اﻷحاديث
علَقة: دمٌ غليظٌ متجمِّدٌ[1]
الْمُضْغة: قطعةُ لحْم بقَدْر ما يُمضَغُ [2]
المراجع
- قال الفيوميُّ في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" (2/ 425): "وَالْعَلَقَةُ: الْمَنِيُّ ينتقل بعد طَوره فيصير دمًا غليظًا متجمِّدًا، ثمّ ينتقل طَورًا آخَرَ فيصير لحمًا، وهو الْمُضغة، سمِّيت بذلك لأنّها مقدار ما يُمضَغ".
- قال الأزهريُّ في "تهذيب اللغة" (8/ 57): "الْمُضغَة من اللَّحم قدر ما يُلقي الإنسان في فيه".
يقول ابن مسعودرضي الله عنه: "حدَّثنا رسولُ الله ﷺ وهو الصادقُ المصدوقُ": هذا الحديث في أمور الغيب، ففيه وصف تفصيليٌّ لخلق الإنسان، ولم يكن معروفًا حينها في الطبِّ، وهناك ما هو فوق الطبِّ؛ (كتابة الرزق، والأجل، والعمل، وشقيٌّ أو سعيد)؛ فهذ الحديث دليل على صدق رسالته ﷺ.
قوله ﷺ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»: هي مرحلة التقاء ماء الرجل بماء المرأة، ويظلُّ هذا الماء الْمَهين على حاله، قبل أن يتحوَّل إلى طَور العَلَقة. «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ»؛ أي: أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَالْعَلَقَةُ قِطعة من دَمٍ جامدة، وسُمّيت بذلك لأنها تَعلَق في جدار الرحم. «ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ»؛ أي: أربعين يومًا. والْمُضغة: قِطْعَةٌ من لَحْمٍ صغيرة، بقدر ما يُمضَغ. «ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكًا بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ»: ثم يَكْتُبُ الملَك له هذه الأربعَ الكلماتِ: الرزقَ، والأجَلَ، والعمل، والشقاء أو السعادة، ثم يَنْفُخُ فيه الرُّوحَ بأمر ربِّه، فتَدِبُّ فيه الحركة، ويُصبح كائنًا حيًّا تُحِسُّ به الأمُّ.
قوله ﷺ: «فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ»؛ أي: من المعاصي والذنوب. «حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ»: كنايةً عن شدَّة القُرب. «فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ»: يغلِب عليه الذي كُتب له في بطن أمه. «فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»: من الطاعات والقُرُبات. «فَيَدْخُلُ الجَنَّةَ»: برحمة الله وفضله. «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ»: من الطاعات والقُرُبات، فيما يَبْدو للناس ظاهرًا، أو كان ذلك منه رِياءً وسُمعةً. «حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُ النَّارَ»؛ أي: إن العبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله.
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث بيان أمرٍ مهمٍّ من أمور الغَيب التي لا نُشاهِدُها، وهي خَلْق الإنسان في رَحِم أمِّه ومراحله، بَدْءًا من إلقاء النُّطفة، إلى أن يُنفَخ فيه الروحُ، ويَكتب الْمَلَكُ الموكَّل به ما يخصُّه.
ثم في الحديث أيضًا إشارةٌ إلى أن الأعمال بالخواتيم، وعلى المرء ألَّا يغترَّ بعمله، ولا يحكم بمصير أحد من الخَلْق؛ فإن القلوب بين أصابع الرحمن، يقلِّبها كيف يشاء.
قوله ﷺ: «إن أحدكم يُجمَع خَلْقه في بطن أمه أربعين يومًا» يُريد أن ما يُخلق منه الإنسان يُقرَّر ويُحرَّز في بطن الأمِّ تلك المدَّةَ، أو ربما أراد أن النُّطفة تمكُث في الرحِم أربعين يومًا تتهيَّأ للخَلْق وتتخمَّر[1] أو ربما يُريد بالجمع ضمَّ بعضِه إلى بعض بعد الانتشار [2]
وفي ذلك ردٌّ على أهل التشريح والطبِّ والطبائعيِّين الذين يقولون: إن أصل الولد من ماء الحَيض، وليس للمَنِيِّ دَورٌ إلا عقده كما تَعقِد الأنفحةُ اللبنَ، وهذا مردودٌ بالحديث،
وبقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ,ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ , ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ ﴾
[المؤمنون: 12 - 14] [3]
وقوله ﷺ: «ثم يكون عَلَقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مُضغةً مثلَ ذلك»؛ أي: تتحوَّل تلك النُّطفة فتَصير عَلَقةً، وهي الدم الغليظ المتجمِّد، فتمكُث على صورتها تلك أربعين يومًا أخرى، ثم بعدها تتشكَّل في صورة الْمُضْغة، وهي قطعة لحم يسيرة بقَدْر ما يَمضغ الإنسان في فمِه.
واللهُ - عزَّ وجلَّ - قادرٌ على أن يَخلُق الإنسان جملةً واحدةً، بدَلًا من أن يَخلُقه على مراحلَ متفاوتةٍ، وإنما اقتضت حكمته ذلك لفوائد؛ منها:
أنه لو خلَق الإنسان في بطن أمِّه دفعةً واحدةً، يشُقُّ ذلك على الأمِّ وتخاف؛ لأنها لم تكن معتادةً بذلك، فلا تعلم أن ما ظَهَر في بطنها ولدٌ أو عِلَّة، فاقتضت حكمةُ الله تعالى أن يجعله أولًا نُطفةً مدَّةً لتعتاد أمُّه بذلك، ثم ينقلب عَلَقةً مدةً لتعتاد أيضًا بالعَلَقة مدَّةً، وكذلك تعتاد وتأنس بما في بطنها ساعةً فساعةً إلى وقت الولادة.
والفائدة الثانية: إظهار نِعمته وقدرته للناس؛ ليعلموا أنه قادرٌ على كلِّ شيء، من جَعْل النطفةِ عَلَقةً، والعلقةِ مُضغةً، وغير ذلك من الأحوال؛ ليشكروا نعمته عليهم بأن خلَقَهم من نُطفة، ثم جعلهم عَلقةً، ثم مُضغةً، ثم إنسانًا حسنَ الصورة، مزيَّنًا بالعقل والفِطنة.
والفائدة الثالثة: إظهار قُدرته على البعث؛ لأنَّ مَن قدَر على خَلق الإنسان من ماء، ونفخ الرُّوح فيه؛ يَقدِر على خَلْقه بعد صيرورته في القبر ترابًا، ونفخ الرُّوح فيه، وحشره في القيامة للحساب والجزاء[4]. وقوله ﷺ: «ثم يَبعَث الله ملَكًا»: المراد بإرسال الملَك هنا إنما هو أمرُه بفعل ما يُريد الله منه؛ ففي الصحيحَين
عن أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ قال:
«إن الله وكَّل في الرَّحِم مَلَكًا، فيقول: يا ربِّ نُطفةٌ، يا ربِّ عَلَقةٌ، يا ربِّ مُضغةٌ، فإذا أراد أن يخلُقها قال: يا ربِّ أذكَرٌ، يا ربِّ أُنثى، يا ربِّ، شقيٌّ أم سعيدٌ، فما الرِّزقُ؟ فما الأجَل؟ فيُكتَب كذلك في بطن أمه»
[5]،
فالظاهرُ من هذا الحديث أن الملَك موكَّل بالرحِم من أوَّل ما كان الآدميُّ نطفةً، فيكون المراد من الإرسال هو الأمرَ بذلك، من النفخ في الرُّوح والكتابة[6]
قوله: «بأربع كلماتٍ»، أي: قضايا، وكل قضية يُقال لها: كلمةٌ [7] وهذه القضايا هي الرزق، والأجَل، والعمل، والشقاء أو السعادة، كما في الحديث. وإنما يؤمَر بذلك بعد أن يسأل الملَك عنها؛ لِما في حديث أنس السابق.
والظاهر أن الملَك لا يكتب تلك الأشياءَ فحسْبُ؛ بل يَكتب كلَّ ما له عَلاقة بالإنسان؛ فيكتب شكلَه، وأخلاقَه، وطباعَه، وغير ذلك؛ فقد روى إسحاقُ بنُ راهوَيْهِ وغيرُه
عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها، عن رسول الله ﷺ قال:
«إن الله إذا أراد أن يخلُقَ الخلْقَ بعَث مَلَكًا، فيدخل الرحِم فيقول: يا ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ فيقول: ذكرٌ، أو أنثى، أو ما شاء الله أن يخلُق في الرحم، فيقول: أيْ ربِّ، أشقيًّا أم سعيدًا؟ فيقول: شقيًّا أم سعيدًا، فيقول: أيْ ربِّ، فما أجَلُه؟ ثم يقول: أيْ ربِّ، فما رِزقه؟ ثم يقول: أيْ رب، فما خَلْقه وخلائقه؟ فلا يقول شيئًا إلا فعَلَه في الرحم»
[8]
وهذه الكتابة التي يَكتُبها الملَك غير كتابة الله - عزَّ وجلَّ - للقدَر في اللوح المحفوظ؛ فإنه قد كتب الأقدار قبل أن يَخلُق السمواتِ والأرضَ؛ قال تعالى:
( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾
[الحديد: 22]
وأخرج مسلم عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه، قال:
سمعتُ رسول الله ﷺ يقول:
«كتَب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»
[9]
والحكمة من تلك الكتابة التي يكتبها الملَك كَوْنُ ما كتبه قابلًا للمَحْوِ والإزالة والتغيير، بخلاف ما كتبه في اللوح المحفوظ؛ فإنه ثابتٌ لا يتغيَّر[10]
وقوله ﷺ: «ثم ينفخ فيه الروح»: أسند النفخ للمَلَك، ومعنى إسناد النفخ للمَلَك أنه يفعله بأمر الله. والنفخ في الأصل: إخراجُ رِيحٍ من جوف النافخ ليدخل في المنفوخ فيه، والمراد بإسناده إلى الله تعالى - كما
فيقوله تعالى:
﴿ثُمَّ سَوَّىٰهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾
[السجدة: 9]
- أن يقول له: كُنْ، فيكون[11]
والنفخ إنما يكون في الْمُضغة بعدَ أن تتشكَّل بصورة الإنسان؛ كما قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾
[الحج: 5]،
مع قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ ﴾ [المؤمنون: 14]
فالمخلَّقة: المصوَّرة، وغير المخلَّقة: السَّقط، وتمام الخَلق والتصوير في كل مرحلة يكون في أربعين يومًا، وبعد ذلك ينفخ فيه الرُّوح، وهو الْمَعْنِيُّ بقوله:
﴿ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ﴾
[المؤمنون: 15]
وقد اتَّفَق الفقهاء على أن نفخ الرُّوح يكون بعد مِائة وعشرين يومًا؛ أخذًا بهذا الحديث وأمثاله، وذلك تمام أربعة أشهر، والدخول في الخامس، وعليه يُعوَّل فيما يُحتاج إليه من الأحكام في الاستلحاق عند التنازُع، وفي وجوب النفقات على حمل المطلَّقات؛ وذلك لتيقُّنه بحركة الجنين في الجوفل[12]
ثم انتقل النبيُّ ﷺ إلى بيان الخواتيم، وأن السعيد مَن سَعِد في بطن أمه، والشقيَّ مَن شَقِي في بطن أمِّه؛ فقوله r: «إن الرجُل ليَعمَلُ بعمل أهل النار»؛ أي: من المعاصي والذنوب.
وقوله ﷺ: «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ» على طريق التمثيل للدلالة على قُرْب موته ودُنوِّ أجَلِه[13]
والمراد أن الله - عزَّ وجلَّ - قدَّر ما يكون، ثم أمر بأن يُكتب في اللوح ذلك، ثم أمر الملَك ليكتب في جبهة كل واحدٍ ما قُدِّر له، وإذا كان كذلك لا يكون عاقبة الرجُل ولا أجَله إلا على ما قُدِّر له في الأزل، فإذا قُدِّر في الأزل لأحد أنه من أهل الجنة، تكون عاقبتُه الجنةَ، وإن كان مشغولًا بعمل أهل النار في مدَّة من عمره؛ بل يقلبه الله تعالى من أعمال أهل النار إلى أعمال أهل الجنة؛ حتى يموت على عمل أهل الجنة، فيدخل الجنة[14]
وقوله ﷺ: «وإن الرجُل ليعمل بعمل أهل الجنة» ليس على إطلاقه؛ بل المراد أنه كان يعمل كذلك فيما يَبْدو للناس ظاهرًا، أو كان ذلك منه رِياءً وسُمعةً؛ ففي حديث الشيخين عن سهل بن سعد الساعديِّ، أن النبيَّ قال ﷺ: «إن الرجُلَ ليعملُ عملَ أهل الجنة - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل النار، وإن الرجُل ليعملُ عملَ أهل النار - فيما يَبْدو للناس - وهو من أهل الجنة»[15]
وإلا فقدقال تعالى:
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾
[التوبة: 115].
وقوله ﷺ: «فيسبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار»، المراد بهذا الحديث التوكيد على أن العِبرة بالخواتيم، وعلى الإنسان ألَّا يغترَّ بعمله الذي عَمِل؛ لقوله r في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالخواتيم»[16]
فلا ينبغي أن يركَن الإنسان إلى عمل، ولا يعوِّل على عبادة؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - إذا اطَّردت الأسبابُ، خرَقها في نوادرَ؛ ليتبيَّن بذلك أنه لا تجوز عبادة الأسباب؛ ولكن يُعبَد اللهُ الْمُسَبِّب، فهذا ينبغي أن يُتداوى به في نفي العُجْبِ عن العاملين، لا ترْك العمل الصالح، وفي الحذر من القنوط من رحمة الله تعالى، لا في الزيادة من الذنوب إزماعًا على الهَلَكة[17]
وإنما يأمر الملَك حسْبما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، فمَن وجده مستعدًّا لقَبول الحقِّ واتِّباعه، ورآه أهلًا للخير، وأسباب الصلاح متوجِّهة إليه، أثبته في عداد السُّعداء، وكتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك. ومَن وجده جافيًا قاسيَ القلب ضاريًا بالطبع، متأبِّيًا عن الحق، أثبت ذِكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يتوقَّع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغيُّر ذلك، فإن علِم من ذلك شيئًا، كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وَفْقَ ما يتمُّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتيمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، أو النار[18]
وهذا الحاصل من الختم بالسوء لمَن ظاهرُ أمرهم الخيرُ والصلاحُ، وأنهم من أهل الجنة؛ إنما هو من النوادر التي لا تطَّرد، وحكمته بيان أن الأعمال بالخواتيم، وأن ظاهر الأعمال ليس دليلًا على المصير؛ فإن السعيد قد يشقى، والشقيَّ قد يسعد، وهذا بالنسبة للأعمال الصالحة، أما في علم الله فلا يتغيَّر الحال؛ فالذي كتبه الله سعيدًا لا يشقى، وإن كان قد يخلط عمله الصالح بالسيِّئ حتى يتوفَّاه الله على الصلاح، فيكون من أهل السعادة في الآخرة[19]
و"هذا قد يقَع في نادرٍ من الناس، لا أنه غالبٌ فيهم، وذلك من لُطْف الله سبحانه، وسَعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشرِّ إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرِّ، ففي غاية الندور، ولله الحمد والْمِنَّة على ذلك"[20]
وعلى هذا؛ فلا تعارُض بين هذا الحديث وبين حديث الصحيحينِ
عن عليٍّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال:
«ما منكم من أحدٍ، ما من نفْس منفوسةٍ إلا كُتِب مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كُتِب: شقيَّةٌ أو سعيدةٌ»، فقال رجُل: يا رسول الله، أفلا نتَّكِلُ على كتابنا ونَدَع العمل؟ فمَن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، وأما مَن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، قال: «أما أهل السعادة فيُيَسَّرون لعمل السعادة، وأما أهل الشقاوة فيُيسَّرون لعمل الشقاوة»، ثم قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ , وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَ ﴾
[الليل: 5-6]
فإن حديث عليٍّ رضي الله عنه هو المطَّردُ الغالب، فيجب القول به، وأن يعمل الإنسان ولا يترك العملَ بدعوى الخواتيم والاحتجاج بالقدَر، وحديث ابن مسعود الذي معنا محمولٌ على النوادر؛ ليبيِّن أن العبرة بخاتمة الإنسان، وألَّا يغترَّ الإنسان بعمله؛ لكن لما كان النادر جائزَ الحصول، تعيَّن طلب الثبات من الله عزَّ وجلَّ[21]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
«خرج علينا رسولُ الله ﷺ ونحن نتنازَع في القَدَر، فغضب حتى احمرَّ وجهُه، حتى كأنما فُقئَ في وجنتيه الرمَّان، فقال: أبهذا أُمرتم أم بهذا أُرسلتُ إليكم؟ إنما هلَك مَن كان قبلكم حين تنازَعوا في هذا الأمر، عزمتُ عليكم ألَّا تتنازعوا فيه»
[22]
"والتنازع في القَدَر: أن يقول أحد: إذا كان جميع ما يجري في العالَم بقَدر الله تعالى، فلِمَ يُعذَّب المذنبون؟! ولِمَ يُنسَب الفعل إلى العباد وإلى الشيطان،
فقال:
﴿لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ ﴾
[النور: 21]"
ولذلك رُوي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله ﷺ يُكثر أن يقول: «يا مُقَلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك»
المراجع
- . انظر: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" لابن الملقِّن (5/ 101)
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 482).
- رواه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (2/344)، والآجريُّ في "الشريعة" (365). وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (7/ 193).
- رواه مسلم (2653).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن رجب (ص: 45)، "فتح الباري" لابن حجر (11/ 485).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 486).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/ 651).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 123).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 128)، "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 178).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 178).
- رواه البخاريُّ (2898)، ومسلم (112).
- رواه البخاريُّ (6607).
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (2/ 48).
- "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 92). 1
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 488).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
- رواه البخاريُّ (1362)، ومسلم (2647).
- انظر: "فتح الباري" لابن حجر (11/ 491).
- . رواه الترمذيُّ (2133)، وقال: حديث غريب، وحسَّنه ابن حجر في "المطالب العالية" (12/ 441).
- "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (1/ 205).
- رواه الترمذيُّ (2140)، وابن ماجهْ (3834)، وقال الترمذيُّ: حديث حسن، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن الترمذيِّ" (2140).
قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد بالنُّطفة المنيُّ، وأصله الماء الصّافي القليل، والأصل في ذلك أنّ ماء الرّجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع، وأراد اللّه أن يَخلُق من ذلك جَنينًا، هيَّأ أسباب ذلك؛ لأنّ في رحم المرأة قوَّتين: قوّة انبساط عند ورود منيِّ الرّجل حتّى ينتشر في جسد المرأة، وقوّة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه منكوسًا، ومع كون المنيِّ ثقيلًا بطبعه، وفي منيِّ الرّجل قوَّة الفعل، وفي منيِّ المرأة قوَّة الانفعال، فعند الامتزاج يصير منيُّ الرّجل كالإنفحة للَّبن، وقيل: في كلٍّ منهما قوَّة فعل وانفعال؛ لكنَّ الأوّل في الرّجل أكثر، وبالعكس في المرأة، وزعم كثير من أهل التّشريح أنّ منيَّ الرّجل لا أثر له في الولد إلّا في عَقْده، وأنّه إنّما يتكوَّن من دم الحيض، وأحاديث الباب تُبطل ذلك، وما ذكر أوّلًا أقرب إلى موافقة الحديث، واللّه أعلم"[1]
قال ابن الأثير رحمه الله: "وَفِيهِ: «إِنَّ خَلْق أحَدِكُم يُجْمَعُ فِي بَطْن أمِّه أربَعين يَوْمًا»؛ أي: إنّ النُّطفة إذا وقعت في الرَّحِم فأراد اللّه أن يَخلُق منها بَشرًا، طارت في جسم المرأة تحت كلِّ ظُفر وشَعَر، ثمّ تمكث أربعين ليلةً، ثمّ تنزل دمًا في الرّحم، فذلك جَمْعُها. كذا فسَّره ابن مسعود فيما قيل. ويجوز أن يُريد بالجمع مُكْث النُّطفة في الرّحم أربعين يومًا تتخمَّر فيه حتّى تتهيَّأ للخَلق والتّصوير، ثم تُخلَق بعد الأربعين"[2]
قال ابن هُبيرة رحمه الله: "ومع ذلك فإنه لا ينبغي أن يركَن الإنسان إلى عمل، ولا يعوِّل على عبادة؛ فإن الله سبحانه وتعالى إذا اطَّردت الأسبابُ خرَقها في نوادر؛ ليتبيَّن بذلك أنه لا تجوز عبادة الأسباب؛ ولكن يُعبَد اللهُ الْمُسَبِّب، فهذا ينبغي أن يُتداوى به في نفي العُجْبِ عن العاملين، لا ترْك العمل الصالح، وفي الحذر من القنوط من رحمة الله تعالى، لا في الزيادة من الذنوب إزماعًا على الهَلَكة"[3]
قال البيضاويُّ رحمه الله: "وإنما يأمر الملَك حسْبما اقتضته حكمته، وسبقت به كلمته، فمَن وجده مستعدًّا لقَبول الحقِّ واتِّباعه، ورآه أهلًا للخير، وأسباب الصلاح متوجهة إليه، أثبته في عداد السعداء، وكتب له أعمالًا صالحةً تناسب ذلك. ومَن وجده جافيًا، قاسيَ القلب، ضاريًا بالطبع، متأبِّيًا عن الحقِّ، أثبت ذِكره في ديوان الأشقياء الهالكين، وكتب له ما يُتوقَّع منه من الشرور والمعاصي. هذا إذا لم يعلم من حاله وقوع ما يقتضي تغيُّر ذلك، فإن علِم من ذلك شيئًا، كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه وَفْقَ ما يتمُّ به عمله؛ فإن مِلاك العمل خواتيمه، وهو الذي يسبق إليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة أو النار"[4]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "هذا قد يقَع في نادرٍ من الناس، لا أنه غالبٌ فيهم، وذلك من لُطْف الله سبحانه، وسَعة رحمته؛ فإن انقلاب الناس من الشرِّ إلى الخير كثير، وأما انقلابهم من الخير إلى الشرِّ، ففي غاية الندور، ولله الحمد والْمِنَّة على ذلك"[6]
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُهُ «ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلك»؛ يعني: أربعين يومًا، والعَلَقة قطعة من دم. «ثمّ يكون مُضغةً مثل ذلك»؛ يعني: أربعين يومًا. والمضغة: قطعة من لحم. «ثمّ يرسل اللّه إليه الملك، فينفخ فيه الرّوح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد»، فهذا الحديث يدلُّ على أنّه يتقلَّب في مِائة وعشرين يومًا، في ثلاثة أطوار، في كلّ أربعين يومًا منها يكون في طَور، فيكون في الأربعين الأولى نطفةً، ثمّ في الأربعين الثّانية علقةً، ثمّ في الأربعين الثّالثة، مُضغةً، ثمّ بعد المائة وعشرين يومًا يَنفُخ الملَك فيه الرّوح، ويَكتُب له هذه الأربعَ الكلماتِ. وقد ذكر اللّه تعالى في القرآن في مواضعَ كثيرةٍ تقلُّب الجَنين في هذه الأطوار؛
كقوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾
[الحج: 5]
وذكر هذه الأطوار الثّلاثة: النّطفة والعلقة والمضغة في مواضعَ متعدِّدة من القرآن، وفي مواضعَ أُخَرَ ذكر زيادةً عليها
فقال
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلْإِنسَٰنَ مِن سُلَٰلَةٍۢ مِّن طِينٍۢ ثُمَّ جَعَلْنَٰهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍۢ مَّكِينٍۢ ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَٰمًا فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَٰمَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَٰهُ خَلْقًا ءَاخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَٰلِقِينَ﴾
[المؤمنون: 12 - 14]
فهذه سبع تارات ذكرها اللّه في هذه الآية لخلق ابن آدم قبل نفخ الرّوح فيه"
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الروح عجيبة، لها حال في المنام فتخرج من البدن؛ لكن ليس خروجًا تامًّا، فتجد نفسك تجوب الفيافيَ، ربما وصلتَ إلى الصين أو إلى أقصى المغرب، وربما طرتَ بالطائرة، وربما ركبت السيارة، وأنت في مكانك، واللحاف قد غطَّى جسمك، ومع ذلك تتجوَّل في الأرض؛ لكنها لا تفارق الجسم في حال النوم مفارقة تامَّة، فالروح أمرها غريب، ولسنا نعلم منها إلا ما جاء في الكتاب والسنَّة، وما لا نعلمه نَكِلُ علمهُ لله سبحانه وتعالى"[7]
قال ابن القيم رحمه الله: "الجُهَّال بالله وأسمائه وصفاته المعطِّلون لحقائقها يُبَغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريقَ محبَّته، والتودُّد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون، ونحن نذكُر من ذلك أمثلة تُحتذى عليها، فمنها أنهم يقرِّرون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعةٌ، وإن طال زمانها"[8]
قال ابن حجر رحمه الله: "والمراد أنّه يَكتُب لكلّ أحد إمّا السّعادة وإمّا الشّقاء، ولا يكتبهما لواحد معًا، وإن أمكن وجودهما منه؛ لأنّ الحكم إذا اجتمعا للأغلب، وإذا ترتَّبا فللخاتمة؛ فلذلك اقتصر على أربع، وإلّا لقال: خمس، والمراد من كتابة الرّزق تقديره قليلًا أو كثيرًا، وصفته حرامًا أو حلالًا، وبالأجل هل هو طويل أو قصير؟ وبالعمل هو صالح أو فاسد؟ ووقع لأبي داود من رواية شعبة والثّوريّ جميعًا عن الأعمش: «ثمّ يكتب شقيًّا أو سعيدًا» ومعنى قوله: «شقيّ أو سعيد» أنّ الملك يكتب إحدى الكلمتين؛ كأن يكتب مثلًا أجل هذا الجنين كذا، ورزقه كذا، وعمله كذا، وهو شقيٌّ باعتبار ما يُختَم له، وسعيد باعتبار ما يختم له، كما دلّ عليه بقيّة الخبر"[9]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "رِزْقه: الرزق هنا: ما يَنتفِع به الإنسان، وهو نوعان: رزق يقوم به البَدَن، ورزق يقوم به الدِّين. والرزق الذي يقوم به البدن: هو الأكل والشُّرب واللباس والمسكن والمركوب وما أشبه ذلك، والرزق الذي يقوم به الدين: هو العلم والإيمان، وكلاهما مراد بهذا الحديث"[10]
قال الخطابيُّ رحمه الله: "ظاهر الأعمال من الحسنات والسيئات أمارات، وليس بموجِبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء"[11]
المراجع
1. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 479، 480).
2. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (1/ 297).
3. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (2/ 48).
4. "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 92).
5. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 39).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 155، 156).
7. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص 93).
8. "الفوائد" لابن القيم (ص: 159).
9. "فتح الباري" لابن حجر (11/ 483).
10. "شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص85).
11. "أعلام الحديث (شرح صحيح البخاريِّ)" للخطَّابيِّ (2/ 1483).
يروي ابن عبَّاسٍ ﭭ: «كنتُ خَلْفَ رسولِ الله ﷺ يومًا»: يُحتمَل أنه كان راكبًا خلفَه، أو ماشيًا خلفَه. «فقال: يا غلامُ»: لأن ابن عباس ﭭ كان صغيرًا. «إنِّي أُعلِّمُكَ كلماتٍ»؛ أي: فانتبه لها، واحفظها، وافهمها، وبلِّغها، ينفعْك الله بها، وهذه الكلمات هي: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَكَ»؛ أي: احفظ حدودَه وحقوقَه، مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه، يَحفَظْك في دينك ونفسك وأهلك ومالك، ووجدتَه معك بحفظه أينما توجَّهتَ. «إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ»: لا تسأل المخلوق شيئًا، ولو سألتَه ما يَقدِر عليه، فهو سبب، والمسبِّب هو الله تعالى. «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»: وتوكَّلْ عليه، يُعِنْكَ، وإذا استعنتَ بمخلوق فيما يَقدِرُ عليه، فاعتقد أنه سببٌ، وأن الله هو الذي سخَّره لك. «واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لوِ اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعوكَ بشيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولوِ اجْتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ، لم يَضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليكَ»: فإنَّ نَفْعَ الخلق للإنسان أو ضُرَّهم له، هو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كَتَبه له أو عليه، فاعتمد على الله تعالى، وارضَ بقضائه وقَدَره، واعلم أن الخلق مهما قَوُوا وكَثُروا، لا يجلبون خيرًا، ولا يدفعون ضرًّا، إلا بإذن الله تعالى. «رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصحُفُ»: يعني أن ما كتبه الله تعالى قد انتهى؛ فالأقلام رُفِعت، والصُّحف جَفَّت، ولا تبديل لكلمات الله.
الشرح المفصَّل للحديث:وقوله ﷺ:
«إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»
في هذا الحديث وصيَّةٌ عظيمةٌ من النبيِّ ﷺ لابن عبَّاس ﭭ خاصَّةً، ولأمَّته عامَّةً، بيَّن فيها النبيُّ r ثمراتِ مراقبةِ الله - عزَّ وجلَّ - وتقواه، وركَّز على أمور عظيمة من أمور العقيدة، وهي الدعاءُ، والاستعانةُ بالله وحدَه، والإيمانُ بالقضاء والقدر.
