عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ»
1. في الحديث إشارة إلى أن الله تعالى قد قَسَم الْمَعايش والأرزاق بين الناس في الحياة الدنيا، وجعلهم متفاضِلينَ فيها، فيَبسُط الرزق لمن يشاء، ويُضيِّقه على من يشاء، بحسَبِ حكمته؛
قال تعالى:
نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ
[الزخرف: 32].
2. الإنسان بطبعه كثيرُ التطلُّع لما ليس في يده، زائغُ البصر، مولَعٌ بالمقارنة مع الآخرين في أمور الدنيا؛ في شكله، وهيئته، وصحته، ووظيفته، ورزقه، وأولاده، وهَلُمَّ جرًّا.
3. ينبغي للمؤمن ألَّا يتطلَّع ويقارِن في أمور الدنيا؛ بل عليه إذا رأى من نفسه طُموحًا إلى زينة الدنيا، وإقبالًا عليها، أن يُذكِّرها برزق ربِّه العاجل في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، والآجل في الآخرة في جنَّات النعيم.
4.
قال تعالى:
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَ
[طه: 131]،
ينهى الله تعالى عن إدامة النظر في دنيا الناس، وإطالة النظر في النِّعم التي بيد الآخرين؛ فهذا حال المفتونين بالدنيا، في شرَهٍ دائم، ومقارنات مستمرَّة.
5.
قال تعالى:
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلً
[الكهف: ٧]،
فجعل الله تعالى نِعمَه فتنةً واختبارًا، فيَظهَر من يقف عندها ويغترُّ بها، ومن هو أحسنُ عملًا[1]
6. في الحديث إشارة إلى أن الإنسان إذا نَظَر إلى من فُضِّل عليه في الدنيا، تاقت نفسُه إلى مثلِ ذلك، واستَصْغَر أو احتقر ما عنده من نِعَم الله تعالى التي لا تُعَدُّ ولا تُحصى، وعَمِيَ عنها؛ فمقارنة الإنسان مع مَن فضِّل عليه في أمور الدنيا في الظاهر، تُورِثه الحُزن والإحباط والسَّخَط، وربَّما الحَسَد والحقد، أما لو نظر إلى مَن دونَه في الدنيا، ومن فوقَه في الدين والتقوى والطاعة، فسيُورثه ذلك القناعة، والرضا، والطمأنينة، والسعادة، وشُكر نعم الله عليه.
7. إذا لم يفعل العبد ما حضَّ عليه النبيُّ ﷺ في الحديث، أُعجِب بعمله، وكَسَل عن الزيادة من الخير، ومدَّ عَيْنَيه إلى الدنيا، وحَرَص على الازدياد منها، وازدراء نِعَم الله عليه، ولم يؤدِّ حقَّها[2]
8. ما من مبتلًى في الدّنيا بخير أو شَرٍّ إلّا ويجد من هو أعظمُ منه بَليَّةً، فيتسلَّى به، ويَشكُر ما هو فيه ممّا يرى غيره ابتُلِيَ به، وينظر من هو فوقَه في الدِّين، فيَعلَم أنّه من المفرِّطين، فبالنّظر الأوَّل يَشكُر ما للّه من النِّعم، وبالنّظر الثّاني يستحي من مَوْلاه، ويَقرَع باب الْمَتاب بأنامل النَّدَم، فهو بالأوّل مسرور لنعمة الله، وفي الثّاني منكسِر النَّفْسِ حياءً من مولاه[3]
9. في الحديث الحثُّ على شكر الله بالاعتراف بنِعَمه، والتحدُّث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعِم، وفعل جميع الأسباب الْمُعينة على الشكر[4]
10. الشُّكر لله هو رأس العبادة، وأصلُ الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصَّةٍ أو عامَّة، إلَّا من الله، وهو الذي يأتي بالخَير والحسنات، ويدفع السُّوء والسيِّئات، فيستحقُّ أن يَبذُل له العباد من الشُّكر ما تَصِل إليه قُواهم، وعلى العبد أن يسعى بكلِّ وسيلة تُوصِله وتُعينه على الشُّكر[5]
11. في الحديث أرشد ﷺ إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القويِّ لشُكر نِعَم الله، وهو أن يَلحَظ العبد في كلِّ وقت من هو دونَه في العقل والنَّسَب والمال وأصناف النِّعَم، فمتى استدام هذا النَّظَر، اضطرَّه إلى كثرة شُكر ربِّه والثناء عليه؛ فإنه لا يزال يرى خَلْقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنَّى كثيٌر منهم أن يصل إلى قريب مما أُوِتَيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمدُ لله الذي أنعم عليَّ، وفضَّلني على كثير ممن خلق تفضيلًا [6]
12. من ابتُلي بشيء أو مصيبة لابدَّ أن يجد عالَمًا كثيرًا أعظمَ منه وأشدَّ مصيبةً، فيَحمَد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء؛ فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظمُ منه [7]
13. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ» [8] أما إذا نَظَر لمن فضِّل عليه في العِلم والدِّين والاجتهاد في العبادة، ومعالجة النّفس بدفع الأخلاق السَّيِّئة، وجلب الحسنة، فهذا ينبغي النّظر فيه إلى الفاضل؛ ليُقتدى به دون المفضول؛ لأنّه يتكاسل بذلك [9]
14.
قال تعالى:
وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا ۚ وَإِن كُلُّ ذَٰلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ
[الزخرف: ٣٣ – ٣٥].
فالدنيا لا تساوي عند الله شيئًا، ولولا لطفُه ورحمته بعباده، وعلمه بضعفهم، وتأثيرِ عَرَض الدنيا في قلوبهم، لوسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا كما بالآية؛ ولكن منعه من ذلك رحمتُه بعباده؛ خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حبِّ الدنيا.
الفوائد التربوية
15. في الحديث أدب حسنٌ أدَّبَنا به نبيُّنا ﷺ وفيه مصلحةُ ديننا ودُنيانا، وعُقولنا وأبداننا، وراحةُ قلوبنا، فجزاه اللّه عن نصيحته أفضلَ ما جزى به نبيًّا.
16. ينبغي للإنسان اجتناب الاختلاط بأهل الدّنيا والتّوسُّع منها ومن كَسْبِها ونعيمها؛ لأنّه قد يؤدِّي إلى ازدراء نعمة الله [1]
17. في الحديث: إرشادُ المسلم إلى أفضلِ الوسائل التي تؤدِّي به إلى الشُّعور بالرِّضا.
18. في الحديث أنَّ في العملِ بهذا الحديث وقايةً للإنسان من كثير من الأمراضِ القلبيَّة؛ كالحسَدِ والحِقد، وغيرهما.
الفوائد اللغوية
19. «أن لا تزدروا» متعلِّق بـ «أجدر» على حذف الجارِّ؛ بمعنى: أحق بأن لا تزدروا.
20. الازدراء: الاحتقار والانتقاص والعَيب، وهو افتعالٌ من زَرَيْتَ عليه زِرَايةً إذا عِبْتَه. وأَزْرَيْتَ به إزراءً، إذا قصَّرْتَ به وتهاونتَ. وأصلُ (ازْدَرَيْت): ازْتَرَيت، وهو افتعل منه، فقُلِبت التاءُ دالًا؛ لأجل الزاي [1]