المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أَنَسٌ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ أنه قال: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ»؛ أي: ثلاثُ خِصال من خِصال الخير، مَن حصَّلها، واتَّصف بها، واجتمعت فيه، واستقرَّت في نفسه، وجد فيهن حلاوة الإيمان، أوَّل هذه الخصال: «أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما»؛ أي: يكونان أحبَّ إليه من نفسه وأهله وماله وكلِّ شيء سواهما، وثاني هذه الخصال: «وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ»، لا لدُنيا، ولا مصلحة، ولا هوى، وثالث هذه الخصال: «وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»؛ أي: أن يكره أن يعود إلى الكفر إن كان أسلم بعد كُفر، أو أن يكره أن يصير إلى الكفر إن كان وُلد مسلمًا، كما يكره أن يُقذف في النار.

الشرح المفصَّل للحديث

ما ترَك النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمةَ عليه، ورغَّبها فيه، واتَّخَذ ﷺ في ترغيب الناس في الخير والأخذ بأيديهم إليه أساليبَ متنوعةً؛ جذْبًا لانتباههم، وتَشويقًا لهم؛ كي يُقبلوا على ما يَدعوهم إليه ﷺ.

وهذا الحديثُ يُعدُّ أصلًا من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وابتدأه ﷺ بأسلوب في غاية التشويق، فقال: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ»؛ أي: ثلاث خِصال من خِصال الخير، مَن حصَّلها وتحقَّق بها، وجَد حلاوةَ الإيمان، وأبهم النبيُّ ﷺ الخصالَ الثلاثَ بدايةً؛ تشويقًا للمستمِع؛ مما يضمن متابعتَه للمتكلِّم ﷺ حتى يتبيَّن هذه الخصال الثلاث[1]

وقوله ﷺ: «وجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ» يدُلُّ على أن الإيمانَ له طَعمٌ وحلاوةٌ يتذوَّقها بقَلْبه مَن استكمل هذه الخصالَ الثلاث كما تُذاق حلاوةُ الطعام والشراب بالفمِ.

وحلاوةُ الإيمان هي: "عبارة عما يجدُه المؤمنُ المحقِّق في إيمانه، المطمئنُّ قلْبُه به؛ مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله ﷺ"[2] وهي: "استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ، وإيثارُ ذلك على عرَضِ الدنيا"[3]

وسِرُّ هذه الحلاوة راجعٌ لكون "الإيمان هو غذاء القلوب وقُوَّتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوةَ الطعام والشراب إلا عند صحَّته، فإذا سَقِم لم يجِدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه، وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السقم عليه، فكذلك القلبُ إنما لا يجدُ حلاوةَ الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوةَ الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوةَ الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوةَ الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي»[4]؛ فمَن وجَد حلاوةَ الإيمان "استلذَّ بالطاعات، وتحمَّل المشقَّات فيما يُرضي الله تعالى، ورسوله ﷺ، وآثر ذلك على عَرَض الدنيا؛ رغبةً في نعيم الآخرة، الذى لا يَبيد ولا يَفنى"[5]

وأول هذه الخصال هي: "أنْ يَكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما"، والمرادُ بحُبِّ الله ورسوله ﷺ هنا هو: "الحبُّ العقليُّ الذي هو إيثارُ ما يقتضي العقل السليم رُجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفْس؛ كالمريض يعافُ الدواء بطَبْعه فيَنفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناولَه؛ لأنه يعلم أن صلاحَ حاله فيه، فإذا تأمَّل المرءُ أن الشارع لا يأمرُ ولا ينهى إلا بما فيه صلاحٌ عاجلٌ أو خلاصٌ آجلٌ، والعقل يقتضي رجحانَ جانب ذلك - تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تَبَعًا له"[6]

ومحبَّةُ الله عزَّ وجلَّ على قسمين: الأول: محبةٌ تَحمِل على أداء الفرائض واجتناب النواهي. والثاني: محبةٌ تَحمِل على أداء المندوبات، وتجنُّب الوقوع في الشبهات.

ومحبَّةُ الرسول ﷺ تابعةٌ لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وهي أيضًا على قسمين، كما تقدَّم في محبة الله عزَّ وجلَّ، ويُزاد على ذلك: ألَّا يتلقَّى المحبُّ لرسول الله ﷺ شيئًا من المأمورات والمنهيَّات إلا مِن مِشكاته ﷺ، ولا يسلك إلا طريقتَه، ويرضى بما شرعه، ويتخلَّق بأخلاقه ﷺ[7]

وهذه المحبةُ لله ورسوله يجب أن تكون مقدَّمةً في قلب كل مسلم على كل محبوب، وإلا عرَّض نفْسه لسخط الله وعقابه؛

كما قال الله تعالى:

﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِين﴾  

 [التوبة: 24].

ومحبةُ الله عزَّ وجلَّ تحصُل في قلب العبد من معرفته بالله عزَّ وجلَّ: معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، ومصنوعاته البالغةِ الغايةَ في التمام والكمال والإتقان. وكذلك تنشأ من التفكُّر في نِعَم الله عزَّ وجلَّ على العبد، سواءٌ أكانت نِعمًا تتعلَّق بالخلق والإيجاد، أم بتيسير المعاش، والإمداد بالنِّعَم المتوالية التي لا تنقطع، أم كانت النِّعَم متعلِّقةً بالتشريع والهداية لنور الإيمان، والوقاية من تخبُّط الشرك والجهل. فلو استقرَّت هذه المعاني في القلب، امتلأ حبًّا لله عز وجل [8]، ومثلُه يُقال في محبة رسول الله ﷺ، فتُنال محبتُه ﷺ بمعرفته ﷺ، والوقوف على جميل خصاله، وعظيم جهاده ﷺ. وكذلك بالتفكُّر في كونه ﷺ كان سببًا في هدايتنا لطريق الله عزَّ وجلَّ، والأخذ بأيدينا إليه سبحانه. وأما الخَصلةُ الثانيةُ فهي: «أنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ»، وهذا حثٌّ من رسول الله ﷺ على الحبِّ في الله، الذي هو مِن أجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ لله خالقه، وهو امتداد للأخوَّة الإيمانية التي

أرسى الإسلام قواعدها؛

كما قال الله تعالى:

﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾  

[الحجرات: 10]،

وقال سبحانه:

﴿ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾

[آل عمران: 103].

والمراد بالمَرْءِ: هو المسلم المؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وقد أفاد الحديث: أن محبَّة المؤمن الموصِّلة لحلاوة الإيمان لا بد أن تكون خالصةً لله تعالى، غيرَ مَشوبة بالأغراض الدنيوية؛ فإن مَن أحبَّه لذلك، انقطعت محبتُه إن حصل له ذلك الغرضُ، أو يئس من حصوله [9]، ولذا؛ ذكروا في حقيقة الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء[10]

ومحبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات[11]

وهذه المحبَّةُ توجب على المسلم أن يسعى في إيصال النفع لأخيه المسلم، وأن يكفَّ عنه أذاه؛ فعن ابن عمر ﭭ، أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»[12]

وأما الخَصلة الثالثة فيقول فيها ﷺ: «وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»؛ فإن مَن خالط الإيمانُ بَشاشةَ قلْبِه، وتعلَّق قلبُه بحبِّ الله ورسوله ﷺ؛ كانت مفارَقةُ الإيمان بالله، والهبوط بالنفْس مِن هذا النعيم المقيم إلى دنس الكفر، من المحال بالنسبة إليه، حتى إن إلقاء العبد في النار أهونُ عليه من أن يعودَ كافرًا بالله بعد إيمان.

ومعنى (يُقذَف): يُرْمى، والقذفُ: الرميُ. وهذه الكراهة؛ لِما انكشف للمؤمن من محاسن الإسلام، ولِما دخل قلْبَه من نور الإيمان، ولما خلَّصه اللهُ من رذائل الجهالات وقُبح الكُفران" [13]، وإن مَن وجد حلاوةَ الإيمان وخالَط قلبه، عَلِم أن الكافر في النار، فكَرِه الكفرَ كراهيتَه لدخول النار[14]

وهذه ظاهرةٌ فيمَن كان كافرًا ثم أسلم؛ لكن مَن وُلِد في الإسلام فيَكره أن يكون في الكفر بعد أن منَّ الله عليه بالإسلام، كما يَكرهُ أن يُقذَف في النار، يعني أنه لو قُذِف في النار لكان أهونَ عليه من أن يعودَ كافرًا بعد إسلامه[15]

وحُبُّ الإيمان وكراهيةُ الكفر من أعظم النِّعَم التي امتنَّ الله بها على عباده الصادقين؛ قال تعالى:    

﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ, فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

[الحجرات: 7، 8].

 واعلمْ أن القَدْر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفِر من ذلك، ويتباعد منه جُهْده، ويعزم على ألَّا يلابس شيئًا منه جُهْده؛ لعلمه بسخط الله له، وغضبه على أهله.

فأما مَيْل الطبع إلى ما يميل من ذلك - خصوصًا لِمَن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخَذ به إذا لم يقدِر على إزالته؛ ولهذا مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، وذلك يدُلُّ على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن مَن عصى هواه كان محمودًا عند الله عزَّ وجلَّ[16]



المراجع

  1.  انظر: "كنوز رياض الصالحين"، مجموعة باحثين برئاسة: حمد بن ناصر العمار (6/ 215).
  2.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).
  3.  "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 13).
  4.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 50- 51).
  5.  "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 66).
  6.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلانيِّ (1/ 60- 61).
  7. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلانيِّ (1/ 61).
  8.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 51).
  9. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  10.  انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).
  11.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 215).
  12.  رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
  13. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  14.  "شرح صحيح البخاري" لابن بَطَّال (1/ 68). 
  15.    "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260).
  16.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58). 

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء - رحمهم الله -: معنى (حلاوة الإيمان): استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رضا الله - عزَّ وجلَّ – ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبَّة العبدِ ربَّه - سبحانه وتعالى - بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبَّة رسول الله ﷺ" [1]

قال ابن حجر رحمه الله: "قال البيضاويُّ: المراد بالحبِّ هنا الحبُّ العقليُّ الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل السّليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النّفس؛ كالمريض يعافُ الدّواء بطبعه فيَنفِر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله، فإذا تأمَّل المرء أنّ الشّارع لا يأمر ولا ينهى إلّا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذُّ بذلك التذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقليُّ إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبَّر الشّارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنّها أظهر اللّذائذ المحسوسة. قال: وإنّما جعل هذه الأمور الثّلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأنّ المرء إذا تأمَّل أنّ المنعم بالذّات هو اللّه تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأنّ ما عداه وسائط، وأنّ الرّسول هو الّذي يبيِّن له مراد ربّه، اقتضى ذلك أن يتوجَّه بكلِّيَّته نحوه، فلا يحبُّ إلّا ما يحبُّ، ولا يحبُّ من يحبُّ إلّا من أجله، وأن يتيقَّن أنّ جملة ما وعد وأوعد حقٌّ يقينًا، ويخيَّل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أنّ مجالس الذّكر رياض الجنّة، وأنّ العَود إلى الكفر إلقاء في النّار" [2]

قال القرطبيُّ رحمه الله: "محبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات" [3]

قال ابن رجب : "فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كمَّلها فقد وجد حلاوة الإيمان، وطَعِم طعمَه، فالإيمان له حلاوة وطعم يُذاق بالقلوب كما يُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم؛ فإن الإيمان هو غذاءُ القلوب وقوَّتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوَّتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سَقِم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه وما ليس فيه حلاوة؛ لغلبة السَّقَم عليه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وجد حلاوة الإيمان حينئذ، ومتى مرض وسَقِم لم يجد حلاوة الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي" [4]

قال القرطبيُّ رحمه الله: "معنى (يُقذَف): يُرْمى، والقذفُ: الرميُ. وهذه الكراهة؛ لِما انكشف للمؤمن من محاسن الإسلام، ولِما دخل قلْبَه من نور الإيمان، ولما خلَّصه اللهُ من رذائل الجهالات وقُبح الكُفران" [5]

قال ابن بطَّال رحمه الله: "معناه: أن مَن وجد حلاوةَ الإيمان وخالط قلبه، عَلِم أن الكافر في النار، فكَرِه الكفرَ كراهيتَه لدخول النار" [6]

قال ابن عُثيمين رحمه الله: "وهذه ظاهرةٌ فيمَن كان كافرًا ثم أسلم، لكن مَن وُلِد في الإسلام فيَكره أن يكون في الكفر بعد أن منَّ الله عليه بالإسلام، كما يَكرهُ أن يُقذَف في النار، يعني أنه لو قُذِف في النار لكان أهونَ عليه من أن يعودَ كافرًا بعد إسلامه" [7]

قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "واعلمْ أن القَدْر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفِر من ذلك، ويتباعد منه جُهْده، ويعزم على ألَّا يلابس شيئًا منه جُهْده؛ لعلمه بسخط الله له، وغضبه على أهله. فأما مَيْل الطبع إلى ما يميل من ذلك -خصوصًا لمَن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخَذ به إذا لم يقدِر على إزالته، ولهذا مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، وذلك يدُلُّ على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن مَن عصى هواه كان محمودًا عند الله عزَّ وجلَّ" [8]

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل:

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا" [9]

المراجع

  1.   "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 13).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (1/ 60، 61).
  3.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 215).
  4.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 50).
  5.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214). 
  6.  "شرح صحيح البخاري" لابن بَطَّال (1/ 68). 
  7.  "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260). 
  8.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58).
  9.  "مدارج السالكين" (1/ 185).

غريب الحديث

الطُّهُورُ: بضمِّ الطاء بمعنى التطهُّر؛ أي: التنظُّف والتنزُّه [1]، وبالفتح اسمٌ للماء الذي يُتطَهَّر به [2].

شَطْرُ: نصف [3].

الْمِيزانَ: هو الميزانُ الذي توزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة [4].

يَغْدُو: الغُدُوُّ هو السَّيْرُ أوَّلَ النهار [5].

المراجع

  1. انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 739).
  2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 147).
  3. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 473).
  4. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  5. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 346).


المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ رضي الله عنه عن رَسُول اللهِ أنه قال: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»؛ أي: التطهُّرُ نصفُ الإيمان. «وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»: معناه أن أجرَها العظيم يَمْلَأُ الْمِيزَانَ الذي توزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة. «وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ -أَوْ تَمْلَأُ- مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»؛ أي: إن الثواب على الذِّكر: «سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ» كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض. «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»؛ أي: إن الصلاة إذا أدَّاها العبدُ بشُروطها، أنارت قلبَه بأنوار الحكمة والمعرفة، فيزداد بها تعلُّقًا حتى تَصير قُرَّةُ عينه في الصلاة. «وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ»؛ أي: الصدقة دليلٌ على صحَّة إيمان المتصدِّق. «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»؛ يعني أن الصبر يُضيء للإنسان عند الظلمات، واشتداد الكُرُبات، فإذا صبر، فإن هذا الصبر يكون له ضياءً يهديه إلى الحقِّ. «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»؛ أي: إن القرآن حجَّةٌ للعبد إن قرأه وعمِل به، أو حجةٌ عليه إن أعرضَ عنه، وتركَ العملَ بمعانيه. «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» معناه: كُلُّ إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يَبِيعُها لِلَّه تعالى بطاعته فيُحرِّرها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتِّباعهما فيُهْلِكها.

الشرح المفصَّل للحديث

لم يَترُكِ النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا ودلَّ أمَّته عليه، ورغَّبها فيه، ولم يَترُك بابًا من أبواب الشرِّ إلا وحذَّر منه. وهذا حديثٌ عظيمٌ من جوامع كَلِمه ﷺ، جَمَع فيه بعض ما يُهِمُّ المسلمَ من أمر دنياه وآخرته.

يقول ﷺ:

«الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ»، والطُّهورُ بضمِّ الطاء هو فعلُ الطهارة، والمراد به: "التطهُّر بالماء من الأحداث"

[1]،

واختلف العلماءُ في معنى قول النبيِّ ﷺ: «الطُّهورُ شَطرُ الإيمان»، فقيل معناه: أن الأجر فيه ينتهي تضعيفُه إلى نصف أجر الإيمان، ولعلَّ ذلك راجعٌ لكَون الإيمانِ نظافةَ الباطن، والطهارةِ نظافةَ الظاهر، وقيل معناه: أن الإيمان يجُبُّ ما قبلَه من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأن الوضوء لا يصحُّ إلا مع الإيمان، فصار لتوقُّفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصلاة؛

كما قال الله تعالى:

﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾

[البقرة: 143]

والطهارةُ شرطٌ في صحَّة الصلاة، فصارت كالشَّطْرِ، وليس يَلزَم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا، وهذا القولُ أقربُ الأقوال. ويُحتمَل أن يكون معناه: أن الإيمان تصديقٌ بالقلب، وانقيادٌ بالظاهر، وهما شطرانِ للإيمان، والطهارة متضمِّنةٌ الصلاةَ، فهي انقيادٌ في الظاهر، والله أعلم[2].

والطهارة من أجَلِّ العبادات، وأعظم القُرُبات التي يتقرَّب بها العبدُ إلى خالقه سبحانه، وعليها تتوقَّف صحةُ كثيرٍ من العبادات، وهي سبب لمحبَّة اللهِ - عزَّ وجلَّ -

قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾

[البقرة: 222].

وقوله ﷺ: «وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»، فيه إشارةٌ إلى عِظَم أجْر الحمد، والحمدُ هو: "الثناءُ على الله بالجميل الاختياريِّ، والإذعان له" [3]، والمراد بالميزان هو حقيقتُه، وهو: ما يوزَن به أعمالُ العباد يومَ القيامة [4]، والمراد: "قيل: إنه ضربُ مَثَل، وإن المعنى: لو كان الحمدُ جِسمًا لَمَلَأ الميزان. وقيل: بل اللهُ - عزَّ وجلَّ - يمثِّل أعمال بني آدمَ وأقوالَهم صورًا تُرى يوم القيامة وتوزَن" [5]، وقد أَمَرنا اللهُ - عزَّ وجلَّ - بحمده في غير موضعٍ من كتابه العزيز؛

قال تعالى:

﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىٰ ۗ آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ﴾

[النمل: 59].

ثم يقول ﷺ:

«وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»

"والتسبيحُ هو تنزيهُ الله عن النقائص والعيوب والآفات" [6]، فمعنى قول القائل: سبحانَ الله؛ أي: أُنزِّه الله - عزَّ وجلَّ - عن كل نَقْصٍ وعَيب. وأما التحميدُ فكما سبق: هو الثناءُ على الله - عزَّ وجلَّ - بكلِّ جَميل. وقوله: «تَمْلَآنِ - أَوْ تَمْلَأُ - مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ»، "فشكَّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض: هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ وهل المراد أنهما معًا يملآن ما بين السماء والأرض، أو أن كلًّا منهما يملأ ذلك؟ هذا محتَمَل" [7].

"وأما معناه، فيَحتمِل أن يُقال: لو قُدِّر ثوابُهما جِسمًا لملأ ما بين السموات والأرض، وسببُ عِظَم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله: سبحان الله، والتفويضِ والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمدُ لله" [8]، فلعِظَم معنى هاتين الكلمتين؛ استحقَّتا هذا الفضلَ العظيم من الله - عزَّ وجلَّ - "فإذا حَمِد اللهَ حامدٌ مُستحضِرًا معنى الحمد في قلبه، امتلأ ميزانه من الحسنات، فإن أضاف إلى ذلك: سبحانَ الله، الذي معناه تَبْرئةُ الله، وتَنزيهه عن كلِّ ما لا يَليق به من النقائص، ملأت حسناتُه وثوابها زيادةً على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزانُ مملوءٌ بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض" [9].

ثم يقول ﷺ: «وَالصَّلَاةُ نُورٌ»؛ أي: إن الصلاة إذا أدَّاها العبدُ بشُروطها، أنارت قلبَه بأنوار الحكمة والمعرفة، فيزداد بها تعلُّقًا حتى تَصير قُرَّةُ عينه في الصلاة؛

كما قال ﷺ:

«وجُعل قُرَّةُ عيني في الصلاة»

[10].

وأيضًا: فإن الصلاة تنوِّر بين يدي العبد الظُّلُماتِ يومَ القيامة. وأيضًا: تُنوِّر الصلاةُ وجهَ العبد يوم القيامة، فيكون ذا غُرَّة وتحجيل؛

كما قال ﷺ:

«إن أمتي يُدْعَوْن يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فلْيَفْعَل»

[11].

"الصلاة نفْسُها تُضيء لصاحبها في ظُلُمات الموقف بين يديه، ولم يجئْ في فعلٍ متعبَّد به أنه نور في نفْسه سوى الصلاة، فالظاهرُ أن هذا النورَ خاصٌّ بها. وقيل: النور أجرُها لا هي. وقيل: نورٌ ظاهرٌ على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النورُ وجهَ المؤمن، فالإسنادُ مجازيٌّ من الإسناد للسبب. وقيل: النور معنويٌّ لأنها تَنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصواب، فتصدُّ عن الْمَهالك، وتوصِّل إلى طريق السلامة كما يُستضاء بالنور. وقيل: نورُ القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسُن والجوارح فرضًا ونَفْلًا، فالصلاة الكاملة يَحصُل بها من النور الإلهيِّ في القلب ما لا يُعبَّر عنه. قيل: ويمكِن حملُ النور على جميع ما تقدَّم"[12].

ثم يقول ﷺ: «وَالصَّدَقةُ بُرْهَانٌ»، والبرهانُ هو الحُجَّة والدليل، والمعنى: أن الصدقةَ دليلٌ على صحَّة إيمان المتصدِّق. أو دليلٌ على أنه ليس من المنافقين الذين يَلمِزون المطوِّعين من المؤمنين في الصدقات، أو على صحَّة محبَّة المتصدِّق لله تعالى، ولما لدَيْهِ من الثواب؛ إذ قد آثَرَ محبَّةَ الله تعالى وابتغاء ثوابه، على ما جُبِل عليه من حبِّ الذهب والفضة؛ حتى أخرجه لله تعالى [13]، وقيل: برهان له يومَ القيامة إذا سُئل عن ماله فيمَ أنفقَه؟ [14].

وقوله ﷺ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»؛ أي: "الصبرُ على طاعة الله، وعلى اجتناب معصيته، وعلى النائبات والمكاره؛ أي: لا يَزال صاحبه مستضيئًا مهتديًا مستمِرًّا على الصواب" [15].

"قال إبراهيمُ الخواص: الصبر هو الثباتُ على الكتاب والسُّنة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق : حقيقة الصبر ألَّا يعترضَ على المقدور، فأما إظهارُ البلاء لا على وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر؛

قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾

[ص: 44]

مع أنه قال: أني مَسَّنيَ الضُّرُّ" [16].

وقوله ﷺ: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»؛ أي: إن القرآن الذي هو كلام الله - عزَّ وجلَّ - حجَّةٌ للعبد إن قرأه وعمِل به، أو حجةٌ عليه إن أعرضَ العبدُ عنه، وتركَ العملَ بمعانيه [17].

"ختَمَ تلك الشُّعَب به، وسَلَك به مَسلكًا غير مَسلكها؛ دلالةً على كونه سلطانًا قاهرًا، وحَكَمًا فَيْصلًا، يفرِّق بين الحقِّ والباطل، حجَّة الله في الخَلق، به السعادة والشقاوة" [18].

"قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ" [19].

ثم ختم النبيُّ ﷺ الحديثَ بقوله: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»، والغُدوُّ هو السَّيْرُ في أوَّل النهار، "يَغْدو بمعنى: يُبكِّر، يقال: غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه. وراح: إذا رجع بعشيٍّ. ومعنى ذلك: أن كل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، مُتصرِّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الشرع والحقِّ، فهو الذي يَبيع نفْسه من الله، وهو بيعٌ آيِلٌ إلى عتقٍ وحرِّية؛

كما قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ ﴾

[التوبة: 111].