قال بعض العلماء: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشني وكدتُ أَطيشُ، فوا أسفًا من الجهل بهذا الحديث، وقلَّة التفهُّم لمعناه![1]
ولأن هذا الحديث جمَعَ من الوصايا الْمُهمَّة والقواعد الكلية لأمور الدين؛ فقد عُنِيَ به أهلُ العلم، وجعلوا عليه مدارَ التوحيد، ولا عَجَبَ أن يُفرِد له الحافظ ابن رجب كتابًا خاصًّا في شرحه، وذِكْر فوائده، وهو كتاب: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ ﷺ لابن عبَّاس".
استهلَّ النبيُّ ﷺ كلامَه بقوله: «يا غلامُ، إني أُعلِّمكَ كلماتٍ»، مما يجذِب الانتباهَ، ويَسترعي الفَهْم، ويَجلِب النَّظرَ، وهذا مما ينبغي على الداعية اتِّباعُه، أن يستهلَّ كلامَه بما يجعل المتلقِّيَ متشوِّقًا إليه، ومن ذلك النداء.ثم قال: «احفظ الله»؛ أي: احفظ حدودَه وحقوقَه، فكن مطيعًا لربِّك، مؤتمِرًا بأوامره، منتهيًا عمَّا نهاك عنه
قال تعالى:
﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ ﴾
[التوبة: 112]
،وقال تعالى:
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ 33 مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ ﴾
[ق: 32-33] [2].
قال بعض السَّلَف: "مَن اتَّقى الله، فقد حفِظ نفْسَه، ومَن ضيَّع تقواه، ضيَّع نفْسه، والله الغنيُّ عنه"[3]
وفي قوله :«يحفظك» مكافأة؛ إذِ الجزاءُ من جنس العمل، فإن حَفِظْتَ اللهَ حفظكَ اللهُ؛
كقوله تعالى:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
[البقرة: 40]
وقوله تعالى:
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
[البقرة: 152]
وقوله تعالى:
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
[محمد: 7]
وحفظُ الله للعبد على نوعين:
النوع الأول: حفظُ العبدِ في بَدَنه، ومَعَاشِه، ومالِه ودُنياه؛
قال تعالى:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ﴾
[الرعد: 11].
كان بَعْضُ الْعُلَمَاء قد جَاوَزَ الْمِائةَ سَنَةً، وهو مُمَتَّعٌ بقُوَّته وعقله، فَوَثَبَ يومًا وَثْبَةً شديدة، فَعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عن المعاصي في الصِّغَرِ، فحفظها اللَّهُ علينا في الْكِبَرِ. وعَكْسُ هذا أن بعض السَّلَفِ رأى شَيْخًا يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيفٌ ضَيَّعَ اللَّهَ في صِغَرِهِ، فَضَيَّعَهُ اللَّهُ في كِبَرِهِ [4]
وروى الإمام أحمدُ في مسنَده عن حُميدِ بنِ هلالٍ، عن بعض الصحابة، أن النبيَّ ﷺ أراه بيتًا، ثم قال: «إن امرأةً كانت فيه، فخَرَجت في سريةٍ من المسلمين، وتركت ثِنْتَي عشْرةَ عَنْزًا لها، وصِيصِيَتَهَا[5]كانت تَنسِج بها»، قال: «ففقدَتْ عَنْزًا من غنمها، وصِيصِيَتَهَا، فقالت: يا ربِّ، إنكَ قد ضمِنْتَ لِمَن خرج في سبيلكَ أن تحفَظ عليه، وإني قد فقدتُ عَنْزًا من غنمي وصِيصِيَتِي، وإني أَنْشُدُكَ عَنزي وصِيصِيَتِي»، قال ﷺ: فجعل رسول الله يذكُر شدَّة مناشدتها لربها - تبارك وتعالى -
قال رسولُ الله ﷺ:
«فأصبحتْ عَنزُها ومِثلها، وصِيصِيتها ومثلها، وهاتيكَ فأْتِها فاسألها إن شئتَ»، قال: قلتُ: بل أُصدِّقك
[6]
إنَّ حفظ الله للعبد لا يقتصر عليه وحدَه؛ بل يَشمَله وعيالَه وأهله؛ قال ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: "إِنَّ اللَّه ليحفظُ بِالرجل الصالح ولدَه، وولدَ ولدِه، وَالدُّوَيْرَاتِ التي حَوْلَه، فما يزالون في حفظ من اللَّه وسِتْرٍ" [7]
قال سعيد بن المسيِّب لابنه: "إني لأَزيد في صلاتي من أجْلك؛ رجاءَ أن أُحفَظَ فيكَ، وتلا
قوله تعالى:
﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾
[الكهف: 82]" [8]
هو الحفظ في الدِّين، بأن يثبِّت الله - عزَّ وجلَّ - عبدَه على طاعته، ويصرِفَه عن معصيته، وهو أعظم نوعَيِ الحفظ؛
قال تعالى:
﴿ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾
[يوسف: 24].
ذكر الحسن البصريُّ أهلَ المعاصي فقال: هانوا عليه فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصَمَهم.
وقال ابن عباس ﭭ فيقوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
[الأنفال: 24]
يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرُّه إلى النار[9]
وقوله: «احفظ الله تَجِدْه تُجَاهك» فيه استشعارُ المعيَّة الخاصَّة لله - عزَّ وجلَّ - ففي الحديث القُدسيِّ
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:
«إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُهُ، كنتُ سمْعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويده التي يبطِشُ بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعِيذنَّه»
[10]
وفيه أن العبد إنْ حفِظ ربَّه في الرخاء، وجَدَ ربَّه في الشدائد، كما حصل للثلاثة أصحاب الغار الذين روى النبيُّ ﷺ قصتَهم في الحديث المتَّفَق عليه[11]، قال قتادة $: "مَن يتَّقِ الله يكنْ معه، ومَن يكن الله معه، فمعه الفئةُ التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يَضِلُّ" [12].
ثم يُعَرِّج النبيُّ ﷺ إلى بابٍ عظيم من أبواب الاعتقاد، وهو الطلب والقصد والدعاء، فيقول: «إذا سألتَ فاسألِ الله»، السؤال هو الدعاء، وفي الحديث: عن النُّعمان بنِ بَشير رضي الله عنه، قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «الدعاء هو العبادة»،
ثم قرأ:
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾
[غافر: 60] [13].
وإنما نهى النبيُّ ﷺعن سؤال غير الله؛ لأن السؤال عبادةٌ من العبادات التي لا يجوز صَرْفُها لغير الله؛ لأن السؤال فيه إظهار الذلِّ من السائل، والْمَسكَنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقُدرة المسؤول على دفع هذا الضرر، ونَيل المطلوب، وجلب المنافع، ودَرْءِ الْمَضارِّ، ولا يَصلُح الذلُّ والافتقار إلا لله وحدَه؛ لأنه حقيقةُ العبادة[14]
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ ، قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: «ألا تُبايعون رسولَ الله؟» وكنا حديثَ عَهْد ببيعة، فقلنا: قد بايَعْنَاكَ يا رسول الله، ثم قال: «ألا تُبايعون رسولَ الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تُبايعون رسول الله؟» قال: فبَسَطْنَا أيديَنا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نُبايعُك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلواتِ الخمس، وتطيعوا»، وأَسَرَّ كلمةً خَفيةً: «ولا تسألوا الناس شيئًا». فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النَّفَر يَسقُط سوطُ أحدهم، فما يسأل أحدًا يُناوله إيَّاه[15]
ولأن العبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مَصَالحه، ودَفْعِ مَضارِّه، ولا مُعِينَ له على مصالح دينه ودنياه إلا اللهُ - عزَّ وجلَّ - فمَن أعانه الله فهو الْمُعان، ومَن خذَله فهو المخذول؛
قال تعالى:
﴿وإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
[يونس: 107]،
وقال تعالى:
﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلً﴾
[الإسراء: 56]
فإذا ترك الإنسانُ سؤالَ مَن يَقدِر على حاجته إلى مَن لا يقدر، كان ذلك حُمقًا وغباءً.
"والله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على مَن لا يسأله، ويستدعي مِن عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنقُص من مُلكه شيءٌ، والمخلوق بخلاف ذلك كلِّه: يكره أن يُسأل؛ لعجزه وفَقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبِّهٍ لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!
وقال طاوسٌ لعطاء رحمهما الله: إياك أن تطلب حوائجَكَ إلى مَن أغلق بابه دونَكَ، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمَن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله، ووعدكَ أن يجيبكَ[16]
وقال بعض السلف: يا ربِّ، عجبتُ لمَن يَعرِفك كيف يرجو غيرَكَ؟! وعجبتُ لمَن يَعرِفك كيف يَستعين بغيرك؟![17]
وفي قوله ﷺ: «وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله» تأكيدٌ على توحيد الله - عزَّ وجلَّ - في الطلب؛ فلا يُرجى غيره، ولا يُستعان بغيره، ولا يُتعلَّق بغيره في جميع أموره، ما قلَّ منها وما كثُر؛
قال الله تعالى:
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ﴾
[الطلاق: 3] [18].
وقد كان النبيُّ أحرصَ الناس على تعليم الأمَّة الاستعانةَ بالله؛
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ»
[19]
وعن معاذِ بنِ جبلٍ، أن رسول ﷺأخذ بيده وقال:
«يا معاذُ، والله إني لأُحِبُّكَ، والله إني لأُحبكَ»، فقال: «أوصيكَ يا معاذُ، لا تدعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذِكركَ وشُكركَ وحُسْن عبادتكَ»
[20].
وقوله ﷺ: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله» مُنتزَعٌ من قوله تعالى:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[الفاتحة: 5]
فإن الله - عزَّ وجلَّ - لَمَّا أمَر بطاعته وحفظ حقوقه، أرشدَ بعدها إلى دعائه وحدَه، والدعاءُ هو العبادة، ثم أرشدَ بعدها إلى الاستعانة بالله وحدَه. وهي كلمة عظيمة جامعة، يقال: إن سرَّ الكتب الإلهية كلها ترجِع إليها[21].
وقوله : «واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لوِ اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعوكَ بشيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولوِ اجْتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ، لم يَضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليكَ» فيها خلاصةُ الحديث كله؛ فإن العبد إذا علم أنَّ أمره كلَّه بيد الله - عزَّ وجلَّ - لا يستطيع أحدٌ من الخَلق أن ينفعه أو يضرَّه؛ فإنه يُحسِن القصدَ إليه، ويحفظ حدودَه وأحكامَه، ويُخلص العبادةَ والسؤالَ له وحدَه.
و"اعلم أن مَدَار جميع هذه الوصيَّة على هذا الأصل، وما ذُكر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه؛ فإن العبد إذا عَلِم أن لن يصيبه إلا ما كَتَب اللهُ له من خير وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، عَلِم حينئذ أن الله وحدَه هو الضارُّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيدَ ربِّه - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده؛ فإن المعبود إنما يُقصَد بعبادته جلبُ المنافع، ودفعُ الْمَضارِّ؛ ولهذا ذمَّ اللهُ مَن يعبُد مَن لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابده شيئًا، فمَن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء، والمحبَّة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخَلق جميعًا، وأن يتَّقيَ سُخْطَه، ولو كان فيه سخط الخَلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء مَن يرجون نفعه من دونه"[22]
وقوله ﷺ: «رُفعت الأقلامُ وجَفَّت الصحفُ»: هذه كنايةٌ عن نفوذ المقادير وكتابتها والفراغ منها؛ فإن الإنسان إذا كَتَب شيئًا، وفَرَغ من كتابته، وبعُد عهده به، رُفعت الأقلام التي كُتبت به، وجفَّ الْمِداد الذي على الصحيفة المكتوب عليها.
يُريد أن الله - عزَّ وجلَّ - قد كتب مقاديرَ العباد وما يُصيبهم من الخير والشرِّ، وما يقترفون من الأفعال، وما ينزل عليهم من المصائب والآفات؛
قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
وأخرج مسلم عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ ، قال: سمعتُ رسول الله r يقول: «كتَب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»[23]
فالمقصود أن الله - عزَّ وجلَّ - قد كتب مقادير العباد قبل أن يخلُقَهم، ولن يقدر أحدٌ على أن يغيِّر شيئًا كتبه الله؛ فإذا كان الأمر كذلك، وجب صرفُ الدعاء والمسألة له، والاستعانة به وحدَه.
المراجع
1. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 462).
2. انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 76)، "نور الاقتباس في وصية النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص: 41).
3. "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص 54).
4. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 466).
5. أي: عصاها التي تغزل بها.
6. رواه أحمدُ في "مسنده" (34/260)، (20664)، وصحَّحه الهيثميُّ في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (5/ 277).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
8. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 467).
9. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 470).
10. رواه البخاريُّ (6502).
11. رواه البخاريُّ (2215)، ومسلم (2743)، من حديث ابن عمرَ ﭭ.
12. انظر: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص: 66).
13. رواه أبو داود (1479)، والترمذيُّ (3247)، والنسائيُّ في "السنن الكبرى" (3828)، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (3247).
14. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).
15. رواه مسلم (1043).
16. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).
17. انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 482).
18. انظر: "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 76).
19. رواه مسلم (2664).
20. رواه أبو داود (1522)، والنسائيُّ (1303)، وصحَّحه النوويُّ في "خلاصة الأحكام" (1/ 468)، والألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (5/ 253).
21. انظر: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ لابن عبَّاس" لابن رجب (ص 93).
22. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 484).
23.رواه مسلم (2653).
النقولقال ابنُ دقيق العيد رحمه الله: "«احفظ الله يحفظك» ومعناه: كن مطيعًا لربِّك، مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه. وقوله: «احفظ الله تجده تجاهك»؛ أي: اعمل له بالطاعة ولا يراك في مخالفته، فإنك تجده تُجاهك في الشدائد، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأَوَوْا إلى غار، فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها فإنه ينجِّيكم، فذكر كلُّ واحد منهم سابقةً سَبَقت له مع ربِّه، فانحدرت عنهم الصخرة، فخرجوا يمشون، وقصتهم مشهورة في الصحيح. وقوله ﷺ: «إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»: أرشده إلى التوكُّل على مولاه، وأن لا يتَّخِذ إلهًا سواه، ولا يتعلَّق بغيره في جميع أموره، ما قلَّ منها وما كَثُر،
وقال الله تعالى:
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ﴾
[الطلاق: 3].
فبقدر ما يَركُن الشخص إلى غير الله تعالى بطَلَبه، أو بقَلْبِه، أو بأمَلِه، فقد أعرض عن ربِّه بمن لا يضرُّه ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله، وقد أكَّد النبيُّ ذلك فقال: «واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعونك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك»، وكذلك في الضرِّ، وهذا هو الإيمان بالقدر، والإيمانُ به واجب، خيرِه وشرِّه، وإذا تيقَّن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به؟! وكذلك إجابة الخليل - عليه الصلاة والسلام - جبريل - عليه السلام - حين سأله وهو في الهواء: ألك حاجة؟ قال: "أما إليك فلا"[1] وقوله: «رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف»، هذا تأكيد أيضًا لِما تقدَّم؛ أي: لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل" [2].
قال السيوطيُّ رحمه الله: "«احفظ الله يحفظك»: "قال الفاكهانيُّ: "معناه: احفظ أمر الله واتَّقِه، فلا يَرَاك حيث نهاك، واحفظ حدود الله ومراسمه التي أوجبها عليك، فلا تُضيِّع منها شيئًا، فإذا فعلتَ ذلك، حفظك الله في نفسك ودينك ودنياك. وهذا من أحسنِ العبارات عن هذا المعنى، وأبلغها، وأجزلها، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها".
«احفظ الله تَجِدْة تُجَاهَ»: قال الفاكهانيُّ: "معنا تجده معَك بالحفظ والإحاطة والتأييد حيث ما كنتَ، وهو من أبلغ المجاز وأحسنه".
«رُفعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»: قال الفاكهانيُّ: معناه: أنَّ ذلك أمر ثابت لا يبَّدل، ولا يُنسَخ، ولا يغيَّر عمَّا هو عليه"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«احْفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ»: هذه كلمة عظيمة جليلة، و«احفظ» تعني: احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وكذلك بأن تتعلَّم من دينه ما تقوم به عبادتك ومعاملاتك، وتدعو به إلى الله - عزَّ وجلَّ - واحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك ومالك ونفسك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يجزي المحسنين بإحسانه، وأهم هذه الأشياء هو أن يحفظك في دينك، ويسلِّمك من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى، زاده الله - عزَّ وجلَّ – هُدًى؛
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
[محمد: 17]
وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله، فإنه لا يستحقُّ أن يحفظه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وفي هذا الترغيبُ على حفظ حدود الله - عزَّ وجلَّ.
الكلمة الثانية: قال: «احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تجَاهَك»: ونقول في قوله: «احْفَظِ الله» كما قلنا في الأولى، ومعنى «تجده تجاهك وأمامك» معناهما واحد؛ يعني: تجد الله - عزَّ وجلَّ - أمامك يدلُّك على كلِّ خير، ويقرِّبك إليه، ويهديك إليه، ويَذُود عنك كلَّ شر، ولا سيَّما إذا حفظتَ الله بالاستعانة به، فإن الإنسان إذا استعان بالله - عزَّ وجلَّ - وتوكَّل عليه، كان الله حسبَه، ولا يحتاج إلى أحد بعد الله؛
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الأنفال: 64]؛
أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فإذا كان الله حسبَ الإنسان، فإنه لن يناله سوء؛ ولهذا قال: «احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ».
الكلمة الثالثة: «إذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ الله»: إذا سألتَ حاجة، فلا تسأل إلا الله - عزَّ وجلَّ – ولا تسأل المخلوق شيئًا، وإذا قُدِّر أنك سألت المخلوق ما يَقدِر عليه، فاعلم أنه سبب من الأسباب، وأن المسبِّب هو الله - عزَّ وجلَّ - لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالَك، فاعتمد على الله تعالى.
الكلمة الرابعة: «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»: فإذا أردتَ العَون، وطلبتَ العون من أحد، فلا تطلب العون إلا من الله - عزَّ وجلَّ - لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعينك إذا شاء، وإذا أخلصتَ الاستعانة بالله وتوكَّلت عليه، أعانك، وإذا استعنتَ بمخلوق فيما يَقدِر عليه، فاعتقد أنه سببٌ، وأن الله هو الذي سخَّره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نَقْصِ التوحيد أن يسأل الإنسان غير الله؛ ولهذا تُكره المسألة لغيرِ الله - عزَّ وجلَّ - في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد عونك، يسَّر لك العون، سواء كان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يُعينك الله بسبب غير معلوم لك، فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لأحد به، وقد يُعينك الله على يدِ أحد من الخلق يسخِّره لك، ويُذلِّـلــه لك؛ حتى يُعينك؛ ولكن مع ذلك لا يجوز لك إذا أعانك الله على يد أحد أن تنسى المسبِّب، وهو الله - عزَّ وجلَّ.
الكلمة الخامسة: «وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك»: الأمة كلها من أولها إلى آخرها، لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وعلى هذا؛ فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان، فهو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كَتَبه له، وهذا حثٌّ لنا على أن نعتمد على الله - عزَّ وجلَّ - ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيرًا إلا بإذن الله - عزَّ وجل.
الكلمة السادسة: «وإِن اجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ»: وعلى هذا؛ فإن نالك ضرر من أحد، فاعلم أن الله قد كتبه عليك، فارضَ بقضاء الله وبقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضرَّ عنك؛ لأن الله
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ)
[الشورى: 40].
الكلمة السابعة: «رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفَّت الصُّحُفُ»: يعني أن ما كتبه الله - عزَّ وجلَّ - قد انتهى؛ فالأقلام رُفِعت، والصُّحف جفَّت، ولا تبديل لكلمات الله"[4]
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "والله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على مَن لا يسأله، ويستدعي مِن عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنقُص من مُلكه شيءٌ، والمخلوق بخلاف ذلك كلِّه: يكره أن يُسأل؛ لعجزه وفَقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبِّهٍ لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!
وقال طاوسٌ لعطاء رحمهما الله: إياك أن تطلب حوائجَكَ إلى مَن أغلق بابه دونَكَ، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمَن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة أَمَرك أن تسأله، ووعدكَ أن يجيبكَ[5]
قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أن مَدَار جميع هذه الوصيَّة على هذا الأصل، وما ذُكر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه؛ فإن العبد إذا عَلِم أن لن يصيبه إلا ما كَتَب اللهُ له من خير وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، عَلِم حينئذ أن الله وحدَه هو الضارُّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيدَ ربِّه - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده؛ فإن المعبود إنما يُقصَد بعبادته جلبُ المنافع، ودفعُ الْمَضارِّ، ولهذا ذمَّ اللهُ مَن يعبُد مَن لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابده شيئًا، فمَن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء، والمحبَّة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخَلق جميعًا، وأن يتَّقيَ سخطه، ولو كان فيه سخط الخَلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء مَن يرجون نفعه من دونه»
المراجع
1. "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 76، 77).
2. "قوت المغتذي على جامع الترمذي" للسيوطيِّ (2/ 605).
3."شرح الأربعين النووية" لابن عثيمين (ص 201، 202).
4. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 481).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 484).
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عن رَسُول اللهِ ﷺ أنه قال:
«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»
أي: إن الله تعالى يحب قوَّة المؤمن عامَّةً، وأوَّلها قوَّة الإيمان.
قوله ﷺ: «وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ»؛ أي: وفي كلٍّ من المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيف خيرٌ بالإيمان.
قوله ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ»؛ أي: احرص واجتهد في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك. «وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجِزْ»؛ أي: استعن بالله ولا تفعلْ فعلَ العاجز بالتكاسل وعدم الحزْم وضعف العزيمة. «وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ»؛ أي: بعد بذل الجهد والاستعانة بالله. «فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ "لَوْ" تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»؛ أي: فقل: هذا تقدير الله وقضاؤه المكتوب، ولا يمكِن أن يتغيَّر عمَّا وقع؛ فإن (لو) تفتح عليك الوساوس والأحزان والنَّدَم والهموم.
الشرح المفصَّل للحديث:أخبر النبيُّ ﷺ في هذا الحديث أن المؤمنَ القويَّ - فيما يحبُّ الله القوَّةَ فيه؛ كقوَّة الإيمان - خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، والقوَّة هنا في كل شيء، سواءٌ في الإقدام على العدوِّ في الجهاد، أو في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكَر، والصبر على الطاعة، والصبر على الأذى ومخالطة الناس، واحتمال المشاقِّ؛ ولهذا مدح اللهُ - عزَّ وجلَّ - أصحاب نبيِّه ﷺ
بقوله تعالى:
﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ ﴾
[الفتح: 29] [1]
قوله ﷺ: «وفي كلٍّ خيرٌ»: وإنما قال ذلك لئلَّا يتوهَّمَ أحدٌ من الناس أن المؤمن الضعيف لا خيرَ فيه؛ بل المؤمن الضعيف فيه خيرٌ؛ لكنه قد فاته الحظُّ الأكبر، والمقام الأفخرُ، وفيه أيضًا جبرٌ لخاطر المؤمن الضعيف[2]
وقوله ﷺ: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعنْ بالله، ولا تعجِزْ»؛ أي: استعمل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك التي تَستعينُ بها على صيانة دينكَ، وصيانة عيالكَ، ومكارم أخلاقكَ، ولا تفرِّطْ في طلب ذلك، ولا تتعاجزْ عنه متَّكِلًا على القدر، فتُنسَب للتقصير، وتُلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بدَّ من الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين[3]
والأمر بالاستعانة بالله لا يُنافي الاستعانة بالمخلوق فيما يستطيع؛ كحمل صندوق مثلًا، أو قضاء حاجة، فهذا جائزٌ؛ ولكن لا تَشعُر نفسُكَ أنها كاستعانتك بالخالق؛ وإنما عليكَ أن تَشعُرَ أنها كمعونة بعض أعضائك لبعضٍ، كما لو عَجَزتَ عن حمل شيء بيد واحدة، فإنكَ تستعينُ على حمله باليد الأُخرى[4]
وقد جمع النبيُّ ﷺ في أمره هذا بين أصلين عظيمين، هما مفهوم التوكُّل ومقصودُه؛ فإنه أمرَ بالحرص على النفع مع الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ؛ ليجمع بين الفعل وحُسن التوكُّل، وهذا مطابقٌ
لقوله سبحانه:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[الفاتحة: 5]
وقوله:
﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ﴾
[هود: 123]؛
فإن الحرصَ على ما ينفع العبدَ هو طاعةُ الله وعبادته؛ إذ النافعُ له هو طاعةُ الله، ولا شيءَ أنفعُ له من ذلك، وكل ما يُستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح[5]
ثم نهى النبيُّ ﷺ عن العَجز، والمراد: لا تفعلْ فعلَ العاجز من التكاسل، وعدم الحزْم والعزيمة، وليس المعنى: لا يُصيبك عجزٌ؛ لأن العجزَ عن الشيء غيرُ التعاجُز؛ فالعجز يكون بغير اختيار من الإنسان.
ونرى بعض الناس يحرصُ على ما يَنفَعُه، ويَشرَعُ فيه، ثم يتعاجزُ ويتكاسلُ ويتركُه. وهذا خلافُ ما أمر به الرسولُ ﷺ، فما دمتَ عرَفتَ أن هذا الأمر نافع لك، فلا تدَعْه؛ لأنك إذا عجَّزت نفسكَ، خَسِرتَ العمل الذي عملتَ، ثم عوَّدتَ نفسكَ التكاسل والتدنِّيَ من حال النشاط والقوَّة إلى حال العجز والكسل، وكم من إنسان بدأ العمل - ولا سيَّما النافعُ - ثم أتاه الشيطانُ، فأقعدَه وثبَّطَه!
وقوله ﷺ: «فلا تقلْ: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا»: النهيُ هنا على القضاء والحتم؛ فإنه كائنٌ لا محالةَ؛ فأنت غير مضمِر في نفسكَ شرط مشيئة الله؛ لأنه سبقَ في علم الله كلُّ ما يناله المرء؛
قال تعالى:
﴿ئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾
[الحديد: 29] [6]
ولا يعني هذا أن كلمة (لو) حرامٌ مطلقًا لا يجوزُ النُّطق بها؛ بل الأمر على خلاف هذا؛ فإن الإنسان إن قالها تحسُّرًا على القدر، وتسخُّطًا على قضاء الله، أو ظنَّ فعلًا وحتمًا أنه لو لحصل له كذا من إدراك فوز، أو هربٍ من خسارة، دون ردِّ ذلك إلى قضاء الله وقدره، وأنه لا يكون في مُلكه إلا ما يُريد، كان حرامًا عليه، وهذا محلُّ النهي، وهو مثلُ قول الكافرين - كما حكاه الله عزَّ وجلَّ في القرآن -:
﴿ لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ﴾
[آل عمران: 156]
وقوله: (الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾
[آل عمران: 168] [7].
أما إن قالها الإنسان على وجه التأسُّف على الخطأ، أو افتراضٍ لأمرٍ مستقبَلٍ أنه لو فعل كذا سيحصل كذا، أو كان منه وهو يعلمُ تمام العلم أن الأمر كله بيد الله عزَّ وجلَّ - فجاز ذلك، ومنه قولُ نبيِّ الله هود كما حكاه الله تعالى:
﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ﴾
[هود: 80]
ومنه ما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال في أمر المرأة المتلاعِنة: «لو كنتُ راجمًا امرأةً من غير بيِّنة» [8]، وقوله ﷺ : «لولا أن أشقَّ على أُمَّتي لأمرتهم بالسواك» [9]، وقول أبي بكر الصديق وهو في الغار مع النبيِّ ﷺ: «لو أن أحدَهم نظَر تحت قدميه لأبصرَنا» [10]. فإن الإنسان إذا أخبر بـ"لو" عن أمرٍ مستقبلٍ، أو عن أمرٍ كان في استطاعته أن يفعله لولا المانعُ منه، أو كان حديثُه على غير التسخُّط على قَدَر الله عزَّ وجلَّ، كان جائزًا [11]؛ ولهذا عقد الإمام البخاريُّ بابًا في صحيحه باسم: باب ما يجوز من اللَّوْ [12].
وبهذا يوجِّه النبيُّ ﷺ إلى سلوكٍ قيِّمٍ حيث يُصيب الإنسانَ الضُّرُّ؛ إذ لا تخلو الحياة من المتاعب والبؤس، فيأمر النبيُّ ﷺ بترك التأفُّف من القَدَر، وعدم الأسف على ما فات، والندم عليه بقولنا: "لو أني فعلتُ كذا لكان كذا، أو لما حدث كذا"؛ فإن هذا مما يجعل للشيطان عليكَ سبيلًا؛ فإنكَ لا تستطيع تغييرَ الواقع بهذه القولة.
