عبد العزيز في خُطبته: إنّ الدّنيا ليست بدار قراركم، كَتَب اللّه عليها الفناء، وكتب اللّه على أهلها منها الظَّعن، فكم من عامر موثَق عن قليل يَخرَب، وكم من مقيم مغتبِط عمّا قليلٍ يَظعَن! فأحسنوا - رحمكم اللّه - منها الرّحلة بأحسن ما بحضرتكم من النُّقْلة، وتزوَّدوا فإنّ خير الزّاد التّقوى"[6].

قال المناويُّ رحمه الله: "طولُ الأَمَلِ غُرورٌ وخِداعٌ؛ إذ لا ساعةَ من ساعاتِ العُمر إلا ويمكِن فيها انقضاءُ الأَجَل، فلا معنى لطُول الأمل المورِّثِ قسوةَ القلبِ، وتسليط الشيطان، وربما جرَّ إلى الطغيان"[7].

قال ابن رجب رحمه الله: " قيل لمحمّد بن واسع: كيف أصبحتَ؟ قال: ما ظنُّك برجل يرتحل كلَّ يوم مرحلة إلى الآخرة؟ وقال الحسن: إنّما أنت أيّام مجموعة، كلّما مضى يوم مضى بعضك. وقال: ابنَ آدمَ إنّما أنت بين مطيَّتين يُوضِعانِك، يوضعك النّهار إلى اللّيل، واللّيل إلى النّهار، حتّى يُسلمانِك إلى الآخرة، فمن أعظم منك يا بن آدم خطرًا. وقال: الموت معقود في نواصيكم، والدّنيا تُطوى من ورائكم. قال داود الطّائيُّ: إنّما اللّيل والنّهار مراحل ينزلها النّاس مرحلةً مرحلةً حتّى ينتهيَ ذلك بهم إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدِّم في كلِّ مرحلة زادًا لما بين يديها، فافعل؛ فإنّ انقطاع السّفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزوَّد لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنّك بالأمر قد بغتُّك. وكتب بعض السّلف إلى أخ له: يا أخي يخيَّل لك أنّك مقيم، بل أنت دائب السّير، تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا، الموت موجَّه إليك، والدّنيا تطوى من ورائك، وما مضى من عمرك، فليس بكارٍّ عليك يوم التّغابن.

قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدّنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟! وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستّون سنةً، قال: فأنت منذ ستّين سنةً تسير إلى ربّك يوشك أن تبلغ، فقال الرّجل: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره تقول: أنا للّه عبد وإليه راجع، فمن علم أنّه للّه عبد، وأنّه إليه راجع، فليعلم أنّه موقوف، ومن علم أنّه موقوف، فليعلم أنّه مسؤول، ومن علم أنّه مسؤول، فليُعِدَّ للسّؤال جوابًا، فقال الرّجل: فما الحيلة؟ قال يسيرة، قال: ما هي؟  قال: تُحسِن فيما بَقِيَ يُغفَر لك ما مضى، فإنّك إن أسأت فيما بقي، أُخذت بما مضى وبما بقي. قال بعض الحكماء: من كانت اللّيالي والأيّام مطاياه، سارت به وإن لم يسر. وفي هذا قال بعضهم:

وَمَا هَذِهِ الْأَيَّامُ إِلَّا مَرَاحِلُ = يَحُثُّ بِهَا دَاعٍ إِلَى الْمَوْتِ قَاصِدُ

وَأَعْجَبُ شَيْءٍ - لَوْ تَأَمَّلْتَ - أَنَّهَا = مَنَازِلُ تُطْوَى وَالْمُسَافِرُ قَاعِدُ

وَقَالَ آخَرُ:

أَيَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ نَهَارٍ يَقُودُهَا = إِلَى عَسْكَرِ الْمَوْتَى وَلَيْلٍ يَذُودُهَا

قال الحسن: لم يزل اللّيل والنّهار سريعينِ في نقص الأعمار، وتقريب الآجال، هيهاتَ قد صحبا نوحًا وعادًا وثمودَ وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فأصبحوا أقدموا على ربّهم، ووردوا على أعمالهم، وأصبح اللّيل والنّهار غضَّيْنِ جديدين، لم يُبلِهما ما مرَّا به، مستعدَّين لمن بَقِيَ بمثل ما أصابا به من مضى! وكتب الأوزاعيُّ إلى أخ له: أمّا بعدُ، فقد أُحيط بك من كلّ جانب، واعلم أنّه يُسار بك في كلّ يوم وليلة، فاحذر اللّه والْمَقام بين يديه، وأن يكون آخر عهدك به، والسّلام"[8].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 386، 387).
  2. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطِّال (10/ 148، 149).
  3. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 133).
  4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
  5. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (4/ 1364).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378).
  7. "فيض القدير" للمناويِّ (5/417).
  8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 382- 384).


غريب الحديث

عرشُه؛ أي: سَرِير الْمُلك [1].

السَّريَّة: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، تُبعَث إلى العدوِّ، وجمُعها السَّرايا، سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خُلاصةَ العسكر وخيارَهم، من الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس، وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنفُذون سِرًّا وخُفْيَةً، وليس بالوجه [2].

المراجع 

1. "المفاتيح شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 162).

2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 363).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي اللَّه عنهمَا، عن رَسُولِ اللهِ  أنه قال: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ»؛ أي: إن إبليس يَضَعُ سَرير مُلْكِه على الماء، ويَجلِس عليه، ثم يُرسل جنوده وأعوانه في ربوع الأرض إلى الخلق؛ لإضلالهم وإغوائهم وفتنتهم. «فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ»؛ أي: يكون أقربُهم إليه أعظمَهم فتنةً وأشدَّهم إضلالاً للناس، فيأتيه هؤلاء الشياطينُ بعدما انتهَوْا من مَهَمَّتهم؛ ليُخبِروا أباهم الأكبر بما فعلوه مع الخَلْقِ من حملهم على الكبائر والفتن، فيُجيبهم إبليسُ في كلِّ مرَّةٍ: ما صنعتُم شيئًا، يستقِلُّ أفعالَهم، ويحتقرها، حتى يقول أحدُهم: ما تركتُ الرجل وزوجته حتى فرَّقتُ بينهما، فيَفرَح فَرَحًا شديدًا بفِعلِه، ويُثني عليه، ويقرِّبه منه، ويَرفَع مكانته على أقرانه من الشياطين، ويقول له مادحًا: نعمَ أنتَ.



الشرح المفصَّل للحديث

 الشيطان عدوٌّ لَدُود للإنسان، يقف له بالمرصاد في حياته وأفعاله، ويَعرِض له في حركاته وسَكَناته؛

فعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ»

[1]،

ويَسعَى كذلك في إهلاكه، وإفساد آخرته بدنياه، وعداوةُ الشيطان للإنسان قديمةٌ قِدَمَ الإنسان؛ فقد نَصَب العداءَ له منذ أن خَلَق الله آدمَ - عليه السلامُ - بيده، ونَفَخ فيه من روحه، ثم أمر الملائكة بالسجود له، فسجد الملائكة، ورَفَض الشيطان أن يَسجُد حسَدًا وحِقدًا وكُرهًا لآدمَ - عليه السلامُ -

قال تعالى:

﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰٓئِكَةِ ٱسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوٓا إِلَّآ إِبْلِيسَ قَالَ ءَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾

[الإسراء: 61]،

وقال تعالى:

﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا۠ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍۢ وَخَلَقْتَهُۥ مِن طِينٍۢ﴾

[الأعراف: 12]؛

ولذلك أَمَرَنا الله تعالى أن نتَّخِذ الشيطان عدوًّا؛

قال تعالى:

﴿إِنَّ ٱلشَّيْطَٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُۥ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَٰبِ ٱلسَّعِيرِ﴾

[فاطر: 6].

وإن مداخل الشيطان للإنسان كثيرةٌ جدًّا، منها: الوسوسة، والتَّحريشُ، وإيقاعُ العَدَاوة بين المسلمين، والصَّدُّ عن ذكْر الله، والغَضَبُ، والشَّهوة، والعَجَلة، وترْك التثبُّت، والتكاسُل في الطاعات، وارتكابُ المحرَّمات، والحَسَدُ، والتعصُّبُ للهوى والمذاهب، ومُشارَكة الإنسان في أهله وطعامه ومَبيِته، وغيرُها مِن المداخل التي لا يَسَعُ الْمَقام للتفصيل فيها.

فينبغي للعبد أن يكون حَذِرًا من هذا العدوِّ في كلِّ أحواله، وأن يتمسَّك بكتاب ربِّه وسنَّة نبيِّه ﷺ إذا أراد الفَوز والنَّجاة في الدنيا والآخرة.

وفي هذا الحديث، يُخبر النبيُّ ﷺ أن إبليس يَضَعُ سَرير مُلْكِه على الماء، ويَجلِس عليه، و"يَحْتَمِل أن يكون سَريرًا حقيقةً، يَضعُه على الماء، ويَجلِس عليه، وهذا هو الصحيح، وَيحْتَمِل كونُه تمثيلًا لتَفَرْعُنه، وشدَّة عُتُوِّه، ونفوذ أمره بين سراياه، وجيوشه، وأيًّا ما كان، فيَظهَر أن استعمال هذه العبارة الهائلة - وهي قوله:

