اﻷحاديث
(لَقِيَ نَافِعُ بْنُ عَبْدِ الْحَارِثِ عُمَرَ رضي لله عنه بِعُسْفَانَ)، وهي مدينة تَبعُد عن مكَّةَ بثمانين كيلو متر. (وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ)؛ أي: جعله أميرًا عليها. فقال له عمرُ: (مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟)؛ أي: سأله: مَن استخلفتَ على أهل مكَّةَ؟ فأجابه نافعٌ: (ابْنَ أَبْزَى)؛ أي: استعملتُ ابنَ أَبْزَى، وهو: عبدُ الرحمن بنُ أَبْزَى، مولى نافعِ بنِ عبد الحارث رضي الله عنه. (مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا)؛ أي: كان عبدًا لنا وأعتقناه.
قَالَ عمرُ منكِرًا ذلك: (فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟!): استفهام إنكاريٌّ من عمر أن يستخلف مولى على مكَّةَ، والإمارةُ تتطلَّب رجلاً مُهابًا، له عظمةٌ وشرفٌ في قلوب العامَّة حتى يحترموه، ولا يستخِفُّوا به. قال نافع: (إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ): بيَّن نافعٌ رضي الله عنه سببَ توليته عليهم بأنه عالمٌ بالقرآن، وعاملٌ به، وأضاف إلى ذلك سببًا آخر فقال: (وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ)؛ أي: بقسمة المواريث على كتاب اللَّه. قال عمرُ: (إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا)؛ أي: يُعِزُّ ويرفع ويشرِّف، ويكرِّم في الدنيا والآخرة أقوامًا لحفظهم لكتاب الله، والعمل به، وتعليمه للناس. (وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)؛ أي: يُحقِّرهم، ويُصغِّر قدرهم في الدنيا والآخرة؛ بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدودَه، وجهلهم بما فيه، وهم الذين لم يؤمنوا به، أو آمنوا ولم يعملوا به.
(عَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ) رضي الله عنه وهو صحابيٌّ جليل، (أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ) رضي الله عنه وهو صحابيٌّ آخَرُ، وكان عاملًا لعمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه على مكَّةَ (لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ) وهي مدينة تَبعُد عن مكَّةَ بثمانين كيلو متر،
(وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ)؛ أي: جعله أميرًا عليها، (فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي؟)؛ أي: سأله: مَن استخلفتَ على أهل مكَّةَ؟
فأجاب بقوله: (ابْنَ أَبْزَى)؛ أي: استعملتُ ابنَ أَبْزَى، وهو: عبدُ الرحمن بنُ أَبْزَى، مولى نافعِ بنِ عبد الحارثرضي الله عنه، فاستفسر عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه عن الرجل،
فقال: (وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟) فأجاب نافعُ عمرَ بنَ الخطَّاب بقوله: (مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا) والموالي: جمع مولًى، يُطلق على الْمُعْتِق والمعتَق،
(قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟!) والاستفهام للإنكار، وليس إنكارُ عمرَ رضي الله عنه تَوْلِيَتَه عليهم؛ استخفافًا به، واحتقارًا له؛ وإنما أَنكَر فَوَاتَ غَرَضِ التَّوْلِية،
وذلك أن المقصود من التولية ضبطُ أمور الناس، وسياستُهم، وهذا يَحتاج أن يكون الْمُوَلَّى عليهم رجلًا مُهابًا،
له عظمةٌ وشرفٌ في قلوب العامَّة، وذلك أن يكون حرًّا نسيبًا ذا وَجاهة، وإلا استخفُّوا به، ولم يُطيعوه، فيَفُوت بذلك غرضُ الولاية،
وبيَّن نافع رضي الله عنه سببَ توليته عليهم فقال: (إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ)؛ أي: عالمٌ بالقرآن، وعاملٌ به، وأضاف إلى ذلك سببًا آخر
فقال: (وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ)؛ أي: بقسمة المواريث على كتاب اللَّه، زاد في رواية النسائيِّ: "قاضٍ"؛ أي: عالمٌ بالقضاء بين الناس بالعدل،
والمعنى: أن هذا الأميرَ رفعه اللَّه تعالى عليهم بهذه الأمور، وهم يَعرِفون منه ذلك، فيَحترمونه، ويُعظِّمونه، ويُطيعون أمره، فتستقيم أمورهم، وتستقرُّ أحوالهم [1]
"وفيه من الفقه: جوازُ أن يولَّى الْمَوْلى على الأحرار إذا كان ممن قرأ القرآن، وعَرَف الفرائض" [2]؛ ولذلك قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه مستحسنًا فعل نافع،
وأنه قد ولَّى عليهم مَن يستحقُّ الولاية: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ ﷺ قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا»؛ أي: يشرِّف، ويكرِّم في الدنيا والآخرة أقوامًا،
بأن يُحييَهم حياةً طيِّبةً في الدنيا؛ كما قال عزَّ وجلَّ:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
النحل :[97]
ويجعلهم في الآخرة
﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾
النساء [69]
ويَرفَع درجاتِهم؛ بسبب الإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل بما فيه.
قوله: «وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ»؛ أي: يُحقِّرهم، ويُصغِّر قدرهم في الدنيا والآخرة؛ بسبب إعراضهم عنه، وعدم عنايتهم به، وتضييعهم حدودَه،
وجهلهم بما فيه، وهم الذين لم يؤمنوا به، أو آمنوا ولم يعملوا به؛ كما قال تعالى
﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾
البقرة [26][3]
فكما أن الله عزَّ وجلَّ يرفع بحفظ هذا الكتاب والعمل به أقوامًا، فكذلك يَخفِض به آخرين أضاعوه ولم يعملوا به؛ فإنه "لم يُجالس هذا القرآنَ أحدٌ إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان" [4].
المراجع
- "البحر المحيط الثجاج" لمحمد بن عليٍّ الإثيوبيِّ (16/ 458).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (1/ 218).
- "البحر المحيط الثجاج" لمحمد بن عليٍّ الإثيوبيِّ (16/ 459).
- "أخلاق حملة القرآن" للآجرِّيِّ (ص : 73).
قال المباركفوري رحمه الله : "المعنى: إن هذا الأمير رَفَعه الله عزَّ وجلَّ على هؤلاء المؤمَّر عليهم. وقال بعضهم: إن الله سبحانه وتعالى يرفع من عَمِل بالعلم، ويَضَع من لم يَعمَل به، والعلم من حيث إنه علمٌ لا يَضَع [1].
قال ابن عثيمين رحمه الله : "معناه أن هذا القرآنَ يأخذه أناس يتلونه ويقرؤونه؛ فمنهم من يرفعه الله به في الدنيا والآخرة، ومنهم من يضعهم الله به في الدنيا والآخرة، فمن هذا ومن هذا من عمل بهذا القرآن تصديقًا بأخباره، وتنفيذًا لأوامره، واجتنابًا لنواهيه، واهتداءً بهَدْيه، وتخلُّقًا بما جاء به من أخلاق، وكلُّها أخلاق فاضلة؛ فإن الله تعالى يَرفَعه به في الدنيا والآخرة؛ وذلك لأن هذا القرآن هو أصلُ العلم، ومَنبَع العلم، وكلُّ العلم، وقد قال الله تعالى:
﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾
[ المجادلة: 11]
أما في الآخرة فيَرفَع الله به أقوامًا في جنات النعيم، ويُقال للقارئ: اقرأ ورتِّل واصعد، وله إلى منتهى قراءته صعود في الجنة إن شاء الله، وأما الذين يَضَعُهم الله به، فقوم يقرؤونه ويُحسنون قراءته؛ لكنهم يستكبرون عنه، لا يصدِّقون بأخباره، ولا يعملون بأحكامه، يستكبرون عنه عملاً، ويجحدونه خبرًا، إذا جاءهم شيءٌ من القرآن كقصص الأنبياء السابقين أو غيرهم، أو عن اليوم الآخر، أو ما أشبه ذلك، صاروا يشكِّكون في ذلك ولا يؤمنون؛ بل في قلوبهم مرض، مرتابون، وربما يصل بهم الحال إلى الجحد مع أنهم يقرؤون القرآن، وفي الأحكام يستكبرون، لا يأتمرون بأمره، ولا ينتهون بنَهيِه، هؤلاء يَضَعهم الله في الدنيا والآخرة، ولابد أن يكون أمرُهم خَسارًا، حتى لو فُرض أن الدنيا دانت لهم وتَزخرَفت، فإن مآلهم إلى الخسار؛ ولكن ربما يُمهِل لهم ويُملي لهم، وتنفتح عليهم الدنيا؛ ولكنهم كلَّما انفتح عليهم شيء من زهرة الدنيا، فإنهم لا يزدادون به إلا خَسارًا،
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ﴾
الأحقاف [20]
يعني: ربما يمهِل الله سبحانه وتعالى للكافر الجاحد المستكبِر، وتَزْدان له الدنيا؛ لكنه لا يَزيده ذلك إلا خسارًا؛ وإنما في الآخرة، فالحَذَرَ الحذرَ أن تكون من القسم الثاني، يضعهم الله بهذا القرآن، كن من القسم الأول الذين يرفعهم الله بالقرآن، جعلنا الله وإياكم منهم" [2].
قال المباركفوري رحمه الله : قوله: «إن الله يرفع بهذا الكتاب»؛ أي: بالإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل به، والمراد بالكتاب القرآنُ البالغ في الشَّرف وظهور البرهان مَبلَغًا، لم يَبلُغه غيرُه من الكتب المنزَّلة على الرُّسُل المتقدِّمة. قال الطِّيبيُّ: أَطلَق الكتاب على القرآن ليُثبِتَ له الكمال؛ لأن اسم الجنس إذا أُطلق على فَرد من أفراده، يكون محمولاً على كماله. وبلوغُه إلى حدٍّ هو الجنس كلُّه؛ كأن غيره ليس منه. «أقوامًا»؛ أي: درجة أقوام، ويُكرمهم في الدارين بأن يُحييَهم حياة طيِّبة في الدنيا، ويَجعَلهم من الذين أنعم الله عليهم في العُقبى. «ويضع»؛ أي: يذلُّ «به»؛ أي: بالإعراض عنه، وترك العمل بمقتضاه. «آخرين»: وهم من لم يؤمن به، أو من آمن به ولم يعمل به؛ قال تعالى:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾
البقرة ﴿١٢٦﴾
وقال:
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾
[ الإسراء: 82]
قال الطِّيبيُّ: فمن قرأه وعَمِل بمقتضاه مخلصًا، رَفَعه الله، ومن قرأه مرائيًا غيرَ عامل به، وَضَعه الله أسفل السافلين" [3].
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ»؛ أي: بالإيمان به، وتعظيم شأنه، والعمل به، والمرادُ بالكتاب: القرآن البالغ في الشَّرف، وظهور البرهان مبلغًا لم يبلغه غيره من الكتب المنزَّلة على الرُّسل المتقدِّمة. «أقوامًا»؛ أي: درجة جماعات كثيرة في الدّنيا والآخرة بأن يُحييَهم حياةً طيّبةً في الدّنيا، ويجعلهم من الّذين أنعم اللّه عليهم في العقبى. «ويضع به آخرين»؛ أي: الّذين كانوا على خلاف ذلك من مراتب الكاملين إلى أسفل السّافلين؛
قال تعالى:
﴿يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرًا وَيَهْدِى بِهِۦ كَثِيرًا﴾
[البقرة: 26]
فهو ماء للمحبوبين دماء للمحجوبين، وقال - عزّ وجلّ -:
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾
[ الإسراء: 82] [4].
قال ابن القيم رحمه الله : "قَالَ أبو الْعَالِيَة: كنتُ آتِي ابْن عَبَّاس وَهُوَ على سَرِيره وَحَوله قُرَيْشٌ، فَيَأْخُذ بيَدي فيُجلسني مَعَه على السرير، فتغامز بِي قُرَيْش، فَفَطِن لَهُم ابْن عَبَّاس، فَقَالَ: كَذَا هَذَا الْعلم، يَزِيد الشريف شرفًا، وَيُجْلس الْمَمْلُوك على الأَسِرَّة" [5].
قال ابن هُبيرة رحمه الله : "وفيه من الفقه: جوازُ أن يولَّى الْمَوْلى على الأحرار إذا كان ممن قرأ القرآن، وعَرَف الفرائض" [6].
قال قتادة رحمه الله : "لم يُجالس هذا القرآنَ أحدٌ إلَّا قام عنه بزيادة أو نقصان" [7].
قال النوويُّ رحمه الله : "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ:
«وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»، فمعناه ظَاهِرٌ؛ أي: تَنْتَفِعُ به إن تَلَوْتَهُ وَعَمِلْتَ به، وإلَّا فهو حُجَّةٌ عليك"
[8]
قال القرطبيُّ رحمه الله : "قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ" [9].
قال ابن عثيمين رحمه الله : "قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «والقرآن حجَّة لك أو عليك»؛ لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجَّة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلت به إلى الله، وقُمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه؛ ففي هذه الحال يكون حجَّةً لك. أما إن كان الأمر بالعكس، أَهنْتَ القرآن، وهجرتَه لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقم بواجبه، فإنه يكون شاهدًا عليك يوم القيامة " [10].
المراجع
- "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (7/ 180).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (4/ 646، 647).
- "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمباركفوري (7/ 179، 180).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (4/ 1457).
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 164).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" ليحيى بن هُبيرة (1/ 218).
- "أخلاق حملة القرآن" للآجرِّيِّ (ص : 73).
- شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191، 192).
بيع الحَصَاة: هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نَبَذْتُ إليك الحَصَاة، فقد وَجَب البيع، وقيل: هو أن يقول: بعتُكَ من السِّلَع ما تَقَعُ عليه حصاتُكَ إذا رَمَيْتَ بها، أو بِعْتُكَ من الأرض إلى حيث تنتهي حَصَاتُكَ، والكلُّ فاسد؛ لأنه من بيوع الجاهلية، وكلُّها غَرَرٌ؛ لما فيها من الجهالة [1].
بيع الْغَرَر: هو الجَهْلُ بالْمَبْيعِ، أو ثَمَنِه، أو سلامتِه، أو أَجَلِه، وقيل: هو ما كان له ظاهرٌ يَغُرُّ المشتريَ، وباطنٌ مجهول[2].
المراجع
1. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 355).
2. "مشارق الأنوار على صحاح الآثار" للقاضي عياض (2/ 131)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 355).
قال أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ»: وهو بيعٌ من بيوع أهل الجاهلية، كان متداوَلاً بينهم، حيث يرمون بالحصاة على الْمَبيع ويجعلونه عَقْدًا، ونهى عنه النبيُّ
ﷺ؛ نظرًا لأن صُورَه كلَّها فاسدةٌ؛ لما تضمَّنته من الخَطَر، والجَهْل، وأَكْلِ الْمَال بالباطل.
«وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»: حرَّم النبيُّ ﷺ بيع الغَرَر؛ بسبب ما فيه من جَهَالة كبيرة، أو خِداع،
وكلُّ بَيْعٍ كان المقصود منه مجهولًا غيرَ معلوم، ومعجوزًا عنه غيرَ مقدور عليه، فهو غَرَر.
الشرح المفصَّل للحديث:هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ في البيوع، فالبيعُ والشراء من المعامَلات الأساسية التي يحتاجها الناس في دنياهم، ولا تستقيم حياتهم إلا بها، والأصلُ في البَيع الإباحة، إلا ما وَرَد فيه دليلٌ على الحُرمة؛
قال تعالى:
﴿وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا ۚ﴾
[البقرة: 275]
فالإسلام دينٌ يحرص على حفظ أموال الناس، وعدم ضياعها، وتحريم كلِّ بيع من شأنِه أن يُحدِث ضررًا بالغًا بالبائع، أو المشتري. لذا؛ حرَّم الله تعالى كلَّ بيع فيه أكلٌ لأموال الناس بالباطل؛
قال تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَأْكُلُوٓا أَمْوَٰلَكُم بَيْنَكُم بِٱلْبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍۢ مِّنكُمْ ۚ﴾
[النساء: 29]
ومن بين هذه البيوع المحرَّمة التي فيها أكلٌ للأموال بالباطل: بيعُ الحَصَاة، وبيعُ الغَرَر؛ لما فيهما من المفاسد والأضرار؛ فيقول أبو هريرة رضي الله عنه: «نَهَى رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْحَصَاةِ»؛ أي: جَعَل النبيُّ ﷺ هذا البيعَ – بيع الحصاة - محرَّمًا، وهو بيعٌ من بيوع أهل الجاهلية، حيث كانوا يتداوَلُونه بينهم، وجاء الإسلام فحرَّمه؛ نظرًا لخَطَره، وجَهَالته، وقد اختُلِف في المعنى المرادِ منه؛ فـ"اختُلف فيه على أقوال؛ أوَّلها: أن يَبيعَه من أرضه قَدْرَ ما انتهت إليه رَمْيَةُ الحصاة، وثانيها: أيُّ ثوبٍ وَقَعت عليه الحصاة، فهو الْمَبِيع، وثالثها: أن يَقبِض على الحَصَى، فيقول: ما خَرَج كان لي بعدَدِه دراهمُ، أو دنانيرُ، ورابعها: أيُّ زمن وَقَعت الحصاة من يده وجب البيع، فهذا إيقافُ لزومٍ على زَمَنٍ مجهول، وهذه كلُّها فاسدةٌ؛ لما تضمَّنته من الخَطَر، والجَهْل، وأَكْلِ الْمَال بالباطل" [1].
ونهى النبيُّ ﷺ أيضًا عن «عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ»؛ أي: ومن بين البيوع المحرَّمة التي نهى عنها النبيُّ ﷺ البيوع التي اشتَمَلت على جَهَالة كبيرة، أو خِداع.
"وأما النهيُ عن بيع الغَرَر، فهو أصل عظيم، من أصول كتاب البُيوع، ويَدخُل فيه مسائلُ كثيرةٌ، غير مُنحصِرة؛ كبيع الآبق – الهارب - والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر على تسليمه، وما لم يتمَّ مِلْكُ البائع عليه، وبيع السَّمك في الماء الكثير، واللَّبن في الضَّرْعِ، وبيع الحَمْلِ في البطن، وبيع ثوب من أثواب، وشاةٍ من شياه، ونظائرِ ذلك، وكلُّ هذا بيعه باطل؛ لأنه غَرَر من غير حاجة، وقد يُحتَمَل بعضُ الغرر بَيعًا، إذا دعت إليه حاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاةَ الحامل، والتي في ضرعها لبنٌ، فإنه يصحُّ البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه؛ فإنه لا يمكِن رؤيته، وكذا القولُ في حَمْلِ الشاة ولَبِنها، وكذلك أَجمَع المسلمون على جواز أشياءَ فيها غَرَرٌ حَقير، منها: أنهم أجمعوا على صحَّة بيع الْجُبَّة المحشوَّة، وإن لم يُرَ حَشْوُها، ولو بِيعَ حشوُها بانفراده لم يَجُزْ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار، والدابَّة، والثوب، ونحوِ ذلك، شهرًا، مع أن الشهر، قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعةً وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمَّام بالأُجرة، مع اختلاف الناس في استعمالهم الماءَ، وفي قَدْرِ مُكْثِهم، وأجمعوا على جواز الشُّرب من السِّقاء بالعِوَض، مع جَهَالة قدر المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكس هذا، وأجمعوا على بُطلان بيع الأَجِنَّة في البُطون، والطير في الهواء، وقال العلماء: مَدَارُ البُطلانِ بسبب الغَرَر، والصحةُ مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغَرَر، ولا يمكِن الاحتراز عنه إلا بمشقَّة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض المسائل من اختلاف العلماء في صحَّة البيع فيها، وفساده؛ كبيع العَين الغائبة، مبنيٌّ على هذه القاعدة، فبعضُهم يَرَى أن الغرر حقيرٌ، فيجعله كالمعدوم، فيصحُّ البيع، وبعضُهم يراه ليس بحقير، فيُبطِل البيع، والله أعلم"ـ [2].
المراجع
1. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (4/ 362).
2. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).
قال النوويُّ رحمه الله: "أمّا بيعُ الحصاة، ففيه ثلاثُ تأويلات؛ أحدها: أن يقول: بعتُك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاةُ الّتي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاةُ. والثّاني: أن يقول: بعتك على أنّك بالخيار إلى أن أرميَ بهذه الحَصَاة. والثّالث: أن يجعلا نفس الرّمي بالحصاة بيعًا، فيقول: إذا رَمَيْتُ هذا الثّوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا" [1].
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رحمه الله: "أصل الغرر هو ما طُوِيَ عنك علمه، وخَفِيَ عليك باطنه وسِرُّه، وهو مأخوذ من قولك: طويتُ الثّوب على غَرَّهِ؛ أي: على كسره الأوّل، وكل بيع كان المقصود منه مجهولًا غير معلوم، ومعجوزًا عنه غير مقدور عليه، فهو غَرَر؛ وذلك مثلُ أن يبيعه سَمَكًا في الماء، أو طيرًا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدًا آبقًا، أو جملًا شاردًا، أو ثوبًا في جراب لم يره ولم ينشره، أو طعامًا في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم تولَّد، أو ثمر شجرة لم تُثمِر، وفي نحوها من الأمور التي لا تُعلَم، ولا يدرى هل تكون أم لا؟ فإن البيع فيها مفسوخ؛ وإنّما نهى ﷺ عن هذه البيوع تحصينًا للأموال أن تضيع، وقطعًا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها. وأبواب الغرر كثيرة، وجماعُها ما دخل في المقصود منه الجهل. وأما بيع الحصاة، فإنه يفسَّر على وجهين؛ أحدهما: أن يرميَ بالحصاة ويجعل رميَها إفادةً للعقد، فإذا سقطت، وجب البيع، ثم لا يكون للمشتري فيه الخيار. والوجه الآخر: أن يعترض الرجل القطيع من الغنم فيرمي فيها بحصاة فأيَّة شاة منها أصابتها الحصاة فقد استحقَّها بالبيع، وهذا من جملة الغرر المنهيِّ عنه" [2].
