عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
الكاهن: هو الذي يتَّصِل بالشياطين بعد أن يَكفُر بالله ليَخدُموه بما يَسترِقون من السمع.
العرَّاف: شامل لكلِّ من يدَّعي علم الغيب.
المعنى الإجماليُّ للحديثيروي أبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ»؛ أي: من ذَهب إلى كاهن يتَّصِل بالشياطين، أو عرَّاف يدَّعي علم الغيب، فصدَّقه بما يُخبِره به من الغيب. «فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»؛ أي: فقد كفر بالإسلام.
في هذا الحديث يُخبرنا رسول الله ﷺ عن الأمور الغَيبية التي استأثر الله تعالى بعلمها دون البشر، وذكر الحديثُ خمسةً، وقد استأثر الله تعالى بعلم هذه الأشياء لحِكمٍ ظاهرة؛ فقد تحدَّث الله تعالى في أكثرَ من آية عن اختصاصه بعلم الغيب؛
فقال تبارك وتعالى:
﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾
[النمل: 65]
وقال جلَّ وعلا:
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا﴾
[مريم: 77-80]،
وقال سبحانه:
﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾
[الجن: 26، 27]،
وقال جلَّ جلاله:
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ﴾
[يونس: 20]،
وقال عزَّ وجلَّ مخاطبًا رسوله ﷺ:
﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
[الأعراف: 188].
والغيب خمسةُ أمور:
أولًا: علم الساعة: أي: عِلْمُ موعد يوم القيامة، وقد حاول عدد من المدَّعين على مدار الزمان أن يحدِّدوا موعد يوم القيامة تحديدًا دقيقًا، ووضعوا مواعيدَ محدَّدةً بدقَّة، مرَّةً من خلال الحروف المقطَّعة في أوائل السور وحساب الجُمَّل، ومرَّةً بالأبراج، ومرَّت هذه المواعيد دون أن تقوم القيامة، ومن المضحِك أنه صدَّقهم مَن لا عقلَ لهم، وباعوا ممتلكاتِهم، وأوقفوا أعمالهم، منتظِرين القيامة!
ثانيًا: الغَيث: وهو الْمَطَر المقدَّر بقدَرٍ دقيق؛ بحيث لا يَزيد فيُهلِك الحرث والنَّسْلَ، ولا يَقِلُّ فلا تستفيد منه الأرض ولا الزرع ولا الإنسان ولا الحيوان، ولا ينزل في أرض لا تُمسِكه، فيذهب هَبَاءً دون أن يستفيد منه أحد، وقد عبَّر الله تعالى بلفظ الغَيث ولم يعبِّر بلفظ الْمَطر؛ لأن المطر لم يُذكَر في القرآن إلَّا في العذاب، فهو لا ينزل إلا في الهلاك؛
قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾
[الفرقان: 40].
ثالثًا: عِلْم ما في الأرحام: ومن علم الغَيب عِلْمُ ما في الأرحام؛ أذكرٌ أم أنثى؟ وفي آية أخرى وضَّحت المعنى أكثرَ؛
قال تعالى:
﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ﴾
[الرعد: 8]،
وحتى وقتٍ قريب كان علم ما في الأرحام غَيبًا لا يختلف في ذلك أحدٌ، حتى ظهرت الأجهزة الحديثة، وعُرف من خلالها نوع الجَنين، وحَسِب قليلو العلم بقدرة الله تعالى أنهم عَلِموا الغَيب، وليس الأمرُ كذلك؛ فالتحدِّي في معرفة ما تَغِيض الأرحام، وهو ما يتكوَّن فيها في ثلاثة الأسابيع الأولى، وهو ما يَعجِز عن معرفته الإنسان حتى الآن. والتحدِّي أيضًا في معرفة مدَّة الحمل، تسعة أشهر أم سبع؟ كما أنهم علموا ما في بطن أنثى الإنسان؛ فكيف بما في أرحام كلِّ نوع من أنواع الأنثى على الأرض في وقت واحد؟! تعالى الله علوًّا كبيرًا.
رابعًا: الكسب: استأثر الله تعالى بعلم ما يَكسِبه الإنسان في غَدِه من رزق ومن عمل، ولم يدَّعِ أحدٌ معرفة ذلك حتى الآن كما ادَّعَوْا في أمر الأرحام.
خامسًا: مكان الموت: استأثر الله تعالى بمعرفة مكان موت الإنسان وزمانه.
