عن سفيانَ بنِ عبد الله الثقفيِّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدكَ - وفي حديث أبي أسامة: غيرَك – قال: «قل: آمنتُ بالله، فاستقم».
عن سفيانَ بنِ عبد الله الثقفيِّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدكَ - وفي حديث أبي أسامة: غيرَك – قال: «قل: آمنتُ بالله، فاستقم».
قال سفيانُ بنُ عبد الله الثقفيُّ: قلتُ: (يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدكَ)؛ أي: قولًا لا أحتاج إلى أحد بعدَكَ يفسِّره لي، فأعمل بما تقول، وأكتفي به.
قال: «قل: آمنتُ بالله» المراد بذلك قول القلب واللسان؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه. «فاستقم»؛ أي: فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه يَمْنةً أو يَسْرة.
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث وصيةٌ جامعةٌ لكلِّ خصال الخير، موجَزة يسيرةٌ في لفظها، يَسهُل على المرء حفظُها، وينبغي عليه العملُ بها.
وقول الصحابيِّ: (قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدك)؛ أي: علِّمني شيئًا جامعًا لمعاني الإسلام، واضحًا في نفْسه، لا أحتاج إلى الاستفسار عنه من غيرك، بحيث أعمل به، وأَعْكُف عليه، وهو كنحو ما رواه أبو هُريرةَ قال: جاء رجُلٌ إلى النبيِّ ﷺ، فقال: علِّمني شيئًا ولا تُكْثِر عليَّ؛ لعلِّي أَعِيهِ، قال: «لا تغضبْ»، فردَّد ذلك مرارًا، كلُّ ذلك يقول: «لا تغضبْ»[1].
وقوله: «آمنتُ بالله فاستقم» هذا من جوامع كَلِمه ﷺ؛ كما أخبر عن نفْسه في الحديث عن أبي هريرة : «بُعِثت بجوامع الكَلِم»[2]؛ فإنه ﷺ جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين معانيَ الإسلام والإيمان كلها؛ فإنه أمرَه أن يجدِّد إيمانه متذكِّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه، ويقتضي هذا استحضار تفصيل معاني الإيمان الشرعيِّ بقلبه، ثم أمره بالاستقامة على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج؛ فإنها ضدُّه[3].
وهذا نظير قول الله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
[فصلت: 30]
فإن معناه: وَحَّدُوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن تُوُفُّوا على ذلك[4].
والاستقامة في ذاتها أمرٌ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن كافَّة النواهي؛ فإن العبد لو تَرَك أمرًا، أو اقترف مَنهيًّا عنه، لم يَكُ مستقيمًا[5].
لذا؛ كان الأمر بالاستقامة صعبًا شديدًا؛ فإن الإنسان لا يقوى على الاستقامة بالكلية؛ ولهذا قال ﷺ في حديث ثوبان: «استقيموا ولن تُحصوا»[6]؛ أي: استقيموا ولن تَستطيعوا الاستقامة بالكلية؛ ولكن اجتهدوا قدرَ المستطاع، واسألوا الله العَون والثبات[7].
واستقامةُ المأمور صعبٌ شديدٌ؛ فإنها تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط[8].
وقد كثُرت عبارات الصحابة في تعريف الاستقامة، وهي تحومُ جميعًا حولَ معنًى واحد؛ قال أبو بكر الصديق: "الاستقامة: ألَّا تُشركَ بالله شيئًا". يريد الاستقامة على محضِ التوحيد.
وقال عمرُ بنُ الخطَّاب: "الاستقامة: أن تستقيمَ على الأمر والنهيِ، ولا تَرُوغَ رَوَغان الثعالب".
وقال عثمانُ بنُ عفَّانَ: "استقاموا: أخلَصوا العمل لله".
وقال عليُّ بنُ أبي طالب، وابن عبَّاس ﭭ: "استقاموا: أدَّوُا الفرائضَ".
وقال الحسن رحمه الله: «استقاموا على أمر الله، فعَمِلوا بطاعته، واجتنبوا معصيته»[9].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "استقامةُ المأمور صعبٌ شديدٌ؛ فإنها تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط"[1].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله عليه السلام للذي سأله: «قل: آمنتُ بالله ثم استقم»: هذا من جوامع كَلِمه - عليه السلام - وهو مطابق لقوله تعالى:
﴿َاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾
[فصلت: 30]
أي: وحَّدوا اللهَ وآمَنوا به، ثم استقاموا، فلم يَحِيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته، إلى أن تُوفُّوا على ذلك. وعلى ما قلناه أكثرُ المفسِّرين من الصحابة فمَن بعدَهم، وهو معنى الحديث، إن شاء الله تعالى. قال عمرُ بنُ الخطَّاب: استقاموا والله على طاعة الله، ولم يروغوا روغان الثعالب"[2].
