عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ».
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: قال اللهُ - عزَّ وجلَّ -: «الكِبْرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحدًا منهما، قَذَفْتُه في النارِ».
1. في الحديث بيان أن من نازَع الله تعالى في الكبرياء والعظمة بأن تكبَّر وتعظَّم على الناس، فجزاؤه أن يُقذَف في النار؛ إذ لا ينبغي لمخلوق أن يَتعاطاهما؛ لأن صفةَ المخلوق التواضعُ والتذلُّلُ[1].
2. في الحديث بيان تحريم الشرع اتِّصافَ الإنسان بالكبرياء والعَظَمة، وجعلهما من الكبائر؛ لأن مَن لاحظَ كمال نفْسه ونَسِيَ مِنَّة الله تعالى عليه بالنِّعَم، كان جاهلًا بنفْسه وبربِّه، وهي صفة إبليس الحاملة له على قوله:
﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾
[ص:76]
وصفة فِرْعونَ الحاملةُ له على قوله:
﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ ﴾
[النازعات:24]
فكان جزاؤهما أنهما أشدُّ أهل النار عذابًا[2].
3. في الحديث إشارة إلى أن مَن تَعاطى شيئًا من الكبرياء والعَظَمة، أذلَّه اللهُ تعالى، وصغَّره وحقَّره وأهلَكَه، كما قد أظهر الله تعالى من سُنَّته في المتكبِّرين السابقين واللاحقين[3].
4. الفرقُ بين الكبرياء والعظمة أن الكِبرياء تستدعي متكبَّرًا عليه؛ ولذلك لَمَّا فسَّر ﷺ الكِبرَ، قال:
«الكِبرُ: بَطَرُ الحَقِّ، وَغَمطُ النَّاسِ»[4]
وهو احتقارُهُم، فذكَرَ المتكبَّرَ عليه، وهو الحقُّ أو الخَلقُ، والعَظَمةُ: لا تَقتضي ذلك؛ أي: إن المتكبِّر يلاحِظ ترفُّعَ نفْسِهِ على غيره بسببِ مَزيَّةِ كمال نفسه فيما يراه، والمعظِّم يلاحِظ كمالَ نفْسه مِن غير ترفُّعٍ لها على غيره، وهذا التعظيمُ هو المعبَّرُ عنه بالعُجْبِ في حقِّنا[5].
5. الكِبرُ المنهيُّ عنه هو دفعُ الحقِّ إنكارًا وترفُّعًا، واحتقارُ الناس، وليس من الكِبر لُبْسُ الثياب الحسنة والتجمُّل في المظهر؛ فعن عبدِ الله بنِ مسعودٍ ، عن النبيِّ ﷺ قال:
«لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقالُ ذرَّةٍ من كِبرٍ» قال رجُلٌ: إن الرجُل يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنة؟ قال: «إن اللهَ جميلٌ يحب الجمالَ؛ الكبرُ بطَرُ الحقِّ، وغَمطُ الناس»[6]
6. الكبرياء أعلى من العظمة؛ ولهذا جعلها بمنزلة الرّداء كما جعل العظمة بمنزلة الإزار؛ ولهذا كان شعار الصّلوات والأذان والأعياد هو التّكبير، وكان مستحبًّا في الأمكنة العالية كالصّفا والمروة، وإذا علا الإنسان شرفًا أو ركب دابّةً ونحو ذلك، وبه يُطفَأ الحريق وإن عظم، وعند الأذان يَهرُب الشّيطان[7].
7. قَالَ تَعَالَى:
﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾
[غافر: ٦٠]
وكلُّ مَن استكبر عن عبادة اللّه لا بدَّ أن يَعبُد غيره؛ فإنَّ الإنسان حسَّاس يتحرَّك بالإرادة[8].
8. الكِبْرُ حرامٌ من الغنيِّ ومن الفقير؛ لكنه من الفقير أشدُّ؛ ولهذا تجد الناس إذا رَأَوْا غنيًّا متواضعًا، استغربوا ذلك منه، واستعظموا ذلك منه، ورأوا أن هذا الغنيَّ في غاية ما يكون من الخُلُق النَّبيل؛ لكن لو يجدون فقيرًا متواضعًا، لكان من سائر الناس؛ لأن الفقر يوجب للإنسان أن يتواضع؛ لأنه لأيِّ شيء يستكبر؟![9]
9. في الحديث إشارة إلى أن المؤمن متواضعٌ هيِّنٌ ليِّنٌ خاضعٌ لربِّه سبحانه، لا يتعالى على خَلق الله.
10. اختصَّ اللهُ سبحانه نفْسه ببعض الصفات التي لا يحِقُّ لمخلوق أن يشاركَه فيها، ومَن نازَعَه فيها كان جزاؤه العذابَ الأليمَ في نار السعير، ومن هذه الصفات: الكَبْرِياءُ والعظمة[1].
