عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ».
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ».
نازَعني: الْمُنازَعةُ هي المشاركةُ والمخاصمةُ حين اتَّصَف بهذه الصفة وتخلَّق بها[1].
قذفتُه: رميتُه في النار[2].
يروي أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري»؛ أي: هاتان الصفتان (الكبرياء والعظمة) مختصَّتان بالله عزَّ وجلَّ. «فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ»؛ أي: من نازَع الله تعالى في إحدى هاتين الصفتين بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قَذَفه الله تعالى في النار.
الشرح المفصَّل للحديث:اختصَّ اللهُ سبحانه نفْسه ببعض الصفات التي لا يحِقُّ لمخلوق أن يُشاركَه فيها، ومَن نازَعَه فيها كان جزاؤه العذابَ الأليمَ في نار السعير، ومن هذه الصفات: الكَبْرِياءُ والعظمة، فجعل الكبرياءَ رداءه، والعظمةَ إزاره؛ أي: مما يخصُّه سبحانه وحدَه، فكما لا يَشْرَكُ الإنسانَ في ردائه وإزاره أحدٌ، فكذلك لا يَشرَكه سبحانه في الكبرياء والعظمة مخلوقٌ[1].
قوله تعالى: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري»؛ أي: هاتان الصفتان مختصَّتان بالله - عزَّ وجلَّ - وأصلُ الإزار: الثوبُ الذي يُشَدُّ على الوسَط، والرِّداء: ما يُجعل على الكَتِفين. وليس المرادُ بالرداء والإزار الثيابَ المحسوسة؛ لكن المناسبة أن هذين الثوبين يخصُّان اللابس؛ بحيث لا يمكِنه استغناؤه عنهما، ولا يَقبلان المشاركة. لذا؛ عبَّر الله تعالى عنهما على طريقة الاستعارة المستعمَلة عند العرب؛ كما قال سبحانه: ﴿ولباس التقوى ذلك خير﴾ فاستعار للتقوى لباسًا[2]. ومنه قول النبيِّ ﷺ:
«الأنصار شِعار، والناس دِثار»[3]
والشِّعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدِّثار: الثوبُ الذي يلي الشِّعارَ، ومعناه: قُربهم منه، والتصاقُهم به كالتصاق الشِّعار بالإنسان[4].
وقوله: «فمَن نازعني واحدًا منهما»؛ أي: نازَعني في تلك الصفة بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، قذفتُه في النار؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يَتعاطاهما؛ لأن صفةَ المخلوق التواضعُ والتذلُّلُ[5]؛ ولهذا حرَّم الشرع اتِّصافَ الإنسان بهاتين الصفتين، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن لاحظَ كمال نفْسه ناسيًا مِنَّة الله تعالى فيما خصَّه به، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:
﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾
[ص:76]
وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾
[النازعات:24]
فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[6].
فمَن تَعاطى شيئًا منهما، أذلَّه اللهُ تعالى، وصغَّره وحقَّره وأهلَكَه، كما قد أظهر الله تعالى من سُنَّته في المتكبِّرين السابقين واللاحقين.
وقد اختُصَّت العظمةُ بالإزار، والكبرياءُ بالرداء؛ لأن في الكبير من الفخامة فوق العظيم، وإن كان كلٌّ منهما مختصًّا له تعالى لا شريكَ له فيه بوجه ما[7].
والفرقُ بين الكبرياء والعظمة أن جهة الكِبرياء: يستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبرَ، قال:
«الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[8]
وهو احتقارُهُم، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه، وهو الحقُّ أو الخَلقُ، والعَظَمةُ: لا تَقتضي ذلك.
فالمتكبِّرُ يلاحِظ ترفُّعَ نفْسِهِ على غيره بسببِ مَزيَّةِ كمالها فيما يراه، والمعظِّمُ يلاحِظ كمالَ نفْسه مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ في حقِّنا[9].
"الكبرياءُ: الكِبرُ، وهو الترفُّعُ على الغير بأن يرى لنفْسه عليه شرفًا، والعَظَمةُ: كونُ الشيء في نفْسه كاملًا شريفًا مُستغنيًا، فالأول أرفعُ من الثاني؛ إذ هو غاية العظمة؛ فلذا مثَّله في الرداء"[10].
وليس من الكبر لُبْسُ الثياب الحسنة والتجمُّل في المظهر؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:
«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ» قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حَسَنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ، الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[11]
فالكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس.
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}
[النحل: 102]
وقال:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
[الشعراء: 193-195]
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر: 9]
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم"[1].