وإما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الهوى والشيطان، فهو الذي باع نفْسه من الشيطان فأوْبَقَها؛ أي: أهلَكَها، ومنه:

﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾

[الشورى: 34]" [20].

المراجع

  1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 7).
  2. انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 100، 101).
  3. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  4. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 148).
  5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 16).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 17).
  7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب الحنبليِّ (2/ 17- 18).
  8. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
  9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (3/ 102).
  10. رواه النسائيُّ (3939). وقال الألبانيُّ في "صحيح سنن النسائيِّ" (3939): صحيح.
  11. رواه البخاريُّ (136)، ومسلم (246)، وانظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476).
  12. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" ابن علان (1/ 149- 150)، باختصار.
  13. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 476)
  14. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (1/ 150)، باختصار.
  15. "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (3/ 740).
  16. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102).
  17. انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 343).
  18. ]"الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (3/ 742).
  19. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
  20. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477- 478).



النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "هذا حديث عظيم أصلٌ من أصول الإسلام، قد اشتمل على مُهمَّات من قواعد الإسلام، فأمّا الطُّهور، فالمراد به الفعل، فهو مضموم الطّاء على المختار وقول الأكثرين، ويجوز فتحها كما تقدَّم، وأصل الشَّطر النّصف، واختُلف في معنى قوله ﷺ: «الطهور شطر الإيمان» فقيل: معناه أنّ الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل: معناه أنّ الإيمان يَجُبُّ ما قبلَه من الخطايا، وكذلك الوضوء؛ لأنّ الوضوء لا يصحُّ إلّا مع الإيمان، فصار لتوقُّفه على الإيمان في معنى الشَّطر، وقيل: المراد بالإيمان هنا الصّلاة؛

كما قال اللّه تعالى:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ﴾

[البقرة: 143]

والطّهارة شرط في صحَّة الصّلاة، فصارت كالشّطر، وليس يلزم في الشّطر أن يكون نصفًا حقيقيًّا، وهذا القول أقرب الأقوال، ويحتمل أن يكون معناه أنّ الإيمان تصديق بالقلب وانقياد بالظّاهر، وهما شطران للإيمان، والطّهارة متضمِّنة الصّلاة؛ فهي انقياد في الظّاهر، واللّه أعلم. وأمّا قوله ﷺ: «والحمد للّه تملأ الميزان»، فمعناه عِظَم أجرها، وأنّه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسّنّة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفَّتها. وأمّا قوله ﷺ: «وسبحان اللّه والحمد للّه تملآن أو تملأ ما بين السّماوات والأرض» فضبطناه بالتّاء المثنّاة من فوقُ في تملآن وتملأ، وهو صحيح؛ فالأوّل ضمير مؤنَّثتين غائبتين، والثّاني ضمير هذه الجملة من الكلام، وقال صاحب التّحرير: يجوز [تملآن] بالتّأنيث والتّذكير جميعًا، فالتّأنيث على ما ذكرناه، والتّذكير على إرادة النّوعين من الكلام أو الذِّكرين. قال: وأمّا [تملأ] فمذكّر على إرادة الذّكر، وأمّا معناه فيَحتمِل أن يقال: لو قُدِّر ثوابهما جِسمًا لملأ ما بين السّماوات والأرض، وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التّنزيه للّه تعالى بقوله: سبحان اللّه، والتّفويض والافتقار إلى اللّه تعالى بقوله: الحمد للّه، واللّه أعلم" [1].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله ﷺ: «والصلاة نور»: فالصلاة نور: نورٌ للعبد في قلبه، وفي وجهه، وفي قبره، وفي حشره؛ ولهذا تَجِد أكثرَ الناس نورًا في الوجوه أكثرَهم صلاةً، وأخشعَهم فيها لله - عزَّ وجلَّ - وكذلك تكون نورًا للإنسان في قلبه، تَفتَح عليه باب المعرفة لله - عزَّ وجلَّ - وباب المعرفة في أحكام الله، وأفعاله، وأسمائه، وصفاته، وهي نورٌ في قبر الإنسان؛ لأن الصلاة هي عمود الإسلام، إذا قام العمود قام البناء، وإذا لم يقم العمود فلا بناء. كذلك نورٌ في حشره يومَ القيامة؛ فهي نور للإنسان في جميع أحواله، وهذا يقتضي أن يحافظ الإنسان عليها، وأن يحرص عليها، وأن يُكثر منها حتى يَكثُر نوره وعلمه وإيمانه. وأما الصبر فقال: «إنه ضياء» فيه نور؛ لكن نور مع حرارة

كما قال الله تعالي:

﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾

[يونس: 5]

فالضوء لابدَّ فيه من حرارة، وهكذا الصبرُ، لابدَّ فيه من حرارة وتَعَب؛ لأن فيه مشقَّةً كبيرة؛ ولهذا كان أجره بغير حساب؛ فالفرق بين النور في الصلاة، والضياء في الصبر: أن الضياء في الصبر مصحوب بحرارة؛ لِمَا في ذلك من التَّعَب القلبيِّ والبدنيِّ في بعض الأحيان" [2].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "فإذا حَمِد اللهَ حامدٌ مُستحضِرًا معنى الحمد في قلبه، امتلأ ميزانه من الحسنات، فإن أضاف إلى ذلك: سبحانَ الله، الذي معناه تَبْرئةُ الله، وتَنزيهه عن كلِّ ما لا يَليق به من النقائص، ملأت حسناتُه وثوابها زيادةً على ذلك ما بين السموات والأرض؛ إذ الميزانُ مملوءٌ بثواب التحميد، وذكر السموات والأرض على جهة الإغياء على العادة العربية، والمراد: أن الثواب على ذلك كثيرٌ جدًّا، بحيث لو كان أجسامًا لَمَلأ ما بين السموات والأرض" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "وأمّا قوله ﷺ: «والصّلاة نور»، فمعناه أنّها تمنع من المعاصي، وتنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتهدي إلى الصّواب، كما أنّ النّور يُستضاء به. وقيل: معناه أنّه يكون أجرها نورًا لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنّها سبب لإشراق أنوار المعارف وانشراح القلب، ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها، وإقباله إلى اللّه تعالى بظاهره وباطنه،

وقد قال اللّه تعالى: 

﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾

[البقرة: ٤٥]

وقيل: معناه أنّها تكون نورًا ظاهرًا على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدّنيا أيضًا على وجهه البهاء، بخلاف من لم يصلّ، واللّه أعلم.

وأمّا قوله ﷺ: «والصّدقة برهان»، فقال صاحب التّحرير: معناه: يَفزَع إليها كما يفزع إلى البراهين؛ كأنّ العبد إذا سُئل يوم القيامة عن مصرف ماله، كانت صدقاتُه براهينَ في جواب هذا السّؤال، فيقول: تصدَّقت به. قال: ويجوز أن يوسم المتصدِّق بسيماء يُعرَف بها، فيكون برهانًا له على حاله، ولا يسأل عن مصرف ماله. وقال غير صاحب التّحرير: معناه: الصّدقة حجَّة على إيمان فاعلها؛ فإنّ المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدَّق استدلَّ بصدقته على صدق إيمانه، واللّه أعلم [4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله «والصبر ضياء» فبيَّن النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن الصبر ضياء؛ يعني أن يُضيء للإنسان، عندما تَحتلِك الظلماتُ، وتشتدُّ الكُرُبات، فإذا صبر، فإن هذا الصبر يكون له ضياءً يهديه إلى الحقِّ؛ ولهذا ذَكَر الله - عزَّ وجلَّ - أنه من جملة الأشياء التي يُستعان بها؛ فهو ضياء للإنسان في قلبه، وضياءٌ له في طريقه ومنهاجه وعلمه؛ لأنه كلَّما سار إلى الله - عزَّ وجلَّ - على طريق الصبر، فإن الله تعالي يَزيده هدًى وضياءً في قلبه ويبصِّره؛ فلهذا قال النبيُّ ﷺ: «الصبر ضياء». أما بقية الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام: «الطهور شطر الإيمان».

الطهور: يعني بذلك طهارة الإنسان. شطر الإيمان؛ أي: نصف الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان تَخْلِيَة وتَحْلِيَة؛ أي: تبرُّؤ من الشرك والفسوق، تبرُّؤ من المشركين والفسَّاق بحسَبِ ما معهم من الفِسق، فهو تَخَلٍّ. وهذا هو الطُّهور؛ أن يتطهَّر الإنسان طهارةً حِسِّية ومعنوية من كلِّ ما فيه أذًى؛ فلهذا جعله النبيُّ عليه الصلاة والسلام شطر الإيمان.

«وسبحان الله» معناها: تنزيه الله - عزَّ وجلَّ - عما لا يليق به من العيوب ومماثلة المخلوقات؛ فالله- عزَّ وجلَّ - منزَّهٌ عن كلِّ عَيب في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، لا تَجِد في أسمائه اسمًا يَشتمِل على نقص أو على عَيب

ولهذا قال تعالي:

﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ﴾

[الأعراف: 180]

ولا تجد في صفاته صفة تشتمل على عيب أو نقص 

ولهذا قال تعالي:

﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَىٰ﴾

 بعد قوله:

ولهذا قال الله:

﴿لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾

[النحل: ٦٠]

فالله - عزَّ وجلَّ - له الوصف الأكمل الأعلى من جميع الوجوه، وله أيضًا الكمال المنزَّه عن كلِّ عَيب في أفعاله

كما قال الله تعالي:

﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾

[الدخان: ٣٨]

فليس في خلق الله لَعِبٌ ولهوٌ؛ وإنما هو خلق مبنيٌّ على الحكمة" [5].

قال ابن علان رحمه الله: "الصلاة نفْسُها تُضيء لصاحبها في ظُلُمات الموقف بين يديه، ولم يجئْ في فعلٍ متعبَّد به أنه نور في نفْسه سوى الصلاة، فالظاهرُ أن هذا النورَ خاصٌّ بها. وقيل: النور أجرُها لا هي. وقيل: نورٌ ظاهرٌ على وجه المؤمن يوم القيامة، فالمراد بها: أي بسببها يعلو النورُ وجهَ المؤمن، فالإسنادُ مجازيٌّ من الإسناد للسبب. وقيل: النور معنويٌّ لأنها تَنهى عن الفحشاء والمنكَر، وتَهدي إلى الصواب، فتصدُّ عن الْمَهالك، وتوصِّل إلى طريق السلامة كما يُستضاء بالنور. وقيل: نورُ القلب بسببها لاشتمالها على ما لم يجتمع في غيرها من أعمال القلوب والألسُن والجوارح فرضًا ونَفْلًا، فالصلاة الكاملة يَحصُل بها من النور الإلهيِّ في القلب ما لا يُعبَّر عنه. قيل: ويمكِن حملُ النور على جميع ما تقدَّم" [6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله ﷺ: «سبحان الله والحمد لله تملآن- أو قال: تملأ- ما بين السماوات والأرض» شكٌّ من الراوي: هل قال النبيُّ ﷺ: تملآن ما بين السموات والأرض، أو قال تملأ ما بين السموات والأرض؟ والمعني لا يختلف؛ يعني: أن سبحان الله والحمد لله، تملأ ما بين السماوات والأرض؛ وذلك لأن هاتين الكلمتين مشتملتان على تنزيه الله عن كلِّ نقص في قوله: «سبحان الله»، وعلى وصف الله بكلّ كمال في قوله: «والحمد لله».

فقد جمعت هاتان الكلمتان بين التَّخْلِية والتَّحْلِية كما يقولون؛ أي: بين نفي كلِّ عَيب ونقص، وإثبات كلِّ كمال، فسبحان الله فيها نفيُ النقائص، والحمدُ لله فيها إثباتُ الكمالات.

فالتسبيح: تنزيه الله عما لا يليق به في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه. واللهُ - عزَّ وجلَّ - يُحمَد على كلِّ حال" [7].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "ختَمَ تلك الشُّعَب به، وسَلَك به مَسلكًا غير مَسلكها؛ دلالةً على كونه سلطانًا قاهرًا، وحَكَمًا فَيْصلًا، يفرِّق بين الحقِّ والباطل، حجَّة الله في الخَلق، به السعادة والشقاوة" [8].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "قوله: «والقرآن حجَّةٌ لكَ أو عليكَ» يعني: أنك إذا امتثلتَ أوامره، واجتنبتَ نواهيَه، كان حجَّةً لكَ في المواقف التي تُسأل فيها عنه؛ كمسألة الملَكَين في القبر، والمسألة عند الميزان، وفي عقبات الصراط، وإن لم تمتثِل ذلك احتجَّ به عليك. ويُحتَمل أن يُراد به: أن القرآنَ هو الذي يُنتهى إليه عند التنازع في المباحث الشرعية والوقائع الحُكمية، فبه تَستدِلُّ على صحَّة دعواكَ، وبه يَستدِلُّ عليكَ خَصمكَ" [9].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله: «الصدق برهان»: الصدقة: بذل المال تقرُّبًا إلى الله - عزَّ وجلَّ - فيُبذَل المال على هذا الوجه للأهل، والفقراء، والمصالح العامَّة؛ كبناء المساجد وغيرها؛ برهانًا على إيمان العبد؛ وذلك أن المال محبوب إلى النفوس، والنفوس شحيحةٌ به، فإذا بذله الإنسان لله، فإن الإنسان لا يبذل ما يحبُّ إلَّا لِما هو أحبُّ إليه منه، فيكون في بذل المال لله- عزَّ وجلَّ - دليلٌ على صدق الإيمان وصحَّته؛ ولهذا تجد أكثرَ الناس إيمانًا بالله - عزَّ وجلَّ – وبأخلافه، تجدهم أكثرَهم صدقةً. ثم قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: «والقرآن حجَّة لك أو عليك»؛ لأن القرآن هو حبل الله المتين، وهو حجَّة الله على خلقه، فإما أن يكون لك، وذلك فيما إذا توصَّلت به إلى الله، وقُمت بواجب هذا القرآن العظيم من التصديق بالأخبار، وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وتعظيم هذا القرآن الكريم واحترامه؛ ففي هذه الحال يكون حجَّةً لك. أما إن كان الأمر بالعكس، أَهنْتَ القرآن، وهجرتَه لفظًا ومعنًى وعملًا، ولم تقم بواجبه، فإنه يكون شاهدًا عليك يوم القيامة " [10].

قال النوويُّ رحمه الله: "وَأَمَّا قَوْلُهُ ﷺ: «وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»، فمعناه: الصّبر المحبوب في الشّرع، وهو الصّبر على طاعة اللّه تعالى، والصّبر عن معصيته، والصّبر أيضًا على النّائبات وأنواع المكاره في الدّنيا. والمراد أنّ الصّبر محمودٌ، ولا يزال صاحبُه مستضيئًا مهتديًا مستمرًّا على الصّواب. قال إبراهيمُ الخواص: الصبر هو الثباتُ على الكتاب والسُّنة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحُسن الأدب. وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله: حقيقة الصبر ألَّا يعترضَ على المقدور، فأما إظهارُ البلاء لا على وجه الشكوى فلا يُنافي الصبر

قال الله تعالى في أيوب عليه السلام:

﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾

[ص: 44]

مع أنه قال: أني مَسَّنيَ الضُّرُّ"[11].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "يَغْدو بمعنى: يُبكِّر، يقال: غدا إذا خرج صباحًا في مصالحه. وراح: إذا رجع بعشيٍّ. ومعنى ذلك: أن كل إنسان يُصبح ساعيًا في أموره، مُتصرِّفًا في أغراضه، ثم إما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الشرع والحقِّ، فهو الذي يَبيع نفْسه من الله، وهو بيعٌ آيِلٌ إلى عتقٍ وحرِّية؛

كما قال تعالى:

﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ﴾

[التوبة: 111].

وإما أن تكون تصرُّفاته بحسَب دواعي الهوى والشيطان، فهو الذي باع نفْسه من الشيطان فأوْبَقَها؛ أي: أهلَكَها، ومنه:

﴿أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ﴾

[الشورى: 34]" [12].

قال النوويُّ : "وأمّا قوله ﷺ: «والقرآن حجَّةٌ لك أو عليك»، فمعناه ظاهر؛ أي: تنتفع به إن تَلَوْتَه وعَمِلْتَ به، وإلّا فهو حجَّة عليك.

وأمّا قوله ﷺ:

«كلُّ النّاس يغدو فبائع نفسَه فمعتقها أو موبِقها»،

فمعناه: كلُّ إنسان يسعى بنفسه، فمنهم من يبيعها للّه تعالى بطاعته فيُعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشّيطان والهوى باتّباعهما فيُوبقها؛ أي: يُهلكها، واللّه أعلم" [13].

قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله: «كلُّ الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها»؛ أي: كلُّ الناس يبدأ يومه من الغُدوة بالعمل، وهذا شيءٌ مشاهَد؛ فإن الله تعالى جعل الليل سَكَنًا

وقال:

﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ﴾

[الأنعام:60]،

فهذا النوم الذي يكون في الليل هو وفاة صغرى، تهدأ فيه الأعصاب، ويستريح فيه البَدَن، ويستجِدُّ نشاطه للعمل المقبِل، ويستريح من العمل الماضي، فإذا كان الصباح - وهو الغدوة - سار الناس، واتَّجَهوا كلٌّ لعمله. فمنهم من يتَّجِه إلى الخير، وهم المسلمون، ومنهم من يتَّجِه إلى الشرِّ، وهم الكفَّار، والعياذ بالله. المسلم أوَّلَ ما يغدو يتوضَّأ ويتطهَّر، «والطهور شطر الإيمان» كما في هذا الحديث، ثم يذهب فيصلِّي، فيبدأ يومَه بعبادة الله - عزَّ وجلَّ - بالطهارة، والنقاء، والصلاةِ التي هي صلة بين العبد وبين ربِّه، فيفتتح يومَه بهذا العمل الصالح؛ بل يفتتحه بالتوحيد؛ لأنه يُشرَع للإنسان إذا استيقظ من نومه أن يَذكُر الله - عزَّ وجلَّ - هذا المسلمُ، هذا الذي يغدو في الحقيقة وهو بائعٌ نفسه؛ لكن هل باعها بيعًا يُعتِقها فيه؟ نقول: المسلم باعها بيعًا يعتقها فيه؛ ولهذا قال: «فبائع نفسه فمعتقها» هذا قِسم. «أو موبِقها» معناها: بائعٌ نفسَه فموبِقها. الكافر يغدو إلى العمل الذي فيه الهلاك؛ لأن معنى [أَوْبَقها]: أَهلَكها؛ وذلك أن الكافر يبدأ يومَه بمعصية الله، حتى لو بدأ بالأكل والشرب؛ فإن أكله وشُربه يُعاقَب عليه يوم القيامة، ويُحاسَب عليه، كلُّ لُقمة يَرفَعها الكافر إلى فَمِه فإنه يعاقَب عليها، وكلُّ شَربةٍ يبتلعها من الماء، فإنه يُعاقَب عليها، وكلُّ لباس يَلبَسه فإنه يعاقَب عليه. فالكافر من حين ما يُصبح وهو بائع نفسَه فيما يُهلكها، أما المؤمن فبائع نفسه فيما يُعتقها وينجِّيها من النار" [14].


المراجع

  1. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 100، 101).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 190، 191).
  3. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (3/ 102).
  4. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101).
  5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 187، 188).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" ابن علان (1/ 149- 150)، باختصار.
  7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 188، 189).
  8. "الكاشف عن حقائق السنن" الطيبي (3/ 742).
  9. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477).
  10. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 191، 192).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 101، 102)
  12. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 477- 478).
  13. "شرح النوويِّ على مسلم" (3/ 102).
  14. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 192 - 194).



غريب الحديث:

يُفقِّهه: يجعلُه فقيهًا، والفِقهُ: هو الفَهْمُ[1].

المراجع

  1. قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 465): "الفِقه في الأصل: الفَهْم، يقال: فقِه الرجلُ -بالكسر- يَفقَه فِقهًا؛ إذا فَهِم وعَلِم، وفَقُه -بالضم- يَفْقُه: إذا صار فقيهًا عالِمًا. وقد جعله العُرف خاصًّا بعلم الشريعة، وتخصيصًا بعلم الفروع منها".


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي معاوية عن رسول الله ﷺ أنه قال: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»؛ أي: الذي يُريد الله به خيرًا عظيمًا يفقِّهُه في الدين.

ثم يقول ﷺ: «وإنَّما أنا قاسمٌ، واللهُ يُعطِي»؛ أَيْ: أنا أَقْسِمُ الْعِلْمَ بَيْنَكم، فأُلْقِي إليكم جميعًا ما يَليقُ بِكُلِّ أَحدٍ، واللَّهُ يُوَفِّقُ مَن يشاء منكم لِفَهْمِه.
ويقول ﷺ: «ولن تزالَ هذه الأُمَّة قائمةً على أمر الله، لا يَضرُّهم مَن خالَفهم، حتى يأتيَ أمرُ الله»: يبشِّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ لا يضرُّهم من خالفهم.

الشرح المفصَّل للحديث:

خَيرُ ما اشتغل به العبدُ بعد أداءِ ما افترَض اللهُ عليه: تعلُّمُ العلم النافع، وتعليمُه للناس. والعلمُ النافع درجاتٌ، فأعلاها عِلمُ الشريعة والفقه في دِين الله - عزَّ وجلَّ. 

وفي هذا الحديث يُبيِّن النبيُّ ﷺ أن من علامات إرادة الله الخيرَ بالعبد أن يَرزُقه سبحانه الفقهَ في الدِّين، فيقول ﷺ: «مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»، وبدأ ﷺ الحديث بوصف الله - عزَّ وجلَّ - بالإرادة، "ومعلومٌ أن مذهبَ أهل السُّنة والجماعة في باب أسماء الله وصفاته تنزيهُ الله تعالى عما نزَّه عنه نفْسه، وإثبات جميع ما أثبته لنفْسه في كتابه، وعلى لسان رسوله ﷺ من الأسماء والصفات على الوجه اللائق بجلال الله بدون تكييف ولا تمثيل، وبدون تأويل أو تعطيل؛ كما قال سبحانه وتعالى:

{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}

[الشورى: 11]

وإرادةُ الله تعالى عند أهل السُّنة نوعانِ دلَّ عليهما كتابُ الله وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ؛ إحداهما: بمعنى المشيئة الكَوْنيَّة القَدَرية، والثانية: الإرادة الدينية الشرعية. والفرقُ بينهما أن الإرادة الكونية القَدَرية شاملةٌ لكل شيء، لا فرْقَ فيها بين ما يُحبُّه اللهُ وما يُبغِضه، ولا بدَّ من وقوع ما تقتضيه، ومنها قوله تعالى:

﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾

[البروج: 16]

وقوله تعالى:

﴿ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ۚ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾

[هود: 34]

وأما الإرادةُ الدينيةُ الشرعيةُ فهي خاصَّةٌ بما يحبُّه اللهُ ويرضاه لعباده، ولا يلزم وقوعُ ذلك، ومنه قوله تعالى:

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾

[البقرة: 185]

ومن السُّنة هذا الحديثُ الذي معنا، وهو قوله ﷺ:

«مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»"[1].