المراجع
1- انظر: "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215)، "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" لعلي القاري [8/ 3318]
2- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ [6/ 682]
3-"المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العبَّاس القرطبيِّ [6/ 68]
4- "القول المفيد على كتاب التوحيد" لابن عثيمين [2/ 369]
5- انظر: أمراض القلوب وشفاؤها [ص: 50]
6- "شرح صحيح البخاري" لابن بطال [10/ 295]
7-انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" [5/ 421]
8 -رواه البخاري (7238)، ومسلم [1497]
10- رواه البخاري (3653)، ومسلم [2381]
11- انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (8/ 158)، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم [4/ 638]
12- انظر: صحيح البخاري [9/ 85]
النقولقال النوويُّ رحمه الله: "«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ» والمراد بالقوّة هنا: عزيمة النّفس، والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحبُ هذا الوصفِ أكثرَ إقدامًا على العدوِّ في الجهاد، وأسرع خروجًا إليه، وذَهابًا في طلبه، وأشدَّ عزيمةً في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والصّبر على الأذى في كلّ ذلك، واحتمال المشاقِّ في ذات اللّه تعالى، وأرغب في الصّلاة والصّوم والأذكار وسائر العبادات، وأنشط طلبًا لها ومحافظةً عليها، ونحو ذلك. وأمّا قوله: «وفي كلّ خير»، فمعناه: في كلّ من القويّ والضّعيف خير؛ لاشتراكهما في الإيمان مع ما يأتي به الضّعيف من العبادات. قوله : «احرص على ما ينفعك، واستعن باللّه ولا تعجز»: أمّا (احرص) فبكسر الرّاء، و(تعجز) بكسر الجيم، وحُكي فتحهما جميعًا، ومعناه: احرص على طاعة اللّه تعالى، والرّغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من اللّه تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تَكسَل عن طلب الطّاعة، ولا عن طلب الإعانة"[1]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "المؤمن القويُّ: يعني في إيمانه، وليس المرادُ القويَّ في بدنه؛ لأن قوة البَدَن قد تكون ضررًا على الإنسان إذا استعمل هذه القوَّةَ في معصية الله، فقوَّةُ البدن ليست محمودةً ولا مذمومةً في ذاتها. إن كان الإنسان استعمَل هذه القوَّة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة، صارت محمودةً، وإن استعان بهذه القوَّة على معصية الله، صارت مذمومةً؛ لكن القوة في قوله ﷺ: «المؤمن القويُّ»، تعني قوَّة الإيمان؛ لأن كلمة (القوي) تعود إلى الوصف السابق، وهو الإيمان، كما تقول: الرجل القويُّ؛ أي: في رجولته، كذلك المؤمن القويُّ يعني: في إيمانه؛ لأن المؤمن القويَّ في إيمانه تَحمِله قوة إيمانه على أن يقوم بما أَوجَب الله عليه، وعلى أن يزيد من النوافل ما شاء الله، والضعيف الإيمانِ يكون إيمانه ضعيفًا لا يَحمِله على فعل الواجبات، وترك المحرَّمات، فيقصِّر كثيرًا. وقوله: «خير» يعني: خيرًا من المؤمن الضعيف، وأحبَّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: «وفي كل خير» يعني: المؤمن القويُّ والمؤمن الضعيف كلٌّ منهما فيه خير، وإنما قال: «وفي كل خير»؛ لئلا يتوهَّم أحد من الناس أن المؤمن الضعيف لا خير فيه؛ بل المؤمن الضعيف فيه خير، فهو خير من الكافر لا شكَّ. وهذا الأسلوب يسمِّيه البلاغيون الاحتراز، وهو أن يتكلَّم الإنسان كلامًا يُوهِم معنًى لا يَقصِده، فيأتي بجملة تبيِّن أنه يقصد المعنى المعيَّن، ومثال ذلك في القرآن
قوله تبارك وتعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ ۚ أُولَٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
[الحديد: 10]،
لما كان قوله:
(أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا)
يُوهِم أن الآخرين ليس لهم حظٌّ من هذا،
قال:
(ﱡ وكلا وعد الله الحسنى )
فهنا قال النبيُّ ﷺ: «وفي كلِّ خير»؛ أي: المؤمن القويِّ والمؤمن الضعيفِ؛ لكنِ القويُّ خير وأحبُّ إلى الله"[2]
قال القاضي عياض رحمه الله: "قال القاضي: وقوله: «المؤمن القويُّ خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير» القوَّة هنا المحمودة، يُحتمَل أنها في الطاعة، من شدَّة البدن وصلابة الأسر، فيكون أكثرَ عملًا، وأطولَ قيامًا، وأكثرَ صيامًا وجهادًا وحجًّا، وقد تكون القوَّة هنا في الْمُنَّة وعزيمة النفس، فيكون أقدمَ على العدو في الجهاد، وأشدَّ عزيمةً في تغيير المناكر، والصبر على إيذاء العدوِّ، واحتمال المكروه والمشاقِّ في ذات الله، أو تكون القوة بالمال والغنى، فيكون أكثرَ نفقةً في سبيل الخير، وأقلَّ مَيلًا إلى طلب الدنيا، والحرص على جمع شيء فيها. وكل هذه الوجوه ظاهرة في القوة. ثم قال - عليه السلام -: «وفى كل خير» للإيمان الذى هو صفتهم؛ لكن الله قد بايَن بين خَلقه في داره، ورَفَع بعضهم فوق بعض درجات"[3]
قال السِّنديُّ رحمه الله: قَوْلُهُ: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ»؛ أي: على أعمال البرِّ ومشاقِّ الطّاعة، والصَّبور على تحمُّل ما يصيبه من البلاء، والمتيقِّظ في الأمور المهتدي إلى التّدبير والمصلحة، بالنّظر إلى الأسباب، واستعمال الفكر في العاقبة، ويؤيِّده ما روى أبو داود في كتاب القضاء عن عوف بن مالك: أنّه ﷺ قضى بين رجلين، فقال المقضيُّ عليه لَمّا أَدبَر: حسبي اللّه ونعم الوكيل، فقال النّبيُّ ﷺ : «إنّ اللّه تعالى يلوم على العجز؛ ولكن عليك بالكَيْس»، والكَيس بفتح الكاف هو التّيقُّظ في الأمور. قوله: (احرص) من حَرَص كضَرَب وعَلِم. قوله: «لو أنّي فعلت كذا وكذا»؛ أي: لما أصابني. أي: و"لو" كلمة للتّمنِّي. «عمل الشّيطان»؛ أي: اعتقاد أنّ الأمر منوط بتدبير العبد، وأنّ تدبيره هو المؤثِّر قبل النّهي للتّنزيه؛ لأنّه ورد استعمال "لو" في الأحاديث على كثرة، وقد وضع البخاريُّ بابًا في ذلك، وأتى بأحاديثَ كثيرةٍ، وقال النّوويُّ: النّهيُ عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، وأمّا ما قاله تأسُّفًا على ما فاته من طاعة اللّه تعالى وهو متعذِّر عليه منها، ونحو ذلك، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث"[4]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«احرص على ما ينفعك»: هذه وصية من الرسول ﷺ لأمَّته، وهي وصيَّة جامعة مانعة. «احرص على ما ينفعك» يعني: اجتهد في تحصيله ومباشرته، وضد الذي ينفع الذي فيه ضررٌ، وما لا نفع فيه ولا ضرر؛ وذلك لأن الأفعال تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم ينفع الإنسان، وقسم يضرُّه، وقسم لا يَنفَع ولا يضرُّ؛ فالإنسان العاقل الذي يَقبَل وصيَّته ﷺ هو الذي يحرص على ما ينفعه، وما أكثرَ الذين يُضيِّعون أوقاتهم اليومَ في غير فائدة؛ بل في مَضرَّة على أنفسهم وعلى دينهم. وعلى هذا؛ فيَجدُر بنا أن نقول لمثل هؤلاء: إنكم لم تعملوا بوصيَّة النبيِّ ﷺ إما جهلًا منكم، وإما تهاونًا؛ لكن المؤمن العاقل الحازم هو الذي يَقبَل هذه النصيحة، ويحرص على ما ينفعه في دينه ودنياه. وهذا حديث عظيم ينبغي للإنسان أن يجعله نبراسًا له في عمله الدينيِّ والدنيويِّ؛ لأن النبيَّ ﷺ قال: «احرص على ما ينفعك»، وهذه الكلمة كلمةٌ جامعة عامَّة، «على ما ينفعك»؛ أي: على كلِّ شيء يَنفَعك، سواءٌ في الدين أو في الدنيا، فإذا تعارضت مَنفَعة الدين ومنفعة الدنيا، فقدِّم منفعة الدين؛ لأن الدين إذا صَلَح صَلَحت الدنيا، أما الدنيا إذا صلحت مع فساد الدين، فإنها تَفسَد.
وفي قوله: «احرص على ما ينفعك» إشارةٌ إلى أنه إذا تعارضت منفعتان، إحداهما أعلى من الأخرى، فإننا نقدِّم المنفعة العليا؛ لأن المنفعة العليا فيها المنفعة التي دونها وزيادة، فتَدخُل في قوله: «احرص على ما ينفعك». فإذا اجتمع صلة أخ وصلة عمٍّ، كلاهما سواءٌ في الحاجة، وأنت لا يمكِنك أن تصل الرجلين جميعًا، فهنا تقدِّم صلة الأخ؛ لأنها أفضل وأنفع، وبالعكس إذا كان الإنسان لابدَّ أن يرتكب منهيًّا عنه من أمرين منهيٍّ عنهما، وكان أحدهما أشدَّ، فإنه يَرتكِب الأخفَّ؛ فالمناهي يُقدَّم الأخفُّ منها، والأوامر يُقدَّم الأعلى منها. وقوله r: «واستعن بالله»: ما أروعَ هذه الكلمةَ بعد قوله: «احرص على ما ينفعك»؛ لأن الإنسان إذا كان عاقلًا ذكيًّا، فإنه يتتبَّع المنافع، ويأخذ بالأنفع ويجتهد، ويحرص، وربما تَغُرُّه نفسه حتى يعتمد على نفسه، وينسى الاستعانة بالله، وهذا يقع لكثير من الناس، حيث يُعجَب بنفسه، ولا يَذكُر اللهَ - عزَّ وجلَّ - ويستعين به، فإذا رأى من نفسه قوَّة على الأعمال، وحرصًا على النافع، وفعلًا له، أُعجِب بنفسه، ونَسِي الاستعانة بالله؛ ولهذا قال: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله»؛ أي: لا تنس الاستعانة بالله ولو على الشيء اليسير، وفي الحديث: «ليسأل أحدكم ربَّه حاجته حتى يسأله الْمِلح، وحتى يسأله شسع نعلِه إذا انقطع» يعني: حتى الشيء اليسيرِ لا تنسَ الاستعانة بالله عزَّ وجلَّ، حتى ولو أردت أن تتوضَّأ أو تصلِّي أو تذهب يمينًا أو شمالًا، أو تضع شيئًا، فاستحضر أنك مستعينٌ بالله - عزَّ وجلَّ - وأنه لولا عونُ الله، ما حصل لك هذا الشيء. ثم قال: «ولا تعجِز» يعني: استمرَّ في العمل، ولا تَعجِز وتتأخَّر، وتقول: إن المدى طويل، والشغل كثير، فما دمتَ صمَّمت في أول الأمر أن هذا هو الأنفع لك، واستعنت بالله، وشرعت فيه، فلا تَعجِز. فقول الرسول : «لا تعجز»؛ أي: لا تَكسَل وتتأخَّر في العمل إذا شرعتَ فيه؛ بل استمرَّ؛ لأنك إذا تركتَ ثم شرعتَ في عمل آخَرَ، ثم تركت ثم شرعت، ثم تركت، ما تمَّ لك عمل"[5]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "«الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِن الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ مِن الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ خَيْرٌ»؛ لوجود الإيمان فيهما. «احرص» من حَرَص يَحرِص كضَرَب يَضرِب، ويقال: حَرِصَ كسَمِعَ. «على ما ينفعك» في دُنياك ودينك «واستعن باللّه» عليه. «ولا تعجِز» بفتح الجيم وكسرها. «وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنّي فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل: قَدَر اللّه وما شاء اللّه فعل؛ فإنّ "لو" تفتح عمل الشّيطان» أخرجه مسلم. المراد من القويّ: قويُّ عزيمة النّفس في الأعمال الأُخرويّة؛ فإنّ صاحبها أكثر إقدامًا في الجهاد، وإنكار المنكر، والصّبر على الأذى في ذلك، واحتمال المشاقِّ في ذات اللّه، والقيام بحقوقه من الصّلاة والصّوم وغيرهما. والضّعيف بالعكس من هذا، إلّا أنّه لا يخلو عن الخير؛ لوجود الإيمان فيه، ثمّ أمره ﷺ بالحرص على طاعة اللّه، وطلب ما عنده، وعلى طلب الاستعانة به في كلّ أموره؛ إذ حِرْصُ العبد بغير إعانة اللّه لا ينفعه.
إذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِن اللَّهِ لِلْفَتَى = فَأَكْثَرُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ
ونَهاه عن العَجز، وهو التَّسَاهُلُ في الطاعات، وقد استعاذَ منه ﷺ بقوله: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِن الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَمِن الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ»[6]" [7]
قال النوويُّ رحمه الله: قَوْلُهُ ﷺ: «وَإِنْ أَصَابَكَ شيء، فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا؛ وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ». قال القاضي عياض: قال بعض العلماء: هذا النّهيُ إنّما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأنّه لو فعل ذلك لم تُصبه قطعًا، فأمّا من ردَّ ذلك إلى مشيئة اللّه تعالى بأنّه لن يُصيبه إلّا ما شاء اللّه، فليس من هذا، واستَدلَّ بقول أبي بكر الصّدّيق - رضي اللّه عنه - في الغار: «لو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا». قال القاضي: وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن مستقبل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاريُّ في باب ما يجوز من اللَّوْ؛ كحديث: «لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ»، و«لو كنت راجمًا بغير بيِّنة لرجمتُ هذه»، و«لولا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ»، وشِبْهِ ذلك؛ فكلُّه مستقبَل لا اعتراض فيه على قَدَر، فلا كراهةَ فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانعُ، وعمّا هو في قُدرته، فأمّا ما ذهب، فليس في قدرته. قال القاضي: فالّذي عندي في معنى الحديث: أنّ النّهيَ على ظاهره وعمومه؛ لكنّه نهيُ تنزيه، ويدلُّ عليه قوله r: «فإنّ لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: يُلقي في القلب معارضة القدر، ويُوَسْوس به الشّيطان. هذا كلام القاضي، قلت: وقد جاء من استعمال (لو) في الماضي قوله r: «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، ما سقتُ الهَدْيَ»[8] وغير ذلك؛ فالظّاهر أنّ النّهيَ إنّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، فأمّا من قاله تأسُّفًا على ما فات من طاعة الله تعالى أو ما هو متعذِّر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، واللّه أعلم"[9]
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «إن أصابك شيء فلا تقل: لو أنى فعلت، ولكن قل: قدر الله وما شاء الله فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان»: قال بعض أهل العلم: معنى هذا الحديث، والنهي عن قول هذا، إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، فإنه لو فعل ذلك لم يصبه ذلك قطعًا، فأما مَنْ رَدَّ ذلك إلى مشيئة الله، وأنه لن يُصيبه فعل ذلك، أو لم يفعله إلا ما شاء الله وقَدَره، فليس من هذا. واستُدلَّ بما ورد من قول النبيِّ ﷺ وأصحابه في هذا؛ مثل قول أبى بكر في الغار: «لو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا»، وهذا لا حجَّةَ له فيه عندي؛ لأنه إنما أخبر عما يُستقبَل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بقَدَر، وكذلك جميع ما أدخل البخاريُّ في باب ما يجوز من اللوِّ؛ مثل قوله: «لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم»، و «ولو كنت راجمًا أحدًا بغير بيِّنة لرجمتُ هذه»، و«لولا أن أشقَّ على أمَّتي لأمرتهم بالسواك»، وشبه هذا كله مما يُستقبَل مما لا اعتراض فيه على قَدَر، ولا كراهةَ في قوله جُملة؛ لأنه إنما أخبر عما يعتقد أنه كان يفعله لولا المانعُ له، وما في قدرته فعلُه، وما انقضى وذهب ليس في القدرة، ولا في الإمكان فعله بعدُ. وقد تكلَّمنا قبلُ على مثل هذا بأَشْبعَ من هذا الكلام، والذي عندي في هذا الحديث المتقدِّم أنّ النهيَ فيه على وجهه عمومًا؛ لكن على طريق الندب والتنزيه، ويدلُّ عليه قوله: «فإنّ لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: تُلقي في القلب معارضةَ القَدَر، وتشوِّش به تشويش الشيطان"[10]
قال المناويُّ رحمه الله: "«هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟!» [11] قد وقع التعارض ظاهرًا بينه وبين خبر مسلم «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» وعند التأمُّل لا تَدَافُع؛ إذ المراد بمدح القوَّة: القوَّةُ في ذات الله، وشدَّة العزيمة، وبمدح الضعف لينُ الجانب، ورقَّةُ القلب، والانكسار بمشاهدة جلال الجبَّار، أو المراد بذمِّ القوَّة التجبُّر والاستكبار، وبذمِّ الضعف ضعفُ العزيمة في القيام بحقِّ الواحد القهَّار على أنه لم يقل هنا: إنهم يُنصَرون بقوة الضعفاء؛ وإنما مراده بدعائهم أو بإخلاصهم أو نحو ذلك مما مرَّ"[12]
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "ونَهاه بقوله: إذا أصابَه شيءٌ من حصول ضَرَر أو فَوَات نفع عن أن يقول: (لو). قال بعض العلماء: هذا إنّما هو لمن قال معتقدًا ذلك حتمًا، وأنّه لو فعل ذلك لم يُصبه قطعًا، فأمّا من ردَّ ذلك إلى مشيئة اللّه، وأنّه لا يصيبه إلّا ما شاء اللّه، فليس من هذا. واستَدلَّ له بقول أبي بكر في الغار: «ولو أنّ أحدهم رفع رأسه لرآنا»، وسكوتُه ﷺ قال القاضي عياض: لا حُجَّة فيه؛ لأنّه إنّما أخبر عن أمر مستقبَل، وليس فيه دعوى لردِّ قَدَر بعد وقوعه. قال: وكذا جميع ما ذكره البخاريُّ في باب: ما يجوز من اللَّوْ كحديث: «لَوْلَا حِدْثَانُ قَوْمِك بِالْكُفْرِ» الْحَدِيثَ، و«لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ»، وَ«لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي»، وشَبِيهُ ذلك، فكلُّه مستقبَل، ولا اعتراضَ فيه على قَدَر، فلا كراهيةَ فيه؛ لأنّه إنّما أَخبَر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانعُ، وعمّا هو في قدرته، فأمّا ما ذهب، فليس في قُدرته. قال القاضي: فالّذي عندي في معنى الحديث أنّ النّهيَ على ظاهره وعمومه؛ لكن نهي تنزيه، ويدلُّ عليه قوله ﷺ: «فإنّ لو تفتح عمل الشّيطان» قال النّوويُّ: وقد جاء من استعمال "لو" في الماضي. قوله ﷺ : «لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ»[13]، وغير ذلك، فالظّاهر أنّ النّهيَ إنّما هو عن إطلاق ذلك فيما لا فائدة فيه، فيكون نهيَ تنزيه لا تحريم، وأمّا من قاله تأسُّفًا على ما فاته من طاعة اللّه، وما هو متعذِّر عليه من ذلك، ونحو هذا، فلا بأس به، وعليه يُحمَل أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث"[14].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قال ﷺ: «فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا» ويعني: بعد أن تحرص وتَبذُل الجهد، وتستعين بالله، وتستمرَّ، ثم يَخرُج الأمر على خلاف ما تريد، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا؛ لأن هذا أمر فوق إرادتك، أنت فعلتَ الذي تُؤمَر به؛ ولكن الله - عزَّ وجلَّ - غالب على أمره. ونضرب مثالًا لذلك: إذا سافر رجل يريد العمرة؛ ولكنه في أثناء الطريق تعطَّلت السيارة، ثم رجع فقال: لو أني أخذتُ السيارة الأخرى، لكان أحسنَ، ولَمَا حصل التعطُّل، نقول: لا تقل هكذا؛ لأنك أنت بذلت الجهد، ولو كان الله - عزَّ وجلَّ - أراد أن تَبلُغ العمرة، ليسَّر لك الأمر؛ ولكن الله لم يُرد ذلك؛ فالإنسان إذا بذل ما يستطيع مما أمر ببذله، وأخلفت الأمور؛ فحينئذ يفوِّض الأمر إلى الله؛ لأنه فعل ما يَقدِر عليه؛ ولهذا قال: «إن أصابك شيء» يعني: بعد بذل الجهد والاستعانة بالله - عزَّ وجلَّ - «فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكَذا». وجزى الله عنا نبيَّنا خير الجزاء؛ فقد بيَّن لنا الحكمة من ذلك، حيث قال: «فإن لو تفتح عمل الشيطان»؛ أي: تفتح عليك الوساوس والأحزان والندم والهموم، حتى تقول: لو أني فعلت لكان كذا. فلا تقل هكذا، والأمر انتهى، ولا يمكِن أن يتغيَّر عمَّا وقع، وهذا أمر مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن تُخلَق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وسيكون على هذا الوضع مهما عَمِلتَ؛ ولهذا قال: «ولكن قل: قَدَرُ الله»؛ أي: هذا قَدَرُ الله؛ أي: تقدير الله وقضاؤه، وما شاء الله - عزَّ وجلَّ –
فعله؛ ﱠخَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
[هود: 107]،
لا أحد يمنعه أن يفعل في ملكه ما يشاء، ما شاء فعل - عزَّ وجلَّ - ولكن يجب أن نعلم أنه - سبحانه وتعالى - لا يفعل شيئًا إلا لحِكمةٍ خَفِيت علينا أو ظَهَرت لنا، والدليل على هذا
قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًاﱠ
[الإنسان: 30]
فبيَّن أن مشيئته مقرونة بالحكمة والعلم، وكم من شيء كَرِه الإنسان وقوعه، فصار في العاقبة خيرًا له؛ كما
قال تعالى:ﱠ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ
[البقرة: 216]
فأنت إذا بذلت الجهد، واستعنت بالله، وصار الأمر على خلاف ما تريد، لا تندم، ولا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، إذا قلتَ هذا، انفتح عليك من الوساوس والندم والأحزان ما يُكدِّر عليك الصَّفْوَ، فقد انتهى الأمر وراح، وعليك أن تسلِّم الأمر للجبَّار - عزَّ وجلَّ - قل: قَدَرُ الله وما شاء فعل"[15]
قال ابن تيميَّة رحمه الله: "فأمَرَه بالحِرص على ما يَنفَعُه، والاستعانة باللّه، ونهاه عن العجز الّذي هو الاتِّكال على القَدَر، ثمّ أمره إذا أصابه شيء أن لا ييئس على ما فاته؛ بل ينظر إلى القَدَر ويسلِّم الأمر للّه؛ فإنّه هنا لا يقدر على غير ذلك كما قال بعض العقلاء: الأمور أمران: أمر فيه حيلة، وأ لا حيلة فيه، فما فيه حيلة لا يُعجَز عنه، وما لا حيلة فيه، لا يُجزَع منه"[16]
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ رحمه الله: "وقوله: ﷺ «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعنْ بالله، ولا تعجِزْ»؛ أي: استعمل الحرصَ والاجتهادَ في تحصيل ما تنتفعُ به في أمر دينك ودنياك التي تَستعينُ بها على صيانة دينكَ، وصيانة عيالكَ، ومكارم أخلاقكَ، ولا تفرِّطْ في طلب ذلك، ولا تتعاجزْ عنه متَّكِلًا على القدر، فتُنسَب للتقصير، وتُلام على التفريط شرعًا وعادةً، ومع إنهاء الاجتهاد نهايته، وإبلاغ الحرص غايته، فلا بدَّ من الاستعانة بالله، والتوكُّل عليه، والالتجاء في كلِّ الأمور إليه، فمَن سلكَ هذين الطريقين، حصل على خير الدارين[17]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "فإذا قال قائل: كيف أحتجُّ بالقدر؟ كيف أقول: قدر الله وما شاء فعل؟ والجواب أن نقول: نعم؛ هذا احتجاج بالقدر؛ ولكن الاحتجاج بالقدر في موضعه لا بأس به؛
ولهذا قال الله لنبيِّه
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ۗ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[الأنعام: 106، 107]
فبيَّن له أن شِركهم بمشيئته، والاحتجاج بالقدر على الاستمرار في المعصية، هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله
قال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ [الأنعام: 148]
لكن الاحتجاج بالقدر في موضعه، هذا لا بأس به. فالاحتجاج بالقدر ممنوع إذا أراد الإنسان أن يستمرَّ على المعصية؛ ليَدفَع اللَّوم عن نفسه، نقول مثلًا: يا فلان، صلِّ مع الجماعة، فيقول: والله لو هداني الله لصلَّيتُ، فهذا ليس بصحيح. يقال لآخر: أَقلِعْ عن حلق اللحية، يقول: لو هداني الله لأقلعتُ، وأقلع عن الدخان، يقول: لو هداني الله لأقلعتُ، فهذا ليس بصحيح؛ لأن هذا يحتجُّ بالقدر؛ ليستمرَّ في المعصية والمخالفة؛ لكن إن وقع الإنسان في خطأ وتاب إلى الله، وأناب إلى الله وندم وقال: إن هذا الشيء مقدَّر عليَّ؛ ولكن أستغفر الله وأتوب إليه. نقول: هذا صحيح، إن تاب واحتجَّ بالقدر، فليس هناك مانع" [18]
المراجع
1- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215).
2- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/ 76-78).
3- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157).
4- "حاشية السنديِّ على سنن ابن ماجه" (1/ 41، 42).
5- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/78 -82).
7- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690).
8- رواه البخاريّ (7229)، ومسلم (1211).
9- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 215، 216).
10- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (8/ 157، 158).
12- "فيض القدير" للمناويِّ (1/ 83).
13- رواه البخاريّ (7229)، ومسلم (1211).
14- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 690).
15- "شرح رياض الصالحين" للعثيمين (2/82-84).
17- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 682).
يروي أَنَسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «لا عَدْوَى»: والعدوى: هي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بالمخالطة، وليس المقصودُ نفيَ وجودِها؛ وإنما المقصودُ أنه لا عدوى تؤثِّر بنفسها وذاتها وطَبْعها؛ وإنما التأثير بتقدير الله عزَّ وجلَّ، إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح، وإن شاء لم يقع ذلك؛ إلا أن المسلم مأمور بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يُفضي إلى الشر. «وَلا طِيَرَةَ»: والطِّيَرةُ هي التشاؤمُ بمَرْئيٍّ أو مسموع أو معلوم. «وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ»؛ فالكلمة الطيِّبة تُدخِل السُّرور على النفس، وتَشرَح الصَّدر؛ مثلُ: أن تقول للمَريض: يا سَليمُ، يا معافى، فيُسَرُّ ويتفاءل.
الشرح المفصَّل للحديثلقد أرسل الله تعالى رسوله محمدًا ﷺ لدعوة الناس إلى التوحيد، وإبطال عقائد الجاهلية، بما فيها من شرك وكفر وباطل، ومنها ما كان يعتقده أهل الجاهلية من أمور كالعَدْوى والتشاؤم وغيرها، فتحدَّث القرآن عن ذلك بما يصحِّح عقيدتهم من أن الأمور من مَرَض وغيره تجري بمقادير الله وإذنه؛
قال تعالى:
قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
[التَّوْبَةِ: 51]
وَقَالَ تَعَالى:
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ۚ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[التَّغَابُنِ: 11]،
فأوضح الله تعالى أن الأمور تسير بتقدير الله، لا بطَبعها.
وفي هذا الحديث يروي أَنَسُ بنُ مالكٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ».
والعدوى: هي انتقال المرض من المريض إلى الصحيح بالمخالَطة، وليس المقصودُ نفيَ وجودِها؛ وإنما المقصودُ أنه لا عدوى مؤثِّرة بنفسها وذاتِها وطَبْعها؛ وإنما التأثير بتقدير الله عزَّ وجلَّ، إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح بالمخالطة، وإن شاء لم يقع ذلك؛ بَيْدَ أن المسلم مأمور بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يُفضي إلى الشر.
أما الطِّيَرةُ فهي التشاؤمُ بمرئيٍّ أو مسموع أو معلوم. وقال النبيُّ ﷺ: «وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ» قَالُوا: وَمَا الفَأْلُ؟ قَالَ: «كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ»؛ فالكلمة الطيِّبة تُدخِل السُّرور على النفس، وتَشرَح الصَّدر.
فالأمور تجري بتقدير الله تعالى، والعدوى موجودة؛ ولكنها تؤثِّر بأمر الله. لذا؛ عندما قال رَسُولُ اللَّهِ : «لا عَدْوَى وَلا صَفَرَ وَلا هَامَةَ»، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا بَالُ إِبِلِي، تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَأْتِي البَعِيرُ الأَجْرَبُ، فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا، فَيُجْرِبُهَا؟ فَقَالَ: «فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟» [1]
فإذا كانت العدوى تؤثِّر بنفسها، فمن أعدى أوَّل بعير؟!
"ولا حُجَّةَ في هذا لمن أنكر الأسباب؛ بل فيه إثباتُ القَدَر، ورَدُّ الأسباب كلِّها إلى الفاعل الأوَّل؛ إذ لو كان كلُّ سبب مستندًا إلى سبب قبلَه لا إلى غاية، لزم التَّسلْسُل في الأسباب، وهو ممتنع؛ فقطع النّبيُّ ﷺ التّسلسل بقوله: «فمن أعدى الأوّل؟»؛ إذ لو كان الأوَّلُ قد جَرِبَ بالعدوى، والَّذي قبله كذلك لا إلى غاية، لَزِم التّسلسل الممتنِع. وهذا موافِق لقوله ﷺ: «إن كان الشُّؤم في شيء، فهو في ثلاثة: في الفرس، وفي الدّار، والمرأة» وهو إثبات لنوع خَفيٍّ من الأسباب، ولا يطَّلِع عليه أكثرُ النّاس، ولا يُعلَم إلّا بعد وقوع مسبَّبه؛ فإنّ من الأسباب ما يُعلَم سببيَّته قبل وقوع مسبَّبه، وهي الأسباب الظّاهرة، ومنها ما لا يُعلَم سببيَّته إلّا بعد وقوع مسبَّبه، وهي الأسباب الخَفيَّة، ومنه قول النّاس: "فلان مشؤوم الطَّلعة، ومدوَّر الكعب" ونحوه؛ فالنّبيُّ ﷺ أشار إلى هذا النّوع، ولم يُبطِلْه، وقوله: «إن كان الشّؤم في شيء فهو في ثلاثة» تحقيقٌ لحصول الشّؤم فيها، وليس نفيًا لحصوله من غيرها؛ كقوله: «إن كان في شيء تتداوون به شفاءً، ففي شرطه مِحجَم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، ولا أحبُّ الكيَّ» ذكره البخاريُّ. وقال: «من ردَّته الطّيرة من حاجته فقد أشرك»، قالوا: يا رسول اللّه، وما كفَّارة ذلك؟ قال: «أن يقول: اللّهمَّ لا طَيْرَ إلّا طيرُك، ولا خير إلّا خيرك» ذكره أحمد"[2]
والأحاديث التي توضِّح هذا الأمر كثيرة، مجموعُها يُجلِي هذه الصورة التي ذَكَرناها، من أن الأمور تجري بتقدير الله مع الأخذ بالأسباب، منها ما رواه
أَبو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ»
[3]
"قوله ﷺ: «لا عدوى»: لا نافية للجنس، ونفيُ الِجنس أعمُّ من نفيِ الواحد والاثنين والثلاثة؛ لأنه نفيٌ للجنس كلِّه، فنَفَى الرسولُ ﷺ العدوى كلَّها.
