المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي ابن عبَّاسٍ ﭭ: «كنتُ خَلْفَ رسولِ الله ﷺ يومًا»: يُحتمَل أنه كان راكبًا خلفَه، أو ماشيًا خلفَه. «فقال: يا غلامُ»: لأن ابن عباس ﭭ كان صغيرًا. «إنِّي أُعلِّمُكَ كلماتٍ»؛ أي: فانتبه لها، واحفظها، وافهمها، وبلِّغها، ينفعْك الله بها، وهذه الكلمات هي: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احفَظِ اللهَ تَجِدْه تُجاهَكَ»؛ أي: احفظ حدودَه وحقوقَه، مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه، يَحفَظْك في دينك ونفسك وأهلك ومالك، ووجدتَه معك بحفظه أينما توجَّهتَ. «إذا سألْتَ فاسأَلِ اللهَ»: لا تسأل المخلوق شيئًا، ولو سألتَه ما يَقدِر عليه، فهو سبب، والمسبِّب هو الله تعالى. «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»: وتوكَّلْ عليه، يُعِنْكَ، وإذا استعنتَ بمخلوق فيما يَقدِرُ عليه، فاعتقد أنه سببٌ، وأن الله هو الذي سخَّره لك. «واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لوِ اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعوكَ بشيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولوِ اجْتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ، لم يَضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليكَ»: فإنَّ نَفْعَ الخلق للإنسان أو ضُرَّهم له، هو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كَتَبه له أو عليه، فاعتمد على الله تعالى، وارضَ بقضائه وقَدَره، واعلم أن الخلق مهما قَوُوا وكَثُروا، لا يجلبون خيرًا، ولا يدفعون ضرًّا، إلا بإذن الله تعالى. «رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصحُفُ»: يعني أن ما كتبه الله تعالى قد انتهى؛ فالأقلام رُفِعت، والصُّحف جَفَّت، ولا تبديل لكلمات الله.
الشرح المفصَّل للحديث:
«إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»
في هذا الحديث وصيَّةٌ عظيمةٌ من النبيِّ ﷺ لابن عبَّاس ﭭ خاصَّةً، ولأمَّته عامَّةً، بيَّن فيها النبيُّ r ثمراتِ مراقبةِ الله - عزَّ وجلَّ - وتقواه، وركَّز على أمور عظيمة من أمور العقيدة، وهي الدعاءُ، والاستعانةُ بالله وحدَه، والإيمانُ بالقضاء والقدر.
قال بعض العلماء: تدبَّرتُ هذا الحديث، فأدهشني وكدتُ أَطيشُ، فوا أسفًا من الجهل بهذا الحديث، وقلَّة التفهُّم لمعناه![1]
ولأن هذا الحديث جمَعَ من الوصايا الْمُهمَّة والقواعد الكلية لأمور الدين؛ فقد عُنِيَ به أهلُ العلم، وجعلوا عليه مدارَ التوحيد، ولا عَجَبَ أن يُفرِد له الحافظ ابن رجب كتابًا خاصًّا في شرحه، وذِكْر فوائده، وهو كتاب: "نور الاقتباس في وصيَّة النبيِّ ﷺ لابن عبَّاس".