وقد جاء قوله ﷺ: «خَيرًا» نكرةً ليَعُمَّ أنواعَ الخير كلَّها، وليشمل القليل والكثير منه، والتنكير للتعظيم أيضًا؛ لأن المقام يَقتضيه، والفقه في الديِّن هو الفَهْم وحُسن الإدراك لقواعد الإسلام، وما يتَّصِل بها من الفروعُ، وهو المعروفُ بالعلم الشرعيِّ. والفقهُ الْمُشار إليه لا يكون بالاكتساب فقط، وذلك بكثرة حفظ المسائل والأحكام وجمعها، فكم من حافظٍ للمسائل وجامعٍ للأحكام وهو غيرُ فقيهٍ، يُخطئ التقديرَ، ويُنزل الحكمَ في غير موضعه، ولا يُوفَّقُ للصواب! ومن ثَمَّ كان الفقهُ فَهْمًا يَفتَح اللهُ به على العبد بعد أن يجتهدَ في الكسب والأخذ بالأسباب، وأن مَن يفتح اللهُ عليه بذلك، فقد أراد الله به الخير واختصَّه به، ومفهومُ الحديث أن مَن لم يتفقَّهْ في الدين – أي: يتعلَّم - فقد حُرِم الخيرَ[2]. 

وخصَّ عِلمَ الدين بالذِّكر دونَ سائر العلوم؛ لأنه أشرفُها وأرفعها قَدْرًا، فهو الموصِّلُ إلى الله، وبه تكون خشيتُه سبحانه، والتزام طاعته، واجتناب نواهيه، ومِن ثَمَّ النجاة من المهالك في الدنيا والآخرة[3]، وسائر العلوم إنما هي لعلوم الدِّين تبَعٌ وخدَمٌ، وشَرَفُها بقَدْر اتِّصالها به.

وقوله ﷺ: «وإِنَّمَا أنا قاسِمٌ، والله يُعطِي»، قيل معناه: "أن المعطيَ حقيقةً هو اللهُ تعالى ولستُ أنا مُعطيًا؛ وإنما أنا خازنٌ على ما عندي، ثم أَقسِم ما أُمِرْت بقسمته على حسب ما أُمِرْت به؛ فالأمور كلُّها بمشيئة الله تعالى، وتقديره، والإنسان مصرَّفٌ مربوبٌ"[4].

وقيل: هو متعلِّقٌ بما قبلَه، والمعنى: أنه ﷺ إنما يُبلِّغ ما أُمر ببلاغه للجميع، ولا يخصُّ أحدًا دون أحد، وأن الفَهْم والفقه إنما هو هِبةٌ وفتْحٌ من الله عزَّ وجلَّ.

قوله ﷺ: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ أي: أَقسِم بينكم تبليغ الوحي من خير تخصيص، «واللهُ يُعطِي» كلَّ واحد منكم من الفَهْم على قَدْر ما تعلَّقت به إرادتُه تعالى، فالتفاوتُ في أفهامكم منه سبحانه، وقد كان بعض الصحابة يسمع الحديثَ فلا يَفهَم منه إلا الظاهرَ الجليَّ، ويسمعه آخَرُ منهم، أو مِن القَرْن الذي يَليهم، أو ممَّن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائلَ كثيرةً

﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [5].

[الجمعة: 4]

ثم بشَّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ إلى أن يأتيَ أمر الله

فقال ﷺ:

«ولن تزالَ هذه الأمَّة قائمةً على أمر الله، لا يضرُّهم مَن خالفهم، حتى يأتيَ أمر الله»

والمراد بأمر الله، قيل: هي الريح الطيِّبة التي تكون قبلَ قيام الساعة تَقبض أرواح المؤمنين؛ لحديث أبي هريرة

عن رسول الله ﷺ قال:

«إن اللهَ يبعثُ ريحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[6].

وقد اختلف العلماءُ في بيان المقصود بهذه الطائفة الثابتة على الحقِّ، القائمة بأمر الله حفظًا وبلاغًا، ومِن أجمعِ الأقوال في ذلك أنه "يُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شُجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين"[7].

المراجع

  1. "عشرون حديثًا من صحيح البخاري: دراسة أسانيدها وشرح متونها" عبد المحسن بن حمد البدر (27- 28).
  2. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 163- 164).
  3. انظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 154).
  4. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (7/ 129).
  5. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 170).
  6. رواه مسلم (117).
  7. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (13/ 67).


النقول:

قال ابن بطَّال رحمه الله: "فيه فضلُ العلماء على سائر الناس، وفيه فضل الفِقه في الدِّين على سائر العلوم، وإنما ثَبَت فضله؛ لأنه يقود إلى خشية الله، والتزام طاعته، وتجنُّب معاصيه

قال الله تعالى:

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}

[فاطر: 28].

وقال ابن عمر - للذي قال له: فقيه -: إنما الفقيه الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة. ولمعرفة العلماء بما وَعَدَ الله به الطائعين، وأَوْعَد العاصين، ولعظيم نعم الله على عباده؛ اشتدَّت خَشْيَتُهم"[1].

قال ابن حجر رحمه الله: "ومفهوم الحديث أنّ من لم يتفقَّه في الدّين؛ أي: يتعلَّم قواعد الإسلام، وما يتَّصِل بها من الفروع، فقد حُرِم الخير. وقد أخرج أبو يعلى حديث معاويةَ من وجه آخَرَ ضعيفٍ وزاد في آخره: «ومن لم يتفقّه في الدّين لم يبال اللّه به» والمعنى صحيح؛ لأنّ من لم يعرف أمور دينه؛ لا يكون فقيهًا ولا طالبَ فقه، فيصحُّ أن يوصف بأنّه ما أُريد به الخير، وفي ذلك بيان ظاهر لفضل العلماء على سائر النّاس، ولفضل التّفقُّه في الدّين على سائر العلوم"[2].

قال ابن تيمية رحمه الله: "وقد ثبَت في الصّحيح عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «من يرد اللّه به خيرًا يفقِّهه في الدّين» ولازمُ ذلك أنّ من لم يفقّهه اللّه في الدّين لم يُرِدْ به خيرًا، فيكون التّفقُّهُ في الدّين فرضًا. والتّفقُّه في الدّين: معرفة الأحكام الشّرعيّة بأدلَّتها السّمعيَّة. فمن لم يعرف ذلك لم يكن متفقِّهًا في الدّين؛ لكن من النّاس من قد يَعجِز عن معرفة الأدلّة التّفصيليّة في جميع أموره، فيسقط عنه ما يَعجِز عن معرفته، لا كلُّ ما يَعجِز عنه من التّفقُّه، ويلزمه ما يقدر عليه، وأمّا القادر على الاستدلال، فقيل: يحرم عليه التّقليد مطلقًا، وقيل: يجوز مطلقًا، وقيل: يجوز عند الحاجة؛ كما إذا ضاق الوقت عن الاستدلال، وهذا القول أعدل الأقوال. والاجتهاد ليس هو أمرًا واحدًا لا يقبل التجزي والانقسام؛ بل قد يكون الرّجل مجتهدًا في فنٍّ أو باب أو مسألة دون فنٍّ وباب ومسألة، وكلُّ أحد فاجتهاده بحسب وُسْعِه"[3].

قال الملا علي القاري رحمه الله: "«وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ»؛ أي: للعلم. «واللّه يُعطي»؛ أي: الفَهم في العلم بمبناه، والتّفكُّر في معناه، والعمل بمقتضاه. قال الطِّيبيُّ: الواو في (وإنّما) للحال من فاعل (يفقّهه) أو مفعوله؛ أي: أنا أقسم العلم بينكم، فأُلقي إليكم جميعًا ما يليق بكلِّ أحد، واللّه يوفِّق من يشاء منكم لفَهمه. قال ابن حجر: ومن ثمَّ تفاوتت أفهام الصّحابة مع استواء تبليغه عليه الصّلاة والسّلام؛ بل فاق بعض من جاء بعد الصّحابة بعضهم في الفَهم والاستنباط كما أشار لذلك الخبر الآتي: «ربّ حامل فقه ليس بفقيه، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه». وقيل: معناه أنا أَقسِم المال بينكم واللّهُ يعطيه، فلا يكون في قلوبكم سخط وتنكُّر عن التّفاضل في القسمة؛ فإنّه أمر اللّه، والظّاهر أنّ المعنى أنا أَقسِم العلم بينكم واللّه يعطي العلم. كذا قاله بعض الشُّرَّاح، والأظهر أن لا منع من الجمع، وإن كان المقام يقتضي العلم، واللّه أعلم. قيل: ولم يقل: مُعْطٍ؛ لأنّ إعطاءه متجدِّد ساعةً فساعةً"[4].

قال السنديُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا...» قيل: إن لم نقل بعموم (مَن)، فالأمر واضح؛ إذ هو في قوّة بعض من أريد له الخير، وإن قلنا بعمومها، يصير المعنى: كلُّ من يريد به الخير، وهو مشكِل بمن مات قبل البلوغ مؤمنًا ونحوه، فإنّه قد أريد به الخير وليس بفقيه، ويُجاب بأنّه عامٌّ مخصوص هو أكثر العمومات، والمراد: من يرد اللّه به خيرًا خاصًّا، على حذف الصّفة. انتهى. قلت: الوجه حمل الخير على أنّ التّنكير للتّعظيم، فلا إشكال على أنّه يمكِن حمل الخير على الإطلاق، واعتبار تنزيل غير الفقه في الدّين منزلة العدم بالنّسبة إلى الفقه في الدّين، فيكون الكلام مبنيًّا على المبالغة؛ كأن من لم يُعْطَ الفقهَ في الدّين ما أريد به الخير، وما ذكره من الوجوه لا يناسب المقصود، ويمكن حمل (من) على المكلَّفين؛ لأنّ كلام الشّارع غالبًا يتعلّق ببيان أحوالهم، فلا يَرِدُ من مات قبل البلوغ وأسلم، أو مات قبل مجيء وقت الصّلاة مثلًا؛ أي: قبل تقرُّر التّكليف والفقه في الدّين هو العلم الّذي يورث الخشية في القلب، ويَظهَر أثره على الجوارح، ويترتَّب عليه الإنذار كما يشير إليه قوله تعالى:

{فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}  [5]

[التوبة: 122]".

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "الحديث دليلٌ على عظمة شأن التّفقُّه في الدّين، وأنّه لا يُعطاه إلّا من أراد اللّه به خيرًا عظيمًا؛ كما يرشِد إليه التّنكير، ويدلُّ له المقام. والفقه في الدّين تعلُّم قواعد الإسلام، ومعرفة الحلال والحرام، ومفهوم الشّرط أنّ من لم يتفقَّه في الدّين لم يُرد اللّه به خيرًا. وقد ورد هذا المفهوم منطوقًا في رواية أبي يعلى «ومن لم يفقَّهْ لم يُبَالِ اللّه به» وفي الحديث دليل ظاهر على شَرَف الفقه في الدّين، والمتفقِّهين فيه على سائر العلوم والعلماء، والمراد به معرفة الكتاب والسُّنَّة"[6].

قال القَسطلانيُّ رحمه الله: "«وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ أي: أَقسِم بينكم تبليغ الوحي من خير تخصيص، «واللهُ يُعطِي» كلَّ واحد منكم من الفَهْم على قَدْر ما تعلَّقت به إرادتُه تعالى، فالتفاوتُ في أفهامكم منه سبحانه، وقد كان بعض الصحابة يسمعُ الحديثَ فلا يَفهَم منه إلا الظاهرَ الجليَّ، ويسمعه آخَرُ منهم، أو مِن القَرْن الذي يَليهم، أو ممَّن أتى بعدهم، فيستنبط منه مسائلَ كثيرة؛

﴿ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [7]".

[الجمعة: 4]

قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقوله: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ» يدلُّ على أنه لم يَستأثِر من مال الله دونَهم، وكذلك قوله: «ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخُمس، والخُمس مردود عليكم»[8]، وإنما قال: «وإِنَّما أنا قاسِمٌ»؛ تطييبًا لنفوسهم، لمفاضلته في العطاء. وقوله: «والله يعطي»؛ أي: واللهُ يُعطيكم ما أَقسِمه عليكم، لا أنا، فمن قَسَمْتُ له قليلاً، فذلك بقدَر الله له، ومن قَسَمت له كثيرًا، بقدرٍ أيضًا، وبما سبق له في أمِّ الكتاب، فلا يُزاد أحدٌ في رزقه، كما لا يُزاد أحدٌ في أجله.

وقوله: «ولن تزال هذه الأمةُ قائمةً على أمر الله»، يريد أن أمَّته آخِرُ الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضَعُف الدين، فلابدَّ أن يبقى من أمَّته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: «لا يضرُّهم من خالفهم»، وفيه أن الإسلام لا يُذلُّ، وإن كثُر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزَّاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، عن الرسول ﷺ أنه قال: « لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد الله الله»، وروى ابن مسعود، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس»، رواه شعبة، عن علىِّ بنِ الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبريُّ: ولا معارضة بينهما بحمد الله؛ بل يحقِّق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خَرَج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه: لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحِّد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحقِّ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا؛ لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحقِّ التي توحِّد الله التي هي شرار الناس؛ فثَبَت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحقِّ مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا في حديث أبى أُمامة الباهليِّ، وحديث عمرانَ بنِ حُصينٍ، قال الطبريُّ: حدَّثنا محمد بن الفرج، حدَّثنا ضمرة بن ربيعة، حدَّثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانيِّ، عن عمرو بن عبد الله الحمصيِّ، عن أبى أمامة الباهليِّ، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خالَفهم»، قيل: فأين هي يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس». وروى قتادة عن مطرِّف بن الشخِّير، عن عمرانَ بنِ حُصينٍ

عن الرسول ﷺ، قال:

«لا تزال طائفةٌ من أمَّتى يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال».

قال مطرِّف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام"[9].

قال الديوبنديُّ رحمه الله: "ومعنى قوله: (ولن تزال)؛ أي: لا يخلو زمان إلا وتوجد فيه تلك الطائفة القائمة على الحقِّ، لا أنهم يَكثُرون في كلِّ زمان، ولا أنهم يغلبون على من سواهم كما سبق إلى بعض الأفهام، حتى إن غلبة الدين في زمن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام عندي ليس كما اشتهر على الألسنة؛ بل الموعود هو الغلَبة حيث يظهر عليه الصَّلاة والسَّلام وفيما حواليه. أما فيما وراء ذلك فلم يتعرَّض إليه الحديث، والعمومات كلُّها واردة في البلاد التي يظهر فيها ولا تتجاوز فيما وراءها، وإنما هو من بداهة الوهم والسَّبق إلى ما اشتَهَر بين الأنام"[10].

قال النوويُّ رحمه الله: "ويُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين"[11].

المراجع

  1. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 154).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (1/ 165).
  3. "مجموع الفتاوى" (20/ 212).
  4. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (1/ 283).
  5. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 95، 96).
  6. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 688).
  7. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلانيِّ (1/ 170).
  8. رواه أحمد (22718)، والنسائيُّ (2694)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع"(7872).
  9. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 155، 156).
  10. "فيض الباري على صحيح البخاري" للديوبنديِّ (1/ 254).
  11. "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنوويِّ (13/ 67).


غريب الحديث

بادروا بالأعمال فتنًا؛ أي: سابقوا بالأعمال الصالحة هجومَ الْمِحَن المانعة منها، السالبة لشرطها المصحِّح لها الإيمان[1]

كقطع الليل المظلم: قِطَع جمع قطعة، وهي الطائفة من الليل، أراد أن كلَّ فتنة سَوْداءُ مظلِمة، وشبَّه الفتن بالليل المظلِم تعظيمًا لشأنها، وعِظَم خطرها[2]

بعَرَض من الدنيا: عَرَضُ الدنيا: هو طَمَعُها، وما يَعرِض منها، ويَدخُل فيه جميع المال[3]

المراجع

  1.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 326).
  2.  "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (17/ 14).
  3.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 326).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هُرَيْرَةَ عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ»؛ أي: سابقوا بالأعمال الصالحة ظهورَ الفِتن والْمِحَن السوداء المظلِمة. «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا»؛ ففي هذه الفتن يتقلَّب الرجل بين الإيمان والكفر صباحًا ومساءً. «يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»؛ أي: يَبيعُ دينه وآخرَتَهُ بثمنٍ بَخْسٍ من متاعِ الدنيا القليل؛ من مالٍ أو منصبٍ أو غير ذلك.

الشرح المفصَّل للحديث

 يُلهِب رسول الله ﷺ عزائم المؤمنين إلى العمل الصالح، ويحذِّرهم من التراخي مع التمكُّن، ويخوِّفهم من تأخير طاعات اليوم إلى الغَدِ، فلا يدري المسلمُ ما يأتي به غَدُه، ويخوِّف رسول الله ﷺ بما هو أدهى من كلِّ ذلك؛ بمستقبَلٍ للمسلمين مُظلِمٍ ظلامَ الليل، لا يميِّزون فيه الخطأ من الصواب، ولا يحقِّقون فيه الأمور؛ بل ينجرفون وراء تيَّارات الفتن، وينزلقون وراء الهوى، وينقادون لأهواء الحياة وزينتها، فيبيعون دينهم بعَرَض حقير، ويخسرون آخرتهم بدنياهم.

يخوِّف رسول الله ﷺ من هذا المستقبَل الغامض، الذي تتطاير فيه الفتن تطايُرَ النار والشَّرر، فتُحرِق من تُحرق، وتُزعِج من تُزعِج، هنالك يُصبِح الرجل مؤمنًا ويُمسي كافًرا، أو يُمسي مؤمنًا فتُحرِقه الفتنة، فيُصبح كافرًا.

فليَحذَرِ المؤمنُ، وليبادر الكَيِّس بالعمل الصالح، ولْيُسابقِ الزمن بفعل الحسنات قبل أن يَفُوت الأوان، فيكون حالُه كما قال الله تعالى عن المفرِّط في جَنْبِ الله:

( أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّٰخِرِينَ)

[الزمر: 56]

أو يقول: لو أن لي عُمُرًا لَأكوننَّ من العاملين، أو يقول: لولا أخَّرني ربِّي إلى أجل قريب فأصَّدَّق وأَكُنْ من الصالحين. والله تعالى يقول:

(وَلَن يُؤَخِّرَ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِذَا جَآءَ أَجَلُهَاۚ وَٱللَّهُ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ ) 

[المنافقون: 11].

والإنسانُ يعيشُ في هذه الدنيا عُمُرًا قصيرًا يَمُرُّ كالبَرقِ الخاطفِ في ظلام الليل، ولأن الأعمار قصيرةٌ؛ لا بُدَّ من عِمَارتِها بما يعودُ نفعُه على الإنسان في الدنيا والآخرة؛ ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بتفريغِ القلب من حبِّ الدنيا، والتَّخَلُّصِ من طول الأمل. قال الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: "خمسٌ من علاماتِ الشَّقاوة: القَسوةُ في القلب، وجُمُودُ العَيْن، وقِلَّةُ الحياء، والرغبة في الدنيا، وطولُ الأمل"[1]

وما مرَّ زمانٌ إلَّا والذي يليه أشدُّ منه سوءًا، وأعظمُ فِتنًا، وعندما تَمُوجُ الفِتَن، يَنْشَغِلُ الناس بأمرها، ويَتَأَثَّرُ القلبُ بها، فيَنقَلبُ من نور الإيمان إلى ظُلماتِ الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية.

ولقد كان النبيُّ ﷺ يَتَعَوَّذُ من الفتن؛ يَقُولُ ﷺ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، ومِنْ عَذَابِ النَّارِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا والْمَمَاتِ، ومِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ»[2]. وكان يُكْثِرُ من قول: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»[3]

وفي هذا الحديث يأمر النبيُّ ﷺ بالمسارعة إلى الأعمال الصالحة قبل مَجِيءِ الْفِتَنِ الْمُظْلمة من القتل والنَّهب والاختلاف بين المسلمين في أمر الدّنيا والدّين، وقلَّة العلم بموت العلماء، وانتشار الجهل، وظهور البدع وعلماء السوء، وغير ذلك من الفتن العظيمة التي قد لا يُعرَف سببُها، ولا طريق الخلاص منها؛ كاللّيل الـمظلِم الذي لا يدري الإنسان فيه أين يذهب؟ فينشغل بها عن الأعمال الصالحة، ووصَف النبيُّ ﷺ نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أن المرء يُمسي مؤمنًا، ثم يصبح كافرًا، أو عكسُه؛ وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، ويبيع دينه وآخرته بثمن بخس من متاع الدنيا القليل؛ من مال أو منصب أو غير ذلك[4]. فـ"مقصود هذا الحديث: الأمر بالتمسّك بالدّين، والتشدُّد فيه عند الفتن، والتحذير من الفتن، ومن الإقبال على الدنيا وعلى مطامعها[5]

فلا سبيل للنجاة من الفتن إلا بالتَّمَسُّكِ بكتاب الله وسنَّة رسوله ﷺ؛ فكتابُ الله من اعتصم به كَفَاه وهَدَاه ووقاه، وسُنَّةُ نبيِّه ﷺ نورٌ على الطريق يومَ تعصِفُ ظلماتُ الفِتَن بالأمَّة. وفي الخبر عن رسول الله ﷺ: «وسترَوْنَ من بعدي اختلافًا شديدًا، فعليكم بسُنَّتي، وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين، عَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإيَّاكم والأمورَ الْمُحدَثاتِ؛ فإن كلَّ بِدعة ضلالة»[6]

المراجع

  1. ( رواه البيهقيُّ في "شعب الإيمان" (10/182)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (48/416).
  2.  رواه البخاريُّ (1311).
  3.  رواه أحمد (12107)، والترمذيُّ (2140)، وابن ماجه (3834)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (4801).
  4. "شرح النوويّ على مسلم" (2/133).
  5.  "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (2/89).
  6. رواه أبو داود (4607)، والترمذيُّ (2676)، وابن ماجه (42)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (9/ 582)، وصحَّحه الألبانيُّ في المشكاة (165)، والإرواء (2455).

النقول

قال الطيبيُّ رحمه الله: "قوله: «بادروا بالأعمال»؛ أي: سابقوا وقوع الفِتَن بالاشتغال بالأعمال الصالحة، واهتمُّوا بها قبلَ نزولها، كما رُوي: «بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشتغلوا»، فالمبادرةُ: المسارعةُ بإدراك الشيء قبل فَوَاته، أو بدَفْعِه قبل وقوعه. وقولُه: «يُصبح الرجل» استئنافُ بيانٍ لحال المشبَّه. وهو قوله: «فتنًا». وقوله: «يبيع دينه بعرَض من الدنيا» بيانٌ للبَيَان"[1]

قال النوويُّ رحمه الله: "معنى الحديث: الحثُّ على المبادرة إلى الأعمال الصّالحة قبل تعذُّرها، والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشّاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام اللّيل المظلِم، لا المقمِر، ووصف ﷺ نوعًا من شدائد تلك الفتن، وهو أنّه يمسي مؤمنًا ثمّ يصبح كافرًا، أو عكسه - شكَّ الرّاوي - وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب"[2]

قال القاضي عياض رحمه الله: "الحديث بَيِّنُ المعنى كلُّه، وفائدة المبادرة بالعمل إمكانُه قبل شَغْلِ البال والحَشد بالفتن، وقطعها عن العمل"[3]

قال الطيبيُّ رحمه الله: "فيه وجوهٌ: أحدها: أن يكون بين الطائفتين من المسلمين قتالٌ لمجرَّد العَصَبية والغضب، فيستحِلُّون الدَّمَ والمال. وثانيها: أن تكون ولاةُ المسلمين ظَلَمةً، فيُريقون دماء المسلمين، ويأخذون أموالهم بغير حقٍّ، ويشربون الخمر، فيعتقد بعض الناس أنهم على الحقِّ، ويُفتيهم بعضُ علماء السوء على جواز ما يفعلون من المحرَّمات. وثالثها: ما يَجري بين الناس مما يُخالف الشرع من المعاملات والمبايعات وغيرها، فيستحِلُّونها، والله أعلم"[4]

قال القُرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: «بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا»؛ أي: سَابِقُوا بالأعمالِ الصالحةِ هجومَ المِحَنِ المانعةِ منها، السالبةِ لشرطها المصحِّح لها الإيمان؛ كما قال: «يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا، وَيُمْسِي كَافِرًا»، ولا إحالةَ ولا بُعْدَ في حمل هذا الحديثِ على ظاهره؛ لأنَّ المِحَنَ والشدائد إذا توالَتْ على القلوب، أفسدَتْهَا بِغَلَبتها عليها، وبما تُؤَثِّرُ فيها مِنَ القَسْوة والغَفْلة التي هي سببُ الشِّقْوة. ومقصودُ هذا الحديثِ: الحَضُّ على اغتنامِ الفُرْصة، والاِجتهادُ في أعمالِ الخيرِ والبِرِّ عند التمكُّنِ منها قَبْلَ هجومِ الموانع. وقوله: «يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا»: عَرَضُ الدنيا: بفتح العَين والراء: هو طَمَعُها وما يَعْرِضُ منها، ويدخُلُ فيه جميعُ المال؛ قاله الهَرَوِيُّ، فأمَّا العَرْضُ، بإسكان الراء، فهو خلافُ الطُّول، ويُقالُ على أمور كثيرة، والعِرْضُ، بكسر العين وسكون الراء: هو نسَبُ الرجلِ وحَسَبُهُ وذاتُهُ. ومقصودُ هذا الحديثِ: الأمرُ بالتمسُّك بالدِّين، والتشدُّدُ فيه عند الفتن، والتحذيرُ مِنَ الفتنِ، ومِنَ الإقبالِ على الدنيا وعلى مَطَامِعِهَا"[5]

المراجع

  1.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3406).
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (2/133).
  3.  "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (1/ 405).
  4.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3406).
  5. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (2/89).