قال المناويُّ رحمه الله: "الكبرياءُ: الكِبرُ، وهو الترفُّعُ على الغير بأن يرى لنفْسه عليه شرفًا، والعَظَمةُ: كونُ الشيء في نفْسه كاملًا شريفًا مُستغنيًا، فالأول أرفعُ من الثاني؛ إذ هو غاية العظمة؛ فلذا مثَّله في الرداء"[2].
قال ابن تيمية رحمه الله: "فجعل الكِبْرَ مقابلًا للإيمان؛ فإنّ الكبر ينافي حقيقة العبوديّة؛ كما ثبت في الصّحيح عن النّبيّ ﷺ أنّه قال: «يقول اللّه: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذّبتُه» فالعظمة والكبرياء من خصائص الرّبوبيّة، والكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرّداء كما جعل العظمة بمنزلة الإزار؛ ولهذا كان شعار الصّلوات والأذان والأعياد هو التّكبير، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصّفا والمروة، وإذا علا الإنسان شَرَفًا أو ركب دابَّةً ونحو ذلك، وبه يُطفَأ الحريق وإن عَظُم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان؛ قال تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
[غافر: ٦٠]
وكلُّ من استكبر عن عبادة اللّه لا بدّ أن يَعبُد غيره؛ فإنّ الإنسان حسَّاس يتحرّك بالإرادة"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "والكِبْرُ حرامٌ من الغنيِّ ومن الفقير؛ لكنه من الفقير أشدُّ؛ ولهذا تجد الناس إذا رأوا غنيًّا متواضعًا، استغربوا ذلك منه، واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغنيَّ في غاية ما يكون من الخُلُق النَّبيل؛ لكن لو يجدون فقيرًا متواضعًا، لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛ لأنه لأيِّ شيء يَستكبر؟! فإذا جاء إنسان عائل فقيرٌ يستكبر على الخلق، أو يستكبر عن الحقِّ، فليس هناك ما يوجِب الكبرياء في حقِّه، فيكون داخلاً في الحديث، ثم ذكر المؤلِّف - رحمه الله - فيما ساقه من الأدلَّة على تحريم الكبر والإعجاب، وأنه من كبائر الذنوب؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي، فمن ينازعني عذَّبته»
هذا من الأحاديث القُدسية التي يرويها النبيُّ ﷺ عن الله، وهي ليست في مرتبة القرآن، فالقرآن له أحكام تخصُّه، منها أنه معجِزٌ للبشر عن أن يأتوا بمثله، أو بعشْر سور منه، أو بسورة مثلِه، وأنه لا يجوز للجُنُب أن يقرأ القرآن، وأن الصلاة تصحُّ إذا قرأ المصلِّي من القرآن؛ بل تجب القراءة بالفاتحة، أما الأحاديث القدسية فليست كذلك، ثم القرآن محفوظ لا يُزاد فيه ولا يُنقَص، ولا يُنقل بالمعنى، وليس فيه شيءٌ ضعيف، أما الأحاديث القُدسية، فإنها تُروى بالمعنى، وفيها أحاديثُ ضعيفةٌ، وفيها أحاديثُ مكذوبةٌ على الرسول ﷺ ليست بصحيحةٍ، وهو كثير، فالمهمُّ أنه ليس في منزلة القرآن إلا أنه يُقال: إن النبيَّ ﷺ يَرويه عن ربِّه. فالله تعالى يقول: «العزُّ إزاري، والكبرياء ردائي»، وهذا من الأحاديث التي تمرُّ كما جاءت عن النبيِّ ﷺ، ولا يُتعرَّض لمعناها بتحريف أو تكييف؛ وإنما يُقال: هكذا قال الله تعالى فيما رواه النبيُّ ﷺ عنه، فمن نازع اَلله في عِزَّته وأراد أن يتَّخِذ سلطانًا كسلطان الله، أو نازعَ اللهَ في كبريائه، وتكبَّر على عباد الله، فإن الله يعذِّبه على ما صنع ونازَع الله تعالى فيما يختصُّ به"[4].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "الكبرياء: العَظَمة والْمُلك. وقيل: هي عبارةٌ عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصَف بها إلا اللهُ تعالى، وهو من الكِبر، وهو العَظَمة. ويقال: كَبُر يَكبُر؛ أي: عَظُم فهو كبير. انتهى كلامه. قيل: إن الكبرياء والكِبْر والعظمة ألفاظٌ مترادِفة متَّحِدة المعنى، ولم يتعرَّض معظمهم للفرق، ولابدَّ من الفرق؛ إذ الأصلُ عدم الترادف. قال الإمام فخر الدين الرازيُّ: جعل الله الكبرياء قائمًا مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار، ومعلومٌ أن الرداء أرفعُ درجة من الإزار، فوَجَب أن يكون صفة الكبرياء أرفعَ، وسواءٌ عَرَف هذه الصفةَ أحدٌ أم لا. وأما العظمة، فهي عبارة عن كونه بحيث يَستعظِمه غيره. وإذا كان كذلك، كانت الصفة الأولى ذاتيةً، والثانية إضافية، والذاتيُّ أعلى من الإضافيِّ.