استهلَّ النبيُّ ﷺ كلامَه بقوله: «يا غلامُ، إني أُعلِّمكَ كلماتٍ»، مما يجذِب الانتباهَ، ويَسترعي الفَهْم، ويَجلِب النَّظرَ، وهذا مما ينبغي على الداعية اتِّباعُه، أن يستهلَّ كلامَه بما يجعل المتلقِّيَ متشوِّقًا إليه، ومن ذلك النداء.ثم قال: «احفظ الله»؛ أي: احفظ حدودَه وحقوقَه، فكن مطيعًا لربِّك، مؤتمِرًا بأوامره، منتهيًا عمَّا نهاك عنه
﴿ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ ﴾
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ 33 مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ ﴾
قال بعض السَّلَف: "مَن اتَّقى الله، فقد حفِظ نفْسَه، ومَن ضيَّع تقواه، ضيَّع نفْسه، والله الغنيُّ عنه"[3]
وفي قوله :«يحفظك» مكافأة؛ إذِ الجزاءُ من جنس العمل، فإن حَفِظْتَ اللهَ حفظكَ اللهُ؛
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾
﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾
﴿ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴾
وحفظُ الله للعبد على نوعين:
النوع الأول: حفظُ العبدِ في بَدَنه، ومَعَاشِه، ومالِه ودُنياه؛
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ﴾
كان بَعْضُ الْعُلَمَاء قد جَاوَزَ الْمِائةَ سَنَةً، وهو مُمَتَّعٌ بقُوَّته وعقله، فَوَثَبَ يومًا وَثْبَةً شديدة، فَعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عن المعاصي في الصِّغَرِ، فحفظها اللَّهُ علينا في الْكِبَرِ. وعَكْسُ هذا أن بعض السَّلَفِ رأى شَيْخًا يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيفٌ ضَيَّعَ اللَّهَ في صِغَرِهِ، فَضَيَّعَهُ اللَّهُ في كِبَرِهِ [4]
وروى الإمام أحمدُ في مسنَده عن حُميدِ بنِ هلالٍ، عن بعض الصحابة، أن النبيَّ ﷺ أراه بيتًا، ثم قال: «إن امرأةً كانت فيه، فخَرَجت في سريةٍ من المسلمين، وتركت ثِنْتَي عشْرةَ عَنْزًا لها، وصِيصِيَتَهَا[5]كانت تَنسِج بها»، قال: «ففقدَتْ عَنْزًا من غنمها، وصِيصِيَتَهَا، فقالت: يا ربِّ، إنكَ قد ضمِنْتَ لِمَن خرج في سبيلكَ أن تحفَظ عليه، وإني قد فقدتُ عَنْزًا من غنمي وصِيصِيَتِي، وإني أَنْشُدُكَ عَنزي وصِيصِيَتِي»، قال ﷺ: فجعل رسول الله يذكُر شدَّة مناشدتها لربها - تبارك وتعالى -
«فأصبحتْ عَنزُها ومِثلها، وصِيصِيتها ومثلها، وهاتيكَ فأْتِها فاسألها إن شئتَ»، قال: قلتُ: بل أُصدِّقك
إنَّ حفظ الله للعبد لا يقتصر عليه وحدَه؛ بل يَشمَله وعيالَه وأهله؛ قال ابْنُ الْمُنْكَدِرِ: "إِنَّ اللَّه ليحفظُ بِالرجل الصالح ولدَه، وولدَ ولدِه، وَالدُّوَيْرَاتِ التي حَوْلَه، فما يزالون في حفظ من اللَّه وسِتْرٍ" [7]
قال سعيد بن المسيِّب لابنه: "إني لأَزيد في صلاتي من أجْلك؛ رجاءَ أن أُحفَظَ فيكَ، وتلا
﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾
هو الحفظ في الدِّين، بأن يثبِّت الله - عزَّ وجلَّ - عبدَه على طاعته، ويصرِفَه عن معصيته، وهو أعظم نوعَيِ الحفظ؛
﴿ كَذَٰلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ۚ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾
ذكر الحسن البصريُّ أهلَ المعاصي فقال: هانوا عليه فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصَمَهم.
وقال ابن عباس ﭭ فيقوله تعالى:
﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ﴾
يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجرُّه إلى النار[9]
وقوله: «احفظ الله تَجِدْه تُجَاهك» فيه استشعارُ المعيَّة الخاصَّة لله - عزَّ وجلَّ - ففي الحديث القُدسيِّ
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:
«إن الله قال: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُهُ، كنتُ سمْعَه الذي يسمَع به، وبصرَه الذي يُبصِر به، ويده التي يبطِشُ بها، ورِجْله التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعِيذنَّه»
وفيه أن العبد إنْ حفِظ ربَّه في الرخاء، وجَدَ ربَّه في الشدائد، كما حصل للثلاثة أصحاب الغار الذين روى النبيُّ ﷺ قصتَهم في الحديث المتَّفَق عليه[11]، قال قتادة $: "مَن يتَّقِ الله يكنْ معه، ومَن يكن الله معه، فمعه الفئةُ التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يَضِلُّ" [12].
