عن أبي هريرة : أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ ﷺ: أوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».
عن أبي هريرة : أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ ﷺ: أوْصِنِي، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ»، فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: «لَا تَغْضَبْ».
يروي أبو هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ ﷺ: أوْصِنِي، قَالَ: «لا تَغْضَبْ»: طلب أحد الصحابة وصيَّةً جامعةً من النبيِّ ﷺ فقال له: لا تغضب. (فَرَدَّدَ مِرَارًا)؛ أَيْ: رَدَّدَ السُّؤالَ يلْتَمِس أنفعَ من ذلك، أَو أبلغَ، أو أَعَمَّ، فَلَمْ يَزِدْهُ النبيُّ ﷺ: على قوله: «لَا تَغْضَبْ»؛ أي: اقتصر على وَصيَّته بعدم الغضب.
الشرح المفصَّل للحديث:يوجِّه النبيُّ ﷺ أمَّته إلى كلِّ خير، وينهاهم عن كلِّ شرٍّ، بطُرقٍ ووسائلَ كثيرةٍ؛ منها أن يسأله أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - عن أمر، فيُفيض في الإجابة من خلال كلمات معدودة، وربما كلمة واحدة تجمع خصال الخير، وتنهى عن خصال الشرِّ، وهذا مما حباه الله به من جوامع الكَلِم.
وفي هذا الحديث يَطلُب أحد الصحابة - رضوان الله عليهم - من النّبيِّ ﷺ أن يوصيَه وصيّةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليَحفَظها عنه، فوصَّاه النّبيُّ أن لا يَغضَب، ثمّ ردَّد هذه المسألة عليه مِرارًا، والنّبيُّ ﷺ يردِّد عليه هذا الجواب.
وهذا الجواب من النبيِّ ﷺ: «لا تغضب» يدلُّ على أنّ الغضب جِمَاع الشّرِّ، ومِفتاح كلِّ شرٍّ، وأنّ التّحرُّز منه جماع الخير، حتى إن بعض العلماء قد فسَّروا حُسن الخُلق بترك الغضب.
وقوله: (فردّد مرارًا)؛ أي: ردَّد السّؤال يلتمس أنفعَ من ذلك، أو أبلغ، أو أعمَّ، فلم يَزِدْه النبيُّ ﷺ على قوله: «لا تغضب».
"والغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ"[1].
إن الغضبَ يَخرُج به الإنسانُ من اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، وينوي الحقد والبغضاء، وغير ذلك من القبائح المحرَّمة، كلُّ ذلك من الغضب، أعاذنا الله منه.
لذا؛ "كان من دعائه ﷺ:
«أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[2]
وهذا عزيز جدًّا، وهو أنّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِب أو رَضِيَ؛ فإنّ أكثر النّاس إذا غضب لا يتوقَّف فيما يقول"[3].
"ومعنى قوله: «لا تغضب»: اجتنِبْ أسباب الغضب، ولا تتعرَّض لما يَجلِبه، وأمّا نفس الغضب، فلا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجبلَّة. وما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد. وقيل: معناه: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيحمله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب.
هذا وإنّ مجاهدة النّفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنّه ﷺ جعل الّذي يملك نفسه عند الغضب أعظم النّاس قوّةً. ولعلَّ السّائل كان غَضُوبًا، وكان النّبيُّ ﷺ يأمر كلَّ أحد بما هو أَوْلى به؛ فلهذا اقتصر في وصيّته له على ترك الغضب. ولقد جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فينتقص ذلك من الدِّين... ومن تأمَّل هذه المفاسد، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ"[4].
"وقول النبيِّ ﷺ لِمَنِ اسْتَوْصَاهُ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، والتّواضع والاحتمال، وكفِّ الأذى، والصّفح والعفو، وكظم الغيظ، والطّلاقة والبِشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
[الأعراف: ١٥٤]
فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب"[5].