قال النوويُّ رحمه الله: "وقال ابن عبَّاس - رضى الله عنهما - في قول اللّه تعالى:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
[هود: 112]
ما نزلت على رسول اللّه ﷺ في جميع القرآن آيةٌ كانت أَشَدَّ ولا أَشَقَّ عليه من هذه الآية؛ ولذلك قال ﷺ لأصحابه حين قالوا: قد أَسرَع إليك الشَّيْب، فقال:
«شيَّبتني هودٌ وأَخَواتُها»[3]
قال الأستاذ أبو القاسم القُشَيْريُّ في رسالته: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونِظامُها، ومن لم يكن مستقيمًا في حالته، ضاع سَعْيُه، وخاب جُهْدُه. قال: وقيل: الاستقامة لا يُطيقها إلّا الأكابر؛ لأنّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرّسوم والعادات، والقيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصِّدق؛ ولذلك قال ﷺ: «استقيموا ولن تُحصوا»، وقال الواسطيُّ: الخَصْلة الّتي بها كَمُلت المحاسن، وبفقدها قَبُحت المحاسن. واللّه أعلم"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "«قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ»: طَلَب منه أن يعلِّمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام، كافيًا؛ حتّى لا يحتاج بعده إلى غيره، فقال له النّبيُّ ﷺ: «قل: آمنت باللّه، ثمّ استقم» وفي الرّواية الأخرى: «قل: ربّي اللّه، ثمّ استقم»: هذا مُنتزَع من قوله عزّ وجلّ:
﴿ِإِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾
[فصّلت: 30]
وقوله عزّ وجلّ:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ 13 أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[الأحقاف: 13 - 14]
وخرَّج النّسائيُّ في "تفسيره" من رواية سُهيلِ بنِ أبي حزم: حدَّثنا ثابت، عن أنس أنّ النّبيَّ ﷺ قرأ:
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}ﱠ
[الأحقاف: 13]
فقال:
«قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرُوا، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاسْتِقَامَةِ»
وخرَّجه التّرمذيُّ، ولفظُه: فقال:
«قَدْ قَالَهَا النَّاسُ، ثُمَّ كَفَرَ أَكْثَرُهُمْ، فَمَنْ مَاتَ عَلَيْهَا، فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَقَامَ»
وقال: حسن غريب، وسُهَيل تُكُلِّم فيه من قِبَل حِفظه"[5].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك»؛ أي: قل لي قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، فيكون فصلاً وحاسمًا، ولا يحتاج إلى سؤال أحد، فقال له النبيُّ ﷺ: «قل: آمنتُ بالله ثم استقم». فقوله عليه الصلاة والسلام: «قل: آمنت» ليس المراد بذلك مجرَّد القول باللسان، فإن من الناس من يقول: آمنتُ بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين؛ ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضًا؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه؛ لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان، لا بدَّ من الإيمان بالقلب واللسان؛ ولهذا كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يقول وهو يدعو الناس إلي الإسلام: «يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تُفلحوا» فقال: «قولوا»؛ أي: بألسنتكم، كما أنه لا بدَّ من القول بالقلب. وقوله: «آمنت بالله» يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل، وبربوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وبصفاته، وبأحكامه، وبأخباره، وكل ما يأتي من قِبَله - عزَّ وجلَّ - تؤمن به، فإذا آمنتَ بذلك، فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه يمينًا ولا شمالاً، لا تقصِّر ولا تَزد. فاستقم على الدين، واستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والمتابعة لرسول الله ﷺ، واستقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام والحجِّ، وعلى جميع شريعة الله. وقوله: «قل: آمنت بالله ثم» دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان، وأن من شرط الأعمال الصالحة؛ أي: من شرط صحتها وقبولها أن تكون مَبنيَّةً على الإيمان، فلو أن الإنسان عَمِل بظاهره على ما ينبغي، ولكن باطنه خَرَاب، وفي شكٍّ، أو في اضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فإن ذلك لا ينفعه؛ ولهذا اتَّفق العلماء - رحمهم الله - على أن من شروط صحة العبادة وقبولها: أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله؛ أي: معترِفًا به، وبجميع ما جاء من قِبَله تبارك وتعالى. ويُستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان، إذا قام بعمل، أن يَشعُر بأنه قام به لله، وأنه يقوم به بالله، وأنه يقوم به في الله؛ لأنه لا يستقيم على دين الله إلا بعد الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - فيَشعُر بأنه يقوم به لله؛ أي: مخلصًا، وبالله؛ أي: مستعينًا، وفي الله؛ أي: متَّبِعًا لشَرعه، وهذه مستفادة من قوله تبارك وتعالى:
{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ 5 ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}
[الفاتحة: ٥ – ٦]
فالأول: قيام لله، والثاني: قيام به، والثالث: قيام فيه؛ أي: في شرعه؛ ولهذا نقول: أن المراد بالصراط المستقيم في الآية الكريمة هو شرع الله عزَّ وجلَّ"[6].