وهذه الخمسة قيل: هي على سبيل التمثيل وليست للحصر، وقيل: بل هي للحصر إذا اتَّسَعنا في المعنى؛ ليكون كلٌّ منها يُشير إلى عالم واسع من الغَيبيات، فالأرحام تشير إلى عالم النفس والأرواح، والْمَطَرُ يُشير إلى أمور العالم العُلويِّ، والموت يشير إلى أمور العالم السُّفليِّ أو المكان، وما في غدٍ يشير إلى عالم الزمان، والساعة تشير إلى الآخرة[1]
ويمكِن تقسيم الغيب إلى أنواع وتقسيمات[2]؛ فمن حيث الزمانُ، يُقسَّم إلى ثلاثة أقسام؛ أحدها: غيب الماضي: كخلق السماوات والأرض والإنسان، وقصص الأمم السابقة. وثانيها: غيب الحاضر: مثل ما يجري الآن في مكان آخَرَ من العالم، ولا يقع تحت حواسِّي مباشرة، أو غير مباشر كنقل بالبثِّ المباشر، وما يدور في أذهان الآخرين ونفوسهم. وثالثها: غيب المستقبل: كعلم الساعة.
ومن حيث إمكانُ علم الإنسان به، وهو على قسمين: قسم يمكِن للإنسان أن يَعلَمه بالوسائل المادِّية التجريبية والمشاهَدة؛ كوقت طلوع الشمس في المستقبَل، ومتى سيحدث الكُسوف والخُسوف؛ فذلك جعله الله على قانون ثابت، وكيفيَّة بَدْءِ الخَلق والحياة؛ لوجود شواهدَ على ذلك، وما حلَّ بالأمم السابقة من خلال الآثار. أو أن يَعلَمه بالعقل؛ كوجود الله سبحانه وتعالى، وأن الكَون مخلوق، وأن المخلوق لابدَّ له من خالق، أو أن يَعلَمه بالخبر الصادق الصحيح، بشرط الاعتقاد بصحَّة الخبر، والاطمئنان إلى دقَّة ناقل الخبر؛ كالإيمان بالجنَّة والنار، والحشر والصراط والميزان.
وقسم لا يمكِن للإنسان أن يَعلَمه، وهو الغَيب المطلَق؛ كوقت قيام الساعة، وهو غير داخل في مجال العلم التجريبيِّ، أو المعرفة العقلية، ولم يَرِد به دليل نقليٌّ.
وينقسم من حيث ثبوتُه إلى غَيْبٍ قطعيِّ الثُّبوت؛ كالآخرة، والجنَّة والنار، والبعث والحَشْرِ، ويجب الإيمان به. وغَيْبٍ ظنيِّ الثُّبوت، وهو الوارد في السنَّة الصحيحة الآحادية، وهو ليس قطعيًّا؛ ولكنه غالب الظنِّ، وهو أيضًا يجب الإيمان به، ويَأثَم مُنكِره؛ ولكنه لا يَكفُر.
الحكمة من تغييب علم هذه الغَيبيات عن الإنسان:
استئثار الله تعالى بعلم هذه الغَيبيات عامَّة لحِكَم ظاهرة، منها: زيادةُ الرجاء والتعلُّق بالله تعالى، وراحة للمؤمن من ترقُّبها والانشغال بها، وحريَّة للمسلم من أن يتذلَّل لمخلوقٍ مثلِه من أجل رزقٍ أو أَجَلٍ.