وقد "مَدَح الله تعالى الذين يَغفِرون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر أن ما عنده خيرٌ وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبُّهم بإحسانهم في ذلك، وقد رَوَى معاذُ بنُ جبلٍ عن النبيِّ ﷺ أنه قال:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»[6]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله ﷺ قال:
«لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إنَّما الشَّدِيدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ»[7]
والصُّرَعة: الذي يَصرَع الناس ويَكثُر منه ذلك، فأخبر النبيُّ ﷺ أن الذي يَقْوَى على مِلك نفسه عند الغضب ويردُّها عنه، هو القويُّ الشديد، والنهاية في الشدَّة؛ لغلبته هواه الْمُرْدِي الذي زيَّنه له الشيطان الْمُغْوي، فدلَّ هذا أن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأن النبيَّ ﷺ جعل للذي يملك نفسَه عند الغضب من القوَّة والشدَّة، ما ليس للذي يَغلِب الناس ويَصرَعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصريُّ حين سُئل: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال: جهادُك نفسَكَ وهَواك"[8].
أما الغضب لله فهو محمود، "والواجب على المؤمن أن تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه اللّه له، وربّما تناولها بنيّة صالحة، فأُثيب عليها، وأن يكون غضبُه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}
[التوبة: 14 - 15]
وهذه كانت حالَ النّبيّ ﷺ، فإنّه كان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يَضرِب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه"[9].
"ويُعِين على ترك الغضب استحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثَمَرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان، وأن يتوضَّأ؛ فقد كان النّبيّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تدفع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من ملك نفسه عند غضبه؛ ففي الصحيحين عن سُلَيْمانَ بنِ صُرَدَ، قال: اسْتَبَّ رجلانِ عند النَّبيِّ ﷺ، وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فَقَالُوا لِلرَّجُلِ: أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ؟ قَالَ: "إِنِّي لَسْتُ بِمَجْنُونٍ"[10]
فالاستعاذةُ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضب، وهي من أقوى السلاح على دفع كَيده؛ حيث إن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه من رضا الله تعالى.
"وقوله ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: فيه أنّ الغضب في غير اللّه تعالى من نزغ الشّيطان، وأنّه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، وأنّه سبب لزوال الغضب، وأمّا قولُ هذا الرّجل الّذي اشتدَّ غضبه: (هل ترى بي من جنون؟!) فهو كلام من لم يُفقَّه في دين اللّه تعالى، ولم يتهذَّب بأنوار الشّريعة المكرَّمة، وتوهَّم أنّ الاستعاذة مختصَّة بالمجنون، ولم يعلم أنّ الغضب من نزغات الشّيطان؛ ولهذا يَخرُج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويَفعَل المذموم، وينوي الحقد والبُغض، وغير ذلك من القبائح المترتِّبة على الغضب؛ ولهذا قال النّبيُّ ﷺ للذي قال له: أوصني: «لا تغضب»، فردَّد مرارًا، قال: «لا تغضب»، فلم يَزِده في الوصيّة على «لا تغضب»، مع تَكراره الطّلبَ، وهذا دليل ظاهر في عِظَم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه، ويَحتمِل أنّ هذا القائل: (هل ترى بي من جنون؟!) كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب"[11].
ومما يعالج الغضب: ما قاله النّبيُّ ﷺ في خُطبته:
«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ، فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[12]
وخرَّج الإمام أحمدُ، وأبو داود من حديث أبي ذرٍّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[13]
وقد قيل: إنّ المعنى في هذا أنّ القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجِع أبعدُ عنه، فأمره بالتّباعد عن حالة الانتقام"[14].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا، عَلِّمُوا وَيَسِّرُوا - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ - وَإِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ - مَرَّتَيْنِ»
[15].
"وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ على أنّ الغضبان مكلَّف في حال غضبه بالسُّكوت، فيكون حينئذ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النّبيِّ ﷺ أنّه أمر من غَضِب أن يتلافى غضبه بما يسكِّنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التّكليف له بقطع الغضب، فكيف يُقال: إنّه غير مكلَّف في حال غضبه بما يَصدُر منه؟! وقال عطاءُ بن أبي رباح: ما أبكى العلماءَ بكاءٌ آخِرَ العُمر من غضبة يَغضَبها أحدهم، فتَهدِم عمر خمسين سنةً، أو ستّين سنةً، أو سبعين سنةً، وربَّ غضبةٍ قد أَقحَمت صاحبها مُقحَمًا ما استَقالَه"[16].
هذا وإن الغضب الشديد "لا شكَّ أنه يؤثِّر على الإنسان حتى يتصرَّف تصرُّف المجانين؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غَضِبَ غضبًا شديدًا حتى لا يدريَ ما يقول، فإنه لا عِبْرةَ بقوله، ولا أَثَر لقوله؛ إن كان طلاقًا، فإن امرأته لا تَطلُق، وإن كان دعاءً، فإنه لا يُستجاب؛ لأنه يتكلَّم بدون عقل وبدون تصوُّر. نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة"[17].
قال ابن رجب رحمه الله: "فهذا الرّجل طلب من النّبيِّ ﷺ أن يوصيَه وصيّةً وجيزةً جامعةً لخصال الخير؛ ليحفظها عنه؛ خشيةَ أن لا يحفظها لكثرتها، فوصَّاه النّبيُّ أن لا يغضب، ثمّ ردَّد هذه المسألة عليه مرارًا، والنّبيُّ ﷺ يردِّد عليه هذا الجواب، فهذا يدلُّ على أنّ الغضب جِمَاع الشّرِّ، وأنّ التّحرُّز منه جماع الخير. قال جعفر بن محمّد: الغضب مِفتاح كلِّ شرٍّ. وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة، قال: ترك الغضب. وكذا فسَّر الإمام أحمد، وإسحاق بن راهوَيْهِ حُسن الخلق بترك الغضب، فَقَوْلُهُ ﷺ لِمَنِ اسْتَوْصَاهُ: «لَا تَغْضَبْ» يَحتمِل أمرين؛ أحدهما: أن يكون مراده الأمرَ بالأسباب الّتي توجب حُسن الخُلق من الكرم والسّخاء، والحِلم والحياء، والتّواضع والاحتمال، وكفِّ الأذى، والصّفح والعفو، وكظم الغيظ، والطّلاقة والبِشر، ونحو ذلك من الأخلاق الجميلة؛ فإنّ النّفس إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادةً، أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثّاني: أن يكون المراد: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حصل لك؛ بل جاهد نفسك على ترك تنفيذه، والعمل بما يأمر به؛ فإنّ الغضب إذا ملك ابن آدم كان الآمرَ والنّاهيَ له؛ ولهذا المعنى قال اللّه عزّ وجلّ:
{وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ}
[الأعراف: ١٥٤]
فإذا لم يمتثل الإنسان ما يأمره به غضبه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربّما سكن غضبه، وذهب عاجلًا، فكأنّه حينئذ لم يغضب"[1].