قال النوويُّ رحمه الله: "وأما النهيُ عن بيع الغَرَر، فهو أصل عظيم، من أصول كتاب البُيوع، ويَدخُل فيه مسائلُ كثيرةٌ، غيرُ مُنحصِرة؛ كبيع الآبق، والمعدوم، والمجهول، وما لا يُقْدَر على تسليمه، وما لم يتمَّ مِلْكُ البائع عليه، وبيع السَّمك في الماء الكثير، واللَّبن في الضَّرْعِ، وبيع الحَمْلِ في البطن، وبيع ثوب من أثواب، وشاةٍ من شِيَاهٍ، ونظائرِ ذلك، وكلُّ هذا بيعُه باطلٌ؛ لأنه غَرَر من غير حاجة، وقد يُحتَمَل بعضُ الغرر بَيعًا، إذا دعت إليه حاجة؛ كالجهل بأساس الدار، وكما إذا باع الشاةَ الحامل، والتي في ضَرعها لبنٌ، فإنه يصحُّ البيع؛ لأن الأساس تابع للظاهر من الدار، ولأن الحاجة تدعو إليه؛ فإنه لا يمكِن رؤيته، وكذا القولُ في حَمْلِ الشاة ولَبِنها، وكذلك أَجمَع المسلمون على جواز أشياءَ فيها غَرَرٌ حَقير، منها: أنهم أجمعوا على صحَّة بيع الْجُبَّة المحشوَّة وإن لم يُرَ حَشْوُها، ولو بِيعَ حشوُها بانفراده لم يَجُزْ، وأجمعوا على جواز إجارة الدار، والدابَّة، والثوب، ونحوِ ذلك، شهرًا، مع أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعةً وعشرين، وأجمعوا على جواز دخول الحمَّام بالأُجرة، مع اختلاف الناس في استعمالهم الماءَ، وفي قَدْرِ مُكْثِهم، وأجمعوا على جواز الشُّرب من السِّقاء بالعِوَض، مع جَهَالة قَدْرِ المشروب، واختلاف عادة الشاربين، وعكسِ هذا، وأجمعوا على بُطلان بيع الأَجِنَّة في البُطون، والطير في الهواء، قال العلماء: مَدَارُ البُطلانِ بسبب الغَرَر، والصحةِ مع وجوده، على ما ذكرناه، وهو أنه إن دعت حاجة إلى ارتكاب الغَرَر، ولا يمكِن الاحتراز عنه إلا بمشقَّة، وكان الغرر حقيرًا، جاز البيع، وإلا فلا، وما وقع في بعض المسائل من اختلاف العلماء في صحَّة البيع فيها، وفساده؛ كبيع العَين الغائبة، مبنيٌّ على هذه القاعدة، فبعضُهم يَرَى أن الغرر حقيرٌ، فيجعله كالمعدوم، فيصحُّ البيع، وبعضُهم يراه ليس بحقير، فيُبطِل البيع، والله أعلم" [3].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "اشتمل الحديث على النّهي عن صورتين من صور البيع؛ الأولى: بيع الحصاة، واختُلف في تفسير بيع الحصاة، قيل: هو أن يقول: ارمِ بهذه الحصاة، فعلى أيِّ ثوب وقعت، فهو لك بدرهم، وقيل: هو أن يبيعه من أرضه قدر ما انتهت إليه رمية الحصاة، وقيل: هو أن يقبض على كفٍّ من حصا، ويقول: لي بعدد ما خرج في القبضة من الشّيء المبيع، أو يبيعه سلعةً ويقبض على كفٍّ من حصا، ويقول: لي بكلِّ حَصَاة درهم. وقيل: أن يُمسك أحدهما حصاةً بيده، ويقول: أيُّ وقت سقطت الحصاة فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يعترض القطيع من الغنم فيأخذ حصاةً ويقول: أيُّ شاة أصابتْها فهي لك بكذا، وكلُّ هذه متضمِّنة للغرر؛ لما في الثّمن أو المبيع من الجهالة، ولفظ الغرر يشملها؛ وإنّما أُفردت لكونها كانت ممّا يبتاعها الجاهليّة، فنهى ﷺ عنها، وأضيف البيع إلى الحصاة للملابسة؛ لاعتبار الحصاة فيه. والثّانية: بيع الغرر، وهو بمعنى مغرور، اسم مفعول، وإضافة المصدر إليه من إضافته إلى المفعول، ويحتمل غير هذا، ومعناه الخداع الّذي هو مَظِنَّة أن لا رضا به عند تحقُّقه، فيكون من أكل المال بالباطل، ويتحقَّق في صور، إمّا بعدم القدرة على تسليمه؛ كبيع العبد الآبق، والفرس النّافر، أو بكونه معدومًا أو مجهولًا، أو لا يتمُّ ملك البائع له؛ كالسّمك في الماء الكثير، ونحو ذلك من الصُّور، وقد يحتمل ببعض الغرر، فيصحُّ معه البيع إذا دعت إليه الحاجة؛ كالجهل بأساس الدّار، وكبيع الجِبَّة المحشوَّة، وإن لم ير حشوها، فإنّ ذلك مُجمَع عليه، وكذا على جواز إجارة الدّار والدّابَّة شهرًا، مع أنّه قد يكون الشّهر ثلاثين يومًا أو تسعةً وعشرين، وعلى دخول الحمَّام بالأُجرة مع اختلاف النّاس في استعمالهم الماءَ وقدر مُكثهم، وعلى جواز الشُّرب في السّقاء بالعِوَض مع الجهالة، وأجمعوا على عدم صحّة بيع الأجنَّة في البطون، والطّير في الهواء، واختلفوا في صور كثيرة اشتملت عليها كتب الفروع" [4].
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما بيع الغرر، فمن إضافة المصدر إلى مفعوله؛ كبيع الملاقيح والمضامين، والغرر: هو الْمَبِيع نفسه، وهو فَعَل بمعنى مفعول؛ أي: مغرور به؛ كالقبض والسلب؛ بمعنى: المقبوض والمسلوب، وهذا كبَيع العبد الآبق الذي لا يُقدَر على تسليمه، والفرس الشارد، والطير في الهواء... ونحو ذلك مما لا يُعلَم حصوله، أو لا يُقدَر على تسليمه، أو لا يُعرَف حقيقته ومقداره" [5].
قال الطيبيُّ رحمه الله: "بيع الحصاة من البياعات التي كان يفعلها أهل الجاهلية، واختُلف في تفسيره، فقيل: هو أن يقول البائع للمشتري في العقد: إذا نبذتُ إليك الحصاة فقد وجب البيع، والخَلَلُ فيه إثباتُ الخيار وشرطه إلى أمدٍ مجهول، وقيل: هو أن يَعقِد بأن يرميَ بحصاة في قطع غَنَم، فأيُّ شاة أصابتها كانت الْمَبِيعةَ، والخللُ فيه جهالةُ المعقود عليه. وقيل: هو أن يجعل الرميَ بَيعًا، والخللُ في نفس العَقْدِ وصورته، والغرر ما خفي عليك أمرُه، من الغرور، وبيع الغرر كلُّ بيع كان المعقودُ عليه فيه مجهولًا أو معجوزًا عنه، ومن ذلك بيعُ ما لم تَرَه، وبيع تراب الْمَعدِن، وتراب الصاغة؛ لأن المقصود بالعقد ما فيه من النقد، وهو مجهول" [6].
قال القرطبيُّ رحمه الله: "اختُلف فيه على أقوال؛ أوَّلها: أن يَبيعَه من أرضه قَدْرَ ما انتهت إليه رَمْيَةُ الحصاة، وثانيها: أيُّ ثوبٍ وَقَعت عليه الحصاة، فهو الْمَبِيع، وثالثها: أن يَقبِض على الحَصَى، فيقول: ما خَرَج كان لي بعدَدِه دراهمُ، أو دنانيرُ، ورابعها: أيُّ زمن وَقَعت الحصاة من يده وجب البيع، فهذا إيقافُ لزومٍ على زَمَنٍ مجهول، وهذه كلُّها فاسدةٌ؛ لما تضمَّنته من الخَطَر، والجَهْل، وأَكْلِ الْمَال بالباطل" [7].
المراجع
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156).
2. "معالم السنن" للخطابيِّ (3/ 88).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 156، 157).
4. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 18، 19).
5. "زاد المعاد" لابن القيم (5/ 725).
6. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2147).
7. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (4/ 362).
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «إنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْب»: يُخبِر النبيُّ ﷺ في الحديث القدسيِّ أن الله تعالى قال: مَن عادى وليًّا من أولياء الله الصالحين الطائعين، فإن الله يُعلِمُه أنه يُعاديه ويُحاربُه؛ نصرةً لأوليائه. «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»؛ أي: أَحَبُّ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربِّه، وينال ثوابه ومرضاته: الفرائضُ؛ فهي أفضل الأعمال، وأحبُّها إلى الله. «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»؛ أي: وما يزال العبدُ يُداوِم على طاعة الله، ويتقرَّب إليه بنوافل العبادات والطاعات، من قيام وصيام، وذِكْرٍ وصَدَقات، وأداء السُّنن، ونحوِ ذلك، حتى ينال محبَّة الله تعالى. «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»؛ أي: إذا أحبَّ الله عبدَه، حَفِظه في سمعه، وبصره، ويده، ورجله، فلا تشتغل هذه الجوارح إلا بالطاعات، ولا تتحرَّك إلا فيما يُرضي ربَّ العباد. «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؛ أي: إن دعاني هذا المحبوب المقرَّب، وسألني شيئًا من أمور الدنيا والآخرة، أجبتُه، وإن لجأ إليَّ ولاذ بي واستعاذني من شرٍّ يخَافُه، أَعَذْتُه وأَجَرْتُه. «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أي: إن الله تعالى كتب الموت على جميع الخلق، والموت فيه شدَّةٌ وألم؛ ما يجعله مكروهًا، والله تعالى يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فصار الموت مرادًا لله تعالى من وجه ما سبق به قضاؤه، ومكروهًا له من وجه مساءة عبده المقرَّب، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه.
الشرح المفصَّل للحديثكلُّ مخلوقٍ ضعيفٌ مفتقرٌ إلى خالقه، فلا يوجد إنسان يستقِلُّ بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره، والخالقُ سبحانه غنيٌّ عن خلقه، يفتقرون إليه ولا يَفتقِر إليهم، لذا؛ كانت ولايته سبحانه وتعالى شرفًا وقوَّة وعزَّة ومَنَعة، وأعظمَ نعمةٍ يُرزَقها العبد، فمن كان الله وَليَّه، سَعِد بولايته في الدنيا والآخرة، وجنى ثمارها، ورأى آثارها في نفسه وأهله وماله وولده، وأَغنَتْه عن كلِّ ولاية سِوَاها؛ قال تعالى
﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾
[ سورة النساء: 45]
وقال تعالى:
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ
[الأنعام: 14].
وفي الحديث يخبر النبيُّ ﷺ أن الله قال: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ»؛ أي: من آذى وليًّا من أولياء الله الصالحين، الذين حقَّقوا إيمانهم بالطاعات، وفِعل الصالحات؛ قال تعالى:
{أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)
[يونس: 62-63]
أو عاداه وخاصمه، فإن الله يقف له بالمرصاد، ويُعاديه ويُحاربه؛ قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾
[ البقرة: 279]
ومعلومٌ أن من عاداه الله أَهلَكه؛
فعن وَهْبَ بْنَ مُنَبِّه أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام حين كلَّمه:
«اعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا، أَوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ وَبَادَأَنِي، وَعَرَضَ بِنَفْسِهِ، وَدَعَانِي إِلَيْهَا، فَأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي، أَيَظُنُّ الَّذِي يُحَارِبُنِي أَنْ يَقُومَ لِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُغَازِينِي أَنْ يُعْجِزَنِي؟! أَوَيَظُنُّ الَّذِي يُبَارِزُنِي أَنْ يَسْبِقَنِي أَوْ يَفُوتَنِي؟! وَكَيْفَ وَأَنَا الثَّائِرُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَا أَكِلُ نُصْرَتَهُمْ إِلَى غَيْرِي؟!"
[1]،
فالعبد الصالح في كَنَف الله تعالى ورعايته، يَحفَظه، ولا يَكِله إلى نفسه طرفة عَين؛ قال تعالى:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
[الأعراف: 196]
و"المراد بوليِّ الله: العالمُ بالله المواظِبُ على طاعته، المخلِص في عبادته" [2]، «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»؛ أي: أَحَبُّ ما يتقرَّب به العبدُ إلى ربِّه، وينال ثوابه ومرضاته: الفرائضُ؛ فهي أفضل الأعمال، وأحبُّها إلى الله - عزَّ وجلَّ - قال عمر بن الخطاب : " أفضل الأعمال أداء ما افترض الله تعالى، والوَرَع عمَّا حرَّم الله تعالى، وصدق النيَّة فيما عند الله - عزَّ وجلَّ " [3].
والتقرُّب إلى الله تعالى على درجتين؛ الأولى: أداء الفرائض، والثانية: أداء النوافل، وأحبُّها إلى الله تعالى أداء الفرائض، وتشمل: أداء الواجبات من الصلاة والصيام والزكاة والحجِّ وبرِّ الوالدين، وغيرها، وتركَ المحرَّمات من السرقة والزنا وشهادة الزور وعقوق الوالدين، وغيرها، فالفرائضُ مقدَّمة على النوافل، والسببُ في ذلك: "أن الأمر بها جازمٌ، وهي تتضمَّن أمرينِ: الثوابَ على فعلها، والعقابَ على تركها، بخلاف النوافل؛ فإن الأمر بها غيرُ جازم، ويُثاب على فعلها، ولا يُعاقب على تركها، فالفرائضُ أكملُ، فكانت إلى الله - عزَّ وجلَّ – أحبَّ، وأشدَّ تقريبًا"[ 4]. قوله: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»؛ أي: وما يزال العبدُ يُداوِم على طاعة الله، ويتقرَّب إليه بنوافل العبادات والطاعات، من صلاة الليل والصَّدَقات والذِّكر وقراءة القرآن، والإصلاح بين الناس، وأداء السُّنن، ونحوِها بعد أداء الفرائض، حتى ينال محبَّة الله - عزَّ وجلَّ - قال تعالى:
﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾
[ سورة آل عمران: 31]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، وَيُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي أَهْلِ الأرضِ»
[5].
فلا معنى للنوافل دون الفرائض؛ قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : "إِنِّي مُوصِيكَ بِوَصِيَّةٍ إِنْ حَفِظْتَهَا، فَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي اللَّيْلِ لَا يَقْبَلُهُ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّ لِلَّهِ حَقًّا فِي النَّهَارِ لَا يَقْبَلُهُ فِي اللَّيْل، وَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ نَافِلَةً حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ " [6]. فالفرائضُ أساس وأصول، والنوافل فروع، والولاية إنما تتحقَّق بالنوافل مع الفرائض، لا مع إخلال بها.
قوله: «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا»؛ أي: إذا أحبَّ الله عبدَه، حَفِظه في سمعه، وبصره، ويده، ورجله، ونفسِه كلِّها؛
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، فَقَالَ:
«يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ.....»
[7]،
"ومعنى ذلك أنه لا يَسمَع ما لم يَأذَن الشرع له بسَمَاعه، ولا يُبصر ما لم يَأذَن الشرعُ له في إبصاره، ولا يَمُدُّ يده إلى شيء ما لم يَأذَن الشرع له في مدِّها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه" [8]، فلا تشتغل هذه الجوارح إلا بالطاعات، ولا تتحرَّك إلا فيما يُرضي ربَّ العباد. قوله: «وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»؛ أي: إن طلب مني شيئًا من أمور الدنيا والآخرة، أجبتُه، وإن لجأ إليَّ واستعاذ بي من شرٍّ يخَافُه، أَعَذْتُه وأَجَرْتُه، "يعني أن هذا المحبوب المقرَّب، له عند الله منزلة خاصَّة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيَصِير مُجابَ الدعوة؛ لكرامته على الله - عزَّ وجلَّ" [9]،
ويؤيِّده حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ:
«إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ»
[10]
وكان سعدُ بنُ أبي وقَّاص رضي الله عنه مُجابَ الدعوة، دعا على رجل من أهل الكوفة اتَّهَمه بالباطل، فاستجاب الله دعاءه، قال: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ – أحد رواة الحديث -: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ"[11].
قوله: «وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ»؛ أي: أن الله تعالى كتب الموت على جميع الخلق؛ قال تعالى:
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ
[آل عمران: 185]
ولا يخفى على أحد أن ما في الموت من شدَّة وألم يُحدِث كراهيةً في نفس العبد منه، فيدفع الله تعالى عن المؤمن هذه الكراهية ببشائرَ يُحدِثها، ولطائفَ وكراماتٍ يُظهِرها؛ حتى يحبَّ لقاء ربِّه؛ قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[ النحل: 32]
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ المَوْتَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَاكِ؛ وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ»
[12]
فإذا مات المؤمنُ، حَصَل له النعيم الأبديُّ الذي لا يَنقطِع؛ "فإن العبد الذي هذا حالُه صار محبوبًا للحقِّ محبًّا له، يتقرَّب إليه أولاً بالفرائض، وهو يحبُّها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبُّها ويحبُّ فاعلها، فأتى بكلِّ ما يَقدِر عليه من محبوب الحقِّ، فأحبَّه الحقُّ لفعل محبوبه من الجانبين؛ بقصد اتِّفاق الإرادة، بحيث يحبُّ ما يحبُّه محبوبه، ويكره ما يَكرَهه محبوبه، والربُّ يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فلَزِم من هذا أن يَكرَه الموت ليزداد من محابِّ محبوبه، واللهُ سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكلُّ ما قضى به فهو يريده ولا بدَّ منه، فالربُّ مُريدٌ لِمَوته؛ لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمُساءة عبده، وهي الْمُساءة التي تَحصُل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحقِّ من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لا بدَّ من ترجُّح أحد الجانبين كما ترجَّح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مُساءة عبده،
وليس إرادتُه لموت المؤمن الذي يحبُّه ويَكرَه مُساءته كإرادته لموت الكافر الذي يُبغضه ويريد مُساءته" [13].
المراجع
- "الزهد" لأحمد بن حنبل (ص: 54).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 342).
- "قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد" لمحمد بن عليٍّ الحارثيِّ (2/ 267)
- "التعيين في شرح الأربعين" للطوفيِّ (ص: 319).
- رواه البخاريُّ (7485)، ومسلم (2637).
- "الزهد" لهناد بن السري (1/ 284).
- رواه وأحمد (2669)، والترمذيُّ (2516)، وقال: حديث حسن صحيح، وصحَّحه عبد الحقِّ في "الأحكام الوسطى" (4/ 285)، والألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (2/ 1317).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 129).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 348).
- رواه البخاريُّ (2703)، ومسلم (1675).
- رواه البخاريُّ (755)، ومسلم (453).
- رواه البخاريُّ (6507)، ومسلم (2683).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 130).
قال ابن رجب رحمه الله : " وقد قيل: إنّه أَشرَف حديث رُوي في ذكر الأولياء. قوله عزّ وجلّ: «من عادى لي وليًّا، فقد آذنتُه بالحرب» يعني: فقد أعلمتُه بأنّي محارب له، حيث كان محاربًا لي بمعاداة أوليائي؛ ولهذا جاء في حديث عائشة: «فقد استحلَّ محاربتي»، وفي حديث أبي أُمامةَ وغيره: «فقد بارزني بالمحاربة»، وخرَّج ابن ماجه بسند ضعيف عن معاذِ بنِ جبل،
سمع النّبيَّ ﷺ يقول:
«إِنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا، فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُدْعَوْا، وَلَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ»
فأولياء اللّه تَجِب موالاتهم، وتَحرُم معاداتهم، كما أنّ أعداءه تجب معاداتهم، وتحرم موالاتهم" [1].
قال ابن هبيرة رحمه الله : "في هذا الحديث من الفقه: أن الله تعالى قدم الإعذار إلى كل من عادى وليًّا بأنه محاربه" [2].
قال ابن تيمية رحمه الله : "وهو أشرف حديث رُوِي في صفة الأولياء" [3].
قال ابن الملقِّن رحمه الله : "وهو أصلٌ في السلوك إلى الجليل جلَّ جلاله، والوصولِ إلى معرفته ومحبَّته وطريقه" [4].
قال ابن رجب رحمه الله : "واعلم أنّ جميع المعاصي محارَبة للّه عزَّ وجلَّ؛ قال الحسن بن آدمَ: هل لك بمحاربة اللّه من طاقة؟! فإنّ من عصى اللّه فقد حاربه؛ لكن كلَّما كان الذّنب أقبحَ، كان أشدَّ محاربةً للّه؛ ولهذا سمَّى اللّه تعالى أَكَلَة الرّبا وقُطّاع الطّريق محاربين للّه تعالى ورسوله؛ لعِظَم ظُلمهم لعباده، وسعيهم بالفساد في بلاده، وكذلك معاداةُ أوليائه، فإنّه تعالى يتولَّى نُصرة أوليائه، ويحبُّهم ويؤيّدهم، فمن عاداهم، فقد عادى اللّه وحاربه، وفي الحديث
عن النَّبِيِّ ﷺ قال:
«اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» خَرَّجه الترمذيُّ وغيره"
[5].
قال الشوكانيُّ رحمه الله : "حديث «من عادى لي وليًّا» قد اشتمل على فوائدَ كثيرةِ النَّفع، جليلةِ القَدْرِ لِمَن فَهِمها حقَّ فَهْمِها، وتدبَّرها كما ينبغي"[6].
قال ابن حجر رحمه الله : "المراد بوليِّ الله: العالمُ بالله المواظِبُ على طاعته، المخلِص في عبادته" [7].