ثم يُعَرِّج النبيُّ ﷺ إلى بابٍ عظيم من أبواب الاعتقاد، وهو الطلب والقصد والدعاء، فيقول: «إذا سألتَ فاسألِ الله»، السؤال هو الدعاء، وفي الحديث: عن النُّعمان بنِ بَشير رضي الله عنه، قال: سمعتُ النبيَّ ﷺ يقول: «الدعاء هو العبادة»،
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾
وإنما نهى النبيُّ ﷺعن سؤال غير الله؛ لأن السؤال عبادةٌ من العبادات التي لا يجوز صَرْفُها لغير الله؛ لأن السؤال فيه إظهار الذلِّ من السائل، والْمَسكَنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقُدرة المسؤول على دفع هذا الضرر، ونَيل المطلوب، وجلب المنافع، ودَرْءِ الْمَضارِّ، ولا يَصلُح الذلُّ والافتقار إلا لله وحدَه؛ لأنه حقيقةُ العبادة[14]
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عوفِ بنِ مالكٍ الأشجعيِّ ، قال: كنا عند رسول الله ﷺ تسعةً أو ثمانيةً أو سبعةً، فقال: «ألا تُبايعون رسولَ الله؟» وكنا حديثَ عَهْد ببيعة، فقلنا: قد بايَعْنَاكَ يا رسول الله، ثم قال: «ألا تُبايعون رسولَ الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تُبايعون رسول الله؟» قال: فبَسَطْنَا أيديَنا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلامَ نُبايعُك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصلواتِ الخمس، وتطيعوا»، وأَسَرَّ كلمةً خَفيةً: «ولا تسألوا الناس شيئًا». فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النَّفَر يَسقُط سوطُ أحدهم، فما يسأل أحدًا يُناوله إيَّاه[15]
ولأن العبد عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مَصَالحه، ودَفْعِ مَضارِّه، ولا مُعِينَ له على مصالح دينه ودنياه إلا اللهُ - عزَّ وجلَّ - فمَن أعانه الله فهو الْمُعان، ومَن خذَله فهو المخذول؛
﴿وإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
﴿ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلً﴾
فإذا ترك الإنسانُ سؤالَ مَن يَقدِر على حاجته إلى مَن لا يقدر، كان ذلك حُمقًا وغباءً.
"والله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على مَن لا يسأله، ويستدعي مِن عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنقُص من مُلكه شيءٌ، والمخلوق بخلاف ذلك كلِّه: يكره أن يُسأل؛ لعجزه وفَقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبِّهٍ لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!
وقال طاوسٌ لعطاء رحمهما الله: إياك أن تطلب حوائجَكَ إلى مَن أغلق بابه دونَكَ، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمَن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة أمرك أن تسأله، ووعدكَ أن يجيبكَ[16]
وقال بعض السلف: يا ربِّ، عجبتُ لمَن يَعرِفك كيف يرجو غيرَكَ؟! وعجبتُ لمَن يَعرِفك كيف يَستعين بغيرك؟![17]
وفي قوله ﷺ: «وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله» تأكيدٌ على توحيد الله - عزَّ وجلَّ - في الطلب؛ فلا يُرجى غيره، ولا يُستعان بغيره، ولا يُتعلَّق بغيره في جميع أموره، ما قلَّ منها وما كثُر؛
﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ﴾
وقد كان النبيُّ أحرصَ الناس على تعليم الأمَّة الاستعانةَ بالله؛
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ ﷺ قال:
«احرِصْ على ما ينفعُكَ، واستعِنْ بالله ولا تَعجِزْ»
وعن معاذِ بنِ جبلٍ، أن رسول ﷺأخذ بيده وقال:
«يا معاذُ، والله إني لأُحِبُّكَ، والله إني لأُحبكَ»، فقال: «أوصيكَ يا معاذُ، لا تدعَنَّ في دُبر كلِّ صلاة تقول: اللهم أعنِّي على ذِكركَ وشُكركَ وحُسْن عبادتكَ»
وقوله ﷺ: «إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله» مُنتزَعٌ من قوله تعالى:
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
فإن الله - عزَّ وجلَّ - لَمَّا أمَر بطاعته وحفظ حقوقه، أرشدَ بعدها إلى دعائه وحدَه، والدعاءُ هو العبادة، ثم أرشدَ بعدها إلى الاستعانة بالله وحدَه. وهي كلمة عظيمة جامعة، يقال: إن سرَّ الكتب الإلهية كلها ترجِع إليها[21].