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحِسِّية يكون أيضًا في الأمراض المعنوية الخُلقية؛ ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة؛ فقوله: «لا عدوى» يَشمَل الحِسِّية والمعنوية، وإن كانت في الحسِّية أَظهَرَ. قوله: «ولا طِيَرة»: الطِّيَرة هي التشاؤم بمرئيٍّ أو مسموع أو معلوم. قوله: «ولا هامة»: الهامَة بتخفيف الميم فُسِّرت بتفسيرين؛ الأول: أنها طيرٌ معروف يُشبه البُومة، أو هي البُومة، تَزعُم العرب أنه إذا قُتِل القتيلُ، صارت عظامُه هامةً تطير وتَصرُخ حتى يؤخَذ بثأره، وربما اعتقد بعضُهم أنها رُوحه. التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامةُ هي الطَّير المعروف؛ لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونَعَقَت، قالوا: إنها تَنعِق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليلُ قُرب أَجَله، وهذا كلُّه بلا شكٍّ عقيدةٌ باطلة.
قوله ﷺ: «ولا صَفَر»: قيل: إنه شهر صَفَر، كانت العرب يتشاءمون به، ولا سيَّما في النكاح، وقيل: إنه داء في البَطْنِ يُصيب الإبلَ ويَنتقِل من بَعِير إلى آخَرَ. وعلى هذا؛ فيكون عطفُه على العدوى من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، والأقربُ أن (صفر) يعني الشهر، وأن المراد نفيُ كونِه مشؤومًا؛ أي: لا شؤمَ فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدَّر فيه الخير، ويقدَّر فيه الشرُّ.
وهذا النفيُ في هذه الأمور الأربعة ليس نفيًا للوجود؛ لأنها موجودةٌ؛ ولكنه نفيٌ للتأثير؛ فالمؤثِّر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا، فهو سببٌ صحيح، وما كان منها سببًا موهومًا، فهو سببٌ باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحًا، ولكونه سببًا إن كان باطلًا.
فقوله: «لا عدوى»: العدوى موجودةٌ، ويدلُّ لوجودها قوله ﷺ: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»؛ أي: لا يُورِدُ صاحبُ الإبِلِ المريضةِ على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلَّا تنتقل العدوى، وقوله ﷺ: «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»، والجُذَامُ مَرَضٌ خبيثٌ مُعْدٍ بسرعة ويُتلِف صاحبَه حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفِرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه، وفيه إثباتٌ لتأثير العدوى؛ لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًّا، بحيث تكون علَّةً فاعلة، وأَمْر النبيِّ ﷺ بالفرار، وأن لا يُورِدَ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ، من باب تجنُّب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسبابُ لا تؤثِّر بنفسها؛ لكن ينبغي لنا أن نتجنَّب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛
لقوله تعالى:
وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ
[البقرة: 195]
ولا يمكِن أن يُقال: إن الرسول ﷺ يُنكِر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمرٌ يُبطِله الواقعُ، والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول ﷺ لَمَّا قال: «لا عدوى»، قال رجل: يا رسول الله، الإبل تكون صحيحةً مثلَ الظِّباء، فيَدخُلها الجمل الأجرب فتَجرَب؟ فقال النبيُّ ﷺ: «فمن أعدى الأول؟»؛ يعني: أن الْمَرض نزل على الأوَّل بدون عدوى؛ بل نزل من عند الله - عزَّ وجلَّ - فكذلك إذا انتقل بالعدوى، فقد انتقل بأمر الله، والشيءُ قد يكون له سببٌ معلوم، وقد لا يكون له سبب معلوم، فَجَرَبُ الأوَّل ليس سببُه معلومًا؛ إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجربُ الذي بعده له سببٌ معلوم؛ لكن لو شاء الله تعالى لم يَجرَب؛ ولهذا أحيانًا تُصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعونُ والكوليرا أمراض مُعْدِيَة، وقد تَدخُل البيت، فتُصيب البعضَ، فيموتون ويَسلَم آخرون ولا يُصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكَّل عليه، وقد رُوِيَ أن النبيَّ ﷺ جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: «كُلْ»؛ يعني: من الطعام الذي كان يأكل منه الرسولُ ﷺ؛ لقوَّة توكُّله ﷺ؛ فهذا التوكُّلُ مُقاوِمٌ لهذا السبب الْمُعْدِي. وهذا الجمعُ الذي أشرنا إليه هو أحسنُ ما قيل في الجمع بين الأحاديث"[4]
إذن؛ الأحاديث الصحيحة تدلُّ على وجود العدوى؛ ولكن النفي في الأحاديث هو عن أنها تؤثِّر بنفسها دون تقدير الله تعالى، ومع ذلك يجب الأخذ بالأسباب؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«لَا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ»
[5]
فينهى النبيُّ ﷺ أن يُورِد صاحبُ الإبِلِ الْمِرَاضِ إِبِلَه على إبِل صاحب الإبل الصِّحَاح. وفي المعنى نفسِه من الأخذ بالأسباب وعدم التعرُّض للعدوى يقول رسول الله ﷺ: «... وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ» [6]
وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا نَبِيُّ اللَّه ﷺ:
«أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ»
[7]
فليصبر وليمكث في بلده، وهذا أخذٌ بالأسباب حتى لا تنتقل العدوى والمرض بين الناس.
أما التطيُّر والتشاؤم، فربما وصل بالإنسان إلى الشرك، وكفَّارتُه أن يدعوَ بما ورد في حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجةٍ، فَقَدْ أَشْرَكَ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُم: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلا إِلَهَ غَيْرُكَ» [8]
و"التطيُّر أن يتشاءم الإنسان في الشيء، وإنما سُمِّيَ تطيُّرًا لأن العرب في الجاهلية يتشاءمون بالطُّيور، فغَلَب الاسمُ على كلِّ التشاؤم، فمن العرب من يتشاءم بالطيور إذا زَجَر الطَّير أو أثاره حتى طار، إن طار يَسارًا تشاءم، وإن رجع إليه ألغى ما يُريد الإقدامَ عليه، وإن طار أمامَه عَزَم على تنفيذ ما أراد، وإن طار على يمينه، قال: هذا عمل مَيْمُون مبارك، فصاروا يتشاءمون بالطيور، وأيضًا الطيور في الجوِّ ربما يتشاءمون بها، الغراب يُتشاءم به، والبُومَة يَتشاءمون بها، وبعض الطيور، ومن العرب من يتشاءم بالزمان، لقد شاع عندهم أن المرأة إذا تزوَّجت في شوَّال، لم توفَّق، ولا يحبُّها زوجُها، وهذا باطل؛ فإن النبيَّ ﷺ عقد على أمِّ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - في شوَّال، ودخل بها في شوَّال، فكانت تقول: أيُّكم أحظى عنده مني؟ لأنهم يَزعُمون أن المرأة إذا تزوَّجت في هذا الشهر لم توفَّق في زواجها، وهذا أيضًا ما له تفسيرٌ، ومنهم من يتشاءم بالسفر في يوم الأربعاء، يقولون: إذا سافر الإنسان في يوم الأربعاء، لابدَّ من حدوث حادث، أو خسارة، أو بلاء، وهذا أيضًا لا صحَّة له، الأربعاء والخميس والثلاثاء وغير ذلك، كلُّها واحد، ومنهم من يتشاءم بشهر صَفَر، صَفَر الذي بعد محرَّم، ويقولون: لو عَمِل فيه الإنسان أيَّ عَمَلٍ؛ زواج أو وُلِد له فيه أو سافَرَ فيه، فإنه لا يوفَّق، وهذا أيضًا باطل، ولا أثر بالشهر في تفاؤل ولا في تشاؤم؛ ولهذا قال بعض الناس: يقابل البدعة ببدعة، يسمِّي صَفَرًا "صفر الخير"، وهذا أيضًا لا يجوز؛ فصَفَرٌ مثلُ محرَّمٍ مثل ربيع الأول، ومثل أيٍّ من الشهور، لا فيه تشاؤم ولا تفاؤل، ولا يجوز أن نداويَ البِدعة ببدعة، وهذا كما يفعل بعض الناس في يوم عاشوراءَ، يومُ عاشوراءَ تتَّخِذه الرافضة يومَ حزن، ويلطمون الخدود، ويشقُّون الجيوب، وينتفون الشعور، وربما يَجرَحون أنفسهم بالخناجر وغيرها، وعندهم أن الذي يموت في هذه الليلة يموت شهيدًا، وبعضُ الناس تقول في هذا اليوم الذي اتَّخَذه الرافضة حزنًا: نحن نتَّخِذه سرورًا نُطعم الطعام، ونكسو الأولاد، ونُدخل الفرح في الصدور، هذا أيضًا غَلَط، هذا من البِدَع، والبدعُ لا تُرَدُّ بالبِدَع، لا يقتل البدعةَ إلا السنَّةُ، استمسكْ بالسنَّة تُمِت البِدعة، ثم ذكر أحاديث في هذا أن النبيَّ ﷺ نهى عن التطيُّر، وقد ثبت عنه أنه قال: «لا عدوى ولا طِيَرة، ويعجبني الفألُ» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة». فإن الكلمة الطيِّبةَ تُدخِل السُّرور على النفس، وتَشرَح الصَّدر، ومن ذلك أن النبيَّ ﷺ كان في غزوة الحُدَيبية، وكانت قريشٌ تُراسِلُه، فأرسلوا إليه في النهاية سُهيلَ بنَ عمرٍو، فلمَّا أقبلَ، قال النبيُّ ﷺ: «هذا سُهَيْلُ بنُ عمرٍو، وما أراه إلا قد سَهُل أمرُكم»، أو كلمة نحوها، فتفاءل بالاسم؛ فالتفاؤلُ خيرٌ؛ لأنه يَشرَح الصدر، ويُفرِح القلب، وينشِّط اللسان، ويَعزِم على الخير، أما التشاؤمُ، فإنه بخلاف ذلك؛ ولكن إذا أصابك شيءٌ من تشاؤم، فأَعرِضْ عنه، أعرض عن هذا الحزن، وقل: اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك؛ يعني: أن الأمر كلَّه بيدِك، ولا إله غيرك، وأما قولُ الرسول ﷺ: «إن كان الشؤم في شيء، فإنه في ثلاثٍ: في الدار والمرأة والفرس»، فالمعنى أن هذه الثلاثةَ هي أكثر ما يكون مرافَقةً للإنسان: المرأة زوجه، والدار بيته، والفرس مركوبه، وهذه الأشياء الثلاثة أحيانًا يكون فيها شؤمٌ، أحيانًا تَدخُل المرأة على الإنسان يتزوَّجها ولا يَجِد إلا النَّكَد والتَّعَب منها ومشاكلها، أيضًا يَنزِل الدار فيكون فيها شؤمٌ يَضِيق صدرُه ولا يتَّسِع ويملُّ منها، أيضًا الفَرَس، والفَرَس الآن ليس مركوبَنا؛ ولكن مركوبنا السيَّارات، بعضُ السيَّارات يكون فيها شؤمٌ تَكثُر حوادثُها وخَرَابها، ويَسْأم الإنسان منها، فإذا أُصيب الإنسان بمثل هذا فليَستعِذْ بالله من الشيطان الرجيم، ويقل: اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طيرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك، فيُزيل الله ما في نفسه من الشؤم" [9]
وخالِصَةُ القول: أن الأحاديث في هذا الباب تدلُّ على أنه لا عدوى على ما يعتقده الجاهليون من كون الأمراض تُعدي بطَبعها؛ وإنما الأمر بيد الله سبحانه، إن شاء انتقل الداء من المريض إلى الصحيح، وإن شاء سبحانه لم يقع ذلك؛ ولكن المسلمين مأمورون بأخذ الأسباب النافعة، وترك ما قد يُفضي إلى الشرِّ. أما الفألُ، فهو أن يسمع الإنسان الكلمة الطيبة، فتَسُرُّه؛ مثلُ: أن يسمع المريض من يقول: يا سليمُ، يا معافًى، فيَسُرُّه ذلك ويتفاءل به.
المراجع
- رواه البخاريُّ (5717)، ومسلم (2220).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 302)
- رواه البخاريُّ (5757) ومسلم (2220).
- "شرح كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/80)
- .رواه مسلم (2221).
- رواه البخاريُّ (5707).
- رواه البخاريُّ (5734).
- رواه أحمد (7045)، وصحَّحه الألبانيُّ في السلسلة الصحيحة (1065)
- ( "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 414- 416).
النقول
قال ابن عثيمين رحمه الله: "قوله ﷺ: «لا عدوى»: لا نافية للجنس، ونفيُ الِجنس أعمُّ من نفيِ الواحد والاثنين والثلاثة؛ لأنه نفيٌ للجنس كلِّه، فنفى الرسولُ ﷺ العدوى كلَّها.
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحِسِّية يكون أيضًا في الأمراض المعنوية الخُلقية؛ ولهذا أخبر النبيُّ ﷺ أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة؛ فقوله: «لا عدوى» يَشمَل الحِسِّية والمعنوية، وإن كانت في الحسِّية أَظهَرَ. قوله: «ولا طِيَرة»: الطِّيَرة هي التشاؤم بمرئيٍّ أو مسموع أو معلوم.
قوله: «ولا هامة»: الهامَة بتخفيف الميم فُسِّرت بتفسيرين: الأول: أنها طيرٌ معروف يُشبه البُومة، أو هي البُومة، تَزعُم العرب أنه إذا قتل القتيل، صارت عظامُةُ هامةً تطير وتَصرُخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضُهم أنها رُوحه. التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامةُ هي الطَّير المعروف؛ لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت، قالوا: إنها تَنعِق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قُرب أجله، وهذا كلُّه بلا شكٍّ عقيدةٌ باطلة.
قوله: «ولا صَفَر»: قيل: إنه شهر صَفَر، كانت العرب يتشاءمون به، ولا سيَّما في النكاح، وقيل: إنه داء في البَطْنِ يُصيب الإبلَ ويَنتقِل من بَعِير إلى آخَرَ. وعلى هذا؛ فيكون عطفُه على العدوى من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، والأقربُ أن (صفر) يعني الشهر، وأن المراد نفيُ كونِه مشؤومًا؛ أي: لا شؤمَ فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدَّر فيه الخير، ويقدَّر فيه الشرُّ.
وهذا النفيُ في هذه الأمور الأربعة ليس نفيًا للوجود؛ لأنها موجودةٌ؛ ولكنه نفيٌ للتأثير؛ فالمؤثِّر هو الله، فما كان منها سببًا معلومًا، فهو سببٌ صحيح، وما كان منها سببًا موهومًا، فهو سببٌ باطل، ويكون نفيًا لتأثيره بنفسه إن كان صحيحًا، ولكونه سببًا إن كان باطلًا.
فقوله: «لا عدوى»: العدوى موجودةٌ، ويدلُّ لوجودها قوله ﷺ: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ»؛ أي: لا يُورِدُ صاحبُ الإبِلِ المريضةِ على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلَّا تنتقل العدوى.
وقوله ﷺ: «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»، والجُذَامُ مَرَضٌ خبيثٌ مُعْدٍ بسرعة ويُتلِف صاحبَه حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفِرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثباتٌ لتأثير العدوى؛ لكن تأثيرها ليس أمرًا حتميًّا، بحيث تكون علَّةً فاعلة، وأَمْر النبيِّ ﷺ بالفرار، وأن لا يُورِدَ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ، من باب تجنُّب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسبابُ لا تؤثِّر بنفسها؛ لكن ينبغي لنا أن نتجنَّب الأسباب التي تكون سببًا للبلاء؛
لقوله تعالى:
وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ
[البقرة: 195]
ولا يمكِن أن يُقال: إن الرسول ﷺ يُنكِر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمرٌ يُبطِله الواقعُ، والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول ﷺ لَمَّا قال: «لا عدوى»، قال رجل: يا رسول الله، الإبل تكون صحيحةً مثلَ الظِّباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبيُّ ﷺ: «فمن أعدى الأول؟»؛ يعني: أن الْمَرض نزل على الأوَّل بدون عدوى؛ بل نزل من عند الله - عزَّ وجلَّ - فكذلك إذا انتقل بالعدوى، فقد انتقل بأمر الله، والشيءُ قد يكون له سببٌ معلوم، وقد لا يكون له سبب معلوم، فَجَرَبُ الأوَّل ليس سببُه معلومًا؛ إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجربُ الذي بعده له سببٌ معلوم؛ لكن لو شاء الله تعالى لم يَجرَب؛ ولهذا أحيانًا تُصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعونُ والكوليرا أمراض مُعْدِيَة، وقد تَدخُل البيت، فتُصيب البعضَ، فيموتون ويَسلَم آخرون ولا يُصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكَّل عليه، وقد رُوِيَ أن النبيَّ ﷺ جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: «كُلْ»؛ يعني: من الطعام الذي كان يأكل منه الرسولُ ﷺ؛ لقوَّة توكله ﷺ؛ فهذا التوكُّلُ مُقاوِمٌ لهذا السبب الْمُعْدِي. وهذا الجمعُ الذي أشرنا إليه هو أحسنُ ما قيل في الجمع بين الأحاديث"[1]
قال ابن القيم رحمه الله: "ولا حُجَّةَ في هذا لمن أنكر الأسباب؛ بل فيه إثباتُ القَدَر، ورَدُّ الأسباب كلِّها إلى الفاعل الأوَّل؛ إذ لو كان كلُّ سبب مستندًا إلى سبب قبله لا إلى غاية، لزم التَّسلْسُل في الأسباب، وهو ممتنع؛ فقطع النّبيُّ ﷺ التّسلسل بقوله: «فمن أعدى الأوّل؟»؛ إذ لو كان الأوَّلُ قد جَرِبَ بالعدوى، والَّذي قبله كذلك لا إلى غاية، لَزِم التّسلسل الممتنِع. وهذا موافِق لقوله ﷺ: «إن كان الشُّؤم في شيء، فهو في ثلاثة: في الفرس، وفي الدّار، والمرأة» وهو إثبات لنوع خفيٍّ من الأسباب، ولا يطَّلِع عليه أكثرُ النّاس، ولا يُعلَم إلّا بعد وقوع مسبَّبه؛ فإنّ من الأسباب ما يُعلَم سببيَّته قبل وقوع مسبَّبه، وهي الأسباب الظّاهرة، ومنها ما لا يُعلَم سببيَّته إلّا بعد وقوع مسبّبه، وهي الأسباب الخفيَّة، ومنه قول النّاس: "فلان مشؤوم الطّلعة، ومدوّر الكعب" ونحوه؛ فالنّبيُّ ﷺ أشار إلى هذا النّوع، ولم يُبطله، وقوله: «إن كان الشّؤم في شيء فهو في ثلاثة» تحقيق لحصول الشّؤم فيها، وليس نفيًا لحصوله من غيرها؛ كقوله: «إن كان في شيء تتداوون به شفاءً، ففي شرطه مِحجَم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، ولا أحبُّ الكيَّ» ذكره البخاريّ. وقال: «من ردّته الطّيرة من حاجته فقد أشرك قالوا: يا رسول اللّه وما كفّارة ذلك؟ قال: أن يقول: اللّهمّ لا طير إلّا طيرك، ولا خير إلّا خيرك» ذكره أحمد"[2]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "التطيُّر أن يتشاءم الإنسان في الشيء، وإنما سُمِّيَ تطيُّرًا لأن العرب في الجاهلية يتشاءمون بالطُّيور، فغَلَب الاسمُ على كلِّ التشاؤم، فمن العرب من يتشاءم بالطيور إذا زَجَر الطَّير أو أثاره حتى طار، إن طار يَسارًا تشاءم، وإن رجع إليه ألغى ما يُريد الإقدامَ عليه، وإن طار أمامَه عَزَم على تنفيذ ما أراد، وإن طار على يمينه، قال: هذا عمل مَيْمُون مبارك، فصاروا يتشاءمون بالطيور، وأيضًا الطيور في الجوِّ ربما يتشاءمون بها، الغراب يُتشاءم به، والبُومَة يَتشاءمون بها، وبعض الطيور، ومن العرب من يتشاءم بالزمان، لقد شاع عندهم أن المرأة إذا تزوَّجت في شوَّال، لم توفَّق، ولا يحبُّها زوجُها، وهذا باطل؛ فإن النبيَّ ﷺ عقد على أمِّ المؤمنين عائشةَ - رضي الله عنها - في شوَّال، ودخل بها في شوَّال، فكانت تقول: أيُّكم أحظى عنده مني؟ لأنهم يَزعُمون أن المرأة إذا تزوَّجت في هذا الشهر لم توفَّق في زواجها، وهذا أيضًا ما له تفسيرٌ، ومنهم من يتشاءم بالسفر في يوم الأربعاء، يقولون: إذا سافر الإنسان في يوم الأربعاء، لابدَّ من حدوث حادث، أو خسارة، أو بلاء، وهذا أيضًا لا صحَّة له، الأربعاء والخميس والثلاثاء وغير ذلك، كلُّها واحد، ومنهم من يتشاءم بشهر صَفَر، صَفَر الذي بعد محرَّم، ويقولون: لو عَمِل فيه الإنسان أيَّ عَمَلٍ؛ زواج أو وُلِد له فيه أو سافَرَ فيه، فإنه لا يوفَّق، وهذا أيضًا باطل، ولا أثر بالشهر في تفاؤل ولا في تشاؤم؛ ولهذا قال بعض الناس: يقابل البدعة ببدعة، يسمِّي صَفَرًا "صفر الخير"، وهذا أيضًا لا يجوز؛ فصَفَرٌ مثلُ محرَّم مثل ربيع الأول، ومثل أيٍّ من الشهور، لا فيه تشاؤم ولا تفاؤل، ولا يجوز أن نداويَ البِدعة ببدعة، وهذا كما يفعل بعض الناس في يوم عاشوراءَ، يومُ عاشوراءَ تتَّخِذه الرافضة يومَ حزن، ويلطمون الخدود، ويشقُّون الجيوب، وينتفون الشعور، وربما يَجرَحون أنفسهم بالخناجر وغيرها، وعندهم أن الذي يموت في هذه الليلة يموت شهيدًا، والعياذ بالله، وبعضُ الناس تقول في هذا اليوم الذي اتَّخَذه الرافضة حزنًا: نحن نتَّخِذه سروًرا نُطعم الطعام، ونكسو الأولاد، ونُدخل الفرح في الصدور، هذا أيضًا غَلَط، هذا من البِدَع، والبدعُ لا تُرَدُّ بالبِدَع، لا يقتل البدعةَ إلا السنَّةُ، استمسك بالسنَّة تُمِت البِدعة، ثم ذكر أحاديث في هذا أن النبيَّ ﷺ نهى عن التطيُّر، وقد ثبت عنه أنه قال: «لا عدوى ولا طِيَرة، ويعجبني الفألُ» قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمة الطيبة». فإن الكلمة الطيِّبةَ تُدخِل السُّرور على النفس، وتَشرَح الصَّدر، ومن ذلك أن النبيَّ ﷺ كان في غزوة الحُدَيبية، كانت قريشٌ تُراسِلُه، فأرسلوا إليه في النهاية سُهيلَ بنَ عمرٍو، فلمَّا أقبلَ، قال النبيُّ ﷺ: «هذا سُهَيْلُ بنُ عمرٍو، وما أراه إلا قد سَهُل أمرُكم»، أو كلمة نحوها، فتفاءل بالاسم؛ فالتفاؤلُ خيرٌ؛ لأنه يَشرَح الصدر، ويُفرِح القلب، وينشِّط اللسان، ويَعزِم على الخير، أما التشاؤمُ، فإنه بخلاف ذلك؛ ولكن إذا أصابك شيءٌ من تشاؤم، فأَعرِضْ عنه، أعرض عن هذا الحزن، وقل: اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيْرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك؛ يعني: أن الأمر كلَّه بيدِك، ولا إله غيرك، وأما قولُ الرسول ﷺ: «إن كان الشؤم في شيء، فإنه في ثلاثٍ: في الدار والمرأة والفرس»، فالمعنى أن هذه الثلاثةَ هي أكثر ما يكون مرافَقةً للإنسان: المرأة زوجه، والدار بيته، والفرس مركوبه، وهذه الأشياء الثلاثة أحيانًا يكون فيها شؤمٌ، أحيانًا تَدخُل المرأة على الإنسان يتزوَّجها ولا يَجِد إلا النَّكَد والتَّعَب منها ومشاكلها، أيضًا يَنزِل الدار فيكون فيها شؤمٌ يَضِيق صدرُه ولا يتَّسِع ويملُّ منها، أيضًا الفَرَس، والفَرَس الآن ليس مركوبَنا؛ ولكن مركوبنا السيَّارات، بعضُ السيَّارات يكون فيها شؤمٌ تَكثُر حوادثُها وخَرَابها، ويَسْأم الإنسان منها، فإذا أُصيب الإنسان بمثل هذا فليَستعِذْ بالله من الشيطان الرجيم، ويقل: اللهمَّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طيرَ إلا طيرُك، ولا إلهَ غيرُك، فيُزيل الله ما في نفسه من الشؤم، والله الموفِّق" [3]
المراجع
- "شرح كتاب التوحيد" لابن عثيمين (2/80).
- "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (4/ 302).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 414- 416).
الخَمْر: ما أَسكَر من عصير العِنَب، أو عامٌّ؛ أي: ما أَسكَر عمومًا، وسمِّيت خمرًا لأنها تَخْمِرُ العقل وتَسْتُرُه [1].
الْمَيْتَة: ما مات حَتْفَ أنفِه، أو قُتِل على هيئة غيرِ مشروعة [2].
الأَصْنَام: جمعٌ، ومُفرَدُه صَنَمٌ، وهو ما اتُّخِذ إلهًا من دون الله، وقيل: هو ما كان له جِسْمٌ أو صورة، فإن لم يكن له جسمٌ أو صورة، فهو وَثَنٌ [3].
يَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاس: أي: يُشعِلون بها سُرُجَهُمْـ [4].
جَمَلُوه: أي: أَذَابوه، وفى رواية: أَجْمَلوه، يقال: جَمَلْتُ الشَّحْمَ، وأَجْمَلتُه: إذا أذبتُه [5].
المراجع
1. " القاموس المحيط " للفيروزآبادي (ص: 387).
2. "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" للفيوميِّ (2/ 583).
3. "لسان العرب" لابن منظور (12/ 349).
4. "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 7).
5. "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (5/ 256).
المعنى الإجماليُّ للحديث
(يروي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، أَنَّهُ: سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ)
ذكر جابر رضي الله عنه مكان سماعه الحديث (مكَّةَ)، وزمانه عام فتحها سنةَ ثمانٍ من الهجرة؛ تأكيدًا على أنه سَمِعه من النبيِّ ﷺ مباشرةً.
قال ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ» لم يقل النبيُّ ﷺ: (حرَّما)؛ تأدُّبًا مع الله تعالى، وإشارةً إلى أن أمر النبيِّ ﷺ ناشئٌ عن أمر الله تعالى. «بَيْعَ الخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ»؛ أي: قد حرَّم الله تعالى ورسوله ﷺ بيع الخمر والْمَيتة وَالخِنْزِيرِ وَالأَصْنَامِ.
(فقيل: يا رسول الله، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟)؛ أي: فقال رجل: يا رسولَ الله، أخبرني عن شُحوم الْمَيتة؛ فإنه يُطلى بها السُّفن، ويُدهَن بها الجلود، ويُشعِل الناسُ بها مصابيحَهم، فهل يَحِلُّ لنا الانتفاع ببيعها من أجل هذه المنافع؟
قال ﷺ: «لاَ، هُوَ حَرَامٌ»؛ أي: لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرام.
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ»؛ أي: لَعَنهم اللهُ، وطَرَدهم، وأَبعَدَهم من رحمته. «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»؛ أي: إن اليهود لَمَّا حُرّم عليهم بيعُ شحوم الْمَيتة، احتالوا على الله تعالى، فأذابوا الشُّحوم، وباعوها، وانتفعوا بثمنها، فاستحقُّوا اللعن، والطَّرد من رحمة الله تعالى.