قال ابن القيم رحمه الله: "سُئل صدِّيق الأمة وأعظمها استقامةً أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: أن لا تشرك بالله شيئًا. يريد الاستقامة على محض التوحيد. وقال عمرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعالب. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله. وقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وابن عباس - رضي الله عنهما -: استقاموا: أدَّوُا الفرائض. وقال الحسن: استقاموا على أمر الله فعَمِلوا بطاعته واجتنبوا معصيته. وقال مجاهد: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه يقول: استقاموا على محَّبته وعُبوديته، فلم يلتفتوا عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً"[7].
قال العباد: "وهذا يدلُّ على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول ﷺ؛ لأنه قال: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك»، ومعناه: قل لي قولاً واضحًا جَليًّا آخذ به وأعمل به، فهو يدلُّ على حرص الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على الخير، وعلى التفقُّه في الدين، وعلى معرفة الحقِّ والهدى، ولا شكَّ أنهم - رضي الله عنهم وأرضاهم - أسبقُ الناس إلى كلِّ خير، وأحرصُهم عليه، وقد اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه، وأَوجَدهم في زمانه، فشرَّفهم بصُحبته، وبالجهاد معه، وبالدفاع والذبِّ عنه، وبأخذ الشريعة منه، ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطةَ بين الناس وبين رسول الله ﷺ، فما عرف الناس حقًّا ولا هُدًى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول ﷺ"[8].
قال ابن رجب رحمه الله: "ولعلّ من قال: إنّ المراد الاستقامة على التّوحيد. إنّما أراد التّوحيد الكاملَ الّذي يحرِّم صاحبه على النّار، وهو تحقيق معنى لا إله إلّا اللّه؛ فإنّ الإله هو المعبود الّذي يُطاع، فلا يُعصى؛ خشيةً وإجلالًا ومهابةً ومحبّةً ورجاءً وتوكُّلًا ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التّوحيد؛ لأنّها إجابة لداعي الهوى وهو الشّيطان؛ قال اللّه عزّ وجلّ:
{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}
[الجاثية: 23]
قال الحسن وغيره: هو الّذي لا يهوى شيئًا إلّا ركَبِه، فهذا ينافي الاستقامة على التّوحيد. وأمّا على رواية من روى: «قل: آمنت باللّه» فالمعنى أظهر؛ لأنّ الإيمان يدخل فيه الأعمال الصّالحة عند السَّلَف ومن تابَعهم من أهل الحديث، وقال اللّه عزّ وجلّ:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
[هود: 112]
فأمره أن يستقيم هو ومن تاب معه، وأن لا يجاوزوا ما أُمروا به، وهو الطّغيان، وأخبر أنّه بصير بأعمالكم، مطَّلِع عليها؛ قال تعالى:
{فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ}
[الشورى: 15]
قال قتادةُ: أُمِر محمَّد ﷺ أن يستقيم على أمر اللّه. وقال الثّوريُّ: على القرآن، وعن الحسن، قال: لَمّا نزلت هذه الآية شَمَّر رسول اللّه ﷺ فما رُئِي ضاحكًا. خرَّجه ابن أبي حاتم، وذكر القُشَيريُّ وغيره عن بعضهم: أنّه رأى النّبيَّ ﷺ في المنام، فقال له: يا رسول اللّه، قلتَ: «شَيَّبتني هود وأخواتها»[9] فما شيَّبَك منها؟ قال: «قوله:
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}
[هود: 112]
وقال عزّ وجلّ:
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ}
[فصلت: 6]
وقد أَمَر اللّه تعالى بإقامة الدّين عمومًا؛ كما قال:
{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}
[الشورى: 13]
وأَمَر بإقام الصّلاة في غير موضع من كتابه، كما أَمَر بالاستقامة على التّوحيد في تلك الآيتين"[10].
قال ابن القيم رحمه الله: "فالاستقامة كلمةٌ جامعة، آخِذة بمَجَامع الدين، وهي القيام بين يدَيِ الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد، والاستقامةُ تتعلَّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعُها لله، وبالله، وعلى أمر الله. قال بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة لا طالبَ الكرامة؛ فإن نفسك متحرِّكة في طلب الكرامة، وربَّك يُطالبك بالاستقامة. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدَّس الله تعالى روحه - يقول: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة"[11].