﴿وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ﴾

[هود: 7]،

والقَصْدُ أن إبليس مَسكَنُه البحر [2]، ثم يُرسِل جنوده وأعوانه في ربوع الأرض إلى الخلق؛ لإضلالهم وإغوائهم وفتنتهم، وحَمْلِهم على المعاصي، وتزيينِ الشهوات لهم، فيكون أشدُّهم إضلالاً للناس، وحملاً لهم على المعاصي، وإبعادًا لهم عن الحقِّ، هو أقربَهم إلى إبليس - عليه لعنةُ الله - في المنزلةِ والدَّرَجة، وأحبَّهم إليه، ثم يأتي هؤلاء الشياطينُ بعدما انتهَوْا من مَهَمَّتهم؛ ليُخبِروا أباهم الأكبر بما فعلوه مع الخَلْقِ، فيقول أحدهم: حملتُه على ترك الصلاة، ويقول الآخَر: حملتُه على شُرب الخَمر، ويقول الثالث: حملتُه على السرقة، ويقول الرابع: حملتُه على الزنا، ويقول الخامس: حملتُه على شهادة الزور، وهكذا جميعُ المعاصي، فيُجيبهم إبليسُ في كلِّ مرَّةٍ: ما صنعتُم شيئًا، فيستقِلُّ أفعالَهم، ويحتقرها، ولا يَأْبَه لها، حتى يقول أحدُهم: ما تركتُ الرجل وزوجته حتى فرَّقتُ بينهما، وهَدَمْتُ الأُلْفَة والمودَّة والسَّكينة في بَيْتِهما، فيَفرَح فَرَحًا شديدًا بفِعلِه، ويُثني عليه، ويُدنيه ويقرِّبه منه، ويَرفَع مكانته على أقرانه من الشياطين، ويقول له: نعمَ أنتَ؛ أي: أنتَ الذي جئتَ بالأمر العظيم، وأنتَ الذي أغنَيْتَ عنِّي، وأنت صاحب المكانة والمنزلة عندي؛ وذلك لِما في التفريق بين الزوجين من مَضَارَّ كثيرةٍ، منها: وقوعُ العَدَاوة والبغضاء والشحناء بين الزوجين وأهليهم، وفسادُ الأطفال، وانتشارُ سيِّئ الأخلاق، واحتمالُ كثرة وقوع الفاحشة، وغلبة أولاد الزنا، و"لِمَا فيه من انقطاع النسل، وانصرام بني آدم، وتوقُّع وقوع الزنا الذي هو أعظمُ الكبائر فسادًا، وأكثرُها مَعَرَّةً" [3].


المراجع

1. رواه البخاريُّ (2039)، ومسلم (2175).

2. "فيض القدير" للمناويِّ (2/ 408).

3. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).



النقول

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «يضع عرشه في الماء» يَحتمِل بأن يُجرى على ظاهره، ويكون من جُملة تمرُّده وطغيانه جَعَل عرشه على الماء؛

كما في قوله تعالى:

﴿وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ﴾

[هود: 7]،

وأن يُجرى على الكناية الإيمائية، عبَّر عن استيلائه على إغوائه الخلقَ، وتسلُّطه على إضلالهم بهذه العبارة.

و«السرايا» جمع سَريَّة، وهي قطيعة من الجيش يوجِّهها حاكم إلى جهة؛ لأن ينالَ من العدوِّ. طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تُبعَث إلى العدوِّ، سمُّوا بذلك؛ لأنهم يكونون خالصةَ العسكر وخيارَهم، من الشيء السَّرِيِّ النَّفِيس. وقيل: سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يَنفُذون سرًّا وخُفْية، وليس بالوجه؛ لأن لام السِّرِّ راءٌ، وهذه ياء.

قوله: «فتنة»: الفتنة: الابتلاء والامتحان، وأصلُه من فتنتُ الفضَّة إذا أدخلتُها على النار؛ لتعرف جيِّدها من رديئها، وفُتِن فلانٌ بفلانة؛ أي: بُلِي بهواها، وسُمِّيت بها المعاصي. «ويجيء أحدهم» جملة مبيِّنة لقوله: «أعظمهم فتنة»، وقولهم: «نعم أنت»؛ أي: نِعْمَ العَوْنُ أنت،  «فيلتزمه» ويجوز أن يكون بدله؛ وذلك أن النكاح عقدٌ شرعيٌّ يستحلُّ به التزوُّج، وهو يريد حَلَّ ما عقده الشرع؛ ليستبيح ما حرَّمه فيَكثُر الزنا، وأولاد الزنا، فيُفسدوا في الأرض، ويهتكوا حدود الشرع،  ويتعدَّوا حدود الله" [1]. 

قال القاضي عياض رحمه الله: "قولُه في الخبر في قول إبليس لرسوله: نِعْمَ أنت: قيل: هو من المحذوفِ الْمُوجَز الذي يدلُّ عليه الكلام؛ أي: أنت الذي جِئْتَ بالطَّامَّة، وقد يكون معناه: أنت الذي أَغْنَيْتَ عنِّي، وفعلتَ رغبتي، أو أنت الحظِيُّ عندي، المقدَّم المعوَّلُ عليه من رُسلي وخلائفي، والمحمود، أو أنت الشَّهْمُ والجَذْل، وشِبه هذا" [2].

قال المناويُّ رحمه الله: "يَحْتَمِل أن يكون سَريرًا حقيقةً، يَضعُه على الماء، ويَجلِس عليه، وهذا هو الصحيح، وَيحْتَمِل كونُه تمثيلًا لتَفَرْعُنه، وشدَّة عُتُوِّه، ونفوذ أمره بين سراياه، وجيوشه، وأيًّا ما كان، فيَظهَر أن استعمال هذه العبارة الهائلة - وهي قوله: "عرشه" - تهكُّمٌ، وسخرية؛ فإنها استُعمِلت في الجبَّار الذي لا يُغالَب

وَكَانَ عَرْشُهُۥ عَلَى ٱلْمَآءِ

[هود: 7]

والقَصْدُ أن إبليس مَسكَنُه البحر [3].

قال الولويُّ رحمه الله: "لِمَا فيه من انقطاع النسل، وانصرام بني آدم، وتوقُّع وقوع الزنا الذي هو أعظمُ الكبائر فسادًا، وأكثرُها مَعَرَّةً" [4].

قال ابن القيم رحمه الله: "جهاد الشيطان مرتبتان؛ إحداهما: جهادُه على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشُّبهات والشُّكوك القادحة في الإيمان. الثانية: جهادُه على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات، فالجهاد الأول يكون بعده اليقين، والثاني: يكون بعده الصبر" [5].

المراجع

1.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 523).

2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (1/ 41).

3. "فيض القدير" للمناويِّ (2/ 408).

4. "البحر المحيط الثجاج في شرح صحيح الإمام مسلم بن الحجاج" للولويِّ (43/ 500).

5.  "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (3/ 10).

المعنى الإجماليُّ للحديث

(يروي عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: فذهب والدُه عمرُ بنُ الخطّاب إلى رسول الله ﷺ، فسأله عن حكم هذا الطَّلاق في وقت الحيض: هل يجوز أو لا؟ وهل يقع أو لا؟ (فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ أي: ظهر عليه الغضب والغيظ، (ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا») فأمره رسول الله ﷺ أن يأمر ابنه عبدالله أن يُراجعها إلى نكاحه، ثمّ ليُمسِكْها عنده في بيته، «حَتَّى تَطْهُرَ» من الحَيْضة التي طلَّقها فيها، «ثمَّ تَحِيضُ» حَيْضةً أخرى، «ثُمَّ تَطْهُرَ» من الحَيْضة الثانية، «ثُمَّ» بعدما تَطهُر من الحَيضة الثانية، «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»؛ أي: إن شاء أمسكها في نكاحه، وإن شاء طلَّقها في الطُّهر الثاني قبل أن يُجامعَها؛ «فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»؛ أي: فهذا الطُّهر هو زمن الشروع في العِدَّة التي أمر الله تعالى أن تُطلَّق فيها النساء. (وقرأ النبي : {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ})، وهي قراءة شاذَّة، لا تثبُتُ قرآنًا بالإجماع؛ حيث لم تتحقَّق فيها شروط القراءة المتواترة، فلا يُصلَّى بها؛ وإنما يجوز الاستئناس بها في فَهم القراءة الصحيحة، فالمعنى: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن. 

قوله: «ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»؛ أي: يجوز الطلاق سواء أكانت المرأة طاهرًا أم حاملًا.

الشرح المفصَّل للحديث

إن الله - تبارك وتعالى - له الخَلق والأمر، وقد خَلَق الإنسان وشَرَع له ما يَضبِط أمور معيشته وحياته، ويُصلِحها، ومن ذلك أنه رغَّب الرجل والمرأة في الزواج، وسمَّاه مِيثاقًا غليظًا، وأَمَرهما بإحْسان العِشْرة بينهما، وبيَّن حقوق كلِّ واحد منهما حتى تستقيم حياتهما الزوجيَّة، ودعا إلى التغافل بينهما عمَّا يَحدُث بينهما مما يُكرَه؛

قال تعالى:

﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُوا شَيْـًٔا وَيَجْعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾

[النساء: 19].

أما إذا حَدَث بين الزوجين ما يكدِّر صَفْوَ حياتهما الزوجية، واستحالت العِشرة بينهما بالمعروف، فقد أباح الإسلام الطلاق بإحسان، وعدم نسيان الفضل بينهما، وشَرَع أحكام الطلاق، كما شَرَع أحكام الزواج.

وقد راعى الإسلام طبيعة الرجل والمرأة في أمر الزواج والطلاق، فجعل أمر الطلاق بيد الرجل؛ حيث إن طبيعة الرجل أنه أكثر عقلانيةً وتريُّثًا، ولا يندفع مع عواطفه وانفعالاته، فله القِوامة على الأسرة؛

قال تعالى:

﴿ٱلرِّجَالُ قَوَّٰمُونَ عَلَى ٱلنِّسَآءِ﴾

[النساء: 34]،

أما إذا تضرَّرت المرأة من زوجها، فلها طلب الطلاق، وأن تَصطَلِح مع زوجها على الافتداء؛

كما قال تعالى:

﴿وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْـًٔا إِلَّآ أَن يَخَافَآ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۖ  فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِۦ ۗ﴾

[البقرة: 229].