الإسلام دينٌ سامٍ، يَحرِص على مصالح العباد، وحياتهم، دينٌ يحفظ على أتباعه عقولهم، وأبدانهم، ودينهم، وقد امتنَّ الله تعالى على عباده بما خَلَقه في الأرض؛
فقال تعالى:
﴿هُوَ ٱلَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا﴾
[البقرة: 29]،
وجعله طيِّبًا مباحًا لهم، وحذَّر من كلِّ ما فيه مفاسدُ ومَضارُّ لهم، فأباح لهم الطيِّبات، وهى أغلبُ ما خَلَق الله في الأرض لنا، وحرَّم عليهم الخبائث؛
قال تعالى:
﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَٰٓئِثَ﴾
[الأعراف: 157]
ومن تلك الخبائثِ المحرَّمة هذه الأشياءُ الأربعةُ المعدودة في هذا الحديث؛ فكلُّ واحدٍ منها يُشار به إلى نوع من الْمَضارِّ؛ "فاشتمَلَت هذه الكلمات الجوامعُ على تحريم ثلاثةِ أجناس: مَشاربَ تُفسِد العقول، ومَطاعمَ تُفسِد الطِّباع وتغذِّي غذاءً خبيثًا، وأعيانٍ تُفسِد الأديان، وتدعو إلى الفِتنة والشِّرك، فصان بتحريم النوع الأول العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، وبالثاني: القلوبَ عما يُفسِدُها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، وبالثالث: الأديانَ عمَّا وُضِع لإفسادها، فتضمَّن هذا التحريمُ صيانة العقول، والقلوب، والأديان" [1]؛
فعن جابر رضي الله عنه أنه
(سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، يَقُولُ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ)
وفي هذا بيان لزمان، ومكان سماع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لهذا الحديث من النبيِّ ﷺ، فكان سماعُه بمكَّةَ، في عام الفتح سنةَ ثمانٍ من الهجرة، "ويُحتمَل أن يكون التحريمُ وقع قبلَ ذلك، ثم أعاده ﷺ ليَسمَعه مَن لم يكن سَمِعه" [2].
قوله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ»: ولم يقل النبيُّ ﷺ: (حرَّما)؛ تأدُّبًا مع الله تعالى، وإشارةً إلى أن أمر النبيِّ ﷺ ناشئٌ عن أمر الله تعالى، فـ"تأدَّب النبيُّ ﷺ، فلم يَجمَع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين" [3]. «بَيْعَ الخَمْرِ»؛ أي: إن الله ورسوله قَضَيا بتحريم بيع هذه الأشياء، أما الخمرُ، فقد حرَّم الله بيعها، وشُربها؛
قال تعالى:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلْأَنصَابُ وَٱلْأَزْلَٰمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾
[المائدة: 90]،
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَخْطُبُ بِالْمَدِينَةِ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُعَرِّضُ بِالْخَمْرِ، وَلَعَلَّ اللهَ سَيُنْزِلُ فِيهَا أَمْرًا، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَبِعْهُ وَلْيَنْتَفِعْ بِهِ»، قَالَ: فَمَا لَبِثْنَا إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى قَالَ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ»، قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ النَّاسُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْهَا فِي طَرِيقِ الْمَدِينَةِ فَسَفَكُوهَا
[4].
وليس هذا فحسبُ؛ بل لعن النبيُّ ﷺ في الخَمْرِ عشَرةً؛
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:
«لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالْمُشْتَرِيَ لَهَا، وَالْمُشْتَرَاةَ لَهُ»
[5].
قوله ﷺ: «وَالمَيْتَةِ»؛ أي: بيع الْمَيتة حرامٌ بنصِّ حديث النبيِّ ﷺ الذي مَعَنا، ويُفهَم منه كذلك حُرمةُ بيع جثث الموتى؛ فقد "ذَكَر ابنُ إسحاقَ في السِّير قال: لَمَّا كان يومُ الخَنْدقِ، اقتحمه نوفلُ بنُ عبدِ الله بنِ المغيرةِ المخزوميُّ، فتورَّط فيه فقُتِل، فغَلَب المسلمون على جَسَده، فسألوا رسولَ الله أن يَبِيعهم جَسَده، فقال رسول الله: لا حاجة لنا بجسده، ولا ثَمَنه" [6]، كما حرَّم الله تعالى أكلَ الْمَيتة بنصِّ القرآن الكريم؛
قال تعالى:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنزِيرِ﴾
[المائدة: 3]،
ويُستثنى من ذلك السَّمَكُ والجَرَاد؛
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، قَالَ:
سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَرْكَبُ البَحْرَ، وَنَحْمِلُ مَعَنَا القَلِيلَ مِنَ الْمَاءِ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا، أَفَنَتَوَضَّأُ مِنَ الْبَحْرِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ»
[7]،
وعَن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«أُحِلَّتْ لَكُمْ مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ، فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ، فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأَمَّا الدَّمَانِ، فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ»
[8].
قوله ﷺ: «وَالخِنْزِيرِ»؛ أي: بيع الخنزير حرامٌ؛ فهو من باب التعاون على الإثم والعُدوان، الذي نهى عنه ربُّ العِزَّة عزَّ وجلَّ؛
قال تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى ٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى ٱلْإِثْمِ وَٱلْعُدْوَٰنِ ۚ ﴾
[المائدة: 2]،
ومن المقرَّر شرعًا أن الله قد حرَّم لحم الخنزير، فلا يجوز الانتفاعُ به بأيِّ وجه من وجوه الانتفاع؛
قال تعالى:
﴿قُل لَّآ أَجِدُ فِى مَآ أُوحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا عَلَىٰ طَاعِمٍۢ يَطْعَمُهُۥٓ إِلَّآ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍۢ فَإِنَّهُۥ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِۦ ۚ ﴾
[الأنعام: 145].
قوله ﷺ: «وَالأَصْنَام»؛ أي: الأوثان المتَّخَذة من الحجارة، أو الخشَب، أو الفضَّة، أو الذَّهب، التي تُعبَد من دون الله، يَحرُم الانتفاع بها، فلا يجوز بيعُها، حتى وإن كانت لا تُعبَد من دون الله، فما عُبِدت الأصنام من دون الله إلا بعد أن صُنعت ابتداءً لغير العبادة، وقد أخبر النبيُّ ﷺ أن هذه الأمَّة سوف تَعبُد الأصنام مرَّةً أخرى؛
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ، حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ»، وَكَانَتْ صَنَمًا تَعْبُدُهَا دَوْسٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فمن باب حماية جَنَاب التوحيد، لا يجوز بَيْعُ الأصنام، والمتاجَرة فيها، وقد حَمَى نبيُّ الله ﷺ جَنَاب التوحيد في أقلَّ من هذا؛ فعن ثابتِ بنِ الضحَّاكِ، قال: نَذَر رجلٌ على عهد رسول الله ﷺ أن يَنحَر إِبِلاً ببُوَانةَ - موضع بأسفل مكةَ - فأتى النبيَّ ﷺ، فقال: إني نذرتُ أن أَنحَر إبلاً ببُوَانةَ، فقال النبيُّ ﷺ: «هل كان فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟» قالوا: لا، قال: «هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟»، قالوا: لا، قال رسول الله ﷺ: «أَوْفِ بنَذْرِكَ؛ فإنه لا وفاءَ لنَذر في معصية الله، ولا فيما لا يَملِك ابنُ آدم»
[9]،[10].
(فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ؛ فَإِنَّهَا يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ؟)؛ أي: فقال رجل: يا رسولَ الله، أخبرني عن شُحوم الْمَيتة؛ فإنه يُلطَّخ بها السُّفن، ويُدهَن بها الجلود، وينوِّر الناسُ بها مصابيحَهم، فهل يَحِلُّ لنا الانتفاع ببيعها من أجل هذه المنافع؟ ولم يُعرَف هذا السائل؛ قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : "لم أَقِفْ على تسمية القائل" [11].
فقال ﷺ: «لاَ، هُوَ حَرَامٌ»، "ومعناه: لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرامٌ، والضمير في (هو) يعود إلى البَيع، لا إلى الانتفاع؛ فالصحيح عند الشافعيِّ وأصحابه أنه يجوز الانتفاع بشحم الْمَيتة في طَلْيِ السُّفن، والاستصباحِ بها، وغيرِ ذلك مما ليس بأكلٍ، ولا في بَدَنِ الآدميِّ، وقال الجمهور: لا يجوز الانتفاعُ به في شيءٍ أصلاً؛ لعُموم النهيِ عن الانتفاع بالْمَيتة إلا ما خُصَّ، وهو: الجِلد المدبوغ"[12].
وقد "سُئل رسول الله ﷺ في هذا الحديث عن ثلاثةِ أشياءَ: الأوَّل: عن طَلْيِ السُّفن، والثاني: عن دهنِ الجُلود، والثالث: عن الاستصباح، كلُّ ذلك بشُحوم الْمَيتة، وكان سؤالهم عن بيع ذلك؛ ظنًّا منهم أن ذلك جائزٌ؛ لِما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحُمُر الأهلية؛ لِمَا فيه من المنافع، وإن حرِّم أكلُها، فظنُّوا أن شحوم الْمَيتة مثلُ ذلك يَحِلُّ بَيْعُها وشراؤها، وإن حرِّم أكلها، فأخبر النبيُّ ﷺ أن ذلك ليس كالذي ظنُّوا، وأن بيعها حرامٌ، وثَمَنها حرام؛ إذ كانت نَجِسة، نظيرُه الدَّم والخَمْرُ مما يَحرُم بيعُها، وأكلُ ثمنها، وأما الاستصباح، ودَهن السُّفن والجلود بها، فهو بخلاف بيعها، وأكلِ ثمنها، إذا كان ما يُدهَن بها من ذلك يُغسَل بالماء غَسْلَ الشيء الذي أصابته النجاسة فيطهِّره الماء، والإجماع قائمٌ على أنه: لا يجوز بَيْعُ الْمَيتة والأصنام؛ لأنه لا يَحِلُّ الانتفاع بها، ووضع الثمن فيها إضاعةُ مال، وقد نهى الشارع عن إضاعته" [13]
"قال جمهور العلماء: العلَّة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير: النجاسةُ، فيتعدَّى ذلك إلى كلِّ نَجَاسة؛ ولكن المشهور عند مالكٍ طهارةُ الخِنزير، والعلَّة في منع بيع الأصنام: عَدَمُ المنفعة المباحة؛ فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كُسِرت يُنتَفع برُضَاضها، جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية، والأكثر على المنع؛ حملاً للنهيِ على ظاهره" [14].
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: «قَاتَلَ اللَّهُ اليَهُودَ»؛ أي: لَعَنهم اللهُ، وطَرَدهم، وأَبعَدَهم من رحمته، «إِنَّ اللَّهَ لَمَّا حَرَّمَ شُحُومَهَا جَمَلُوهُ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ» ومعناه: أن اليهود لَمَّا حُرّم عليهم بيعُ شحوم الْمَيتة، احتالوا على الله تعالى، فأذابوا الشُّحوم، وباعوها، وانتفعوا بثمنها، فاستحقُّوا اللعن، والطَّرد من رحمة الله تعالى.
المراجع
1. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (5/ 661).
2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 424).
3. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 461).
4. رواه مسلم (1587).
5. رواه الترمذيُّ (1295)، وابن ماجه (3381)، وقال الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2357): حسن صحيح.
6. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (5/ 369).
7. رواه أحمد (7233)، والنسائيُّ (59)، وأبو داود (83)، وابن ماجه (386)، والترمذيُّ (69)، وقال الترمذيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وصححه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود" (76).
8. رواه أحمد (5723)، وابن ماجه (3314)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع" (210).
9. رواه البخاريُّ (7116)، ومسلم (2906).
10. رواه أبو داود (3313)، وصححه الألبانيُّ في المشكاة (3437).
11. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).
12. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 6).
13. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (12/ 55).
14. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).
قال الطيبيُّ رحمه الله: "«وهو بمكَّةَ» بعد قوله: «يوم الفتح» نحوُ قولهم: رأيتُه بعيني وأخذتُه بيدي، والمقصود منهما تحقيق السماع وتقريره كما مرَّ. وذِكْرُ الله تعالى قبل ذكر رسوله ﷺ توطئة لذكره؛ إيذانًا بأن تحريم الرسول بيع المذكورات كتحريم الله تعالى؛ لأنه رسولُه وخليفته. قوله: «ويُستصبَح بها» المغرب: استَصْبَح بالمصباح، واستصبَح بالدُّهن، ومنه قوله: ويَستصبِح به؛ أي: ينوِّر به المصباح. قوله: «فقال: لا، هو حرام» الضمير المرفوع راجع إلى مقدَّر بعد كلمة الاستخبار، وكلمة «لا» ردٌّ لذلك المقدَّر، وهو يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أَخبِرْني، أحِلٌّ انتفاعُ شحوم الميتة؟ وثانيهما: أحِلٌّ بيعُها؟ والثاني هو المراد. معنى قوله: «لا، هو حرام» لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرام، فالضميرُ في «هو» يعود إلى البيع لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعيِّ وأصحابه، وعند الجمهور لا يجوز الانتفاع به في شيء من ذلك أصلاً؛ لعموم النهيِ إلا ما خُصَّ، وهو الجلد المدبوغ، فالصحيح من مذهبنا جواز الانتفاع بالأدهان المتنجِّسة من الخارج؛ كالزيت والسمن وغيرهما بالاستصباح ونحوه، بأن يُجعَل الزيتُ صابونًا، أو يُطعَم العسل المتنجِّس النحلَ، والْمَيتةُ الكلابَ، والطعامُ الدَّوَابَّ. وأجاز أبو حنيفةَ وأصحابه بيع الزيت النَّجِس، إذا بيَّنه" [1].
قال ابن حجر رحمه الله: "قَوْلُهُ: «أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ، فَإِنَّهُ يُطْلَى بِهَا السُّفُنُ، وَيُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ، وَيَسْتَصْبِحُ بِهَا النَّاسُ»؛ أي: فهل يحلُّ بيعها؟ لما ذكر من المنافع؛ فإنّها مقتضية لصحَّة البيع. قوله: فقال: «لا، هو حرام»؛ أي: البيع، هكذا فسَّره بعض العلماء؛ كالشّافعيِّ ومن اتَّبَعه، ومنهم من حمل قوله: «وهو حرام» على الانتفاع، فقال: يحرم الانتفاع بها، وهو قول أكثر العلماء، فلا ينتفع من الميتة أصلًا عندهم إلّا ما خُصَّ بالدّليل، وهو الجلد المدبوغ، واختلفوا فيما يتنجَّس من الأشياء الطّاهرة، فالجمهور على الجواز، وقال أحمد وابن الماجشون: لا ينتفع بشيء من ذلك، واستدلَّ الخطّابيُّ على جواز الانتفاع بإجماعهم على أنّ من ماتت له دابَّة، ساغ له إطعامها لكلاب الصّيد، فكذلك يسوغ دهن السّفينة بشحم الميتة، ولا فرق. قوله: ثمّ قال رسول اللّه ﷺ عند ذلك: «قاتل اللّه اليهود...» إلخ: وسياقه مُشعِر بقوّة ما أوَّله الأكثر أنّ المراد بقوله: «هو حرام» البيع، لا الانتفاع" [2].
قال ابن بطال رحمه الله: "أجمعت الأمَّة على أنه لا يجوز بيعُ الْمَيتة والأصنام؛ لأنه لا يَحِلُّ الانتفاع بهما، فوضعُ الثمن فيهما إضاعةٌ للمال، وقد نهى النبيُّ عن إضاعة المال؛ قال ابن الْمُنذر: فإذا أجمعوا على تحريم بيع الْمَيتة، فبيعُ جِيفة الكافر من أهل الحرب كذلك، وقد رُوي ذلك عن النبيِّ - عليه السلام - وهو مذكور في آخر كتاب الجهاد. قال الطبريُّ: فإن قال قائل: ما وجهُ قوله - عليه السلام - إذ سأله السائل عن شحوم الميتة، وقال: إنها تُدهَن بها الجلود والسفن ونَستصبِح بها؟ فقال مجيبًا له: «قاتل الله اليهود؛ حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها». قيل: إن جوابه - عليه السلام - كان عن مسألة بيع الشحوم، لا عن دهن الجلود والسفن، وإنما سأله عن بيع ذلك إذ ظنَّه جائزًا؛ من أجل ما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحُمُر الأهلية؛ لِما فيها من المنافع، وإن حرِّم أكلها، فظنَّ أن شحوم الميتة كذلك، يَحِلُّ بيعها وشراؤها وإن حرِّم أكلها، فأخبره - عليه السلام - أن ذلك ليس كالذي ظنَّ، وأن بيعها حرام، وثمنها حرام؛ إذ كانت نَجِسةً، ونظيُره الدم والخمر فيما يَحرُم من بيعها وأكل ثمنها، فأما الاستصباح ودَهْنُ السُّفن والجلود بها، فهو مخالفٌ بيعها وأكل ثمنها؛ إذ كان ما يُدهن بها من ذلك ينغسل بالماء غَسل الشيء الذى أصابته نجاسةٌ فيطهِّره الماء. هذا قول عطاء بن أبى رباح وجماعة من العلماء، وممن أجاز الاستصباح بالزيت تقع فيه الفأرة: علىُّ بنُ أبى طالب، وابن عبَّاس، وابن عمر، وقد تقصَّينا هذا" [3].
قال ابن عبد البر رحمه الله: "قالوا فعلى هذا خرج قوله ﷺ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ» في بيع الشّحوم، وأكل ثَمَنها، وفي بيع الخمر، وأكل ثَمَنها؛ لأنّها نَجِسة الذّات؛ مثل شحوم الميتة والدَّم، وليس الزّيتُ تقع فيه الميتة كذلك؛ لأنّه إنّما نَجِس بالمجاوَرة؛ وليس بنَجِس الذّات؛ فلذلك جاز بيعُه إذا بُيِّن بعَيبه، وجاز أكل ثمنه؛ لأنّه ممّا يُنتفَع به للاستصباح وغيره" [4].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال جمهور العلماء: العلَّة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير: النجاسةُ، فيتعدَّى ذلك إلى كلِّ نَجَاسة؛ ولكن المشهور عند مالكٍ طهارةُ الخِنزير، والعلَّة في منع بيع الأصنام: عَدَمُ المنفعة المباحة؛ فعلى هذا إن كانت بحيث إذا كُسِرت يُنتَفع برُضَاضها، جاز بيعها عند بعض العلماء من الشافعية، والأكثر على المنع؛ حملاً للنهيِ على ظاهره" [5].
قال النوويُّ رحمه الله: "يقال: أَجمَل الشّحم وجَمَله؛ أي: أَذَابه، وأمّا قوله ﷺ: «لا، هو حرام»، فمعناه: لا تبيعوها؛ فإن بيعها حرام، والضمير في (هو) يعود إلى البيع، لا إلى الانتفاع، هذا هو الصحيح عند الشافعيِّ وأصحابه؛ أنه يجوز الانتفاع بشحم الميتة في طلي السُّفن، والاستصباح بها، وغير ذلك مما ليس بأكل، ولا في بدن الآدميِّ، وبهذا قال أيضًا عطاءُ بنُ أبي رباح ومحمّدُ بن جرير الطّبريُّ، وقال الجمهور: لا يجوز الانتفاع به في شيء أصلاً؛ لعموم النهي عن الانتفاع بالميتة إلا ما خُصَّ، وهو: الجلد المدبوغ، وأمّا الزّيت والسَّمن ونحوهما من الأدهان الّتي أصابتها نجاسة، فهل يجوز الاستصباح بها ونحوه من الاستعمال في غير الأكل وغير البدن، أو يجعل من الزّيت صابون، أو يُطعم العسل المتنجِّس للنّحل، أو يطعم الميتة لكلابه، أو يطعم الطّعام النّجس لدوابِّه؟ فيه خلاف بين السَّلف، الصّحيح من مذهبنا جواز جميع ذلك، ونقله القاضي عياض عن مالك، وكثير من الصّحابة، والشّافعيُّ والثّوريُّ وأبي حنيفة وأصحابه، واللّيث بن سعد، قال: وروي نحوه عن على وابن عمر وأبي موسى والقاسم بن محمّد وسالم بن عبد اللّه بن عمر، قال: وأجاز أبو حنيفة وأصحابه واللّيث وغيرهم بيع الزّيت النّجس إذا بيّنه، وقال عبد الملك بن الماجشون وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح: لا يجوز الانتفاع بشيء من ذلك كلّه في شيء من الأشياء، واللّه أعلم. قال أصحابنا: العلّة في منع بيع الميتة والخمر والخنزير النّجاسة، فيتعدّى إلى كلّ نجاسة، والعلّة في الأصنام كونها ليس فيها منفعة مباحة، فإن كانت بحيث إذا كسرت ينتفع برُضاضها، ففي صحّة بيعها خلاف مشهور لأصحابنا، منهم من منعه؛ لظاهر النّهي وإطلاقه، ومنهم من جوّزه؛ اعتمادًا على الانتفاع، وتأوّل الحديث على ما لم ينتفع برُضاضه، أو على كراهة التّنزيه في الأصنام خاصّةً، وأمّا الميتة والخمر والخنزير، فأجمع المسلمون على تحريم بيع كلّ واحد منها، واللّه أعلم" [6].
قال ابن حجر رحمه الله: "والظّاهر أنّ النّهي عن بيعها للمبالغة في التّنفير عنها، ويلتحق بها في الحكم الصُّلبان الّتي تعظِّمها النّصارى، ويَحرُم نحت جميع ذلك وصنعته، وأجمعوا على تحريم بيع الميتة والخمر والخنزير، إلّا ما تقدّمت الإشارة إليه في باب تحريم الخمر؛ ولذلك رخَّص بعض العلماء في القليل من شعر الخنزير للخرز، حكاه ابن المنذر عن الأوزاعيّ وأبي يوسف وبعض المالكيّة، فعلى هذا فيجوز بيعه، ويُستثنى من الميتة عند بعض العلماء ما لا تحلُّه الحياة؛ كالشّعر والصّوف والوبر، فإنّه طاهر، فيجوز بيعه، وهو قول أكثر المالكيّة والحنفيّة، وزاد بعضهم العظم والسّنّ والقَرْن والظِّلْف، وقال بنجاسة الشّعور الحسن واللّيث والأوزاعيّ؛ ولكنّها تطهر عندهم بالغسل وكأنّها متنجّسة عندهم بما يتعلّق بها من رطوبات الميتة، لا نجسة العين، ونحوه قول ابن القاسم في عظم الفيل: إنّه يطهر إذا سلق بالماء" [7].
قال الطيبيُّ رحمه الله: "في الحديث دليل على أن من أراق خمرَ النصرانيِّ، أو قتل خِنزيرًا له، أنه لا غرامة عليه؛ لأنه لا ثَمَن لها في حقِّ الدِّين، وفي تحريم بيع الخمر والْمَيتة، دليلٌ على تحريم بيع الأعيان النَّجِسة، وإن كانت منتفعًا بها في الضرورة؛ كالسِّرْقين، وفي تحريم بيع الأصنام، دليلٌ على تحريم بيع جميع الصور المتَّخَذة من الخشب والحديد وغيرهما، وعلى تحريم بيع جميع آلات اللهو كالطنبور والمزمار والمعازف، فإذا طُمست الصور وغيِّرت آلات اللهو عن حالتها، يجوز بيع جواهرها وأصولها" [8].
قوله: «قاتل الله اليهود»؛ أي: عاداهم، وقيل: قَتَلهم، فأُخرِج في صورة المغالبة للمبالغة، أو عبَّر عنه بما هو مسبَّب عنه؛ فإنهم بما اخترعوا من الحِيلة، انتصبوا لمحاربة الله ومقاتلته، ومن قاتله قَتَله. قوله: «أجملوه» الضمير راجع إلى الشحوم على تأويل المذكور، ويجوز أن يرجع إلى ما هو في معنى الشحوم، وهو الشحم، إذ لو قيل: حرِّم شحمُها لم يخلَّ بالمعنى، فهو نحو قوله تعالى: (فأصدَّقَ وأَكُنْ). جَمَلت الشحم وأجملته، إذا أذبته واستخرجتُ دُهنه، وجَمَلت أفصحُ من أجملتُ. فيه دليلٌ على بُطلان كلِّ حيلة تُحتال للتوصُّل إلى محرَّم، وأنه لا يتغيَّر حُكمه بتغيير هيئته، وتبديل اسمه" [9].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فاشتمَلَت هذه الكلمات الجوامعُ على تحريم ثلاثةِ أجناس: مَشاربَ تُفسِد العقول، ومَطاعمَ تُفسِد الطِّباع وتغذِّي غذاءً خبيثًا، وأعيانٍ تُفسِد الأديان، وتدعو إلى الفِتنة والشِّرك، فصان بتحريم النوع الأول العقولَ عما يُزيلها ويُفسدها، وبالثاني: القلوبَ عما يُفسِدُها من وصول أثر الغذاء الخبيث إليها، وبالثالث: الأديانَ عمَّا وُضِع لإفسادها، فتضمَّن هذا التحريمُ صيانة العقول، والقلوب، والأديان" [10].
قال ابن حجر رحمه الله: "ويُحتمَل أن يكون التحريمُ وقع قبلَ ذلك، ثم أعاده ﷺ ليَسمَعه مَن لم يكن سَمِعه" [11].
قال القرطبيُّ رحمه الله: "تأدَّب النبيُّ ﷺ، فلم يَجمَع بينه وبين اسم الله تعالى في ضمير الاثنين" [12].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وذَكَر ابن إسحاقَ في السِّير قال: لَمَّا كان يومُ الخَنْدقِ، اقتحمه نوفلُ بنُ عبدِ الله بنِ المغيرةِ المخزومي، فتورَّط فيه فقُتِل، فغَلَب المسلمون على جَسَده، فسألوا رسولَ الله أن يَبِيعهم جَسَده، فقال رسول الله: لا حاجة لنا بجسده، ولا ثَمَنه" [13].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "سُئل رسول الله ﷺ في هذا الحديث عن ثلاثةِ أشياءَ: الأوَّل: عن طَلْيِ السُّفن، والثاني: عن دهنِ الجُلود، والثالث: عن الاستصباح، كلُّ ذلك بشُحوم الْمَيتة، وكان سؤالهم عن بيع ذلك؛ ظنًّا منهم أن ذلك جائزٌ؛ لِما فيه من المنافع، كما جاز بيع الحُمُر الأهلية؛ لِمَا فيه من المنافع، وإن حرِّم أكلُها، فظنُّوا أن شحوم الْمَيتة مثلُ ذلك يَحِلُّ بَيْعُها وشراؤها، وإن حرِّم أكلها، فأخبر النبيُّ ﷺ أن ذلك ليس كالذي ظنُّوا، وأن بيعها حرامٌ، وثَمَنها حرام؛ إذ كانت نَجِسة، نظيرُه الدَّم والخَمْرُ مما يَحرُم بيعُها، وأكلُ ثمنها، وأما الاستصباح، ودَهن السُّفن والجلود بها، فهو بخلاف بيعها، وأكلِ ثمنها، إذا كان ما يُدهَن بها من ذلك يُغسَل بالماء غَسْلَ الشيء الذي أصابته النجاسة فيطهِّره الماء، والإجماع قائمٌ على أنه: لا يجوز بَيْعُ الْمَيتة والأصنام؛ لأنه لا يَحِلُّ الانتفاع بها، ووضع الثمن فيها إضاعةُ مال، وقد نهى الشارع عن إضاعته" [14].
المراجع
1. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2103).
2. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 425).
3. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (6/ 360، 361).
4. "الاستذكار" لابن عبد البر (8/ 510).
5. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 426).
6. "شرح النوويِّ على مسلم" (11/ 6 - 8).
7. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 426).
8. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2104).
9. "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (7/ 2014).
10. "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (5/ 661).
11. "فتح الباري" لابن حجر (4/ 424)
12. "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 461).
13. "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (5/ 369).
14. "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" لبدر الدين العينيِّ (12/ 55).
الْقِتْلَة: بكسر القاف، وهي هَيئة القتل.
وَلْيُحِدَّ: هو بضمِّ الياء. يقال: أَحَدَّ السِّكِّينَ وحَدَّدها وَاسْتَحدَّها بمعنًى[1].
وَالشَّفْرَةُ، بفتح المُعْجَمة: السِّكِّينُ العظيمة، وما عَظُمَ من الحديد[2].
فَلْيُرِحْ ذَبِيحتَه: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبَّ أن لا يُحِدَّ السِّكِّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يَذبَحَ واحدة بحضرة أخرى، ولا يَجُرَّها إلى مذبحها[3].
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
قال شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ: ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»؛ أي: أَوجَب عليكم أن تُحسِنوا في كلِّ أعمالكم المشروعة. «فَإِذَا قَتَلْتُمْ»؛ أي: إذا أردتُم قتل من يجوز قتلُه. «فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ»؛ أي: فأَحسِنوا هَيْئةَ القتل باختيار أسهلِ الطُّرق وأخفِّها إيلامًا، وأسرعِها إزهاقًا للرُّوح. «وَإِذَا ذَبَحْتُمْ»؛ أي: إذا أردتم ذَبْحَ ما يَحِلُّ ذبحُه من الحيوانات. «فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ» بالرفق بالذبيحة، فلا تصرعها، ولا تجرَّها من موضع إلى آخَرَ، وإحداد آلة الذَّبح، ولا تَذبَحها بحضرة أخرى. «وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ»؛ أي: ليسُنَّ الذابح سِكِّينَه. «فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرار على موضع الذبح، وغير ذلك، مما يساعد في سرعة الذبح، فتستريح من ألمه.
الشرح المفصَّل للحديث:الإحسان.. كلمةٌ عظيمةُ الْمَعنى والْمَبنى.. كلمةٌ بليغةٌ أَثِيرة، لها أثرٌ عظيم في النفس، وجَرْسٌ يعانق الأذن ويَسرِي إلى القلب.. إنه القمَّة السامقة في كلِّ شيء؛ في الدين والعقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والأعمال، حتى إنه لا يكافئه شيء إلا الإحسان
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
[الرحمن: ٦٠]
"واعلم أن الإحسانَ المأمورَ به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخَلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية؛ فكلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان، ولَمَّا ذكَرَ النبيُّ ﷺ قصَّة البَغِيِّ التي سَقَت الكلبَ الشديدَ العطشِ بخُفَّيْها من البئر، وأن الله شَكَر لها وغَفَر لها.