غريب الحديث:

سلَك: دخل أو مشى[1].

يَلتمِس: يطلب[2].

الحِيتان: جمع حُوت، وهو السَّمك، وقيل: ما عَظُم منه[3]. 

الكواكب: جمع كَوْكَب، وهو النَّجْم في السماء[4].

بحظٍّ: نصيب من الكمال[5].

وافر: كثير لا نهايةَ له[6].

المراجع

  1. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" محمد عبد الرحمن المباركفورى (7/ 376).
  2. انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (4/ 270).
  3. انظر: "لسان العرب" لابن منظور (2/ 26).
  4. انظر: "مختار الصحاح" لمحمد بن أبي بكر الرازي (1/ 271).
  5. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 181).
  6. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 181).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي أبو الدَّرْداءِ أنه سمع رسولَ الله ﷺ يقول: «مَن سلَكَ طريقًا يَلتمِسُ فيه عِلمًا»؛ أي: من سعى إلى طريق يطلب فيه العلم النافع، «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنةِ»؛ أي: كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة.

ويقول ﷺ: «وإنَّ الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم»؛ أي: تضعُ الملائكة أجنحتها تواضُعًا وخشوعًا، وتعظيمًا لحقِّ طالب العلم، وتوقيرًا لعلمه؛ رضًا عنه وإرضاءً له. «وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتانُ في الماء» وكأنَّ الكون طُوِّع لطالب العلم محبَّةً ورضًا، فيستغفر له كلُّ الكائنات في السماء والأرض والبحار؛ كرامةً له. «وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفضل القمرِ على سائر الكواكب» فالعالِم كالقمر يُنير للعبَّاد طريق الهدى، أما العابد فهو كالكوكب، لا يتعدَّى نور عبادته إلى غيره.
ويقول ﷺ: «إن العلماءَ ورَثةُ الأنبياء» فالعلماء بمنزلة الأبناء بالنسبة للأنبياء، فهم الذين يرثون عِلم الأنبياء. «إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ»؛ أي: فمَن أخَذ العلمَ من الأبناء يكون حظُّه أكثرَ من حظِّ الذي أخَذ المال؛ حيث أخَذ من ميراث النبوَّة بنصيب كامل. 

الشرح المفصَّل للحديث:

رفع الله - عزَّ وجلَّ - شأنَ العلم والعلماء، ووعَد مَن يبذُل جهدَه في هذا الطريق بخير الجزاء في الدنيا والآخرة، فيبيِّن النبيُّ ﷺ عظيمَ فضل الله - عزَّ وجلَّ - وعطائه لِمَن يَجِدُّ في طلب العلم، ويسعى في تحصيله. 

فيقول ﷺ: «مَن سلَكَ طريقًا يلتمِس فيه علمًا» سلوك الطريق يَشمَل الطريقَ الحسيَّ، والطريقَ المعنويَّ؛ فأما الحسيُّ فهو الطريق الذي يسير فيه طالبُ العلم، سواءٌ كان ماشيًا أو راكبًا؛ كأن يأتيَ الإنسان من بيته إلى مكان العلم، سواءٌ كان مكان العلم مسجدًا، أو مدرسةً، أو جامعةً، أو غيرَ ذلك، ومن ذلك أيضًا الرحلة في طلب العلم؛ كأن يرتحل الإنسان من بلده إلى بلد آخَرَ يلتمس العلمَ، ونحو ذلك. والثاني: الطريق المعنويُّ، وهو الطريق الذي يُتوصَّل به إلى العلم؛ كالحفظ والفَهْم، والمدارسة، والمذاكرة، والمطالَعة، سواءٌ أكان مِن أفواه العلماء، أو مِن بُطون الكتب مراجعةً وبحثًا، فمِثلُ هذا يكون سالكًا لطريق العلم وإن كان جالسًا[1].

وكما أطلق ﷺ لفظ الطريق، وأتى به عامًّا ليشمل جميع الطُّرق الحِسِّية والمعنوية الموصِّلة للعلم، كذا أطلق لفظ العلم، وأتى به منكَّرًا؛ ليشمل جميع فروع عِلم الدين ومسائله، وليندرجَ فيه القليل والكثير منه[2]. 

قوله ﷺ: «سهَّلَ اللهُ له طريقًا إلى الجنة»، فمَن كان هذا حالَه، كان جزاؤه أن يُوفِّقه الله تعالى للأعمال الصالحة الموصِّلة إلى الجنة[3]، أو يُسهِّل الله له العلم الذي طلبه، وسَلَك طريقه، ويُيسِّره عليه؛ فإن العلم طريقٌ موصِّلٌ إلى الجنة؛ بل هو من أقربها؛ إذ بالعلم الشرعيِّ يُعرَف الحلال والحرام، ومُرادُ الله من العباد، والوسائل الْمُعينة على رضاه سبحانه وتعالى. والجَنَّة هي دار كرامة الله تعالى ونعيمه لعباده الطائعين، وقد كثُر ذِكرها بأوصافها، وكذا ذِكرُ ما يوصِّل إليها في الكتاب والسُّنة. 

وقوله ﷺ: «وإن الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالب العلم»: الأجنحة في ذوات الجَناح بمثابة اليد من الإنسان، والملائكة خَلقٌ من خَلْق الله - عزَّ وجلَّ - خَلَقهم من نور، لا يَعصُون الله أبدًا، وهم في عبادة دائمة له تعالى؛ قال تعالى: 

﴿ قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾

[التحريم: 6]

وقال سبحانه في وصفهم:

﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾

[فاطر: 1]

ويحتمل أن يكون وضعُ الملائكة الأجنحة بمعنى التواضُع والخشوع؛ تعظيمًا لحقِّه وتوقيرًا لعلمه؛ وهذا كقوله تعالى:

﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾

[الإسراء: 24]

وقيل: هو على حقيقته، وإن غاب عن أبصارنا، ومعناه كفُّ الملائكة عن الطيران ونزولها عند طالب العلم، وهذا مِثْلُ قوله ﷺ: «لا يقعد قومٌ يذكُرون الله عز وجل إلا حفَّتهم الملائكة، وغَشِيتهم الرحمة...»[4]. وقيل: معناه: بسْطُ الجَناح وفَرْشها لطالب العلم؛ لتحمِلَه عليها فتبلغه حيث يؤمُّه ويَقصِده من البقاع في طلبه، ومعناه المعونةُ والتيسير له في طلب العلم[5].

 وفِعل الملائكة هذا إنما هو لأجْل الرضا الحاصل منها لطالب العلم، أو إرضاءً لطالب العلم[6]، وهذا معنى قوله ﷺ: «رضًا لطالب العلم».

وقوله ﷺ: «وإنَّ طالبَ العلم يَستغفِرُ له مَن في السماء والأرض، حتى الحيتانُ في الماء» بيانٌ لفضيلة أخرى من الفضائل التي وهَبها الله عز وجل لطالب العلم، وهي أن جميع مَن في السموات، ومَن في الأرض، وحتى الحيتانِ في جَوف البحر، يطلبون من الله المغفرةَ لطالب العلم إذا لحِقَه ذَنْب، ومجازاة على حُسن فِعله؛ وذلك لأن نَفْع طالب العلم يعمُّ جميع الموجودات.

وقد جعل الله تعالى الموجوداتِ من الملائكة والثَّقَلين وغيرِهم، حتى الحيتانِ في البحر، مستغفِرين لهم، طالبين لتَخْلِيَتهم مما لا ينبغي، ولا يَليق بهم من الأوضار والأدناس؛ لأن بركةَ عِلمهم وعمَلهم وإرشادهم وفتواهم سببٌ لرحمة العالَمين[7]. 

ثم بيَّن ﷺ فضلَ ورفعةَ درجة العالِم على العابد، والعالِمُ هو الذي يغلب عليه الاشتغالُ بالعلم، الْمُلِمُّ بقواعده وأصوله، وهو القائم بنشر العلم بعد أدائه ما كُلِّف به من الفرائض والسُّنن المؤكَّدة، والعابد: هو الذي يَغلِب عليه العبادة بأن يَصرِف جُلَّ أوقاته في النوافل بعد تحصيله العلمَ الضروريَّ[8]. 

قوله ﷺ: «وإنَّ فضلَ العالِم على العابد كفَضْل القمرِ على سائر الكواكب»: شبَّه ﷺ العالِمَ بالقمر والعابدَ بالكوكب؛ وذلك لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدَّى من العابد إلى غيره، بخلاف العالِم، فإن نَفْع العلم ونوره يتعدَّى منه إلى غيره[9].

فالقمر يُضيء الآفاق، ويمتَدُّ نورُه في أقطار العالَم، وهذه حال العالِم، وأما الكوكب فنُورُه لا يجاوز نفْسَه، أو ما قرُب منه، وهذه حالُ العابد الذي يُضيء نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزه غيرَ بعيد، كما يجاوز ضَوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرةً[10]. 

وهذه المفاضَلة لا تصحُّ حتى يكون كلُّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل؛ فإنَّ العابد لو تركَ شيئًا من الواجبات، أو عَمِلها على جَهْل، لم يستحِقَّ اسمَ العابد، ولا تصحُّ له عبادةٌ، والعالِم لو تركَ شيئًا من الواجبات، لكان مذمومًا، ولم يستحقَّ اسمَ العالِمِ، فإذنْ محلُّ التفضيل: إنما هو في النوافل، فالعابدُ يَستعمِل أزمانه في النوافل من الصلاة والصوم والذِّكر، وغير ذلك، والعالِم يَستعمل أزمانه في طلب العلم وحِفظه وتقييده وتعليمه، فهذا هو الذي شبَّهه بالبدر؛ لأنَّه قد كمُل في نفْسه، واستضاء به كلُّ شيء في العالَم، من حيث إن عِلمه تعدَّى لغيره، وليس كذلك العابد؛ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفْسِه؛ ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفْسَه[11].

قوله ﷺ: «إن الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا؛ إنما ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذه أخَذ بحظٍّ وافر»، يَسُوق ﷺ فضيلةً أُخرى للعلماء، فيَذكر أنهم ورَثةُ الأنبياء، فالعلماء بمنزلة الأبناء بالنسبة للأنبياء، وكما أن أبناء الرجُل يَرِثون ماله بعد وفاته، فإن العلماء هم مَن يرثون عِلم الأنبياء، وينقُلونه عنهم، وينشرونه بين الناس؛ وذلك لأن الأنبياء لم يورِّثوا دِينارًا من ذهبٍ، أو درهمًا من الفضة، أو أيَّ لون من ألوان المال؛ وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخَذ العلمَ من الأبناء يكون حظُّه أكثرَ من حظِّ الذي أخَذ المال[12]، أو مَن أخَذ العلم فإنما أخذ من ميراث النبوَّة بنصيب كامل[13]. 

المراجع

  1. انظر: "شرح رياض الصالحين" ابن عثيمين (5/ 433- 434).
  2. انظر: "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160)
  3. "فتح الباري" ابن حجر (1/ 160).
  4. رواه مسلم (2700)
  5. "معالم السنن" للخطابي (4/ 183).
  6. انظر: "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" محمد علي بن محمد الصديقي الشافعي (7/ 180).
  7. "شرح الطِّيبيِّ على مشكاة المصابيح" (2/ 673).
  8. انظر: "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 376).
  9. "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" للمباركفوري (7/ 376).
  10. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 65).
  11. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (6/ 686).
  12. انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري الحسين بن محمود بن الحسن الشيرازي (1/ 313).
  13. "إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري" للقسطلاني (1/ 167).


النقول:

قال ابن رجب رحمه الله: "وسلوكُ الطّريق لالتماس العلم يَدخُل فيه سلوك الطّريق الحقيقيِّ، وهو المشيُ بالأقدام إلى مجالس العلماء، ويَدخُل فيه سلوك الطّرق المعنويّة المؤدِّية إلى حصول العلم؛ مثل حفظِه، ودراسته، ومذاكرته، ومطالعته، وكتابته، والتّفهُّم له، ونحو ذلك من الطّرق المعنويّة الّتي يُتوصَّل بها إلى العلم. وقوله: «سهّل اللّه له به طريقًا إلى الجنّة» قد يُراد بذلك أنّ اللّه يسهِّل له العلم الّذي طلبه، وسلك طريقه، وييسِّره عليه، فإنّ العلم طريق موصِّل إلى الجنّة؛ وهذا كقوله تعالى:

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}

[القمر: 17]

قال بعض السّلف: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ وقد يراد أيضًا: أنّ اللّه ييسِّر لطالب العلم إذا قصد بطلبه وجه اللّه الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته، ولدخول الجنّة بذلك. وقد ييسِّر اللّه لطالب العلم علومًا أُخَرَ ينتفع بها، وتكون موصِّلةً له إلى الجنّة، كما قيل: من عَمِل بما علم، أورثه اللّه عِلْمَ ما لم يعلم، وكما قيل: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وقد دلَّ على ذلك قوله تعالى:

{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}

[محمد: 17]

وقد يدخل في ذلك أيضًا تسهيل طريق الجنّة الحسّيِّ يوم القيامة - وهو الصّراط - وما قبله وما بعده من الأهوال، فييسّر ذلك على طالب العلم للانتفاع به؛ فإنّ العلم يدلُّ على اللّه من أقرب الطّريق إليه، فمن سلك طريقه، ولم يَعرُج عنه، وصل إلى اللّه وإلى الجنّة من أقرب الطّرق وأسهلها، فسَهُلت عليه الطّرق الموصِّلة إلى الجنّة كلُّها في الدّنيا والآخرة، فلا طريق إلى معرفة اللّه وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه ومجاورته في الآخرة إلّا بالعلم النّافع الّذي بعث اللّه به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدّليل عليه، وبه يُهتدى في ظلمات الجهل والشُّبَه والشّكوك؛ ولهذا سمّى اللّه كتابه نورًا؛ لأنّه يُهتدى به في الظّلمات، وقال اللّه تعالى:

{قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

[المائدة: 15 - 16]

ومثّل النّبيّ ﷺ حملة العلم الّذي جاء به بالنّجوم الّتي يُهتدى بها في الظّلمات؛ فَفِي "الْمُسْنَدِ[1]عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:

«إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ، يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ النُّجُومُ، أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ»"[2].

قال ابن القيم رحمه الله: "فيه فائدتانِ: إحداهما: أن نور القمر لَمَّا كان مستفادًا من غيره (الشمس) كان تشبيهُ العالِم الذي نورُه مستفادٌ من شمس الرِّسالة بالقمر أَوْلى من تشبيهه بالشمس، والتي نورها من قوَّة ذاتية أودعها الله فيها. والفائدة الثانية: أن الشمس لا يختلف حالُها في نورها، ولا يلحقها محاقٌ، ولا تفاوتٌ في الإضاءة، وأما القمر فإنه يَقِلُّ نوره، ويكثُر، ويمتلئ ويَنقص، كما أن العلماء في العلم على مراتبهم من كثرته وقلَّته، فيَفضُل كلٌّ منهم في علمه بحسب كثرته، وقلَّته، وظهوره، وخفائه، كما يكون القمر كذلك، فعالِمٌ كالبدر ليلةَ تمامه، وآخَرُ دونه بليلةٍ، وثانية، وثالثة، وما بعدها، إلى آخر مراتبه، وهم درجات عند الله"[3].

قال الطِّيبيُّ رحمه الله: «جعل الموجودات من الملائكة والثَّقَلين وغيرهم حتى الحيتان في البحر مستغفرين لهم، طالبين لتخليتهم مما لا ينبغي، ولا يَليق بهم من الأوضار والأدناس؛ لأن بركةَ عِلمهم وعمَلهم وإرشادهم وفتواهم سببٌ لرحمة العالَمين»[4]. 

قال ابن رجب رحمه الله: "وما دام الْعِلْمُ باقِيًا في الأرض، فَالنَّاسُ في هُدًى، وبقاءُ العلم بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فإذا ذهب حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ به، وَقَعَ النَّاسُ في الضَّلَالِ؛ كما في الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:

«إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ؛ وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»[5]"[6]. 

قال ابن القيم رحمه الله: «القمر يُضيء الآفاق، ويمتَدُّ نورُه في أقطار العالَم، وهذه حال العالِم، وأما الكوكب فنُورُه لا يجاوز نفْسَه، أو ما قرُب منه، وهذه حالُ العابد الذي يُضيء نورُ عبادته عليه دون غيره، وإن جاوز نورُ عبادته غيرَه فإنما يجاوزه غيرَ بعيد، كما يجاوز ضَوءُ الكوكب له مجاوزةً يسيرةً»[7].

وقال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "هذه المفاضَلة لا تصحُّ حتى يكون كلُّ واحد منهما قائمًا بما وجب عليه من العلم والعمل؛ فإنَّ العابد لو تركَ شيئًا من الواجبات، أو عَمِلها على جَهْل، لم يستحِقَّ اسمَ العابد، ولا تصحُّ له عبادةٌ، والعالِم لو تركَ شيئًا من الواجبات، لكان مذمومًا، ولم يستحقَّ اسمَ العالِمِ، فإذنْ محلُّ التفضيل: إنما هو في النوافل، فالعابدُ يَستعمِل أزمانه في النوافل من الصلاة والصوم والذِّكر، وغير ذلك، والعالِم يَستعمل أزمانه في طلب العلم وحِفظه وتقييده وتعليمه، فهذا هو الذي شبَّهه بالبدر؛ لأنَّه قد كمُل في نفْسه، واستضاء به كلُّ شيء في العالَم، من حيث إن عِلمه تعدَّى لغيره، وليس كذلك العابد؛ فإنَّ غايته أن ينتفع في نفْسِه؛ ولذلك شبَّهه بالكوكب الذي غايته أن يظهر نفْسه"[8].

قال عبد المحسن العباد: «إن الجزاء من جنس العمل، فكما أن الإنسان سلك طريقًا للعلم، فجزاؤه أنه يُسهِّل له طريق الجنة، والجزاءُ من جِنس العمل، فالعمل هو سلوكُ طريق يوصِّل إلى العلم، والجزاء هو: تسهيلُ وتيسيرُ طريق يوصِّل إلى الجنة، فهذا يدُلُّ على فضل العلم، وأن شأنه عظيم، وفضله كبير، وأن مَن سلَك الطريقة الموصِّلة إلى العلم، فإنه يُجازى على ذلك بأن ييسِّر له الطريق والسبيل التي توصِّله إلى الجنة»[9].

قال ابن القيم رحمه الله: "هذا من أعظم المناقب لأهل العلم؛ فإن الأنبياء خيرُ خَلْق الله، فورثتُهم خيرُ الخَلْق بعدَهم، ولَمَّا كان كلُّ موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته؛ إذ هم الذين يقومون مقامَه من بعده، ولم يكن بعد الرسل مَن يقوم مقامَهم في تبليغ ما أُرسِلوا به إلا العلماء، كانوا بذلك أحقَّ الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيهٌ على أنهم أقربُ الناس إليهم؛ فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابتٌ في ميراث الدينار والدرهم، فكذلك هو في ميراث النبوَّة، والله يختصُّ برحمته مَن يشاء"[10].

قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "إن الله قد قيَّض للحيتان وغيرها من أنواع الحيوان بالعلم على ألسنة العلماء أنواعًا من المنافع، والمصالح، والإرفاق، فهم الذين بيَّنوا الحكمَ فيها فيما يحلُّ ويحرُمُ منها، وأرشدوا إلى المصلحة في بابها، وأوصَوْا بالإحسان إليها، ونفي الضرر عنها، فألهمها الله الاستغفار للعلماء؛ مجازاةً على حُسن صنيعهم بها، وشفقتهم عليها"[11].

قال ابن رجب رحمه الله: "العلم قسمان: أحدُهما: ما كان ثمرته في قلب الإنسان، وهو العلم باللّه تعالى، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله المقتضية لخشيته، ومهابته، وإجلاله، والخضوع له، ومحبَّته، ورجائه، ودعائه، والتّوكُّل عليه، ونحو ذلك، فهذا هو العلم النّافع؛ كما قال ابن مسعود: إنّ أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم؛ ولكن إذا وقع في القلب، فرَسَخ فيه، نفع. وقال الحسن: العلم علمان: علم على اللّسان، فذاك حُجَّة اللّه على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النّافع.

والقسم الثّاني: العلم الّذي على اللّسان، وهو حجّة اللّه كما في الحديث: «القرآن حجَّةٌ لك أو عليك»[12]، فأوّل ما يُرفَع من العلم: العلم النّافع، وهو العلم الباطن الّذي يخالط القلوب ويُصلِحها، ويبقى علم اللّسان حجّةً، فيتهاون النّاس به، ولا يعملون بمقتضاه، لا حَمَلته ولا غيرهم، ثمّ يذهب هذا العلم"[13].

المراجع

  1. مسند أحمد (12627).
  2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 297، 298).
  3. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/65).
  4. "شرح الطِّيبيِّ على مشكاة المصابيح" (2/ 673).
  5. رواه البخاريُّ (100)، ومسلم (2673).
  6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 298).
  7. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/ 65).
  8. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ (6/ 686).
  9. "شرح سنن أبي داود" عبد المحسن العباد (3/412) وهو تفريغ صوتي لدروس الشيخ، ورقم الجزء هو رقم الدرس.
  10. "مفتاح دار السعادة" لابن القيم (1/66).
  11. "معالم السنن شرح سنن أبي داود" للخطابيِّ (4/ 183).
  12. رواه مسلم (223).
  13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 299).


غريب الحديث

لا تُحِدُّ: من الإحداد، وهو ترك المرأة الطِّيبَ والزِّينة للمُصيبة.

ثوبُ عَصْبٍ: ثوبٌ يمنيٌّ يُصبَغ غزلُه، ثم يُنسَج.

لا تَكتحِل: لا تستعمل الكُحْلَ.

نُبْذة: النُّبذة: الشيء اليسير، وأُدخِل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة.

قُسط: ضَرْب من الطِّيب، وقيل: هو العود الهنديُّ، والقُسْطُ عقَّار معروف في الأدوية طيِّب الريح، تبخّر به النساء والأطفال.

أظفار: جنس من الطِّيب، وقيل: هو شيءٌ من العطر أسودُ، والقطعة منه شبيهة بالظُّفر.