وقد أبطل الإسلام أحكام الجاهلية التي كانت النساء يَصْطَلين بنارها؛ كالعَضْلِ، وتعليق الزوجة وقتًا طويلاً، وجَعْلِ الطلاق بلا عدد ولا حدٍّ، ونحو ذلك؛ فقد كان الطلاق قبل الإسلام لا حدود له، فكان بلا عدد محدَّد، وكان في الطُّهر والحيض، دون مراعاة للمرأة في تطويل عِدَّتها؛ بل كانوا يتعمَّدون الإساءة إليها، فيتركونها تعتدُّ، حتى إذا كان آخر يوم من عِدَّتها، يُرجعونها، ثم يطلِّقونها، فتعتدُّ، حتى آخر يوم من عِدَّتها يرجعونها، وهكذا دون تحديد، فتعيش المرأة معلَّقة، لا هي زوجةٌ فتُحصَن، ولا هي أيِّم فتتزوَّج، فلما جاء الإسلام رعاها، وأحاط حقَّ الرجل في الطلاق والرجعة بسياج يمنع تعسُّفه في استخدام هذا الحقِّ،

وضيَّق سبُل الطلاق - كما في حديث الباب - فجعل للطلاق عددًا ووقتًا محدَّدينِ، ووسَّع سُبل الرجوع عن الطلاق، فأباح مُراجعة الزوج لزوجته المطلَّقة ما دامت في عِدَّتها، بأن يقول: راجعتُكِ، أو بأنْ يأتيَ زوجته، وألزم الرجل أن يُبقيَ مطلَّقته في بيته، وألزم المطلَّقة بالبَقاء في بيت زوجها، إذا كان الطلاق رجعيًّا؛

قال تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا ٱلْعِدَّةَ ۖ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ رَبَّكُمْ ۖ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّآ أَن يَأْتِينَ بِفَٰحِشَةٍۢ مُّبَيِّنَةٍۢ ۚ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُۥ ۚ لَا تَدْرِى لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾

[الطلاق: 1].

وعظَّم الإسلام أمر الطلاق، وجَعَله من الأمور التي لا هَزْل فيها، ولا يُقبَل الادِّعاء بذلك في هذا الأمر العظيم، فمَن طلَّق هازلاً فإنَّ طلاقه يقع؛

فعن أبي هريرة - رضِي الله عنه – قال:

قال رسول الله ﷺ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ»

[1].

وإن للطلاق أحكامًا شرعيَّة، وآدابًا لا بُدَّ من معرفتها ومُراعاتها والتقيُّد بها، ومتى جَهِلها الناس وغفلوا عنها، أضاعوا على أنفسهم ومجتمعهم ما في تشريع الطلاق من الحكمة والرحمة بالزوجين والأسرة والمجتمع.

وإن "الطّلاق قد يكون حرامًا، أو مكروهًا، أو واجبًا، أو مندوبًا، أو جائزًا، أمّا الأوّل، ففيما إذا كان بِدْعيًّا، وله صور" [2]، سنذكرها في شرح حديث الباب.

وإنَّ للطلاق صفةً شرعيَّة مُعتَبرة، وما عداها فهو طلاقٌ بدعيٌّ محرَّم يأثمُ صاحبه.

"فقد قسَّم الفقهاء الطّلاق إلى سُنِّيٍّ وبِدْعيٍّ، وإلى قسم ثالث لا وصفَ له؛ فالطلاق السُّنِّيُّ ما أمر به النبيُّ - كما في حديث الباب - والبِدْعيُّ: أن يطلِّق في الحيض، أو في طُهْر جامعها فيه، ولم يتبيَّن أمرها، أحملت أم لا؟ ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة، ومنهم من أضاف له الخُلع، والثّالث: تطليق الصّغيرة والآيسة والحامل الّتي قَرُبت ولادتها" [3].

فحديث الباب يوضِّح الطلاق السُّنِّيَّ المشروع، وهو أن يطلِّق الرّجل امرأته طلقةً واحدةً وهي طاهر، دون أن يُجامعها في ذلك الطُّهر، أو تكون حاملاً وتبيَّن حملُها، ويكون الطلاق بطلقةٍ واحدة فقط، أمَّا إذا كان الطلاق على عِوَضٍ، فمباحٌ مطلقًا.

ويوضِّح أيضًا الطّلاق البِدعيَّ المنهيَّ عنه، وهو أن يطلِّق الرّجل امرأته أكثرَ من طلقة في لفظ واحد، أو يطلِّقها وهي حائض، أو يطلِّقها في طُهر قد جامَعَها فيه.

هذا وقد ذهب جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أنّ الطّلاق - سواءٌ أكان سنّيًّا أم بِدْعيًّا - يَقَع، فلا يلزم من كون الطّلاق البدعيِّ منهيًّا عنه عدم وقوعه؛ بل يلحق الإثم مَن يتعمَّدُه مع حصول الطّلاق.

يروي عَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا -: (أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ)؛ أي: طلَّقها في حال حيضها، (عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَسُولَ اللهِ عَنْ ذَلِكَ)؛ أي: فذهب والدُه عمرُ بنُ الخطّاب إلى رسول الله ﷺ، فسأله عن حكم هذا الطَّلاق في وقت الحيض: هل يجوز أو لا؟ وهل يقع أو لا؟

(فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللهِ "أي: غَضِب في شأنه رسول الله ﷺ، وفيه دليل على حُرمة الطّلاق في الحيض؛ لأنّه ﷺ لا يغضب بغير حرام" [4].

فـ"قوله: (فتغيَّظ)؛ أي: غَضِب فيه؛ لأن الطّلاق في الحيض بِدعة" [5].

(ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ : «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»): وفيه دليل على وقوع هذا الطّلاق البدعيِّ مع كونه حرامًا؛ فـ"الطلاق في الحيض - أو في طهر قد جامعها فيه - محرَّم؛ ولكنه إن وَقَع، لَزِم" [6].

والطلاق في الحيض مختلَف في وقوعه، فذهب جمهور أهل العلم، ومنهم الأئمَّة الأربعة وغيرهم، إلى وقوعه، وذهب جماعة من العلماء - منهم ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما - إلى عدم وقوعه.

وقد نقل ابن المنذِر، وابن قُدامةَ، والنوويُّ، وغيرهم، الإجماعَ على تحريم الطلاق حال الحيض [7]. 

واختلف العلماء في المراجَعة، هل تَجِب أو تُستحَبُّ؟ وهل يُجبَر عليها أو لا؟

"واتَّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدُّخول وهي حائض، لم يؤمَر بالمراجعة، وعلى أنه إذا انقضت العِدَّة، أنّه لا رجعة" [8].

وفي الحديث دليل "على أن الرَّجْعَةَ لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وَلِيِّها، ولا تجديد عَقْدٍ" [9]، وأنَّ الزَّوج يستقلُّ بالرّجعة دون الوليِّ.

"واختلف العلماء في معنى قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، فقيل: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دَمَ النِّفاس بدم الحيض. ويُجبَر على الرجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفى الطُّهر بعدها، وفى الحيضة بعد الطُّهر، وفى الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها. وقيل: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عِدَّتها أنه لا يُجبَر على رجعتها، فدلَّ على أن الأمر بمراجعتها نَدْب" [10].

و"في أمر رسول الله ﷺ عبدَالله بن عمرَ بمراجعة امرأته الّتي طلَّقها حائضًا دليلٌ يبيِّن على أنّ الطّلاق في الحيض واقع لازم؛ لأنّ المراجعة لا تكون إلّا بعد صحَّة الطّلاق ولُزومه، ولو لم يكن الطّلاق واقعًا لازمًا، ما قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»؛ لأنّ من لم يطلِّق، لا يُقال له: راجِعْ؛ لأنّه مُحالٌ أن يُقال لرجل امرأتُه في عِصمته لم يُفارقها: راجعْها؛ بل كان يُقال له: طلاقُك لم يصنع شيئًا، وامرأتك بعدَه كما كانت قبلَه، ونحو هذا، وعلى هذا فقهاء الأمصار، وجمهور علماء المسلمين، وإن كان الطّلاق عند جميعهم في الحيض مكروهًا بِدْعةً غيرَ سُنَّة" [11].

«ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا») فأمره رسول الله ﷺ أن يأمر ابنه عبدالله أن يُراجعها إلى نكاحه، ثمّ ليُمسِكْها عنده في بيته، «حَتَّى تَطْهُرَ» من الحَيْضة التي طلَّقها فيها، «ثمَّ تَحِيضُ» حَيْضةً أخرى، «ثُمَّ تَطْهُرَ» من الحَيْضة الثانية.

"وقالوا: إن الطُّهر الثانيَ جُعِل للإصلاح الذى

قال الله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَٰحًا ۚ﴾

[البقرة: 228]

لأن حق المرتجع ألَّا يرتجع رجعة ضرار؛

لقوله تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231]،

قالوا: فالطُّهر الأول فيه الإصلاح بالوطء، ولا تُعلَم صحَّة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه الْمُبتَغى بالنكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطُّهر مرادًا للوطء الذى تُستيقَن به المراجعة. فإذا مسَّها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طُهر قد مسَّها فيه؛ للنهي عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلِّقًا لغير العدَّة، فقيل له: دَعْها حتى تحيض أخرى ثم تَطهُر، ثم تطلِّق إن شئتَ قبل أن تمسَّ" [12].

"فإن قيل: ما فائدة التّأخير إلى الطُّهر الثّاني؟ فالجواب من أوجه؛ أحدها: لئلّا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فوجب أن يُمسكها زمانًا كان يحلُّ له طلاقها، وإنّما أمسكها لمظهر فائدة في الرّجعة، الثّاني: أنّه عقوبة له، وتوبة من معصية باستدراك جنايته، والثّالث: أنّ الطُّهر الأوّل مع الحيض الّذي طلَّق فيه واحد، فلو طلَّقها في أوَّل طُهْر، كان كمن طلَّقها في حيض، والرّابع: أنّه نهى عن طلاقها في الطُّهر ليطول مقامه معها؛ فلعلَّه يُجامعها، فيَذهَب ما في نفسه من سبب طلاقها فيُمسكها، والأخير هو الأَوْلى" [13].

«ثُمَّ» بعدما تَطهُر من الحَيضة الثانية، «إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ»؛ أي: إن شاء أمسكها في نكاحه، وإن شاء طلَّقها في الطُّهر الثاني قبل أن يُجامعَها، و"ذكروا أنّ له أن يطلِّقها في الطُّهر الّذي يلي الحيضة الّتي طلَّقها وراجعها فيها" [14].

وقوله: (قبل أن يمسَّها)؛ أي: قبل أن يُجامعها.

قوله: «فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»؛ أي: فهذا الطُّهر هو زمن الشروع في العِدَّة التي أمر الله تعالى أن تُطلَّق فيها النساء.

"قوله: (فتلك العدَّة)؛ أي: هي العِدَّة الّتي أمر الله أن يطلَّق لها النّساء حيث قال:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]" [15].

