39 - عبادةُ اللهِ في الحبِّ والكُرهِ والولاءِ والبراءِ

عَن أَنَسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ قال:«ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ:أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما،وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»

عناصر الشرح

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أَنَسٌ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ أنه قال: «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلاوةَ الإِيمانِ»؛ أي: ثلاثُ خِصال من خِصال الخير، مَن حصَّلها، واتَّصف بها، واجتمعت فيه، واستقرَّت في نفسه، وجد فيهن حلاوة الإيمان، أوَّل هذه الخصال: «أَنْ يكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما»؛ أي: يكونان أحبَّ إليه من نفسه وأهله وماله وكلِّ شيء سواهما، وثاني هذه الخصال: «وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّه إلا للهِ»، لا لدُنيا، ولا مصلحة، ولا هوى، وثالث هذه الخصال: «وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»؛ أي: أن يكره أن يعود إلى الكفر إن كان أسلم بعد كُفر، أو أن يكره أن يصير إلى الكفر إن كان وُلد مسلمًا، كما يكره أن يُقذف في النار.

الشرح المفصَّل للحديث

ما ترَك النبيُّ ﷺ بابًا من أبواب الخير إلا دلَّ الأمةَ عليه، ورغَّبها فيه، واتَّخَذ ﷺ في ترغيب الناس في الخير والأخذ بأيديهم إليه أساليبَ متنوعةً؛ جذْبًا لانتباههم، وتَشويقًا لهم؛ كي يُقبلوا على ما يَدعوهم إليه ﷺ.

وهذا الحديثُ يُعدُّ أصلًا من أصول الإسلام، وجامعًا من جوامع الخير للمسلم في الدنيا والآخرة، وابتدأه ﷺ بأسلوب في غاية التشويق، فقال: «ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وَجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ»؛ أي: ثلاث خِصال من خِصال الخير، مَن حصَّلها وتحقَّق بها، وجَد حلاوةَ الإيمان، وأبهم النبيُّ ﷺ الخصالَ الثلاثَ بدايةً؛ تشويقًا للمستمِع؛ مما يضمن متابعتَه للمتكلِّم ﷺ حتى يتبيَّن هذه الخصال الثلاث[1]

وقوله ﷺ: «وجَدَ حَلاوةَ الإيمانِ» يدُلُّ على أن الإيمانَ له طَعمٌ وحلاوةٌ يتذوَّقها بقَلْبه مَن استكمل هذه الخصالَ الثلاث كما تُذاق حلاوةُ الطعام والشراب بالفمِ.

وحلاوةُ الإيمان هي: "عبارة عما يجدُه المؤمنُ المحقِّق في إيمانه، المطمئنُّ قلْبُه به؛ مِن انشراح صدره، وتنويره بمعرفة الله تعالى، ومعرفة رسوله ﷺ"[2] وهي: "استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشاقِّ في رِضا الله عزَّ وجلَّ ورسوله ﷺ، وإيثارُ ذلك على عرَضِ الدنيا"[3]

وسِرُّ هذه الحلاوة راجعٌ لكون "الإيمان هو غذاء القلوب وقُوَّتها، كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقُوتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوةَ الطعام والشراب إلا عند صحَّته، فإذا سَقِم لم يجِدْ حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه، وما ليس فيه حلاوةٌ؛ لغلَبةِ السقم عليه، فكذلك القلبُ إنما لا يجدُ حلاوةَ الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة والشهوات المحرَّمة، وجَد حلاوةَ الإيمان حينئذٍ، ومتى مرِض وسَقِم لم يجِدْ حلاوةَ الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي؛ لأنه لو كمَل إيمانُه لوَجَد حلاوةَ الإيمان، فاستغنى بها عن استحلاء المعاصي»[4]؛ فمَن وجَد حلاوةَ الإيمان "استلذَّ بالطاعات، وتحمَّل المشقَّات فيما يُرضي الله تعالى، ورسوله ﷺ، وآثر ذلك على عَرَض الدنيا؛ رغبةً في نعيم الآخرة، الذى لا يَبيد ولا يَفنى"[5]