قالوا لرسول الله ﷺ: إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: «في كل ِّكَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ»[1].
فالإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل
قال تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت: 34، 35]
ومن كانت طريقتُه الإحسانَ أَحسَن الله جزاءه
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
[الرحمن: ٦٠]"[2]
قال ﷺ:
«إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
الإحسان في كل شيء: الإحسان في العبادة لله تعالى: (أن تعبد الله كأنك تراه)، الإحسان في التعامل مع النفس فلا تحمِّلها ما لا تُطيق، وتسعى لجعلها مطمئنَّة، الإحسان في التعامل مع الناس كلِّهم؛ مؤمنِهم وكافرهم، مَن فوقَك أو من هم أسفلَ منك وتحت يدك، فتُحسن معاشرة الزوجة والأولاد، بتقويمهم، والتلطُّف معهم، والقيام على شؤونهم، وتلمُّس حاجاتهم، الإحسان في التعامل مع البهائم والدوابِّ، بعدم تحميلها ما لا تُطيق، وإطعامها بما يكفيها، وإحسان ذبحها، الإحسان في التعامل مع الجمادات، بالحفاظ عليها، وهَلُمَّ جرًّا.
"قَوْلُهُ: «كَتَبَ الْإِحْسَانَ»؛ أَيْ: أَوْجَبَهُ
كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
[النحل: 90]
وهو فعل الحَسَن ضدَّ القبيح، فيَتَناول الحسن شرعًا، والحسن عُرفًا، وذكر منه ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان، وهو الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدميٍّ وغيره، في حدٍّ وغيره. ودلَّ على نفي الْمُثْلة مكافأةً؛ إلّا أنّه يُحتمل أنّه مخصَّص بقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194]"[3]
لقد كتب الله تعالى الإحسان في كلِّ شيء على عباده؛ بل إن المقصود الأعظم من خلق الموت والحياة هو الاختبار؛ ليَظهَر من أَحْسَنُ عملاً
قال تعالى:
{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
[الملك:2]
"وظاهرُه يقتضي أنّه كَتَب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان... ولفظ "الكتابة" يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليّين خلافًا لبعضهم، وإنّما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا
كقوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
[النساء: 103]
وقوله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
[البقرة: 183]
أو فيما هو واقع قَدَرًا لا مَحَالَةَ
كقوله:
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
[المجادلة: 21]
وحينئذ فهذا الحديث نَصٌّ في وجوب الإحسان
وقد أَمَرَ اللَّه تعالى به، فقال:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
[النحل: 90]
وَقَالَ:
{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[البقرة: 195]
وهذا الأمر بالإحسان تارةً يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدينِ والأرحام بمقدار ما يَحصُل به البِرُّ والصِّلة، والإحسان إلى الضّيف بقدر ما يَحصُل به قِراه... وتارةً يكون للنّدب؛ كصدقة التّطوُّع ونحوها. وهذا الحديث يدلُّ على وجوب الإحسان في كلِّ شيء من الأعمال؛ لكنّ إحسان كلِّ شيء بحسَبِه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظّاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب، وأمّا الإحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب. والإحسان في ترك الحُرُمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها
كما قال تعالى:
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}
[الأنعام: 120]
فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب.
وأمّا الإحسان في الصّبر على المقدورات، فأن يأتيَ بالصّبر عليها على وجهه من غير تسخُّط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخَلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب اللّه من حقوق ذلك كلِّه، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلِّها، والقدر الزّائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب"[4]
قوله ﷺ:
«فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»
وهاتانِ الحالتانِ من أعجب صُور الإحسان، حتى إنه ربَّما لا يَتصوَّر العقل التوجيهَ لإحسان القتل والذبح؛ فكيف يتصوَّر الإحسان في إزهاق الروح، وإنهاء الحياة، وفَوَات النفس؛ فماذا عسى أن يوجد الإحسانُ في ذلك؟!
ولكن الإسلام أظهر الإحسانَ في القتل، الذي هو إزهاق الروح قصدًا، بالنسبة للآدميين، قصاصًا، أو حدًّا، فلا يجوز التنكيل بالقتيل والْمُثْلَة بجُثَّته
وقد قال تعالى في القصاص:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا}
[الإسراء: 33]
فلا يُسرف في القتل بأن يقتصَّ من غير القاتل، ولا ينكِّل بالقاتل، ولا يعذِّبه، ولا يُمثِّل به، ولا يتشفَّى منه.
"والإحسان في قتل ما يجوز قتله من النّاس والدّوابِّ: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التّعذيب، فإنّه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال، فقال: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة» والقِتْلة والذِّبْحة بالكسر؛ أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القتل، وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النّفوس الّتي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذّبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدميِّ ضَرْبُه بالسَّيف على العُنق
قال اللّه تعالى في حقِّ الكفّار:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
[محمد: 4]
وقد قيل: إنّه عيَّن الموضع الّذي يكون الضّرب فيه أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام ودون الدِّماغ، ووصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة قاتله أن يقتله كذلك"[5].
قوله ﷺ:
«وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ»
وإذا ذبحتم الحيوانَ المأكول فأحسِنوا هَيْئةَ القَتل، أَحسِنوا صورته وصِفته، فلا تعذِّبوه بجرِّه لمكان الذبح، ولا تجعلوا البهائم ترى ما يُذبَح، ولا تجعلوها تتألَّم أثناء الذبح، ولا تبدؤوا بتقطيع الذبيحة وسلخها قبل أن تموت وتَخرُج رُوحها، ولتفعلوا ما يُساعد على خروج الروح بسرعة، وذلك بقطع الوَدَجَيْنِ والحُلْقُوم والْمَرِّيء، فقطعُ هذه الأربعةِ الأشياءِ جميعًا أسهلُ بخروج الروح، وأيسر على هذه البهيمة، وإن كان يُجزئ قطعُ اثنين منهما، فإن ذلك قد يُؤلمها ويُتعبها ويَجعَلها تعاني في زهوق الروح.
"ومعنى إحسان القتل: أن يَجتهِد في ذلك، ولا يَقصِد التعذيب. وإحسانُ الذبح في البهائم: أن يَرفُق بالبهيمة ولا يَصرَعها بغتةً، ولا يَجُرَّها من موضع إلى موضع، وأن يوجِّهها إلى القِبلة، ويسمِّي ويَحمَد ويَقطَع الحلقوم والوَدَجَين، ويَترُكها إلى أن تَبرُد، والاعتراف لله تعالى بالْمِنَّة والشُّكر على نِعَمه؛ فإنه سبحانه سخَّر لنا ما لو شاء لسلَّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا"[6].
قوله ﷺ:
«وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ»
أي: ليسُنَّ الذابح سِكِّينَه. «فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ»: بإحداد السِّكِّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك مما ذكرناه مما يساعد في سرعة الذبح وزهوق الروح، فتستريح من ألم الذبح.
"وأَبَان بعض كيفيّة إحسانها بقوله: "«ولْيُحِدَّ» هو بضمِّ الياء. يُقال: أَحَدَّ السّكِّين وحدَّدها واستحَدَّها بمعنًى. «وليُرِح ذبيحته» بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبُّ أن لا يُحِدَّ السّكّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدةً بحضرة أخرى، ولا يجرَّها إلى مذبحها.
وقوله ﷺ:
«فأحسنوا القِتلة»
عامٌّ في كلِّ قتيل من الذّبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدٍّ، ونحو ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام"[7].
المراجع
- رواه البخاريُّ (2363)، ومسلم (2244).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380، 382).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 72).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
قال ابن رجب رحمه الله: "
فقوله ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
وفي رواية لأبي إسحاقَ الْفَزَارِيِّ فِي كتاب "السِّيَرِ" عن خالد، عن أبي قِلَابَةَ
عن النَّبِيِّ ﷺ:
«إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ»
أو قال: "عَلَى كُلِّ خَلْقٍ" هكذا خَرَّجَهَا مُرْسَلَةً، وبالشَّكِّ في "كُلِّ شَيْءٍ" أو "كُلِّ خَلْقٍ"، وظاهرُه يقتضي أنّه كَتَب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كلُّ شيء أو كلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوبُ هو الإحسان... ولفظ "الكتابة" يقتضي الوجوب عند أكثر الفقهاء والأصوليّين خلافًا لبعضهم، وإنّما استعمال لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجبٌ حتمٌ؛ إمّا شرعًا
كقوله تعالى:
{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}
[النساء: 103]
وقوله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}
[البقرة: 183]
أو فيما هو واقع قَدَرًا لا مَحَالَةَ
كقوله:
{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}
[المجادلة: 21]
وحينئذ فهذا الحديث نَصٌّ في وجوب الإحسان، وقد أَمَرَ اللَّه تعالى به
فقال:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
[النحل: 90]
وَقَالَ:
{وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
[البقرة: 195]
وهذا الأمر بالإحسان تارةً يكون للوجوب؛ كالإحسان إلى الوالدينِ والأرحام بمقدار ما يَحصُل به البِرُّ والصِّلة، والإحسان إلى الضّيف بقدر ما يَحصُل به قِراه... وتارةً يكون للنّدب؛ كصدقة التّطوُّع ونحوها. وهذا الحديث يدلُّ على وجوب الإحسان في كلِّ شيء من الأعمال؛ لكنّ إحسان كلِّ شيء بحسَبِه، فالإحسان في الإتيان بالواجبات الظّاهرة والباطنة: الإتيان بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب، وأمّا الإحسان فيها بإكمال مستحبَّاتها فليس بواجب. والإحسان في ترك الحُرُمات: الانتهاء عنها، وترك ظاهرها وباطنها
كما قال تعالى:
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}
[الأنعام: 120]
فهذا القَدْر من الإحسان فيها واجب.
وأمّا الإحسان في الصّبر على المقدورات، فأن يأتيَ بالصّبر عليها على وجهه من غير تسخُّط ولا جزع، والإحسان الواجب في معاملة الخَلق ومعاشرتهم: القيام بما أوجب اللّه من حقوق ذلك كلِّه، والإحسان الواجب في ولاية الخلق وسياستهم: القيام بواجبات الولاية كلِّها، والقدر الزّائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "أَمَّا الْقِتْلَةُ، فبكسر القاف، وهي الهيئة والحالة
وأمّا قوله ﷺ:
«فأحسنوا الذَّبح»
فوقع في كثير من النُّسخ أو أكثرها: «فأحسنوا الذَّبح» بفتح الذال بغيرها، وفي بعضها «الذِّبحة» بكسر الذّال وبالهاء؛ كالقِتلة، وهي الهيئة والحالة أيضًا.
قوله ﷺ:
«ولْيُحِدَّ»
هو بضمِّ الياء. يُقال: أَحَدَّ السّكّين وحدَّدها واستحدَّها بمعنًى. «وليُرِح ذبيحته» بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وغير ذلك، ويُستحبّ أن لا يُحِدَّ السّكّين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدةً بحضرة أخرى، ولا يجرَّها إلى مذبحها.
وقوله ﷺ:
«فأحسنوا القِتلة»
عامٌّ في كلِّ قتيل من الذّبائح، والقتل قصاصًا، وفي حدٍّ، ونحو ذلك، وهذا الحديث من الأحاديث الجامعة لقواعد الإسلام، واللّه أعلم"[2].
قال القاضي عياض رحمه الله: "وقوله: «إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة»: عامٌّ في كلِّ شيء من التذكية والقِصاص وإقامة الحدود وغيرها، من أنه لا يعذِّب خَلْقَ الله، وليُجهِز في ذلك. والقِتلة، بالكسر: الهيئة والصفة، وبالفتح: الفَعلة من ذلك.
وقوله:
«وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليُحِدَّ أحدكم شفرته، وليُرِحْ ذبيحته»
تفسير الإحسان: الذَّبح الذي إذا حدَّ الشَّفرة أراح الذبيحة، فأحسن الذبح، بخلاف ضدِّ ذلك، ومن إحسان القِتلة ألَّا يُحِدَّ الذبيحة إلى مذبحها، قاله عمرُ بنُ الخطَّاب، ومنها: ألَّا تَذبَح وآخَرُ يَنظُر، قاله ربيعة، وحُكي عن مالك جوازه"[3].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "القِتلة بكسر القاف: وهي الهيئة والحالة، والذِّبحة بكسر الذال، ويُضَمُّ، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث: «فأحسنوا الذبح» بغير هاء، وهو بالفتح: مصدرٌ، وبالهاء والكسر: الهَيئة والحالة، وقولُه: «وليُحِدَّ أحدُكم شفرته» هو بضمِّ الياء من أَحَدَّ، يُقال: أَحَدَّ السِّكِّين وحَدَّها واستحدَّها. قوله: «فأحسنوا الِقتلة» عامٌّ في القتل من الذبائح، والقتلِ قصاصًا، أو في حدٍّ، ونحوِ ذلك. وهذا الحديثُ من الأحاديث الجامعة لقواعدَ كثيرةٍ، ومعنى إحسان القتل: أن يَجتهِد في ذلك، ولا يَقصِد التعذيب. وإحسانُ الذبح في البهائم: أن يَرفُق بالبهيمة ولا يَصرَعها بغتةً، ولا يَجُرَّها من موضع إلى موضع، وأن يوجِّهها إلى القِبلة، ويسمِّي ويَحمَد ويَقطَع الحلقوم والوَدَجَين، ويَترُكها إلى أن تَبرُد، والاعتراف لله تعالى بالْمِنَّة والشُّكر على نِعَمه؛ فإنه سبحانه سخَّر لنا ما لو شاء لسلَّطه علينا، وأباح لنا ما لو شاء لحرَّمه علينا"[4].
قال الصنعانيُّ رحمه الله: "قوله: «كتب الإحسان»؛ أي: أوجبه
كما قال تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ}
[النحل: 90]
وهو فِعْلُ الحَسَن ضدَّ القبيح، فيَتَناول الحَسَن شرعًا، والحَسَن عُرفًا، وذكر منه ما هو أبعد شيء عن اعتبار الإحسان، وهو الإحسان في القتل لأيِّ حيوان من آدميٍّ وغيره، في حدٍّ وغيره. ودلَّ على نفي الْمُثْلة مكافأةً
إلّا أنّه يُحتمل أنّه مخصَّص بقوله:
{فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194]
وأبان بعض كيفيّة إحسانها بقوله: (وليُحِدَّ) بضمّ حرف المضارعة، من أَحَدَّ السّكّين: أَحسَن حدَّها، والشّفرة بفتح المعجَمة: السّكّين العظيمة، وما عَظُم من الحديد، وحدَّد، وقوله: (وليُرِح) بضمٍّ حرف المضارعة أيضًا: من الإراحة، ويكون بإحداد السّكّين، وتعجيل إمرارها، وحُسن الصّنيعة"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "والإحسان في قتل ما يجوز قتله من النّاس والدّوابِّ: إزهاق نفسه على أسرع الوجوه وأسهلها من غير زيادة في التّعذيب، فإنّه إيلام لا حاجة إليه. وهذا النّوع هو الّذي ذكره النّبيُّ ﷺ في هذا الحديث، ولعلَّه ذكره على سبيل المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال
فقال:
«إذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة»
والقِتْلة والذِّبْحة بالكسر؛ أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذَّبح، وهيئة القتل، وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النّفوس الّتي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه، وقد حكى ابن حزم الإجماع على وجوب الإحسان في الذّبيحة، وأسهل وجوه قتل الآدميِّ ضَرْبُه بالسَّيف على العُنق
قال اللّه تعالى في حقِّ الكفّار:
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}
[محمد: 4]
وقد قيل: إنّه عيَّن الموضع الّذي يكون الضّرب فيه أسهلَ على المقتول، وهو فوق العظام ودون الدِّماغ، ووصَّى دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة قاتله أن يقتله كذلك"[6].
قال السعديُّ رحمه الله: "واعلم أن الإحسانَ المأمورَ به نوعان؛ أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيامُ بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجَّه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحبٌّ، وهو ما زاد على ذلك من بَذْلِ نفع بَدَنيٍّ، أو ماليٍّ، أو علميٍّ، أو توجيه لخير دينيٍّ، أو مصلحة دنيوية؛ فكلُّ معروف صدقة، وكلُّ ما أَدخَل السرورَ على الخَلق صَدَقةٌ وإحسان، وكلُّ ما أزال عنهم ما يَكرَهون، ودَفَع عنهم ما لا يرتضون من قليلٍ أو كثير، فهو صَدَقة وإحسان، ولَمَّا ذكَرَ النبيُّ ﷺ قصَّة البَغِيِّ التي سَقَت الكلبَ الشديدَ العطشِ بخُفَّيْها من البئر، وأن الله شَكَر لها وغَفَر لها.
قالوا لرسول الله ﷺ:
إن لنا في البهائم أجرًا، قال: «في كل ِّكَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ»[7].
فالإحسانُ: هو بذلُ جميع المنافع من أيِّ نَوْعٍ كان، لأيِّ مخلوق يَكُون؛ ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقِّهم ومَقامِهم، وبحسَبِ الإحسان، وعِظَم موقعه، وعظيم نفعه، وبحَسَبِ إيمان المحسِن وإخلاصه، والسببِ الداعي له إلى ذلك.
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسانُ إلى من أساء إليك بقول أو فعل
قال تعالى:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ 34 وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
[فصلت: 34، 35]
ومن كانت طريقتُه الإحسانَ أَحسَن الله جزاءه
{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}
[الرحمن: ٦٠]"[8]
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 380، 382).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (13/ 107).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (6/ 395).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 72).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (2/ 527).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 382).
- رواه البخاريُّ (2363)، ومسلم (2244).
- "بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار" للسعديِّ (ص: 142).
صُبْرة طعام: قال الأزهريُّ: الصُّبْرة الكُومة المجموعة من الطعام، سُمِّيت صُبرة لإفراغ بعضها على بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب: صَبِير [1].
أصابته السماء: أي: المطر.
المراجع
يروي أبو هريرة – رضي الله عنه – (أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ)؛ أي: على كُومة من الطعام. (فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا)؛ أي: أدخل ﷺ يده الشريفة داخل الكومة، فوجد بللاً في الطعام غير الظاهر داخل الكومة.
فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ: (أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ): فسأل ﷺ البائعَ عمَّا وجده من بَلَل، فأجاب بأن المطر نزل عليه فبلَّله.
قَالَ ﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: فأرشده ﷺ أنه يجب عليه أن يُظهر العَيب فيما يَبيع، ولا يُخفيَه؛ فهذا غشٌّ وإثمٌ عظيم يستوجب أن يَحِلَّ غضب الله عليه، ويُخرجه عن سبيل المؤمنين.
الشرح المفصَّل للحديث:لقد حَرَص النبيُّ ﷺ على بناء المجتمع المسلم السَّويِّ، الذي تتكوَّن لَبِناته من نفوس نَقيَّة سَويَّة، تُعامل ربَّها وتُراقبه وتتَّقِيه بالحرص على الكسب الحلال، ويتعامل أفراد المجتمع بالنقاء والنصيحة، وعدم الغشِّ والخداع.
ربَّاهم النبيُّ ﷺ على المعاملة النقيَّة بالحُسنى، والرضا بالكسب الحلال الطيِّب مهما قلَّ، وتجنُّب ما يصيب المجتمع المسلم، ومن ثَمَّ الأمَّة، من عَنَت ومشقَّة؛ بسبب الجشع والغشِّ والخداع، وصدق الله القائل:
﴿لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾
[التوبة: ١٢٨].
ومن حرصه ﷺ على أمَّته أنه يباشر أمورهم، ويحتسب عليهم، ويتعاهدهم بالموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يَصدُر من بعض ضعيفي الإيمان، وذَوي النفوس الضعيفة.
وفي هذا الحديث صورة جَلِيَّة مُنْبِئة عن ذلك، فيروي أبو هريرة رضي الله عنه: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ)؛ أي: مرَّ على بائعٍ أمامَه كُومةٌ من الطعام يبيعها، وقد رتَّبها بحيث يكون ظاهرها حسنًا.
(فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا)؛ ليستوثق هل ظاهرُها كباطنها؟ أم أن هذا البائع يُخفي ما به عيبٌ فيَغُشُّ المشترين؟
(فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا): فوجد ﷺ أن البائع يُخفي الطعاَم الْمَعيبَ بالبَلَل، فسأله، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟»؛ أَيِ: يا بائعَ الطعام، ما هذا الْبَلَلُ الذي يوحي أن هناك غشًّا؟
(قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ)؛ أي: إن ذلك البلل بسبب المطر الذي نزل عليه.
(يَا رَسُولَ اللهِ): يُقِرُّ بإيمانه برسالة النبيِّ ﷺ.
فردَّ عليه النبيُّ ﷺ قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟!»؛ أي: أفلا جعلتَ ذلك الطعامَ الْمَعِيب الْمُبتلَّ الذي تُخفيه عن أعين الناس داخلَ كُومة الطعام، فَوْقَ الكُومة؛ ليَظهَر للناس، ويَرَوُا العَيْبَ، فلا يَنخدِع أحدٌ فيُغبَن في شرائه.
قال ﷺ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: قاعدة عامَّة أن من غشَّ فليس على سنَّة النبيِّ ﷺ ولا يتَّبِع طريقه؛ بل هو آثم مرتكب لإثم كبير، وهو غشُّ المسلمين وخداعهم، وأكل أموالهم بالباطل؛ فـ"لم يُرِدْ به نفيَه عن الإسلام؛ بل نفيَ خُلُقِه عن أخلاق المسلمين؛ أي: ليس هو على سنَّتِنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك. يُريد الموافقة والمتابعة.
قال تعالى عن إبراهيم:
﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُۥ مِنِّى ۖ ﴾
[إبراهيم: ٣٦]" [1].
و"المراد بالغشِّ هنا: كَتْمُ عَيب الْمَبيع أو الثَّمن، والمراد بعَيبه هنا: كلُّ وَصْفٍ يُعلَم مِن حال آخِذه أنه لو اطَّلَع عليه لم يَأْخُذْه بذلك الثَّمَن، الذي يُريد بَذْلَه فيه [2].
فليَعْلَمْ من يَعرِض بضاعته عرضًا جذَّابًا مُغْريًا، يُظهِر منها الحَسَن، ويُخفي منها القبيح؛ كي يَخدَع الناس ويَغُشَّهم، أو يَخلِط الطيِّب من السلع بالرديء، أو نحو ذلك، أن ذلك غشٌّ وخداعٌ وتغرير للمشتري يُخرج التاجر عن سبيل المؤمنين، ويرتكب كبيرة، يَحِلُّ عليه بسببها غضب الله.
لا شكَّ أن الغشَّ ظُلم للمشتري، وأكلٌ لماله بالباطل، يُحزِنه ويُوغِر صدره، وقد حرَّم الإسلام كل صور الظُّلم والغشِّ وخيانة الأمانة، ولا جَرَمَ أن هذا يُغضِب اللهَ ورسوله، وهو كبيرة من الكبائر؛ فـ"كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صاحِبُه بأنه لا يَدخُل الْجَنَّةَ، ولا يَشُمُّ رائحةَ الجنة، وقيل فيه: مَن فَعَلَه فليس منَّا، وأن صاحِبَه آثِمٌ. فهذه كُلُّها من الكبائر" [3].
وليعلمْ كلُّ غاشٍّ آكلٍ للحرام أنه لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، منها: «وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟»ـ [4]؛ أي: من أيِّ طريق كان يكتسب رزقه وأمواله؟ من طريق مُباح حلال، أم من طريق الحرام والشُّبهات؟
وقد قال رسولُ الله ﷺ: «أيُّها الناسُ، إن اللهَ طيِّبٌ لا يَقبَل إلا طَيِّبًا، وإن اللهَ أمَر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُوا مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعْمَلُوا صَٰلِحًا ۖ إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾
[المؤمنون: 51]،
وقال:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقْنَٰكُمْ ﴾
[البقرة: 172]،
ثم ذكَر الرجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجاب لذلك؟!» [5].
فاعلم أن الله تعالى لا يقبل العملَ، ولا يزكو العملُ إلا بأكل الحلال، وإن أكل الحرام يُفسِد العمل، ويَمنَع قَبوله [6].
و"مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه" [7]، وقد سُئل أحمدُ بنُ حنبلٍ : بمَ تَلين القلوب؟ ثم أطرَقَ ساعة، ثم رفع رأسه، فقال: بأكل الحلال [8].
وقوله ﷺ: «مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي»: عامٌّ في كل غشٍّ، لا الغشُّ في البيوع وغيرها من المعاملات فقط؛ بل يشمل الغشَّ في النُّصح للمؤمنين.
ومنه الغشُّ للرَّعيَّة؛
فقد قال النبيُّ ﷺ:
«مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ، إِلَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ»
[9].
ومن أعظم الغشِّ: الغشُّ في الدين وكتمان الحقِّ؛ كما أخبر الله تعالى عن أحبار بني إسرائيل، الذين كتموا الحقَّ، وأظهروا للناس الباطل، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ويبتغون بذلك عرَضًا من الدنيا، فضلُّوا وأضلُّوا عن سواء السبيل.
وفِي الحديث "إِيذَانٌ بأن للْمُحتَسب أن يمتحن بضائعَ السُّوقة؛ لِيَعْرِفَ الْمُشتمِلَ منها على الغِشِّ من غيره" [10].
هذا وإن زيادة الغشِّ والخداع في المجتمع المسلم حقيقٌ بعقاب الله تعالى، وأن يَحِلَّ غضبُه على المسلمين. "ولهذه القبائح – أي: الغشِّ - التي ارتكبها التجَّار والمتسبِّبون وأرباب الحرف والبضائع، سلَّط الله عليهم الظَّلمة، فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم؛ بل وسلَّط عليهم الكفَّار فأَسَروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألوانًا. وكثرةُ تسلُّطِ الكفَّار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حَدَث في هذه الأزمنة المتأخِّرة لَمَّا أن أَحدَث التجَّار وغيرهم قبائح ذلك الغشِّ الكثيرة والمتنوِّعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأيِّ طريق قَدَروا عليها، لا يراقبون الله المطَّلِع عليهم" [11].
المراجع
1. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 185).
2. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (8/ 422، 423).
3. "مجموع الفتاوى" (11/ 652).
4. رواه الترمذيُّ (2417)، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (126).
5. رواه مسلم (1015).
6. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
7. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
8. "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزيِّ (ص 269).
9. رواه البخاريُّ (7150)، ومسلم (227).
10. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 1935).
11. "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيتميِّ (1/400).
قال الملا علي القاري رحمه الله: "(مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ) بضمِّ الصّاد المهمَلة، وسكون الموحَّدة: ما جُمِع من الطّعام بلا كَيل ووَزْن على ما في القاموس، والمراد بالطّعام جنسُ الحُبوب المأكول، (فأَدخَل يده فيها)؛ أي: في الصُّبْرة، (فنالت أصابعه)؛ أي: أدركت (بَلَلًا) بفتح الموحَّدة واللّام، فقال: «ما هذا؟»؛ أي: البلل المنبئ غالبًا على الغشِّ من غيره، «يا صاحبَ الطّعام»؛ أي: بائعَه، قال: (أصابته السّماء)؛ أي: المطر؛ لأنّها مكانه وهو نازل منها. قال الشّاعر:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ = رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
(يَا رَسُولَ اللَّهِ): اعترافٌ بالإيمان، وإقرار بالإذعان، قال: «أفلا جعلته» قال: أسترتَ عَيْنه؟ أفلا جعلتَ البَلَل «فوق الطّعام حتّى يراه النّاس»: فيه إيذان بأنّ للمحتسِب أن يمتحِن بضائع السُّوقة؛ ليعرف المشتمِل منها على الغشِّ من غيره. «من غشَّ»؛ أي: خان، وهو ضدُّ النُّصح، «فليس منّي»؛ أي: ليس هو على سُنَّتي وطريقتي" [1].
قال الخطَّابي رحمه الله: "معناه: ليس على سيرتنا ومذهبنا، يريد أنَّ من غشَّ أخاه وترك مناصحته، فإنَّه قد ترك اتِّباعي، والتمسُّك بسنَّتي" [2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك كُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صاحِبُه بأنه لا يَدخُل الْجَنَّةَ، ولا يَشُمُّ رائحةَ الجنة، وقيل فيه: مَن فَعَلَه فليس منَّا، وأن صاحِبَه آثِمٌ. فهذه كُلُّها من الكبائر" [3].
قال المناويُّ رحمه الله: "«من غشَّ»؛ أي: خان، والغشُّ سَتْرُ حال الشيء، «فليس منا»؛ أي: من متابِعينا. قال الطِّيبيُّ: لم يُرِدْ به نفيَه عن الإسلام؛ بل نفيَ خُلُقه عن أخلاق المسلمين؛ أي: ليس هو على سنَّتِنا أو طريقتنا في مناصحة الإخوان، كما يقول الإنسان لصاحبه: أنا منك. يُريد الموافقة والمتابعة.
قال تعالى عن إبراهيم:
﴿فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُۥ مِنِّى ۖ ﴾
[إبراهيم: ٣٦]
وهذا قاله لَمَّا مرَّ على صُبْرة طعام، فأدخل يده فيها، فابتلَّت أصابِعُه فقال: ما هذا؟ قال: أصابته السماء، قال: أفلا صَبَبْتَه فوق الطعام ليراه الناس؟" [4].