المعنى الإجماليُّ للحديث

تروي أُمُّ عَطِيَّةَ، عن رَسُول اللهِ ﷺ  أنه قال: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا»؛ أي: لا يَحِلُّ لامرأة أن تترك الزينةَ والطِّيب على ميت ثلاث ليالٍ، إلا أن يكون الميت زوجَها، فتترك ذلك أربعة أشهر وعشْرَ ليالٍ. «وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا، إِلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ»؛ أي: لا تَلبَس الثيابَ المصبوغة للزينة، ويرخَّص لها في ثوب عَصْبٍ، وهو ثوبٌ يمنيٌّ يُصبَغ غزلُه ثم يُنسَج. «وَلَا تَكْتَحِلُ»؛ أي: لا تَستعمِل الكُحل. «وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إِلَّا إِذَا طَهُرَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»؛ أي: لا تمسُّ طِيبًا، ويرخَّص لها عند الاغتسال من الحيض مسُّ شيء يسير من الطِّيب؛ لقَطْعِ الروائح الكريهة، فيُمكِنها التبخُّر بمثل طِيب القُسط أو طيب الأظفار.

الشرح المفصَّل للحديث

«لا تُحِدُّ امرأة على ميِّت فوق ثلاث»: في هذا الحديث ينهى النبيُّ ﷺ المرأة أن تُحِدَّ على ميِّت - أيًّا كانت صلةُ قرابتها به - فوق ثلاث ليالٍ؛ لأن الثلاث كافيةٌ للقيام بحقِّ القريب، والتفريج عن النفس الحزينة، واستثنى من هذا زوجَها؛ قيامًا بحقِّه الكبير عليها.

والإحداد: هو أن تترك المرأة الزينةَ والطِّيب، وفي هذا حرص من الشارع الحكيم على أن يمنع زيادة مدَّة الإحداد، فلا يَحِلُّ لامرأة تؤمن بالله وبقضائه وقَدَره، وتؤمن باليوم الآخر، أن تزيد في الإحداد عمَّا هو مقدَّر، على ميِّت غيرِ زوج ثلاثةَ أيام بلياليها، وعلى الزوج أربعةَ أشهر وعشْرًا.

«إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا» "والحكمةُ في وجوب الإحداد على الزوج أربعةَ أشهر وعشْرًا، في عدَّة الوفاة دون الطلاق؛ لأن الزينة والطِّيب يَدْعُوَانِ إلى النكاح، ويُوقِعان فيه، فنُهِيَت عنه ليكون الامتناع من ذلك زاجرًا عن النكاح؛ لكون الزوجِ ميِّتًا لا يَمنَع مُعْتَدَّتَه من النكاح، ولا يُراعيه ناكحُها، ولا يخاف منه، بخلاف المطلِّق الحيِّ؛ فإنه يَستغني بوجوده عن زاجرٍ آخَرَ، ولهذه العلَّة وجبت العِدَّة على كلِّ متوفًّى عنها، وإن لم تكن مدخولاً بها، بخلاف الطلاق، فاستُظهر للميِّت بوجوب العدَّة، وجُعِلت أربعةَ أشهر وعشْرًا؛ لأن الأربعة فيها يُنفَخ الروح في الولد إن كان، والعشْرَ احتياطًا، وفي هذه المدَّة يتحرَّك الولد في البطن، قالوا: ولم يُوكَل ذلك إلى أمانة النساء، ويُجعَل بالأقراء كالطلاق؛ لِمَا ذكرناه من الاحتياط للميِّت، ولَمَّا كانت الصغيرةُ من الزوجات نادرةً، أُلحقت بالغالب في حكم وجوب العِدَّة والإحداد" [1].

وفي الحديث دليلٌ علي وجوب الإحداد على المعْتَدَّة من وفاة زوجها، وهو مُجمَع عليه في الجُملة، وإن اختلفوا في تفصيله، فذهب الشافعيُّ والجمهور إلى التسوية بين المدخول بها وغيرها، سواءٌ كانت صغيرةً أو كبيرة، بكرًا أو ثيِّبًا، حرَّةً أو أمَةً، مُسلِمة أو كافرة. وقال أبو حنيفة والكوفيُّون وبعض المالكية: لا يَجِب على الكتابية؛ بل يختصُّ بالمسلمة؛ 

لقوله ﷺ:

«لا يَحِلُّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدَّ على ميِّت فوق ثلاث»

[2]،

وتأويلُ الجمهور بأن الاختصاص إنما هو لأن المؤمن هو الذي يستمِرُّ خطاب الشارع عليه، ويَنتفِع به، وينقاد له.

وقال أبو حنيفة: لا إحداد أيضًا على الصغيرة، ولا على الأمَة، وجوابُه أن الصغيرة إنما دَخَلت في الحكم؛ لكونها نادرةً، فسلكت في الحكم على سبيل الغلبة.

والتقيُّد بقوله: «أربعة أشهر وعشرًا» خرج علي غالب المعْتَدَّات اللاتي يَعْتَدِدْنَ بالأشهر، أما إذا كانت حاملاً، فعِدَّتُها بالحَمْلِ، ويَلزَمها الإحداد حتى تضع، سواءٌ قَصُرت المدَّة أو طالت [3].

«ولا تَلبَس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عصْب»؛ أي: لا تَلبَس الثيابَ المصبوغة للزينة، "ومعنى الحديث: النهيُ عن جميع الثياب المصبوغة للزينة إلا ثوبَ العَصْب. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادَّة لُبْسُ الثياب المعصْفَرة والمصبَغة، إلا ما صُبغ بسَوَاد، فرخَّص بعض العلماء بالمصبوغ بالسواد، وكَرِهه بعضهم، والأصحُّ عند أصحابنا تحريمُه مطلَقًا، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ لمن أجازه" [4].

«ولا تكتحل»؛ أي: لا تَستعمِل الكُحل، وهذا دليلٌ على تحريم الاكتحال على الحادَّة، سواءٌ احتاجت إليه أم لا. "وجاء في الحديث الآخَر في الموطَّأ وغيره في حديث أم سلمة: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار» [5]، ووجهُ الجمع بين الأحاديث أنها إذا لم تَحْتَجْ إليه لا يَحِلُّ لها، وإن احتاجت لم يَجُزْ بالنَّهار ويجوز باللَّيل، مع أن الأَوْلى تَرْكُه، فإن فعلتْه، مَسَحَتْه بالنَّهار، فحديثُ الإذن فيه لبيان أنه بالليل للحاجة غيرُ حرام، وحديث النهيِ محمولٌ على عدم الحاجة... وقد اختلف العلماء في اكتحال الْمُحِدَّة، فقال بعض العلماء: يجوز إذا خافت على عينها بكُحل لا طِيب فيه، وجوَّزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طِيبٌ، ومذهبُنا جوازُه ليلاً عند الحاجة بما لا طِيبَ فيه" [6].

قوله: «ولا تمسُّ طِيبًا إلا إذا طهرت نُبذةً من قُسط أو أظفار»: النُّبذة: الشيءُ اليَسير، وأُدخِل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة، وإنما رخِّص لها في هذا عند الاغتسال من الحَيض لقَطْعِ الروائح الكريهة، والتنظيف تتتبَّع به أَثَر الدَّم، لا التطيُّب، وظاهرُه: أنها تتبخَّر بذلك [7].

المراجع

1. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 113).

2. رواه البخاريُّ (1280)، ومسلم (1486).

3.  "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (7/ 2371).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 118).

5. "الموطَّأ" (1757).

 شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 118).

6. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 114).

7. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (4/ 289) بتصرُّف.

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء: والحكمةُ في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاة دون الطلاق؛ لأن الزينة والطِّيب يَدْعُوَانِ إلى النكاح، ويُوقِعان فيه، فنُهِيَت عنه ليكون الامتناع من ذلك زاجرًا عن النكاح؛ لكون الزوجِ ميِّتًا لا يَمنَع مُعْتَدَّتَه من النكاح، ولا يُراعيه ناكحُها، ولا يخاف منه، بخلاف المطلِّق الحيِّ؛ فإنه يَستغني بوجوده عن زاجرٍ آخَرَ، ولهذه العلَّة وجبت العِدَّة على كلِّ متوفًّى عنها، وإن لم تكن مدخولاً بها، بخلاف الطلاق، فاستُظهر للميِّت بوجوب العدَّة، وجُعِلت أربعةَ أشهر وعشْرًا؛ لأن الأربعة فيها يُنفَخ الروح في الولد إن كان، والعشْرَ احتياطًا، وفي هذه المدَّة يتحرَّك الولد في البطن، قالوا: ولم يُوكَل ذلك إلى أمانة النساء، ويُجعَل بالأقراء كالطلاق؛ لِمَا ذكرناه من الاحتياط للميِّت، ولَمَّا كانت الصغيرةُ من الزوجات نادرةً، أُلحقت بالغالب في حكم وجوب العِدَّة والإحداد" [1].

قال القاضي عياض رحمه الله: "قوله: «ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب» إشارةٌ إلى خَشِن الثياب، وما لا كثير زينة فيه من المصبوغ. قال القاضي: قال ابن المنذر: أجمعوا على أنه لا يجوز لها لباس المصبَغة والمعصفرة إلا ما صُبغ بالسَّواد، ورخَّص في السَّواد مالك والشافعيُّ، وهو قول عروة. وكَرِه ذلك الزُّهْريُّ، وكره عروة والشافعيُّ العَصْبَ وهي بُرود اليمن، يُعصَب غزلها ثم يُصبَغ معصوبًا، ثم يُنسَج فيتوشَّى. وأجاز ذلك الزهريُّ لها، وأجاز مالك غليظه. قال ابن المنذر: ورخَّص كلُّ مَن يُحفَظ عنه العلم في البَيَاض. قال القاضي: ذهب الشافعيُّ إلى أن كلَّ صِبغ زينةٌ فلا تَلبَسه الحادَّ، غليظًا كان أو رقيقًا. ونحوه للقاضي أبى محمد عبد الوهاب قال: كلُّ ما كان من الألوان يتزيَّن به النساء لأزواجهن فتُمنَع منه الحادُّ، ومنع بعض متأخِّري شيوخنا من جيِّد البيّاض الذي يُتزيَّن به ويجمل، وكذلك الرفيع من السَّوَاد.

وقوله: «ولا تمسُّ طيبًا إلا إذا طهرت نبذة من قُسط أو أظفار»: النُّبذة: الشيء اليسير، وأُدخِل فيه الهاء لأنه بمعنى القطعة. وإنما رخّص لها في هذا كما قال في الحديث: «ورخّص للمرأة في طُهرها» لأجل قطع الروائح الكريهة والتنظُّف، لا على معنى التطيُّب والتزيُّن، مع أن القُسط والأظفار ليس من مؤنَّث الطِّيب المستعمل نفسه في ذلك، فرخِّص في اليسير منه للضرورة، وظاهره التبخُّر بهما. وقال الداوديُّ: معناه: أن تسحق القُسط وتُلقيه في الماء آخِرَ غُسلها ليَذهَب برائحة الحَيض، كما قال للمستحاضة: «خذي فرصة ممسَّكة فتتبَّعي بها أَثَر الدم»، والأول أظهر. والقُسط ليس بطيِّب برائحته إلا في البخور، وكذلك الأظفار، لا سيَّما مع القُسط، فهو بخورٌ مستعمَل معروف، والقُسط معلوم من الأنواع المستعمَلة في البخور، وأكثرُ ما يُستعمَل هو والقُسط مع غيره، لا بمجرَّده" [2].

قال النوويُّ رحمه الله: "ومعنى الحديث: النهيُ عن جميع الثياب المصبوغة للزينة إلا ثوبَ العَصْب. قال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنه لا يجوز للحادَّة لُبْسُ الثياب المعصْفَرة والمصبَغة، إلا ما صُبغ بسَوَاد، فرخَّص بعض العلماء بالمصبوغ بالسواد، وكَرِهه بعضهم، والأصحُّ عند أصحابنا تحريمُه مطلَقًا، وهذا الحديثُ حُجَّةٌ لمن أجازه" [3].

قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قَالَ: «لَا تُحِدُّ» بضمِّ حرف المضارعة وكسر الحاء المهملة، ويجوز ضمُّ الدّال على أن لا نافية، وجزمُها على أنّها نهي. «امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ» بفتح العين المهملة وسكون الصّاد المهمَلة فباء موحَّدة في النّهاية، إنّها برودٌ يَمَنيّة يُعصَب غَزْلها؛ أي: يُجمَع ويُشَدُّ ثمّ يُصبَغ ويُنشَر فيبقى موشًّى لبقاء ما عُصِب منه أبيضَ لم يأخذه الصّبغ. «وَلَا تَكْتَحِلُ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً» بضمِّ النّون وسكون الباء الموحَّدة فذال مُعجَمة؛ أي: قطعةً «من قُسط» بضمِّ القاف وسكون السّين المهملة. في النّهاية أنّه ضَرْبٌ من الطِّيب، وقيل: العود، «أو أظفار»" [4].

قال النوويُّ رحمه الله: "وجاء في الحديث الآخَر في الموطَّأ وغيره في حديث أم سلمة: «اجعليه بالليل وامسحيه بالنهار» [5]، ووجهُ الجمع بين الأحاديث أنها إذا لم تَحْتَجْ إليه لا يَحِلُّ لها، وإن احتاجت لم يَجُزْ بالنَّهار ويجوز باللَّيل، مع أن الأَوْلى تَرْكُه، فإن فعلتْه، مَسَحَتْه بالنَّهار، فحديثُ الإذن فيه لبيان أنه بالليل للحاجة غيرُ حرام، وحديث النهيِ محمولٌ على عدم الحاجة... وقد اختلف العلماء في اكتحال الْمُحِدَّة، فقال بعض العُلَماء: يجوز إذا خافت على عينها بكُحل لا طِيب فيه، وجوَّزه بعضهم عند الحاجة وإن كان فيه طِيبٌ، ومذهبُنا جوازُه ليلاً عند الحاجة بما لا طِيبَ فيه" [6].

المراجع

1. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 113).

2. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (5/ 74).

3. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 118).

4. "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 291).

5. "الموطَّأ" (1757).

 شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 118).

6. "شرح النوويِّ على مسلم" (10/ 114)

غريب الحديث

الفرائض: أي: الأنصبة المقدَّرة في كتاب الله، وهي: النصفُ، والرُّبُعُ، والثُّمن، والثُّلثان، والثُّلث، والسُّدس [1].

المراجع

1. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (23/ 236).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللَّه عنهما، عن النَّبِيِّ  أنه قَالَ:«أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا»؛ أي: أيها القائمون على توزيع الميراث، ابدؤوا بإعطاء أصحاب الفروض أنصبتهم المحدَّدة لهم من قِبَلِ الله تعالى. «فَمَا بَقِيَ»؛ أي: فما بَقِيَ من التركة بعد إعطاء أصحاب الأنصبة أنصبتهم. «فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»؛ أي: أعطوا الباقيَ من التركة لأقرب رجل نَسَبًا من الميِّت؛ (أي: عَصَبة الميِّت).

الشرح المفصَّل للحديث

هذا الحديث الجليلُ أصلٌ عظيم في باب الفرائض، وقِسْمة المواريث، ومن جوامع كَلِم النبيِّ ﷺ، وهو أوَّلُ الأحاديث الثمانية التي زادها الحافظ ابن رجب رحمه الله، فأكمل العدَّة خمسين حديثًا، على ما جَمَعه الإمام النوويُّ رحمه الله في الأحاديث الأربعين، التي عُرفت بـ(الأربعين النووية)، وفيه: يَأمُر النبيُّ ﷺ القائمين على توزيع الميراث أن يبدؤوا بأصحاب الفروض التي ذكرها ربُّ العزَّة عزَّ وجلَّ في كتابه، وما بَقِيَ يكون من حقِّ أقربِ الرجال إلى الميِّت، وهو العَصَبة، والْعصبَةُ: كلُّ ذَكَر بينه وبين الميِّت نَسَبٌ، يَحُوزُ المال إذا انفرد، ويَرِث ما فَضَل إن لم ينفرِد؛ كالأخ والعمِّ؛ فإن كلَّ واحدٍ منهما يحوز المال إذا انفرد، وإن كان مع ذَوي سِهامٍ، أخذ ما فَضَل [1].

فيقول ﷺ:  «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا»؛ أي: أعطوا الفرائض المقدَّرة لمن سمَّاها اللهُ لهم [2]، والمعنى: أعطوا هذه الأنصبة، وهي: (النصفُ، والرُّبع، والثُّمن، والثُّلثان، والثُّلث، والسُّدس) لمن ذَكَرهم الله في كتابه الكريم، ويؤيِّده رواية: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللهِ»؛ أي: على وَفْقِ ما أنزل الله في كتابه، و"الفرائض: جمع فريضة، وأصلُ الفرض: القَطْع، ويَعني بها: الفرائضَ الواقعة في كتاب الله تعالى، وهي ستَّة: النِّصف، والرُّبع، والثُّمن، والثُّلثان، والثُّلث، والسُّدس، فالنصف فرضُ خمسةٍ: ابنةُ الصُّلب، وابنةُ الابنِ، والأختُ الشَّقيقةُ، والأختُ للأبِ، والزَّوْجُ، وكلُّ ذلك إذا انفردوا عمَّن يَحجُبُهم عنه، والرُّبع: فرضُ الزَّوج مع الحاجب، وفرضُ الزوجة، أو الزوجات مع عَدَمه، والثُّمن: فرضُ الزوجة، أو الزوجات مع الحاجب، والثُّلثان فرضُ أربعٍ: الاثنتين فصاعدًا من بنات الصُّلب، أو بناتِ الابن، أو الأخواتِ الأشقَّاءِ أو للأب. وكلُّ هؤلاء إذا انفردْنَ عمَّن يَحجُبهنَّ عنه، والثُّلث فرض صِنفين: الأُمُّ مع عدم الولدِ، ووَلَدِ الابن، وعَدَمِ الاثنين فصاعدًا من الإخوة والأخوات، وفرضُ الاثنين فصاعدًا من وَلَدِ الأُمِّ، وهذا هو ثُلث كلِّ المال، فأمَّا ثُلث ما يبقى، فذلك للأُمِّ في مسألة: زوجٌ أو زوجةٌ وأبَوَانِ، فللأمِّ فيها ثلثُ ما يَبقى، وفي مسائل الجَدِّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سَهْمٍ، وكان ثُلث ما يبقى أحظى له، والسُّدس فرضُ سبعة: فرض كلِّ واحد من الأبوينِ والجَدِّ مع الولد وولدِ الابن، وفرضُ الجَدَّة والجَدَّات إذا اجتمعْنَ، وفرضُ بنات الابن مع بِنْتِ الصُّلب، وفرضُ الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، وفرضُ الواحد من وَلَدِ الأمِّ، ذكرًا كان أو أنثى، وهذه الفروض كلُّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى، إلا فرضَ الجَدَّات فإنَّه مأخوذ من السُّنَّة، فهؤلاء أهلُ الفرائض الذين أَمَرَ النبيُّ ﷺ أن يُقْسَم المال عليهم لَمَّا قال: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ» [3]، وهو معنى قوله: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا»" [4].

قوله ﷺ: «فَمَا بَقِيَ»؛ أي: فما بَقِيَ بعد أن أَخَذ أهل الفروض سِهامَهم المقدَّرة لهم شرعًا، «فَهُوَ لِأَوْلَى»؛ أي: لأقربِ رجلٍ من العَصَبة [5]، "يريد إذا كان في الذكور مَن هو أَوْلى من صاحبه بقُرب أو ببَطْنٍ، وأما إن استَوَوْا في القُرب، وأدْلَوْا بالآباء والأمَّهات معًا؛ كالإخوة وشَبَهِهم، فلم يُقصَدوا بهذا الحديث؛ لأنه ليس في البنين من هو أَوْلى من غيره؛ لأنهم قد استوَوْا في المنزلة، ولا يجوز أن يُقال: أَوْلى، وهم سواءٌ" [6]، «رَجُلٍ ذَكَرٍ»: "وَصَفَ الرجلَ بأنه ذَكَر؛ تنبيهًا على سبب استحقاقه، وهو الذُّكورة التي هي سببُ العُصوبة، وسبب الترجيح في الإرث؛ ولهذا جَعَل للذَّكَر مثلَ حظِّ الأُنْثَيين، وحِكْمَته أن الرجال تَلْحَقُهم مُؤَنٌ كثيرةٌ، بالقيام بالعِيال، والضِّيفَان، والأرقَّاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمُّل الغرامات، وغيرِ ذلك، والله أعلم، وهذا الحديثُ في توريث العَصَبات، وقد أجمع المسلمون على أن ما بَقِيَ بعد الفروض فهو للعَصَبات، يقدَّم الأقربُ فالأقربُ، فلا يَرِثُ عاصب بَعِيدٌ مع وجود قريب، فإذا خلَّف بنتًا وأخًا وعمًّا، فللبنت النصفُ فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعمِّ" [7].

و"إنما كرَّر البيان في نَعْتِهِ بالذُّكورة؛ ليُعلَم أنَّ العَصَبة إذا كان عَمًّا أو ابنَ عمٍّ أو مَن كان في مَعناهُما، فكان معه أختٌ له، أنَّ الأخت لا تَرثُ شيئًا، ولا يكون باقي المال بينهما للذَّكر مِثلُ حَظِّ الأُنْثيَيْنِ، كما يكون ذَلِك فِيمَن يرِث بالولادة" [8].

المراجع

1. "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (2/ 335).

2. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 419).

3.  رواه مسلم (1615).

4. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (4/ 564).

5. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاريِّ" للخطَّابيِّ (4/ 2288).

6. ينظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 347).

7. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 53).

8. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاريِّ" للخطَّابيِّ (4/ 2289).