وأول هذه الخصال هي: "أنْ يَكونَ اللهُ ورَسُولُه أحَبَّ إلَيهِ ممَّا سِواهُما"، والمرادُ بحُبِّ الله ورسوله ﷺ هنا هو: "الحبُّ العقليُّ الذي هو إيثارُ ما يقتضي العقل السليم رُجحانه، وإن كان على خلاف هوى النفْس؛ كالمريض يعافُ الدواء بطَبْعه فيَنفِر عنه، ويميل إليه بمقتضى عقله فيهوى تناولَه؛ لأنه يعلم أن صلاحَ حاله فيه، فإذا تأمَّل المرءُ أن الشارع لا يأمرُ ولا ينهى إلا بما فيه صلاحٌ عاجلٌ أو خلاصٌ آجلٌ، والعقل يقتضي رجحانَ جانب ذلك - تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تَبَعًا له"[6]

ومحبَّةُ الله عزَّ وجلَّ على قسمين: الأول: محبةٌ تَحمِل على أداء الفرائض واجتناب النواهي. والثاني: محبةٌ تَحمِل على أداء المندوبات، وتجنُّب الوقوع في الشبهات.

ومحبَّةُ الرسول ﷺ تابعةٌ لمحبة الله عزَّ وجلَّ، وهي أيضًا على قسمين، كما تقدَّم في محبة الله عزَّ وجلَّ، ويُزاد على ذلك: ألَّا يتلقَّى المحبُّ لرسول الله ﷺ شيئًا من المأمورات والمنهيَّات إلا مِن مِشكاته ﷺ، ولا يسلك إلا طريقتَه، ويرضى بما شرعه، ويتخلَّق بأخلاقه ﷺ[7]

وهذه المحبةُ لله ورسوله يجب أن تكون مقدَّمةً في قلب كل مسلم على كل محبوب، وإلا عرَّض نفْسه لسخط الله وعقابه؛

كما قال الله تعالى:

﴿قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ وَأَمۡوَٰلٌ ٱقۡتَرَفۡتُمُوهَا وَتِجَٰرَةٞ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأۡتِيَ ٱللَّهُ بِأَمۡرِهِۦۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡفَٰسِقِين﴾  

 [التوبة: 24].

ومحبةُ الله عزَّ وجلَّ تحصُل في قلب العبد من معرفته بالله عزَّ وجلَّ: معرفة أسمائه وصفاته وأفعاله سبحانه، ومصنوعاته البالغةِ الغايةَ في التمام والكمال والإتقان. وكذلك تنشأ من التفكُّر في نِعَم الله عزَّ وجلَّ على العبد، سواءٌ أكانت نِعمًا تتعلَّق بالخلق والإيجاد، أم بتيسير المعاش، والإمداد بالنِّعَم المتوالية التي لا تنقطع، أم كانت النِّعَم متعلِّقةً بالتشريع والهداية لنور الإيمان، والوقاية من تخبُّط الشرك والجهل. فلو استقرَّت هذه المعاني في القلب، امتلأ حبًّا لله عز وجل [8]، ومثلُه يُقال في محبة رسول الله ﷺ، فتُنال محبتُه ﷺ بمعرفته ﷺ، والوقوف على جميل خصاله، وعظيم جهاده ﷺ. وكذلك بالتفكُّر في كونه ﷺ كان سببًا في هدايتنا لطريق الله عزَّ وجلَّ، والأخذ بأيدينا إليه سبحانه. وأما الخَصلةُ الثانيةُ فهي: «أنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلا للهِ»، وهذا حثٌّ من رسول الله ﷺ على الحبِّ في الله، الذي هو مِن أجلِّ العبادات التي يتقرَّب بها العبدُ لله خالقه، وهو امتداد للأخوَّة الإيمانية التي

أرسى الإسلام قواعدها؛

كما قال الله تعالى:

﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةٞ﴾  

[الحجرات: 10]،

وقال سبحانه:

﴿ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾

[آل عمران: 103].