وقوله : «واعلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لوِ اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعوكَ بشيءٍ، لم يَنفَعوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ لكَ، ولوِ اجْتَمَعوا على أنْ يَضُرُّوكَ بشيءٍ، لم يَضُرُّوكَ إلَّا بشيءٍ قد كتَبَه اللهُ عليكَ» فيها خلاصةُ الحديث كله؛ فإن العبد إذا علم أنَّ أمره كلَّه بيد الله - عزَّ وجلَّ - لا يستطيع أحدٌ من الخَلق أن ينفعه أو يضرَّه؛ فإنه يُحسِن القصدَ إليه، ويحفظ حدودَه وأحكامَه، ويُخلص العبادةَ والسؤالَ له وحدَه.
و"اعلم أن مَدَار جميع هذه الوصيَّة على هذا الأصل، وما ذُكر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه؛ فإن العبد إذا عَلِم أن لن يصيبه إلا ما كَتَب اللهُ له من خير وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، عَلِم حينئذ أن الله وحدَه هو الضارُّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيدَ ربِّه - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده؛ فإن المعبود إنما يُقصَد بعبادته جلبُ المنافع، ودفعُ الْمَضارِّ؛ ولهذا ذمَّ اللهُ مَن يعبُد مَن لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابده شيئًا، فمَن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء، والمحبَّة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخَلق جميعًا، وأن يتَّقيَ سُخْطَه، ولو كان فيه سخط الخَلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء مَن يرجون نفعه من دونه"[22]
وقوله ﷺ: «رُفعت الأقلامُ وجَفَّت الصحفُ»: هذه كنايةٌ عن نفوذ المقادير وكتابتها والفراغ منها؛ فإن الإنسان إذا كَتَب شيئًا، وفَرَغ من كتابته، وبعُد عهده به، رُفعت الأقلام التي كُتبت به، وجفَّ الْمِداد الذي على الصحيفة المكتوب عليها.
يُريد أن الله - عزَّ وجلَّ - قد كتب مقاديرَ العباد وما يُصيبهم من الخير والشرِّ، وما يقترفون من الأفعال، وما ينزل عليهم من المصائب والآفات؛
قال تعالى: ﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [الحديد: 22].
وأخرج مسلم عن عبدِ الله بنِ عمرِو بنِ العاصِ ، قال: سمعتُ رسول الله r يقول: «كتَب اللهُ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السمواتِ والأرضَ بخمسين ألْفَ سنةٍ، قال: وعرشُه على الماء»[23]
فالمقصود أن الله - عزَّ وجلَّ - قد كتب مقادير العباد قبل أن يخلُقَهم، ولن يقدر أحدٌ على أن يغيِّر شيئًا كتبه الله؛ فإذا كان الأمر كذلك، وجب صرفُ الدعاء والمسألة له، والاستعانة به وحدَه.
1.
11. رواه البخاريُّ (2215)، ومسلم (2743)، من حديث ابن عمرَ ﭭ.
النقول
قال ابنُ دقيق العيد رحمه الله: "«احفظ الله يحفظك» ومعناه: كن مطيعًا لربِّك، مؤتمرًا بأوامره، منتهيًا عن نواهيه. وقوله: «احفظ الله تجده تجاهك»؛ أي: اعمل له بالطاعة ولا يراك في مخالفته، فإنك تجده تُجاهك في الشدائد، كما جرى للثلاثة الذين أصابهم المطر فأَوَوْا إلى غار، فانحدرت صخرة فانطبقت عليهم، فقالوا: انظروا ما عملتم من الأعمال الصالحة، فاسألوا الله تعالى بها فإنه ينجِّيكم، فذكر كلُّ واحد منهم سابقةً سَبَقت له مع ربِّه، فانحدرت عنهم الصخرة، فخرجوا يمشون، وقصتهم مشهورة في الصحيح. وقوله ﷺ: «إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنت فاستعن بالله»: أرشده إلى التوكُّل على مولاه، وأن لا يتَّخِذ إلهًا سواه، ولا يتعلَّق بغيره في جميع أموره، ما قلَّ منها وما كَثُر،
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ﴾
فبقدر ما يَركُن الشخص إلى غير الله تعالى بطَلَبه، أو بقَلْبِه، أو بأمَلِه، فقد أعرض عن ربِّه بمن لا يضرُّه ولا ينفعه، وكذلك الخوف من غير الله، وقد أكَّد النبيُّ ذلك فقال: «واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعونك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك»، وكذلك في الضرِّ، وهذا هو الإيمان بالقدر، والإيمانُ به واجب، خيرِه وشرِّه، وإذا تيقَّن المؤمن هذا، فما فائدة سؤال غير الله والاستعانة به؟! وكذلك إجابة الخليل - عليه الصلاة والسلام - جبريل - عليه السلام - حين سأله وهو في الهواء: ألك حاجة؟ قال: "أما إليك فلا"[1] وقوله: «رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف»، هذا تأكيد أيضًا لِما تقدَّم؛ أي: لا يكون خلاف ما ذكرت لك بنسخ ولا تبديل" [2].