قال ابن حجر رحمه الله: "قال الخطَّابِيُّ: معنى قوله: «لا تغضب»: اجتنِبْ أسباب الغضب، ولا تتعرَّض لما يَجلِبه، وأمّا نفس الغضب، فلا يتأتَّى النّهي عنه لأنّه أمر طبيعيٌّ لا يزول من الجبلَّة. وقال غيره: ما كان من قبيل الطّبع الحيوانيِّ، لا يمكِن دفعه، فلا يَدخُل في النّهي؛ لأنّه من تكليف الْمُحال، وما كان من قَبيل ما يُكتَسب بالرّياضة، فهو المراد. وقيل: معناه: لا تغضب؛ لأنّ أعظم ما ينشأ عن الغضب الكِبْر؛ لكونه يقع عند مخالفة أمر يريده، فيحمله الكبر على الغضب، فالّذي يتواضع حتّى يذهب عنه عزَّة النّفس، يَسلَم من شرِّ الغضب. وقيل: معناه: لا تفعل ما يأمرك به الغضب. وقال ابن بطَّال في الحديث الأوَّل: إنّ مجاهدة النّفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأنّه ﷺ جعل الّذي يملك نفسه عند الغضب أعظمَ النّاس قوّةً. وقال غيره: لعلَّ السّائل كان غَضُوبًا، وكان النّبيُّ ﷺ يأمر كلَّ أحد بما هو أَوْلى به؛ فلهذا اقتصر في وصيّته له على ترك الغضب. وقال ابن التين: جمع ﷺ في قوله: «لا تغضب» خير الدّنيا والآخرة؛ لأنّ الغضب يؤول إلى التّقاطع، ومنع الرِّفق، وربّما آل إلى أن يؤذيَ المغضوب عليه، فيُنتقَص ذلك من الدِّين.... ومن تأمَّل هذه المفاسد، عَرَف مقدار ما اشتملت عليه هذه الكلمة اللّطيفة من قوله ﷺ: «لا تغضب» من الحكمة، واستجلاب المصلحة في درء المفسدة ممّا يتعذَّر إحصاؤه، والوقوف على نهايته، وهذا كلُّه في الغضب الدّنيويِّ، لا الغضب الدّينيِّ"[2].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "مَدَح الله تعالى الذين يَغفِرون عند الغضب، وأثنى عليهم، وأخبر أن ما عنده خيرٌ وأبقى لهم من متاع الحياة الدنيا وزينتها، وأثنى على الكاظمين الغيظَ والعافين عن الناس، وأخبر أنه يحبُّهم بإحسانهم في ذلك، وقد رَوَى معاذُ بنُ جبلٍ عن النبيِّ - عليه السلام - أنه قال:
«مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُؤوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ»[3]"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكان النّبيُّ ﷺ يأمر من غَضِب بتعاطي أسباب تَدفَع عنه الغضب، وتسكِّنه، ويمدح من مَلَك نفسَه عند غضبه؛ ففي الصّحيحين عن سليمانَ بنِ صُرَدَ، قال: استبَّ رجلان عند النّبيِّ ﷺ، ونحن عنده جُلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبه، مُغْضَبًا قد احمرَّ وجهه، فقال النّبيُّ ﷺ:
«إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا، لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»، فقالوا للرّجل: ألا تسمع ما يقول النّبيُّ ﷺ؟ قال: "إنّي لست بمجنون"[5].
وخرَّج الإمام أحمدُ والتّرمذيُّ من حديث أبي سعيد الخدريِّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال في خُطبته:
«أَلَّا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، أَفَمَا رَأَيْتُمْ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ، وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ؟! فَمَنْ أَحَسَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَلْيَلْصَقْ بِالْأَرْضِ»[6]
وخرَّج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث أبي ذرٍّ أنّ النّبيَّ ﷺ قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[7]
وقد قيل: إنّ المعنى في هذا أنّ القائم متهيِّئ للانتقام، والجالس دونه في ذلك، والمضطجِع أبعد عنه، فأمره بالتّباعد عن حالة الانتقام"[8].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وإنما أوصى النبيُّ ﷺ هذا الرجلَ ألَّا يغضب، دون أن يُوصِيَه بتقوى الله، أو بالصلاة، أو بالصيام، أو ما أشبه ذلك؛ لأن حال هذا الرجل تقتضي ذلك؛ ولهذا أوصى غيرَه بغير هذا الشيء؛ أوصى أبا هريرةَ أن يصوم ثلاثةَ أيام من كلِّ شهر، وأن يوتِر قبل أن ينام، وأوصى أبا الدرداءِ بمثل ذلك، أما هذا، فأوصاه ألَّا يغضب؛ لأن النبيَّ ﷺ عَلِم من حاله أنه غَضُوبٌ كثيرُ الغضب؛ فلذلك قال: لا تغضب.