والمراد بالمَرْءِ: هو المسلم المؤمن بالله عزَّ وجلَّ، وقد أفاد الحديث: أن محبَّة المؤمن الموصِّلة لحلاوة الإيمان لا بد أن تكون خالصةً لله تعالى، غيرَ مَشوبة بالأغراض الدنيوية؛ فإن مَن أحبَّه لذلك، انقطعت محبتُه إن حصل له ذلك الغرضُ، أو يئس من حصوله [9]، ولذا؛ ذكروا في حقيقة الحب في الله: ألَّا يَزيدَ بالبِرِّ ولا يَنقُصَ بالجفاء[10]

ومحبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات[11]

وهذه المحبَّةُ توجب على المسلم أن يسعى في إيصال النفع لأخيه المسلم، وأن يكفَّ عنه أذاه؛ فعن ابن عمر ﭭ، أن رسول الله ﷺ قال: «المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يُسلِمه، ومَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومَن فرَّج عن مسلم كُربةً، فرَّج الله عنه كُربةً من كُربات يوم القيامة، ومَن ستَر مسلمًا ستَره الله يوم القيامة»[12]

وأما الخَصلة الثالثة فيقول فيها ﷺ: «وأنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ»؛ فإن مَن خالط الإيمانُ بَشاشةَ قلْبِه، وتعلَّق قلبُه بحبِّ الله ورسوله ﷺ؛ كانت مفارَقةُ الإيمان بالله، والهبوط بالنفْس مِن هذا النعيم المقيم إلى دنس الكفر، من المحال بالنسبة إليه، حتى إن إلقاء العبد في النار أهونُ عليه من أن يعودَ كافرًا بالله بعد إيمان.

ومعنى (يُقذَف): يُرْمى، والقذفُ: الرميُ. وهذه الكراهة؛ لِما انكشف للمؤمن من محاسن الإسلام، ولِما دخل قلْبَه من نور الإيمان، ولما خلَّصه اللهُ من رذائل الجهالات وقُبح الكُفران" [13]، وإن مَن وجد حلاوةَ الإيمان وخالَط قلبه، عَلِم أن الكافر في النار، فكَرِه الكفرَ كراهيتَه لدخول النار[14]

وهذه ظاهرةٌ فيمَن كان كافرًا ثم أسلم؛ لكن مَن وُلِد في الإسلام فيَكره أن يكون في الكفر بعد أن منَّ الله عليه بالإسلام، كما يَكرهُ أن يُقذَف في النار، يعني أنه لو قُذِف في النار لكان أهونَ عليه من أن يعودَ كافرًا بعد إسلامه[15]

وحُبُّ الإيمان وكراهيةُ الكفر من أعظم النِّعَم التي امتنَّ الله بها على عباده الصادقين؛ قال تعالى:    

﴿وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡإِيمَٰنَ وَزَيَّنَهُۥ فِي قُلُوبِكُمۡ وَكَرَّهَ إِلَيۡكُمُ ٱلۡكُفۡرَ وَٱلۡفُسُوقَ وَٱلۡعِصۡيَانَۚ أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلرَّٰشِدُونَ, فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾

[الحجرات: 7، 8].

 واعلمْ أن القَدْر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفِر من ذلك، ويتباعد منه جُهْده، ويعزم على ألَّا يلابس شيئًا منه جُهْده؛ لعلمه بسخط الله له، وغضبه على أهله.