قال السيوطيُّ رحمه الله: "«احفظ الله يحفظك»: "قال الفاكهانيُّ: "معناه: احفظ أمر الله واتَّقِه، فلا يَرَاك حيث نهاك، واحفظ حدود الله ومراسمه التي أوجبها عليك، فلا تُضيِّع منها شيئًا، فإذا فعلتَ ذلك، حفظك الله في نفسك ودينك ودنياك. وهذا من أحسنِ العبارات عن هذا المعنى، وأبلغها، وأجزلها، وهو من جوامع الكلم التي أوتيها".
«احفظ الله تَجِدْة تُجَاهَ»: قال الفاكهانيُّ: "معنا تجده معَك بالحفظ والإحاطة والتأييد حيث ما كنتَ، وهو من أبلغ المجاز وأحسنه".
«رُفعَتِ الأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ»: قال الفاكهانيُّ: معناه: أنَّ ذلك أمر ثابت لا يبَّدل، ولا يُنسَخ، ولا يغيَّر عمَّا هو عليه"[3].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«احْفَظِ اللهَ يَحفَظْكَ»: هذه كلمة عظيمة جليلة، و«احفظ» تعني: احفظ حدوده وشريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وكذلك بأن تتعلَّم من دينه ما تقوم به عبادتك ومعاملاتك، وتدعو به إلى الله - عزَّ وجلَّ - واحفظ الله يحفظك في دينك وأهلك ومالك ونفسك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - يجزي المحسنين بإحسانه، وأهم هذه الأشياء هو أن يحفظك في دينك، ويسلِّمك من الزيغ والضلال؛ لأن الإنسان كلما اهتدى، زاده الله - عزَّ وجلَّ – هُدًى؛
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ
وعُلِمَ من هذا أن من لم يحفظ الله، فإنه لا يستحقُّ أن يحفظه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وفي هذا الترغيبُ على حفظ حدود الله - عزَّ وجلَّ.
الكلمة الثانية: قال: «احْفَظِ اللهَ تَجِدهُ تجَاهَك»: ونقول في قوله: «احْفَظِ الله» كما قلنا في الأولى، ومعنى «تجده تجاهك وأمامك» معناهما واحد؛ يعني: تجد الله - عزَّ وجلَّ - أمامك يدلُّك على كلِّ خير، ويقرِّبك إليه، ويهديك إليه، ويَذُود عنك كلَّ شر، ولا سيَّما إذا حفظتَ الله بالاستعانة به، فإن الإنسان إذا استعان بالله - عزَّ وجلَّ - وتوكَّل عليه، كان الله حسبَه، ولا يحتاج إلى أحد بعد الله؛
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
أي: حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فإذا كان الله حسبَ الإنسان، فإنه لن يناله سوء؛ ولهذا قال: «احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ».
الكلمة الثالثة: «إذَا سَألْتَ فَاسْأَلِ الله»: إذا سألتَ حاجة، فلا تسأل إلا الله - عزَّ وجلَّ – ولا تسأل المخلوق شيئًا، وإذا قُدِّر أنك سألت المخلوق ما يَقدِر عليه، فاعلم أنه سبب من الأسباب، وأن المسبِّب هو الله - عزَّ وجلَّ - لو شاء لمنعه من إعطائك سؤالَك، فاعتمد على الله تعالى.