"كذلك أعطاهم من العلوم المتعلِّقة بصلاح مَعاشهم ودُنياهم بقَدْر حاجاتهم؛ كعلم الطبِّ والحساب، وعلم الزراعة والغِراس، وضروب الصنائع واستنباط المياه، وعقد الأَبْنِيَة، وصنعة السُّفن، واستخراج المعادن، وتهيئتها لما يراد منها، وتركيب الأدوية، وصنعة الأطعمة، ومعرفة ضروب الحِيَل في صيد الوحش والطير ودوابِّ الماء، والتصرُّف في وجوه التجارات، ومعرفة وجوه المكاسب، وغير ذلك مما فيه قيامُ معايشهم. ثم منعهم سبحانه علم ما سوى ذلك – أي: عِلم ما سوى ما يَنفَعهم- مما ليس في شأنهم، ولا فيه مصلحة لهم، ولا نشأتهم قابلة لـه؛ كعلم الغَيب، وعِلمِ ما كان، وكلّ ما يكون، والعِلم بعدد القَطر، وأمواج البحر، وذرَّات الرمال، ومَساقط الأوراق، وعدد الكواكب ومقادِيرها، وعلمِ ما فوق السموات وما تحت الثرى، وما في لُجَج البحار وأقطار العالم، وما يُكِنُّه الناس في صدورهم، وما تَحمِل كلُّ أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، إلى سائر ما عَزَب عنهم عِلْمَه، فمن تكلَّف معرفة ذلك، فقد ظَلَم نفسه، وبَخَس من التوفيق حظَّه، ولم يحصل إلا على الجهل المركَّب والخيال الفاسد في أكثرِ أمرِه"[3]
"ومن حكمته سبحانه ما مَنعَهم من العِلم عِلم الساعة ومعرفة آجالهم، وفي ذلك من الحكمة البالغة ما لا يحتاج إلى نظر؛ فلو عَرَف الإنسان مقدار عُمُره، فإن كان قصيرَ العمر، لم يتهنَّأ بالعيش، وكيف يتهنَّأ به وهو يترقَّب الموت في ذلك الوقت، فلولا طول الأمل لخَرِبت الدنيا، وإنما عمارتها بالآمال، وإن كان طويلَ العمر وقد تحقَّق ذلك، فهو واثق بالبقاء، فلا يبالي بالانهماك في الشهوات والمعاصي وأنواع الفساد، ويقول: إذا قَرُب الوقت أحدثتُ توبة، وهذا مذهب لا يرتضيه الله عزَّ وجلَّ من عباده ولا يَقبَله منهم، ولا تَصلُح عليه أحوال العالم، ولا يَصلُح العالم إلا على هذا الذي اقتضته حكمته وسبَق في علمه، فلو أن عبدًا من عبيدك عَمِل على أن يُسخِطك أعوامًا، ثم يُرضيك ساعةً واحدة إذا تيقَّن أنه صائر إليك، لم تُقبَل منه، ولم يَفُز لديك بما يفوز به مَن همُّه رضاك، وكذا سُنَّة الله عزَّ وجل أن العبد إذا عايَن الانتقال إلى الله تعالى لم ينفعه توبة ولا إقلاع... فَبَانَ أنَّ من حكمة الله ونِعمـه على عباده أنْ سـتر عنهم مقادير آجالهم ومبلغ أعمارهم، فلا يزال الكيِّس يترقَّب الموت وقد وضعه بين عينيه، فينكَفُّ عمَّا يَضرُّه في مَعاده، ويجتهد فيما يَنفَعه ويُسَرُّ به عند القُدوم".
ولعلَّ من الحكمة أيضًا إثباتَ جهل الإنسان مهما أُوتي من علم، فيقول الله له: إنك لا تَعلَم مَعاشَكَ ومَعادك، ولا ما تكسب غدًا، مع أنه فعلك وزمانك، ولا تعلم أين تموت، مع أنه شغلك ومكانك؛ فكيف تعلم وقت الساعة؟![4]، وهذا يدفع الإنسانَ للتمسُّك بالقرآن والوحي والرسل مصدرًا صادقًا للأخبار والإيمان والعمل.