فأما مَيْل الطبع إلى ما يميل من ذلك - خصوصًا لِمَن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخَذ به إذا لم يقدِر على إزالته؛ ولهذا مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، وذلك يدُلُّ على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن مَن عصى هواه كان محمودًا عند الله عزَّ وجلَّ[16]



المراجع

  1.  انظر: "كنوز رياض الصالحين"، مجموعة باحثين برئاسة: حمد بن ناصر العمار (6/ 215).
  2.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 210).
  3.  "المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج" للنَّووي (2/ 13).
  4.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 50- 51).
  5.  "شرح صحيح البخاري" لابن بطَّال (1/ 66).
  6.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلانيِّ (1/ 60- 61).
  7. انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسْقلانيِّ (1/ 61).
  8.  انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبليِّ (1/ 51).
  9. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  10.  انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجرٍ العسْقلاني (1/ 62).
  11.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (1/ 215).
  12.  رواه البخاري (2442)، ومسلم (2580).
  13. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214).
  14.  "شرح صحيح البخاري" لابن بَطَّال (1/ 68). 
  15.    "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260).
  16.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58). 

النقول

قال النوويُّ رحمه الله: "قال العلماء - رحمهم الله -: معنى (حلاوة الإيمان): استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رضا الله - عزَّ وجلَّ – ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبَّة العبدِ ربَّه - سبحانه وتعالى - بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبَّة رسول الله ﷺ" [1]

قال ابن حجر رحمه الله: "قال البيضاويُّ: المراد بالحبِّ هنا الحبُّ العقليُّ الّذي هو إيثار ما يقتضي العقل السّليم رجحانه، وإن كان على خلاف هوى النّفس؛ كالمريض يعافُ الدّواء بطبعه فيَنفِر عنه ويميل إليه بمقتضى عقله، فيهوى تناوله، فإذا تأمَّل المرء أنّ الشّارع لا يأمر ولا ينهى إلّا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل، والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك، تمرَّن على الائتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعًا له، ويلتذُّ بذلك التذاذًا عقليًّا؛ إذ الالتذاذ العقليُّ إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك، وعبَّر الشّارع عن هذه الحالة بالحلاوة لأنّها أظهر اللّذائذ المحسوسة. قال: وإنّما جعل هذه الأمور الثّلاثة عنوانًا لكمال الإيمان؛ لأنّ المرء إذا تأمَّل أنّ المنعم بالذّات هو اللّه تعالى، وأن لا مانح ولا مانع في الحقيقة سواه، وأنّ ما عداه وسائط، وأنّ الرّسول هو الّذي يبيِّن له مراد ربّه، اقتضى ذلك أن يتوجَّه بكلِّيَّته نحوه، فلا يحبُّ إلّا ما يحبُّ، ولا يحبُّ من يحبُّ إلّا من أجله، وأن يتيقَّن أنّ جملة ما وعد وأوعد حقٌّ يقينًا، ويخيَّل إليه الموعود كالواقع، فيحسب أنّ مجالس الذّكر رياض الجنّة، وأنّ العَود إلى الكفر إلقاء في النّار" [2]

قال القرطبيُّ رحمه الله: "محبة المؤمن وظيفةٌ متعيِّنة على الدوام، وُجِدت الأغراض أو عُدِمت، ولما كانت المحبَّة للأغراض هي الغالبةَ، قلَّ وِجدان تلك الحلاوة؛ بل قد انعدم، لا سيَّما في هذه الأزمان التي قد انْمَحى فيها أكثرُ رسوم الإيمان. وعلى الجملة: فمَحبَّة المؤمنين من العبادات التي لا بد فيها من الإخلاص في حسن النيَّات" [3]

