عن سفيانَ بنِ عبد الله الثقفيِّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا بعدكَ - وفي حديث أبي أسامة: غيرَك – قال: «قل: آمنتُ بالله، فاستقم».

فوائد الحديث

الفوائد العلمية

1. في هذا الحديث وصيةٌ جامعةٌ لكلِّ خصال الخير، موجَزة يسيرةٌ في لفظها، يَسهُل على المرء حفظُها، وينبغي عليه العملُ بها، وهو من جوامع الكَلِم التي أوتيها النبيُّ ﷺ؛ كما أخبر عن نفْسه في الحديث عن أبي هريرة : «بُعِثت بجوامع الكَلِم»[1]، وهي التعبير عن الأمور العظام بالألفاظ اليسيرة السهلة. 

2. في الحديث جمع ﷺ لهذا السائل في كلمتين معانيَ الإسلام والإيمان كلَّها؛ فإنه أمرَه أن يجدِّد إيمانه متذكِّرًا بقلبه، وذاكرًا بلسانه، ويقتضي هذا استحضار تفصيل معاني الإيمان الشرعيِّ بقلبه، ثم أمره بالاستقامة على أعمال الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتَّى الاستقامةُ مع شيء من الاعوجاج؛ فإنها ضدُّه[2].

3. قوله ﷺ: «آمنتُ بالله فاستقم» نَظِيرُ قول الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ 

 [فصلت: 30]

فإن معناه: وَحَّدُوا الله وآمنوا به، ثم استقاموا فلم يَحيدوا عن توحيدهم، ولا أشركوا به غيره، والتزموا طاعته إلى أن تُوُفُّوا على ذلك[3].

4. في الحديث دليل على كمال عقل هذا الرجل السائل للرسول ﷺ؛ لأنه قال: «قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك»، ومعناه: قل لي قولاً واضحًا جَليًّا آخذ به وأعمل به.

5. في الحديث دليل على حرص الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم - على الخير، وعلى التفقُّه في الدين، وعلى معرفة الحقِّ والهدى.

6. لا شكَّ أن الصحابة - رضي الله عنهم وأرضاهم – هم أسبقُ الناس إلى كلِّ خير، وأحرصُهم عليه، وقد اختارهم الله - عزَّ وجلَّ - لصُحبة نبيِّه، وأَوجَدهم في زمانه، فشرَّفهم بصُحبته، وبالجهاد معه، وبالدفاع والذبِّ عنه، وبأخذ الشريعة منه، ونقلها وتبليغها إلى الناس على التمام والكمال، فكانوا بذلك الواسطةَ بين الناس وبين رسول الله ﷺ، فما عرف الناس حقًّا ولا هُدًى إلا عن طريق الصحابة؛ لأنهم الواسطة بين الناس وبين الرسول ﷺ"[4].

7. من اللائق التعبير بالاستقامة، فيقال: فلانٌ مستقيمٌ، ولا يقال: ملتزمٌ؛ لأن الاستقامة هي اللفظ القرآنيُّ، ولأن الالتزام يعني لزومَ أمرٍ معيَّن، سواءٌ كان صالحًا، أم فاسدًا[5].

8. الاستقامة في ذاتها أمرٌ جامعٌ للإتيان بجميع الأوامر، والانتهاء عن كافَّة النواهي؛ فإن العبد لو تَرَك أمرًا، أو اقترف مَنهيًّا عنه، لم يَكُ مستقيمًا[6].

9. الاستقامةُ تشتمل على العقائد والأعمال والأخلاق، فالاستقامةُ في العقائد أن يجتَنِب التشبيه والتعطيل، وفي الأعمال أن يَحترِز عن التغيير والتبديل، وفي الأخلاق أن يَبعُد عن طرفَيِ الإفراط والتفريط[7].

10. الاستقامة كلمةٌ جامعة، آخِذة بمَجَامع الدين، وهي القيام بين يدَيِ الله على حقيقة الصدق والوفاء بالعهد[8].

11. الاستقامةُ تتعلَّق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيَّات، فالاستقامة فيها: وقوعُها لله، وبالله، وعلى أمر الله[9].

12. الاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن؛ فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميِّت، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة، فهو فاسد، وكما أن حياة الأحوال بها، فزيادة أعمال الزاهدين أيضًا وربوُّها وزكاؤها بها، فلا زكاء للعمل، ولا صحَّة للحال بدونها[10].