وقد ادَّعى بعض الطوائف أنهم يعلمون أمرًا من هذه الأمور الغيبية؛ كالكهَّان والمنجِّمين والسَّحَرة والمتعامِلين مع الجنِّ، والضاربين بالرَّمل، وقارئي الكفِّ والفنجان، وأصحاب خُرافات أبراج الحظِّ، وهم كَذَبةٌ، وقد وردت الأحاديث في تغليظ عقوبة من يقوم بذلك ومن يتعامل معهم؛
كما في قول رسول الله ﷺ:
«مَنْ أَتَى كَاهِنًا، أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»
[5]
النقول
قال الطيبيُّ رحمه الله: "وفي قوله ﷺ تغليظٌ شديد، ووعيدٌ هائل، حيث لم يكتفِ بـ (كفر)؛ بل ضمَّ إليه (بما أُنزل علي محمد)، وصرَّح بالعِلم تجريدًا، والْمُراد بالْمُنزَل الكتابُ والسُّنَّة؛ أي: مَنِ ارتكب هذه الهَنَاتِ، فقد برئ من دين محمَّدٍ ﷺ وبما أُنزل عليه... والكاهن هو الذي يُخبِر عمَّا يكون في الزمان المستقبَل بالنُّجوم وما شاكَلها من أكاذيب الجنِّ، والمسترقة من الملائكة أحوال أهل الأرض، من قدر أعمالهم، وأرزاقهم، وما يَحدُث من الحوادث، فيأتون الكهنة، فيَخلِطون في كلِّ حديث مِائة كَذِبة، فيُخبرون الناس بها؛ يعني: مَن فعل هذه الأشياءَ واستحلَّها، وصدَّق الكاهن، فقد كفر، ومن لم يستحِلَّها، فهو كافرُ النِّعمة فاسقٌ"[1]
قال ابن حجر رحمه الله: "والكَهَانة - بفتح الكاف ويجوز كسرها -: ادِّعاء علم الغيب؛ كالإخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب، والأصلُ فيه استراق الجنّيِّ السَّمْعَ من كلام الملائكة، فيُلقيه في أُذن الكاهن، والكاهن لفظ يُطلَق على العرّاف، والّذي يضرب بالحصى، والمنجِّم، ويُطلَق على من يقوم بأمر آخَرَ، ويسعى في قضاء حوائجه، وقال في "المحكم": الكاهن: القاضي بالغيب، وقال في "الجامع": العرب تسمِّي كلَّ من أَذِن بشيء قبل وقوعه كاهنًا، وقال الخطّابيُّ: الكهنة قوم لهم أذهان حادَّة، ونفوس شرّيرة، وطباع ناريّة، فأَلِفتهم الشّياطين لما بينهم من التّناسب في هذه الأمور، ومساعدتهم بكلِّ ما تصل قدرتهم إليه، وكانت الكهانة في الجاهليّة فاشيةً، خصوصًا في العرب؛ لانقطاع النّبوّة فيهم، وهي على أصناف، منها ما يتلقَّونه من الجنّ؛ فإنّ الجنَّ كانوا يصعدون إلى جهة السّماء، فيركب بعضهم بعضًا إلى أن يدنوَ الأعلى بحيث يسمع الكلام فيُلقيه إلى الّذي يَليه، إلى أن يتلقّاه من يُلقيه في أُذن الكاهن، فيزيد فيه، فلمّا جاء الإسلام ونزل القرآن، حُرست السّماء من الشّياطين، وأُرسلت عليهم الشُّهب، فبَقِي من استراقهم ما يتخطّفه الأعلى فيُلقيه إلى الأسفل قبل أن يُصيبه الشهاب، وإلى ذلك الإشارة
بقوله تعالى:
إِلَّا مَنۡ خَطِفَ ٱلۡخَطۡفَةَ فَأَتۡبَعَهُۥ شِهَابٞ ثَاقِبٞ
[الصافات: ١٠]،
وكانت إصابة الكهّان قبل الإسلام كثيرةً جدًّا كما جاء في أخبار شقّ وسطيح ونحوهما، وأمّا في الإسلام، فقد ندر ذلك جدًّا حتّى كاد يضمحلّ، وللّه الحمد. ثانيها: ما يخبر الجنّيُّ به من يواليه بما غاب عن غيره ممّا لا يطَّلع عليه الإنسان غالبًا، أو يطَّلع عليه من قَرُب منه، لا من بَعُد. ثالثها: ما يستند إلى ظنٍّ وتخمين وحدْس، وهذا قد يجعل اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً مع كثرة الكذب فيه. رابعها: ما يستند إلى التّجربة والعادة، فيستدلُّ على الحادث بما وقع قبل ذلك، ومن هذا القسم الأخير ما يضاهي السّحر، وقد يعتضد بعضهم في ذلك بالزّجر والطّرق والنّجوم، وكلُّ ذلك مذموم شرعًا... والعرّاف - بفتح المهملة وتشديد الرّاء -: من يستخرج الوقوف على المغيّبات بضرب من فعل أو قول"[2]