قال ابن علان رحمه الله: "«أن رسول الله ﷺ مرَّ على صُبرة طعام» بضمِّ الصاد المهمَلة وسكون الموحَّدة، جمع صُبَر، كغُرْفَة وغُرَف، وعن أبي زيد: اشتريتُ الشيءَ صُبرةً؛ أي: بلا كَيل ولا وزن. قال في "المصباح" نقلًا عن "التهذيب" للأزهريِّ: إذا أَطلَق أهلُ الحجاز لفظ الطَّعام، عَنَوْا به البُرَّ خاصَّةً. وفي العُرف اسمٌ لِمَا يؤكَل؛ كالشراب لِما يُشرَب، «فأدخل يده فيها فنالت»؛ أي: أصابت «أصابعُه بللًا» مستورًا بالطعام اليابس، «فقال: ما هذا؟»؛ أي: البَلَلُ الْمُنْبِئ غالبًا عن الغشِّ، «يا صاحبَ الطَّعام» يَحتمِل أن تَرَكَ نداءه باسمه؛ لعَدَم العلم به، أو أنه للتسجيل عليه، بإضافته إلى ما غشَّ به؛ زيادةً في زجره وتنكيله. «قال: أصابته السماء»؛ أي: المطر؛ لأنه ينزل منها، فهو من مجاز التعبير بالمحلِّ عن الحالِّ فيه، وقوله: «يا رسول الله» أتى به تيمُّنًا وتلذُّذًا به. «قال»: أَستَرْتَ ما ابتلَّ غِشًّا، «أفلا جعلتَه فوق الطعام حتى يراه الناس؟» فتَسلَم من الغشِّ الذي هو أَقبَح الأوصاف، القاطعة لرحم الإِسلام، الموجِبة لكَون الْمسلِم للمسلم كالبُنيان يَشُدُّ بعضُه بعضًا، ومن قَطَع رَحِم الإِسلام خُشِيَ عليه الخروج من عِدادهم، كما ينشأ عن ذلك ما هو مقرَّر في شرعنا. «من غشَّنا فليس منا» المراد بالغشِّ هنا: كَتْمُ عَيب الْمَبيع أو الثَّمن، والمراد بعَيبه هنا: كلُّ وَصْفٍ يُعلَم مِن حال آخِذه أنه لو اطَّلَع عليه لم يَأْخُذْه بذلك الثَّمَن، الذي يُريد بَذْلَه فيه" [5].
قال ابن حجر الهيتميُّ رحمه الله: "ولهذه القبائح – أي: الغشِّ - التي ارتكبها التجَّار والمتسبِّبون وأرباب الحرف والبضائع، سلَّط الله عليهم الظَّلمة، فأخذوا أموالهم، وهتكوا حريمهم؛ بل وسلَّط عليهم الكفَّار فأَسَروهم واستعبدوهم، وأذاقوهم العذاب والهوان ألوانًا. وكثرةُ تسلُّطِ الكفَّار على المسلمين بالأسر والنهب، وأخذ الأموال والحريم، إنما حَدَث في هذه الأزمنة المتأخِّرة لِما أن أَحدَث التجَّار وغيرهم قبائح ذلك الغشِّ الكثيرة والمتنوِّعة، وعظائم تلك الجنايات والمخادعات والتحايلات الباطلة على أخذ أموال الناس بأيِّ طريق قَدَروا عليها، لا يراقبون الله المطَّلِع عليهم" [6].
المراجع
1. "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (5/ 1935).
2. "معالم السنن" للخطابيِّ (3/ 118).
3. "مجموع الفتاوى" (11/ 652).
4. "فيض القدير" للمناويِّ (6/ 185).
5. "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان (8/ 422، 423).
6. "الزواجر عن اقتراف الكبائر" لابن حجر الهيتميِّ (1/400).
نازَعني: الْمُنازَعةُ هي المشاركةُ والمخاصمةُ حين اتَّصَف بهذه الصفة وتخلَّق بها[1].
قذفتُه: رميتُه في النار[2].
المراجع
- انظر: "تاج العروس" للزَّبيديِّ (22/246)، "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/206).
- انظر: "مقاييس اللغة" لابن فارس (5/68).
يروي أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري»؛ أي: هاتان الصفتان (الكبرياء والعظمة) مختصَّتان بالله عزَّ وجلَّ. «فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ»؛ أي: من نازَع الله تعالى في إحدى هاتين الصفتين بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قَذَفه الله تعالى في النار.
الشرح المفصَّل للحديث:اختصَّ اللهُ سبحانه نفْسه ببعض الصفات التي لا يحِقُّ لمخلوق أن يُشاركَه فيها، ومَن نازَعَه فيها كان جزاؤه العذابَ الأليمَ في نار السعير، ومن هذه الصفات: الكَبْرِياءُ والعظمة، فجعل الكبرياءَ رداءه، والعظمةَ إزاره؛ أي: مما يخصُّه سبحانه وحدَه، فكما لا يَشْرَكُ الإنسانَ في ردائه وإزاره أحدٌ، فكذلك لا يَشرَكه سبحانه في الكبرياء والعظمة مخلوقٌ[1].
قوله تعالى: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري»؛ أي: هاتان الصفتان مختصَّتان بالله - عزَّ وجلَّ - وأصلُ الإزار: الثوبُ الذي يُشَدُّ على الوسَط، والرِّداء: ما يُجعل على الكَتِفين. وليس المرادُ بالرداء والإزار الثيابَ المحسوسة؛ لكن المناسبة أن هذين الثوبين يخصُّان اللابس؛ بحيث لا يمكِنه استغناؤه عنهما، ولا يَقبلان المشاركة. لذا؛ عبَّر الله تعالى عنهما على طريقة الاستعارة المستعمَلة عند العرب؛ كما قال سبحانه: ﴿ولباس التقوى ذلك خير﴾ فاستعار للتقوى لباسًا[2]. ومنه قول النبيِّ ﷺ:
«الأنصار شِعار، والناس دِثار»[3]
والشِّعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدِّثار: الثوبُ الذي يلي الشِّعارَ، ومعناه: قُربهم منه، والتصاقُهم به كالتصاق الشِّعار بالإنسان[4].
وقوله: «فمَن نازعني واحدًا منهما»؛ أي: نازَعني في تلك الصفة بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قذفتُه في النار؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يَتعاطاهما؛ لأن صفةَ المخلوق التواضعُ والتذلُّلُ[5]؛ ولهذا حرَّم الشرع اتِّصافَ الإنسان بهاتين الصفتين، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن لاحظَ كمال نفْسه ناسيًا مِنَّة الله تعالى فيما خصَّه به، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:
﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
[ص:76]
وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾
[النازعات:24]
فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[6].
فمَن تَعاطى شيئًا منهما، أذلَّه اللهُ تعالى، وصغَّره وحقَّره وأهلَكَه، كما قد أظهر الله تعالى من سُنَّته في المتكبِّرين السابقين واللاحقين.
وقد اختُصَّت العظمةُ بالإزار، والكبرياءُ بالرداء؛ لأن في الكبير من الفخامة فوق العظيم، وإن كان كلٌّ منهما مختصًّا له تعالى لا شريكَ له فيه بوجه ما[7].
والفرقُ بين الكبرياء والعظمة أن جهة الكِبرياء: يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبرَ، قال:
«الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[8]
وهو احتقارُهُم، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه، وهو الحقُّ أو الخَلقُ، والعَظَمةُ: لا تَقتضي ذلك.
فالمتكبِّرُ يلاحِظ ترفُّعَ نفْسِهِ على غيره بسببِ مَزيَّةِ كمالها فيما يراه، والمعظِّمُ يلاحِظ كمالَ نفْسه مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ في حقِّنا[9].
"الكبرياءُ: الكِبرُ، وهو الترفُّعُ على الغير بأن يرى لنفْسه عليه شرفًا، والعَظَمةُ: كونُ الشيء في نفْسه كاملًا شريفًا مُستغنيًا، فالأول أرفعُ من الثاني؛ إذ هو غاية العظمة؛ فلذا مثَّله في الرداء"[10].
وليس من الكبر لُبْسُ الثياب الحسنة والتجمُّل في المظهر؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:
«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ» قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ، الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[11]
فالكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس.
المراجع
- انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (6/607).
- أخرجه البخاريُّ (4330)، ومسلم (1061).
- انظر: "المعلم بفوائد مسلم" للمازِريِّ (2/ 34).
- انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/287).
- "مرقاة المفاتيح" للملا علي القاري (4/1573).
- رواه مسلم (91).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/286).
- "فيض القدير" للمناويِّ (4/484).
- رواه مسلم (91).
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}
[النحل: 102]
وقال:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
[الشعراء: 193-195]
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر: 9]
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم"[1].
قال المناويُّ رحمه الله: "الكبرياءُ: الكِبرُ، وهو الترفُّعُ على الغير بأن يرى لنفْسه عليه شرفًا، والعَظَمةُ: كونُ الشيء في نفْسه كاملًا شريفًا مُستغنيًا، فالأول أرفعُ من الثاني؛ إذ هو غاية العظمة؛ فلذا مثَّله في الرداء"[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "فجعل الكِبْرَ مقابلًا للإيمان؛ فإنّ الكبر ينافي حقيقة العبوديّة؛ كما ثبت في الصّحيح عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «يقول اللّه: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذّبتُه» فالعظمة والكبرياء من خصائص الرّبوبيّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرّداء كما جعل العظمة بمنزلة الإزار؛ ولهذا كان شعار الصّلوات والأذان والأعياد هو التّكبير، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصّفا والمروة، وإذا علا الإنسان شَرَفًا أو ركب دابَّةً ونحو ذلك، وبه يُطفَأ الحريق وإن عَظُم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان؛ قال تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
[غافر: ٦٠]
وكلُّ من استكبر عن عبادة اللّه لا بدّ أن يَعبُد غيره؛ فإنّ الإنسان حسَّاس يتحرّك بالإرادة"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والكِبْرُ حرامٌ من الغنيِّ ومن الفقير؛ لكنه من الفقير أشدُّ؛ ولهذا تجد الناس إذا رأوا غنيًّا متواضعًا، استغربوا ذلك منه، واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغنيَّ في غاية ما يكون من الخُلُق النَّبيل؛ لكن لو يجدون فقيرًا متواضعًا، لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛ لأنه لأيِّ شيء يَستكبر؟! فإذا جاء إنسان عائل فقيرٌ يستكبر على الخلق، أو يستكبر عن الحقِّ، فليس هناك ما يوجِب الكبرياء في حقِّه، فيكون داخلاً في الحديث، ثم ذكر المؤلِّف - رحمه الله - فيما ساقه من الأدلَّة على تحريم الكبر والإعجاب، وأنه من كبائر الذنوب؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذَّبته»
هذا من الأحاديث القُدسية التي يرويها النبيُّ ﷺ عن الله، وهي ليست في مرتبة القرآن، فالقرآن له أحكام تخصُّه، منها أنه معجِزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشْر سور منه، أو بسورة مثلِه، وأنه لا يجوز للجُنُب أن يقرأ القرآن، وأن الصلاة تصحُّ إذا قرأ المصلِّي من القرآن؛ بل تجب القراءة بالفاتحة، أما الأحاديث القدسية فليست كذلك، ثم القرآن محفوظ لا يُزاد فيه ولا يُنقَص، ولا يُنقل بالمعنى، وليس فيه شيءٌ ضعيف، أما الأحاديث القُدسية، فإنها تُروى بالمعنى، وفيها أحاديثُ ضعيفةٌ، وفيها أحاديثُ مكذوبةٌ على الرسول ﷺ ليست بصحيحةٍ، وهو كثير، فالمهمُّ أنه ليس في منزلة القرآن إلا أنه يُقال: إن النبيَّ ﷺ يَرويه عن ربِّه. فالله تعالى يقول: «العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي»، وهذا من الأحاديث التي تمرُّ كما جاءت عن النبيِّ ﷺ، ولا يُتعرَّض لمعناها بتحريف أو تكييف؛ وإنما يُقال: هكذا قال الله تعالى فيما رواه النبيُّ ﷺ عنه، فمن نازع اَلله في عِزَّته وأراد أن يتَّخِذ سلطانًا كسلطان الله، أو نازعَ اللهَ في كبريائه، وتكبَّر على عباد الله، فإن الله يعذِّبه على ما صنع ونازَع الله تعالى فيما يختصُّ به"[4].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الكبرياء: العَظَمة والْمُلك. وقيل: هي عبارةٌ عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصَف بها إلا اللهُ تعالى، وهو من الكِبر، وهو العَظَمة. ويقال: كَبُر يَكبُر؛ أي: عَظُم فهو كبير. انتهى كلامه. قيل: إن الكبرياء والكِبْر والعظمة ألفاظٌ مترادِفة متَّحِدة المعنى، ولم يتعرَّض معظمهم للفرق، ولابدَّ من الفرق؛ إذ الأصلُ عدم الترادف. قال الإمام فخر الدين الرازيُّ: جعل الله الكبرياء قائمًا مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار، ومعلومٌ أن الرداء أرفعُ درجة من الإزار، فوَجَب أن يكون صفة الكبرياء أرفعَ، وسواءٌ عَرَف هذه الصفةَ أحدٌ أم لا. وأما العظمة، فهي عبارة عن كونه بحيث يَستعظِمه غيره. وإذا كان كذلك، كانت الصفة الأولى ذاتيةً، والثانية إضافية، والذاتيُّ أعلى من الإضافيِّ.
أقول: الأصل في الكبرياء والعظمة ما قاله أئمة اللغة، ثم استُعمِل في الحديث على حسب أهل العُرف والعادة؛ يقال: فلان متكبِّر إذا أنزل نفسه فوق منزلتها، فلا يَنقَاد لأحد، وفلان له عظمة إذا كَثُر ما يتعلَّق به من الخَدَم والحَشَم. ويقال: رَكِب الأمير في عَظَمته؛ أي: في كثير من حواشيه وأجناده، فإذًا التكبُّر صفة ذاتية، والعظمة إضافية. فالله تعالى إذا وُصِف بالتكبُّر يكون معناه الترفُّعَ عن أن ينقاد لأحد، لا المعنى الأول؛ لأنه تعالى إذا وُصِف بصفة، وتكون تلك الصفة مختصَّةً بالأجسام، تكون محمولةً على نهاياتِ أغراضها، لا على بداياتها. وإذا وُصف بالعظمة يكون ذا مُلك عظيم... ثم إنه سبحانه وتعالى شبَّه صفة الكبرياء بالرداء، والرداء ما يُلبِس الرجلُ رأسه وكتفيه، وهذه الأعضاء مختصَّة بالترفُّع والتكبُّر والظهور، فناسَب الرداء، وشبَّه صفة العظمة بالإزار، والإزار ما يَلبَس الرجل من وَسَطه إلى قَدَمَيْهِ. وهذه الأعضاء مختصَّة بالنزول والانحطاط والخفاء، فناسب الإزار. ومعنى الاختصاص في قوله: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» من وجهين؛ أحدهما: أنه من التشبيه، كما أن رداء الرجل وإزاره مختصَّان به لا يُشاركه فيهما غيره، كذلك الكبرياء والعظمة مختصَّان بالله تعالى، لا يوصف بهما غيره. وثانيهما: تعريف المسنَد إليه باللام والمسنِد بالإضافة يدلُّ على القَصر، كما إذا قلتَ: المنطلِقُ زيدٌ، أو زيد المنطلِق، يدلُّ على انحصار الانطلاق في زيد. ومن ثَمَّةَ فرِّع على التشبيه قوله: «نازعني» دلالة على أن ذلك ليس من حقِّه، ثم عقَّبه بالوعيد، وحقَّر شأنه بلفظ القذف؛ أي: يَقذِف به قذف الحجارة والْمَدَر في النار والسَّقَر. وقد عرفتَ مما قيلَ أن الكبر هو الإعراض عن الحقِّ وتحقيرُ الناس؛ فالتواضعُ هو الإذعان للحقِّ، وتوقير الناس، وهو المعنيُّ بقوله: «التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله» فالمعنى: من تكبَّر على الله وعلى الخلق، ابتلاه الله تعالى في الدنيا بالذُّلِّ والهوان، وفي الآخرة بقذفه في أقصى دَرَكات النيران. ومن تواضَعَ لله مع الخلق رَفَعه الله درجته في الدنيا والآخرة، فالحديث إذن من جوامع الكَلِم وكُنوز الحِكَم التي خُصَّ بها النبيُّ ﷺ على قائله[5].
قال الخطابيُّ رحمه الله: "معنى هذا الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان لله سبحانه، اختُصَّ بهما، لا يُشركه أحدٌ فيهما، ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما؛ لأن صفة المخلوق التواضع والتذلُّل، وضَرَب الرداء والإزار مثلاً في ذلك، يقول - والله أعلم -: كما لا يَشرَك الإنسانَ في ردائه وإزاره أحدٌ، فكذلك لا يَشرَكني في الكبرياء والعظمة مخلوق"[6].
قال سفيان بن عُيَينةَ رحمه الله:" مَن كانت معصيتُه في الشهوة فارجُ له التوبة، فإنَّ آدمَ - عليه السلام - عصى مُشْتَهيًا فغُفر له، فإذا كانت معصيتُه في كِبْر، فاخْشَ على صاحبه اللعنةَ؛ فإن إبليسَ عصى مُستكبرًا فلُعِن"[7].
المراجع
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238).
- "فيض القدير" للمناويِّ (4/484).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 196).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 552، 553).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (10/ 3246، 3247).
- انظر: "معالم السنن" للخطابيِّ (4/196).
- "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" للمزِّيِّ (11/ 191).
يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ ﷺ: أوْصِنِي، قَالَ: «لا تَغْضَبْ»: طلب أحد الصحابة وصيَّةً جامعةً من النبيِّ ﷺ فقال له: لا تغضب. (فَرَدَّدَ مِرَارًا)؛ أَيْ: رَدَّدَ السُّؤالَ يلْتَمِس أنفعَ من ذلك، أَو أبلغَ، أو أَعَمَّ، فَلَمْ يَزِدْهُ النبيُّ ﷺ: على قوله: «لَا تَغْضَبْ»؛ أي: اقتصر على وَصيَّته بعدم الغضب.
الشرح المفصَّل للحديث:يوجِّه النبيُّ ﷺ أمَّته إلى كلِّ خير، وينهاهم عن كلِّ شرٍّ، بطُرقٍ ووسائلَ كثيرةٍ؛ منها أن يسأله أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - عن أمر، فيُفيض في الإجابة من خلال كلمات معدودة، وربما كلمة واحدة تجمع خصال الخير، وتنهى عن خصال الشرِّ، وهذا مما حباه الله به من جوامع الكَلِم.
وفي هذا الحديث يَطلُب أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - من النّبيِّ ﷺ أن يوصيَه وصيّةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليَحفَظها عنه، فوصَّاه النّبيُّ أن لا يَغضَب، ثمّ ردَّد هذه المسألة عليه مِرارًا، والنّبيُّ ﷺ يردِّد عليه هذا الجواب.
وهذا الجواب من النبيِّ ﷺ: «لا تغضب» يدلُّ على أنّ الغضب جِمَاع الشّرِّ، ومِفتاح كلِّ شرٍّ، وأنّ التّحرُّز منه جماع الخير، حتى إن بعض العلماء قد فسَّروا حُسن الخُلق بترك الغضب.
وقوله: (فردّد مرارًا)؛ أي: ردَّد السّؤال يلتمس أنفعَ من ذلك، أو أبلغ، أو أعمَّ، فلم يَزِدْه النبيُّ ﷺ على قوله: «لا تغضب».
"والغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ"[1].
إن الغضبَ يَخرُج به الإنسانُ من اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، وينوي الحقد والبغضاء، وغير ذلك من القبائح المحرَّمة، كلُّ ذلك من الغضب، أعاذنا الله منه.
لذا؛ "كان من دعائه ﷺ:
«أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[2]
وهذا عزيز جدًّا، وهو أنّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِب أو رَضِيَ؛ فإنّ أكثر النّاس إذا غضب لا يتوقَّف فيما يقول"[3].
"ومعنى قوله: «لا تغضب»: اجتنِبْ أسباب الغضب، ولا تتعرَّض لما يَجلِبه، وأمّا نفس الغضب، فلا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجبلَّة. وما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد. وقيل: معناه: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيحمله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
هذا وإنّ مجاهدة النّفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنّه ﷺ جعل الّذي يملك نفسه عند الغضب أعظم النّاس قوّةً. ولعلَّ السّائل كان غَضُوبًا، وكان النّبيُّ ﷺ يأمر كلَّ أحد بما هو أَوْلى به؛ فلهذا اقتصر في وصيّته له على ترك الغضب. ولقد جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدِّين... ومن تأمَّل هذه المفاسد، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ"[4].
"وقول النبيِّ ﷺ لِمَنِ اسْتَوْصَاهُ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، والتّواضع والاحتمال، وكفِّ الأذى، والصّفح والعفو، وكظم الغيظ، والطّلاقة والبِشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
[الأعراف: ١٥٤]
فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب"[5].
وقد "مَدَح الله تعالى الذين يَغفِرون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر أن ما عنده خيرٌ وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبُّهم بإحسانهم في ذلك، وقد رَوَى معاذُ بنُ جبلٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»[6]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال:
«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[7]
والصُّرَعة: الذي يَصرَع الناس ويَكثُر منه ذلك، فأخبر النبيُّ ﷺ أن الذي يَقْوَى على مِلك نفسه عند الغضب ويردُّها عنه، هو القويُّ الشديد، والنهاية في الشدَّة؛ لغلبته هواه الْمُرْدِي الذي زيَّنه له الشيطان الْمُغْوي، فدلَّ هذا أن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأن النبيَّ ﷺ جعل للذي يملك نفسَه عند الغضب من القوَّة والشدَّة، ما ليس للذي يَغلِب الناس ويَصرَعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصريُّ حين سُئل: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال: جهادُك نفسَكَ وهَواك"[8].
أما الغضب لله فهو محمود، "والواجب على المؤمن أن تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه اللّه له، وربّما تناولها بنيّة صالحة، فأُثيب عليها، وأن يكون غضبُه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}
[التوبة: 14 - 15]
وهذه كانت حالَ النّبيّ ﷺ، فإنّه كان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يَضرِب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه"[9].
"ويُعِين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثَمَرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان، وأن يتوضَّأ؛ فقد كان النّبيّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سُلَيْمانَ بنِ صُرَدَ، قال: اسْتَبَّ رجلانِ عند النَّبيِّ ﷺ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ"[10]
فالاستعاذةُ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضب، وهي من أقوى السلاح على دفع كَيده؛ حيث إن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه من رضا الله تعالى.
"وقوله ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: فيه أنّ الغضب في غير اللّه تعالى من نزغ الشّيطان، وأنّه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، وأنّه سبب لزوال الغضب، وأمّا قولُ هذا الرّجل الّذي اشتدَّ غضبه: (هل ترى بي من جنون؟!) فهو كلام من لم يُفقَّه في دين اللّه تعالى، ولم يتهذَّب بأنوار الشّريعة المكرَّمة، وتوهَّم أنّ الاستعاذة مختصَّة بالمجنون، ولم يعلم أنّ الغضب من نزغات الشّيطان؛ ولهذا يَخرُج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويَفعَل المذموم، وينوي الحقد والبُغض، وغير ذلك من القبائح المترتِّبة على الغضب؛ ولهذا قال النّبيُّ ﷺ للذي قال له: أوصني: «لا تغضب»، فردَّد مرارًا، قال: «لا تغضب»، فلم يَزِده في الوصيّة على «لا تغضب»، مع تَكراره الطّلبَ، وهذا دليل ظاهر في عِظَم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه، ويَحتمِل أنّ هذا القائل: (هل ترى بي من جنون؟!) كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب"[11].
ومما يعالج الغضب: ما قاله النّبيُّ ﷺ في خُطبته:
«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[12]
وخرَّج الإمام أحمدُ، وأبو داود من حديث أبي ذرٍّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[13]
وقد قيل: إنّ المعنى في هذا أنّ القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجِع أبعدُ عنه، فأمره بالتّباعد عن حالة الانتقام"[14].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ - مَرَّتَيْنِ»
[15].
"وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ على أنّ الغضبان مكلَّف في حال غضبه بالسُّكوت، فيكون حينئذ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النّبيِّ ﷺ أنّه أمر من غَضِب أن يتلافى غضبه بما يسكِّنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التّكليف له بقطع الغضب، فكيف يُقال: إنّه غير مكلَّف في حال غضبه بما يَصدُر منه؟! وقال عطاءُ بن أبي رباح: ما أبكى العلماءَ بكاءٌ آخِرَ العُمر من غضبة يَغضَبها أحدهم، فتَهدِم عمر خمسين سنةً، أو ستّين سنةً، أو سبعين سنةً، وربَّ غضبةٍ قد أَقحَمت صاحبها مُقحَمًا ما استَقالَه"[16].
هذا وإن الغضب الشديد "لا شكَّ أنه يؤثِّر على الإنسان حتى يتصرَّف تصرُّف المجانين؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غَضِبَ غضبًا شديدًا حتى لا يدريَ ما يقول، فإنه لا عِبْرةَ بقوله، ولا أَثَر لقوله؛ إن كان طلاقًا، فإن امرأته لا تَطلُق، وإن كان دعاءً، فإنه لا يُستجاب؛ لأنه يتكلَّم بدون عقل وبدون تصوُّر. نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة"[17].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369).
- رواه أحمد (18515)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 372).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 364).
- رواه أحمد (15637)، وأبو داود (4777)، وابن ماجه (4186)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2753).
- رواه البخاريُّ (6114)، ومسلم (2609).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/296).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
- رواه البخاريُّ (6115)، ومسلم (2610).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 163).
- رواه أحمد (11608)، والترمذيُّ (2191)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن.
- رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 364، 365).
- رواه أحمد (2556)، والبخاريُّ في "الأدب المفرد" (1320)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الأدب المفرد".
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 374).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 593).
قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا الرّجل طلب من النّبيِّ ﷺ أن يوصيَه وصيّةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليحفظها عنه؛ خشيةَ أن لا يحفظها لكثرتها، فوصَّاه النّبيُّ أن لا يغضب، ثمّ ردَّد هذه المسألة عليه مرارًا، والنّبيُّ ﷺ يردِّد عليه هذا الجواب، فهذا يدلُّ على أنّ الغضب جِمَاع الشّرِّ، وأنّ التّحرُّز منه جماع الخير. قال جعفر بن محمّد: الغضب مِفتاح كلِّ شرٍّ. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب. وكذا فسَّر الإمام أحمد، وإسحاق بن راهوَيْهِ حُسن الخلق بترك الغضب، فَقَوْلُهُ ﷺ لِمَنِ اسْتَوْصَاهُ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، والتّواضع والاحتمال، وكفِّ الأذى، والصّفح والعفو، وكظم الغيظ، والطّلاقة والبِشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
[الأعراف: ١٥٤]
فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب"[1].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال الخطَّابِيُّ: معنى قوله: «لا تغضب»: اجتنِبْ أسباب الغضب، ولا تتعرَّض لما يَجلِبه، وأمّا نفس الغضب، فلا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجبلَّة. وقال غيره: ما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد. وقيل: معناه: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيحمله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وقال ابن بطَّال في الحديث الأوَّل: إنّ مجاهدة النّفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنّه ﷺ جعل الّذي يملك نفسه عند الغضب أعظمَ النّاس قوّةً. وقال غيره: لعلَّ السّائل كان غَضُوبًا، وكان النّبيُّ ﷺ يأمر كلَّ أحد بما هو أَوْلى به؛ فلهذا اقتصر في وصيّته له على ترك الغضب. وقال ابن التين: جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فيُنتقَص ذلك من الدِّين.... ومن تأمَّل هذه المفاسد، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ"[2].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "مَدَح الله تعالى الذين يَغفِرون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر أن ما عنده خيرٌ وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبُّهم بإحسانهم في ذلك، وقد رَوَى معاذُ بنُ جبلٍ عن النبيِّ - عليه السلام - أنه قال:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»[3]"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكان النّبيُّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تَدفَع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من مَلَك نفسَه عند غضبه؛ ففي الصّحيحين عن سليمانَ بنِ صُرَدَ، قال: استبَّ رجلان عند النّبيِّ ﷺ، ونحن عنده جُلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبه، مُغْضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النّبيُّ ﷺ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا، لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فقالوا للرّجل: ألا تسمع ما يقول النّبيُّ ﷺ؟ قال: "إنّي لست بمجنون"[5].
وخرَّج الإمام أحمدُ والتّرمذيُّ من حديث أبي سعيد الخدريِّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال في خُطبته:
«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[6]
وخرَّج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث أبي ذرٍّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[7]
وقد قيل: إنّ المعنى في هذا أنّ القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجِع أبعد عنه، فأمره بالتّباعد عن حالة الانتقام"[8].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وإنما أوصى النبيُّ ﷺ هذا الرجلَ ألَّا يغضب، دون أن يُوصِيَه بتقوى الله، أو بالصلاة، أو بالصيام، أو ما أشبه ذلك؛ لأن حال هذا الرجل تقتضي ذلك؛ ولهذا أوصى غيرَه بغير هذا الشيء؛ أوصى أبا هريرةَ أن يصوم ثلاثةَ أيام من كلِّ شهر، وأن يوتِر قبل أن ينام، وأوصى أبا الدرداءِ بمثل ذلك، أما هذا، فأوصاه ألَّا يغضب؛ لأن النبيَّ ﷺ عَلِم من حاله أنه غَضُوبٌ كثيرُ الغضب؛ فلذلك قال: لا تغضب.
