عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
يروي أَبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»؛ أي: انظروا إلى من دونكم في أمور الدنيا، «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ» ممَّن فضِّل عليكم في أمور الدنيا؛ «فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»؛ أي: فهو أَحَقُّ أن لا تحتقروا ولا تَستقِلُّوا نعمة الله عليكم؛ لأن الإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، أما إذا نَظَر في أمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتواضَع، وفعل فيه الخير.
الشرح المفصَّل للحديثإن الله تعالى قد قَسَم الْمَعايش والأرزاق بين الناس في الحياة الدنيا، وجعلهم متفاضِلينَ فيها؛
قال تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
[الزخرف: 32]
أي: رحمةُ ربِّك خيرٌ مما يَجمَعون من الدنيا، فمَعايشُ العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، هو الذي يَقسِمها بين عباده، فيَبسُط الرزق لمن يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته.
وإن الإنسان زائغُ البصر، كثير التطلُّع لما ليس في يده، مولَعٌ بالمقارنة مع الآخرين في أمور الدنيا؛ في شكله، وهيئته، وصحته، ووظيفته، ورزقه، وأولاده، وهَلُمَّ جرًّا.
والعبد المؤمن لا يقارِن في أمور الدنيا؛ بل إنه إذا رأى من نفسه طُموحًا إلى زينة الدنيا، وإقبالًا عليها، يُذكِّرُها برزق ربِّه العاجل في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، والآجل في الآخرة في جنَّات النعيم؛ فقد نهى الله تعالى عن إدامة النظر في دنيا الناس، وإطالة النظر في النِّعم التي بيد الآخرين؛
فقال:
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَ
[طه: 131]
فهذا حال المفتونين بالدنيا، فهم في شرَهٍ دائم، ومقارنات مستمرَّة؛ "فلا تَمُدَّ عينَيْكَ مُعْجبًا، ولا تكرِّر النظر مستحسِنًا إلى أحوال الدنيا والممتَّعين بها، من المآكل والمشارِب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرَفة، والنساء الْمجمّلة؛ فإن ذلك كلَّه زهرةُ الحياة الدنيا، تَبتهِج بها نفوس المغتَرِّين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرِضين، ويتمتَّع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القوم الظالمون، ثم تذهب سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبِّيها وعشَّاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويَعلَمون ما هم عليه إذا قُدِّموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنةً واختبارًا؛ ليَعلَم من يقف عندها ويغترُّ بها، ومن هو أحسنُ عملًا؛ كما
قال تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا
[الكهف: ٧ – ٨]
(وَرِزْقُ رَبِّكَ) العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة، والآجِل من النعيم الْمُقيم، والعيش السليم في جوار الربِّ الرحيم (خَيْرٌ) مما متَّعنا به أزواجًا في ذاته وصفاته (وَأَبْقَى)؛ لكونه لا ينقطع، أُكُلُها دائم وظِلُّها؛
كما قال تعالى:
بَلۡ تُؤۡثِرُونَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا 17 وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ
[الأعلى: ١٦ – ١٧]" [1]
وفي الحديث يروي أَبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه- عن رَسُولِ اللهِ ﷺ أنه قال:
«انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ»؛ أي: انظروا إلى من دونَكم في أمور الدنيا، في الرزق والخَلق ونحوهما، «وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ»
ممَّن فُضِّل عليكم في أمور الدنيا؛ «فَهُوَ»؛ أي: النَّظَرُ إلى من هو أسفلُ في المال والخَلْق، لا إلى من هو فَوْقُ «أَجْدَرُ»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»؛ أي: بأن لا تحتقروا وتستصغروا نعم الله عليكم، فهو علَّة للأمر والنَّهي معًا؛ فالإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر ما عنده من نِعَم الله تعالى، ولا شكَّ أن تلك المقارناتِ مع مَن فضِّل عليه في أمور الدنيا في الظاهر، تُورِث الإنسان الحُزن والإحباط، وربَّما الحَسَد والحقد، وحتمًا سيَجُرُّه ذلك إلى أن لا يرى نِعَمَ الله عليه التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى؛ بل سيزدري تلك النِّعم ويستصغرُها أو يحتقرها، أما لو نظر إلى من دونه في الدنيا، ومن فوقَه في الدين والتقوى والطاعة، فسيُورثه ذلك القناعة، والرضا، والطمأنينة، والسعادة، وشُكر نعم الله عليه.