قال ابن رجب رحمه الله : "وقوله: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ»، لَمّا ذكر أنّ معاداة أوليائه محاربة له، ذَكَر بعد ذلك وصف أوليائه الّذين تَحرُم معاداتهم، وتجب موالاتهم، فذَكَر ما يُتقرَّب به إليه، وأصل الولاية القُرب، وأصل العداوة البُعد، فأولياء اللّه هم الّذين يتقرّبون إليه بما يُقرِّبهم منه، وأعداؤه الّذين أبعدهم عنه بأعمالهم المقتضية لطردهم وإبعادهم منه، فقسَّم أولياءه المقرَّبين قسمين؛ أحدهما: من تقرَّب إليه بأداء الفرائض، ويشمل ذلك فعل الواجبات، وترك المحرّمات؛ لأنّ ذلك كلّه من فرائض اللّه الّتي افترضها على عباده. والثّاني: من تقرَّب إليه بعد الفرائض بالنّوافل، فظهر بذلك أنّه لا طريق يوصِّل إلى التّقرُّب إلى اللّه تعالى، وولايته، ومحبَّته، سوى طاعته الّتي شرعها على لسان رسوله، فمن ادَّعى ولاية اللّه، ومحبّته بغير هذا الطّريق، تبيَّن أنّه كاذب في دعواه، كما كان المشركون يتقرَّبون إلى اللّه تعالى بعبادة من يعبدونه من دونه، كما حكى اللّه عنهم أنّهم قالوا:
مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ
[الزمر: 3]
وكما حكى عن اليهود والنّصارى أنّهم قالوا:
نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ
ﱠ [المائدة: 18]
مع إصرارهم على تكذيب رسله، وارتكاب نواهيه، وترك فرائضه؛ فلذلك ذكر في هذا الحديث أنّ أولياء اللّه على درجتين: أحدهما: المتقرِّبون إليه بأداء الفرائض، وهذه درجة المقتصدين أصحاب اليمين، وأداء الفرائض أفضل الأعمال كما قال عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه: أفضل الأعمال أداء ما افترض اللّه، والوَرَع عمّا حرَّم اللّه، وصدق النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ. وقال عمر بن عبد العزيز في خُطبته: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم؛ وذلك لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما افترض على عباده هذه الفرائض ليقرّبهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته. الدّرجة الثّانية: درجة السّابقين المقرَّبين، وهم الّذين تقرَّبوا إلى اللّه بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطّاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبَّة اللّه، كما قال: «ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنّوافل حتّى أحبَّه»، فمن أحبَّه اللّه، رزقه محبّته وطاعته والاشتغال بذكره وخدمته، فأوجب له ذلك القرب منه، والزُّلفى لديه، والَحظوة عنده" [8].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله : "ومعنى ذلك أنه لا يَسمَع ما لم يَأذَن الشرع له بسَمَاعه، ولا يُبصر ما لم يَأذَن الشرعُ له في إبصاره، ولا يَمُدُّ يده إلى شيء ما لم يَأذَن الشرع له في مدِّها إليه، ولا يسعى برجله إلا فيما أذن الشرع في السعي إليه "[9].
قال ابن رجب رحمه الله : " وكان داود - عليه السّلام - يقول في دعائه: "اللّهمّ إنّي أسألك حبَّك، وحبَّ من يحبُّك، وحبَّ العمل الّذي يبلِّغني حبَّك، اللّهمّ اجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من نفسي وأهلي ومالي، ومن الماء البارد" [10].
قال ابن رجب رحمه الله : "من أحبَّ اللّه، لم يكن عنده شيء آثَرُ من هواه، ومن أحبَّ الدّنيا، لم يكن عنده آثَرُ من هوى نفسه، فالحبُّ للّه تعالى أمير مؤمَّر على الأمراء، زُمْرته أوَّل الزُّمَر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبّة منتهى القُربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبُّون من طول اجتهادهم للّه عزّ وجلّ، يحبُّونه ويحبّون ذكره، ويحبِّبونه إلى خلقه، يمشون بين عباده بالنّصائح، ويخافون عليهم من أعمالهم يوم تبدو الفضائح، أولئك أولياء اللّه وأحبَّاؤه، وأهل صفوته، أولئك الّذين لا راحة لهم دون لقائه. وقال فَتْحٌ الْمَوْصِلِيُّ: المحبُّ لا يجد مع حبِّ اللّه عزّ وجلّ للدّنيا لذَّةً، ولا يَغفُل عن ذكر اللّه طرفة عين. وقال محمدُ بْنُ النَّضْرِ الْحَارِثِيُّ: ما يكاد يَمَلُّ القُربة إلى اللّه تعالى محبٌّ للّه عزّ وجلّ، وما يكاد يسأم من ذلك. وقال بعضهم: المحبُّ للّه طائر القلب، كثير الذّكر، متسبِّب إلى رضوانه بكلِّ سبيل يقدر عليها من الوسائل والنّوافل دَوْبًا دوبًا، وشَوْقًا شوقًا" [11]
قال ابن تيمية رحمه الله : "فإن العبد الذي هذا حالُه صار محبوبًا للحقِّ محبًّا له، يتقرَّب إليه أولاً بالفرائض، وهو يحبُّها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبُّها ويحبُّ فاعلها، فأتى بكلِّ ما يَقدِر عليه من محبوب الحقِّ، فأحبَّه الحقُّ لفعل محبوبه من الجانبين؛ بقصد اتِّفاق الإرادة، بحيث يحبُّ ما يحبُّه محبوبه، ويكره ما يَكرَهه محبوبه، والربُّ يكره أن يسوء عبدَه ومحبوبَه، فلَزِم من هذا أن يَكرَه الموت ليزداد من محابِّ محبوبه، واللهُ سبحانه وتعالى قد قضى بالموت، فكلُّ ما قضى به فهو يريده ولا بدَّ منه، فالربُّ مُريدٌ لِمَوته؛ لما سبق به قضاؤه، وهو مع ذلك كارهٌ لِمُساءة عبده، وهي الْمُساءة التي تَحصُل له بالموت، فصار الموت مرادًا للحقِّ من وجه، مكروهًا له من وجه، وهذا حقيقةُ التردُّد، وهو أن يكون الشيء الواحد مرادًا من وجه، مكروهًا من وجه، وإن كان لا بدَّ من ترجُّح أحد الجانبين كما ترجَّح إرادة الموت؛ لكن مع وجود كراهة مُساءة عبده، وليس إرادتُه لموت المؤمن الذي يحبُّه ويَكرَه مُساءته كإرادته لموت الكافر الذي يُبغضه ويريد مُساءته" [12].
قال ابن رجب رحمه الله : "ولا يزال هذا الّذي في قلوب المحبّين المقرّبين يقوى حتّى تمتلئ قلوبهم به، فلا يبقى في قلوبهم غيره، ولا تستطيع جوارحهم أن تنبعث إلّا بموافقة ما في قلوبهم، ومن كان حاله هذا، قيل فيه: ما بَقِي في قلبه إلّا اللّه، والمراد معرفته ومحبَّته وذِكْره [13].
قال ابن القيم رحمه الله : "وقال بعض العارفين: ليست الخاصَّة من الحزن في شيء. وقوله: "معرفة الله جلا نورُها كلَّ ظُلمة، وكَشَف سرورُها كلَّ غُمَّة" كلام في غاية الحُسن؛ فإن من عرف الله أحبَّه ولا بدَّ، ومن أحبَّه انقشعت عنه سحائبُ الظُّلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعَمُر قلبُه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال تعالى حكايةً عن نبيِّه ﷺ أنه قال لصاحبه أبى بكر:
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا
[التوبة: 40]
فدلَّ أنه لا حُزْنَ مع الله، وأن من كان الله معه، فما له وللحزن؟! وإنما الحزن كلُّ الحُزن لمن فاته الله، فمن حصَلَ اللهُ له، فعلى أيِّ شَيءٍ يَحزَنُ؟! ومن فاته اللهُ، فبأيِّ شَيءٍ يَفرَحُ؟ [14].
قال ابن رجب رحمه الله : "قوله: «وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، وفي الرواية الأخرى: «إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ»؛ يعني أن هذا المحبوب المقرَّب، له عند الله منزلة خاصَّة تقتضي أنه إذا سأل الله شيئًا، أعطاه إياه، وإن استعاذ به من شيء، أعاذه منه، وإن دعاه، أجابه، فيَصِير مُجابَ الدعوة؛ لكرامته على الله - عزَّ وجلَّ - وقد كان كثير من السَّلَف الصالح معروفًا بإجابة الدعوة" [15].
قال ابن عثيمين رحمه الله : "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛
كما قال تعالى:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ
وقال:
نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلۡبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُنذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيّٖ مُّبِينٖ (195)
[لشعراء: 193- 195 ]
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه:
﴿ إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ ﴾
الحجر [9]
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم" [16].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 334).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (7/ 303).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 129).
- "المعين على تفهم الأربعين" لابن الملقِّن (ص: 420).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 335).
- "قطر الولي على حديث الولي" للشوكانيِّ (ص: 1)
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (11/ 342).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 336، 337).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 129).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 340)
- جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 341، 342).
- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (18/ 130)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 346)
- "طريق الهجرتين وباب السعادتين" لابن القيم (ص: 280)
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 348).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238)
عَادَى: خاصَمه، وصار له عَدُوًّ [1]
وَلِيًّا: الوليُّ: هو مَن يتولَّى الله أمرَه، ولا يَكِلُه إلى نفسه لحظةً؛
قال تعالى:
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ
[الأعراف: 196]،
وهو المتولِّي عبادةَ الله وطاعتَه على التوالي، بلا تخلُّلِ عصيان [2]
آذَنْتُه؛ أي: أَعلَمْتُه؛
قال تعالى:
﴿ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾
[البقرة: 279]
أي: فاعلموا ذلك [3].
النَّوَافِل: هي ما عدا الفرائضَ التي افترضها الله سبحانه على عباده من جميع أجناس الطاعات من صلاة وصيام وحجٍّ وصدقة وأذكار، وكلِّ ما ندب الله سبحانه إليه، وَرغَّب فيه من غير حَتْمٍ وافتراض [4]
اسْتَعَاذَنِي: استعاذ به: لَجَأَ إليه، وهو عِيَاذُهُ؛ أي: مَلْجَؤُهُ [5]
المراجع
- "معجم اللغة العربية المعاصرة" للدكتور أحمد مختار (2/ 1472).
- "شرح مصابيح السنة" لابن الملك (3/ 86).
- "الزاهر في معاني كلمات الناس" لأبي بكر الأنباريِّ (2/ 4).
- "قطر الولي على حديث الولي" للشوكانيِّ (ص: 365).
- مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 221).
يروي أَبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»؛ أي: انظروا إلى من دونكم في أمور الدنيا، «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ» ممَّن فضِّل عليكم في أمور الدنيا؛ «فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»؛ أي: فهو أَحَقُّ أن لا تحتقروا ولا تَستقِلُّوا نعمة الله عليكم؛ لأن الإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، أما إذا نَظَر في أمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتواضَع، وفعل فيه الخير.
الشرح المفصَّل للحديثإن الله تعالى قد قَسَم الْمَعايش والأرزاق بين الناس في الحياة الدنيا، وجعلهم متفاضِلينَ فيها؛
قال تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
[الزخرف: 32]
أي: رحمةُ ربِّك خيرٌ مما يَجمَعون من الدنيا، فمَعايشُ العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، هو الذي يَقسِمها بين عباده، فيَبسُط الرزق لمن يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته.
وإن الإنسان زائغُ البصر، كثير التطلُّع لما ليس في يده، مولَعٌ بالمقارنة مع الآخرين في أمور الدنيا؛ في شكله، وهيئته، وصحته، ووظيفته، ورزقه، وأولاده، وهَلُمَّ جرًّا.
والعبد المؤمن لا يقارِن في أمور الدنيا؛ بل إنه إذا رأى من نفسه طُموحًا إلى زينة الدنيا، وإقبالًا عليها، يُذكِّرُها برزق ربِّه العاجل في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، والآجل في الآخرة في جنَّات النعيم؛ فقد نهى الله تعالى عن إدامة النظر في دنيا الناس، وإطالة النظر في النِّعم التي بيد الآخرين؛
فقال:
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَ
[طه: 131]
فهذا حال المفتونين بالدنيا، فهم في شرَهٍ دائم، ومقارنات مستمرَّة؛ "فلا تَمُدَّ عينَيْكَ مُعْجبًا، ولا تكرِّر النظر مستحسِنًا إلى أحوال الدنيا والممتَّعين بها، من المآكل والمشارِب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرَفة، والنساء الْمجمّلة؛ فإن ذلك كلَّه زهرةُ الحياة الدنيا، تَبتهِج بها نفوس المغتَرِّين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرِضين، ويتمتَّع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبِّيها وعشَّاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويَعلَمون ما هم عليه إذا قُدِّموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً واختبارًا؛ ليَعلَم من يقف عندها ويغترُّ بها، ومن هو أحسنُ عملًا؛ كما
قال تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا
[الكهف: ٧ – ٨]
(وَرِزْقُ رَبِّكَ) العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة، والآجِل من النعيم الْمُقيم، والعيش السليم في جوار الربِّ الرحيم (خَيْرٌ) مما متَّعنا به أزواجًا في ذاته وصفاته (وَأَبْقَى)؛ لكونه لا ينقطع، أُكُلُها دائم وظِلُّها؛
كما قال تعالى:
بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا 17 وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
[الأعلى: ١٦ – ١٧]" [1]
وفي الحديث يروي أَبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال:
«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»؛ أي: انظروا إلى من دونَكم في أمور الدنيا، في الرزق والخَلق ونحوهما، «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ»
ممَّن فُضِّل عليكم في أمور الدنيا؛ «فَهُوَ»؛ أي: النَّظَرُ إلى من هو أسفلُ في المال والخَلْق، لا إلى من هو فَوْقُ «أَجْدَرُ»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»؛ أي: بأن لا تحتقروا وتستصغروا نعم الله عليكم، فهو علَّة للأمر والنَّهي معًا؛ فالإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر ما عنده من نِعَم الله تعالى، ولا شكَّ أن تلك المقارناتِ مع مَن فضِّل عليه في أمور الدنيا في الظاهر، تُورِث الإنسان الحُزن والإحباط، وربَّما الحَسَد والحقد، وحتمًا سيَجُرُّه ذلك إلى أن لا يرى نِعَمَ الله عليه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ بل سيزدري تلك النِّعم ويستصغرُها أو يحتقرها، أما لو نظر إلى من دونه في الدنيا، ومن فوقَه في الدين والتقوى والطاعة، فسيُورثه ذلك القناعة، والرضا، والطمأنينة، والسعادة، وشُكر نعم الله عليه.
و"هذا حديثٌ جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى من فُضِّل عليه في الدنيا، طَلَبت نفسُه مثلَ ذلك، واستَصغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرَص على الازدياد ليَلحَق بذلك أو يُقارِبَه، هذا هو الموجودُ في غالبِ الناس، وأما إذا ما نَظَر في أُمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتَواضَع، وفَعَل فيه الخيرَ"[2]
"«انظروا إلى من هو أسفل منكم»؛ أي: دونَكم رُتبةً، «ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم»؛ أي: مَرتبةً؛ «فهو»؛ أي: النَّظر المذكور إثباتًا ونفيًا، «أجدر»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم»؛ أي: بعدم الازدراء والاحتقار لِما قَسَم اللّه عليكم في هذه الدَّار، فإنّه يَظهَر لكم بذلك النَّظرِ أنّ للَّه تعالى عليكم نِعمًا كثيرةً بالنِّسبة إلى مَن دونَكم، أو نِعمًا كثيرةً حيث اختار لكم الفَقر والبلاء، وجعلكم من أهل الولاء، وشبَّهكم بالأنبياء والأولياء، وخلَّصكم من ظَلَمة الأُمراء، وظَلَمة الأغنياء الأغبياء"[3]
و"هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى مَن فوقَه في الخَير، طالت نفسُه باللِّحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة، وإذا نظر في دنياه إلى من هو دونَه تبيَّن نِعَمَ الله عليه، فألزم نفسه الشُّكر. هذا معنى كلامه، وإذا لم يفعل ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ كان الأمر بالعكس، فأُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها"[4]
"وهذا الحديث إرشاد للعبد إلى ما يَشكُر به النِّعمة، والمراد بمن هو أسفلَ من النَّاظر في الدّنيا، فيَنظُر إلى المبتلى بالأسقام، وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية الّتي هي أصلُ كلِّ إنعام، وينظر إلى من في خَلْقه نَقصٌ مِن عمًى أو صَمَم أو بَكَم، وينتقل إلى ما هو فيه من السَّلامة عن تلك العاهات الّتي تَجلِب الهمَّ والغمَّ، وينظر إلى ما ابتُلي بالدّنيا وجَمْعِها، والامتناع عمَّا يجب عليه فيها من الحقوق، ويعلم أنّه قد فُضِّل بالإقلال، وأنعم عليه بقِلَّة تَبِعة الأموال في الحال والمآل، وينظر إلى من ابتُلِيَ بالفقر الْمُدْقِع، أو بالدَّيْن الْمُفْظِع، ويعلم ما صار إليه من السَّلامة من الأمرين، وتَقَرُّ بما أعطاه ربُّه العَيْنُ، وما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة اللّه، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه"[5]
و"يا لها من وَصيَّة نافعة، وكلمة شافية وافية! فهذا يدلُّ على الحثِّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر؛ فإن الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر.
وقد أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا.
يَنظُر إلى خَلق كثير ممن سُلبوا عقولهم، فيَحمَد ربَّه على كمال العقل، ويشاهد عالَمًا كثيرًا ليس لهم قُوتٌ مدَّخر، ولا مساكنُ يأوُون إليها، وهو مطمئنٌّ في مسكنه، موسَّع عليه رِزْقُه، ويرى خَلقًا كثيرًا قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو مُعافًى من ذلك، مُسَرْبَل بالعافية، ويُشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا ببلاء أفظعَ من ذلك، بانحراف الدِّين، والوقوع في قاذورات المعاصي، واللهُ قد حَفِظه منها، أو من كثير منها. ويتأمَّل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، ومَلَكَهم الحُزْنُ والوساوس، وضِيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنَّة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرًا من الأغنياء. ثم من ابتُلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالَمًا كثيرًا أعظم منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه"[6]
"فمن وفِّق للاهتداء بهذا الهَدْيِ الذي أرشد إليه النبيُّ ﷺ لم يَزَلْ شُكره في قوَّة ونُمُوٍّ، ولم تَزَلْ نِعَمُ الله عليه تَتْرى وتتوالى، ومن عَكَس القضية، فارتفع نظرُه، وصار ينظر إلى من هو فوقَه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بدَّ أن يزدريَ نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فَقَد الشُّكر، ترحَّلت عنه النِّعَم، وتسابقت إليه النِّقَم، وامتُحِن بالغمِّ الْمُلازم، والحَزم الدائم، والتسخُّط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله ربًّا ومدبِّرًا، وذلك ضَرَرٌ في الدين والدنيا، وخُسران مُبِين.
واعلم أن من تفكَّر في كثرة نِعَم الله، وتفطَّن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محضُ فضل الله وإحسانه، وأن جنسًا من نِعَم الله لا يَقدِر العبد على إحصائه وتَعداده، فضلًا عن جميع الأجناس، فضلًا عن شُكرها، فإنه يُضطرُّ إلى الاعتراف التامِّ بالنِّعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربِّه أن يستعين بشيء من نِعَمه على ما لا يحبُّه ويرضاه، وأَوْجب له الحياء من ربِّه الذي هو من أفضل شُعب الإيمان، فاستحيا من ربِّه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره"[7]
وقدر روى البخاريُّ ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ»
[8]
؛ "أي: أَسفَل من النّاظر في المال والخَلق، وقوله «ممّن فضِّل عليه»؛ أي: فُضِّل النّاظر عليه، وخَرَج بذكر المال والخَلق ما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك، بخلاف الأوّل؛ فإنّه لا يَنظُر فيه إلى الفاضل؛ لِما فيه من احتقار نعمة اللّه عليه بالنّسبة إلى نعمته على ذلك الفاضل في المال والخَلق؛ وإنّما ينبغي أن يَنظُر في هذا إلى المفضول؛ ليَعرِف قَدْرَ نعمة اللّه عليه، وهذا أدب حسنٌ أدَّبَنا به نبيُّنا ﷺ وفيه مصلحةُ ديننا ودُنيانا، وعُقولنا وأبداننا، وراحةُ قلوبنا، فجزاه اللّه عن نصيحته أفضلَ ما جزى به نبيًّا... ومن هنا ينبغي للإنسان اجتناب الاختلاط بأهل الدّنيا والتّوسُّع منها ومن كَسْبِها ونعيمها؛ لأنّه قد يؤدِّي إلى هذه المفسدة، وقال بعضهم: جالستُ الأغنياءَ، فاحتقرتُ لباسي إلى لباسهم، ودابَّتي إلى دوابِّهم، وجالستُ الفقراء فاسترحتُ[9]
هذا وإن كلَّ ما يَتَنافس الناسُ فيه من أمور الدنيا هو من الزَّهَادة والرُّخص بحيث لو شاء الله، لأغدقها إغداقًا على الكافرين به؛ لولا أن ذلك سيكون فتنةً للناس،
تَصُدُّهم عن الإيمان بالله؛ قال تعالى:
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
[الزخرف: ٣٣ – ٣٥].
يخبر الله تعالى بأن الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، وأنه لولا لطفُه ورحمته بعباده، وعلمه بضعفهم، وتأثيرِ عَرَض الدنيا في قلوبهم، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا، ولجعل لهم بيوتًا سُقُفُها من فِضَّة، وسَلالِمُها، بيوتًا ذاتَ أبواب كثيرة، وفيها سُرر للاتِّكاء، وفيها زُخرف للزينة؛ أي: لزَخرَف لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون؛ رمزًا لهَوَان هذه الفضَّة والذهب والزخرف والمتاع، بحيث تُبذَل هكذا رخيصةً لمن يَكفُر بالرحمن؛ ولكن منعه من ذلك رحمتُه بعباده؛ خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حبِّ الدنيا.