(وقرأ النبي : {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ، فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ})، وهي قراءة شاذَّة، لا تثبُتُ قرآنًا بالإجماع؛ حيث لم تتحقَّق فيها شروط القراءة المتواترة، فلا يُصلَّى بها؛ وإنما يجوز الاستئناس بها في فَهم القراءة الصحيحة، "ونُقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيٍّ وعثمان وجابر وعليِّ بن الحُسين وغيرهم... والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العِدَّة؛ لئلّا يلتبس الأمر بطول العِدَّة فتتأذَّى بذلك المرأة" [16].

فالمعنى: فطلقوهن مستقبلات لعدتهن؛ أي: في الوقت الّذي يشرعن فيه في العدّة، وزمن الحيض لا يُحسَب من العِدَّة، فإذا طلّق فيه لم يقع طلاقه في الحال الّتي أمر الله بها، وهو استقبال العدّة والدّخول فيها، وهو أن يقع الطّلاق حال طُهرها، لا حال حَيضها؛ وذلك أنّها بالطُّهر تستطيع إحصاء عِدّتها، وهي ثلاثة قروء، والقُرء هو الطُّهر، وقيل: الحيض.

قوله: «ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا»؛ أي: يجوز الطلاق سواء أكانت المرأة طاهرًا أم حاملًا.

و"اعلم أنّ الأحسن أن يطلِّق الرّجل امرأته تطليقةً واحدةً في طُهْر لم يجامعها فيه" [17].



المراجع

1. أخرجه أبو داود (2194) وابن ماجه (2039) والترمذيُّ (1184) وحسَّنه، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود – الأم" (6/ 397).

2. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

3. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

5. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

6. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 183).

7.  "الإجماع" لابن المنذر (ص 79)، "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 315)، "المغني" لابن قدامة (10/ 234).

8. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 264).

9. "شرح النووي على مسلم" (10/ 62).

10. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 380، 381).

11. "الاستذكار" لابن عبدالبر (6/ 142).

12.  "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 379).

13. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

14. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

15. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

16. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

17.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).



النقول

قال ابن حجر رحمه الله: "الطَّلاق في اللّغة: حَلُّ الوَثاق، مشتَقٌّ من الإطلاق، وهو الإرسال والتَّرك، وفلانٌ طَلِق اليد بالخير؛ أي: كثير البذل. وفي الشَّرع: حلُّ عُقدة التَّزويج فقط، وهو موافق لبعض أفراد مدلوله اللُّغويِّ. قال إمام الحرمين: هو لفظ جاهليٌّ وَرَدَ الشَّرع بتقريره، وطَلَقَتِ المرأة، بفتح الطّاء، وضمّ اللّام، وبفتحها أيضًا، وهو أفصح، وطُلِّقت أيضًا، بضمِّ أوَّله وكسر اللّام الثّقيلة، فإن خُفِّفت فهو خاصٌّ بالولادة، والمضارع فيهما بضمّ اللّام، والمصدر في الولادة طَلْقًا ساكنة اللّام، فهي طالق فيهما، ثمّ الطّلاق قد يكون حرامًا أو مكروهًا أو واجبًا أو مندوبًا أو جائزًا، أمّا الأوّل، ففيما إذا كان بِدْعيًّا، وله صور، وأمّا الثَّاني، ففيما إذا وقع بغير سبب مع استقامة الحال، وأمّا الثّالثُ، ففي صور، منها الشِّقاق إذا رأى ذلك الحَكَمان، وأمّا الرّابعُ، ففيما إذا كانت غيرَ عفيفة، وأمّا الخامسُ، فنفاه النَّوويُّ، وصوَّره غيره بما إذا كان لا يُريدها ولا تطيب نفسه أن يتحمَّل مُؤْنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فقد صرَّح الإمام أنّ الطّلاق في هذه الصّورة لا يُكرَه قوله"[1].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "(وعن عبد الله بن عمر أنّه طلّق امرأةً له وهي حائض): الجملة حاليَّة؛ أي: طلَّقها في حال حيضها، (فذكر عمر - رضي الله عنه - لرسول الله ﷺ)؛ أي: ما وقع منه، (فتغيَّظ فيه)؛ أي: غَضِب في شأنه (رسول الله ﷺ)، وفيه دليل على حُرمة الطّلاق في الحيض؛ لأنّه ﷺ لا يغضب بغير حرام، (ثمّ قال: ليُراجعها)؛ أي: ليَقُلْ: راجعتُها إلى نكاحي – مثلًا - لتدارك المعصية، وفيه دليل على وقوع الطّلاق مع كونه حرامًا، وعلى استحباب المراجعة. (ثمّ يمسكها حتّى تطهر)، قال ابن الهمام: وظهر من لفظ الحديث حيث قال: (يمسكها حتّى تطهر) أنّ استحباب الرّجعة أو إيجابها مقيَّد بذلك الحيض الذي أوقع فيه، وهو المفهوم من كلام الأصحاب إذا تؤمِّل، فعلى هذا إذا لم يفعل حتّى طَهُرت، تقرَّرت المعصية، (ثمّ تحيض فتطهر)، قال النّوويُّ: فإن قيل: ما فائدة التّأخير إلى الطُّهر الثّاني؟ فالجواب من أوجه؛ أحدها: لئلّا تصير الرّجعة لغرض الطّلاق، فوجب أن يُمسكها زمانًا كان يحلُّ له طلاقها، وإنّما أمسكها لمظهر فائدة في الرّجعة، وهنا جواب أصحابنا، الثّاني: أنّه عقوبة له، وتوبة من معصية باستدراك جنايته، والثّالث: أنّ الطُّهر الأوّل مع الحيض الّذي طلَّق فيه - كما مرَّ - واحد، فلو طلَّقها في أوَّل طُهْر، كان كمن طلَّقها في حيض، والرّابع: أنّه نهى عن طلاقها في الطُّهر ليطول مقامه معها؛ فلعلَّه يُجامعها، فيَذهَب ما في نفسه من سبب طلاقها فيُمسكها. اهـ. والأخير هو الأولى؛ لكنّ الأظهر أن يُقال: أُمِر بإمساكها في الطُّهر... إلخ، في الهداية: وإذا طَهُرت وحاضت ثمّ طَهُرت، فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها. قال ابن الهمام: هذا لفظ القدوريِّ، وهكذا ذكر في الأصل، ولفظ محمَّد - رحمه الله تعالى -: فإذا طَهُرت في حيضة أخرى، راجعها، وذكر النّوويُّ أنّ له أن يطلِّقها في الطُّهر الّذي يلي الحيضة الّتي طلَّقها وراجعها فيها، قال الشّيخ أبو الحسن الكرخيُّ: ما ذكره الطّحاويُّ قول أبي حنيفة - رحمه الله - وما ذكره في الأصل قولهما، والظّاهر أنّ ما في الأصل قول الكلِّ؛ لأنّه موضوع لإثبات منصب أبي حنيفة - رحمه الله - إلّا أن يحكيَ الخلاف، ولم يحكِ خلافًا فيه؛ فلذا قال في الكافي: إنّه ظاهر الرّواية عن أبي حنيفة، وبه قال الشّافعيُّ في المشهور، ومالك وأحمد، وما ذكره الطّحاويُّ رواية عن أبي حنيفة، وهو وجه للشافعية، وجه المذكور في الأصل، وهو ظاهر المذهب لأبي حنيفة" [2].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: (فتغيَّظ)؛ أي: غَضِب فيه؛ لأن الطّلاق في الحيض بِدعة. قوله: (فإن بدا له)؛ أي: فإن ظهر له أن يطلِّقها، وكلمة (أن) مصدرية. قوله: (طاهرًا)؛ أي: حال كونها طاهرةً؛ وإنّما ذكره بلفظ التّذكير؛ لأن الطُّهر من الحيض من المختصَّات بالنساء، فلا يحتاج إلى التّاء، كما في الحائض. قوله: (قبل أن يمسَّها)؛ أي: قبل أن يُجامعها. قوله: (فتلك العدَّة)؛ أي: هي العِدَّة الّتي أمر الله أن يطلَّق لها النّساء حيث قال:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دليلٌ على أن الرَّجْعَةَ لا تفتقر إلى رضا المرأة، ولا وَلِيِّها، ولا تجديد عَقْدٍ، والله أَعْلَمُ" [4].

قال ابن بطال رحمه الله: "وأجمعوا أنه من طلَّق امرأته طاهرًا في طُهر لم يمسَّها فيه أنه مُطلِّق للسُّنَّة، والعِدَّة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعةَ إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضيَ العِدَّة، فإذا انقضت، فهو خاطب من الخطَّاب. وذهب مالك، وأبو يوسفَ، والشافعيُّ، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا: من طلَّق امرأته حائضًا أنه يُراجعها، ثم يُمسِكها حتى تَطهُر، ثم تَحيض، ثم تَطهُر، ثم إن شاء طلَّق قبل أن يمسَّ، وإن شاء أمسك. وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر في هذا الحديث، قالوا: يُراجعها، فإذا طَهُرت طلَّقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنيُّ. وقالوا: إنما أمر المطلِّق في الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السُّنَّة، أمر بمراجعتها ليُخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلِّقها إن شاء طلاقًا صَوَابًا، ولم يَرَوا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى. وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعيُّ، فقالوا: للطهر الثاني والحيضة الثانية معانٍ صحيحةٌ، منها أنه لَمَّا طلَّق في الموضع الذي نُهِيَ عنه، أُمِر بمراجعتها ليُوقع الطلاق على سُنَّته، ولا يطول في العِدَّة على امرأته، فلو أُبيح له أن يطلِّقها إذا طَهُرت من تلك الحيضة، كانت في معنى المطلَّقة قبل البناء، لا عدَّة عليها، ولابدَّ لها أن تبنيَ على عدَّتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيِّه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يُراجعها على نيَّة الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طُهرًا واحدًا، فإذا وَطِئها في طُهر، لم يتهيَّأ له أن يطلِّقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلِّقها في طُهْر قد مسَّها فيه حتى تَحِيض بعده ثم تَطهُر، فإذا طلَّقها بعد ذلك، استأنفت عدَّتها من ذلك الوقت ولم تَبْنِ. وقالوا: إن الطُّهر الثانيَ جُعِل للإصلاح الذى قال الله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَٰحًا ۚ﴾

[البقرة: 228]؛

لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛

لقوله تعالى:

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231]،

قالوا: فالطُّهر الأول فيه الإصلاح بالوطء، ولا تُعلَم صحَّة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه الْمُبتَغى بالنكاح والمراجعة في الأغلب، فكان ذلك الطُّهر مرادًا للوطء الذى تُستيقَن به المراجعة. فإذا مسَّها لم يكن له سبيل إلى طلاقها في طُهر قد مسَّها فيه؛ للنهي عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلِّقًا لغير العدَّة، فقيل له: دَعْها حتى تحيض أخرى ثم تَطهُر، ثم تطلِّق إن شئتَ قبل أن تمسَّ"، وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر، أنه طلَّق امرأته وهى في دمها حائض، فأمره رسول الله ﷺ أن يُراجعها، فإذا طَهُرت مسَّها، حتى إذا طَهُرت أخرى، فإن شاء طلَّقها، وإن شاء أمسكها. قالوا: ولو أُبيح له أن يطلِّقها بعد الطُّهر من تلك الحيضة، كان قد أُمر أن يراجعها ليطلِّقها، فأشبه النكاحَ إلى أجل، أو نكاح الْمُتْعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ" [5].