و"هذا حديثٌ جامع لأنواع من الخير؛ لأن الإنسان إذا رأى من فُضِّل عليه في الدنيا، طَلَبت نفسُه مثلَ ذلك، واستَصغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرَص على الازدياد ليَلحَق بذلك أو يُقارِبَه، هذا هو الموجودُ في غالبِ الناس، وأما إذا ما نَظَر في أُمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتَواضَع، وفَعَل فيه الخيرَ"[2]
"«انظروا إلى من هو أسفل منكم»؛ أي: دونَكم رُتبةً، «ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم»؛ أي: مَرتبةً؛ «فهو»؛ أي: النَّظر المذكور إثباتًا ونفيًا، «أجدر»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم»؛ أي: بعدم الازدراء والاحتقار لِما قَسَم اللّه عليكم في هذه الدَّار، فإنّه يَظهَر لكم بذلك النَّظرِ أنّ للَّه تعالى عليكم نِعمًا كثيرةً بالنِّسبة إلى مَن دونَكم، أو نِعمًا كثيرةً حيث اختار لكم الفَقر والبلاء، وجعلكم من أهل الولاء، وشبَّهكم بالأنبياء والأولياء، وخلَّصكم من ظَلَمة الأُمراء، وظَلَمة الأغنياء الأغبياء"[3]
و"هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى مَن فوقَه في الخَير، طالت نفسُه باللِّحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة، وإذا نظر في دنياه إلى من هو دونَه تبيَّن نِعَمَ الله عليه، فألزم نفسه الشُّكر. هذا معنى كلامه، وإذا لم يفعل ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ كان الأمر بالعكس، فأُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها"[4]
"وهذا الحديث إرشاد للعبد إلى ما يَشكُر به النِّعمة، والمراد بمن هو أسفلَ من النَّاظر في الدّنيا، فيَنظُر إلى المبتلى بالأسقام، وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية الّتي هي أصلُ كلِّ إنعام، وينظر إلى من في خَلْقه نَقصٌ مِن عمًى أو صَمَم أو بَكَم، وينتقل إلى ما هو فيه من السَّلامة عن تلك العاهات الّتي تَجلِب الهمَّ والغمَّ، وينظر إلى ما ابتُلي بالدّنيا وجَمْعِها، والامتناع عمَّا يجب عليه فيها من الحقوق، ويعلم أنّه قد فُضِّل بالإقلال، وأنعم عليه بقِلَّة تَبِعة الأموال في الحال والمآل، وينظر إلى من ابتُلِيَ بالفقر الْمُدْقِع، أو بالدَّيْن الْمُفْظِع، ويعلم ما صار إليه من السَّلامة من الأمرين، وتَقَرُّ بما أعطاه ربُّه العَيْنُ، وما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة اللّه، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه"[5]
و"يا لها من وَصيَّة نافعة، وكلمة شافية وافية! فهذا يدلُّ على الحثِّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر؛ فإن الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر.
وقد أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا.