13. الاستقامة درجةٌ بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصولُ الخيرات ونِظامُها، ومن لم يكن مستقيمًا في حالته، ضاع سَعْيُه، وخاب جهدُه[11].

14. الاستقامة لا يُطيقها إلّا الأكابر؛ لأنّها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرّسوم والعادات، والقيام بين يدي اللّه تعالى على حقيقة الصِّدق؛ ولذلك قال ﷺ: «استقيموا ولن تُحصوا»[12]؛ أي: استقيموا ولن تَستطيعوا الاستقامة بالكلية؛ ولكن اجتهدوا قدرَ المستطاع، واسألوا الله العَون والثبات[13].

15. الاستقامة الخَصلة الّتي بها كَمُلت المحاسن، وبفقدها قَبُحت المحاسن[14].

16. الاستقامة: هي سلوك الصّراط المستقيم، وهو الدّين القيِّم من غير تعريج عنه يَمْنةً ولا يَسْرةً، ويشمل ذلك فعل الطّاعات كلِّها، الظّاهرة والباطنة، وترك المنهيَّات كلّها كذلك، فصارت هذه الوصيّة جامعةً لخصال الدّين كلّها[15].

17. فاستقم على الدين، واستقم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وذلك بالإخلاص لله عزَّ وجلَّ، والمتابعة لرسول الله ﷺ، واستقم على الصلاة، وعلى الزكاة، والصيام والحجِّ، وعلى جميع شريعة الله[16].

18. قال ابن عبَّاس - رضى الله عنهما - في قول اللَّه تعالى:

{َاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}

[هود: 112]

ما نزلت على رسول اللَّهِ ﷺ في جميع القرآن آيةٌ كانت أَشَدَّ ولا أَشَقَّ عليه من هذه الآية؛ ولذلك قال ﷺ لأصحابه حين قالوا: قد أسرع إليك الشَّيْبُ، فقال: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا»[17].

19. في قوله تعالى:

﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾

[فصلت: 6]

إشارة إلى أنّه لابدّ من تقصير في الاستقامة المأمور بها، فيجبر ذلك بالاستغفار المقتضي للتّوبة والرّجوع إلى الاستقامة؛ فهو كقول النّبيّ ﷺ لمعاذ: «اتّق اللّه حيثما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها»[18].

20. «قل: آمنت» ليس المراد بذلك مجرَّد القول باللسان، فإن من الناس من يقول: آمنتُ بالله واليوم الآخر، وما هم بمؤمنين؛ ولكن المراد بذلك قول القلب واللسان أيضًا؛ أي: أن يقول الإنسان بلسانه، بعد أن يُقِرَّ ذلك في قلبه، ويعتقده اعتقادًا جازمًا لا شكَّ فيه؛ لأنه لا يكفي الإيمان بالقلب، ولا الإيمان باللسان؛ بل لا بدَّ من الإيمان بالقلب واللسان.

21. سُئل صدِّيق الأمة وأعظمها استقامةً أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن الاستقامة، فقال: أن لا تُشرك بالله شيئًا. يريد الاستقامة على محض التوحيد[19].

22. قال عثمان بن عفَّانَ رضي الله عنه: استقاموا: أخلصوا العمل لله[20].

23. قال عليُّ بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهم -: استقاموا: أدَّوُا الفرائض[21].

24.{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} وفِّقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل، ووفِّقنا للاستقامة عليه بعد معرفته.

المراجع

  1. رواه البخاريُّ (2977)، ومسلم (523).
  2. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 221).
  3. انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 275)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 222).
  4. "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 5).
  5. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 214).
  6. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87)، "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 457).
  7. "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 458).
  8. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 105).
  9. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 105).
  10. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 106).
  11. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  12. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  13. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 87).
  14. "شرح النوويّ على مسلم" (2/ 9).
  15. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510).
  16. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 572).
  17. "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 9). والحديث رواه الترمذيُّ (3293)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع"(3722).
  18. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 510). والحديث رواه أحمد (22059)، والترمذيّ (1987)، وحسّنه الألبانيّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (3160).
  19. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).
  20. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).
  21. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 104).