والغضب يَحمِل الإنسانَ على أن يقول كلمةَ الكفر، على أن يطلِّق زوجته، على أن يضرب أمَّه، على أن يَعُقُّ أباه، كما هو مشاهدٌ ومعلوم، ثم تجد الإنسانَ من حين أن ينصرف يَبرُد ثم يَندَم ندمًا عظيمًا، وما أكثرَ الذين يسألون: غضبتُ على زوجتي فطلَّقتُ، غضبتُ عليها فطلَّقتُها بالثلاثة، غضبتُ على فلانة فحرَّمتها عليَّ، وما أشبهَ ذلك، فأنت لا تغضب. لا تغضب؛ فإن الغضب لا شكَّ أنه يؤثِّر على الإنسان حتى يتصرَّف تصرُّف المجانين؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا غَضِبَ غضبًا شديدًا حتى لا يدريَ ما يقول، فإنه لا عِبْرةَ بقوله، ولا أَثَر لقوله؛ إن كان طلاقًا، فإن امرأته لا تَطلُق، وإن كان دعاءً، فإنه لا يُستجاب؛ لأنه يتكلَّم بدون عقل وبدون تصوُّر. نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة"[9].
قال النوويُّ رحمه الله: "«إِنِّي لَأَعْرِفُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ الَّذِي يَجِدُ؛ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»: فيه أنّ الغضب في غير اللّه تعالى من نزغ الشّيطان، وأنّه ينبغي لصاحب الغضب أن يستعيذ فيقول: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، وأنّه سبب لزوال الغضب، وأمّا قول هذا الرّجل الّذي اشتدَّ غضبه: (هل ترى بي من جنون؟!) فهو كلام من لم يُفقَّه في دين اللّه تعالى، ولم يتهذَّب بأنوار الشّريعة المكرَّمة، وتوهَّم أنّ الاستعاذة مختصَّة بالمجنون، ولم يعلم أنّ الغضب من نزغات الشّيطان؛ ولهذا يَخرُج به الإنسان عن اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويفعل المذموم، وينوي الحقد والبُغض، وغير ذلك من القبائح المترتِّبة على الغضب؛ ولهذا قال النّبيُّ ﷺ للذي قال له: أوصني: «لا تغضب»، فردَّد مرارًا، قال: «لا تغضب»، فلم يزده في الوصيّة على «لا تغضب»، مع تَكراره الطّلبَ، وهذا دليل ظاهر في عِظَم مفسدة الغضب، وما ينشأ منه، ويُحتمل أنّ هذا القائل: (هل ترى بي من جنون؟!) كان من المنافقين، أو من جُفاة الأعراب، والله أعلم"[10].
قال ابن رجب رحمه الله: "والغضب: هو غَلَيان دم القلب؛ طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممّن حصل له منه الأذى بعد وقوعه، وينشأ من ذلك كثير من الأفعال المحرَّمة؛ كالقتل والضّرب وأنواع الظُّلم والعُدْوان؛ وكثير من الأقوال المحرَّمة؛ كالقذف والسّبِّ والفُحش، وربّما ارتقى إلى درجة الكفر؛ كما جرى لِجَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ، وكالأيمان الّتي لا يجوز التزامها شرعًا، وكطلاق الزّوجة الّذي يُعقِبُ النَّدمَ. والواجب على المؤمن أن تكون شهوته مقصورةً على طلب ما أباحه اللّه له، وربّما تناولها بنيَّة صالحة، فأُثيب عليها، وأن يكون غضبه دفعًا للأذى في الدّين له أو لغيره، وانتقامًا ممّن عصى اللّه ورسوله؛ كما قال تعالى:
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ 14 وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}
[التوبة: 14 - 15]
وهذه كانت حالَ النّبيِّ ﷺ، فإنّه كان لا ينتقم لنفسه؛ ولكن إذا انتُهكت حرمات اللّه، لم يقم لغضبه شيء، ولم يَضرِب بيده خادمًا ولا امرأةً إلّا أن يجاهد في سبيل اللّه"[11].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وقال - عليه السلام -: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ»، والصُّرَعة: الذي يَصرَع الناس ويَكثُر منه ذلك، كما يُقَال للكثيرِ النَّوْمِ نُوَمة، وللكثير الحِفْظِ حُفَظة، فأراد - عليه السلام - أن الذي يَقْوَى على مِلك نفسه عند الغضب ويردُّها عنه، هو القويُّ الشديد، والنهاية في الشدَّة؛ لغلبته هواه الْمُرْدِي الذي زيَّنه له الشيطان الْمُغْوي، فدلَّ هذا أن مجاهدة النفس أشدُّ من مجاهدة العدوِّ؛ لأن النبيَّ - عليه السلام - جعل للذي يملك نفسَه عند الغضب من القوَّة والشدَّة، ما ليس للذي يَغلِب الناس ويَصرَعهم. ومن هذا الحديث قال الحسن البصريُّ حين سُئل: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال: جهادُك نفسَكَ وهَواك"[12].