يَنظُر إلى خَلق كثير ممن سُلبوا عقولهم، فيَحمَد ربَّه على كمال العقل، ويشاهد عالَمًا كثيرًا ليس لهم قُوتٌ مدَّخر، ولا مساكنُ يأوُون إليها، وهو مطمئنٌّ في مسكنه، موسَّع عليه رِزْقُه، ويرى خَلقًا كثيرًا قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو مُعافًى من ذلك، مُسَرْبَل بالعافية، ويُشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا ببلاء أفظعَ من ذلك، بانحراف الدِّين، والوقوع في قاذورات المعاصي، واللهُ قد حَفِظه منها، أو من كثير منها. ويتأمَّل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، ومَلَكَهم الحُزْنُ والوساوس، وضِيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنَّة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرًا من الأغنياء. ثم من ابتُلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالَمًا كثيرًا أعظم منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه"[6]
"فمن وفِّق للاهتداء بهذا الهَدْيِ الذي أرشد إليه النبيُّ ﷺ لم يَزَلْ شُكره في قوَّة ونُمُوٍّ، ولم تَزَلْ نِعَمُ الله عليه تَتْرى وتتوالى، ومن عَكَس القضية، فارتفع نظرُه، وصار ينظر إلى من هو فوقَه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بدَّ أن يزدريَ نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فَقَد الشُّكر، ترحَّلت عنه النِّعَم، وتسابقت إليه النِّقَم، وامتُحِن بالغمِّ الْمُلازم، والحَزم الدائم، والتسخُّط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله ربًّا ومدبِّرًا، وذلك ضَرَرٌ في الدين والدنيا، وخُسران مُبِين.
واعلم أن من تفكَّر في كثرة نِعَم الله، وتفطَّن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محضُ فضل الله وإحسانه، وأن جنسًا من نِعَم الله لا يَقدِر العبد على إحصائه وتَعداده، فضلًا عن جميع الأجناس، فضلًا عن شُكرها، فإنه يُضطرُّ إلى الاعتراف التامِّ بالنِّعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربِّه أن يستعين بشيء من نِعَمه على ما لا يحبُّه ويرضاه، وأَوْجب له الحياء من ربِّه الذي هو من أفضل شُعب الإيمان، فاستحيا من ربِّه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره"[7]
وقدر روى البخاريُّ ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ»
[8]
؛ "أي: أَسفَل من النّاظر في المال والخَلق، وقوله «ممّن فضِّل عليه»؛ أي: فُضِّل النّاظر عليه، وخَرَج بذكر المال والخَلق ما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك، بخلاف الأوّل؛ فإنّه لا يَنظُر فيه إلى الفاضل؛ لِما فيه من احتقار نعمة اللّه عليه بالنّسبة إلى نعمته على ذلك الفاضل في المال والخَلق؛ وإنّما ينبغي أن يَنظُر في هذا إلى المفضول؛ ليَعرِف قَدْرَ نعمة اللّه عليه، وهذا أدب حسنٌ أدَّبَنا به نبيُّنا ﷺ وفيه مصلحةُ ديننا ودُنيانا، وعُقولنا وأبداننا، وراحةُ قلوبنا، فجزاه اللّه عن نصيحته أفضلَ ما جزى به نبيًّا... ومن هنا ينبغي للإنسان اجتناب الاختلاط بأهل الدّنيا والتّوسُّع منها ومن كَسْبِها ونعيمها؛ لأنّه قد يؤدِّي إلى هذه المفسدة، وقال بعضهم: جالستُ الأغنياءَ، فاحتقرتُ لباسي إلى لباسهم، ودابَّتي إلى دوابِّهم، وجالستُ الفقراء فاسترحتُ[9]
هذا وإن كلَّ ما يَتَنافس الناسُ فيه من أمور الدنيا هو من الزَّهَادة والرُّخص بحيث لو شاء الله، لأغدقها إغداقًا على الكافرين به؛ لولا أن ذلك سيكون فتنةً للناس،
تَصُدُّهم عن الإيمان بالله؛ قال تعالى:
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
[الزخرف: ٣٣ – ٣٥].
يخبر الله تعالى بأن الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، وأنه لولا لطفُه ورحمته بعباده، وعلمه بضعفهم، وتأثيرِ عَرَض الدنيا في قلوبهم، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا، ولجعل لهم بيوتًا سُقُفُها من فِضَّة، وسَلالِمُها، بيوتًا ذاتَ أبواب كثيرة، وفيها سُرر للاتِّكاء، وفيها زُخرف للزينة؛ أي: لزَخرَف لهم دنياهم بأنواع الزخارف، وأعطاهم ما يشتهون؛ رمزًا لهَوَان هذه الفضَّة والذهب والزخرف والمتاع، بحيث تُبذَل هكذا رخيصةً لمن يَكفُر بالرحمن؛ ولكن منعه من ذلك رحمتُه بعباده؛ خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حبِّ الدنيا.