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: «أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ»، وَفِي رِوَايَةٍ: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ، فَمَا تَرَكَتِ الْفَرَائِضُ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ». قال العلماء: "المراد ب (أَوْلى رجل): أقربُ رجل، مأخوذٌ من الْوَلْيِ بإسكان اللام، على وزن الرَّمْيِ، وهو القُرب، وليس المراد ب(أَوْلى) هنا أحقَّ، بخلاف قولهم: الرجلُ أَوْلى بماله؛ لأنه لو حُمِل هنا على (أحقّ) لَخَلا عن الفائدة؛ لأنا لا ندري من هو الأحقُّ" [1].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "الفرائض: جمع فريضة، وأصلُ الفرض: القَطْع، ويَعني بها: الفرائضَ الواقعة في كتاب الله تعالى، وهي ستَّة: النِّصف، والرُّبع، والثُّمن، والثُّلثان، والثُّلث، والسُّدس، فالنصف فرضُ خمسةٍ: ابنةُ الصُّلب، وابنةُ الابنِ، والأختُ الشَّقيقةُ، والأختُ للأبِ، والزَّوْجُ، وكلُّ ذلك إذا انفردوا عمَّن يَحجُبُهم عنه، والرُّبع: فرضُ الزَّوج مع الحاجب، وفرضُ الزوجة، أو الزوجات مع عَدَمه، والثُّمن: فرضُ الزوجة، أو الزوجات مع الحاجب، والثُّلثان فرضُ أربع: الاثنتين فصاعدًا من بنات الصُّلب، أو بناتِ الابن، أو الأخواتِ الأشقَّاءِ، أو للأب. وكلُّ هؤلاء إذا انفردْنَ عمَّن يَحجُبهنَّ عنه، والثُّلث فرض صِنفين: الأُمُّ مع عدم الولدِ، ووَلَدِ الابن، وعَدَمِ الاثنين فصاعدًا من الإخوة والأخوات، وفرضُ الاثنين فصاعدًا من وَلَدِ الأُمِّ، وهذا هو ثُلث كلِّ المال، فأمَّا ثُلث ما يبقى، فذلك للأُمِّ في مسألة: زوجٌ أو زوجةٌ وأبَوَانِ، فللأمِّ فيها ثلثُ ما يَبقى، وفي مسائل الجَدِّ مع الإخوة إذا كان معهم ذو سَهْمٍ، وكان ثُلث ما يبقى أحظى له، والسُّدس فرضُ سبعة: فرض كلِّ واحد من الأبوينِ والجَدِّ مع الولد وولدِ الابن، وفرضُ الجَدَّة والجَدَّات إذا اجتمعْنَ، وفرضُ بنات الابن مع بِنْتِ الصُّلب، وفرضُ الأخوات للأب مع الأخت الشقيقة، وفرضُ الواحد من وَلَدِ الأمِّ، ذكرًا كان أو أنثى، وهذه الفروض كلُّها مأخوذةٌ من كتاب الله تعالى، إلا فرضَ الجَدَّات فإنَّه مأخوذ من السُّنَّة، فهؤلاء أهلُ الفرائض الذين أَمَرَ النبيُّ  أن يُقْسَم المال عليهم لَمَّا قال: «اقْسِمُوا الْمَالَ بَيْنَ أَهْلِ الْفَرَائِضِ» [2]، وهو معنى قوله: «أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا»" [3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «رجل ذكر»: وَصَفَ الرجلَ بأنه ذَكَر؛ تنبيهًا على سبب استحقاقه، وهو الذُّكورة التي هي سببُ العُصوبة، وسبب الترجيح في الإرث؛ ولهذا جُعِل للذَّكَر مثلَ حظِّ الأُنْثَيين، وحِكْمَته أن الرجال تَلْحَقُهم مُؤَنٌ كثيرةٌ، بالقيام بالعِيال، والضِّيفَان، والأرقَّاء، والقاصدين، ومواساة السائلين، وتحمُّل الغرامات، وغيرِ ذلك، والله أعلم، وهذا الحديثُ في توريث العَصَبات، وقد أجمع المسلمون على أن ما بَقِيَ بعد الفروض فهو للعَصَبات، يقدَّم الأقربُ فالأقربُ، فلا يَرِثُ عاصب بَعِيدٌ مع وجود قريب، فإذا خلَّف بنتًا وأخًا وعمًّا، فللبنت النصفُ فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعمِّ" [4].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "يريد إذا كان في الذكور مَن هو أَوْلى من صاحبه بقُرب أو ببَطْنٍ، وأما إن استَوَوْا في القُرب، وأدْلَوْا بالآباء والأمَّهات معًا؛ كالإخوة وشَبَهِهم، فلم يُقصَدوا بهذا الحديث؛ لأنه ليس في البنين من هو أَوْلى من غيره؛ لأنهم قد استوَوْا في المنزلة، ولا يجوز أن يُقال: أَوْلى، وهم سواءٌ" [5].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال أصحابنا: وَالْعَصَبَةُ ثلاثة أقسام: عَصَبَةٌ بنفسه؛ كالابن وابنه، والأخ وابنه، والعمِّ وابنه، وعمِّ الأب والَجدِّ وابنهما، ونحوهم، وقد يكون الأبُ والجَدُّ عَصَبةً، وقد يكون لهما فرض، فمتى كان للميّت ابن أو ابن ابن، لم يرث الأبُ إلّا السُّدس فرضًا، ومتى لم يكن ولد ولا ولد ابن، وَرِث بالتَّعصيب فقط، ومتى كانت بنت أو بنت ابن أو بنتان أو بنتا ابن، أخذ البنات فرضهنَّ، وللأب من الباقي السُّدس فرضًا، والباقي بالتّعصيب، هذا أحد الأقسام، وهو الْعَصَبَةُ بنفسه. القسم الثاني: العَصَبة بغيره، وهو البناتُ بالبَنِين، وبناتُ الابنِ ببَني الابن، والأخواتُ بالإخوة. والثالث: العَصَبة مع غيره، وهو الأخواتُ للأبوينِ أو للأب مع البنات وبناتِ الابن، فإذا تَرَك الميِّت بنتًا وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنت النّصفُ فرضًا، والباقي للأخت بالتّعصيب، وإن خلَّف بنتًا وبنتَ ابن وأختًا لأبوين أو أختًا لأب، فللبنت النّصفُ، ولبنت الابن السُّدس، والباقي للأخت، وإن خلَّف بنتين وبنتَيِ ابن وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنتين الثُّلثان، والباقي للأخت، ولا شيء لبنتَيِ الابن؛ لأنّه لم يبقَ شيء من فرض جنس البنات، وهو الثّلثان" [6].

قال الخطابيُّ رحمه الله: "إنما كرَّر البيان في نَعْتِهِ بالذُّكورة؛ ليُعلَم أنَّ العَصَبة إذا كان عَمًّا أو ابنَ عمٍّ أو مَن كان في مَعناهُما، فكان معه أختٌ له، أنَّ الأخت لا تَرثُ شيئًا، ولا يكون باقي المال بينهما للذَّكر مِثلُ حَظِّ الأُنْثيَيْنِ، كما يكون ذَلِك فِيمَن يرِث بالولادة " [7].

قال النوويُّ رحمه الله: "قال أصحابنا: وحيث أُطلِق العَصَبة، فالمراد به العَصَبة بنفسه، وهو كلُّ ذكر يُدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميِّت أنثى، ومتى انفرد العَصَبة أخذ جميع المال، ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرَقة فلا شيء له، وإن لم يَستغرِقوا كان له الباقي بعد فروضهم، وأقربُ العصبات البنون ثم بنوهم، ثمّ الأبُ، ثمّ الجَدُّ، إن لم يكن أخ، والأخ إن لم يكن جَدٌّ، فإن كان جَدٌّ وأخ، ففيها خلاف مشهور، ثمّ بنو الإخوة، ثمّ بنوهم وإن سَفَلوا، ثمّ أعمام الأب ثمّ بنوهم وإن سفلوا، ثمّ أعمام الجَدِّ ثمّ بنوهم، ثمّ أعمام جَدِّ الأب ثمّ بنوهم، وهكذا، ومن أدلى بأبوين يُقدَّم على من يُدلي بأب، فيُقدَّم أخ من أبوين على أخ من أب، ويقدَّم عمٌّ لأبوين على عمٍّ بأب، وكذا الباقي، ويقدَّم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين؛ لأنّ جهة الأخوَّة أقوى وأقرب، ويقدَّم ابن أخ لأب على عمٍّ لأبوين، ويقدَّم عمٌّ لأب على ابن عمٍّ لأبوين، وكذا الباقي، واللّه أعلم" [8].

المراجع

1. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 53).

2. رواه مسلم (1615).

3. "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (4/ 564).

4. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 53، 54).

5. ينظر: "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (8/ 347).

6. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 54).

7. "أعلام الحديث شرح صحيح البخاريِّ" للخطَّابيِّ (4/ 2289).

8. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 54).

الشرح الإجماليُّ للحديث

يروي أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: سبعة أصناف من أهل الإيمان، يمنُّ الله عليهم بظلِّه يوم القيامة حيث لا يملك أحد الظلَّ إلا الله تعالى، فيَقِيهم من حرِّ الشمس ووَهَجها، وهم: «الإِمَامُ العَادِلُ» وهو الحاكم أو السلطان أو خليفة المسلمين يحكم بالعدل ويتحرَّاه، «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ» هو الشابُّ الذي منذ صغره وهو في عبادة الله تعالى، فنَمَا وتربَّى على العبادة، فصارت العبادة كأنها غريزة له، فأَلِفها وأحبَّها، «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ»، فهو شديد الحبِّ للمساجد، والملازمة لصلاة الجماعة فيها، «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»؛ أي: تجمعهما رابطة الدين وحبُّه، وحبُّهما في الله، لا من أجل منفعة أو قرابة، فيجتمعان لله ويتفرَّقان لله، «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»؛ أي: طلبته لفعل الفاحشة، والزِّنا بها، فامتنع؛ لشدِّة خوفه من الله تعالى، وتقواه، وحيائه، «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»؛ أي: تصدَّق فبالغ في الإخفاء وطلب الإخلاص والاستتار بالصدقة عند بذلها، بحيث إنه لا تَعلَم الشمال بما تصدَّقت اليمين مع قربُهما الشديد، «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه»؛ أي: ذكر الله بقلبه وفِكره، أو مع لسانه، في موضع ليس فيه أحد غيره، ففاضت وسالت دموع عينيه.

الشرح المفصَّل للحديث

يجمع الله الخلائق يوم القيامة في الْمَحشَر العظيم، فيَشتَدُّ الكَرْبُ، وتدنو الشمس من الرؤوس، ويشتدُّ الحَرُّ على أهل الْمَوقِف؛ إلا أن هناك أناسًا يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول في الحديث الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: سبعة أصناف من أهل الإيمان، «يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ "أي: ظلُّ عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لربِّ العالمين، وقَرُبت الشمس من الرؤوس، واشتدَّ عليهم حرُّها، وأخذهم العَرَق، ولا ظِلَّ هناك لشيء إلا العرش" [1]. وقيل: "يَخلُق الله لهم ما يُظلُّهم يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، وليس في ذلك اليوم بناء، ولا شَجَر، ولا جبال تُظلِّل، وليس هناك إلا ظلُّ ربِّ العالمين، هذا الظلُّ يُظلُّ الله فيه من يشاء من عباده" [2].

وأما قوله ﷺ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، فلا ينحصر العدد في هذه السبعة؛ فقد أتى غير هذه الأصناف السبعة في أحاديثَ أخرى؛ مثلما "وقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعًا: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه» [3]، وهاتان الخصلتان – أي: إنظار الْمُعسِر، أو التنازل له عن شيء من الدَّيِن.- غير السّبعة الماضية، فدلَّ على أن العدد المذكور لا يُقصَد به الحصر" [4].

وقد تتبَّع ابن حجر  "الأحاديثَ الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشْرِ خصال، وقد انتقى منها سبعةً وردت بأسانيدَ جِيادٍ، ونظمها في بيتينِ؛ تذييلًا على بيتَيْ أبي شامة، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً: إِظْلَالَ غَازٍ، وَعَوْنَهُ = وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حِمْلِهِ

وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ = وَتَاجِرَ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ" [5].

ويقصد البيتين اللذين جمع فيهما أبو شامة  السبعة المذكورين في الحديث، وهما:

وَقَالَ النَّبِيُّ الْمُصْطَفَى: إِنَّ سَبْعَةً = يُظِلُّهُمُ اللهُ الكريمُ بِظِلِّهِ

مُحِبٌّ عَفِيفٌ نَاشِئٌ مُتَصَدِّقٌ = وَبَاكٍ مُصَلٍّ وَالإمامُ بِعَدْلِهِ [6]

أول السبعة: «الإِمَامُ العَادِلُ»: "والمراد به صاحبُ الولاية العُظمى، ويَلتحِق به كلُّ من وَلِيَ شيئًا من أمور المسلمين فعَدَل فيه، ويؤيِّده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه: «إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا» [7]، وأحسن ما فسِّر به العادل أنه الذي يتَّبِع أمر الله بوضع كلِّ شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدَّمه في الذِّكر لعموم النفع به" [8]. فالإمام العادل "هو كلُّ من إليه نَظَرٌ في شيء من مصالح المسلمين من الوُلاة والحكَّام، وبدأ به لكثرة مصالحه، وعموم نفعه" [9].

"وأول هذه السبعة: الإمام العادل، وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة، وهو على مِنبَر من نور على يمين الرحمن - عزَّ وجلَّ - وذلك جزاءً لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شَهَواته وطَمَعه وغضبه، مع قُدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دَعَتْه الدنيا كلُّها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين، وهذا أنفع الخلق لعباد الله؛ فإنه إذا صَلَح صَلَحت الرعيَّة كلُّها، وقد رُوِي أنه ظلُّ الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلَّهم يستظلُّون بظلِّه، فإذا عدل فيهم، أَظلَّه الله فِي ظلِّه" [10].

الثاني: «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ»: هو الشابُّ الذي منذ صغره وهو في عبادة الله تعالى، فنَمَا وتربَّى على العبادة، فصارت العبادة كأنها غريزة له، فأَلِفها وأحبَّها، وخصَّ الله تعالى الشابَّ دون الصغير أو الكبير في السنِّ؛ لأن الشابَّ مَظِنَّة غَلَبة الشهوة، فباعث الهوى والشهوة والانحراف فيه قويٌّ، فإذا لازَمَ العبادة مع ذلك، كان أدلَّ على غلبة التقوى.

الثالث: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ»، "ومعناه: شديد الحبِّ لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دَوَامَ القُعود في المسجد" [11]، فهو من شدَّة حُبِّه تعلَّق قلبُه بها، وإن كان جسده خارجًا عنها؛ فالمقصود طول الملازمة بالقلب حتى يعود إليها، ويتردَّد إلى صلاة الجماعة، وذكر الله فيها، ومن كانت هذه صفتَه، فهي دليل على قوَّة صلته بربِّه تعالى، وقد مدح الله تعالى في كتابه أهل المساجد وبشَّرهم بما ينتظرهم من الجزاء والفضل؛

قال تعالى:

﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ 36 رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ 37لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ 

[النور: ٣٦ – ٣٨].

وللصلاة مكانةٌ عُظمى في دين الله ، وقد أمر اللهُ  في كتابه العزيز بالمحافظة عليها؛

فقال تعالى:

﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ﴾  

[البقرة: 238]،

وبيَّن سبحانه أن من صفات المؤمنين المحافظةَ على الصلاة،

فقال سبحانه:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾  

[المؤمنون: 9].

الرابع: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»؛ أي: تجمعهما رابطة الدين وحبُّه، وحبُّهما في الله، ليست هذه محبَّةَ إِلْفٍ وعادة، أو محبَّة طِباع متشابهة، أو تقارب نفسيٍّ، أو عواطفَ هوجاءَ، أو محبَّة لمصالح دنيوية أو مالية، أو من أجل منفعة أو قرابة، فهذان الرجلان اجتمعا من أجل الله وذكره، وتفرَّقا على ذلك، اجتمعا على المعاهدة على الطاعة، وتفرَّقا على ذلك.

"قوله ﷺ: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» معناه: اجتمعا على حبِّ اللّه، وافترقا على حبِّ اللّه؛ أي: كان سببُ اجتماعهما حبَّ اللّه، واستمرَّا على ذلك حتّى تفرَّقا من مجلسهما، وهما صادقان في حبِّ كلِّ واحد منهما صاحبَه للّه تعالى حالَ اجتماعهما وافتراقهما، وفي هذا الحديث الحثُّ على التّحابِّ في اللّه، وبيان عِظَم فضله، وهو من الْمُهمَّات؛ فإنّ الحبَّ في اللّه، والبُغض في اللّه من الإيمان" [12].

و"إنك إذا أحببتَ الشخص لله، كان الله هو المحبوبَ لذاته، فكلَّما تصوَّرتَه في قلبك، تصوَّرت محبوب الحقِّ فأحببته، فازداد حبُّك لله، كما إذا ذكرتَ النَّبيَّ ﷺ، والأنبياء قبله، والمرسلين، وأصحابهم الصالحين، وتصوَّرتهم في قلبك، فإنَّ ذلك يجذب قلبك إلى محبَّة الله، المنعم عليهم، وبهم، إذا كنتَ تحبُّهم لله، فالمحبوب لله يجذب إلى محبَّة الله، والمحبُّ لله إذا أحبَّ شخصًا لله، فإن الله هو محبوبه، فهو يحبُّ أن يجذبه إلى الله تعالى، وكلٌّ من المحبِّ لله والمحبوب لله يَجذِب إلى الله" [13]. 

وإن المؤمن ليذوق حلاوة الإيمان بالحب في الله تعالى؛ 

قال النبيُّ ﷺ:

«ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ: أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»

[14].

فهذا حثٌّ من رسول الله ﷺ على الحبِّ في الله، الذي هو مِن أجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ لله خالقه، وهو امتداد للأخوَّة الإيمانية التي أرسى الإسلام قواعدها؛

كما قال الله تعالى:

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾

[الحجرات: 10]،

وقال سبحانه:

﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ﴾

[آل عمران: 103].

والمراد بالمَرْءِ: هو المسلم المؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وقد أفاد الحديث: أن محبَّة المؤمن الموصِّلة لحلاوة الإيمان لا بد أن تكون خالصةً لله تعالى، غيرَ مَشوبة بالأغراض الدنيوية؛ فإن مَن أحبَّه لذلك، انقطعت محبتُه إن حصل له ذلك الغرضُ، أو يئس من حصوله [15]، لذلك؛ ذكروا في حقيقة الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء [16].

الخامس: «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»؛ أي: طلبته لفعل الفاحشة، والزِّنا بها، فامتنع؛ لشدِّة خوفه من الله تعالى، وتقواه، وحيائه، "ويعني بالمنصب: النَّسَب والشَّرف والرِّفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذلك مع الجمال، فقد كَمُل الأمر، وقَوِيَت الرغبة، فإن كانت مع ذلك هي الطالبةَ الداعية إلي نفسها، كان أعظم وأعظم؛ فإن الامتناع بعد ذلك كلِّه دليل على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:

﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ﴾

[النازعات: 40]،

وهذا كما جرى ليوسفَ، عليه السلام" [17].

وقد "كان صبر يوسفَ عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها، أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسبَ له فيها؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس، ولا سيَّما مع الأسباب التي تَقْوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إليها قويَّة، وعَزَبًا ليس له ما يعوِّضه ويردُّ شهوته، وغريبًا والغريبُ لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوكُ أيضًا ليس وازعُه كوازع الحرِّ، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيِّدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشدَّ الحرص، ومع ذلك توعَّدته إن لم يفعل بالسجن والصَّغار، ومع هذه الدواعي كلِّها، صَبَر اختيارًا وإيثارًا لِما عند الله، وأين هذا من صبره في الجُبِّ على ما ليس من كَسْبه؟!" [18].

و"يحتمل قوله: أخاف اللّه، باللّسان، ويحتمل قوله في قلبه؛ ليَزجر نفسه، وخصَّ ذات المنصب والجمال؛ لكثرة الرّغبة فيها وعُسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيَّما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقِّ التّوصُّل إلى مراودة ونحوها، فالصّبر عنها لخوف اللّه تعالى وقد دعت إلى نفسها، مع جمعها المنصبَ والجمال، من أكمل المراتب، وأعظم الطّاعات، فرتَّب اللّه تعالى عليه أن يُظلَّه في ظلِّه، وذات المنصب هي ذات الحسب والنَّسَب الشّريف، ومعنى [دعته]؛ أي: دعته إلى الزنا بها" [19].

وقد قيل: "الكمال في ثلاثة: العفَّة في الدين، والصبر على النوائب، وحسن التدبير في المعيشة" [20]. 

السادس: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ، أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ»؛ أي: تصدَّق فبالغ في الإخفاء وطلب الإخلاص والاستتار بالصدقة عند بذلها، بحيث إنه لا تعلم الشمال بما تصدَّقت اليمين مع قربُهما الشديد. "وفي هذا الحديث فضل صدقة السِّرِّ، قال العلماء: وهذا في صدقة التّطوُّع، فالسّرُّ فيها أفضل؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرّياء وأمّا الزّكاة الواجبة، فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصّلاة، فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضلُ؛

لقوله ﷺ:

«أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة»،

قال العلماء: وذَكَر اليمين والشّمال مبالغةً في الإخفاء والاستتار بالصّدقة، وضَرَب المثل بهما لقُرب اليمين من الشّمال، وملازمتها لها، ومعناه: لو قُدِّرت الشّمال رجلًا متيقِّظًا لَمَا عَلِم صَدَقة اليمين؛ لِمُبالغته في الإخفاء" [21].

السابع: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاه»؛ أي: ذكر الله بقلبه وفِكره، أو مع لسانه، في موضع ليس فيه أحد غيره، ففاضت وسالت دموع عينيه. "فهذا رَجُل يخشى الله فِي سرِّه، ويراقبه فِي خَلْوته، وأفضلُ الأعمال خشية الله في السرِّ والعلانية، وخشية الله في السر إنما تَصدُر عن قوَّة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى يدعو في الخَلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعزِّ الأشياء الوَرَع في الخَلوة. وذِكْرُ الله يشمل ذكر عَظَمته وبَطْشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف، ويشمل ذِكر جماله وكماله وبِرِّه ولُطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البرِّ والألطاف، لا سيَّما برؤيته في الجنة، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشَّوق. ويدخل في ذلك أيضًا رَجُلٌ ذَكَر أن الله معه حيثما كان، فتذكَّر معيَّته وقُربه واطِّلاعه عليه حيث كان يبكي حياءً منه، وهو من نوع الخوف أيضًا" [22].

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم:

«لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ»

[23].

وليس المراد من ذِكْر الرجل في الحديث أنه لا يَدخُل في الفضل إلا الرجال؛ بل يشترك النساء معهم فيما ذُكر، إلا فيما لا يكون من الأفضل للمرأة أن تتَّصِف به، فلا تدخل المرأة في فضل الإمام العادل، إن كان المراد به الإمامةَ العُظمى، وكذلك ملازمة المسجد؛ لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل، على أنه يُحتمَل دخولها في هذا الفضل، وذلك حين يكون قلبها معلَّقًا بالصلاة.

"فهل مِثْلُه من لا يَحضُر المساجد؛ لكن قلبه معلَّق بالصلاة؛ يعنى: امرأة مثلًا في بيتها، قلبُها معلَّق بالصلاة، أو إنسان مريض لا يستطيع الصلاة في المسجد؛ لكن قلبه معلَّق بالعبادة من باب أولى؛ لأن المساجد أماكن العبادة... الذي يظهر أن الذي قلبُه معلَّق بالصلاة، سواء كان يؤدِّيها في البيت لعُذر، أو لكونه ليس من أهل الجماعة، يدخل في الحديث" [24]. 

و"هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمَعَها معنًى واحدٌ، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى رياضة شديدة، وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّة شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّم عظيم؛ فإن القلب يكاد يحترق من حرِّ نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لم يُطْفأ ببلوغ الغَرَض من ذلك، فلا جَرَم كان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتدَّ الحرُّ في الموقف، ولم يكن للناس ِظٌّل يُظلُّهم ويَقِيهم حرَّ الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظلِّ الله - عزَّ وجلَّ - فلم يجدوا لحرِّ الموقف أَلَمًا؛ جزاءً لصبرهم على حرِّ نار الشهوة أو الغضب في الدنيا" [25].

المراجع

  1. "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لأبي الحسن المباركفوري (2/ 406).
  2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 90).
  3. رواه مسلم (7704).
  4. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
  5. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
  6. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 143).
  7. رواه مسلم (1827).
  8. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144، 145).
  9. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  10. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
  11. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  12. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  13. "مجموع الفتاوى" (10/608).
  14. رواه البخاريُّ (16)، ومسلم (43).
  15. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  16. انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).
  17. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48، 49).
  18. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 156).
  19. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
  20. "أدب الدنيا والدين" للماورديِّ (329).
  21. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
  22. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 50).
  23. رواه الترمذيُّ (1633)، والنسائيُّ (3108)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1269).
  24. "شرح البخاري" لابن عثيمين (3/84).
  25. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).


النقول

قال ابن حجر : "ووقع في صحيح مسلم من حديث أبي اليسر مرفوعًا:

«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّه»

[1]،

وهاتان الخصلتان غير السّبعة الماضية فدلّ على أن العدد المذكور لا مفهوم له... ثمّ تتبَّعتُ بعد ذلك الأحاديثَ الواردة في مثل ذلك، فزادت على عشْرِ خصال، وقد انتقيتُ منها سبعةً وردت بأسانيدَ جِيادٍ، ونظمتُها في بيتينِ؛ تذييلًا على بيتَيْ أبي شامة، وهما:

وَزِدْ سَبْعَةً: إِظْلَالَ غَازٍ، وَعَوْنَهُ = وَإِنْظَارَ ذِي عُسْرٍ وَتَخْفِيفَ حِمْلِهِ وَإِرْفَادَ ذِي غُرْمٍ وَعَوْنَ مُكَاتَبٍ = وَتَاجِرَ صِدْقٍ فِي الْمَقَالِ وَفِعْلِهِ"[ 2].