الفوائد العقدية

25. قوله: «آمنت بالله» يشمل الإيمان بوجود الله عز وجل، وبربوبيته، وبألوهيته، وبأسمائه وبصفاته، وبأحكامه، وبأخباره، وكل ما يأتي من قِبَله - عزَّ وجلَّ - تؤمن به، فإذا آمنتَ بذلك، فاستقم على دين الله، ولا تَحِدْ عنه يمينًا ولا شمالاً، لا تقصِّر ولا تَزد[1].

26. المراد بالاستقامة على التّوحيد: التّوحيد الكامل الّذي يحرِّم صاحبه على النّار، وهو تحقيق معنى لا إله إلّا اللّه؛ فإنّ الإله هو المعبود الّذي يُطاع، فلا يُعصى؛ خشيةً وإجلالًا ومهابةً ومحبّةً ورجاءً وتوكُّلًا ودعاءً، والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التّوحيد؛ لأنّها إجابة لداعي الهوى، وهو الشّيطان[2].

27. قوله: «قل: آمنت بالله ثم استقم» دليل على أن الاستقامة لا تكون إلا بعد الإيمان، وأن من شرط صحة الأعمال الصالحة وقبولها أن تكون مَبنيَّةً على الإيمان، فلو أن الإنسان عَمِل بظاهره على ما ينبغي؛ ولكن باطنه خَرَاب، وفي شكٍّ، أو في اضطراب، أو في إنكار وتكذيب، فإن ذلك لا ينفعه[3].

28. «قل: آمنت بالله ثم استقم»، أمره النبيُّ ﷺ بأن يقول: «آمنتُ بالله»، والإيمان هنا جاء مطلَقًا وعامًّا، فيدخل فيه الأمور الباطنة والأمور الظاهرة، ومعنى ذلك: أن الإنسان يؤمن بالله - عزَّ وجلَّ - وبما جاء في كتابه وسنَّة رسوله ﷺ، ويصدِّق بذلك، ويؤمن به، ثم بعد ذلك يستقيم على ملازمة الحقِّ والهدى الذي هو الإيمان بالله - عزَّ وجلَّ - الذي يكون جامعًا بين الأمور الباطنة والأمور الظاهرة[4].

29. سأله عن الإسلام فقال: «قل لي في الإسلام»، فقال: «قل: آمنت بالله»، فدلَّ هذا على أن قوله: «آمنت بالله»، يَدخُل فيه الأمور الظاهرة والأمور الباطنة؛ لأن الإسلام والإيمان من الألفاظ التي إذا جُمِع بينها في الذِّكر، فُرِّق بينها في المعنى، بحيث يكون الإيمان للأمور الباطنة ويكون الإسلام للأمور الظاهرة، وإذا جاء أحدهما مستقلًّا عن الآخر، شَمِل المعنيين جميعًا؛ الأمور الظاهرة والباطنة، فهنا قوله: «آمنت بالله»، يدخل فيه الأمور الظاهرة والباطنة[5].

30. يُستفاد من هذا الحديث: أنه ينبغي للإنسان، إذا قام بعمل، أن يَشعُر بأنه قام به لله، وأنه يقوم به بالله، وأنه يقوم به في الله؛ لأنه لا يستقيم على دين الله إلا بعد الإيمان بالله تعالى فيَشعُر بأنه يقوم به لله؛ أي: مخلصًا، وبالله؛ أي: مستعينًا، وفي الله؛ أي: متَّبِعًا لشَرعه، وهذه مستفادة من قوله تبارك وتعالى:

{إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ 5 ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ}

[الفاتحة: ٥ – ٦]

فالأول: قيام لله، والثاني: قيام به، والثالث: قيام فيه؛ أي: في شرعه؛ ولهذا نقول: أن المراد بالصراط المستقيم في الآية الكريمة هو شرع الله عزَّ وجلَّ[6].

المراجع

  1. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 571، 572).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 509).
  3. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 572).
  4. "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 6).
  5. "شرح الأربعين النووية" للعباد (22/ 6).
  6. "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (1/ 572).


الفوائد التربوية

31. من مؤهِّلات الداعية والمربِّي: امتلاكُ القدرة البيانية على صياغة المعاني الكثيرة في كلمات سهلة وقليلة؛ اقتداءً بالنبيِّ ﷺ؛ حتى لا يَكثُر الكلام على المدعوِّين فيَعُوه.

32. ينبغي على العاقل أن يسأل ما يشمل الدين ويَعمُّه، ولا تكون أسئلته فيما لا طائلَ من ورائه[1].

المراجع

  1. انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 213).


مشاريع الأحاديث الكلية