وهذا دليلٌ على أن الله تعالى يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعًا عامًّا أو خاصًّا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تَزِن عند الله جناح بَعُوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا، منغَّصة، مكدَّرة، فانية، وأن الآخرة عند الله تعالى خير للمتَّقِين لربِّهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه؛ لأن نعيمها تامٌّ كامل من كلِّ وجه، وفي الجنَّة ما تشتهيه الأنفس وتَلَذُّ الأَعْيُن، وهم فيها خالدون، فما أشدَّ الفرقَ بين الدارين!
قال تعالى:
لأ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198)
[آل عمران: ١٩٦ – ١٩٨].
"وهذه الآية المقصودُ منها التَّسْلِية عمَّا يَحصُل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعُّمِهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواع التِّجارات والمكاسب واللذَّات، وأنواع العِزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات، فإن هذا كلَّه (متاعٌ قليل)، ليس له ثبوتٌ ولا بقاء؛ بل يتمتَّعون به قليلًا، ويعذَّبون عليه طويلًا، هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتَّقُون لربِّهم، المؤمنون به، فمَعَ ما يَحصُل لهم من عزِّ الدنيا ونعيمها، (لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، فلو قدِّر أنهم في دار الدنيا، قد حَصَل لهم كلُّ بؤس وشدَّة، وعناء ومشقَّة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسُّرور والحُبور، والبهجة، نَزْرًا يسيرًا، ومِنحةً في صورة مِحنة؛ ولهذا قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار)، وهم الذين برَّت قلوبهم، فبرَّت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البَرُّ الرحيم من بِرِّه أجرًا عظيمًا، وعطاءً جسيمًا، وفوزًا دائمًا"[10]
النقول
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال الطبريُّ: هذا حديث جامع للخير؛ لأن العبد إذا رأى مَن فوقَه في الخَير، طالت نفسُه باللِّحاق به، واستقصر حاله التي هو عليها، واجتهد في الزيادة، وإذا نظر في دنياه إلى من هو دونَه تبيَّن نِعَمَ الله عليه، فألزم نفسه الشُّكر. هذا معنى كلامه، وإذا لم يفعل ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ كان الأمر بالعكس، فأُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها"[1]
قال السعديُّ رحمه الله: "يا لها من وَصيَّة نافعة، وكلمة شافية وافية! فهذا يدلُّ على الحثِّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر؛ فإن الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر.
وقد أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا. يَنظُر إلى خَلق كثير ممن سُلبوا عقولهم، فيَحمَد ربَّه على كمال العقل، ويشاهد عالَمًا كثيرًا ليس لهم قُوتٌ مدَّخر، ولا مساكنُ يأوُون إليها، وهو مطمئنٌّ في مسكنه، موسَّع عليه رِزْقُه، ويرى خَلقًا كثيرًا قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو مُعافًى من ذلك، مُسَرْبَل بالعافية، ويُشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتُلوا ببلاء أفظعَ من ذلك، بانحراف الدِّين، والوقوع في قاذورات المعاصي، واللهُ قد حَفِظه منها، أو من كثير منها. ويتأمَّل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، ومَلَكَهم الحُزْنُ والوساوس، وضِيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنَّة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة - نعمة القناعة وراحة القلب - كثيرًا من الأغنياء. ثم من ابتُلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالَمًا كثيرًا أعظم منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه"[2]