قال ابن عبدالبرِّ رحمه الله: "واختلفوا في أمر رسول الله ﷺ المطلِّقَ في الحيض بالرَّجعة،

فقال قوم: عُوقِب بذلك لأنّه تعدَّى ما أمر الله به ولم يطلِّق للعِدَّة، فعوقِب بإمساك من لم يُرِدْ إمساكه حتِّى يطلِّق كما أُمِر للعِدَّة، وقال آخرون: إنّما أُمِر بذلك قطعًا للضَّرر في التّطويل عليها؛ لأنّه إذا طلَّقها في الحيض، فقد طلَّقها في وقت لا تَعْتدُّ به من قُرْئها الذي تعتدُّ به، فتَطُول عِدَّتها، فنُهِيَ أن يطوِّل عليها، وأُمِر ألّا يطلِّقها إلا عند استقبال عِدَّتها، وكذلك كان ابن عمر يقرأ: {فطلّقوهنّ لقُبُلِ عِدّتهنّ}، وفي أمر رسول الله ﷺ عبدَالله بن عمرَ بمراجعة امرأته الّتي طلَّقها حائضًا دليلٌ يبيِّن على أنّ الطّلاق في الحيض واقع لازم؛ لأنّ المراجعة لا تكون إلّا بعد صحَّة الطّلاق ولُزومه، ولو لم يكن الطّلاق واقعًا لازمًا، ما قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»؛ لأنّ من لم يطلِّق، لا يُقال له: راجِعْ؛ لأنّه مُحالٌ أن يُقال لرجل امرأتُه في عِصمته لم يُفارقها: راجعْها؛ بل كان يُقال له: طلاقُك لم يصنع شيئًا، وامرأتك بعدَه كما كانت قبلَه، ونحو هذا؛ ألا ترى أنّ الله - عزّ وجلّ - قال في المطلّقات

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]؛

يعني: في العِدَّة، وهذا لا يستقيم أن يكون مثلُه في الزّوجات غير المطلَّقات، وعلى هذا فقهاء الأمصار، وجمهور علماء المسلمين، وإن كان الطّلاق عند جميعهم في الحيض مكروهًا بِدْعةً غيرَ سُنَّة، ولا يخالف الجماعة في ذلك إلّا أهل البِدَع والجَهل الذين يَرَون الطّلاق لغير السُّنَّة غير واقع، ولا لازم، وقد رُوِي ذلك عن بعض التّابعين، وهذا شذوذ لم يعرِّج عليه أحد من أهل العلم" [6].

قال ابن بطال رحمه الله: "واختلف العلماء في معنى قوله - عليه السلام -: (مُرْهُ فليراجعها)، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دَمَ النِّفاس بدم الحيض. قال مالك وأكثر أصحابه: يُجبَر على الرجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفى الطُّهر بعدها، وفى الحيضة بعد الطُّهر، وفى الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها، إلا أشهبَ، فإنه قال: يُجبَر على رجعتها في الحيضة الأولى خاصَّة، فإذا طَهُرت منها، لم يُجبَر على رجعتها. قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعيِّ، والشافعيِّ، وأحمدَ، وإسحاق، وأبى ثور: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك، وحملوا الأمر في ذلك على الندب ليقع الطلاق على سُنَّة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عِدَّتها أنه لا يُجبَر على رجعتها، فدلَّ على أن الأمر بمراجعتها نَدْب. وحُجَّة من قال: يُجبَر على رجعتها قوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، وأمرُه فَرْض، وأجمعوا أنه إذا طلَّقها في طُهر قد مسَّها فيه أنه لا يُجبَر على رجعتها، ولا يؤمَر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سُنَّته" [7].

قال ابن القيم رحمه الله: " أما قوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، فالمراجعة قد وقعت في كلام الله ورسوله على ثلاثة معان؛ أحدها: ابتداء النكاح؛

كقوله تعالى:

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ ۗ﴾

[البقرة: 230]

ولا خلاف بين أحد من أهل العلم بالقرآن أن المطلِّق هاهنا هو الزوج الثاني، وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك نكاح مبتدأ. وثانيهما: الردُّ الحسيُّ إلى الحالة التي كان عليها أوَّلًا؛ كقوله ﷺ لأبي النعمان بنِ بَشير لَمَّا نَحَل ابنه غلامًا خصَّه به دون ولده: «رُدَّهُ»، فهذا ردُّ ما لم تصحُّ فيه الهِبَة الجائرة التي سمَّاها رسول الله ﷺ جورًا، وأخبر أنها لا تَصلُح، وأنها خلاف العدل، ومن هذا قوله ﷺ لمن فرَّق بين جارية ووَلَدها في البيع، فنهاه عن ذلك، وردَّ البيع، وليس هذا الردُّ مستلزمًا لصحَّة البيع؛ فإنه بيعٌ باطل؛ بل هو ردُّ شيئين إلى حالة اجتماعهما كما كانا، وهكذا الأمر بمراجعة ابن عمرَ امرأتَه، ارتجاعٌ وردٌّ إلى حالة الاجتماع كما كانا قبل الطلاق، وليس في ذلك ما يقتضي وقوع الطلاق في الحيض البتَّةَ" [8].

قال أحمد شاكر رحمه الله: "ومما احتجَّ به مخالفونا أن زعموا أن قوله: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دليل على وقوع الطلاق في الحيض، وهو دليلٌ غير قائم؛ لأن المراجعة هنا المراد بها المعنى اللُّغويُّ للكلمة، وأما استعمالها في مراجعة المطلَّقة الرَّجعية، فإنما هو اصطلاح مستحدَث بعد عصر النبوَّة، ولم تُستعمَل بهذا المعنى في القرآن أصلاً؛ بل استُعمِل الردُّ والإمساك فقط:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]،

فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ

[الطلاق: ٢]،

﴿وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ﴾

[البقرة: 231].

وأما المراجَعة، فإنها استُعمِلت في القرآن في غير هذا المعنى الاصطلاحيِّ؛ استُعملت في المطلَّقة الطلقة الثالثةَ إذا تزوَّجت آخَرَ وطلَّقها، ثم تعود بنكاح جديد إلى زوجها الأول: 

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُۥ ۗ ﴾

[البقرة: 230]،

﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ﴾

[9].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقوله: (لعدّتهنّ)؛ أي: عند ابتداء شروعهنّ في العِدَّة، واللّام للتَّوقيت؛ كما يُقال: لَقِيته لِلَيْلةٍ بَقِيَت من الشّهر. قال مجاهد في

قوله تعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

قال ابن عبَّاس: "في قُبل عدَّتهنَّ" أخرجه الطّبريُّ بسند صحيح، ومن وجه آخَرَ أنّه قرأها كذلك، وكذا وقع عند مسلم من رواية أبي الزُّبير عن ابن عمر في آخر حديثه، قال ابن عمر: "وقرأ رسول الله ﷺ: {يا أيها النبيُّ إذا طلَّقْتم النساءَ، فطلِّقوهن في قُبُلِ عدَّتِهنَّ}"، ونُقلت هذه القراءة أيضًا عن أُبيٍّ وعثمان وجابر وعليِّ بن الحُسين وغيرهم... والمراد الأمر بحفظ ابتداء وقت العِدَّة؛ لئلّا يلتبس الأمر بطول العِدَّة فتتأذَّى بذلك المرأة" [10].

قال المازريُّ رحمه الله: "الطلاق في الحيض محرَّمٌ؛ ولكنه إن وَقَع، لَزِم" [11].

قال ابن عبدالبرِّ رحمه الله: "واختلف العلماء فيمن طلّق زوجته حائضًا، هل يُجبَر على رجعتها إن أبى ذلك؟ فقال مالك وأصحابه: يُجبَر على رجعتها إذا طلَّقها، وفي الحيض أو في دم النِّفاس حملوا الأمر وذلك على الوجوب، وقاسوا النِّفاس على الحيض. وقال الشّافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابُه، والثوريُّ، والأوزاعيُّ، وابن أبي ليلى، وأحمدُ بنُ حنبلٍ، وإسحاقُ، وابن شبرمة، وأبو ثور، والطّبريُّ: يؤمر برجعتها، ولا يُجبَر على ذلك. وقال داود: كلُّ من طلَّق امرأته حائضًا، واحدةً أو اثنتين، أُجبر على رجعتها، وإن طلَّقها نُفَساءَ، لم يُجبَر على رجعتها. قال أبو عمر: لم يختلفوا أنّها إذا انقضت عِدَّتها، لم يُجبَر على رجعتها، فدلَّ ذلك على أنّ الأمر بمراجعتها ندبٌ، والله أعلم. وقال مالك وأكثر أصحابه: يُجبَر المطلِّق في الحيض على الرَّجعة في الحيضة التي طلَّق فيها، وفي الطُّهر بعدها، وفي الحيضة بعد الطُّهر، وفي الطُّهر بعدها، ما لم تنقضِ عِدَّتها، إلّا أشهبَ بنَ عبد العزيز، قال: يُجبَر على الرّجعة في الحيضة الأولى، ما لم تَطهُر منها، فإذا صارت في حال يجوز له طلاقها فيه، لم يُجبَر على رجعتها، ولم يختلف مالك وأصحابه أنّه لا يطلِّقها في الطُّهر الأوَّل؛ لأنّه يمسُّها فيه، فإذا حاضت بعده ثمَّ طَهُرت، طلَّقها إن شاء. وأجمع العلماء أنّه إذا طلَّقها في طُهْر لم يمسَّها فيه، لم يُجبَر على رجعتها، ولم يؤمر بذلك، وإن كان طلاقه قد وقع على غير سُنَّة؛ وإنّما يُجبَر ويؤمر إذا طلَّقها حائضًا" [12].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "(فإن بدا): بالألف؛ أي: ظَهَر به (أن يطلِّقها فليطلِّقها طاهرًا قبل أن يمسَّها)؛ أي: يُجامعها، فيه إشارة إلى قوله تعالى جلَّ شأنه:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1].