والغضب يَحمِل الإنسانَ على أن يقول كلمةَ الكفر، على أن يطلِّق زوجته، على أن يضرب أمَّه، على أن يَعُقُّ أباه، كما هو مشاهدٌ ومعلوم، ثم تجد الإنسانَ من حين أن ينصرف يَبرُد ثم يَندَم ندمًا عظيمًا، وما أكثرَ الذين يسألون: غضبتُ على زوجتي فطلَّقتُ، غضبتُ عليها فطلَّقتُها بالثلاثة، غضبتُ على فلانة فحرَّمتها عليَّ، وما أشبهَ ذلك، فأنت لا تغضب. لا تغضب؛ فإن الغضب لا شكَّ أنه يؤثِّر على الإنسان حتى يتصرَّف تصرُّف المجانين؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غَضِبَ غضبًا شديدًا حتى لا يدريَ ما يقول، فإنه لا عِبْرةَ بقوله، ولا أَثَر لقوله؛ إن كان طلاقًا، فإن امرأته لا تَطلُق، وإن كان دعاءً، فإنه لا يُستجاب؛ لأنه يتكلَّم بدون عقل وبدون تصوُّر. نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة"[9].
قال النوويُّ رحمه الله: "«إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: فيه أنّ الغضب في غير اللّه تعالى من نزغ الشّيطان، وأنّه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، وأنّه سبب لزوال الغضب، وأمّا قول هذا الرّجل الّذي اشتدَّ غضبه: (هل ترى بي من جنون؟!) فهو كلام من لم يُفقَّه في دين اللّه تعالى، ولم يتهذَّب بأنوار الشّريعة المكرَّمة، وتوهَّم أنّ الاستعاذة مختصَّة بالمجنون، ولم يعلم أنّ الغضب من نزغات الشّيطان؛ ولهذا يَخرُج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويفعل المذموم، وينوي الحقد والبُغض، وغير ذلك من القبائح المترتِّبة على الغضب؛ ولهذا قال النّبيُّ ﷺ للذي قال له: أوصني: «لا تغضب»، فردَّد مرارًا، قال: «لا تغضب»، فلم يزده في الوصيّة على «لا تغضب»، مع تَكراره الطّلبَ، وهذا دليل ظاهر في عِظَم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه، ويُحتمل أنّ هذا القائل: (هل ترى بي من جنون؟!) كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب، والله أعلم"[10].
قال ابن رجب رحمه الله: "والغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر؛ كما جرى لِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ. والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورةً على طلب ما أباحه اللّه له، وربّما تناولها بنيَّة صالحة، فأُثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}
[التوبة: 14 - 15]
وهذه كانت حالَ النّبيِّ ﷺ، فإنّه كان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يَضرِب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه"[11].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقال - عليه السلام -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ»، والصُّرَعة: الذي يَصرَع الناس ويَكثُر منه ذلك، كما يُقَال للكثيرِ النَّوْمِ نُوَمة، وللكثير الحِفْظِ حُفَظة، فأراد - عليه السلام - أن الذي يَقْوَى على مِلك نفسه عند الغضب ويردُّها عنه، هو القويُّ الشديد، والنهاية في الشدَّة؛ لغلبته هواه الْمُرْدِي الذي زيَّنه له الشيطان الْمُغْوي، فدلَّ هذا أن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - جعل للذي يملك نفسَه عند الغضب من القوَّة والشدَّة، ما ليس للذي يَغلِب الناس ويَصرَعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصريُّ حين سُئل: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال: جهادُك نفسَكَ وهَواك"[12].
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (فَرَدَّدَ مِرَارًا)؛ أي: رَدَّد السؤال يلْتَمس أنفعَ من ذلك، أو أبلغ أو أَعَمَّ، فلم يَزِدْهُ على ذلك قوله: «لَا تَغْضَبْ»"[13].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكان من دعائه ﷺ: «أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[14]، وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِبَ أو رَضِي؛ فإن أكثرَ الناس إذا غَضِب لا يَتَوقَّف فيما يقول"[15].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وفى حديث سليمانَ بنِ صُرَدَ أن الاستعاذةَ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضب[16]، وذلك أن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه من رضا الله تعالى؛ فالاستعاذةُ بالله تعالى منه من أقوى السلاح على دفع كَيده، وذكر أيضًا أبو داود في حديث أبي ذرٍّ عن النبىِّ عليه السلام أنه قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[17]"[18].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "ولهذا يخرج به الإنسان من اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، وينوي الحقد والبغضاء وغير ذلك من القبائح المحرَّمة، كلُّ ذلك من الغضب، أعاذنا الله منه"[19].
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ على أنّ الغضبان مكلَّف في حال غضبه بالسُّكوت، فيكون حينئذ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النّبيِّ ﷺ أنّه أمر من غَضِب أن يتلافى غضبه بما يسكِّنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التّكليف له بقطع الغضب، فكيف يُقال: إنّه غير مكلَّف في حال غضبه بما يَصدُر منه؟! وقال عطاءُ بن أبي رباح: ما أبكى العلماءَ بكاءٌ آخِرَ العُمر من غضبة يَغضَبها أحدهم، فتَهدِم عمر خمسين سنةً، أو ستّين سنةً، أو سبعين سنةً، وربَّ غضبةٍ قد أَقحَمت صاحبها مُقحَمًا ما استَقالَه"[20].
قال ابن حجر رحمه الله: "ويُعين على ترك الغضب استحضارُ ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان كما تقدَّم في حديث سليمان بن صُرَدَ، وأن يتوضَّأ"[21].
المراجع
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 361، 364).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 520، 521).
- رواه أحمد (15637)، وأبو داود (4777)، وابن ماجه (4186)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (2753).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/296).
- رواه البخاريّ (6115)، ومسلم (2610).
- رواه أحمد (11608)، والترمذيُّ (2191)، وقال الترمذيُّ: هذا حديث حسن.
- رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 364، 365).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (3/ 593).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (16/ 163).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 369، 370).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/296).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 519).
- رواه أحمد (18515)، وقال شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح.
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 372).
- رواه البخاريُّ (6115)، ومسلم (2610).
- رواه أحمد (21348)، وأبو داود (4782)، وصححه الألبانيُّ في "مشكاة المصابيح" (5114).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطال (9/296، 297).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص: 71).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 374).
- "فتح الباري" لابن حجر (10/ 521).
يروي أَنَسُ بنُ مالكٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»، ويروي أَبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»؛ أي: أن الجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والنار قد أُحيطت بالشَّهوات، فلا يوصَل إلى الجنة إلا بارتكاب المكاره، من فعل الطاعات والواجبات، واجتناب المنهيَّات والمحرَّمات، وأُطِلق عليها مَكَارهُ؛ لِمَشقَّتها على العامل، وصُعوبتِها عليه. ولا يوصَل إلى النار إلا بتعاطي الشهوات، وهي الْمَلذَّات التي مَنَع الشرع من تعاطيها، أو التي قد تؤدِّي إلى ترك الواجبات، أو الوقوع في المحرَّمات، فالجنة والنار محجوبتان، فمن هتَك الحجاب، وصَل إلى المحجوب.
الشرح المفصَّل للحديث:لقد جعَلَ الله تعالى الجنَّةَ جزاءً للمُؤمنين الصابرين، وجعل النارَ جزاءً للكافرين والعاصين؛ فقد خَلَق اللهُ الخَلْقَ، وأرسل إليهم الرُّسل، وأنزل عليهم الكُتب، وبيَّن لهم طريقَيِ الخَير والشَّرِّ؛
قال تعالى:
{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}
[البلد: 10]
ورتَّب لهم الثواب والعقاب على أعمالهم؛ فقال تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}
[فصلت: 46]
فيَصيرون إلى النار بعَدْلِه، أو إلى الجنَّة برحمتِه وفضله، وأَعَدَّ الله الجنَّة للصالحين من عباده وأوليائه، جَعَلَنا اللهُ من أهلها؛ قال تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}
[آل عمران: 133]
وأخفى لهم فيها ثَوَابًا لا يَعلَم مِقدارَه إلا اللهُ تعالى؛ جزاءً على أعمالهم؛ عن الحسن، قال: "أخفى القَوم أعمالًا في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذن سَمعت"[1]، وجَعَل النَّارَ من نَصيب الكفَّار والْمُذنبين من خلقه، أعاذنا الله منها؛ قال تعالى:
{ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}
[آل عمران: 131]
"وقد امتحن اللهُ سبحانه عباده في هذه الدار بالمحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النَّفس داعيًا إلى حُبِّها، مع تمكُّن العبد منها، وقُدرته عليها، فمن أدَّى الأمانة، وحَفِظ حدودَ الله، ومَنَع نفسه ما يُحبُّه من محارم الله، كان عاقبتُه الجنةَ؛ كما قال تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}
[النازعات: ٤٠ – ٤١]
فلذلك؛ يحتاج العبدُ في هذه الدار إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلَّا مَن لا نَفْسَ له. قال بعضُ السَّلف: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتُها مروءةً، فاستحالت دِيانةً. وقال آخَرُ منهم: تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الوَرَع. وقال آخَرُ: مَن عَمِل في السرِّ عَمَلًا يَسْتَحْيِي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قَدْرٌ. قال بعضهم: ما أَكرَم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله - عزَّ وجلَّ - فمن ارتكب المحارم، فقد أهان نفسه"[2].
وفي هذا الحديث روى أَنَسُ بنُ مالكٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»
وفي رواية أَبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«حُجِبَتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُجِبَتِ الجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ»
"وهو من جوامع كَلِمه ﷺ وبديع بلاغته في ذمِّ الشَّهوات، وإن مالت إليها النُّفوس، والحضِّ على الطَّاعات، وإن كرهتها النُّفوس، وشقَّ عليها"[3].
وقد ورد إيضاح ذلك من وجهٍ آخَرَ عن أبي هُريرةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:
«لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، قَالَ لِجِبْرِيلَ: اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا، ثُمَّ حَفَّهَا بِالْمَكَارِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ. قَالَ: فَلَمَّا خَلَقَ اللَّهُ النَّارَ، قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَا يَسْمَعُ بِهَا أَحَدٌ فَيَدْخُلُهَا، فَحَفَّهَا بِالشَّهَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا، فَذَهَبَ فَنَظَرَ إِلَيْهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، وَعِزَّتِكَ، لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ إِلَّا دَخَلَهَا»[4].
"قوله ﷺ «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النّار بالشّهوات» هكذا رواه مسلم (حُفَّت)، ووقع في البخاريِّ (حُفَّت)، ووقع فيه أيضًا (حُجِبَتْ)، وكلاهما صحيح. قال العلماء: هذا من بَديع الكلام وفَصيحه وجوامعه الّتي أوتيها ﷺ من التَّمثيل الحَسَن، ومعناه: لا يوصَل الجنَّة إلَّا بارتكاب المكاره، والنَّار بالشّهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هَتَك الحجاب، وَصَل إلى المحجوب، فهتكُ حجاب الجنّة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النّار بارتكاب الشّهوات، فأمّا المكاره، فيَدخُل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات الّتي النّارُ محفوفةٌ بها، فالظّاهر أنّها الشّهوات المحرَّمة؛ كالخمر والزِّنا، والنَّظَر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات المباحة، فلا تَدخُل في هذه؛ لكن يُكرَه الإكثار منها؛ مخافةَ أن يَجُرَّ إلى المحرَّمة، أو يقسِّيَ القلب، أو يَشغَل عن الطَّاعات، أو يُحْوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا"[5].
و"إنّ المراد بالْمَكَاره هنا ما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيَّات قولًا وفعلًا، وأَطلَق عليها الْمَكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ومن جُملتها الصَّبر على الْمُصيبة، والتَّسليم لأمر اللّه فيها، والْمُراد بالشَّهوات ما يُستلَذُّ من أمور الدُّنيا ممَّا مَنَع الشَّرع من تعاطيه، إمَّا بالأصالة، وإمَّا لكون فِعْلِه يَستلزِم تركَ شيء من المأمورات، ويَلتحِق بذلك الشُّبُهاتُ، والإكثارُ ممَّا أُبيح؛ خشيةَ أن يوقِع في المحرَّم، فكأنّه قال: لا يوصَل إلى الجنَّة إلَّا بارتكاب المشقَّات الْمُعبَّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النَّار إلَّا بتعاطي الشَّهَوات، وهما محجوبتانِ، فمن هَتَك الحِجاب، اقتَحَم.
ويُحتمَل أن يكون هذا الخبرُ، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النَّهْيُ، وقولُه: (حُفَّت) بالْمُهملة، والفاء من الحِفَاف، وهو ما يُحيط بالشَّيء حتَّى لا يُتوصَّل إليه إلَّا بتَخطِّيه، فالجنَّةُ لا يُتوصَّل إليها إلَّا بقَطع مَفَاوِزِ الْمَكاره، والنَّارُ لا يُنجَّى منها إلَّا بترك الشَّهوات"[6].
"قوله: «وحفَّت الجنَّة بالمكاره»، وفي لفظ: «حُجِبت الجنَّة بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بها، فالنارُ قد أُحيطت بالشَّهوات، والجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والشَّهَوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقُّل، ولا تبصُّر، ولا مُراعاة لدِين، ولا مراعاة لِمُروءة؛ فالزِّنى شَهْوةُ الفَرْج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هَتَكَ الإنسان هذا الحِجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النارَ. وكذلك شُرْبُ الخَمر، تهواه النفس، وتميل إليه؛ ولهذا جَعَل الشارع له عقوبةً رادعة بالجَلْدِ، فإذا هَتَك الإنسان هذا الحجابَ وشَرِب الخمر، أدَّاه ذلك إلى النار، وكذلك حبُّ المال، شهوة من شهوات النفس، فإذا سَرَق الإنسان بدافع شَهْوةِ حبِّ جَمْعِ المال، فلِرغبةِ أن يستوليَ على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سَرَق فقد هَتَك هذا الحجاب، فيَصِل إلى النار، ومن ذلك الغشُّ من أجل أن يَزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس، فيَفعَله الإنسان، فيَهتِك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيدخل النار. والاستطالة على الناس، والعُلُوُّ عليهم، والترفُّع عليهم، كلُّ إنسان يحبُّ هذا، وتهواه النفس، فإذا فَعَله الإنسان، فقد هَتَك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيصل إلى النار؛ ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمَّارة بالسوء؟ دواؤها ما بعدَها، قال: «وحُفَّت الجنَّة بالمكاره» أو «حُجبت بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بما تَكرَهُه النُّفوس؛ لأن الباطل محبوبٌ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، والحقَّ مكروهٌ لها، فإذا تَجَاوز الإنسان هذا المكروه، وأَكرَه نفسه الأمَّارة بالسوء على فعل الواجبات، وعلى ترك المحرَّمات، فحينئذٍ يَصِل إلى الجنَّة. ولهذا تجد الإنسانَ يَستثقِل الصَّلواتِ مثلًا، ولا سيَّما في أيام الشتاء وأيام البَرد، ولا سيَّما إذا كان في الإنسان نومٌ كثير، بعد تَعَب وجَهْدٍ، فتجد الصلاةَ ثقيلةً عليه، ويَكرَه أن يقوم ويَترُك الفِراش اللَّيِّن الدافئ؛ ولكن إن هو كَسَر هذا الحاجبَ، وقام بهذا المكروه، وصل إلى الجنَّة... لأن الجنة حُفَّت بالمكاره؛ فاجتنابُ المحرَّمات مكروهٌ إلى النفوس، وشديدٌ عليها، لا سيَّما مع قوَّة الداعي، فإذا أَكرَهت نفسك على ترك هذه المحرَّمات، فهذا من أسباب دخول الجنة"[7].
"فلولا أنه سبحانه يُداوي عباده بأدوية الْمِحَن والابتلاء، لَطَغَوْا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا، سقاه دَواء من الابتلاء والامتحان على قَدْرِ حاله، يَستفرِغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عُبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه. ومن علاجها: أن يَعلَم أن مرارة الدنيا هي بعَينها حلاوة الآخرة، يَقلِبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطِعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك، فإن خَفِيَ عليكَ هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: «حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات»، وفي هذا الْمَقام تَفَاوتَت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال؛ فأكثرُهم آثَر الحلاوة المنقطِعة على الحلاوة الدائمة التي لا تَزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعة لعِزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعة لعافية الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شَهَادة، والمنتظَر غَيْبٌ، والإيمانَ ضَعيف، وسُلطان الشهوة حاكم، فتَولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النَّظَر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، وأما النَّظَرُ الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخَرُ. فادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيَّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه، وبالله التوفيق"[8].
المراجع
- "تفسير الكشاف" للزمخشريِّ (3/ 513).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320).
- رواه أبو داود (4744) واللفظ له، والترمذيُّ (2560)، والنسائيُّ (3763)، وأحمدُ (8648)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح أبي داود".
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320، 321).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
قال ابن حجر رحمه الله: "وهو من جوامع كَلِمه ﷺ وبديع بلاغته في ذمِّ الشَّهوات، وإن مالت إليها النُّفوس، والحضِّ على الطَّاعات، وإن كرهتها النُّفوس، وشقَّ عليها"[1].
قال النوويُّ رحمه الله: "قوله ﷺ «حُفَّت الجنَّة بالمكاره، وحُفَّت النّار بالشّهوات» هكذا رواه مسلم (حُفَّت)، ووقع في البخاريِّ (حُفَّت)، ووقع فيه أيضًا (حُجِبَتْ)، وكلاهما صحيح. قال العلماء: هذا من بَديع الكلام وفَصيحه وجوامعه الّتي أوتيها ﷺ من التَّمثيل الحَسَن، ومعناه: لا يوصَل الجنَّة إلَّا بارتكاب المكاره، والنَّار بالشّهوات، وكذلك هما محجوبتان بهما، فمن هَتَك الحجاب، وَصَل إلى المحجوب، فهتكُ حجاب الجنّة باقتحام المكاره، وهتك حجاب النّار بارتكاب الشّهوات، فأمّا المكاره، فيَدخُل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصّبر على مشاقِّها، وكَظم الغيظ، والعفو، والحِلم، والصَّدقة، والإحسان إلى المسيء، والصّبر عن الشَّهوات، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات الّتي النّارُ محفوفةٌ بها، فالظّاهر أنّها الشّهوات المحرَّمة؛ كالخمر والزِّنا، والنَّظَر إلى الأجنبيَّة، والغِيبة، واستعمال الملاهي، ونحو ذلك، وأمّا الشّهوات المباحة، فلا تَدخُل في هذه؛ لكن يُكرَه الإكثار منها؛ مخافةَ أن يَجُرَّ إلى المحرَّمة، أو يقسِّيَ القلب، أو يَشغَل عن الطَّاعات، أو يُحْوِج إلى الاعتناء بتحصيل الدنيا"[2]).
قال ابن حجر رحمه الله: "إنّ المراد بالْمَكَاره هنا ما أُمِر المكلَّف بمجاهدة نفسه فيه فعلًا وتركًا؛ كالإتيان بالعبادات على وجهها، والمحافظة عليها، واجتناب المنهيَّات قولًا وفعلًا، وأَطلَق عليها الْمَكاره لمشقَّتها على العامل، وصُعوبتها عليه، ومن جُملتها الصَّبر على الْمُصيبة، والتَّسليم لأمر اللّه فيها، والْمُراد بالشَّهوات ما يُستلَذُّ من أمور الدُّنيا ممَّا مَنَع الشَّرع من تعاطيه، إمَّا بالأصالة، وإمَّا لكون فِعْلِه يَستلزِم تركَ شيء من المأمورات، ويَلتحِق بذلك الشُّبُهاتُ، والإكثارُ ممَّا أُبيح؛ خشيةَ أن يوقِع في المحرَّم، فكأنّه قال: لا يوصَل إلى الجنَّة إلَّا بارتكاب المشقَّات الْمُعبَّر عنها بالمكروهات، ولا إلى النَّار إلَّا بتعاطي الشَّهَوات، وهما محجوبتانِ، فمن هَتَك الحِجاب، اقتَحَم، ويُحتمَل أن يكون هذا الخبرُ، وإن كان بلفظ الخبر، فالمراد به النَّهْيُ، وقولُه: (حُفَّت) بالْمُهملة، والفاء من الحِفَاف، وهو ما يُحيط بالشَّيء حتَّى لا يُتوصَّل إليه إلَّا بتَخطِّيه، فالجنَّةُ لا يُتوصَّل إليها إلَّا بقَطع مَفَاوِزِ الْمَكاره، والنَّارُ لا يُنجَّى منها إلَّا بترك الشَّهوات، وقال ابن العربيِّ: معنى الحديث أنَّ الشَّهواتِ جُعِلت على حِفَافَيِ النَّار، وهي جوانبُها، وتَوهَّم بعضُهم أنّها ضُرِب بها الْمَثَلُ، فجَعَلَها في جوانبها من خارجٍ، ولو كان ذلك ما كان مَثَلًا صحيحًا؛ وإنّما هي من داخلٍ، وهذه صورتها المكاره والشّهوات، فمن اطَّلَع الحجاب، فقد واقَعَ ما وراءه، وكلُّ من تصوَّرها من خارج، فقد ضلَّ عن معنى الحديث، ثمَّ قال: فإن قيل: فقد جاء في البخاريِّ «حُجِبت النَّار بالشَّهوات»، فالجواب أنّ المعنى واحد؛ لأنَّ الأعمى عن التَّقوى الّذي قد أَخَذت الشَّهواتُ سَمْعَه وبَصَرَه، يَراها ولا يرى النَّار الَّتي هي فيها؛ وذلك لاستيلاء الجَهَالة والغَفلة على قلبه، فهو كالطَّائر يرى الحبَّة في داخل الفَخِّ، وهي محجوبةٌ به، ولا يرى الفَخَّ؛ لغَلَبة شهوة الحبَّة على قلبه، وتعلُّق بالِه بها. قلتُ: بالَغَ كعادته في تضليلِ من حَمَل الحديث على ظاهره، وليس ما قاله غيرُه ببعيدٍ، وأنّ الشّهواتِ على جانب النّار من خارجٍ، فمَن واقَعَها وخَرَق الحجاب، دَخَل النّار، كما أنّ الّذي قاله القاضي محتمَلٌ، واللّه أعلمُ"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«وحفَّت الجنَّة بالمكاره»، وفي لفظ: «حُجِبت الجنَّة بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بها، فالنارُ قد أُحيطت بالشَّهوات، والجنَّة قد أُحيطت بالمكاره، والشَّهَوات: هي ما تميل إليه النفس، من غير تعقُّل، ولا تبصُّر، ولا مُراعاة لدِين، ولا مراعاة لِمُروءة؛ فالزِّنى شَهْوةُ الفَرْج، تميل إليها النفس كثيرًا، فإذا هَتَكَ الإنسان هذا الحِجاب، فإنه سيكون سببًا لدخوله النارَ. وكذلك شُرْبُ الخَمر، تهواه النفس، وتميل إليه؛ ولهذا جَعَل الشارع له عقوبةً رادعة بالجَلْدِ، فإذا هَتَك الإنسان هذا الحجابَ وشَرِب الخمر، أدَّاه ذلك إلى النار، وكذلك حبُّ المال، شهوة من شهوات النفس، فإذا سَرَق الإنسان بدافع شَهْوةِ حبِّ جَمْعِ المال، فلِرغبةِ أن يستوليَ على المال الذي ترغبه نفسه، فإذا سَرَق فقد هَتَك هذا الحجاب، فيَصِل إلى النار، ومن ذلك الغشُّ من أجل أن يَزيد ثمن السلعة، هذا تهواه النفس، فيَفعَله الإنسان، فيَهتِك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيدخل النار.
الاستطالة على الناس، والعُلُوُّ عليهم، والترفُّع عليهم، كلُّ إنسان يحبُّ هذا، وتهواه النفس، فإذا فَعَله الإنسان، فقد هَتَك الحجاب الذي بينه وبين النار، فيصل إلى النار؛ ولكن ما دواء هذه الشهوة التي تميل إليها النفس الأمَّارة بالسوء؟ دواؤها ما بعدَها، قال: «وحُفَّت الجنَّة بالمكاره» أو «حُجبت بالمكاره»؛ يعني: أُحِيطت بما تَكرَهُه النُّفوس؛ لأن الباطل محبوبٌ للنفس الأمَّارة بالسُّوء، والحقَّ مكروهٌ لها، فإذا تَجَاوز الإنسان هذا المكروه، وأَكرَه نفسه الأمَّارة بالسوء على فعل الواجبات، وعلى ترك المحرَّمات، فحينئذٍ يَصِل إلى الجنَّة. ولهذا تجد الإنسانَ يَستثقِل الصَّلواتِ مثلًا، ولا سيَّما في أيام الشتاء وأيام البَرد، ولا سيَّما إذا كان في الإنسان نومٌ كثير، بعد تَعَب وجَهْدٍ، فتجد الصلاةَ ثقيلةً عليه، ويَكرَه أن يقوم ويَترُك الفِراش اللَّيِّن الدافئ؛ ولكن إن هو كَسَر هذا الحاجبَ، وقام بهذا المكروه، وصل إلى الجنَّة. وكذلك النَّفْسُ الأمَّارة بالسُّوء، تدعو صاحبها إلى الزنى شهوةً، وتحبُّه النفس الأمَّارة بالسوء؛ لكن إذا عَقَلَها صاحبها، وأَكرَهها على تجنُّب هذه الشهوة، فهذا كُره له؛ ولكن هو الذي يوصِله إلى الجنة؛ لأن الجنة حُفَّت بالمكاره؛ فاجتنابُ المحرَّمات مكروهٌ إلى النفوس، وشديدٌ عليها، لا سيَّما مع قوَّة الداعي، فإذا أَكرَهت نفسك على ترك هذه المحرَّمات، فهذا من أسباب دخول الجنة"[4].
قال ابن القيم رحمه الله: "فلولا أنه سبحانه يُداوي عباده بأدوية الْمِحَن والابتلاء، لَطَغَوْا، وبَغَوْا، وعَتَوْا، والله سبحانه إذا أراد بعبد خيرًا، سقاه دَواء من الابتلاء والامتحان على قَدْرِ حاله، يَستفرِغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مراتب الدنيا، وهي عُبوديتُه، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه. ومن علاجها: أن يَعلَم أن مرارة الدنيا هي بعَينها حلاوة الآخرة، يَقلِبها الله سبحانه كذلك، وحلاوة الدُّنيا بعينها مرارةُ الآخرة، ولأن ينتقل من مرارة منقطِعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك، فإن خَفِيَ عليكَ هذا، فانظر إلى قول الصادق المصدوق: «حفَّت الجنة بالمكاره، وحفَّت النار بالشهوات»، وفي هذا الْمَقام تَفَاوتَت عقول الخلائق، وظهرت حقائق الرجال؛ فأكثرُهم آثَر الحلاوة المنقطِعة على الحلاوة الدائمة التي لا تَزول، ولم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد، ولا ذُلَّ ساعة لعِزِّ الأبد، ولا محنةَ ساعة لعافية الأبد، فإنَّ الحاضر عنده شَهَادة، والمنتظَر غَيْبٌ، والإيمانَ ضَعيف، وسُلطان الشهوة حاكم، فتَولَّد من ذلك إيثارُ العاجلة، ورفضُ الآخرة، وهذا حال النَّظَر الواقع على ظواهر الأمور، وأوائلها، ومبادئها، وأما النَّظَرُ الثاقب الذي يَخرِق حُجُب العاجلة، ويُجاوزه إلى العواقب والغايات، فله شأنٌ آخَرُ.
فادْعُ نفسك إلى ما أَعَدَّ الله لأوليائه وأهلِ طاعته من النعيم الْمُقيم، والسعادة الأَبَدية، والفوز الأكبر، وما أَعَدَّ لأهل البَطالة والإضاعة من الخِزْيِ والعِقاب والحَسَرات الدائمة، ثم اخْتَرْ أيُّ القِسمينِ أَلْيَقُ بك، وكلٌّ يَعمَل على شاكِلته، وكلُّ أحد يصبو إلى ما يناسِبه، وما هو الأَوْلى به، ولا تَستطِلْ هذا العلاج؛ فشِدَّةُ الحاجة إليه من الطَّبيب والعَليل دَعَت إلى بَسْطِه، وبالله التوفيق"[5].
قال ابن رجب رحمه الله: "فاللهُ سبحانه امتَحَن عباده في هذه الدار بهذه المحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النَّفس داعيًا إلى حُبِّها، مع تمكن العبد منها، وقُدرته عليها، فمن أدَّى الأمانة، وحَفِظ حدودَ الله، ومَنَع نفسه ما يُحبُّه من محارم الله، كان عاقبتُه الجنةَ؛ كما قال تعالى:
{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ 40 فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}
[النازعات: ٤٠ – ٤١]
فلذلك؛ يحتاج العبدُ في هذه الدار إلى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله - عزَّ وجلَّ - فمن كانت نفسُه شريفةً، وهِمَّته عاليةً، لم يَرْضَ لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ، ولا يرضى بالخيانة إلَّا مَن لا نَفْسَ له. قال بعضُ السَّلف: رأيتُ المعاصي نذالةً، فتركتُها مروءةً، فاستحالت دِيانةً. وقال آخَرُ منهم: تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الوَرَع. وقال آخَرُ: مَن عَمِل في السرِّ عَمَلًا يَسْتَحْيِي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قَدْرٌ. قال بعضهم: ما أَكرَم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله - عزَّ وجلَّ - فمن ارتكب المحارم، فقد أهان نفسه"[6].
المراجع
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (17/ 165).
- "فتح الباري" لابن حجر (11/ 320، 321).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (2/ 87 - 89).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (4/ 179، 180).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (1/ 203).