وهذا دليلٌ على أن الله تعالى يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعًا عامًّا أو خاصًّا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تَزِن عند الله جناح بَعُوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغَّصة، مكدَّرة، فانية، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتَّقِين لربِّهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن نعيمها تامٌّ كامل من كلِّ وجه، وفي الجنَّة ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأَعْيُن، وهم فيها خالدون، فما أشدَّ الفرقَ بين الدارين!
قال تعالى:
لأ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198)
[آل عمران: ١٩٦ – ١٩٨].
"وهذه الآية المقصودُ منها التَّسْلِية عمَّا يَحصُل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعُّمِهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواع التِّجارات والمكاسب واللذَّات، وأنواع العِزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات، فإن هذا كلَّه (متاعٌ قليل)، ليس له ثبوتٌ ولا بقاء؛ بل يتمتَّعون به قليلًا، ويعذَّبون عليه طويلًا، هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتَّقُون لربِّهم، المؤمنون به، فمَعَ ما يَحصُل لهم من عزِّ الدنيا ونعيمها، (لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، فلو قدِّر أنهم في دار الدنيا، قد حَصَل لهم كلُّ بؤس وشدَّة، وعناء ومشقَّة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسُّرور والحُبور، والبهجة، نَزْرًا يسيرًا، ومِنحةً في صورة مِحنة؛ ولهذا قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار)، وهم الذين برَّت قلوبهم، فبرَّت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البَرُّ الرحيم من بِرِّه أجرًا عظيمًا، وعطاءً جسيمًا، وفوزًا دائمًا"[10]
المراجع
- "تفسير السعديِّ" (ص: 516، 517).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 97).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3281).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 515).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 614).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 55).
- رواه البخاريُّ (6490)، ومسلم (2963).
- "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (8/ 145، 146).
- "تفسير السعديِّ" (ص: 162).
النقول
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الطبريُّ: هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى مَن فوقَه في الخَير، طالت نفسُه باللِّحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة، وإذا نظر في دنياه إلى من هو دونَه تبيَّن نِعَمَ الله عليه، فألزم نفسه الشُّكر. هذا معنى كلامه، وإذا لم يفعل ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ كان الأمر بالعكس، فأُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها"[1]
قال السعديُّ رحمه الله: "يا لها من وَصيَّة نافعة، وكلمة شافية وافية! فهذا يدلُّ على الحثِّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر؛ فإن الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر.
وقد أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا. يَنظُر إلى خَلق كثير ممن سُلبوا عقولهم، فيَحمَد ربَّه على كمال العقل، ويشاهد عالَمًا كثيرًا ليس لهم قُوتٌ مدَّخر، ولا مساكنُ يأوُون إليها، وهو مطمئنٌّ في مسكنه، موسَّع عليه رِزْقُه، ويرى خَلقًا كثيرًا قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو مُعافًى من ذلك، مُسَرْبَل بالعافية، ويُشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا ببلاء أفظعَ من ذلك، بانحراف الدِّين، والوقوع في قاذورات المعاصي، واللهُ قد حَفِظه منها، أو من كثير منها. ويتأمَّل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، ومَلَكَهم الحُزْنُ والوساوس، وضِيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنَّة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرًا من الأغنياء. ثم من ابتُلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالَمًا كثيرًا أعظم منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه"[2]
قال النوويُّ رحمه الله: "معنى (أجدر): أحقُّ، و(تزدروا): تَحقِروا. قال ابن جرير وغيره: هذا حديثٌ جامع لأنواع من الخير لأن الإنسان إذا رأى من فُضِّل عليه في الدنيا، طَلَبت نفسُه مثلَ ذلك، واستَصغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرَص على الازدياد ليَلحَق بذلك أو يُقارِبَه، هذا هو الموجودُ في غالبِ الناس، وأما إذا ما نَظَر في أُمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتَواضَع وفَعَل فيه الخيرَ"[3]
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وقوله: «فهو»؛ أي: النَّظَر إلى أسفل في المال والخَلْق، لا إلى من هو فَوْقُ، حقيقٌ بعدم الازدراء. و«أن لا تزدروا» متعلِّق بـ «أجدر» على حذف الجارِّ. والازدراء: الاحتقار والانتقاص والعَيب، وهو افتعالٌ من زَرَيْتَ عليه زِرَايةً إذا عِبْتَه. وأَزْرَيْتَ به إزراءً، إذا قصَّرْتَ به وتهاونتَ. وأصلُ (ازْدَرَيْت) ازْتَرَيت، وهو افتعل منه، فقُلِبت التاءُ دالًا؛ لأجل الزاي"[4]
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«انظروا إلى من هو أسفل منكم»؛ أي: دونَكم رُتبةً، «ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم»؛ أي: مَرتبةً؛ «فهو»؛ أي: النَّظر المذكور إثباتًا ونفيًا، «أجدر»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم»؛ أي: بعدم الازدراء والاحتقار لِما قَسَم اللّه عليكم في هذه الدَّار، فإنّه يَظهَر لكم بذلك النَّظرِ أنّ للَّه تعالى عليكم نِعمًا كثيرةً بالنِّسبة إلى مَن دونَكم، أو نِعمًا كثيرةً حيث اختار لكم الفَقر والبلاء، وجعلكم من أهل الولاء، وشبَّهكم بالأنبياء والأولياء، وخلَّصكم من ظَلَمة الأُمراء، وظَلَمة الأغنياء الأغبياء"[5]
قال العراقيُّ: "قوله «إذا نَظَر أحدُكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ، فلينظر إلى من هو أَسْفَلَ منه»؛ أي: أَسفَل من النّاظر في المال والخَلق، وقوله «ممّن فضِّل عليه»؛ أي: فُضِّل النّاظر عليه، وخَرَج بذكر المال والخَلق ما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك، بخلاف الأوّل؛ فإنّه لا يَنظُر فيه إلى الفاضل؛ لِما فيه من احتقار نعمة اللّه عليه بالنّسبة إلى نعمته على ذلك الفاضل في المال والخَلق؛ وإنّما ينبغي أن يَنظُر في هذا إلى المفضول؛ ليَعرِف قَدْرَ نعمة اللّه عليه، وهذا أدب حسنٌ أدَّبَنا به نبيُّنا ﷺ وفيه مصلحةُ ديننا ودُنيانا، وعُقولنا وأبداننا، وراحةُ قلوبنا، فجزاه اللّه عن نصيحته أفضلَ ما جزى به نبيًّا... ومن هنا ينبغي للإنسان اجتناب الاختلاط بأهل الدّنيا والتّوسُّع منها ومن كَسْبِها ونعيمها؛ لأنّه قد يؤدِّي إلى هذه المفسدة، وقال بعضهم: جالستُ الأغنياءَ، فاحتقرتُ لباسي إلى لباسهم، ودابَّتي إلى دوابِّهم، وجالستُ الفقراء فاسترحتُ"[6]
قال السعديُّ رحمه الله: "فمن وفِّق للاهتداء بهذا الهَدْيِ الذي أرشد إليه النبيُّ ﷺ لم يَزَلْ شُكره في قوَّة ونُمُوٍّ، ولم تَزَلْ نِعَمُ الله عليه تَتْرى وتتوالى، ومن عَكَس القضية، فارتفع نظرُه، وصار ينظر إلى من هو فوقَه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بدَّ أن يزدريَ نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فَقَد الشُّكر، ترحَّلت عنه النِّعَم، وتسابقت إليه النِّقَم، وامتُحِن بالغمِّ الْمُلازم، والحَزم الدائم، والتسخُّط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله ربًّا ومدبِّرًا، وذلك ضَرَرٌ في الدين والدنيا، وخُسران مُبِين.
واعلم أن من تفكَّر في كثرة نِعَم الله، وتفطَّن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محضُ فضل الله وإحسانه، وأن جنسًا من نِعَم الله لا يَقدِر العبد على إحصائه وتَعداده، فضلًا عن جميع الأجناس، فضلًا عن شُكرها، فإنه يُضطرُّ إلى الاعتراف التامِّ بالنِّعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربِّه أن يستعين بشيء من نِعَمه على ما لا يحبُّه ويرضاه، وأَوْجب له الحياء من ربِّه الذي هو من أفضل شُعب الإيمان، فاستحيا من ربِّه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره"[7]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقوله: «فهو أجدر» أحقُّ «أن لا تزدروا» تحتقروا «نعمة اللّه عليكم» علَّة للأمر والنَّهي معًا... الحديث إرشاد للعبد إلى ما يَشكُر به النِّعمة، والمراد بمن هو أسفل من النَّاظر في الدّنيا، فيَنظُر إلى المبتلى بالأسقام، وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية الّتي هي أصلُ كلِّ إنعام، وينظر إلى من في خَلْقه نَقصٌ مِن عمًى أو صَمَم أو بَكَم، وينتقل إلى ما هو فيه من السَّلامة عن تلك العاهات الّتي تَجلِب الهمَّ والغمَّ، وينظر إلى ما ابتُلي بالدّنيا وجَمْعِها، والامتناع عمَّا يجب عليه فيها من الحقوق، ويعلم أنّه قد فُضِّل بالإقلال، وأنعم عليه بقِلَّة تَبِعة الأموال في الحال والمآل، وينظر إلى من ابتُلِيَ بالفقر الْمُدْقِع، أو بالدَّيْن الْمُفْظِع، ويعلم ما صار إليه من السَّلامة من الأمرين، وتَقَرُّ بما أعطاه ربُّه العَيْنُ، وما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة اللّه، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه"[8]
قال السعديُّ رحمه الله:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
[الزخرف: 32]
أي: في الحياة الدنيا، والحال أن رَحمةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجمعُون من الدنيا. فإذا كانت معايشُ العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيَبسُط الرزق على من يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوَّة والرسالة، أَوْلى وأحرى أن تكون بيد الله تعالى؛ فاللهُ أعلم حيث يجعل رسالته" [9].
قال السعديُّ رحمه الله:
لأيَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198) "[آل عمران: ١٩٦ – ١٩٨]
وهذه الآية المقصودُ منها التَّسْلِية عمَّا يَحصُل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعُّمِهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواع التِّجارات والمكاسب واللذَّات، وأنواع العِزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات، فإن هذا كلَّه (متاعٌ قليل)، ليس له ثبوتٌ ولا بقاء؛ بل يتمتَّعون به قليلًا، ويعذَّبون عليه طويلًا، هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتَّقُون لربِّهم، المؤمنون به، فمَعَ ما يَحصُل لهم من عزِّ الدنيا ونعيمها، (لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، فلو قدِّر أنهم في دار الدنيا، قد حَصَل لهم كلُّ بؤس وشدَّة، وعناء ومشقَّة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسُّرور والحُبور، والبهجة، نَزْرًا يسيرًا، ومِنحةً في صورة مِحنة؛ ولهذا قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار)، وهم الذين برَّت قلوبهم، فبرَّت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البَرُّ الرحيم من بِرِّه أجرًا عظيمًا، وعطاءً جسيمًا، وفوزًا دائمًا" [10]
المراجع
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 515).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 54، 55).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (18/ 97).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3313).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3281).
- "طرح التثريب في شرح التقريب" للعراقيِّ (8/ 145، 146).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 55).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 614).
- "تفسير السعديِّ" (ص: 765).
- "تفسير السعديِّ" (ص: 162).
قال سفيانُ بنُ عبد الله الثقفيُّ: قلتُ: (يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدكَ)؛ أي: قولًا لا أحتاج إلى أحد بعدَكَ يفسِّره لي، فأعمل بما تقول، وأكتفي به.
قال: «قل: آمنتُ بالله» المراد بذلك قول القلب واللسان؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه. «فاستقم»؛ أي: فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه يَمْنةً أو يَسْرة.
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث وصيةٌ جامعةٌ لكلِّ خصال الخير، موجَزة يسيرةٌ في لفظها، يَسهُل على المرء حفظُها، وينبغي عليه العملُ بها.
وقول الصحابيِّ: (قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك)؛ أي: علِّمني شيئًا جامعًا لمعاني الإسلام، واضحًا في نفْسه، لا أحتاج إلى الاستفسار عنه من غيرك، بحيث أعمل به، وأَعْكُف عليه، وهو كنحو ما رواه أبو هُريرةَ قال: جاء رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: علِّمني شيئًا ولا تُكْثِر عليَّ؛ لعلِّي أَعِيهِ، قال: «لا تغضبْ»، فردَّد ذلك مرارًا، كلُّ ذلك يقول: «لا تغضبْ»[1].
وقوله: «آمنتُ بالله فاستقم» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ؛ كما أخبر عن نفْسه في الحديث عن أبي هريرة : «بُعِثت بجوامع الكَلِم»[2]؛ فإنه ﷺ جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معانيَ الإسلام والإيمان كلها؛ فإنه أمرَه أن يجدِّد إيمانه متذكِّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه، ويقتضي هذا استحضار تفصيل معاني الإيمان الشرعيِّ بقلبه، ثم أمره بالاستقامة على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج؛ فإنها ضدُّه[3].
وهذا نظير قول الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
[فصلت: 30]
فإن معناه: وَحَّدُوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن تُوُفُّوا على ذلك[4].
والاستقامة في ذاتها أمرٌ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن كافَّة النواهي؛ فإن العبد لو تَرَك أمرًا، أو اقترف مَنهيًّا عنه، لم يَكُ مستقيمًا[5].
لذا؛ كان الأمر بالاستقامة صعبًا شديدًا؛ فإن الإنسان لا يقوى على الاستقامة بالكلية؛ ولهذا قال ﷺ في حديث ثوبان: «استقيموا ولن تُحصوا»[6]؛ أي: استقيموا ولن تَستطيعوا الاستقامة بالكلية؛ ولكن اجتهدوا قدرَ المستطاع، واسألوا الله العَون والثبات[7].
واستقامةُ المأمور صعبٌ شديدٌ؛ فإنها تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط[8].
وقد كثُرت عبارات الصحابة في تعريف الاستقامة، وهي تحومُ جميعًا حولَ معنًى واحد؛ قال أبو بكر الصديق: "الاستقامة: ألَّا تُشركَ بالله شيئًا". يريد الاستقامة على محضِ التوحيد.
وقال عمرُ بنُ الخطَّاب: "الاستقامة: أن تستقيمَ على الأمر والنهيِ، ولا تَرُوغَ رَوَغان الثعالب".
وقال عثمانُ بنُ عفَّانَ: "استقاموا: أخلَصوا العمل لله".
وقال عليُّ بنُ أبي طالب، وابن عبَّاس ﭭ: "استقاموا: أدَّوُا الفرائضَ".
وقال الحسن رحمه الله: «استقاموا على أمر الله، فعَمِلوا بطاعته، واجتنبوا معصيته»[9].
المراجع
- رواه البخاريُّ (6116)، والترمذيُّ (2020)، واللفظ له. وانظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 221)، "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 80).
- رواه البخاريُّ (2977)، ومسلم (523).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 221).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 275)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 222).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 457).
- رواه ابن ماجه (277)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/ 198).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87).
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 458).
- انظر: "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 508).
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "استقامةُ المأمور صعبٌ شديدٌ؛ فإنها تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط"[1].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله عليه السلام للذي سأله: «قل: آمنتُ بالله ثم استقم»: هذا من جوامع كَلِمه - عليه السلام - وهو مطابق لقوله تعالى:
﴿َاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾
[فصلت: 30]
أي: وحَّدوا اللهَ وآمَنوا به، ثم استقاموا، فلم يَحِيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته، إلى أن تُوفُّوا على ذلك. وعلى ما قلناه أكثرُ المفسِّرين من الصحابة فمَن بعدَهم، وهو معنى الحديث، إن شاء الله تعالى. قال عمرُ بنُ الخطَّاب: استقاموا والله على طاعة الله، ولم يروغوا روغان الثعالب"[2].
قال النوويُّ رحمه الله: "وقال ابن عبَّاس - رضى الله عنهما - في قول اللّه تعالى:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
[هود: 112]
ما نزلت على رسول اللّه ﷺ في جميع القرآن آيةٌ كانت أَشَدَّ ولا أَشَقَّ عليه من هذه الآية؛ ولذلك قال ﷺ لأصحابه حين قالوا: قد أَسرَع إليك الشَّيْب، فقال:
«شيَّبتني هودٌ وأَخَواتُها»[3]
قال الأستاذ أبو القاسم القُشَيْريُّ في رسالته: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونِظامُها، ومن لم يكن مستقيمًا في حالته، ضاع سَعْيُه، وخاب جُهْدُه. قال: وقيل: الاستقامة لا يُطيقها إلّا الأكابر؛ لأنّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرّسوم والعادات، والقيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصِّدق؛ ولذلك قال ﷺ: «استقيموا ولن تُحصوا»، وقال الواسطيُّ: الخَصْلة الّتي بها كَمُلت المحاسن، وبفقدها قَبُحت المحاسن. واللّه أعلم"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "«قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ»: طَلَب منه أن يعلِّمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام، كافيًا؛ حتّى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال له النّبيُّ ﷺ: «قل: آمنت باللّه، ثمّ استقم» وفي الرّواية الأخرى: «قل: ربّي اللّه، ثمّ استقم»: هذا مُنتزَع من قوله عزّ وجلّ:
﴿ِإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
[فصّلت: 30]
وقوله عزّ وجلّ:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 13 أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[الأحقاف: 13 - 14]
وخرَّج النّسائيُّ في "تفسيره" من رواية سُهيلِ بنِ أبي حزم: حدَّثنا ثابت، عن أنس أنّ النّبيَّ ﷺ قرأ:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}ﱠ
[الأحقاف: 13]
فقال:
«قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرُوا، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ»
وخرَّجه التّرمذيُّ، ولفظُه: فقال:
«قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ»
وقال: حسن غريب، وسُهَيل تُكُلِّم فيه من قِبَل حِفظه"[5].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك»؛ أي: قل لي قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، فيكون فصلاً وحاسمًا، ولا يحتاج إلى سؤال أحد، فقال له النبيُّ ﷺ: «قل: آمنتُ بالله ثم استقم». فقوله عليه الصلاة والسلام: «قل: آمنت» ليس المراد بذلك مجرَّد القول باللسان، فإن من الناس من يقول: آمنتُ بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين؛ ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضًا؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه؛ لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان، لا بدَّ من الإيمان بالقلب واللسان؛ ولهذا كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يقول وهو يدعو الناس إلي الإسلام: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا» فقال: «قولوا»؛ أي: بألسنتكم، كما أنه لا بدَّ من القول بالقلب. وقوله: «آمنت بالله» يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل، وبربوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وبصفاته، وبأحكامه، وبأخباره، وكل ما يأتي من قِبَله - عزَّ وجلَّ - تؤمن به، فإذا آمنتَ بذلك، فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه يمينًا ولا شمالاً، لا تقصِّر ولا تَزد. فاستقم على الدين، واستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والمتابعة لرسول الله ﷺ، واستقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام والحجِّ، وعلى جميع شريعة الله. وقوله: «قل: آمنت بالله ثم» دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان، وأن من شرط الأعمال الصالحة؛ أي: من شرط صحتها وقبولها أن تكون مَبنيَّةً على الإيمان، فلو أن الإنسان عَمِل بظاهره على ما ينبغي، ولكن باطنه خَرَاب، وفي شكٍّ، أو في اضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فإن ذلك لا ينفعه؛ ولهذا اتَّفق العلماء - رحمهم الله - على أن من شروط صحة العبادة وقبولها: أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله؛ أي: معترِفًا به، وبجميع ما جاء من قِبَله تبارك وتعالى. ويُستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان، إذا قام بعمل، أن يَشعُر بأنه قام به لله، وأنه يقوم به بالله، وأنه يقوم به في الله؛ لأنه لا يستقيم على دين الله إلا بعد الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - فيَشعُر بأنه يقوم به لله؛ أي: مخلصًا، وبالله؛ أي: مستعينًا، وفي الله؛ أي: متَّبِعًا لشَرعه، وهذه مستفادة من قوله تبارك وتعالى:
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ 5 ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}
[الفاتحة: ٥ – ٦]
فالأول: قيام لله، والثاني: قيام به، والثالث: قيام فيه؛ أي: في شرعه؛ ولهذا نقول: أن المراد بالصراط المستقيم في الآية الكريمة هو شرع الله عزَّ وجلَّ"[6].
قال ابن القيم رحمه الله: "سُئل صدِّيق الأمة وأعظمها استقامةً أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: أن لا تشرك بالله شيئًا. يريد الاستقامة على محض التوحيد. وقال عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله. وقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عباس - رضي الله عنهما -: استقاموا: أدَّوُا الفرائض. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعَمِلوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: استقاموا على محَّبته وعُبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً"[7].
قال العباد: "وهذا يدلُّ على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول ﷺ؛ لأنه قال: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك»، ومعناه: قل لي قولاً واضحًا جَليًّا آخذ به وأعمل به، فهو يدلُّ على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الخير، وعلى التفقُّه في الدين، وعلى معرفة الحقِّ والهدى، ولا شكَّ أنهم - رضي الله عنهم وأرضاهم - أسبقُ الناس إلى كلِّ خير، وأحرصُهم عليه، وقد اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه، وأَوجَدهم في زمانه، فشرَّفهم بصُحبته، وبالجهاد معه، وبالدفاع والذبِّ عنه، وبأخذ الشريعة منه، ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطةَ بين الناس وبين رسول الله ﷺ، فما عرف الناس حقًّا ولا هُدًى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول ﷺ"[8].