(فتلك العِدَّة): المشار إليها عندنا حالة الحيض، وعند الشّافعيّة حالة الطُّهر، (الّتي أمر الله أن تطلَّق لها النّساء)، قيل: اللّام في (لها) بمعنى: (في)، فتكون حُجّةً لما ذهب إليه الشّافعيُّ من أنّ العِدَّة بالأطهار، إذ لو كانت بالحيض، يلزم أن يكون الطّلاق مأمورًا به فيه، وليس كذلك، وأُجيب بأنّا لا نسلِّم أنّ اللّام هنا بمعنى (في)؛ بل للعاقبة؛

كما في قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

وفي رواية: (مُرْهُ) الخِطَاب لعمر، والضّمير لابنه، (فليراجعها ثمّ ليطلّقها طاهرًا أو حاملًا): قال النّوويُّ: فيه دليل على أنّ الرّجعة لا تفتقر إلى رضا المرأة ولا وَلِيِّها، قلت: وجه الدّلالة خفيٌّ كما لا يخفى، والأظهر الاستدلال

بقوله تعالى:

﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِى ذَٰلِكَ﴾

[البقرة: 228]

قال الطِّيبيُّ: دلَّ على اجتماع الحيض والحبل، وقيل: الحامل إذا كانت حائضةً، حلَّ طلاقها؛ إذ لا تطويل للعِدَّة في حقِّها؛ لأنّ عِدَّتها بوضع الحمل. اهـ. وعندنا أنّ الحامل لا تحيض، وما رأته من الدّم فهو استحاضة، ثمّ اعلم أنّ الأحسن أن يطلِّق الرّجل امرأته تطليقةً واحدةً في طُهْر لم يجامعها فيه، ولا في الحيض الّذي قبله ولم يطلِّقها، والأحسن أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار، وقال مالك: هذه بدعة، ولا يُباح إلّا واحدة؛ فإنّ الأصل في الطّلاق هو الحظر، والإباحة لحاجة الخلاص وقد اندفعت" [13].

قال ابن حجر رحمه الله: "وقد قسَّم الفقهاء الطّلاق إلى سُنِّيٍّ وبِدْعيٍّ، وإلى قسم ثالث لا وصفَ له؛ فالأوَّل ما تقدَّم، والثّاني: أن يطلِّق في الحيض، أو في طُهْر جامعها فيه، ولم يتبيَّن أمرها، أحملت أم لا؟ ومنهم من أضاف له أن يزيد على طلقة، ومنهم من أضاف له الخلع، والثّالث: تطليق الصّغيرة والآيسة والحامل الّتي قربت ولادتها، وكذا إذا وقع السُّؤال منها في وجه، بشرط أن تكون عالمةً بالأمر، وكذا إذا وقع الخُلع بسؤالها، وقلنا: إنّه طلاق، ويُستثنى من تحريم طلاق الحائض صور، منها: ما لو كانت حاملًا ورأت الدَّمَ، وقلنا: الحامل تحيض، فلا يكون طلاقها بِدعيًّا، ولا سيَّما إن وقع بقُرب الولادة، ومنها إذا طلَّق الحاكم على الْمُولِي، واتَّفَق وقوع ذلك في الحيض، وكذا في صورة الحَكَمَين إذا تعيَّن ذلك طريقًا لرفع الشِّقاق، وكذلك الخُلع، والله أعلم" [14].

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "ويُستنبَط منه أحكام؛ الأول: أن طلاق السُّنَّة أن يكون في طُهر، وهذا باب اختلفوا فيه. فقال مالك: طلاق السُّنَّة أن يطلِّق الرجل امرأته في طُهْر لم يمسَّها فيه تطليقة واحدة، ثمّ يتركها حتّى تنقضيَ العِدَّة برؤية أول الدَّم من الحيضة الثالثة، وهو قول اللّيث والأوزاعيِّ، وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - هذا أحسن من الطّلاق، وله في قول آخر قال: إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها عند كلِّ طُهْر واحدةً من غير جِماع، وهو قول الثّوريِّ وأشهبَ، وزعم المرغينانيُّ: أن الطّلاق على ثلاثة أوجه عند أصحاب أبي حنيفة: حسن، وأحسنُ، وبِدْعيٌّ، فالحَسَن هو طلاق السُّنَّة، وهو أن يطلِّق المدخولَ بها ثلاثًا في ثلاثة أطهار، والأحسنُ أن يطلِّقها تطليقة واحدة في طُهْر لم يجامعها فيه، ويتركها حتّى تنقضيَ عِدَّتها، والبِدْعيُّ أن يطلِّقها ثلاثًا بكلمة واحدة، أو ثلاثًا في طُهْر واحد، فإذا فعل ذلك، وقع الطّلاق، وكان عاصيًا.

وقال عياض: اختلف العلماء في صفة الطّلاق السُّنِيِّ، فقال مالك وعامَّة أصحابه: هو أن يطلِّق الرجل امرأته تطليقة واحدة في طُهْر لم يمسَّها فيه، ثمّ يتركها حتّى تُكمل عِدَّتها، وبه قال اللّيث والأوزاعيُّ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا أحسن الطّلاق، وله قول آخَرُ: إنّه إن شاء أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها في كلِّ طُهْر مرَّةً، وكلاهما عند الكوفيِّين طلاق سُنَّة، وهو قول ابن مسعود، واختلف فيه قول أشهبَ، فقال مثله مرَّةً، وأجاز أيضا ارتجاعها، ثمّ يطلِّق، ثمّ يرتجع، ثمّ يطلِّق، فيتمُّ الثّلاث. وقال الشّافعيُّ وأحمد وأبو ثور: ليس في عدد الثّلاثة سُنَّة ولا بدعة؛ وإنّما ذلك في الوقت.

الثّاني: في قوله: (ليراجعها) دليل على أن الطّلاق غير البائن لا يحتاج إلى رضا المرأة.

الثّالث: فيه دليل على أن الرّجعة تصحُّ بالقول، ولا خلاف في ذلك، وأما الرّجعة بالفعل، فقد اختلفوا فيها. فقال عياض: وتصحُّ عندنا أيضًا بالفعل الحالِّ محلَّ القول الدالِّ في العبارة على الارتجاع؛ كالوطء والتقبيل واللمس، بشرط القصد إلى الارتجاع به، وأنكر الشّافعيُّ صحة الارتجاع بالفعل أصلًا، وأثبته أبو حنيفة، وإن وقع من غير قصد، وهو قول ابن وهب من أصحابنا في الواطئ من غير قصد.

والرّابع: استدلَّ به أبو حنيفة أن من طلَّق امرأته وهي حائض، فقد أَثِم، وينبغي له أن يُراجعها، فإن تركها تمضي في العِدَّة، بانت منه بطلاق.

الخامس: أن فيه الأمرَ بالمراجعة، فقال مالك: هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلَّق زوجته حائضًا أو نُفَساءَ، فإنّه يُجبَر على رجعتها، فسوَّى دم النّفاس بدم الحيض، وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى والشّافعيُّ والأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاق وأبو ثور: يؤمر بالرجعة ولا يُجبَر، وحملوا الأمر في ذلك على النّدب؛ ليَقَع الطّلاق على السُّنَّة، ولم يختلفوا في أنّها إذا انقضت عِدَّتها، لا يُجبَر على رجعتها، وأجمعوا على أنه إذا طلَّقها في طُهْر قد مسَّها فيه، لا يُجبَر على رجعتها، ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطّلاق على غير سُنَّة.

السّادس: أن الطّلاق في الحيض محرَّم؛ ولكنه إن أُوقِع لَزِم، وقال عياض: ذهب بعض النّاس ممّن شذَّ أنه لا يقع الطّلاق. فإن قلتَ: ما الحكمة في منع الطّلاق في الحيض؟ قلت: هذه عبادة غير معقولة المعنى، وقيل: بل هو مُعالٌّ بتطويل العِدَّة" [15].