أقول: الأصل في الكبرياء والعظمة ما قاله أئمة اللغة، ثم استُعمِل في الحديث على حسب أهل العُرف والعادة؛ يقال: فلان متكبِّر إذا أنزل نفسه فوق منزلتها، فلا يَنقَاد لأحد، وفلان له عظمة إذا كَثُر ما يتعلَّق به من الخَدَم والحَشَم. ويقال: رَكِب الأمير في عَظَمته؛ أي: في كثير من حواشيه وأجناده، فإذًا التكبُّر صفة ذاتية، والعظمة إضافية. فالله تعالى إذا وُصِف بالتكبُّر يكون معناه الترفُّعَ عن أن ينقاد لأحد، لا المعنى الأول؛ لأنه تعالى إذا وُصِف بصفة، وتكون تلك الصفة مختصَّةً بالأجسام، تكون محمولةً على نهاياتِ أغراضها، لا على بداياتها. وإذا وُصف بالعظمة يكون ذا مُلك عظيم... ثم إنه سبحانه وتعالى شبَّه صفة الكبرياء بالرداء، والرداء ما يُلبِس الرجلُ رأسه وكتفيه، وهذه الأعضاء مختصَّة بالترفُّع والتكبُّر والظهور، فناسَب الرداء، وشبَّه صفة العظمة بالإزار، والإزار ما يَلبَس الرجل من وَسَطه إلى قَدَمَيْهِ. وهذه الأعضاء مختصَّة بالنزول والانحطاط والخفاء، فناسب الإزار. ومعنى الاختصاص في قوله: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» من وجهين؛ أحدهما: أنه من التشبيه، كما أن رداء الرجل وإزاره مختصَّان به لا يُشاركه فيهما غيره، كذلك الكبرياء والعظمة مختصَّان بالله تعالى، لا يوصف بهما غيره. وثانيهما: تعريف المسنَد إليه باللام والمسنِد بالإضافة يدلُّ على القَصر، كما إذا قلتَ: المنطلِقُ زيدٌ، أو زيد المنطلِق، يدلُّ على انحصار الانطلاق في زيد. ومن ثَمَّةَ فرِّع على التشبيه قوله: «نازعني» دلالة على أن ذلك ليس من حقِّه، ثم عقَّبه بالوعيد، وحقَّر شأنه بلفظ القذف؛ أي: يَقذِف به قذف الحجارة والْمَدَر في النار والسَّقَر. وقد عرفتَ مما قيلَ أن الكبر هو الإعراض عن الحقِّ وتحقيرُ الناس؛ فالتواضعُ هو الإذعان للحقِّ، وتوقير الناس، وهو المعنيُّ بقوله: «التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله» فالمعنى: من تكبَّر على الله وعلى الخلق، ابتلاه الله تعالى في الدنيا بالذُّلِّ والهوان، وفي الآخرة بقذفه في أقصى دَرَكات النيران. ومن تواضَعَ لله مع الخلق رَفَعه الله درجته في الدنيا والآخرة، فالحديث إذن من جوامع الكَلِم وكُنوز الحِكَم التي خُصَّ بها النبيُّ ﷺ على قائله[5].
قال الخطابيُّ رحمه الله: "معنى هذا الكلام أن الكبرياء والعظمة صفتان لله سبحانه، اختُصَّ بهما، لا يُشركه أحدٌ فيهما، ولا ينبغي لمخلوق أن يتعاطاهما؛ لأن صفة المخلوق التواضع والتذلُّل، وضَرَب الرداء والإزار مثلاً في ذلك، يقول - والله أعلم -: كما لا يَشرَك الإنسانَ في ردائه وإزاره أحدٌ، فكذلك لا يَشرَكني في الكبرياء والعظمة مخلوق"[6].
قال سفيان بن عُيَينةَ رحمه الله:" مَن كانت معصيتُه في الشهوة فارجُ له التوبة، فإنَّ آدمَ - عليه السلام - عصى مُشْتَهيًا فغُفر له، فإذا كانت معصيتُه في كِبْر، فاخْشَ على صاحبه اللعنةَ؛ فإن إبليسَ عصى مُستكبرًا فلُعِن"[7].