قال ابن القيم رحمه الله: "وأما كونُ الكَهَنة رُسُلَ الشيطان، فلأن المشركين يُهرَعون إليهم، ويَفزَعون إليهم في أمورهم العِظام، ويصدِّقونهم، ويتحاكمون إليهم، ويَرضَون بحكمهم، كما يفعل أتباع الرسل بالرُّسل، فإنهم يعتقدون أنهم يعلمون الغيب، ويُخبرون عن الْمُغيَّبات التي لا يَعرِفها غيرهم، فهم عند المشركين بهم بمنزلة الرُّسل، فالكهنةُ رُسُلُ الشيطان حقيقةً، أرسلهم إلى حزبه من المشركين، وشبَّههم بالرُّسل الصادقين، حتى استجاب لهم حِزْبُه، ومثل رُسل الله بهم ليَنفِر عنهم، ويَجعَل رُسله هم الصادقين العالِمين بالغيب، ولَمَّا كان بين النوعين أعظمُ التَّضَادِّ، قال رسول الله ﷺ: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بَما يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّد». فإن الناس قسمان: أتباع الكهنة، وأتباع رُسل الله، فلا يجتمع في العبد أن يكون من هؤلاء وهؤلاء، بل يَبعُد عن رسول الله ﷺ بقدر قُرْبِه من الكاهن، ويُكذِّب الرسول بقدر تصديقه للكاهن"[3]
قال الملا علي القاري رحمه الله: " الفَرْقُ بين الكاهن والعرَّاف: أنّ الكاهن إنّما يتعاطى الخَبَر عن الغيب في مستقبَل الزَّمان، ويدَّعِي معرفة الأسرار، والعرَّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة الشّيء المسروق ومكان الضّالَّة ونحوهما من الأمور. «فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﷺ»؛ أَيْ: كَفَرَ، وهو مَحْمُولٌ عَلَى الاستحلال، أو على التهديد والوعيد"[4]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «من أتى كاهنًا». قال القاضي عياض: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب؛ أحدها: يكون للإنسان وليٌّ من الجنِّ يُخبره بما يَسْتَرِقه من السّمع من السّماء، وهذا القسم بَطَل من حين بَعَث اللّه تعالى نبيَّنا ﷺ. الثّاني: أن يُخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض، وما خَفِي عنه ممّا قَرُب أو بَعُد، وهذا لا يَبعُد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلِّمين هذين الضّربين، وأحالوهما، ولا استحالة في ذلك ولا بُعْدَ في وجوده؛ لكنّهم يَصْدُقون ويَكْذِبون، والنّهيُ عن تصديقهم والسّماع منهم عامٌّ. الثّالث: المنجِّمون، وهذا الضّرب يَخلُق اللّه فيه لبعض النّاس قوّةً ما؛ لكنّ الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفنِّ العرافة، وصاحبها عرَّاف، وهو الّذي يستدلُّ على الأمور بأسباب ومقدِّمات يدَّعي معرفتها بها، وقد يَعتضِد بعض هذا الفنِّ ببعض في ذلك؛ كالزّجر والطّرق والنّجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلُّها تسمَّى كهانةً، وقد أكذبهم كلَّهم الشّرعُ، ونهى عن تصديقهم وإتيانهم. قال الخطّابيُّ: العرّاف: هو الّذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضّالّة ونحوهما. قال في "النّهاية": الكاهن: يشمل العرّاف والمنجِّم"[5]
قال ابن باز رحمه الله: "لا يجوز الذهاب إلى العرَّافين والسحرة والمنجِّمين والكهنة ونحوهم، ولا يجوز سؤالهم ولا تصديقهم، ولا يجوز التداوي عندهم بزيت ولا غيره؛ لأن الرسول ﷺ نهى عن إتيانهم وسؤالهم وعن تصديقهم؛ لأنهم يدَّعون علم الغيب، ويكذبون على الناس، ويَدْعونهم إلى أسباب الانحراف عن العقيدة"[6]
قال النوويُّ رحمه الله: "أجمع المسلمون على تحريم حُلْوان الكاهن؛ لأنه عِوَضٌ عن محرَّم، ولأنه أكل المال بالباطل"[7]
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ» زاد الطبرانِيُّ من رواية أنس: «وَمَنْ أَتَاهُ غَيْرَ مُصَدِّقٍ لَهُ، لَمْ يَقْبَلْ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» وظاهر هذا أنّ التّصديق شرط في ثُبوت كفر من أتى الكاهن والعرّاف.
قوله: «فقد كفر» ظاهره أنّه الكفر الحقيقيُّ، وقيل: هو الكفر المجازيُّ، وقيل: من اعتقد أنّ الكاهن والعرّاف يعرفان الغيب ويطّلعان على الأسرار الإلهيّة، كان كافرًا كفرًا حقيقيًّا؛ كمن اعتقد تأثير الكواكب، وإلّا فلا"[8]