قال النوويُّ رحمه الله: "معنى (أجدر): أحقُّ، و(تزدروا): تَحقِروا. قال ابن جرير وغيره: هذا حديثٌ جامع لأنواع من الخير لأن الإنسان إذا رأى من فُضِّل عليه في الدنيا، طَلَبت نفسُه مثلَ ذلك، واستَصغَر ما عنده من نعمة الله تعالى، وحَرَص على الازدياد ليَلحَق بذلك أو يُقارِبَه، هذا هو الموجودُ في غالبِ الناس، وأما إذا ما نَظَر في أُمور الدنيا إلى من هو دونَه فيها، ظَهَرت له نعمة الله تعالى عليه، فشَكَرها، وتَواضَع وفَعَل فيه الخيرَ"[3]
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "وقوله: «فهو»؛ أي: النَّظَر إلى أسفل في المال والخَلْق، لا إلى من هو فَوْقُ، حقيقٌ بعدم الازدراء. و«أن لا تزدروا» متعلِّق بـ «أجدر» على حذف الجارِّ. والازدراء: الاحتقار والانتقاص والعَيب، وهو افتعالٌ من زَرَيْتَ عليه زِرَايةً إذا عِبْتَه. وأَزْرَيْتَ به إزراءً، إذا قصَّرْتَ به وتهاونتَ. وأصلُ (ازْدَرَيْت) ازْتَرَيت، وهو افتعل منه، فقُلِبت التاءُ دالًا؛ لأجل الزاي"[4]
قال الملا علي القاري رحمه الله: "«انظروا إلى من هو أسفل منكم»؛ أي: دونَكم رُتبةً، «ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم»؛ أي: مَرتبةً؛ «فهو»؛ أي: النَّظر المذكور إثباتًا ونفيًا، «أجدر»؛ أي: أحقُّ وأَوْلى «أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم»؛ أي: بعدم الازدراء والاحتقار لِما قَسَم اللّه عليكم في هذه الدَّار، فإنّه يَظهَر لكم بذلك النَّظرِ أنّ للَّه تعالى عليكم نِعمًا كثيرةً بالنِّسبة إلى مَن دونَكم، أو نِعمًا كثيرةً حيث اختار لكم الفَقر والبلاء، وجعلكم من أهل الولاء، وشبَّهكم بالأنبياء والأولياء، وخلَّصكم من ظَلَمة الأُمراء، وظَلَمة الأغنياء الأغبياء"[5]
قال العراقيُّ: "قوله «إذا نَظَر أحدُكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ، فلينظر إلى من هو أَسْفَلَ منه»؛ أي: أَسفَل من النّاظر في المال والخَلق، وقوله «ممّن فضِّل عليه»؛ أي: فُضِّل النّاظر عليه، وخَرَج بذكر المال والخَلق ما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك، بخلاف الأوّل؛ فإنّه لا يَنظُر فيه إلى الفاضل؛ لِما فيه من احتقار نعمة اللّه عليه بالنّسبة إلى نعمته على ذلك الفاضل في المال والخَلق؛ وإنّما ينبغي أن يَنظُر في هذا إلى المفضول؛ ليَعرِف قَدْرَ نعمة اللّه عليه، وهذا أدب حسنٌ أدَّبَنا به نبيُّنا ﷺ وفيه مصلحةُ ديننا ودُنيانا، وعُقولنا وأبداننا، وراحةُ قلوبنا، فجزاه اللّه عن نصيحته أفضلَ ما جزى به نبيًّا... ومن هنا ينبغي للإنسان اجتناب الاختلاط بأهل الدّنيا والتّوسُّع منها ومن كَسْبِها ونعيمها؛ لأنّه قد يؤدِّي إلى هذه المفسدة، وقال بعضهم: جالستُ الأغنياءَ، فاحتقرتُ لباسي إلى لباسهم، ودابَّتي إلى دوابِّهم، وجالستُ الفقراء فاسترحتُ"[6]
قال السعديُّ رحمه الله: "فمن وفِّق للاهتداء بهذا الهَدْيِ الذي أرشد إليه النبيُّ ﷺ لم يَزَلْ شُكره في قوَّة ونُمُوٍّ، ولم تَزَلْ نِعَمُ الله عليه تَتْرى وتتوالى، ومن عَكَس القضية، فارتفع نظرُه، وصار ينظر إلى من هو فوقَه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بدَّ أن يزدريَ نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فَقَد الشُّكر، ترحَّلت عنه النِّعَم، وتسابقت إليه النِّقَم، وامتُحِن بالغمِّ الْمُلازم، والحَزم الدائم، والتسخُّط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله ربًّا ومدبِّرًا، وذلك ضَرَرٌ في الدين والدنيا، وخُسران مُبِين.