قال ابن عثيمين رحمه الله:

"قول النبيِّ ﷺ:

«سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»؛

أي: يوم القيامة، حيث تدنو الشمس الحارَّة العظيمة، التي نُحِسُّ بحرارتها الآن، وبيننا وبينها مئات السنين، هذه الشمس تدنو يوم القيامة، حتى تكون على رؤوس الخلائق بمقدار ميل؛ قال بعض العلماء: الميل: الْمُكحُلة، وميل المكحلة صغير أصغر من الإصبع، وقال بعضهم: ميل المسافة، وأيًّا كان الميل، فالشمس قريبة من الرؤوس؛ لكن هناك أناس يُظلُّهم الله في ظلِّه، يوم لا ظل إلا ظلُّه... يُظلُّهم الله: يعني يَخلُق لهم ما يُظلُّهم يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، وليس في ذلك اليوم بناء، ولا شَجَر، ولا جبال تُظلِّل، وليس هناك إلا ظلُّ ربِّ العالمين، هذا الظلُّ يُظلُّ الله فيه من يشاء من عباده، ومنهم هؤلاء السبعة الذين ذكرهم الرسول في قوله: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»"[3].

قال أبو الحسن رحمه الله: "«يَوْمَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»؛ أي: ظلُّ عرشه على حذف المضاف، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لربِّ العالمين، وقَرُبت الشمس من الرؤوس، واشتدَّ عليهم حرُّها، وأخذهم العَرَق، ولا ظِلَّ هناك لشيء إلا العرش"[4].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "نتكلَّم على مسألة ضلَّ فيها كثير من الجهَّال، وهي قوله: «سبعةٌ يُظلُّهم الله في ظِلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه» حيث توهَّموا جَهْلًا منهم أن هذا هو ظلُّ الله نفسه، وأن الله تعالى يُظلُّهم من الشمس بذاته - عزَّ وجلَّ - وهذا فَهم خاطئٌ مُنكَر، يقوله بعض المتعالِمين الذين يقولون: إن مذهب أهل السُّنَّة إجراء النصوص على ظاهرها. فيُقال: أين الظاهر؟! وأين يكون ظاهر الحديث وأن الربَّ - جلَّ وعلا - يُظلُّهم من الشمس؟! فإن هذا يقتضي أن تكون الشمس فوق الله - عزَّ وجلَّ - وهذا شيء مُنكَر لا أحد يقول به من أهل السُّنَّة؛ لكن مشكلات الناس – ولا سيَّما في هذا العصر - أن الإنسان إذا فَهِم، لم يعرف التطبيق، وإذا فَهِم مسألة، ظنَّ أنه أحاط بكلِّ شيء علمًا. والواجب على الإنسان أن يَعرِف قدر نفسه، وألَّا يتكَّلم - لا سيَّما في باب الصفات - إلَّا بما يَعلَم من كتاب الله وسنَّة رسوله وكلام الأئمَّة؛ فمعنى «يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»، أو «يُظلُّهم الله في ظِلِّه» يعني الظلَّ الذي لا يقدر أحد عليه في ذلك الوقت؛ لأنه في ذلك الوقت لا بناءَ يُبنى، ولا شَجَرَ يُغرَس، ولا رمال تُقام، ولا أحجارَ تُصفَّف، ولا شيءَ من هذا... ولا يُظلُّ الخلائقَ من الشمس شيءٌ، لا بناءَ، ولا شجرَ، ولا حجر، ولا غير ذلك؛ لكن الله - عزَّ وجلَّ - يَخلُق شيئًا يُظلِّل به من شاء من عباده، يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه، هذا هو معنى الحديث، ولا يجوز أن يكون له معنى سوى هذا" [5].

قال ابن رجب رحمه الله: "هذه السبعة اختلفت أعمالهم فِي الصورة، وجمَعَها معنًى واحدٌ، وهو مجاهدتهم لأنفسهم، ومخالفتهم لأهوائها، وذلك يحتاج أولًا إلى رياضة شديدة، وصبر على الامتناع مِمَّا يدعو إليه داعي الشهوة أو الغضب أو الطمع، وفي تجشُّم ذلك مشقَّة شديدة على النفس، ويحصل لها به تألُّم عظيم؛ فإن القلب يكاد يحترق من حرِّ نار الشهوة أو الغضب عِنْدَ هيجانها إذا لم يُطْفأ ببلوغ الغَرَض من ذلك، فلا جَرَم كان ثواب الصبر على ذلك أنه إذا اشتدَّ الحرُّ في الموقف، ولم يكن للناس ِظٌّل يُظلُّهم ويَقِيهم حرَّ الشمس يومئذ، وكان هؤلاء السبعة فِي ظلِّ الله - عزَّ وجلَّ - فلم يجدوا لحرِّ الموقف أَلَمًا؛ جزاءً لصبرهم على حرِّ نار الشهوة أو الغضب في الدنيا" [6].

قال النوويُّ رحمه الله: "«الإِمَامُ العَادِلُ»: قال القاضي: هو كلُّ من إليه نَظَرٌ في شيء من مصالح المسلمين من الوُلاة والحكَّام، وبدأ به لكثرة مصالحه، وعموم نفعه، ووقع في أكثر النّسخ: «الإِمَامُ العَادِلُ»، وفي بعضها: «الإِمَامُ العَدْلُ»، وهما صحيحان" [7].

قال ابن رجب رحمه الله: "وأول هذه السبعة: الإمام العادل، وهو أقرب الناس من الله يوم القيامة، وهو على مِنبَر من نور على يمين الرحمن - عزَّ وجلَّ - وذلك جزاءً لمخالفته الهوى، وصبره عن تنفيذ ما تدعوه إليه شَهَواته وطَمَعه وغضبه، مع قُدرته على بلوغ غرضه من ذلك؛ فإن الإمام العادل دَعَتْه الدنيا كلُّها إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله ربَّ العالمين، وهذا أنفع الخلق لعباد الله؛ فإنه إذا صَلَح صَلَحت الرعيَّة كلُّها، وقد رُوِي أنه ظلُّ الله فِي الأرض؛ لأن الخلق كلَّهم يستظلُّون بظلِّه، فإذا عدل فيهم، أَظلَّه الله فِي ظلِّه" [8].

قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد به صاحبُ الولاية العُظمى، ويَلتحِق به كلُّ من وَلِيَ شيئًا من أمور المسلمين فعَدَل فيه، ويؤيِّده رواية مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رفعه:

«إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا»

[9]،

وأحسن ما فسِّر به العادل أنه الذي يتَّبِع أمر الله بوضع كلِّ شيء في موضعه من غير إفراط ولا تفريط ، وقدَّمه في الذِّكر لعموم النفع به" [10].

قال ابن عبد ربِّه رحمه الله: "قالت الحكماء: مما يجب على السُّلطان العدل في ظاهر أفعاله؛ لإقامة أمر سُلطانه، وفي باطن ضميره؛ لإقامة أمر دينه، فإذا فسدت السياسة، ذَهَب السُّلطان. ومَدَارُ السياسة كلِّها على العدل والإنصاف، لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب الأمور مراتبها، وإنزالها منازلها" [11]. 

قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجل قلبه معلَّق في المساجد» هكذا هو في النُّسَخ كلِّها [في المساجد]، وفي غير هذه الرّواية [بالمساجد]، ووقع في هذه الرّواية في أكثر النّسخ [معلَّق في المساجد]، وفي بعضها [متعلِّق] بالتّاء، وكلاهما صحيح، ومعناه: شديد الحبِّ لها، والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دَوَامَ القُعود في المسجد" [12].

قال القرطبيُّ رحمه الله: "محبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات" [13].

قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ: «وَرَجُلانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» معناه: اجتمعا على حبِّ اللّه، وافترقا على حبِّ اللّه؛ أي: كان سببُ اجتماعهما حبَّ اللّه، واستمرَّا على ذلك حتّى تفرَّقا من مجلسهما، وهما صادقان في حبِّ كلِّ واحد منهما صاحبَه للّه تعالى حالَ اجتماعهما وافتراقهما، وفي هذا الحديث الحثُّ على التّحابِّ في اللّه، وبيان عِظَم فضله، وهو من الْمُهمَّات؛ فإنّ الحبَّ في اللّه، والبُغض في اللّه من الإيمان" [14].

قال ابن تيمية رحمه الله: "إنَّك إذا أحببتَ الشخص لله، كان الله هو المحبوبَ لذاته، فكلَّما تصوَّرتَه في قلبك، تصوَّرت محبوب الحقِّ فأحببته، فازداد حبُّك لله، كما إذا ذكرتَ النَّبيَّ ﷺ، والأنبياء قبله، والمرسلين، وأصحابهم الصالحين، وتصوَّرتهم في قلبك، فإنَّ ذلك يجذب قلبك إلى محبَّة الله، المنعم عليهم، وبهم، إذا كنتَ تحبُّهم لله، فالمحبوب لله يجذب إلى محبَّة الله، والمحبُّ لله إذا أحبَّ شخصًا لله، فإن الله هو محبوبه، فهو يحبُّ أن يجذبه إلى الله تعالى، وكلٌّ من المحبِّ لله والمحبوب لله يَجذِب إلى الله" [15]. 

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل: 

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا" [16].

قال ابن رجب رحمه الله: "ويعني بالمنصب: النَّسَب والشَّرف والرِّفعة فِي الدنيا، فإذا اجتمع ذلك مع الجمال، فقد كَمُل الأمر، وقَوِيَت الرغبة، فإن كانت مع ذلك هي الطالبةَ الداعية إلي نفسها، كان أعظم وأعظم؛ فإن الامتناع بعد ذلك كلِّه دليل على تقديم خوف الله على هوى النفس، وصاحبه داخل فِي قوله تعالى:

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ}

[النازعات: 40]،

وهذا كما جرى ليوسفَ، عليه السلام"[17].

قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجلٌ دعتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف اللّه». قال القاضي: يحتمل قوله: أخاف اللّه، باللّسان، ويحتمل قوله في قلبه؛ ليَزجر نفسه، وخصَّ ذات المنصب والجمال؛ لكثرة الرّغبة فيها وعُسر حصولها، وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيَّما وهي داعية إلى نفسها، طالبة لذلك، قد أغنت عن مشاقِّ التّوصُّل إلى مراودة ونحوها، فالصّبر عنها لخوف اللّه تعالى وقد دعت إلى نفسها، مع جمعها المنصبَ والجمال، من أكمل المراتب، وأعظم الطّاعات، فرتَّب اللّه تعالى عليه أن يُظلَّه في ظلِّه، وذات المنصب هي ذات الحسب والنَّسَب الشّريف، ومعنى [دعته]؛ أي: دعته إلى الزنا بها" [18].

قال ابن تيمية رحمه الله: "كان صبر يوسفَ عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها، أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجُبِّ وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه؛ فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، لا كسبَ له فيها؛ ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، وأما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضى، ومحاربة للنفس، ولا سيَّما مع الأسباب التي تَقْوى معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان شابًّا، وداعيةُ الشباب إليها قويَّة، وعَزَبًا ليس له ما يعوِّضه ويردُّ شهوته، وغريبًا والغريبُ لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه من بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكًا والمملوكُ أيضًا ليس وازعُه كوازع الحرِّ، والمرأة جميلة وذات منصب، وهي سيِّدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشدَّ الحرص، ومع ذلك توعَّدته إن لم يفعل بالسجن والصَّغار، ومع هذه الدواعي كلِّها، صَبَر اختيارًا وإيثارًا لِما عند الله، وأين هذا من صبره في الجُبِّ على ما ليس من كَسْبه؟!" [19].

قال النوويُّ رحمه الله: "«ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم: «لا تعلم يمينه ما تنفق شماله»، والصّحيح المعروف: «حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» هكذا رواه مالك في الموطَّأ والبخاريُّ في صحيحه، وغيرهما من الأئمّة، وهو وجه الكلام؛ لأنّ المعروف في النّفقة فِعْلُها باليمين. قال القاضي: ويُشبه أن يكون الوهم فيها من النّاقلين عن مسلم، لا من مسلم؛ بدليل إدخاله بعده 

حديث مالك، وقال بمثل حديث عبيد، وبيَّن الخلاف في قوله، وقال: رجل معلَّق بالمسجد إذا خرج منه حتّى يعود، فلو كان ما رواه مخالفًا لرواية مالك، لنبَّه عليه كما نبَّه على هذا، وفي هذا الحديث فضل صدقة السِّرِّ، قال العلماء: وهذا في صدقة التّطوُّع، فالسّرُّ فيها أفضل؛ لأنّه أقرب إلى الإخلاص، وأبعد من الرّياء وأمّا الزّكاة الواجبة، فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصّلاة، فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضلُ؛

لقوله ﷺ:

«أفضل الصّلاة صلاة المرء في بيته إلّا المكتوبة»،

قال العلماء: وذَكَر اليمين والشّمال مبالغةً في الإخفاء والاستتار بالصّدقة، وضَرَب المثل بهما لقُرب اليمين من الشّمال، وملازمتها لها، ومعناه: لو قُدِّرت الشّمال رجلًا متيقِّظًا لَمَا عَلِم صَدَقة اليمين؛ لِمُبالغته في الإخفاء" [20].

قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا رَجُل يخشى الله فِي سرِّه، ويراقبه فِي خَلْوته، وأفضلُ الأعمال خشية الله في السرِّ والعلانية، وخشية الله في السر إنما تَصدُر عن قوَّة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى يدعو في الخَلوة إلى المعاصي؛ ولهذا قيل: إن من أعزِّ الأشياء الوَرَع في الخَلوة. وذِكْرُ الله يشمل ذكر عَظَمته وبَطْشه وانتقامه وعقابه؛ والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الخوف، ويشمل ذِكر جماله وكماله وبِرِّه ولُطفه وكرامته لأوليائه بأنواع البرِّ والألطاف، لا سيَّما برؤيته في الجنة، والبكاء الناشئ عن هذا هو بكاء الشَّوق. ويدخل في ذلك أيضًا رَجُلٌ ذَكَر أن الله معه حيثما كان، فتذكَّر معيَّته وقُربه واطِّلاعه عليه حيث كان يبكي حياءً منه، وهو من نوع الخوف أيضًا" [21].

المراجع

  1. رواه مسلم (7704).
  2. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144).
  3. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 90).
  4. "مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لأبي الحسن المباركفوري (2/ 406).
  5. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 261، 262).
  6. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
  7. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  8. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 46).
  9. رواه مسلم (1827).
  10. "فتح الباري" لابن حجر (2/ 144، 145).
  11. "العقد الفريد" لابن عبد ربه (1/23).
  12. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  13. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 215).
  14. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 121).
  15. "مجموع الفتاوى" (10/608).
  16. "مدارج السالكين" (1/ 185).
  17. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 48، 49).
  18. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
  19. "مدارج السالكين" لابن القيم (2/ 156).
  20. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 122).
  21. "فتح الباري" لابن رجب (6/ 50).


المعنى الإجماليُّ للحديث:

يروي الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ رضي الله، 

عنِ النَّبِيِّ ﷺ أنه قَالَ: «لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»:

يبشِّر ﷺ أُمَّته أن هذا الدِّين باقٍ إلى قيام الساعة، ببقاء فئة ثابتةٍ على الحقِّ ظاهرة على الناس.

وفي رواية: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ»

وفي هذه الرواية زيادة في صفات هذه الطائفة: أنهم قائمون بأمر دينه وأحكام شريعته، وأنهم لا يضرُّهم من خذلهم أو خالفهم، وظاهرون على الناس حتى قيام الساعة.

الشرح المفصَّل للحديث

كرَّم اللهُ هذه الأُمةَ بأن جعَل الحقَّ فيها قائمًا وظاهرًا إلى قيام الساعة، وأن الحقَّ لا يَزال فيها باقيًا ببقاء الصادقين الحامِلين له، المدافِعين عنه، والداعين إليه إلى أن يشاءَ اللهُ عز وجل.

وفي هذا الحديث بيان ذلك 

 حيث يقول النبيُّ ﷺ: «

لَا يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ»،

 و"الطائفةُ: الجماعةُ من الناس، والتنكيرُ للتقليل، أو التعظيم؛ لعِظَم قَدْرهم، ووُفور فَضْلهم، ويَحتمِل التكثير أيضًا؛ فإنهم وإن قلُّوا فهم الكثيرون؛ فإن الواحد لا يُساويه الألف؛ بل هم الناسُ كلُّهم"[1].

وقد اختلَف العلماء في تحديد هذه الطائفة؛ فقيل: هم أهلُ الحديث، وقيل: هم المجاهِدون، وقيل غيرُ ذلك، "ويُحتمَل أن تكون هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم: شُجْعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّاد، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهُون عن المنكَر، ومنهم أهلُ أنواعٍ من الخير، ولا يَلزم اجتماعُهم؛ بل يكونون متفرِّقين[2].

وقوله ﷺ: «ظَاهِرِينَ»، المراد بالظُّهور هنا الغَلَبة؛ أي: غالبون لعدوِّهم. أو المراد: أنهم غيرُ مُستَتِرين؛ بل مشهورون مَعْروفون[3]، والمراد بأمر الله في قوله ﷺ: «حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ»: الرِّيحُ الطَّيِّبةُ التي تكون قبْلَ قيام الساعة تَقبض أرواحَ المؤمنين؛ لحديث أبي هريرة ، عن رسول الله ﷺ قال: «إن اللهَ يبعَثُ رِيحًا من اليمن ألْيَن من الحرير، فلا تدعُ أحدًا في قلبه مثقالُ حبَّة إيمان»[4].

فـ"المراد بقوله ﷺ: «حتى يأتي أمرُ الله» الرِّيحُ التي تأتي فتأخذ رُوحَ كل مؤمنٍ ومؤمِنة، وأن المراد برواية مَن روى: «حتى تقوم الساعة»[5]؛ أي: تقرُب الساعة، وهو خروج الرِّيح"[6].

وقوله ﷺ: «حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» فيه بشارةٌ ببقاء هذه الفئة منتصرةً غالبةً حتى يأتي أمر الله «وَهُمْ ظَاهِرُونَ»؛ أي: غالبون على مَن خالَفهم.

وفي الرواية الأُخرى زاد بعض الصفات التي اتَّصَفت بها هذه الطائفةُ، حيث قال ﷺ في وَصْفهم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ»، فمِن صفاتهم أنهم قائمون بأمر الله؛ أي: "بأمر دينه وأحكام شريعته، من حِفظ الكتاب، وعِلم السُّنة، والاستنباط منهما، والجهاد في سبيله، والنصيحة لخَلْقه، وسائر فروض الكفاية، كما يُشير إليه قوله تعالى: 

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

[آل عمران: 104]".[7]

ومِن صفاتهم أيضًا: أنهم لا يضرُّهم في دينهم أو في غلبتهم وظهورهم «مَنْ خَذَلَهُمْ»؛ أي: مَن ترك عَوْنهم ونَصْرهم؛ بل في الحقيقة إنما ضرَّ نفْسه وظلَمها، وكذا لا يضرُّهم مَن «خَالَفَهُمْ»؛ أي: لم يوافِقْهم على أمرهم[8]


المراجع

  1.  "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 7)
  2.  "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 67).
  3.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (13/ 294).
  4.  رواه مسلم (117)
  5.  رواه البخاريُّ (7312)، وفيه: «ولن يَزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو: حتى يأتي أمر الله»، ورواه مسلم (1822) ولفظه: «لا يَزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم من قريشٍ». وفي رواية ابن ماجه (6)، قال: «لا تَزال طائفةٌ من أمتي منْصورين، لا يضرُّهم مَن خذَلهم حتى تقوم الساعة».
  6.  "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 66).
  7.  "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (9/ 4047).
  8.  انظر: "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للمُلَّا علي القاري (9/ 4047)



النقول

قال السِّنديُّ رحمه الله : "الطائفةُ: الجماعةُ من الناس، والتنكيرُ للتقليل، أو التعظيم؛ لعِظَم قَدْرهم، ووُفور فَضْلهم، ويَحتمِل التكثير أيضًا؛ فإنهم وإن قلُّوا فهم الكثيرون؛ فإن الواحد لا يُساويه الألف؛ بل هم الناسُ كلُّهم"[1].

قال النوويُّ رحمه الله: "ويُحتمَل أن تكونَ هذه الطائفةُ متفرِّقةً من أنواع المؤمنين؛ فمنهم شجعانٌ مقاتلون، ومنهم فقهاءُ، ومنهم محدِّثون، ومنهم زُهَّادٌ، ومنهم آمِرون بالمعروف وناهون عن المنكَر، ومنهم أهل أنواع من الخير، ولا يَلزَم اجتماعهم؛ بل يكونون متفرِّقين[2].

قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقوله: «ولن تزال هذه الأمةُ قائمةً على أمر الله»، يريد أن أمَّته آخِرُ الأمم، وأن عليها تقوم الساعة، وإن ظهرت أشراطها، وضَعُف الدين، فلابدَّ أن يبقى من أمَّته من يقوم به، والدليل على ذلك قوله: «لا يضرُّهم من خالفهم»، وفيه أن الإسلام لا يُذلُّ، وإن كثُر مطالبوه. فإن قيل: فقد روى عبد الرزَّاق، عن معمر، عن ثابت، عن أنس، 

عن الرسول ﷺ أنه قال:

« لا تقوم الساعة حتى لا يقول أحد: الله الله»، وروى ابن مسعود، أن النبيَّ ﷺ، قال: «لا تقوم الساعة إلا على شِرار الناس»،

رواه شعبة،

 عن علىِّ بنِ الأقمر، عن أبى الأحوص، عن عبد الله، وهذه معارضة لحديث معاوية. قال الطبريُّ: ولا معارضة بينهما بحمد الله؛ بل يحقِّق بعضها بعضًا، وذلك أن هذه الأحاديث خَرَج لفظها على العموم، والمراد منها الخصوص، ومعناه: لا تقوم الساعة على أحدٍ يُوحِّد الله إلا بموضع كذا، فإن به طائفة على الحقِّ، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الناس بموضع كذا؛ لأن حديث معاوية ثابت، ولا يجوز أن تكون الطائفة القائمة بالحقِّ التي توحِّد الله التي هي شرار الناس. فثَبَت أن الموصوفين بأنهم شرار الناس غير الموصوفين بأنهم على الحقِّ مقيمون. وقد جاء ذلك بَيِّنًا في حديث أبى أُمامة الباهليِّ، وحديث عمرانَ بنِ حُصينٍ، قال الطبريُّ: حدَّثنا محمد بن الفرج، حدَّثنا ضمرة بن ربيعة، حدَّثنا يحيى بن أبى عمرو الشيبانيِّ، عن عمرو بن عبد الله الحمصيِّ، عن أبى أمامة الباهليِّ، أن النبيَّ ، قال: «لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم من خالَفهم»، قيل: فأين هي يا رسول الله؟ قال: «ببيت المقدس، أو أكناف بيت المقدس». 