قال ابن بطال رحمه الله: "واختلفوا في صفة طلاق السُّنَّة، فقال مالك: هو أن يطلِّق الرجل المرأة تطليقةً واحدة في طُهر لم يمسَّها فيه، ثم يَترُكها حتى تنقضيَ العِدَّة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث والأوزاعيِّ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا حَسَن في الطلاق، وله قول آخَرُ، قال: إذا أراد أن يطلِّقها ثلاثًا، طلَّقها عند كلِّ طُهْر واحدةً من غير جِماع، وهو قول الثوريِّ، وأشهبَ صاحبِ مالك. وقال: من طلَّق امرأته في طُهْر لم يمسَّها فيه طلقةً واحدة، ثم إذا حاضت وطَهُرت طلَّقها أخرى، ثم إذا حاضت وطَهُرت، طلَّقها ثالثة، فهو مطلِّق للسُّنَّة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سُنَّة، قالوا: لَمَّا كان الطلاق للسُّنَّة في طُهْر لم تمسَّ فيه، وكانت الزوجة الرجعية تلزمها ما أَردَفه من الطلاق في عِدَّتها بإجماع، كان له أن يوقِع في كُلِّ طُهْر لم تُمَسَّ فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلَّقة في طُهْر لم تمسَّ فيه، وقد رُوِي هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسُّنَّة. وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلِّقًا للسُّنَّة، وكيف يكون مطلِّقًا للسُّنَّة، والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السُّنَّة في العدَّة؟ ومن طلَّق كما قال مالك، شَهِد له الجميع بأنه طلَّق للسُّنَّة. وقال النَّخَعيُّ: بَلَغنا عن أصحاب رسول الله ﷺ أنهم كانوا يستحبُّون ألَّا يزيدوا في الطلاق على واحدة حتى تنقضيَ العِدَّة. وقال الشافعيُّ، وأحمد، وأبو ثور: ليس في عدد الطلاق سُنَّة ولا بدعة؛ وإنما السُّنَّة في وقت الطلاق، فمن طلَّق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا في طُهْر لم يمسَّها فيه، فهو مطلِّق للسُّنَّة، وحُجَّتهم

قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

ولم يخصَّ واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أَمر ابن عمر بالطلاق في القُرْء الثاني، ولم يخصَّ واحدة من غيرها. ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة، جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السُّنَّة وردت في الموضع الذى يُخشى فيه الحَمل أو تَطُول فيه العِدَّة، فإذا كان طُهْر لم يمسَّها فيه، أُمِن فيه الحمل، وجاز أن يوقِع ما شاء من الطلاق في ذلك الموضع، فيُقال لهم:

قوله تعالى:

﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾

[الطلاق: 1]،

المراد منه أن لا يطلِّق في الحَيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس في الآية والحديث ما يتضمَّن العدد، وكيف يوقع العدد؟ مأخوذ من دليل آخَرَ" [16].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وإذا عرفتَ أنّه مأمور منه ﷺ بالمراجعة، فهل الأمر للوجوب، فتجب الرّجعة أم لا؟ ذهب إلى الأوّل مالك، وهو رواية عن أحمد، وصحَّح صاحب الهداية من الحنفيّة وجوبها، وهو قول داود، ودليلُهم الأمر بها، قالوا: فإذا امتنع الرّجل منها، أدَّبه الحاكم، فإن أصرَّ على الامتناع، ارتجع الحاكم عنه، وذهب الجمهور إلى أنّها مستحبَّة فقط، قالوا: لأنّ ابتداء النّكاح لا يجب، فاستدامته كذلك، فكان القياس قرينةً على أنّ الأمر للنَّدب، وأُجيب بأنّ الطّلاق لَمَّا كان محرَّمًا في الحيض، كان استدامة النّكاح فيه واجبةً، وفي قوله: (حتّى تطهر ثمّ تحيض ثمّ تطهر) دليل على أنّه لا يطلِّق إلّا في الطُّهر الثّاني دون الأوّل، وقد ذهب إلى تحريم الطّلاق فيه مالك، وهو الأصحُّ عند الشّافعيّة، وذهب أبو حنيفة إلى أنّ الانتظار إلى الطُّهر الثّاني مندوب، وكذا عن أحمد مستدلِّين بقوله: (وفي رواية لمسلم)؛ أي: عن ابن عمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثمّ ليطلّقها طاهرًا أو حاملًا» فأطلق الطُّهر، ولأنّ التّحريم إنّما كان لأجل الحيض، فإذا زال، زال موجب التّحريم، فجاز طلاقها في هذا الطُّهر كما جاز في الذي بعده، وكما يجوز في الطُّهر الّذي لم يتقدَّمْه طلاق في حيضة، ولا يخفى قُرب ما قالوه. وفي قوله: (قبل أن يمسَّ) دليل على أنّه إذا طلَّق في الطُّهر بعد المسِّ، فإنّه طلاق بِدْعيٌّ محرَّم، وبه صرَّح الجمهور، وقال بعض المالكيّة: إنّه يُجبَر على الرّجعة فيه كما إذا طلَّق وهي حائض" [17]. 

قال الشوكانيُّ رحمه الله: "واتَّفقوا على أنّه لو طلَّق قبل الدُّخول وهي حائض، لم يؤمَر بالمراجعة إلّا ما نُقِل عن زُفَر، وحكى ابن بطَّال وغيره الاتِّفاق إذا انقضت العِدَّة أنّه لا رجعة، والاتّفاق أيضًا على أنّه إذا طلَّقها في طُهْر قد مسَّها فيه، لم يؤمَرْ بالمراجعة، وتعقَّب الحافظ ذلك بثبوت الخلاف فيه؛ كما حكاه الحنَّاطيُّ من الشّافعية وجهًا" [18].


المراجع

1. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346).

2.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

3. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244).

4. "شرح النووي على مسلم" (10/ 62).

5. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 377 - 379).

6. "الاستذكار" لابن عبدالبر (6/ 141، 142).

7. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 380، 381).

8. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 208).

9. "نظام الطلاق في الإسلام" لأحمد شاكر (ص 23).

10. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346)

11. "المعلم بفوائد مسلم" للمازريِّ (2/ 183).

12. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

13. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 2134).

14. "فتح الباري" لابن حجر (9/ 346، 347).

15. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العيني (19/ 244، 245).

16. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 381، 382).

17. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 249).

18. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (6/ 264).





المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ   قال: «لتَتَّبِعُنَّ سنَنَ مَن قَبْلَكم»؛ أي: ستتَّبِعون طريقةَ الَّذين كَانُوا قبلَكُمْ التي ابْتَدَعُوهَا من تِلْقَاءِ أنفسهم بعد أنبيائهم، من التغيير في دينهم. «شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراعٍ»: حال كون الاتِّباع شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وهو كناية عن شدَّة الموافقة لهم في المخالفات والمعاصي لا الكفر. «حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلكْتموه»: تأكيد على المبالغة في اتباعهم، فمهما بلغوا إلى غاية، فستتَّبِعونهم لتَبلُغوها.

قال أبو سعيد: (قلنا: يا رسولَ الله، اليهود والنصارى؟)؛ أي: أَهُمُ اليهودُ والنصارى؟ أو: أتعني اليهودَ والنصارى؟ قال ﷺ : «فمَن؟!»: استفهام استنكاريٌّ؛ أي: فمن غير أولئك؟! يعني ليس المرادَ غيرُهم.

الشرح المفصَّل للحديث:

هذا الحديثُ فيه مُعجزةٌ من معجزات النبيِّ ، وهي إخبارُه بما سيكون في أُمَّته من الأمور الغَيبية، فأخبر أن المسلمين سيَصيرون إلى اتِّباع غيرهم في المعاصي والمخالَفات، وقد حصل ذلك بعده، فمال أكثرُ الناس إلى الحِيَل، وإلى أكْل الربا، وعبادة الصالحين، والتشبُّه بهم في ملابسهم وشعارهم، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأغنياء، وغير ذلك[1]

وإخبار النبيِّ ﷺ  بهذا الأمر ليس إقرارًا منه له؛ بل قد حذَّر النبيُّ ، ونهى عن اتِّباع اليهود والنصارى في كلِّ المعاملات[2]

لذا؛ كان الدعاء بالهداية للصراط المستقيم؛

كما قال الله تعالى:

﴿ اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)   

[الفاتحة: 6-7].

والمغضوب عليهم: اليهود، والضالون: النصارى.

وقوله: «لتتبِعُنَّ سَنَن مَن كان قبلَكم شِبرًا بشِبر، وذراعًا بذراعٍ» تمثيلٌ للاقتداء بهم في كل الأمور التي نهى عنها الشرع وحذَّر منها، وبيان أن هذه الأمّة يطرأ عليها من الابتداع والاختلاف مثلُ الذي كان وقَع على السابقين[3]. وقد أخرج الترمذيُّ عن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله ﷺ: «ليأتينَّ على أُمتي ما أتى على بني إسرائيل حذْوَ النَّعل بالنعل، حتى إن كان منهم مَن أَتَى أُمَّه علانيةً، لكان في أُمتي مَن يصنع ذلك»

[4].

والمراد من ذلك هو بيان شدَّة موافقتهم في المعاصي والمخالَفات، لا في الشرك والكفر بالله[5].

وهذا الإخبارُ منه ﷺ  ليس على ظاهره؛ بل هو عامٌّ مخصوصٌ؛ فإنه ليس كلُّ المسلمين يتَّبِعون مَن كان قبلَهم، ففيهم المتمسِّكون، والعلماءُ، وأهل الدين والتقوى؛ وإنما المراد: يكون فيكم اتِّباع لِمَن كان قبلَكم[6].

وقوله: «حتى لو سلكوا جُحْرَ ضَبٍّ لسلكتموه» تمثيلٌ وبيانٌ لمطلق الاقتداء بهم في كل أمر، وإنما اختار الضبَّ لضِيقه ورداءته، وخُبث رائحته؛ يريد أنهم لشدة اقتفائهم آثارَ مَن قبلهم لو دخلوا مكانًا ضيقًا رديئًا لدخلوه[7].

وقوله: «اليهود والنصارى؟!» فيه استنكارُ ذلك من الصحابة؛ فإنهم استعظموا أن يكون فيهم اتباعُ اليهود والنصارى؛ كأنهم قالوا: أنتَّبِعُ اليهود والنصارى على ضلالهم وغيِّهم بعد أن جاءنا النبي ﷺ بالهدى؟![8].

المراجع

  1.  انظر: "فيض القدير" للمناوي (5/ 261)، "تحفة الأحوذي" للمباركفوري (6/ 340).
  2.  انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 494).
  3.  انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 163)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 694).
  4.  رواه الترمذيُّ (2641)، وحسَّنه الألبانيُّ في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (3/ 334).
  5.  انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 43)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (5/ 421).
  6.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" (1/ 464).
  7.  انظر: "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 44)، "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلاني (5/ 422).
  8.  انظر: "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 469).