قال ابن رجب رحمه الله: "والاستقامة: هي سلوك الصّراط المستقيم، وهو الدِّين القيِّم من غير تعريج عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، ويَشمَل ذلك فعل الطّاعات كلِّها، الظّاهرةِ والباطنة، وترك المنهيَّات كلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيّة جامعةً لخصال الدّين كلِّها.
وفي قوله عزّ وجلّ:
{فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}
[فصلت: 6]
إشارة إلى أنّه لابدّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيُجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتّوبة والرّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النّبيِّ ﷺ لمعاذ:
«اتَّقِ اللّه حيثما كنتَ، وأتبع السّيّئةَ الحسنةَ تَمحُها»[12]
وقد أخبر النّبيُّ ﷺ أنّ النّاس لن يُطيقوا"[13].
قال ابن القيم رحمه الله: "الاستقامة: روح تحيا به الأحوال كما تربو للعامة عليها الأعمال، وهي برزخ بين وِهَاد التفرُّق وروابي الجَمع، شبَّه الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن؛ فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميِّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضًا وربوُّها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل، ولا صحَّة للحال بدونها، وأما كونها برزخًا بين وِهاد التفرُّق وروابي الجمع، فالبرزخ هو الحاجز بين شيئين متغايرين، والوِهَاد الأمكنة المنخفضة من الأرض، واستعارها للتفرُّق لأنها تَحجُب من يكون فيها عن مطالعة ما يراه من هو على الروابي كما أن صاحب التفرُّق محجوب عن مطالعة ما يراه صاحب الجمع، ويشاهده، وأيضًا فإن حاله أنزل من حاله، فهو كصاحب الوهاد، وحال صاحب الجمع أعلى، فهو كصاحب الروابي، وشبَّه حال صاحب الجمع بحال من على الروابي"[14].
قال العباد: "وقد أجابه النبيُّ ﷺ بكلمتين فقال له: «قل: آمنت بالله ثم استقم»، فأمره بأن يقول: «آمنتُ بالله»، والإيمان هنا جاء مطلَقًا وعامًّا، فيدخل فيه الأمور الباطنة والأمور الظاهرة، ومعنى ذلك: أن الإنسان يؤمن بالله - عزَّ وجلَّ - وبما جاء في كتابه وسنَّة رسوله ﷺ، ويصدِّق بذلك، ويؤمن به، ثم بعد ذلك يستقيم على ملازمة الحقِّ والهدى الذي هو الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - الذي يكون جامعًا بين الأمور الباطنة والأمور الظاهرة. وهو قد سأله عن الإسلام فقال: «قل لي في الإسلام»، فقال: «قل: آمنت بالله»، فدلَّنا هذا على أن قوله: «آمنت بالله»، يَدخُل فيه الأمور الظاهرة والأمور الباطنة؛ لأنا قد عرفنا فيما مضى أن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمِع بينها في الذِّكر، فُرِّق بينها في المعنى، بحيث يكون الإيمان للأمور الباطنة ويكون الإسلام للأمور الظاهرة، وإذا جاء أحدهما مستقلًّا عن الآخر، شَمِل المعنيين جميعًا؛ الأمور الظاهرة والباطنة، فهنا قوله: «آمنت بالله»، يدخل فيه الأمور الظاهرة والباطنة"[15].
قال أبو عليٍّ الجوزجانيُّ رحمه الله: «كن صاحبَ الاستقامة لا طالبَ الكَرامة؛ فإن نفْسَكَ متحركةٌ في طلب الكرامة، وربكَ عز وجل يُطالبك بالاستقامة»[16].
قال ابن القيم رحمه الله: "العلم هادٍ، والحال الصّحيح مهتَدٍ به، وهو تَرِكة الأنبياء وتُراثُهم، وأهله عُصْبَتُهم وورَّاثهم، وهو حياة القلوب، ونور البصائر، وشفاء الصُّدور، ورياض العقول، ولذَّة الأرواح، وأَنَس المستَوْحِشين، ودليل المتحيِّرين، وهو الميزان الّذي به تُوزَن الأقوال والأعمال والأحوال، وهو الحاكم المفرِّق بين الشّكِّ واليقين، والغيِّ والرَّشاد، والهدى والضَّلال، به يُعرَف اللّه ويُعبَد، ويُذكَر ويوحَّد، ويُحمَد ويمجَّد، وبه اهتدى إليه السّالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومن بابه دخل عليه القاصدون"[17].
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله: «الاستقامة درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومَن لم يكن مستقيمًا في حالته ضاع سَعْيُه، وخاب جهده،
قال تعالى:
﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا﴾
[النحل: 92]»[18].
قال أبو القاسم القشيري رحمه الله: «الاستقامة لا يُطيقها إلا الأكابرُ؛ لأنها الخروجُ عن المعهودات، ومفارقةُ الرسوم والعادات، والقيامُ بين يدي الله تعالى على حقيقة الصدق»[19].