قال ابن رجب رحمه الله: "ولعلّ من قال: إنّ المراد الاستقامة على التّوحيد. إنّما أراد التّوحيد الكاملَ الّذي يحرِّم صاحبه على النّار، وهو تحقيق معنى لا إله إلّا اللّه؛ فإنّ الإله هو المعبود الّذي يُطاع، فلا يُعصى؛ خشيةً وإجلالًا ومهابةً ومحبّةً ورجاءً وتوكُّلًا ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التّوحيد؛ لأنّها إجابة لداعي الهوى وهو الشّيطان؛ قال اللّه عزّ وجلّ:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}
[الجاثية: 23]
قال الحسن وغيره: هو الّذي لا يهوى شيئًا إلّا ركَبِه، فهذا ينافي الاستقامة على التّوحيد. وأمّا على رواية من روى: «قل: آمنت باللّه» فالمعنى أظهر؛ لأنّ الإيمان يدخل فيه الأعمال الصّالحة عند السَّلَف ومن تابَعهم من أهل الحديث، وقال اللّه عزّ وجلّ:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
[هود: 112]
فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه، وأن لا يجاوزوا ما أُمروا به، وهو الطّغيان، وأخبر أنّه بصير بأعمالكم، مطَّلِع عليها؛ قال تعالى:
{فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}
[الشورى: 15]
قال قتادةُ: أُمِر محمَّد ﷺ أن يستقيم على أمر اللّه. وقال الثّوريُّ: على القرآن، وعن الحسن، قال: لَمّا نزلت هذه الآية شَمَّر رسول اللّه ﷺ فما رُئِي ضاحكًا. خرَّجه ابن أبي حاتم، وذكر القُشَيريُّ وغيره عن بعضهم: أنّه رأى النّبيَّ ﷺ في المنام، فقال له: يا رسول اللّه، قلتَ: «شَيَّبتني هود وأخواتها»[9] فما شيَّبَك منها؟ قال: «قوله:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
[هود: 112]
وقال عزّ وجلّ:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}
[فصلت: 6]
وقد أَمَر اللّه تعالى بإقامة الدّين عمومًا؛ كما قال:
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
[الشورى: 13]
وأَمَر بإقام الصّلاة في غير موضع من كتابه، كما أَمَر بالاستقامة على التّوحيد في تلك الآيتين"[10].
قال ابن القيم رحمه الله: "فالاستقامة كلمةٌ جامعة، آخِذة بمَجَامع الدين، وهي القيام بين يدَيِ الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، والاستقامةُ تتعلَّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعُها لله، وبالله، وعلى أمر الله. قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالبَ الكرامة؛ فإن نفسك متحرِّكة في طلب الكرامة، وربَّك يُطالبك بالاستقامة. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله تعالى روحه - يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"[11].
قال ابن رجب رحمه الله: "والاستقامة: هي سلوك الصّراط المستقيم، وهو الدِّين القيِّم من غير تعريج عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، ويَشمَل ذلك فعل الطّاعات كلِّها، الظّاهرةِ والباطنة، وترك المنهيَّات كلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيّة جامعةً لخصال الدّين كلِّها.
وفي قوله عزّ وجلّ:
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}
[فصلت: 6]
إشارة إلى أنّه لابدّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيُجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتّوبة والرّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النّبيِّ ﷺ لمعاذ:
«اتَّقِ اللّه حيثما كنتَ، وأتبع السّيّئةَ الحسنةَ تَمحُها»[12]
وقد أخبر النّبيُّ ﷺ أنّ النّاس لن يُطيقوا"[13].
قال ابن القيم رحمه الله: "الاستقامة: روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها الأعمال، وهي برزخ بين وِهَاد التفرُّق وروابي الجَمع، شبَّه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن؛ فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميِّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضًا وربوُّها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل، ولا صحَّة للحال بدونها، وأما كونها برزخًا بين وِهاد التفرُّق وروابي الجمع، فالبرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين، والوِهَاد الأمكنة المنخفضة من الأرض، واستعارها للتفرُّق لأنها تَحجُب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابي كما أن صاحب التفرُّق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع، ويشاهده، وأيضًا فإن حاله أنزل من حاله، فهو كصاحب الوهاد، وحال صاحب الجمع أعلى، فهو كصاحب الروابي، وشبَّه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي"[14].
قال العباد: "وقد أجابه النبيُّ ﷺ بكلمتين فقال له: «قل: آمنت بالله ثم استقم»، فأمره بأن يقول: «آمنتُ بالله»، والإيمان هنا جاء مطلَقًا وعامًّا، فيدخل فيه الأمور الباطنة والأمور الظاهرة، ومعنى ذلك: أن الإنسان يؤمن بالله - عزَّ وجلَّ - وبما جاء في كتابه وسنَّة رسوله ﷺ، ويصدِّق بذلك، ويؤمن به، ثم بعد ذلك يستقيم على ملازمة الحقِّ والهدى الذي هو الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - الذي يكون جامعًا بين الأمور الباطنة والأمور الظاهرة. وهو قد سأله عن الإسلام فقال: «قل لي في الإسلام»، فقال: «قل: آمنت بالله»، فدلَّنا هذا على أن قوله: «آمنت بالله»، يَدخُل فيه الأمور الظاهرة والأمور الباطنة؛ لأنا قد عرفنا فيما مضى أن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمِع بينها في الذِّكر، فُرِّق بينها في المعنى، بحيث يكون الإيمان للأمور الباطنة ويكون الإسلام للأمور الظاهرة، وإذا جاء أحدهما مستقلًّا عن الآخر، شَمِل المعنيين جميعًا؛ الأمور الظاهرة والباطنة، فهنا قوله: «آمنت بالله»، يدخل فيه الأمور الظاهرة والباطنة"[15].
قال أبو عليٍّ الجوزجانيُّ رحمه الله: «كن صاحبَ الاستقامة لا طالبَ الكَرامة؛ فإن نفْسَكَ متحركةٌ في طلب الكرامة، وربكَ عز وجل يُطالبك بالاستقامة»[16].
قال ابن القيم رحمه الله: "العلم هادٍ، والحال الصّحيح مهتَدٍ به، وهو تَرِكة الأنبياء وتُراثُهم، وأهله عُصْبَتُهم وورَّاثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصُّدور، ورياض العقول، ولذَّة الأرواح، وأَنَس المستَوْحِشين، ودليل المتحيِّرين، وهو الميزان الّذي به تُوزَن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرِّق بين الشّكِّ واليقين، والغيِّ والرَّشاد، والهدى والضَّلال، به يُعرَف اللّه ويُعبَد، ويُذكَر ويوحَّد، ويُحمَد ويمجَّد، وبه اهتدى إليه السّالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون"[17].
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله: «الاستقامة درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومَن لم يكن مستقيمًا في حالته ضاع سَعْيُه، وخاب جهده،
قال تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾
[النحل: 92]»[18].
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله: «الاستقامة لا يُطيقها إلا الأكابرُ؛ لأنها الخروجُ عن المعهودات، ومفارقةُ الرسوم والعادات، والقيامُ بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق»[19].
المراجع
- "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطيبي (2/ 458).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 275).
- رواه الترمذيّ (3293)، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح الجامع"(3722).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 9).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 507).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 571، 572).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 5).
- رواه الترمذيّ (3293)، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح الجامع"(3722).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 509، 510).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 105).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 106).
- "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 6).
- "الرسالة القشيرية" (2/ 357).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 439).
- "الرسالة القشيرية" (2/ 356).
- "الرسالة القشيرية" (2/ 357).
يروي أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ؟»؛ أي: لا يتحرَّك الإنسان يومَ القيامة عن موقف الحساب، حتى يُسأل عن حياتِه ومدَّة بقائه في الدنيا، أ كانت في طاعة أم معصية؟ «وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟»؛ أي: ويُسأل عن علمه أعمل به أم لا؟ وهل أخلص لله تعالى فيه؟ أم سعى ليُقال عنه: عالم؟ «وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟»؛ أي: من أيِّ طريق كان يكتسب رزقه وأمواله؟ من طريق مُباح حلال، أم من طريق الحرام والشُّبهات؟ «وَفِيمَ أَنْفَقَه»؛ أي: هل كان ينفق أمواله في طاعة ربِّه وخِدمة دينه، أو في المعاصي والشهوات؟ «وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ»؛ أي: يُسأل عن جسمه وصحَّته وقوَّته وشبابه فيمَ أبلاها؟ هل حافَظ عليها واستعملها في الطاعة ورضا ربِّه؟ أم أبلاها في سُبل المعاصي والذنوب والشهوات؟
ينبِّه النبيُّ ﷺ المسلمين في هذا الحديث ببعض الأسئلة التي يُسأل عنها العبدُ يوم القيامة؛ ليأخذ كلٌّ منهم حِذْرَه، ويَنظُر إلى حاله، ويُعِدَّ للسؤال جوابًا؛ فكلُّ إنسان مسؤولٌ مسؤوليةً كاملة عن كافَّة أعماله، ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أنه لم يَجعَل هذه الأسئلة مُبهَمة؛ بل أخبرَنا بها، وبيَّنها لنا، حتى نستعِدَّ لها، ونجتهد في الإجابة عنها؛ فيقول ﷺ: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ»؛ أي: لا تزول قدما الإنسان يوم القيامة عن موقف الحساب، حتى يُسأل عن أربعة أمور، وأول هذه الأسئلة: السؤال «عَنْ عُمُرِهِ»؛ أي: حياتِه وبقائه في الدنيا، «فِيمَا أَفْنَاهُ»: في طاعة أم معصية؟[1].
فينبغي للإنسان أن يَعرِف قيمةَ وقتِه، وشَرَف زمانه، فلا يُضيع وقته فيما لا يُرضي اللهَ، وأن يَبذُله كلَّه في مرضاة ربِّه عزَّ وجلَّ؛ فإن الله سائلُه يوم القيامة عن حياته كلِّها، فإن أدَّى ما عليه من الفرائض والطاعات، نجا وسَلِم، وإن لم يفعل ذلك، هَلَك وخَسِر، وفي حديث ابن مسعود : «وعن شبابه فيم أبلاه؟»؛ أي: قوَّته في وَسَط عُمره فيما ضيَّعه[2]، وإنما اختصَّ فترة الشباب؛ لأنها محطُّ آمال الأمم، وهي مرحلة القوَّة والفتوَّة والنشاط، وفيها يستطيع الإنسان أن يُدرِك ما لا يُدرِكه في غيرها من المراحل، فـ"المراد سؤالُه عن قوَّته وزمانه الذي يتمكَّن منه على أقوى العبادة"[3]، وهذا يفسِّر مدى حرص النبيِّ ﷺ على توجيه المسلمين إلى اغتنام هذه المرحلة؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رضي اللَّه عنهمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»[4].
قوله: «وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟»؛ أي: ما الذي فَعَله بعلمه، وهل كان هذا العلم "لوجه الله تعالى خالصًا، فيُثاب عليه، أو رياءً وسُمعةً فيُعاقب عليه إن شاء الله تعالى"[5]، فأوَّل من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة: شهيدٌ، وعالمٌ، ومُنفِق، كانت أعمالهم رياءً وسُمعة؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: سمعت رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ:
«إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ؛ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ»[6]
فـ"قوله ﷺ في الغازي والعالم والجَوَاد، وعقابهم على فِعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار، دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء، وشدَّة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال؛ كما قال الله تعالى:
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
[البينة: 5]
وفيه أن العموماتِ الواردةَ في فضل الجهاد؛ إنما هي لمن أراد اللهَ تعالى بذلك مخلِصًا، وكذلك الثناءُ على العلماء وعلى المنفِقين في وجوه الخيرات، كلُّه محمولٌ على من فعلَ ذلك لله تعالى مخلِصًا"[7].
و"هذا مَقامٌ مخوِّف؛ لأنه لم يقل: وعن علمه ما قال فيه؟ وإنما قال: ما عَمِل فيه؟ فلينظرِ العبد ما عمل فيما عَلِمه، هل صَدَق اللهَ في ذلك وأخلَصه، حتى يَدخُل فيمن أثنى الله عليه بقوله:
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}
[البقرة: 177]
أو خالَف عِلمَه بفعله، فيَدخُل في قوله تعالى:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}
[الأعراف: 169]
وقوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}
[البقرة: 44]
وقوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}
[الصف: 2- 3]" [8].
فينبغي أن يَظهَر أثرُ هذا العلم في أحوال العبد وأفعاله، وإلا فلا معنى للعلم بلا عمل، قال الحسن البصريُّ: " كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في بصره، وتخشُّعه، ولسانه، صلاته، وزُهده"[9].
قوله: «وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟»؛ أي: من حرام أم من حلال؟ «وَفِيمَ أَنْفَقَه؟»؛ أي: في طاعة أم معصية؟[10]، هل اكتسب ماله هذا من طريق مباح، أم من طريق الشُّبهات والحرام؟ وماذا فعل بهذه الأموال؟ هل سخَّرها في خدمة دينه، وطاعة ربه ونبيِّه؟ أم جعلها في المعاصي والشهوات؟
قوله: «وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ»؛ أي: يُسأل عن قوَّته وشبابه وفتوَّته وقدرته فيمَ أبلاهن؟ هل في الصلاة والصيام والصدقة؟ أم في المعاصي والذنوب والشهوات؟ فإن أبلاه في طاعة الله سَعِد، ونجا مع الناجين، وإن أبلاه في معصية الله، هَلَك، وخَسِر مع الخاسرين.
المراجع
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد علي البكري (4/ 300).
- "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 85).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (10/ 3296).
- رواه الحاكم في "المستدرك على الصحيحين" (7846)، وقال: هذا حديث صحيحٌ على شرط الشَّيخَين ولم يُخَرِّجاه، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3355).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لمحمد علي البكري (4/ 301).
- رواه مسلم (1905).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 43).
- "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" لأبي عبد الله القرطبيِّ (ص: 632).
- "فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي" لأبي عاصم الغمري (3/ 331).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (8/ 3254).
1. قال ابن حجر رحمه الله: "وفي سياق حديث أبي بَرْزَةَ إشارةٌ إلى الخصوص؛ وذلك أنه ليس كلُّ أحد عنده علم يُسأل عنه، وكذا المال، فهو مخصوص بمن له علم، وبمن له مال، دون من لا مال له، ومن لا علم له، وأمّا السّؤال عن الجسد والعمر، فعامٌّ، ويَخُصُّ مِن المسؤولين مَن ذُكِر"[1].
قال ابن علان رحمه الله: "«قال: قال رسول الله: لا تزول قدما عبد»؛ أي: من موقفه للحساب إلى جنَّة أو نار. «حتى يُسأل» بالبناء للمفعول «عن عُمره» بضمِّ أوَّلَيْهِ ويُسكَّن ثانيه تخفيفًا؛ أي: حياته وبقائه في الدنيا. «فيما أفناه؟» في طاعة أم معصية؟ فما استفهامية فيه وفيما بعدَه، وإثبات أَلِفها مع كونها مجرورةً قليلٌ، والكثيرُ حذفُها. «وعن علمه فيم فعل فيه؟» لوجه الله تعالى خالصًا، فيُثاب عليه، أو رياءً وسُمعة، فيُعاقب عليه إن شاء الله تعالى. «وعن ماله من أين اكتسبه؟» أمن حلال ذلك أو حرام؟ «وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟» في طاعة مولاه أم في سواه؟ ويُستثنى من ذلك الأنبياء وبعض صالحي المؤمنين؛ كالذين يدخلون الجنة بغير حساب"[2].
قال الحريمليُّ رحمه الله: "قوله: «لا تزول قدما عبد»؛ أي: من موقفه للحساب «حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه؟» أفي طاعة أم معصية؟ «وعن علمه فيم عمله؟» لوجه الله تعالى خالصًا أو رياءً وسُمعة. «وعن ماله من أين اكتسبه؟»، أَمِنْ حلال أو حرام؟ «وفيم أنفقه؟» أفي البرِّ والمعروف أو الإسراف والتبذير؟ «وعن جسمه فيم أبلاه؟» أفي طاعة الله أو معاصيه؟"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فإذا كان خيرُ الناس من طال عُمره وحَسُن عمله، فإنه ينبغي للإنسان أن يَسأل اللهَ دائمًا: أن يجعله ممن طال عُمره، وحسُن عمله؛ من أجل أن يكون من خير الناس، وفي هذا دليل على أن مجرَّد طول العمر ليس خيرًا للإنسان؛ إلا إذا حسُن عمله؛ لأنه أحيانًا يكون طول العمر شرًّا للإنسان، وضررًا عليه؛ كما قال الله - تبارك وتعالى -:
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ}
[آل عمران: 178]
فهؤلاء الكفُّار يُملي الله لهم – أي: يَمُدُّهم بالرزق، والعافية، وطول العمر، والبنين، والزوجات - لا لخير لهم؛ ولكنه شرٌّ لهم؛ لأنهم سوف يزدادون بذلك إثماً"[4].
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ$: "المؤمن في الدّنيا مهمومٌ حزين، همُّه مَرمَّةُ جهازه. ومن كان في الدّنيا كذلك، فلا همَّ له إلّا في التّزوُّد بما يَنفَعه عند عَوْده إلى وطنه، فلا يُنافِس أهلَ البلد الّذي هو غريب بينهم في عزِّهم، ولا يجزع من الذُّلِّ عندهم"[5].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ في الغازي والعالم والجَوَاد، وعقابهم على فِعلهم ذلك لغير الله، وإدخالهم النار، دليلٌ على تغليظ تحريم الرياء، وشدَّة عقوبته، وعلى الحثِّ على وجوب الإخلاص في الأعمال؛ كما قال الله تعالى:
{ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
[البينة: 5]
وفيه أن العموماتِ الواردة في فضل الجهاد؛ إنما هي لمن أراد الله تعالى بذلك مخلِصًا، وكذلك الثناءُ على العلماء وعلى المنفِقين في وجوه الخيرات، كلُّه محمولٌ على من فعلَ ذلك لله تعالى مخلِصًا"[6].
قال النوويُّ رحمه الله: "وأما التأخير في الأجل، ففيه سؤال مشهور، وهو أن الآجال والأرزاق مقدَّرة، لا تزيد ولا تنقص، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأجاب العلماء بأجوبة، الصحيح منها: أن هذه الزيادة بالبركة في عمره، والتوفيق للطاعات، وعمارة أوقاته بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك"[7].
قال أبو عبد الله القرطبيُّ رحمه الله: "هذا مَقامٌ مخوِّف؛ لأنه لم يقل: وعن علمه ما قال فيه؟ وإنما قال: ما عَمِل فيه؟ فلينظرِ العبد ما عمل فيما عَلِمه، هل صَدَق اللهَ في ذلك وأخلَصه، حتى يَدخُل فيمن أثنى الله عليه بقوله:
{أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا}
[البقرة: 177]
أو خالَف عِلمَه بفعله، فيَدخُل في قوله تعالى:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ}
[الأعراف: 169]
وقوله تعالى:
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ}
[البقرة: 44]
وقوله:
{أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ 2 كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}" [8].
[الصف: 2- 3]
قال الحسن البصريُّ: " كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يُرى ذلك في بصره، وتخشُّعه، ولسانه، وصلاته، وزُهده"[9].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 414).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (4/ 300، 301).
- "تطريز رياض الصالحين" للحريمليِّ (ص: 275).
- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 107).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 378، 379).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 43).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 114).
- "التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" لأبي عبد الله القرطبيِّ (ص: 632).
- "فتح المنان شرح وتحقيق كتاب الدارمي" لأبي عاصم الغمري (3/ 331).
الباءة: القدرة على الزواج وعلى تكاليفه.
أغضُّ: أي: أشدُّ كفًّا.
أحصن: أي: أكثرُ عَفافًا.
وِجاء: وقاء وإخصاء.
المعنى الإجماليُّ للحديثيقول عبدُ الله بنُ مسعودٍ: كُنَّا مع النبيِّ شَبابًا لا نجدُ شيئًا، فقال لنا رسولُ الله ﷺ: «يا معشرَ الشباب»؛ ينادي النبيُّ ﷺ طائفة الشباب ناصحًا لهم. «مَن استطاع الباءةَ، فليتزوَّجْ»؛ أي: من كان لديه القدرةُ على الزواج وتكاليفه، فليتزوَّج؛ «فإنه أغَضُّ للبصر، وأحصَنُ للفَرْجِ»؛ أي: فإنه أشدُّ كَفًّا للبصر عن النظر للحرام، وأكثرُ إعفافًا عن الوقوع في الشهوات المحرَّمة. «ومَن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاءٌ»؛ أي: ومن لم يكن لَدَيه القدرةُ على الزواج وتكاليفه، فلْيَلْزَمِ الصوم ويُكثر منه؛ فإن الصوم يقطع الشهوة، ويقطع شرَّ الْمَنيِّ.
الشرح المفصَّل للحديثإن عناية الرسول ﷺ بالشباب عناية كبيرة، واهتمامه الكبير بإرشادهم لما يُصلحهم ظَهَر في أكثرَ من حديث، وأكثرَ من موقف، وكانت عنايته أكثرَ في أمر الزواج وتكوين الأسرة، حيث كان يحرص على الاعتدال بين حقوق الزوجة وحقوق الله تعالى؛ فهذا عبد الله بنُ عمرٍو قال: "كنتُ رجلًا مجتهدًا، فزَوَّجَنِي أبي، ثم زارني، فقال للمرأةِ: كيف تَجِدِينَ بَعْلَكِ؟ فقالت: نِعْمَ الرجلُ من رجلٍ لا ينامُ ولا يُفْطِرُ. قال: فوقع بي أبي، ثم قال: زَوَّجْتُكَ امرأةً من المسلمين فعَضَلْتَها، فلم أُبَالِ ما قال لي؛ مما أَجِدُ من القوَّةِ والاجتهادِ، إلى أن بلغ ذلك رسولَ اللهِ ﷺ، فقال: «لَكِنِّي أنامُ وأُصَلِّى، وأصومُ وأُفْطِرُ، فَنَمْ وصَلِّ وأَفْطِرْ، وصُمْ من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ»، فقلت: يا رسولَ اللهِ، أنَا أَقْوَى من ذلك، قال: «فصُمْ صومَ داودَ، صُمْ يومًا وأَفْطِرْ يومًا، واقْرَأِ القرآنَ في كلِّ شهرٍ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنَا أَقْوَى من ذلك، قال: «اقْرَأْهُ في خَمْسَ عَشْرَةَ». قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أنَا أَقْوَى من ذلك. حتى بلغ سَبْعًا، ثم قال رسولُ اللهِ ﷺ: «إن لكلِّ عملٍ شِرَّةً، ولكلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فمن كانت فَتْرَتُهُ إلى سُنَّتِي فقد اهتدى، ومن كانت فَتْرَتُهُ إلى غيرِ ذلك فقد هَلَكَ». فقال عبدُ الله: لَأَنْ أكونَ قَبِلْتُ رُخْصَةَ رسولِ اللهِ ﷺ أَحَبُّ إليَّ من أن يكونَ لي مِثْلُ أهلي ومالي، وأنَا اليومَ شيخٌ قد كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، وأَكْرَهُ أن أتركَ ما أمرني به رسولُ اللهِ ﷺ [1].