وروى قتادة عن مطرِّف بن الشخِّير، عن عمرانَ بنِ حُصينٍ، عن الرسول ﷺ، قال:

«لا تزال طائفةٌ من أمَّتى يقاتلون على الحقِّ ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال». قال مطرِّف: وكانوا يرون أنهم أهل الشام"

[3]

قال الديوبنديُّ رحمه الله: "ومعنى قوله: (ولن تزال)؛ أي: لا يخلو زمان إلا وتوجد فيه تلك الطائفة القائمة على الحقِّ، لا أنهم يَكثُرون في كلِّ زمان، ولا أنهم يغلبون على من سواهم كما سبق إلى بعض الأفهام، حتى إن غلبة الدين في زمن عيسى عليه الصَّلاة والسَّلام عندي ليس كما اشتهر على الألسنة؛ بل الموعود هو الغلَبة حيث يظهر عليه الصَّلاة والسَّلام وفيما حواليه. أما فيما وراء ذلك فلم يتعرَّض إليه الحديث، والعمومات كلُّها واردة في البلاد التي يظهر فيها ولا تتجاوز فيما وراءها؛ وإنما هو من بداهة الوهم والسَّبق إلى ما اشتَهَر بين الأنام"[4].

قال النَّوويُّ رحمه الله: "المراد بقوله ﷺ: «حتى يأتي أمرُ الله» الرِّيحُ التي تأتي فتأخذ رُوحَ كل مؤمنٍ ومؤمِنة، وأن المراد برواية مَن روى: «حتى تقوم الساعة»[5]، أي: تقرُب الساعة، وهو خروج الرِّيح"[6]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "بيان استنباط الأحكام: الأول: فيه دلالة على حُجِّية الإجماع؛ لأن مفهومه أن الحقَّ لا يعدو الأمَّة، وحديث: «لا تجتمع أمتي على الضّلالة» ضعيف. الثّاني: استَدلَّ به البعض على امتناع خُلوِّ العصر عن المجتهد. الثّالث: فيه فضل العلماء على سائر النّاس. الرّابع: فيه فضل الفقه في الدّين على سائر العلوم؛ وإنّما ثبت فضله لأنّه يقود إلى خشية الله تعالى والتزام طاعته. الخامس: فيه إخباره - عليه الصّلاة السّلام - بالمغيبات. وقد وقع ما أخبر به، وللّه الحمد، فلم تزل هذه الطّائفة من زمنه وهلمّ جرًّا، ولا تزول حتّى يأتي أمر الله تعالى[7]

قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: (ظَاهِرين)؛ أَي: غَالِبين على سَائِر النَّاس بالبرهان، أَو بِهِ أَو بِالسِّنَانِ. قَوْله: (على النَّاس) ويروى: (على الْخلق)، وَقَالَ البُخَارِيُّ فِيمَا مضى: وهم أهل الْعلم. قَوْله: (حَتَّى يَأْتِيهم أَمر الله)؛ أَي: يَوْم الْقِيَامَة أَو علاماتها"[8].

المراجع

  1. "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 7).
  2. "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 67).
  3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (1/ 155، 156).
  4. "فيض الباري على صحيح البخاري" للديوبنديِّ (1/ 254).
  5. رواه البخاريُّ (7312)، وفيه: «ولن يَزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة، أو: حتى يأتي أمر الله»، ورواه مسلم (1822) ولفظه: «لا يَزال الدين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفةً، كلهم من قريشٍ». وفي رواية ابن ماجه (6)، قال: «لا تَزال طائفةٌ من أمتي منْصورين، لا يضرُّهم مَن خذَلهم حتى تقوم الساعة».
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 66)
  7. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (2/ 52).
  8. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (25/ 141)


غريب الحديث

الطائفة: الجماعةُ من الناس[1]

ظاهرين: مُنتصِرين وغالبين[2]

المراجع

  1. النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 153)
  2. نظر: "إرشاد الساري شرح صحيح البخاري" للقسْطلَّانيِّ (10/ 324)


غريب الحديث

«الدُّثور» الأموال الكثيرة، واحدُها (دَثْرٌ).

بُضْع: يُطلَق على الجِمَاع، وعلى الفَرْجِ نفسِه.

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو ذَرٍّ – رضي الله عنه -: (أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ أي: استأثر أصحاب الأموال الأغنياء بالأجور، وأخذوها عنَّا. (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المالَ، فلا نتصدَّق.

قال : «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؟ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» أي: إذا فاتتكم الصدقة بالمال، فهناك الصَدَقة بالأعمال الصالحة؛ بالتسبيح والتكبير والتهليل، والأمر بالمعروف، والنهيِ عن المنكر. «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صَدَقةٌ.

قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنَّهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.

 قال : «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوَضْعِها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى قضاءَ حقِّ الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف، أو طلب وَلَد صالح، أو إعفاف نفسه وزوجتِه، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.

الشرح المفصَّل للحديث

لقد خَلَق الله تعالى الخَلْقَ متفاوتين في الحياة، ومما يتفاوتون فيه الأرزاقُ؛ فهناك الغنيُّ والفقيرُ وما بينهما، فعلى الغنيِّ الشُّكر، وعلى الفقير الصبر، وقد جَعَل الله تعالى الحياة للإنسان دارَ اختبار، ومَزرَعةً للآخرة، ومجالًا رَحْبًا للتنافس على طاعة الله، والتسابُق في ميادين الخير؛

قال تعالى:

﴿وَسَارِعُوٓا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍۢ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾

[آل عمران:  ١٣٣]،

وقال تعالى:

﴿خِتَٰمُهُۥ مِسْكٌ ۚ وَفِى ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَٰفِسُونَ﴾

[المطففين: ٢٦].

ولقد كان التنافس في الخير هو همَّ الصحابة الأوَّل، وهدفَهم الأسمى، فشَمَّروا عن سَواعِد الجِدِّ، وانطلقوا مسارِعين إلى ربِّهم وجنَّة عرضُها السمواتُ والأرض، وقلوبُهم ملأى بالشَّوق إلى الجنَّة، ونفوسُهم تَتُوق إلى رؤية ربِّهم فيها.

لذا؛ كان الصَّحابةُ – رضوان الله عليهم - يَحزنون على ما يَتعذَّرُ عَليهم فِعلُه مِنَ الخَيرِ ممَّا يَقدِرُ عليهِ غَيرُهم؛ مثلما حَزِنَ الفُقراء على التَّخلُّف عنِ الخُروجِ في الجِهادِ؛ لِعدمِ القُدرةِ على آلتِه؛

كَما قالَ تَعالى:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92].

وحَزِنوا أنهم يستطيعون المنافَسةَ في ميادينِ الصلاة والصيام ونحوِها؛ ولكنهم خارجَ مَيْدانِ المنافسة في مَيدان الصَّدقة بالمال؛ حيث إنها مقصورةٌ على أغنياء المسلمين القادرين على الجُود بالمال، فحَزِنوا على فَوَات هذا الْمِضمار من مَضامير الخير، وكلَّما سَمِعوا آيةً أو حديثًا يَحُثُّ على التصدُّق، ويبيِّن فضل الصدقة، وما أَعَدَّ الله لأهلها، حزَّ ذلك في نفوسهم، فلَجَؤوا إلى رسول الله ﷺ شاكِين له، وقد روى هذا الموقفَ كثيرٌ من الصحابة، ولنقِفْ مع رواية أبي ذرٍّ الغفاريِّ – رضي الله عنه – لذلك الموقف العظيم.

(عَنْ أَبِي ذَرٍّ – رضي الله عنه - أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ َ ﷺ قَالُوا لِلنَّبِيِّ ﷺ: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ)؛ يعني: اسْتَأْثَر أصحاب الأموال الكثيرة والغِنى بالأجور، وأخذوها عنَّا، " وفيه دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه،

فقال:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92]،

وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ ﷺ على صَدَقات يَقدِرون عليها" [1].

قولهم: (يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ)؛ أي: نحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال، ونحن لا نَملِك المال، فلا نتصدَّق.

"فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة؛ فهم اشتكَوْا إلى الرسول ﷺ شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم" [2].

فقال النبيُّ ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ أي إن فقراء الصحابة ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا صدقةُ المال، التي يَعجِزون عنها، فأخبرهم النبيُّ ﷺ أن جميع أنواع فِعْل المعروف والإحسان صَدَقَةٌ؛ فالصدقة تُطلَق على جميع أنواع فعل المعروف والإحسان، وفي الصحيحين أن النبيَّ ﷺ قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» [3]، حتى إنَّ فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عباده صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد ورد ذلك في أحاديثَ كثيرةٍ عن النبيِّ ﷺ، منها قولُه في قَصْرِ الصلاة في السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» [4]، وقوله: «مَا مِنَ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ، إِلَّا كُتِبَ لَهُ أَجْرُ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ» [5]، وغيرها من الأحاديث.

وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: "إِن اللَّه يَتَصَدَّقُ كلَّ يوم بصدقة، وما تَصَدَّق اللَّهُ على أحد من خَلقه بشيء خَيْرٌ من أن يتصدَّق عليه بذِكره" [6].

"والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم" [7].

"والنَّوع الثّاني من الصّدقة التي ليست ماليَّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصِّيامَ والحجَّ والجهادَ أنّه صدقةٌ، وأكثرُ هذه الأعمالِ أفضلُ من الصَّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الذين سألوه عمَّا يُقاومُ تطوُّعَ الأغنياء بأموالهم، وأمَّا الفرائضُ، فإنَّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها" [8].

وقد تَكاثَرت النُّصوص بتفضيل الذِّكْر على الصَّدَقة بالمال وغيرِها من الأعمال؛

قال رسول الله ﷺ:

«أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»

[9].

وقال ﷺ:

«مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ»

[10].

و"يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه"[11].

قوله : «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فالأمر بالمعروف، والنهيُ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأنَّ به فُضِّلت هذه الأمَّة على العالَمين؛

قال تعالى:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ ﴾

[آل عمران: 110].

قَوْلُهُ ﷺ:

«وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»

فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛

لقوله عزَّ وجلَّ:

«وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ»

[12]" [13].

قوله: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»؛ أي: في جِمَاع أحدِكم حَلِيلتَه صدقةٌ، والبُضْعُ "يُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة" [14].

قَالُوا: (يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟) وكأنهم تعجَّبوا أن يؤجروا على إتيان شهواتهم، فسألوا عن ذلك.

قال: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»؛ أي: كما أنه يأثم بوضعها في الحرام، سيُثاب على وضعها في الحلال إذا نوى نيَّة صالحة، "ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر" [15]

"وفي هذا الحديث فَضِيلةُ التَّسبيح، وسائرِ الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنَّهي عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالِم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ الْمُفتي على مختصَر الأدلَّة، وجَوَازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يَخفى من الدَّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يَكن فيه سُوءُ أَدَبٍ" [16].

وعن أبي صالح، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا:

ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"

[17].

المراجع

1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 56، 57).

2. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161، 162).

3. رواه البخاريُّ (6021)، ومسلم (1005).

4. رواه مسلم (686).

5. رواه النسائيُّ (1784)، ابن ماجه (1344)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (601).

6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66).

9. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).

10. رواه البخاريُّ (3293)، ومسلم (2691).

11. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 91).

12. رواه البخاريُّ (6502).

13. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

14. شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

15. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

16. شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).

17. رواه البخاريُّ (843)، ومسلم (595).

النقول

قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال المؤلِّف - رحمه الله تعالى - فيما نقله عن أبي ذرٍّ -ـ رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله، ذَهَب أهلُ الدُّثور بالأجور؛ يعني: استأثروا بالأجور وأخذوها عنا، وأهلُ الدُّثور: يعني أهلَ الأموال؛ يصلُّون كما نصلِّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالهم؛ يعني: فنحن وهم سواءٌ في الصلاة وفي الصيام؛ ولكنهم يَفضُلوننا بالتصدُّق بفضول أموالهم؛ أي: بما أعطاهم الله تعالى من فضل المال؛ يعني: ولا نتصدَّق... فانظر إلى الهِمَم العالية من الصحابة - رضي الله عنهم - يَغبِطون إخوانهم بما أَنعَم الله عليهم من الأموال التي يتصدَّقون بها ويُعتِقون منها، وليسوا يقولون: عندهم فضولُ أموال؛ يَركَبون بها المراكبَ الفخمة، ويَسكُنون القُصور المشيَّدة، ويَلبَسون الثياب الجميلة؛ ذلك لأنهم قوم يريدون ما هو خيرٌ وأبقى، وهو الآخِرة... فهم اشتكوا إلى الرسول ﷺ شكوى غِبطة، لا شَكْوى حَسَد، ولا اعْتِراض على الله - عزَّ وجلَّ - ولكن يَطلُبون فضلًا يتميَّزون به عمَّن أغناهم الله، فتصدَّقوا بفضول أموالهم، فقال النبيُّ ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَكُمْ ما تَصَدَّقون به؟!»؛ يعني: إذا فاتتكم الصَّدَقة بالمال، فهناك الصَّدَقةُ بالأعمال الصالحة؛ «إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»...

قوله ﷺ: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ»؛ فإن الأمر بالمعروف، والنهيَ عن المنكَر، من أفضل الصدقات؛ لأن هذا هو الذي فضَّل الله به هذه الأمَّة على غيرها؛

فقال تعالى:

﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ ۗ ﴾

[آل عمران: 110]" [1].

قال النوويُّ رحمه الله: "«ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ»: الدُّثُورُ بضمِّ الدال:ِ جَمْعُ "دَثْرٍ" بفتحها، وهو المال الكثير. قولُه ﷺ: «أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ؛ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ». وأمَّا قولُه ﷺ: «مَا تَصَّدَّقُونَ» فالروايةُ فيه بتشديد الصاد والدال جَمِيعًا، ويجوز في اللُّغة تخفيف الصاد، وأمَّا قولُه ﷺ: «وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً» فرَوَيناه بوجهين: رَفْعُ صَدَقة وَنَصْبُه؛ فالرفع على الاستئناف، وَالنَّصْبُ عَطْفٌ على أَنَّ بِكُلِّ تسبيحة صَدَقَةً. قَالَ الْقَاضِي: يَحتمِل تَسْمِيَتَها صدقةً أنَّ لها أجرًا كما للصَّدقة أجرٌ، وأنّ هذه الطّاعاتِ تُماثِل الصّدقاتِ في الأجور، وسمَّاها صدقةً على طريق المقابَلة، وتَجنِيس الكلام، وقيل: معناه أنّها صدقةٌ على نفسه" [2].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دليلٌ على أنّ الصّحابة - رضي اللّه عنهم - لشدَّة حرصهم على الأعمال الصالحة، وقوَّة رغبتهم في الخير؛ كانوا يحزنون على ما يتعذَّر عليهم فِعْلُه من الخير ممَّا يَقدِر عليه غيرُهم، فكان الفقراء يحزنون على فَوَاتِ الصَّدَقة بالأموال التي يَقدِر عليها الأغنياء، ويحزنون على التَّخلُّف عن الخروج في الجهاد؛ لعدم القُدرة على آلته، وقد أخبر اللّه عنهم بذلك في كتابه،

فقال:

﴿وَلَا عَلَى ٱلَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَآ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ﴾

[التوبة: 92]،

وفي هذا الحديث: أنَّ الفقراء غَبَطوا أهلَ الدُّثُور - والدُّثُور: هي الأموال - ممَّا يَحصُل لهم من أجر الصَّدقة بأموالهم، فدَلَّهم النَّبيُّ ﷺ على صَدَقات يَقدِرون عليها. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ،

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ أَتَوُا النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالُوا:

ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، فَقَالَ: «وَمَا ذَاكَ؟»، قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيَعْتِقُونَ وَلَا نَعْتِقُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَدْ سَبَقَكُمْ، وَتَسْبِقُونَ بِهِ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً»، قَالَ أَبُو صَالِحٍ: فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ بِمَا فَعَلْنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»"

[3].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ» فيه إشارةٌ إلى ثُبوت حُكم الصَّدقة في كلِّ فَرد من أفراد الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكَر؛ ولهذا نَكَّره، والثَّوابُ في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أكثرُ منه في التّسبيح والتّحميد والتّهليل؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرضُ كِفَايةٍ، وقد يتعيَّن، ولا يُتصوَّر وقوعُه نفلًا، والتّسبيحُ والتّحميد والتّهليل نوافلُ، ومعلومٌ أنّ أجرَ الفرض أكثرُ من أجر النَّفل؛ لقوله عزَّ وجلَّ: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» [4]" [5].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْفُقَرَاءَ ظنُّوا أن لا صدقةَ إلَّا بالمال، وهم عاجزون عن ذلك، فأخبرهم النبيُّ ﷺ أَنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ صَدَقَةٌ. وفي "صحيح مسلم" عن حُذَيْفَةَ، عن النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ»، وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ من حديث جابر عن النَّبِيِّ ﷺ. فَالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ على جميع أنواع فِعْلِ المعروف والإحسان، حتى إن فضل اللَّه الواصلَ منه إلى عِبَادِهِ صَدَقَةٌ منه عليهم، وقد كان بعض السلف يُنْكِر ذلك، ويقول: إِنَّمَا الصَّدَقَةُ مِمَّنْ يَطْلُبُ جَزَاءَهَا وَأَجْرَهَا، والصحيح خِلافُ ذلك، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ: «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وقال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ نَوْمٌ فَنَامَ عَنْهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً مِنَ اللَّهِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ» خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ وغيره من حديث عائشةَ، وَخَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ من حديث أبي الدَّرْدَاءِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: إِن اللَّهَ يَتَصَدَّقُ كلَّ يَوْمٍ بِصَدَقَةٍ، وما تَصَدَّقَ اللَّهُ على أحدٍ من خَلْقِه بشيء خَيْرٌ من أن يَتَصَدَّقَ عليه بذِكْره" [6].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "ثم قال النبيُّ ﷺ: «وفي بُضْعِ أَحَدِكم صَدَقةٌ»؛ يعني: أن الرجل إذا أتى امرأته، فإن ذلك صدقةٌ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: «أرأيتُم لو وَضَعها في الحرام، أكان عليه وِزْرٌ؟»؛ يعني: لو زنى ووَضَع الشهوة في الحرام، هل يكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: «فكذلك إذا وَضَعها في الحلال، كان له أجرٌ» والحمد لله. ومعنى ذلك: أن الرجل إذا استغنى بالحلال عن الحرام، كان له بهذا الاستغناء أجر" [7].

قال ابن رجب رحمه الله: "والصَّدَقة بغير المال نوعان؛ أحدهما: ما فيه تَعْدِيةُ الإحسان إلى الخَلْق، فيكون صدقةً عليهم، وربّما كان أفضلَ من الصَّدقة بالمال، وهذا كالأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، فإنّه دعاءٌ إلى طاعة اللّه، وكفٌّ عن معاصيه، وذلك خيرٌ من النّفع بالمال، وكذلك تعليمُ العلم النّافع، وإقراءُ القرآن، وإزالةُ الأذى عن الطَّريق، والسَّعي في جلب النَّفع للنَّاس، ودفعُ الأذى عنهم، وكذلك الدَّعاءُ للمسلمين والاستغفار لهم" [8].

قال النوويُّ رحمه الله: "قَوْلُهُ ﷺ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» هُوَ بِضَمِّ الْبَاء، ويُطلَق على الجِمَاع، ويُطلَق على الفَرْجِ نفسِه، وكلاهما تصِحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أنَّ المباحاتِ تَصِير طاعاتٍ بالنِّيَّات الصَّادقات؛ فالجماعُ يكون عبادةً إذا نوى به قضاء حقِّ الزَّوجة ومُعاشَرتها بالمعروف الذي أَمَر اللّه تعالى به، أو طَلَبَ ولدٍ صالح، أو إعفافَ نفسِه، أو إعفاف الزَّوجة، ومَنْعَهما جميعًا من النّظر إلى حرام، أو الفِكْرِ فيه، أو الهمِّ به، أو غيرِ ذلك من المقاصد الصَّالحة. قَوْلُهُ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَام،ٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: فيه جواز القياس، وهو مذهبُ العلماءِ كافَّةً، ولم يخالف فيه إلّا أهلُ الظّاهر، ولا يُعتدُّ بهم، وأمَّا المنقول عن التّابعين ونحوهم من ذمِّ القياس، فليس المرادُ به القياسَ الّذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليّون في العمل به، وهذا الحديث دليلٌ لمن عَمِل به، وهو الأصحُّ، واللّه أعلم" [9].

قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ: «أَرَأَيْتَ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ، أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ»: هذا يسمَّى عند الأصوليّين "قياس العكس"، والنّوع الثّاني من الصَّدَقة الّتي ليست ماليّةً: ما نَفْعُه قاصرٌ على فاعله؛ كأنواع الذِّكْر: من التّكبير، والتّسبيح، والتّحميد، والتّهليل، والاستغفار، وكذلك المشيُ إلى المساجد صَدَقةٌ، ولم يَذكُر في شيء من الأحاديث الصَّلاةَ والصّيام والحجَّ والجهاد أنّه صدقة، وأكثرُ هذه الأعمال أفضلُ من الصّدقات الماليَّة؛ لأنّه إنّما ذُكِر جوابًا لسؤال الفقراء الّذين سألوه عمَّا يُقاوم تطوُّع الأغنياء بأموالهم، وأمّا الفرائضُ، فإنّهم قد كانوا كلُّهم مشتركين فيها" [10].

قال ابن عثيمين رحمه الله: "وفي حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - تنبيهٌ على ما يسمِّيه الفقهاءُ "قياس العكس"، وهو إثباتُ نَقْصِ حُكم الأصل في ضِدِّ الأصل؛ لمفارقة العِلَّة؛ فهنا العِلَّة في كَون الإنسان يؤجَر إذا أتى أهله، هو أنه وَضَع شهوتَه في حلال، نَقِيضُ هذه العلَّة: إذا وَضَعَ شهوته في حرام، فإنه يُعاقَب على ذلك، وهذا هو ما يسمَّى عند العلماء بقياس العكس؛ لأن القياس أنواعٌ: قياسُ عِلَّة، وقياس دلالة، وقياس شَبَه، وقِياس عَكْسٍ" [11].

قال ابن رجب رحمه الله: "وقد تكاثَرَتِ النّصوص بتفضيل الذِّكر على الصَّدقة بالمال وغيرها من الأعمال؛ كما في حديث أبي الدّرداء،

عن النّبيِّ ﷺ قال:

" «ألا أُنبِّئُكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعِها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذّهب والفِضَّة، وخيرٍ لكم من أن تَلْقَوْا عَدُوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟» قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «ذِكْرُ اللّه عزَّ وجلَّ»

[12]

أخرَّجه الإمام أحمدُ والتّرمذيُّ، وذكره مالك في "الموطَّأ" موقوفًا على أبي الدّرداء. وفي "الصّحيحين"

عن أبي هريرة، عن النّبيِّ ﷺ، قال:

«من قال: لا إله إلّا اللّهُ وحده لا شريكَ له، له الْمُلْكُ، وله الحمدُ، يُحيي ويميت، وهو على كلِّ شيء قدير، في يوم مائةَ مرَّةٍ، كانت له عَدْلَ عَشْرِ رقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنة، ومُحِيَت عنه مِائةُ سيِّئة، وكانت له حرزًا من الشَّيطان يومَه ذلك حتَّى يُمسيَ، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممّا جاء به إلّا أحدٌ عَمِل أكثرَ من ذلك»"

[13].

قال النوويُّ رحمه الله: "وفي هذا الحديث فضيلةُ التّسبيح، وسائر الأذكار، والأمرِ بالمعروف والنّهيِ عن المنكَر، وإحضارُ النّيَّة في المباحات، وذِكْرُ العالم دليلًا لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيهُ المفتي على مختصَر الأدلَّة، وجوازُ سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدّليل إذا عَلِم من حال المسؤول أنّه لا يَكرَه ذلك، ولم يكن فيه سُوءُ أَدَبٍ، واللّه أعلمُ" [14].

المراجع

1. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 161، 162).

2."شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 91).

3. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 56، 57).

4. رواه البخاريُّ (6502).

5. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 58، 59).

7. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 59).

9. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 92).

10. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66).

11. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 165).

12. رواه أحمد (21702)، والترمذيُّ (3377)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1493).

13. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 66، 67). 

14. "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 93).