11. الكبرُ مقابل للإيمان، والكبر ينافي حقيقة العبوديّة؛ «يقول اللّه: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذّبته» فالعظمة والكبرياء من خصائص الرّبوبيّة[2].
12. الكِبْرُ يُنافي حقيقةَ العُبودية والاستسلام لرب العالَمين.
13. التكبُّر صفة ذاتية؛ يُقال: فلان متكبِّر، إذا أنزل نفسَه فوق منزلتها، فلا يَنقَاد لأحد. والعظمةُ صفةٌ إضافية؛ يُقال: فلانٌ له عَظَمةٌ، إذا كَثُر ما يتعلَّق به من الخَدَم والحَشَم، ويقال: رَكِب الأميرُ في عَظَمته؛ أي: في كثير من حواشيه وأجناده[3].
14. إذا كان المصَوِّرُ الذي يصنَع الصورةَ بيده من أشدِّ الناس عذابًا يوم القيامة؛ لتشبُّهه بالخالق جلَّ وعلا في مجرَّد الصنعة، فما الظنُّ بالتشبُّه به في خصائص الربوبية والأُلوهية؟!
15. على العبد أن يتشبَّه بالله تعالى في بعض الصفات؛ كالرحمة والكرم وغير ذلك مما أُمر به، ويُفرد الله تعالى في صفاته التي لا يُشبِهُه فيها أحدٌ، والتي اختصَّ بها لنفْسه، فلا ينازع الله فيها، ولا يَنسُبها لأحد من الخَلق.
16. هذا من الأحاديث التي تمرُّ كما جاءت عن النبيِّ ﷺ، ولا يُتعرَّض لمعناها بتحريف أو تكييف؛ وإنما يُقال: هكذا قال الله تعالى فيما رواه النبيُّ ﷺ عنه، فمن نازَعَ الله في عِزَّته وأراد أن يتَّخِذ سلطانًا كسلطان الله، أو نازعَ اللهَ في كبريائه، وتكبَّر على عباد الله، فإن الله يعذِّبه على ما صنع ونازَع الله تعالى فيما يختصُّ به[4].
17. لا يقال: إن من صفات الله الرداء والإزار؛ بل يقال: الكبرياءُ والعظمةُ رداؤُه وإزارُه.
18. الحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ[1].
19. اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين؛ الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ[2].
20. لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام؛ كما قال تعالى:
{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}
[النحل: 102]
وقال:
{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ 193 عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ 194 بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [3]
[الشعراء: 193-195]
21. لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة[4].
22. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات[5].
23. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو سورة منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة[6].
24. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ؛ كما قال سبحانه:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
[الحجر: 9]
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص[7].
25. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه[8].
26. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية[9].
27. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية[10].
28. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية[11].
29. من الفروق بين القرآن والحديث القدسيِّ: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر أحدٌ منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ[12].
30. إن أحسن ما يقال في الحديث القدسيِّ: إنه ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزّ وجل، ونقتصر على هذا ولا نبحث هل هو من قول الله لفظًا ومعنى، أو من قول الله معنى ومن لفظ النبيِّ ﷺ؛ لأن هذا فيه نوع من التكلُّف، وقد نُهينا عن التكلُّف، ونُهينا عن التنطُّع وعن التعمُّق[13].
31. معنى الاختصاص في قوله: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري» من وجهين؛ أحدهما: أنه من التشبيه، كما أن رداء الرجل وإزاره مختصَّان به لا يُشاركه فيهما غيرُه، كذلك الكبرياء والعظمة مختصَّتان بالله تعالى، لا يوصَف بهما غيره. وثانيهما: تعريف المسنَد إليه (أي: المبتدَأ) بالألف واللام، والمسنِد (الخبر) بالإضافة، يدلُّ على القَصْرِ وانحصار الكبرياء والعظمة في الله تعالى[1].
32. عبَّر الله تعالى عن الكبرياء والعظمة بالرداء والإزار على طريقة الاستعارة المستعمَلة عند العرب؛ كما قال سبحانه:
﴿ولباس التقوى ذلك خير﴾
فاستعار للتقوى لباسًا[2]. ومنه قول النبيِّ ﷺ: «الأنصار شِعار، والناس دِثار»[3]، والشِّعار: الثوب الذي يلي الجسد، والدِّثار: الثوبُ الذي يلي الشِّعارَ، وليس المرادُ بالرداء والإزار الثيابَ المحسوسة؛ لكن المناسبة أن هذين الثوبين يخصُّان اللابس؛ بحيث لا يمكِنه استغناؤه عنهما، ولا يَقبلان المشاركة.