قال ابن حجر رحمه الله: "قوله: (فَرَدَّدَ مِرَارًا)؛ أي: رَدَّد السؤال يلْتَمس أنفعَ من ذلك، أو أبلغ أو أَعَمَّ، فلم يَزِدْهُ على ذلك قوله: «لَا تَغْضَبْ»"[13].
قال ابن رجب رحمه الله: "وكان من دعائه ﷺ: «أَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا»[14]، وَهَذَا عَزِيزٌ جِدًّا، وهو أن الإنسان لا يقول سوى الحقِّ، سواءٌ غَضِبَ أو رَضِي؛ فإن أكثرَ الناس إذا غَضِب لا يَتَوقَّف فيما يقول"[15].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وفى حديث سليمانَ بنِ صُرَدَ أن الاستعاذةَ بالله من الشيطان الرجيم تُذهب الغضب[16]، وذلك أن الشيطان هو الذي يزيِّن للإنسان الغَضَب وكلَّ ما لا تُحمَد عاقبتُه؛ ليُرْدِيَه ويُغْويَه ويُبعدَه من رضا الله تعالى؛ فالاستعاذةُ بالله تعالى منه من أقوى السلاح على دفع كَيده، وذكر أيضًا أبو داود في حديث أبي ذرٍّ عن النبىِّ عليه السلام أنه قال:
«إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ، وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ»[17]"[18].
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "ولهذا يخرج به الإنسان من اعتدال حاله، ويتكلَّم بالباطل، ويرتكب المذموم، وينوي الحقد والبغضاء وغير ذلك من القبائح المحرَّمة، كلُّ ذلك من الغضب، أعاذنا الله منه"[19].
قال ابن رجب رحمه الله: "وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ» يَدُلُّ على أنّ الغضبان مكلَّف في حال غضبه بالسُّكوت، فيكون حينئذ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النّبيِّ ﷺ أنّه أمر من غَضِب أن يتلافى غضبه بما يسكِّنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عين التّكليف له بقطع الغضب، فكيف يُقال: إنّه غير مكلَّف في حال غضبه بما يَصدُر منه؟! وقال عطاءُ بن أبي رباح: ما أبكى العلماءَ بكاءٌ آخِرَ العُمر من غضبة يَغضَبها أحدهم، فتَهدِم عمر خمسين سنةً، أو ستّين سنةً، أو سبعين سنةً، وربَّ غضبةٍ قد أَقحَمت صاحبها مُقحَمًا ما استَقالَه"[20].
قال ابن حجر رحمه الله: "ويُعين على ترك الغضب استحضارُ ما جاء في كظم الغيظ من الفضل، وما جاء في عاقبة ثمرة الغضب من الوعيد، وأن يستعيذ من الشّيطان كما تقدَّم في حديث سليمان بن صُرَدَ، وأن يتوضَّأ"[21].