فهذا نَمُوذَج من حرص الرسول ﷺ على انتظام حياة الشباب في أمر الزواج والعلاقة الزوجية.
وفي هذا الحديث تظهر عناية الرسول ﷺ بأمر الزواج في حالتَيِ القدرة على الزواج، وعدم القدرة، فيقول [2] موجِّهًا حديثه لطائفة الشباب، وخصَّ الشباب؛ لأنهم مَظِنَّة قوَّة الشهوة، بعكس الشيوخ، قال: من قَدَر منكم على تكاليف الزواج وأسبابه من تأسيس منزل، وتحمُّل تكاليف إقامته، فلا يؤجِّل الزواج؛ لأن التزوُّج أشدُّ حفظًا للبصر من التطلُّع إلى الشهوات، والانشغال الشديد بها، وضياع التركيز في النافع المفيد في دينه ودنياه؛ لأن الذي يحفظ شهوته بالزواج يَندُر منه التطلُّع؛ فالاسْتِطَاعَة هُنا عبارةٌ عَن وجود ما بهِ يتَزَوَّج، ولم يُرِد القُدْرة على الوَطْء.
والذي لا يستطيع تأسيس منزل، ولا تحمُّل تكاليفه بسبب ضِيق ذات اليد، أَرشَده الرسول ﷺ إلى طريقة تحفظ عليه عَفَافه وتركيزه في عبادته وعمله، ألا وهي الصيام؛ فإنَّ الصيام يُضعِف الشهوة، فيَقِلُّ تحريكها للنفس لتلمُّسها والانشغال بها، فهي تعمل عمل الإخصاء في الإنسان عن طريق تقليل الشهوة، وليس عن طريق إزالة العُضْوِ كما هو مفهوم الإخصاء.
واستنادًا إلى تلمُّس قطع الشهوة بالصوم؛ أباح الفقهاء تلمُّس الأدوية لقطع الشهوة مؤقَّتًا وليس للأبد؛ فقد استدلَّ بِهِ الْخطابِيُّ على جَوَاز المعالجة لقطع شهوة النِّكَاح بالأدوية، وحَكَاه الْبَغَوِيُّ فِي "شرح السُّنَّة"، وينبغي أن يُحمَل على دَوَاء يُسكِّن الشَّهوة دون ما يَقطَعها أصالةً؛ لأنه قد يَقدِر بعدُ فيَندَم؛ لفَوَات ذلك في حَقِّه، وقد صرَّح الشافعية بأنه لا يكسرها بالكافور ونحوه.
وقد يقول بعض الشباب: إن الصوم يُثير شهوتهم أكثرَ؛ لأنه يُنقِّي الدَّمَ، ويُزيل الدهون من الشرايين فتتَّسِع، ويجري الدمُ أكثرَ من حالة عدم الصوم. وذلك إنما يقع في مبدأ الأمر، فإذا تَمَادى عليه واعتاده، سكن ذلك، وشهوةُ النِّكاح تابِعة لشهوة الأكل؛ فَإِنَّهُ يَقوَى بقوَّتها، ويَضعُف بضعفها.
والحكم الفقهيُّ للنكاح يدور بين ثلاثة أحكام:
الأول: سنَّة: وهو في حال الاعتدال؛ لقوله ﷺ: «تَنَاكحوا تَكْثُروا؛ فَإِنِّي أُباهي بكم الْأُمَمَ يَوْم الْقِيَامَة» [3].
الثاني: واجب: وهو عند التَّوَقان، وهو غَلَبَة الشَّهوة.
الثالث: مكروه: وهو إذا خاف الجَور؛ لأنّه إنّما شُرع لمصالحَ كثيرةٍ، فإذا خاف الجَور، لم تظهر تلك المصالح، ثمّ في هذه الحالة تشتغل بالصَّوم؛ وذلك أن الله تعالى أحلَّ النّكاح ونَدَب نبيَّه ﷺ إليه ليكونوا على كمال من دينهم، وصيانة لأنفسهم من غضِّ أبصارهم، وحفظ فروجهم؛ لِما يُخشى على من جَبَله الله على حبِّ أعظم الشّهوات.
هذا هو حرص الرسول ﷺ على صحَّة الشباب النفسية والبدنية، وعلى دينه قديمًا قبل ظهور الفتن الكثيرة التي تعمُّ عالمنا اليوم، وقبل أن تنتشر مُشعِلات الشهوة من حولنا، وقبل أن يَسهُل الوصول للرذيلة والاختلاء بها، والشبابُ اليوم أشدُّ حاجةً إلى من يَسِير فيهم سَيْرَ رسول الله ﷺ، بالنُّصح والإرشاد والحماية من المزالق، والتحصين ضدَّ هذه الفتن، بتقوية الإيمان، وزيادة حِسِّ المراقبة، ورفع كِفَّة الخوف، وتوجيههم نحو تفريغ الطاقات في العبادات والرياضات والهوايات، إلى جانب السبب الأعظم بعد الالتجاء إلى الله، وهو الصوم.
المراجع
1. صحيح ابن خزيمة (2105)، وصحَّحه الألبانيُّ وقال: إسناده صحيح على شرط البخاريِّ.
2. انظر: "إرشاد الساري" للقسطلانيِّ (8/6)، و"عمدة القاري" للعينيِّ (10/278).
3. رواه البيهقيُّ في "معرفة السنن والآثار" (13448)، وعبدالرزاق في مصنفه (10391)، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع" (2484).
قال النوويُّ رحمه الله: "قال أهل اللّغة المعشر هم الطّائفة الّذين يشملهم وصف؛ فالشّباب معشر، والشّيوخ معشر، والأنبياء معشر، والنّساء معشر، فكذا ما أشبهه، والشّباب جمع (شابّ)، ويجمع على شبّان وشببة، والشّابّ عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنةً،
قال أهل اللّغة: الْمَعشَر هم الطّائفة الّذين يَشمَلهم وصفٌ؛ فالشّباب مَعشَر، والشّيوخ مَعشَر، والأنبياء معشر، والنّساء معشر، فكذا ما أشبهه، والشّباب جمع (شابٍّ)، ويُجمَع على شُبَّانٍ وشَبَبة، والشّابُّ عند أصحابنا هو من بلغ ولم يجاوز ثلاثين سنةً. وأما الباءة: فيها أربع لغات حكاها القاضي عياض، الفصيحة المشهورة الباءة بالمدِّ والهاء، والثّانية الْبَاةُ بلا مدٍّ، والثّالثة البَاءُ بالمدِّ بلا هاء، والرّابعة البَاهَةُ بهاءين بلا مدٍّ، وأصلُها في اللّغة الجِمَاع، مشتقَّة من الْمَبَاءة، وهي المنزِل، ومنه مَبَاءة الإبل، وهي مَوَاطِنها، ثمّ قيل لعَقد النّكاح: باءَة؛ لأنّ من تزوَّج امرأةً بوَّأها منزلًا، واختلف العلماء في المراد بالباءة هنا على قولين يرجعان إلى معنًى واحد، أصحُّهما أنّ المراد معناها اللّغويُّ، وهو الجماع، فتقديره: من استطاع منكم الجماع لقُدرته على مُؤَنِه، وهي مؤن النّكاح، فليتزوَّج، ومن لم يستطع الجماع؛ لعجزه عن مُؤَنه، فعليه بالصّوم؛ ليدفع شهوته، ويقطع شرَّ مَنيِّه كما يقطعه الوِجاء، وعلى هذا القول وقع الخطاب مع الشُّبَّان الّذين هم مَظِنَّة شهوة النّساء، ولا ينفكُّون عنها غالبًا. والقول الثّاني: أنّ المراد هنا بالباءة مؤن النّكاح، سُمِّيت باسم ما يُلازمها، وتقديره: من استطاع منكم مؤن النّكاح فليتزوَّج، ومن لم يستطعها فليَصُم؛ ليدفع شهوته، والذي حمل القائلين بهذا على هذا أنّهم قالوا: قوله ﷺ: «ومن لم يستطع فعليه بالصّوم»، قالوا: والعاجز عن الجماع لا يحتاج إلى الصّوم لدفع الشّهوة، فوجب تأويل الباءة على المؤن، وأجاب الأوّلون بما قدَّمناه في القول الأوّل، وهو أنّ تقديره: من لم يستطع الجماع لعجزه عن مُؤَنه وهو محتاج إلى الجماع، فعليه بالصّوم، واللّه أعلم" [1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "ندب النبيُّ، عليه السلام، لأمَّته النكاح؛ ليكونوا على كمال من أمر دينهم، وصيانة لأنفسهم في غضِّ أبصارهم وحفظ فروجهم؛ لما يُخشَى على من زيَّن الله في قلبه حُبَّ أعظمِ الشهوات، ثم بَيَّن - عليه السلام - أن الناس كلَّهم لا يجدون طَوْلًا إلى النساء، وربما خافوا العَنَت بفقد النكاح، فعوَّضهم منه ما يُدافعون به سَوْرة شهواتهم، وهو الصيام؛ فإنه وِجَاءٌ، والوِجاء: القَطع، يعنى: أنه مَقطَعة للانتشار وحركة العروق التي تتحرَّك عند شهوة الجماع، وأصلُ الوجاء عند العرب أن تُرضَّ البيضتان، يقال: وَجَأ فلانٌ الكَبْشَ، وهو كبش موجوء، فإذا سُلَّت البيضتان، فهو الخَصْيُ، وفى كتاب العين: وجأتُ الرجل ضَرَبْتُه. والباءة في كلام العرب: الجِماعُ، وتُجمَع (بآء)، كما تُجمَع الرَّاءة (رَآء)" [2].
قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا الْوِجَاءُ، فبكسر الواو وبالمدِّ، وهو رَضُّ الخُصْيتين، والمراد هنا أنّ الصّوم يقطع الشّهوة ويقطع شرَّ المنيِّ كما يفعله الوجاء، وفي هذا الحديث الأمر بالنّكاح لمن استطاعه وتاقت إليه نفسه، وهذا مُجمَع عليه؛ لكنّه عندنا وعند العلماء كافَّةً أمر ندب لا إيجاب، فلا يلزم التّزوُّج ولا التّسرِّي، سواء خاف العنت أم لا، هذا مذهب العلماء كافّةً، ولا يُعلَم أحد أَوجَبه إلّا داودُ ومن وافَقَه من أهل الظّاهر، وروايةٌ عن أحمد، فإنّهم قالوا: يلزمه إذا خاف العَنَت أن يتزوَّج أو يتسرَّى، قالوا: وإنّما يلزمه في العمر مرّةً واحدةً، ولم يَشرِط بعضهم خوف العنت" [3].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "ذهب جماعة الفقهاء إلى أن النكاح مندوبٌ إليه مرغَّب فيه، وذهب أهل الظاهر إلى أنه فرضٌ على الرجل والمرأة مرَّةً في الدهر إن كان الرجل واجدًا لطَوْل الحُرَّة، وإن عَدِم لَزِمه نكاح الأَمَة، واحتجُّوا بظاهر هذا الحديث، وحَمَلوا أمره - عَلَيْهِ السَّلام - بالنكاح على الإيجاب، قالوا: ولكنَّه أمرٌ لخاصٍّ من الناس، وهم الخائفون على أنفسهم العَنَت بتركهم النكاحَ، فأما مَن لم يَخَفِ العَنَت، فهو غيرُ مُرَاد بالحديث. قالوا: وقد بيَّن صَّحة قولنا إخبارُه - عَلَيْهِ السَّلام - عن السبب الذى من أجله أَمَر الذى يستطيع الباءة بالنكاح، وذلك قوله: «فإنه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج»، فمن قَدَر على غضِّ بصره عن المحارم، وتحصين فرجه، فغير فرض عليه النكاح، ومن كان غيرَ قادر على ذلك، وخَشِيَ مُواقَعة الحرام، فالنكاح فرضٌ عليه؛ لأمر النبيِّ، عَلَيْهِ السَّلام، إيَّاه به. واحتجَّ أهل المقالة الأولى بقوله: «ومن لم يستطع فعليه بالصيام»، وإذا كان الصوم الذي هو بدلٌ عن النكاح ليس بواجب، فمُبدَلُه مثلُه، وأيضًا فإن جماعة من الصحابة تركوه وهم قادرون عليه، وعكفوا على العبادة، فلو كان واجبًا لكان تركُه معصيةً، ولا يجوز أن يفعله الصحابة وهو معصية، وخاصَّةً بكون الرسول ﷺ باقيًا، فلَمَّا لم يُنقَل عنه ولا عن الأئمَّة بعده النكير على من لم يتزوَّج، عُلِم أنه غير واجب. فإن قال أهل الظاهر: قد قال معاذُ بنُ جبل: زوِّجونى لئلَّا ألقى الله أعزبَ، وقال عمرُ لأبي الزوائد: لِمَ لا تتزوَّج؟ ما يَمنَعك منه مع علمك بوجوبه إلا عجزٌ أو فجور، قيل: أما معاذٌ، فأراد أن يلقى الله على أكمل أحواله؛ لأن النكاح مندوبٌ إليه، ويُحتمَل أن يُريد عمرُ بوجوبه وجوبَ سُنَّة، وهذا أبو الزوائد من الصحابة لم يتزوَّج. ومن الدليل أنه غيرُ فرض أنه قضاءُ شهوة، ولم يَفرِض الله على أحد من خلقه فرضًا هو شهوةٌ لا يُخاف مع تركها الهلاك، فإن قالوا: الغذاء هو شهوة، وقد فرض الله إحياء النفوس به، قيل: ليس في ترك الجماع خوفُ الهلاك كما في فقد الغِذاء، فهما غير مُشتبهَين. وإذا كان لا يخاف الهلاك في فقد الجماع، فالفضل في الصبر على تركه؛ إذِ الفضلُ في ترك اللذَّات، وفى إجماع الحُجَّة على أن من صبر عن النكاح ولم يقتحم مُحرَّمًا بصبره عنه غير حَرِج ولا آثِم، أدلُّ دليلٍ على صحة ما قلناه من أن أمر النبيِّ، عَلَيْهِ السَّلام، بالنكاح على الندب لا على الفرض، وهذا قول الطبريِّ، وابن القصَّار" [4].
قال النوويُّ رحمه الله: " أما الأفضل من النّكاح وتركِه، فقال أصحابنا: النّاس فيه أربعة أقسام: قسم تَتُوق إليه نفسه ويجد الْمُؤَن، فيُستحبُّ له النّكاح، وقسم لا تَتُوق ولا يجد الْمُؤَن، فيُكره له، وقسم تَتُوق ولا يجد المؤن، فيُكره له، وهذا مأمور بالصَّوم لدفع التَّوَقان، وقسم يجد المؤن ولا تتوق، فمذهب الشّافعيِّ وجمهور أصحابنا أنّ ترك النّكاح لهذا والتّخلِّيَ للعبادة أفضل، ولا يُقال: النّكاح مكروه؛ بل تركه أفضل، ومذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشّافعيِّ وبعض أصحاب مالك أنّ النّكاح له أفضل، واللَّهُ أعلم" [5].
المراجع
1. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 172، 173).
2. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (4/ 25، 26).
3. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 173).
4. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (7/ 162، 163).
5. "شرح النوويِّ على مسلم" (9/ 174).
يروي عبد الله بن عمرَ ﭭ عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قَالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: هناك أمورٌ خمسة استأثر الله بعلمها، ولم يُطلِع عليها أحدًا من خَلقِه، لا نبيًّا مرسَلًا، ولا مَلَكًا مقرَّبًا، وهي: «لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: لا يعلم يقينًا ما سيَحدُث غدًا إلا اللهُ تعالى. «وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: لا يَعلَم إلا اللهُ ما تغيض الأرحام من الدم الذي ينزل على المرأة الحامل، أو السَّقْط الناقص للأجنَّة قبل تمام خَلْقِها، وكذلك ما في الأرحام عمومًا. «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا اللَّهُ»؛ أي: ولا يعلم أحدٌ إلا الله متى ينزل المطر، ولا أين يموت، ولا متى يوم القيامة؟
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث يُخبرنا رسول الله ﷺ عن الأمور الغَيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها دون البشر، وذكر الحديثُ خمسةً، وقد استأثر الله تعالى بعلم هذه الأشياء لحِكمٍ ظاهرة؛ فقد تحدَّث الله تعالى في أكثرَ من آية عن اختصاصه بعلم الغيب؛
فقال تبارك وتعالى:
﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
[النمل: 65]،
وقال جلَّ وعلا:
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾
[مريم: 77-80]،
وقال سبحانه:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾
[الجن: 26، 27]،
وقال جلَّ جلاله: ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾
[يونس: 20]،
وقال عزَّ وجلَّ مخاطبًا رسوله ﷺ:
﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
[الأعراف: 188].
والغيب خمسةُ أمور:
أولًا: علم الساعة: أي: عِلْمُ موعد يوم القيامة، وقد حاول عدد من المدَّعين على مدار الزمان أن يحدِّدوا موعد يوم القيامة تحديدًا دقيقًا، ووضعوا مواعيدَ محدَّدةً بدقَّة، مرَّةً من خلال الحروف المقطَّعة في أوائل السور وحساب الجُمَّل، ومرَّةً بالأبراج، ومرَّت هذه المواعيد دون أن تقوم القيامة، ومن المضحِك أنه صدَّقهم مَن لا عقلَ لهم، وباعوا ممتلكاتِهم، وأوقفوا أعمالهم، منتظِرين القيامة!
ثانيًا: الغَيث: وهو الْمَطَر المقدَّر بقدَرٍ دقيق؛ بحيث لا يَزيد فيُهلِك الحرث والنَّسْلَ، ولا يَقِلُّ فلا تستفيد منه الأرض ولا الزرع ولا الإنسان ولا الحيوان، ولا ينزل في أرض لا تُمسِكه، فيذهب هَبَاءً دون أن يستفيد منه أحد، وقد عبَّر الله تعالى بلفظ الغَيث ولم يعبِّر بلفظ الْمَطر؛ لأن المطر لم يُذكَر في القرآن إلَّا في العذاب، فهو لا ينزل إلا في الهلاك؛
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾
[الفرقان: 40].
ثالثًا: عِلْم ما في الأرحام: ومن علم الغَيب عِلْمُ ما في الأرحام؛ أذكرٌ أم أنثى؟ وفي آية أخرى وضَّحت المعنى أكثرَ؛
قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
[الرعد: 8]،
وحتى وقتٍ قريب كان علم ما في الأرحام غَيبًا لا يختلف في ذلك أحدٌ، حتى ظهرت الأجهزة الحديثة، وعُرف من خلالها نوع الجَنين، وحَسِب قليلو العلم بقدرة الله تعالى أنهم عَلِموا الغَيب، وليس الأمرُ كذلك؛ فالتحدِّي في معرفة ما تَغِيض الأرحام، وهو ما يتكوَّن فيها في ثلاثة الأسابيع الأولى، وهو ما يَعجِز عن معرفته الإنسان حتى الآن. والتحدِّي أيضًا في معرفة مدَّة الحمل، تسعة أشهر أم سبع؟ كما أنهم علموا ما في بطن أنثى الإنسان؛ فكيف بما في أرحام كلِّ نوع من أنواع الأنثى على الأرض في وقت واحد؟! تعالى الله علوًّا كبيرًا.
رابعًا: الكسب: استأثر الله تعالى بعلم ما يَكسِبه الإنسان في غَدِه من رزق ومن عمل، ولم يدَّعِ أحدٌ معرفة ذلك حتى الآن كما ادَّعَوْا في أمر الأرحام.
خامسًا: مكان الموت: استأثر الله تعالى بمعرفة مكان موت الإنسان وزمانه.
وهذه الخمسة قيل: هي على سبيل التمثيل وليست للحصر، وقيل: بل هي للحصر إذا اتَّسَعنا في المعنى؛ ليكون كلٌّ منها يُشير إلى عالم واسع من الغَيبيات، فالأرحام تشير إلى عالم النفس والأرواح، والْمَطَرُ يُشير إلى أمور العالم العُلويِّ، والموت يشير إلى أمور العالم السُّفليِّ أو المكان، وما في غدٍ يشير إلى عالم الزمان، والساعة تشير إلى الآخرة [1]
ويمكِن تقسيم الغيب إلى أنواع وتقسيمات [2]؛ فمن حيث الزمانُ، يُقسَّم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: غيب الماضي: كخلق السماوات والأرض والإنسان، وقصص الأمم السابقة. وثانيها: غيب الحاضر: مثل ما يجري الآن في مكان آخَرَ من العالم، ولا يقع تحت حواسِّي مباشرة، أو غير مباشر كنقل بالبثِّ المباشر، وما يدور في أذهان الآخرين ونفوسهم. وثالثها: غيب المستقبل: كعلم الساعة.
ومن حيث إمكانُ علم الإنسان به، وهو على قسمين: قسم يمكِن للإنسان أن يَعلَمه بالوسائل المادِّية التجريبية والمشاهَدة؛ كوقت طلوع الشمس في المستقبَل، ومتى سيحدث الكُسوف والخُسوف؛ فذلك جعله الله على قانون ثابت، وكيفيَّة بَدْءِ الخَلق والحياة؛ لوجود شواهدَ على ذلك، وما حلَّ بالأمم السابقة من خلال الآثار. أو أن يَعلَمه بالعقل؛ كوجود الله سبحانه وتعالى، وأن الكَون مخلوق، وأن المخلوق لابدَّ له من خالق، أو أن يَعلَمه بالخبر الصادق الصحيح، بشرط الاعتقاد بصحَّة الخبر، والاطمئنان إلى دقَّة ناقل الخبر؛ كالإيمان بالجنَّة والنار، والحشر والصراط والميزان.