الكلمة الرابعة: «وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ»: فإذا أردتَ العَون، وطلبتَ العون من أحد، فلا تطلب العون إلا من الله - عزَّ وجلَّ - لأنه هو الذي بيده ملكوت السموات والأرض، وهو يعينك إذا شاء، وإذا أخلصتَ الاستعانة بالله وتوكَّلت عليه، أعانك، وإذا استعنتَ بمخلوق فيما يَقدِر عليه، فاعتقد أنه سببٌ، وأن الله هو الذي سخَّره لك. وفي هاتين الجملتين دليل على أنه من نَقْصِ التوحيد أن يسأل الإنسان غير الله؛ ولهذا تُكره المسألة لغيرِ الله - عزَّ وجلَّ - في قليل أو كثير، والله سبحانه وتعالى إذا أراد عونك، يسَّر لك العون، سواء كان بأسباب معلومة أو غير معلومة، فقد يُعينك الله بسبب غير معلوم لك، فيدفع عنك من الشر ما لا طاقة لأحد به، وقد يُعينك الله على يدِ أحد من الخلق يسخِّره لك، ويُذلِّـلــه لك؛ حتى يُعينك؛ ولكن مع ذلك لا يجوز لك إذا أعانك الله على يد أحد أن تنسى المسبِّب، وهو الله - عزَّ وجلَّ.
الكلمة الخامسة: «وَاعْلَم أَنَّ الأُمّة لو اجْتَمَعَت عَلَى أن يَنفَعُوكَ بِشيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ لَك»: الأمة كلها من أولها إلى آخرها، لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وعلى هذا؛ فإن نفع الخلق الذي يأتي للإنسان، فهو من الله في الحقيقة؛ لأنه هو الذي كَتَبه له، وهذا حثٌّ لنا على أن نعتمد على الله - عزَّ وجلَّ - ونعلم أن الأمة لا يجلبون لنا خيرًا إلا بإذن الله - عزَّ وجل.
الكلمة السادسة: «وإِن اجْتَمَعوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشيءٍ لَمْ يَضروك إلا بشيءٍ قَد كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ»: وعلى هذا؛ فإن نالك ضرر من أحد، فاعلم أن الله قد كتبه عليك، فارضَ بقضاء الله وبقدره، ولا حرج أن تحاول أن تدفع الضرَّ عنك؛ لأن الله
(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ)
الكلمة السابعة: «رُفعَت الأَقْلامُ، وَجَفَّت الصُّحُفُ»: يعني أن ما كتبه الله - عزَّ وجلَّ - قد انتهى؛ فالأقلام رُفِعت، والصُّحف جفَّت، ولا تبديل لكلمات الله"[4]
قال ابن رجب الحنبليُّ رحمه الله: "والله سبحانه يحب أن يُسأل ويُرغب إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودعائه، ويغضب على مَن لا يسأله، ويستدعي مِن عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كلِّهم سُؤْلَهم من غير أن يَنقُص من مُلكه شيءٌ، والمخلوق بخلاف ذلك كلِّه: يكره أن يُسأل؛ لعجزه وفَقره وحاجته، ولهذا قال وهب بن منبِّهٍ لرجُل كان يأتي الملوك: ويْحَكَ! تأتي مَن يُغلق عنك بابه، ويُظهر لك فقره، ويواري عنك غِنَاه، وتدع مَن يفتح لك بابه نصفَ الليل ونصفَ النهار، ويُظهر لك غِناه، ويقول: ادْعُني أستجبْ لك!
وقال طاوسٌ لعطاء رحمهما الله: إياك أن تطلب حوائجَكَ إلى مَن أغلق بابه دونَكَ، ويجعل دونها حُجَّابَه، وعليك بمَن بابُه مفتوح إلى يوم القيامة أَمَرك أن تسأله، ووعدكَ أن يجيبكَ[5]
قال ابن رجب رحمه الله: "اعلم أن مَدَار جميع هذه الوصيَّة على هذا الأصل، وما ذُكر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه؛ فإن العبد إذا عَلِم أن لن يصيبه إلا ما كَتَب اللهُ له من خير وشرٍّ، ونفع وضُرٍّ، وأن اجتهاد الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غير مفيد البتَّةَ، عَلِم حينئذ أن الله وحدَه هو الضارُّ النافع، المعطي المانع، فأوجب ذلك للعبد توحيدَ ربِّه - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالطاعة، وحفظ حدوده؛ فإن المعبود إنما يُقصَد بعبادته جلبُ المنافع، ودفعُ الْمَضارِّ، ولهذا ذمَّ اللهُ مَن يعبُد مَن لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابده شيئًا، فمَن يعلم أنه لا ينفع ولا يضرُّ، ولا يعطي ولا يمنع غير الله، أوجب له ذلك إفراده بالخوف والرجاء، والمحبَّة والسؤال، والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعة الخَلق جميعًا، وأن يتَّقيَ سخطه، ولو كان فيه سخط الخَلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عند الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء مَن يرجون نفعه من دونه»