قال ابن رجب : "فهذه الثلاث خصال من أعلى خصال الإيمان، فمن كمَّلها فقد وجد حلاوة الإيمان، وطَعِم طعمَه، فالإيمان له حلاوة وطعم يُذاق بالقلوب كما يُذاق حلاوة الطعام والشراب بالفم؛ فإن الإيمان هو غذاءُ القلوب وقوَّتها كما أن الطعام والشراب غذاء الأبدان وقوَّتها، وكما أن الجسد لا يجد حلاوة الطعام والشراب إلا عند صحته، فإذا سَقِم لم يجد حلاوة ما ينفعه من ذلك؛ بل قد يستحلي ما يضرُّه وما ليس فيه حلاوة؛ لغلبة السَّقَم عليه، فكذلك القلب إنما يجد حلاوة الإيمان من أسقامه وآفاته، فإذا سَلِم من مرض الأهواء الْمُضِلَّة، والشهوات المحرَّمة، وجد حلاوة الإيمان حينئذ، ومتى مرض وسَقِم لم يجد حلاوة الإيمان؛ بل يستحلي ما فيه هلاكُه من الأهواء والمعاصي" [4]

قال القرطبيُّ رحمه الله: "معنى (يُقذَف): يُرْمى، والقذفُ: الرميُ. وهذه الكراهة؛ لِما انكشف للمؤمن من محاسن الإسلام، ولِما دخل قلْبَه من نور الإيمان، ولما خلَّصه اللهُ من رذائل الجهالات وقُبح الكُفران" [5]

قال ابن بطَّال رحمه الله: "معناه: أن مَن وجد حلاوةَ الإيمان وخالط قلبه، عَلِم أن الكافر في النار، فكَرِه الكفرَ كراهيتَه لدخول النار" [6]

قال ابن عُثيمين رحمه الله: "وهذه ظاهرةٌ فيمَن كان كافرًا ثم أسلم، لكن مَن وُلِد في الإسلام فيَكره أن يكون في الكفر بعد أن منَّ الله عليه بالإسلام، كما يَكرهُ أن يُقذَف في النار، يعني أنه لو قُذِف في النار لكان أهونَ عليه من أن يعودَ كافرًا بعد إسلامه" [7]

قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "واعلمْ أن القَدْر الواجب من كراهة الكفر والفسوق والعصيان هو أن ينفِر من ذلك، ويتباعد منه جُهْده، ويعزم على ألَّا يلابس شيئًا منه جُهْده؛ لعلمه بسخط الله له، وغضبه على أهله. فأما مَيْل الطبع إلى ما يميل من ذلك -خصوصًا لمَن اعتاده ثم تاب منه - فلا يؤاخَذ به إذا لم يقدِر على إزالته، ولهذا مدَح الله مَن نهى النفْس عن الهوى، وذلك يدُلُّ على أن الهوى يميل إلى ما هو ممنوع منه، وأن مَن عصى هواه كان محمودًا عند الله عزَّ وجلَّ" [8]

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تحقيق هذا الفناء: أن لا يحبَّ إلّا في اللّه، ولا يُبغض إلّا فيه، ولا يوالي إلّا فيه، ولا يعادي إلّا فيه، ولا يعطي إلّا له، ولا يمنع إلّا له، ولا يرجو إلّا إيّاه، ولا يستعين إلّا به، فيكون دينه كلُّه ظاهرًا وباطنًا للّه، ويكون اللّه ورسوله أحبَّ إليه ممّا سواهما، فلا يوادُّ من حادَّ اللّه ورسوله، ولو كان أقربَ الخلق إليه؛ بل:

يُعَادِي الَّذِي عَادَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ = جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا

وحقيقةُ ذلك فناؤه عن هوى نفسه وحظوظها بمراضي ربِّه وحقوقه، والجامعُ لهذا كلِّه تحقيق شهادة أن لا إله إلّا اللّه علمًا ومعرفةً، وعملًا وحالًا وقصدًا" [9]

المراجع

  1.   "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 13).
  2.  "فتح الباري" لابن حجر (1/ 60، 61).
  3.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 215).
  4.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 50).
  5.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبي (1/ 214). 
  6.  "شرح صحيح البخاري" لابن بَطَّال (1/ 68). 
  7.  "شرح رياض الصالحين" لابن عُثيمين (3/ 260). 
  8.  "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن رجب الحنبلي (1/ 58).
  9.  "مدارج السالكين" (1/ 185).

مشاريع الأحاديث الكلية