وقسم لا يمكِن للإنسان أن يَعلَمه، وهو الغَيب المطلَق؛ كوقت قيام الساعة، وهو غير داخل في مجال العلم التجريبيِّ، أو المعرفة العقلية، ولم يَرِد به دليل نقليٌّ.
وينقسم من حيث ثبوتُه إلى غَيْبٍ قطعيِّ الثُّبوت؛ كالآخرة، والجنَّة والنار، والبعث والحَشْرِ، ويجب الإيمان به. وغَيْبٍ ظنيِّ الثُّبوت، وهو الوارد في السنَّة الصحيحة الآحادية، وهو ليس قطعيًّا؛ ولكنه غالب الظنِّ، وهو أيضًا يجب الإيمان به، ويَأثَم مُنكِره؛ ولكنه لا يَكفُر.
الحكمة من تغييب علم هذه الغَيبيات عن الإنسان:
استئثار الله تعالى بعلم هذه الغَيبيات عامَّة لحِكَم ظاهرة، منها: زيادةُ الرجاء والتعلُّق بالله تعالى، وراحة للمؤمن من ترقُّبها والانشغال بها، وحريَّة للمسلم من أن يتذلَّل لمخلوقٍ مثلِه من أجل رزقٍ أو أَجَلٍ.
"كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[3]
"ومن حكمته سبحانه ما مَنعَهم من العِلم عِلم الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طول الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم، ولا يَصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبَق في علمه، فلو أن عبدًا من عبيدك عَمِل على أن يُسخِطك أعوامًا، ثم يُرضيك ساعةً واحدة إذا تيقَّن أنه صائر إليك، لم تُقبَل منه، ولم يَفُز لديك بما يفوز به مَن همُّه رضاك، وكذا سُنَّة الله عزَّ وجل أن العبد إذا عايَن الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع... فَبَانَ أنَّ من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم".
ولعلَّ من الحكمة أيضًا إثباتَ جهل الإنسان مهما أُوتي من علم، فيقول الله له: إنك لا تَعلَم مَعاشَكَ ومَعادك، ولا ما تكسب غدًا، مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت، مع أنه شغلك ومكانك؛ فكيف تعلم وقت الساعة؟! [4]، وهذا يدفع الإنسانَ للتمسُّك بالقرآن والوحي والرسل مصدرًا صادقًا للأخبار والإيمان والعمل.
وقد ادَّعى بعض الطوائف أنهم يعلمون أمرًا من هذه الأمور الغيبية؛ كالكهَّان والمنجِّمين والسَّحَرة والمتعامِلين مع الجنِّ، والضاربين بالرَّمل، وقارئي الكفِّ والفنجان، وأصحاب خُرافات أبراج الحظِّ، وهم كَذَبةٌ، وقد وردت الأحاديث في تغليظ عقوبة من يقوم بذلك ومن يتعامل معهم؛
كما في قول رسول الله ﷺ:
«مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
[5]
المراجع
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/124)، (13/ 365).
- انظر: بحث "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" للدكتور شرف القضاة، مجلة دراسات الجامعة الأردنية، مجلد 15، عدد 3، 1988م.
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/282).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 365).
- أخرجه أحمد والأربعة، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3047).
النقول
قال ابن أبي جَمْرةَ رحمه الله: "عبَّر بالمفاتح لتقريب الأمر على السَّامع؛ لأنَّ كل َّشيءٍ جُعل بينك وبينه حجابٌ فقد غُيِّب عنك، والتوصُّلُ إلى معرفته في العادة من الباب، فإذا أُغلق البابُ، احتِيج إلى الْمِفتاح، فإذا كان الشيء الذي لا يطَّلِع على الغيب إلَّا بتوصيله لا يَعرِف موضعه؛ فكيف يَعرِف الْمَغِيب؟!"[1]
قال ابن القيم رحمه الله: "كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[2]
قال السعديُّ رحمه الله: "قد تقرَّر أن الله تعالى أحاط علمه بالغيب والشهادة، والظواهر والبواطن، وقد يُطلِع الله عباده على كثير من الأمور الغيبية، وهذه الأمور الخمسة من الأمور التي طوى عِلمَها عن جميع المخلوقات، فلا يعلمها نبيٌّ مُرسَل، ولا مَلَك مقرَّب، فضلًا عن غيرهما فقال:إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ؛ أي: يَعلَم متى مُرساها؛
لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
[الأعراف: ١٨٧]،
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ؛ أي: هو المنفرِد بإنزاله، وعِلم وقت نزوله. وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ ؛ فهو الذي أنشأ ما فيها، وعَلِم ما هو، هل هو ذكرٌ أم أنثى؟ ولهذا يسأل الملَكُ الموكَّل بالأرحام ربَّه: هل هو ذكر أم أنثى؟ فيقضي الله ما يشاء. وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًاﱠ من كسب دينها ودُنياها، ﱡ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُﱠ؛ بل الله تعالى، هو المختصُّ بعلم ذلك جميعه، ولَمَّا خصَّص هذه الأشياء، عمَّم علمه بجميع الأشياء؛ فقال: ﱠإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ محيطٌ بالظواهر والبواطن، والخفايا والخبايا، والسرائر، ومن حكمته التامَّة أن أخفى علم هذه الخمسة عن العباد؛ لأن في ذلك من المصالح ما لا يخفى على من تدبَّر ذلك"[3]
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (8/514).
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/282).
- "تفسير السعديِّ" (ص: 356).
غريب الحديث
مفاتح: المقصود بالمفاتح إما مخازن الغيب، أو المفتاح الذي يفتح الغَيب [1]
الغيب: ما غاب عن الإنسان، وهو ما لا تُدركه الحواسُّ بشكل مباشر أو غير مباشر.
الساعة: المقصود يوم القيامة.
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (8/514).
الكاهن: هو الذي يتَّصِل بالشياطين بعد أن يَكفُر بالله ليَخدُموه بما يَسترِقون من السمع.
العرَّاف: شامل لكلِّ من يدَّعي علم الغيب.
المعنى الإجماليُّ للحديثيروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ»؛ أي: من ذَهب إلى كاهن يتَّصِل بالشياطين، أو عرَّاف يدَّعي علم الغيب، فصدَّقه بما يُخبِره به من الغيب. «فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»؛ أي: فقد كفر بالإسلام.
في هذا الحديث يُخبرنا رسول الله ﷺ عن الأمور الغَيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها دون البشر، وذكر الحديثُ خمسةً، وقد استأثر الله تعالى بعلم هذه الأشياء لحِكمٍ ظاهرة؛ فقد تحدَّث الله تعالى في أكثرَ من آية عن اختصاصه بعلم الغيب؛
فقال تبارك وتعالى:
﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
[النمل: 65]
وقال جلَّ وعلا:
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾
[مريم: 77-80]،
وقال سبحانه:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾
[الجن: 26، 27]،
وقال جلَّ جلاله:
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾
[يونس: 20]،
وقال عزَّ وجلَّ مخاطبًا رسوله ﷺ:
﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
[الأعراف: 188].
والغيب خمسةُ أمور:
أولًا: علم الساعة: أي: عِلْمُ موعد يوم القيامة، وقد حاول عدد من المدَّعين على مدار الزمان أن يحدِّدوا موعد يوم القيامة تحديدًا دقيقًا، ووضعوا مواعيدَ محدَّدةً بدقَّة، مرَّةً من خلال الحروف المقطَّعة في أوائل السور وحساب الجُمَّل، ومرَّةً بالأبراج، ومرَّت هذه المواعيد دون أن تقوم القيامة، ومن المضحِك أنه صدَّقهم مَن لا عقلَ لهم، وباعوا ممتلكاتِهم، وأوقفوا أعمالهم، منتظِرين القيامة!
ثانيًا: الغَيث: وهو الْمَطَر المقدَّر بقدَرٍ دقيق؛ بحيث لا يَزيد فيُهلِك الحرث والنَّسْلَ، ولا يَقِلُّ فلا تستفيد منه الأرض ولا الزرع ولا الإنسان ولا الحيوان، ولا ينزل في أرض لا تُمسِكه، فيذهب هَبَاءً دون أن يستفيد منه أحد، وقد عبَّر الله تعالى بلفظ الغَيث ولم يعبِّر بلفظ الْمَطر؛ لأن المطر لم يُذكَر في القرآن إلَّا في العذاب، فهو لا ينزل إلا في الهلاك؛
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾
[الفرقان: 40].
ثالثًا: عِلْم ما في الأرحام: ومن علم الغَيب عِلْمُ ما في الأرحام؛ أذكرٌ أم أنثى؟ وفي آية أخرى وضَّحت المعنى أكثرَ؛
قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
[الرعد: 8]،
وحتى وقتٍ قريب كان علم ما في الأرحام غَيبًا لا يختلف في ذلك أحدٌ، حتى ظهرت الأجهزة الحديثة، وعُرف من خلالها نوع الجَنين، وحَسِب قليلو العلم بقدرة الله تعالى أنهم عَلِموا الغَيب، وليس الأمرُ كذلك؛ فالتحدِّي في معرفة ما تَغِيض الأرحام، وهو ما يتكوَّن فيها في ثلاثة الأسابيع الأولى، وهو ما يَعجِز عن معرفته الإنسان حتى الآن. والتحدِّي أيضًا في معرفة مدَّة الحمل، تسعة أشهر أم سبع؟ كما أنهم علموا ما في بطن أنثى الإنسان؛ فكيف بما في أرحام كلِّ نوع من أنواع الأنثى على الأرض في وقت واحد؟! تعالى الله علوًّا كبيرًا.
رابعًا: الكسب: استأثر الله تعالى بعلم ما يَكسِبه الإنسان في غَدِه من رزق ومن عمل، ولم يدَّعِ أحدٌ معرفة ذلك حتى الآن كما ادَّعَوْا في أمر الأرحام.
خامسًا: مكان الموت: استأثر الله تعالى بمعرفة مكان موت الإنسان وزمانه.
وهذه الخمسة قيل: هي على سبيل التمثيل وليست للحصر، وقيل: بل هي للحصر إذا اتَّسَعنا في المعنى؛ ليكون كلٌّ منها يُشير إلى عالم واسع من الغَيبيات، فالأرحام تشير إلى عالم النفس والأرواح، والْمَطَرُ يُشير إلى أمور العالم العُلويِّ، والموت يشير إلى أمور العالم السُّفليِّ أو المكان، وما في غدٍ يشير إلى عالم الزمان، والساعة تشير إلى الآخرة[1]
ويمكِن تقسيم الغيب إلى أنواع وتقسيمات[2]؛ فمن حيث الزمانُ، يُقسَّم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: غيب الماضي: كخلق السماوات والأرض والإنسان، وقصص الأمم السابقة. وثانيها: غيب الحاضر: مثل ما يجري الآن في مكان آخَرَ من العالم، ولا يقع تحت حواسِّي مباشرة، أو غير مباشر كنقل بالبثِّ المباشر، وما يدور في أذهان الآخرين ونفوسهم. وثالثها: غيب المستقبل: كعلم الساعة.
ومن حيث إمكانُ علم الإنسان به، وهو على قسمين: قسم يمكِن للإنسان أن يَعلَمه بالوسائل المادِّية التجريبية والمشاهَدة؛ كوقت طلوع الشمس في المستقبَل، ومتى سيحدث الكُسوف والخُسوف؛ فذلك جعله الله على قانون ثابت، وكيفيَّة بَدْءِ الخَلق والحياة؛ لوجود شواهدَ على ذلك، وما حلَّ بالأمم السابقة من خلال الآثار. أو أن يَعلَمه بالعقل؛ كوجود الله سبحانه وتعالى، وأن الكَون مخلوق، وأن المخلوق لابدَّ له من خالق، أو أن يَعلَمه بالخبر الصادق الصحيح، بشرط الاعتقاد بصحَّة الخبر، والاطمئنان إلى دقَّة ناقل الخبر؛ كالإيمان بالجنَّة والنار، والحشر والصراط والميزان.
وقسم لا يمكِن للإنسان أن يَعلَمه، وهو الغَيب المطلَق؛ كوقت قيام الساعة، وهو غير داخل في مجال العلم التجريبيِّ، أو المعرفة العقلية، ولم يَرِد به دليل نقليٌّ.
وينقسم من حيث ثبوتُه إلى غَيْبٍ قطعيِّ الثُّبوت؛ كالآخرة، والجنَّة والنار، والبعث والحَشْرِ، ويجب الإيمان به. وغَيْبٍ ظنيِّ الثُّبوت، وهو الوارد في السنَّة الصحيحة الآحادية، وهو ليس قطعيًّا؛ ولكنه غالب الظنِّ، وهو أيضًا يجب الإيمان به، ويَأثَم مُنكِره؛ ولكنه لا يَكفُر.
الحكمة من تغييب علم هذه الغَيبيات عن الإنسان:
استئثار الله تعالى بعلم هذه الغَيبيات عامَّة لحِكَم ظاهرة، منها: زيادةُ الرجاء والتعلُّق بالله تعالى، وراحة للمؤمن من ترقُّبها والانشغال بها، وحريَّة للمسلم من أن يتذلَّل لمخلوقٍ مثلِه من أجل رزقٍ أو أَجَلٍ.
"كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[3]
"ومن حكمته سبحانه ما مَنعَهم من العِلم عِلم الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طول الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم، ولا يَصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبَق في علمه، فلو أن عبدًا من عبيدك عَمِل على أن يُسخِطك أعوامًا، ثم يُرضيك ساعةً واحدة إذا تيقَّن أنه صائر إليك، لم تُقبَل منه، ولم يَفُز لديك بما يفوز به مَن همُّه رضاك، وكذا سُنَّة الله عزَّ وجل أن العبد إذا عايَن الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع... فَبَانَ أنَّ من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم".
ولعلَّ من الحكمة أيضًا إثباتَ جهل الإنسان مهما أُوتي من علم، فيقول الله له: إنك لا تَعلَم مَعاشَكَ ومَعادك، ولا ما تكسب غدًا، مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت، مع أنه شغلك ومكانك؛ فكيف تعلم وقت الساعة؟![4]، وهذا يدفع الإنسانَ للتمسُّك بالقرآن والوحي والرسل مصدرًا صادقًا للأخبار والإيمان والعمل.
وقد ادَّعى بعض الطوائف أنهم يعلمون أمرًا من هذه الأمور الغيبية؛ كالكهَّان والمنجِّمين والسَّحَرة والمتعامِلين مع الجنِّ، والضاربين بالرَّمل، وقارئي الكفِّ والفنجان، وأصحاب خُرافات أبراج الحظِّ، وهم كَذَبةٌ، وقد وردت الأحاديث في تغليظ عقوبة من يقوم بذلك ومن يتعامل معهم؛
كما في قول رسول الله ﷺ:
«مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
[5]
المراجع
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (1/124)، (13/ 365).
- انظر: بحث "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله" للدكتور شرف القضاة، مجلة دراسات الجامعة الأردنية، مجلد 15، عدد 3، 1988م.
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/282).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (13/ 365).
- أخرجه أحمد والأربعة، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3047).
النقول
قال الطيبيُّ رحمه الله: "وفي قوله ﷺ تغليظٌ شديد، ووعيدٌ هائل، حيث لم يكتفِ بـ (كفر)؛ بل ضمَّ إليه (بما أُنزل علي محمد)، وصرَّح بالعِلم تجريدًا، والْمُراد بالْمُنزَل الكتابُ والسُّنَّة؛ أي: مَنِ ارتكب هذه الهَنَاتِ، فقد برئ من دين محمَّدٍ ﷺ وبما أُنزل عليه... والكاهن هو الذي يُخبِر عمَّا يكون في الزمان المستقبَل بالنُّجوم وما شاكَلها من أكاذيب الجنِّ، والمسترقة من الملائكة أحوال أهل الأرض، من قدر أعمالهم، وأرزاقهم، وما يَحدُث من الحوادث، فيأتون الكهنة، فيَخلِطون في كلِّ حديث مِائة كَذِبة، فيُخبرون الناس بها؛ يعني: مَن فعل هذه الأشياءَ واستحلَّها، وصدَّق الكاهن، فقد كفر، ومن لم يستحِلَّها، فهو كافرُ النِّعمة فاسقٌ"[1]
قال ابن حجر رحمه الله: "والكَهَانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها -: ادِّعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصلُ فيه استراق الجنّيِّ السَّمْعَ من كلام الملائكة، فيُلقيه في أُذن الكاهن، والكاهن لفظ يُطلَق على العرّاف، والّذي يضرب بالحصى، والمنجِّم، ويُطلَق على من يقوم بأمر آخَرَ، ويسعى في قضاء حوائجه، وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب، وقال في "الجامع": العرب تسمِّي كلَّ من أَذِن بشيء قبل وقوعه كاهنًا، وقال الخطّابيُّ: الكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوس شرّيرة، وطباع ناريّة، فأَلِفتهم الشّياطين لما بينهم من التّناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهليّة فاشيةً، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النّبوّة فيهم، وهي على أصناف، منها ما يتلقَّونه من الجنّ؛ فإنّ الجنَّ كانوا يصعدون إلى جهة السّماء، فيركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنوَ الأعلى بحيث يسمع الكلام فيُلقيه إلى الّذي يَليه، إلى أن يتلقّاه من يُلقيه في أُذن الكاهن، فيزيد فيه، فلمّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرست السّماء من الشّياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبَقِي من استراقهم ما يتخطّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة
بقوله تعالى:
إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ
[الصافات: ١٠]،
وكانت إصابة الكهّان قبل الإسلام كثيرةً جدًّا كما جاء في أخبار شقّ وسطيح ونحوهما، وأمّا في الإسلام، فقد ندر ذلك جدًّا حتّى كاد يضمحلّ، وللّه الحمد. ثانيها: ما يخبر الجنّيُّ به من يواليه بما غاب عن غيره ممّا لا يطَّلع عليه الإنسان غالبًا، أو يطَّلع عليه من قَرُب منه، لا من بَعُد. ثالثها: ما يستند إلى ظنٍّ وتخمين وحدْس، وهذا قد يجعل اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً مع كثرة الكذب فيه. رابعها: ما يستند إلى التّجربة والعادة، فيستدلُّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السّحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزّجر والطّرق والنّجوم، وكلُّ ذلك مذموم شرعًا... والعرّاف - بفتح المهملة وتشديد الرّاء -: من يستخرج الوقوف على المغيّبات بضرب من فعل أو قول"[2]
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما كونُ الكَهَنة رُسُلَ الشيطان، فلأن المشركين يُهرَعون إليهم، ويَفزَعون إليهم في أمورهم العِظام، ويصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويَرضَون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرُّسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويُخبرون عن الْمُغيَّبات التي لا يَعرِفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرُّسل، فالكهنةُ رُسُلُ الشيطان حقيقةً، أرسلهم إلى حزبه من المشركين، وشبَّههم بالرُّسل الصادقين، حتى استجاب لهم حِزْبُه، ومثل رُسل الله بهم ليَنفِر عنهم، ويَجعَل رُسله هم الصادقين العالِمين بالغيب، ولَمَّا كان بين النوعين أعظمُ التَّضَادِّ، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بَما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد». فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رُسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبعُد عن رسول الله ﷺ بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول بقدر تصديقه للكاهن"[3]
قال الملا علي القاري رحمه الله: " الفَرْقُ بين الكاهن والعرَّاف: أنّ الكاهن إنّما يتعاطى الخَبَر عن الغيب في مستقبَل الزَّمان، ويدَّعِي معرفة الأسرار، والعرَّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة الشّيء المسروق ومكان الضّالَّة ونحوهما من الأمور. «فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»؛ أَيْ: كَفَرَ، وهو مَحْمُولٌ عَلَى الاستحلال، أو على التهديد والوعيد"[4]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «من أتى كاهنًا». قال القاضي عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب؛ أحدها: يكون للإنسان وليٌّ من الجنِّ يُخبره بما يَسْتَرِقه من السّمع من السّماء، وهذا القسم بَطَل من حين بَعَث اللّه تعالى نبيَّنا ﷺ. الثّاني: أن يُخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض، وما خَفِي عنه ممّا قَرُب أو بَعُد، وهذا لا يَبعُد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلِّمين هذين الضّربين، وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بُعْدَ في وجوده؛ لكنّهم يَصْدُقون ويَكْذِبون، والنّهيُ عن تصديقهم والسّماع منهم عامٌّ. الثّالث: المنجِّمون، وهذا الضّرب يَخلُق اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً ما؛ لكنّ الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفنِّ العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الّذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدِّمات يدَّعي معرفتها بها، وقد يَعتضِد بعض هذا الفنِّ ببعض في ذلك؛ كالزّجر والطّرق والنّجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلُّها تسمَّى كهانةً، وقد أكذبهم كلَّهم الشّرعُ، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. قال الخطّابيُّ: العرّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضّالّة ونحوهما. قال في "النّهاية": الكاهن: يشمل العرّاف والمنجِّم"[5]
قال ابن باز رحمه الله: "لا يجوز الذهاب إلى العرَّافين والسحرة والمنجِّمين والكهنة ونحوهم، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم، ولا يجوز التداوي عندهم بزيت ولا غيره؛ لأن الرسول ﷺ نهى عن إتيانهم وسؤالهم وعن تصديقهم؛ لأنهم يدَّعون علم الغيب، ويكذبون على الناس، ويَدْعونهم إلى أسباب الانحراف عن العقيدة"[6]
قال النوويُّ رحمه الله: "أجمع المسلمون على تحريم حُلْوان الكاهن؛ لأنه عِوَضٌ عن محرَّم، ولأنه أكل المال بالباطل"[7]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ» زاد الطبرانِيُّ من رواية أنس: «وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ، لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وظاهر هذا أنّ التّصديق شرط في ثُبوت كفر من أتى الكاهن والعرّاف.