النقول

قال المناويُّ رحمه الله : "هذا لفظُ خبرٍ معناه النهيُ عن اتِّباعهم، ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام؛ لأن نوره قد بهر الأنوار، وشِرْعتَه نسخت الشرائع، وذا من معجزاته؛ فقد اتَّبَع كثير من أمَّته سنن فارس في شِيَمهم ومراكبهم وملابسهم، وإقامة شعارهم في الحروب، وغيرها، وأهل الكتابين في زخرفة المساجد، وتعظيم القبور، حتى كاد أن يعبدها العوامُّ، وقبول الرِّشا، وإقامة الحدود على الضعفاء دون الأقوياء، وترك العمل يوم الجمعة، والتسليم بالأصابع، وعدم عيادة المريض يوم السبت، والسرور بخميس البيض، وأن الحائض لا تمسُّ عجينًا، إلى غير ذلك مما هو أشنعُ وأبشع. «حتى لو أن أحدهم دخل جحر ضبٍّ لدخلتم»: مبالغةً في الاتِّباع، فإذا اقتصروا في الذي ابتدعوه فستقتصرون، وإن بسطوا فستبسطوا، حتى لو بلغوا إلى غاية لبلغتموها"[1]

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» ليس على ظاهره؛ بل هو عامٌّ مخصوص؛ لأننا لو أخذنا بظاهره، كانت جميع هذه الأمَّة تتَّبِع سنن من كان قبلها؛ لكننا نقول: إنه عامٌّ مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتَّبِع تلك السنن؛ كما أخبر النبيُّ لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحقِّ، وقد يُقال: إن الحديث على عمومه، وأنه لا يلزم أن تتَّبِع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سُننها؛ بل بعض الأمة يتَّبِعها في شيء، وبعض الأمة يتَّبِعها في شيء آخَرَ، وحينئذ لا يقتضي خروجَ هذه الأمة من الإسلام، وهذا أَوْلى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طُرق مَن كان قبلنا ما لا يُخرج من اْلِمَّلة؛ مثل: أكل الربا، والحسد، والبغيِ، والكذب، ومنه ما يُخرِج من الْمِلَّة؛ كعبادة الأوثان"[2]

قال ابن بطَّال رحمه الله: "قال المهلب: قوله: «لتتبِعُنَّ سنن من كان قبلكم» بفتح السين هو أَوْلى من ضمِّها؛ لأنه لا يُستعمَل الشِّبر والذراع إلا في السَّنن، وهو الطريق؛ فأخبر  أن أمَّته قبل قيام الساعة يتَّبِعون المحدَثاتِ من الأمور، والبِدَع والأهواء الْمُضِلَّة، كما اتَّبَعْتَها الأمم من فارس والروم حتى يتغيَّر الدين عند كثير من الناس، وقد أنذر  في كثير من حديثه أن الآخر شرٌّ، وأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، وأن الدين إنما يبقى قائمًا عند خاصَّةِ من المسلمين لا يخافون العَدَاواتِ، ويحتسبون أنفسهم على الله في القول بالحقِّ، والقيام بالمنهج القويم في دين الله"[3]

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "قولُه: «سنن من قبلكم»: السُّنن جمع سُنَّة، وهي الطريقة حسنةً كانت أو سيِّئةً، والمراد بها ها هنا طريقةُ أهل الأهواء والبِدَع التي ابتدعوها من تلقاء أنفسهم بعد أنبيائهم، من تغيير دينهم، وتحريف كتابهم، كما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النَّعل بالنعل. وقوله: «شبرًا بشبر»: حال مثل (يدًا بيد). قوله: «اليهود والنصارى»؛ أي: أتعني من نتَّبِعهم اليهود والنصارى؟ فأجاب: «فمن؟!»؛ أي: إن لم أُرِدْهم، فمن سواهم؟!"[4]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «لتتبعن» بِضَمِّ العَين وَتَشْديد النُّون. قوله: «سنَن من قبلكُمْ»؛ أَي: طَرِيق الَّذين كَانُوا قبلكُمْ، والسَّنَن بِفَتْح السِّين: السَّبِيل والْمِنهاج، وَقَالَ الْكِرْمَانِيُّ: ويُروى بِالضَّمِّ. قَوْله: «شبْرًا بشبر» نُصِبَ بِنَزْع الْخَافِض، تَقْدِيرُه: لتتبعن سنَن مَن قبلَكم اتِّبًاعًا بشبر مُلتبِس بشبر، وذراع مُلتبِس بِذِرَاع، وهذا كِنَايَةٌ عن شدَّة الْمُوَافقَة لهم في المخالفات والمعاصي، لا في الكفر، وكذلك قوله: «لو سلكوا جُحر ضَبٍّ» بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء، والضبُّ: دُوَيْبةٌ تشبه الوَرَن تَأْكُله الْأَعْرَاب، وَالْأُنْثَى ضبَّة، وَتقول الْعَرَب: هُوَ قَاضِي الطَّير والبهائم، يقولون: اجتمعت إليه أوَّل ما خلق الله الإنسان فوصفته له، فقال الضَّبُّ: تَصِفِينَ خَلْقًا يُنزل الطير من السَّمَاء، ويُخرج الْحُوت من الماء، فَمن كَانَ له جنَاح، فليَطِرْ، ومن كان ذا مخلب فليحتفر، ووجهُ التَّخْصِيص بجُحر الضَّبِّ، لشدَّة ضِيقِه ورداءته، وَمَعَ ذَلِك فَإِنَّهُم لاقتفائهم آثَارَهم واتِّباعِهم طرائقَهم لَو دخلُوا فِي مثل هَذَا الضِّيق الرَّدِيء لوافقوهم. قَوْله: «الْيَهُود»؛ يَعْنِي: قَالُوا: يَا رَسُول الله، هم الْيَهُود وَالنَّصَارَى؟ قَوْله: قَالَ: «فَمن؟!»؛ أَي: قَالَ رَسُول الله : فَمن غَيرهم؟! وَهَذَا اسْتِفْهَام على وَجه الْإِنْكَار؛ أَي: لَيْسَ الْمُرَاد غَيرهم"[5]

قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّ الكتاب والسُّنَّة قد دَلَّا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسِّكة بالحقِّ إلى قيام الساعة([6]، وأنَّ الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم فيه بطاعته[7]، وأنهم لا يجتمعون على ضلالة[8]؛  ففي التحذير من التقليد وركوب السَّنن تكثيرٌ لهذه الطائفة الظاهرة المنصورة، وتثبيتٌ لها، وتقويةٌ لإيمانها. ثمَّ لو قُدِّر أنَّ أحدًا لا يترك التشبُّه بهم، والدخول في أهوائهم، لكان في هذا التحذير إيمانٌ بما جاء به الصَّادق الْمَصْدوق صلوات الله وسلامه عليه.

ألا ترى إلى ما يرويه مسلم من قوله: «من رأى منكم منكرًا، فَلْيغيِّره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان»[9]، وفي لفظ: «ليس وراءَ ذلك من الإيمان حبَّة خردل»[10]، والإيمان بما كرهه اللهُ خيرٌ، وإن لم يقترن بالعمل.

ومن هنا كان حقًّا على العالِم بالمنكَر أن يُنكره، ولو تورَّط فيه وابتُليَ به، على أنَّ العالم بالذنب قد يستغفر الله، ولو أصرَّ على ما فعل، أو يأتي بحَسَنات تمحوه، أو تُخَفِّفه، أو تُضْعف همَّته في طلبه.

وكم بين العالم والجاهل من دَرَجات وفَضْل، والحمدُ لله إذ منَّ على هذه الأمة بأنها مهما اختلفت وتخاذلت، فلا يزال طائفةٌ منها ظاهرين على الحق لا يضرُّهم مَنْ خالفهم حتى يأتيَ أمر الله"[11]

قال ابن خلدون رحمه الله: "في أن المغلوب مُولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزِيِّه ونِحْلَتِه وسائر أحواله وعوائده: والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال فيمن غَلَبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وَقَر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعيٍّ؛ إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتَّصل لها، حصل اعتقادًا، فانتحلت جميع مذاهب الغالب، وتشبَّهت به، وذلك هو الاقتداء... ولذلك ترى المغلوبَ يتشبَّه أبدًا بالغالب، في مَلْبَسِهِ، ومركبه وسلاحه، في اتِّخاذها وأشكالها؛ بل في سائر أحواله، وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم مُتشبِّهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم" [12]

 

المراجع

  1. "فيض القدير" للمناوي (5/ 261).
  2.  "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين (1/ 464).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 366).
  4.  "شرح المشكاة للطِّيبيِّ الكاشف عن حقائق السنن" (11/ 3390).
  5.  "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (16/ 43، 44).
  6.  رواه البخاريُّ (3640)، ومسلم (1037): عن جابر بن عبدالله قال: سمعتُ رسول الله r يقول: «لا تزال طائفة مِن أمتي يقاتلون على الحقِّ ظاهرين إلى يوم القيامة».
  7.  روى أحمد (17787)، والبخاريُّ في "التاريخ الكبير" (9/61)، وحسَّنه الألبانيُّ في صحيح الجامع (7692): عن أبي عِنَبةَ الخَوْلانِّي قال: سمعتُ النبيَّ r يقول: «لا يزال الله يغرس في هذا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيهِ بِطَاعَتِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
  8.  روى أحمد في "المسند" (27224)، والترمذيُّ (2167)، وصحَّحه الألباتيُّ دون «ومن شذ»: عن ابن عمرَ أن رسول الله r قال: «إن الله لا يجمع أمتي - أو قال: أمة محمد r - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار».
  9.  رواه مسلم (49).
  10.  رواه مسلم (50).
  11.  انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/171 – 172).
  12.  "مقدمة ابن خلدون" (ص137).

غريب الحديث

السَّنَن: الطريق، ورُوِي: «سُنَن» جمع سُنَّة، بمعنى الطريقة  [1]

الضَّبُّ: حيوانٌ معروفٌ يُشبه الوَرَل، ولا يشرَب الماء، ويَعيش حوالَيْ سَبعِمِائة سنةٍ، ويَبُول كل أربعين يومًا قطرةً واحدةً  [2]  

المراجع

  1.  قال القاضي عياض في "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" (2/ 223): «بفتح السين والنون رُويناه هنا؛ أي: طريقهم، وسَنَنُ الطريقِ: نَهْجُه، ويقال: سُنَنُ؛ بضمِّهما، وسَنُنُه؛ بفتح السين وضمِّ النون، وكأن هذا جمع سُنَّة، وهي الطريقة أيضًا». 
  2.  انظر: "حياة الحيوان الكبرى" للدميريِّ (2/ 107)