واعلم أن من تفكَّر في كثرة نِعَم الله، وتفطَّن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محضُ فضل الله وإحسانه، وأن جنسًا من نِعَم الله لا يَقدِر العبد على إحصائه وتَعداده، فضلًا عن جميع الأجناس، فضلًا عن شُكرها، فإنه يُضطرُّ إلى الاعتراف التامِّ بالنِّعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربِّه أن يستعين بشيء من نِعَمه على ما لا يحبُّه ويرضاه، وأَوْجب له الحياء من ربِّه الذي هو من أفضل شُعب الإيمان، فاستحيا من ربِّه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره"[7]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "وقوله: «فهو أجدر» أحقُّ «أن لا تزدروا» تحتقروا «نعمة اللّه عليكم» علَّة للأمر والنَّهي معًا... الحديث إرشاد للعبد إلى ما يَشكُر به النِّعمة، والمراد بمن هو أسفل من النَّاظر في الدّنيا، فيَنظُر إلى المبتلى بالأسقام، وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية الّتي هي أصلُ كلِّ إنعام، وينظر إلى من في خَلْقه نَقصٌ مِن عمًى أو صَمَم أو بَكَم، وينتقل إلى ما هو فيه من السَّلامة عن تلك العاهات الّتي تَجلِب الهمَّ والغمَّ، وينظر إلى ما ابتُلي بالدّنيا وجَمْعِها، والامتناع عمَّا يجب عليه فيها من الحقوق، ويعلم أنّه قد فُضِّل بالإقلال، وأنعم عليه بقِلَّة تَبِعة الأموال في الحال والمآل، وينظر إلى من ابتُلِيَ بالفقر الْمُدْقِع، أو بالدَّيْن الْمُفْظِع، ويعلم ما صار إليه من السَّلامة من الأمرين، وتَقَرُّ بما أعطاه ربُّه العَيْنُ، وما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة اللّه، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه"[8]
قال السعديُّ رحمه الله:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
[الزخرف: 32]
أي: في الحياة الدنيا، والحال أن رَحمةَ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجمعُون من الدنيا. فإذا كانت معايشُ العباد وأرزاقهم الدنيوية بيد الله تعالى، وهو الذي يقسمها بين عباده، فيَبسُط الرزق على من يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته، فرحمته الدينية، التي أعلاها النبوَّة والرسالة، أَوْلى وأحرى أن تكون بيد الله تعالى؛ فاللهُ أعلم حيث يجعل رسالته" [9].
قال السعديُّ رحمه الله:
لأيَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَٰكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلْأَبْرَارِ (198) "[آل عمران: ١٩٦ – ١٩٨]
وهذه الآية المقصودُ منها التَّسْلِية عمَّا يَحصُل للذين كفروا من متاع الدنيا، وتنعُّمِهم فيها، وتقلُّبهم في البلاد بأنواع التِّجارات والمكاسب واللذَّات، وأنواع العِزِّ، والغَلَبة في بعض الأوقات، فإن هذا كلَّه (متاعٌ قليل)، ليس له ثبوتٌ ولا بقاء؛ بل يتمتَّعون به قليلًا، ويعذَّبون عليه طويلًا، هذه أعلى حالةٍ تكون للكافر، وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتَّقُون لربِّهم، المؤمنون به، فمَعَ ما يَحصُل لهم من عزِّ الدنيا ونعيمها، (لهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها)، فلو قدِّر أنهم في دار الدنيا، قد حَصَل لهم كلُّ بؤس وشدَّة، وعناء ومشقَّة، لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، والسُّرور والحُبور، والبهجة، نَزْرًا يسيرًا، ومِنحةً في صورة مِحنة؛ ولهذا قال تعالى: (وما عند الله خير للأبرار)، وهم الذين برَّت قلوبهم، فبرَّت أقوالهم وأفعالهم، فأثابهم البَرُّ الرحيم من بِرِّه أجرًا عظيمًا، وعطاءً جسيمًا، وفوزًا دائمًا" [10]