قوله: «فقد كفر» ظاهره أنّه الكفر الحقيقيُّ، وقيل: هو الكفر المجازيُّ، وقيل: من اعتقد أنّ الكاهن والعرّاف يعرفان الغيب ويطّلعان على الأسرار الإلهيّة، كان كافرًا كفرًا حقيقيًّا؛ كمن اعتقد تأثير الكواكب، وإلّا فلا"[8]
المراجع
- ) "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 857، 858).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 216، 217).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 253).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (7/ 2907).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 213، 214).
- مجلة الدعوة في العدد (1498) بتاريخ 8/2/1416 هـ، (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 8/ 157).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (10/231).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (7/ 214).
يروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -
عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه قال:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ؛ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ»
أَيْ: إن الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الله تعالى؛ فمَحَطُّ نظر الله تعالى من العبد القلبُ، وماذا يعمل من الصالحات؛ أي: إنَّ الْمُجَازَاةَ وَالْمُحَاسَبَةَ لا تكون على الأعمال الظاهرة والصور البارزة؛ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ.
الشرح المفصَّل للحديثهذا الحديث من الأحاديث المهمَّة جدًّا، التي ينبغي على المسلم فِقْهُها والوقوف معها طويلًا؛ لأنه يتحدَّث عن النِّيَّة وتأثيرها في الأعمال، والنيَّةُ إذا صَلَحت صَلَح العمل، وإذا فَسَدت فَسَد العمل، فيلقى الرجل ربَّه بأعمال يظنُّها كثيرةً، وهي عند الله غير مقبولة؛ لأنها لم تُفعَل من أجله؛ وإنما فُعِلت رياءً وسُمعةً؛ فإنَّ "الأعمال الظاهرة لا تَحصُل بها التقوى؛ وإنما تَحصُل بما يقع في القلب من عظمة الله وخشيته ومراقبته" [1]
فينفي رسول الله ﷺ أن يكون تقييم الله تعالى للإنسان بالنظر إلى جِسمه أو إلى صورته؛ بل نظره تعالى إلى القلب، فمن الناس من هم أحسنُ الناس جسمًا وصورةً، وإذا رأيتَهم تُعْجِبُك صورتهم وأجسامهم، وإذا تحدَّثوا تسمع لقولهم، ورغم ذلك هم منافقون، ومن أشدِّ أعداء الدين؛
كما وصفهم الله تعالى:
﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾
[المنافقون: 4].
وليس للَون الإنسان دورٌ في تقييم الله تعالى له؛ فلا قيمةَ لِلَون بَشْرَتِك في القَبول، سواءٌ كنتَ أسودَ أو أبيضَ أو أشقرَ أو قَمحيًّا، فلا دخل للإنسان في اختيار لونه؛ بل هو من تصوير الله للعبد، والتفاضل بالتقوى لا باللون؛
﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
[الحجرات: 13].
"إذًا؛ الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الرب، محطُّ نظر الربِّ من العبد القلبُ، وماذا يعمل من الصالحات، وحينئذ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مالٌ أو جاهٌ أو رياسةٌ في الدنيا، قلبُه خرابٌ من التقوى، ويكون مَن ليس له شيءٌ من ذلك - يعني من الدنيا - قلبُه مملوءٌ من التقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا" [2]
وهناك فَهْمٌ مغلوط لهذا الحديث يَبُثُّه إبليسُ - لَعَنه الله - في بعض القلوب غير الواعية بتلبيس إبليسَ، وهو أنَّه طالما قلبُه عامر بالإيمان، فلا يَضُرُّه أنْ يُقصِّر في العمل وترك الفروض، وهذا أمر خطير؛ لأنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ مقترنانِ، لا يَنْفَكُّ أحدهما عن الآخر؛ فالقول دونَ عملٍ ليس إيمانًا، والعملُ دون قولٍ ليس إيمانًا. وللأسف! اهتمامات الناس في هذا العصر تنصرف إلى الاهتمام بالجسد والعضلات والْمَلبَس والْمرَكب والزينة، ويُهملون القلب وتَربِيَته وتَنمِيَته وتطويعه، كما أنَّ معايير تقييم الناس في دنيا اليومَ يخالف هذا الحديث الشريف، فينصبُّ تقييم الناس لبعضهم بعضًا من خلال الصورة الخارجية، فيُقدِّرون ذا الشارة الحسنة، ويرفعون ذا المال، ويقدِّمون الجَسِيم الوسيم، حتى وإن كان جَوهرُه على غير ما يريد الله لعباده، ويُبعِدون ذا الشارة المتواضعة، والهيئة المعتادة، وهذا ظُلم له كما يُستشَفُّ من إيراد مسلم هذا الحديثَ تحت هذا الباب، فالأمر كما قال الشاعر:
تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتَزْدَرِيهِ = وفِي أثْوابِهِ أسَدٌ هَصُورُ
ويُعْجِبُكَ الطَّريرُ فتبتَلِيهِ = فيُخلِفُ ظنَّكَ الرَّجُلُ الطَّريرُ
فمَا عِظَمُ الرِّجالِ لهم بزَيْنٍ = ولكنْ زَيْنُهم كَرَمٌ وخِيرُ
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 121-122).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (ص 334)ـ.
النقول
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "إذًا؛ الصور الظاهرة، والأشكال الخارجية، ليست محطَّ نظر الرب، محطُّ نظر الربِّ من العبد القلب، وماذا يعمل من الصالحات، وحينئذ فقد يكون كثيرٌ ممن له صورة حسنة أو مالٌ أو جاهٌ أو رياسةٌ في الدنيا، قلبُه خرابٌ من التقوى، ويكون مَن ليس له شيءٌ من ذلك - يعني من الدنيا - قلبُه مملوءٌ من التقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا" [1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "هذا الحديث يدلُّ على ما يدلُّ عليه
قول الله تعالى:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ
[الحجرات: ١٣]؛
فاللهُ - سبحانه وتعالى - لا يَنظُر إلى العباد إلى أجسامهم هل هي كبيرة أو صغيرة، أو صحيحة، أو سقيمة؟ ولا ينظر إلى الصور، هل هي جميلة أو ذميمة؟ كلُّ هذا ليس بشيء عند الله، وكذلك لا يَنظُر إلى الأنساب، هل هي رفيعة أو دَنيئة؟ ولا ينظر إلى الأموال، ولا ينظر إلى شيء من هذا أبدًا، فليس بين الله وبين خلقه صلةٌ إلا بالتقوى، فمن كان لله أتقى، كان من الله أقربَ، وكان عند الله أكرمَ. إذًا؛ لا تَفتخِرْ بمالك، ولا بجمالك، ولا ببدنك، ولا بأولادك، ولا بقصورك، ولا سيَّاراتك، ولا بشيء من هذه الدنيا أبدًا؛ إنما إذا وفَّقك الله للتقوى، فهذا من فضل الله عليك، فاحمَدِ الله عليه. قولُه - عليه الصلاة والسلام -: «ولكن ينظر إلى قلوبكم»؛ فالقلوبُ هي التي عليها الْمَدَار؛ كم من إنسان ظاهرُ عمله أنه صحيح وجيِّد وصالح؛ لكن لَمَّا بُنِي على خراب صار خرابًا؛ فالنيَّة هي الأصل، تَجِد رجلين يصلِّيانِ في صفٍّ واحد، مقتدَيْنِ بإمام واحد، يكون بين صلاتَيْهِما كما بين الْمَشرِق والمغرب؛ لأن القلب مختلِفٌ، أحدُهما قلبه غافل؛ بل ربما يكون مُرائيًا في صلاته - والعياذ بالله - يريد بها الدنيا. والآخَرُ قلبُه حاضر يريد بصلاته وجهَ الله واتِّباع سنَّة رسول الله ﷺ، فبينهما فرقٌ عظيم، فالعمل على ما في القلب، وعلى ما في القلب يكون الجزاء يوم القيامة؛
كما قال الله تعالى:
إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
[الطارق: ٨ – ٩]
أي: تُختبَر السرائر لا الظواهر. في الدنيا الحُكم بين الناس على الظاهر؛ لقول النبيِّ ﷺ: «إنما أنا بشرٌ، وإنكم تختصمون، ولعلَّ بعضكم أن يكون ألحنَ بحُجَّته من بعض، وأقضي له على نحو مما أسمع»؛ لكن في الآخرة على ما في السرائر، فإذا كانت السريرةُ جيِّدةً صحيحةً، فأبشِرْ بالخير، وإن كانت الأخرى، فقدتَ الخير كلَّه،
وقال الله عزَّ وجلَّ:
ﱡﱠأَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ
[العاديات: ٩ – ١٠]؛
فالعلمُ على ما في القلب. وإذا كان الله تعالى في كتابه، وكان رسوله ﷺ في سنَّته، يؤكِّدانِ على إصلاح النيَّة، فالواجب على الإنسان أن يُصلِح نيَّته، يُصلح قلبَه... أطهِّر قلبي بأن أقول لنفسي: إن الناس لا ينفعونني إن عصيتُ الله، ولا يُنقذونني من العقاب، وإن أطعت الله، لم يجلبوا إليَّ الثواب؛ فالذي يجلب الثواب ويدفع العقاب هو الله. إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشرك بالله عزَّ وجلَّ؟! لماذا تنوي بعبادتك أن تتقرَّب إلى الخَلق؟! ولهذا؛ من تقرَّب إلى الخلق بما يتقرَّب به إلى الله، ابتعد عنه، وابتعد عنه الخَلْقُ؛ يعني: لا يَزِيده تقرُّبه إلى الخلق بما يقرِّبه إلى الله إلَّا بُعْدًا من الله ومن الخَلق؛ لكنَّ الله إذا رضي عنك، أرضى عنك الناس، وإذا سَخِط عليك، أسخط عليك الناس، نعوذ بالله من سخطه وعقابه"[2]
قال القاضي عياض رحمه الله: "نَظَرُ الله هنا: هو رؤية الله لذلك؛ ليُجازيَ عليه ويُثيبَه، ونظرُ الله ورؤيته محيطةٌ بكلِّ شيء، وإنما المراد من ذلك هنا بالتخصيص ما يُثيب عليه ويُجازي من ذلك، فكلُّ هذا إشارة إلى النيَّات والمقاصد، وأن الْمُجازى عليه ما كان للقلب فيه عملٌ من قصد ونيَّة وذِكر"[3]
قال النوويُّ رحمه الله: "إنّ الأعمال الظّاهرة لا يَحصُل بها التّقوى؛ وإنّما تَحصُل بما يقع في القلب من عظمة الله تعالى وخشيته ومراقبته، ومعنى نظر الله هنا: مجازاتُه ومحاسبته؛ أي: إنّما يكون ذلك على ما في القلب دون الصُّوَر الظّاهرة، ونظرُ اللّه رؤيتُه محيط بكلِّ شيء، ومقصود الحديث أنّ الاعتبار في هذا كلِّه بالقلب، وهو من نحو قوله ﷺ: «ألَا أَنْ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً» الْحَدِيثَ"[4]
قال ابن رجب رحمه الله: " وإذا كان أصل التّقوى في القلوب، فلا يطَّلِع أحدٌ على حقيقتها إلّا اللّهُ عزّ وجلّ؛
كما قال ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»
وحينئذٍ فقد يكون كثير ممّن له صورة حسنة، أو مال، أو جاه، أو رياسة في الدّنيا، قلبُه خَرَاب من التّقوى، ويكون مَن ليس له شيء من ذلك، قلبُه مملوء من التّقوى، فيكون أكرمَ عند اللّه تعالى؛ بل ذلك هو الأكثر وقوعًا؛ كما في الصّحيحين عن حارثةَ بنِ وهبٍ،
عن النّبيِّ ﷺ، قال:
«أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ»"
[5]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: " أيْ: أنّ المجازاة والمحاسبة إنّما تكون على ما في القلب دون الصّورة الظّاهرة، والأعمالِ البارزة؛ فإنّ عمدتها النّيَّات، ومحلُّها القلب، وتقدَّم أنّ في الجسد مضغةً، إذا صَلَحت صَلَح الجسد، وإذا فَسَدت فسد الجسد"[6]
قال ابن رجب رحمه الله: "ثم ذكر النبيُّ ﷺ كلمة جامعة لصلاح حركات ابن آدم وفسادها، وأن ذلك كلَّه بحسَب صلاح القلب وفساده، فإذا صَلَح القلب صَلَحت إرادته، وصلحت جميع الجوارح، فلم تَنبَعث إلى طاعة الله واجتناب سخطه، فقَنَعت بالحلال عن الحرام، وإذا فسد القلب فسدت إرادته، ففسدت الجوارح كلُّها، وانبعث في معاصي الله عزَّ وجلَّ، وما فيه سَخَطُه، ولم تَقنَع بالحلال؛ بل أسرعت في الحرام بحسب هوى القلب، ومَيله عن الحقِّ، فالقلب الصالحُ هو القلب السليم الذي لا يَنفَع يومَ القيامة عند الله غيرُه، وهو أن يكون سليمًا عن جميع ما يكرهه اللهُ من إرادة ما يكرهه الله ويسخطه، ولا يكون فيه سوى محبَّة الله وإرادته ومحبَّة ما يحبُّه الله، وإرادة ذلك وكراهة ما يكرهه الله والنُّفور عنه.
والقلب الفاسد: هو القلب الذي فيه الْمَيل على الأهواء المضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وليس فيه من خشية الله ما يكفُّ الجوارح عن اتِّباع هوى النفس؛ فالقلب ملك الجوارح وسلطانُها، والجوارح جنوده ورعيَّته المطيعة له المنقادة لأمره، فإذا صلح الملك، صلحت رعاياه وجنوده المطيعة له المنقادة لأوامره، وإذا فسد الملك، فسدت جنوده ورعاياه المطيعة له المنقادة لأوامره ونواهيه"[7]
قال ابن القيم رحمه الله: "ولَمَّا كان القلب لهذه الأعضاء كالْمَلِك المتصرِّف في الجنود، الذي تَصدُر كلُّها عن أمره، ويستعملها فيما شاء، فكلُّها تحت عبوديَّته وقهرِه، وتكتسب منه الاستقامةَ والزَّيغ، وتَتبَعه فيما يَعقِده من العَزْمِ أو يَحُلُّه، قال النبيُّ ﷺ: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلُّه»، فهو مَلِكُها، وهي المنفِّذة لما يَأمُرها به، القابلةُ لِما كان يأتيها من هديَّته، ولا يستقيم لها شيء من أعمالها حتى تَصدُر عن قصده ونيَّتِه، وهو المسؤول عنها كلِّها؛ لأن كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيَّته - كان الاهتمام بتصحيحه وتسديده أولى ما اعتمد عليه السالكون، والنَّظَر في أمراضه وعلاجها أهمُّ ما تنسَّك به الناسِكون.
ولَمَّا عَلِم عدوُّ الله إبليسُ أن الْمَدَار على القلب، والاعتمادَ عليه، أَجلَب عليه بالوَساوس، وأَقبَل بوجوه الشَّهوات إليه، وزيَّن له من الأقوال والأعمال ما يصدُّه عن الطريق، وأَمَدَّه من أسباب الغيِّ بما يَقطَعه عن أسباب التوفيق، ونَصَبَ له من المصايد والحبائل ما إن سَلِم من الوقوع فيها، لم يَسلَم من أن يَحصُل له بها التعْوِيق، فلا نجاةَ من مصايده ومكايده إلا بدوام الاستعانة بالله تعالى، والتعريض لأسباب مَرْضَاته، والْتِجَاء القلب إليه، وإقباله عليه في حركاته وسَكناته، والتحقُّق بذُلِّ العُبودية الذى هو أولى ما تلبَّس به الإنسان؛ ليَحصُل له الدخول في ضمان:
إِنَّ عِبَادِي لَيۡسَ لَكَ عَلَيۡهِمۡ سُلۡطَٰنٌ
[الحجر: 42]
فهذه الإضافة هي القاطعة بين العبد وبين الشياطين، وحصولُها يسبِّب تحقيق مقام العبودية لربِّ العالمين، وإشعار القلب إخلاص العمل ودوام اليقين، فإذا أُشرب القلبُ العبوديةَ والإخلاص صار عند الله من المقرَّبين،
وشَمِله استثناء:
ﱠإِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ
[الحجر: 40]" [8]
قال ابن القيم رحمه الله: "وَبِالْجُمْلَةِ فسائرُ الأعضاء خَدَمُه وَجُنُوده،
وَقَالَ النَّبيُّ ﷺ:
«ألا إن فِي الْجَسَد مُضْغَة، إِذا صلحت صلح لَهَا سَائِر الْجَسَد، وَإِذا فَسدتْ فسد لَهَا سَائِر الْجَسَد، ألا وَهِي الْقلب».
وَقَالَ أبو هُرَيْرَة: الْقلب مَلِك والأعضاء جُنُوده، فإن طَابَ الْمَلِك طابت جُنُوده، وَإِذا خَبُث الْمَلِك خَبُثت جُنُوده، وَجُعِلت الرِّئة لَهُ كالْمَرْوَحة تَرُوح عَلَيْهِ دَائِمًا؛ لأنه أشدُّ الأعضاء حرارةً؛ بل هُوَ مَنبَع الحرارة وأما الدِّماغُ، وهو المخُّ، فإنه جُعِل باردًا"[9]
قال ابن القيم رحمه الله: "متى رأيتَ القلبَ قد ترحَّل عنه حبُّ الله، والاستعدادُ للقائه، وحلَّ فيه حبُّ المخلوق، والرضا بالحياة الدنيا، والطمأنينة بها، فاعلم أنه قد خُسِف به. ومتى أَقحَطت العينُ من البكاء من خشية الله تعالى، فاعلم أن قَحْطَها من قسوة القلب، وأبعدُ القلوبِ من الله القلبُ القاسي"[10]
قال ابن القيم رحمه الله: "القلب يَمرَض كما يمرض البَدَن، وشفاؤه في التوبة والحَمِيَّة، ويصدأ كما تصدأ الْمِرآة، وجِلاؤه بالذكر، ويَعرى كما يعرى الجسم، وزينتُه التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامُه وشرابه المعرفةُ والمحبَّة، والتوكُّل، والإنابة، والخِدمة"[11]
قال ابن رجب رحمه الله: "قال الفُضيل في
قوله تعالى:
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ
[الملك: 2]،
قال: أَخْلَصُه وأَصوَبه. وقال: إنّ العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صَوَابًا، لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا، لم يُقبَل حتّى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان للّه عزّ وجلّ، والصَّواب إذا كان على السُّنَّة... وقال بعض العارفين: إنما تَفاضلوا بالإرادات، ولم يتفاضلوا بالصَّوم والصلاة"[12]
قال ابن القيم رحمه الله: "وهو سبحانه الذي جَعَل بعض القلوب مُخْبِتًا إليه، وبعضَها قاسيًا، وجعل للقسوة آثارًا، وللإخبات آثارًا، فمن آثار القسوة: تحريفُ الكَلِم عن مواضعه، وذلك من سوء الفَهم، وسوء القصد، وكلاهما ناشئ عن قسوة القلب، ومنها نسيانُ ما ذكِّر به، وهو تركُ ما أُمِر به علمًا وعملًا، ومن آثار الإخبات: وجَلُ القلوب لذكره سبحانه، والصبر على أقداره، والإخلاص في عبوديته، والإحسان إلى خلقه"[13]
قال ابن رجب رحمه الله: "وعن يحيى بن أبي كثير، قال: تعلَّموا النّيّة؛ فإنّها أبلغ من العمل. وعن زُبَيْدٍ الياميِّ، قال: إنّي لأُحِبُّ أن تكون لي نيّة في كلِّ شيء، حتّى في الطّعام والشّراب، وعنه أنّه قال: انوِ في كلِّ شيء تُريده الخير، حتّى خروجِك إلى الكُنَاسة. وعن داودَ الطّائيِّ، قال: رأيتُ الخير كلَّه إنّما يَجمَعه حُسن النّيّة، وكفاك بها خيرًا وإن لم تَنصَب. قال داودُ: والبِرُّ همَّةُ التّقيِّ، ولو تعلَّقت جميع جوارحه بحبِّ الدّنيا، لردَّته يومًا نيَّته إلى أصله. وعن سفيانَ الثّوريِّ، قال: ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي؛ لأنّها تنقلب عليَّ. وعن يوسفَ بنِ أسباطٍ، قال: تخليص النّيّة من فسادها أشدُّ على العاملين من طول الاجتهاد. وعن مطرِّفِ بنِ عبد اللّه قال: صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النّيَّة. وعن بعض السَّلف قال: من سَرَّه أن يَكمُل له عمله، فليُحسِن نيّته؛ فإنّ اللّه عزّ وجلّ يَأجُر العبد إذا حَسُنت نيّته حتّى باللُّقمة. وعن ابن المبارك، قال: رُبَّ عمل صغير تعظِّمه النّيّة، وربَّ عمل كبير تصغِّره النّيّة. وقال ابنُ عجلانَ: لا يَصلُح العمل إلّا بثلاث: التّقوى للّه، والنّيّةِ الحسنة، والإصابة. وقال الفُضيل بن عِياض: إنّما يريد اللّه عزّ وجلّ منك نيَّتك وإرادتك. وعن يوسف بن أسباط، قال: إيثار اللّه عزّ وجلّ أفضلُ من القتل في سبيله. خرَّج ذلك كلَّه ابن أبي الدّنيا في كتاب "الإخلاص والنّيّة". وروى فيه بإسناد منقطع عن عمر رضي اللّه عنه، قال: أفضل الأعمال أداء ما افترض اللّه عزّ وجلّ، والوَرَعُ عمّا حرّم اللّه عزّ وجلّ، وصِدْقُ النّيّة فيما عند اللّه عزّ وجلّ"[14]
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (ص 334)ـ.
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 61 - 63).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 31، 32).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 121).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 276).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 673).
- "فتح الباري" لابن رجب (1/ 227 - 229).
- "إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان" لابن القيم (1/ 5، 6).
- "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 193، 194).
- "بدائع الفوائد" لابن القيم (3/ 224).
- "الفوائد" لابن القيم (ص: 98).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 71، 72).
- "شفاء العليل" لابن القيم (ص: 106).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 70، 71).