اﻷحاديث
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عن النَّبِيِّ ﷺ، أنه قال: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»؛ أي: لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكان شدَّةُ حرِّها جزءًا صغيرًا بالنسبة إلى شدَّة حرارة نار جهنَّم، التي تفوق حرَّ نار الدنيا بسبعين جزءًا.
قَالُوا: (وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: إن حرارة نار الدنيا لكافيةٌ للعذاب.
قال ﷺ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»؛ فأجابهم ﷺ بتأكيد أن شدَّة حرارتها تفوقها بتسعة وستين ضِعفًا، كلُّ جزء مثلُ حرِّ نار الدنيا.
الشرح المفصَّل للحديثخَلَق الله الخير والشرَّ حتى يتمايز الناس، ويُقيم عليهم الحُجَّة
قال تعالى:
وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ
[الأنبياء: 35]
فيَصِيرون إلى الجنَّة بفضله، أو إلى النار بعدله، وأَعَدَّ الجنة للصالحين من عباده وأوليائه
قال تعالى:
سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
[الحديد: 21]
وجعل النار من نصيب الكفَّار والعصاة من خلقه
قال تعالى:
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
[آل عمران: 131]
وقد خَلَقها الله تعالى قبل خلق الإنسان؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «تَدْرُونَ مَا هَذَا؟» قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا»[1].
وفي الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ عن صفة من صفات جهنَّمَ، فيقول ﷺ: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا، مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»؛ أي: شدَّة حرارة ناركم هذه التي يُشعِلها الإنسان في الدنيا، ما هي إلا جزءٌ صغير من سبعين جزءًا من نار الآخرة، "يعني: أنه لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكانت جزءًا من أجزاء جهنَّم المذكورة، وبيانُه: أنه لو جُمِع حطب الدنيا، فَوُقِد كلُّه حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم، الذي هو من سبعين جزءًا، أشدَّ من حرِّ نار الدنيا، كما بيَّنه في آخر الحديث"[2].
وقد كان النبيُّ ﷺ يستعيذ من حرِّها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ رضى الله عنه يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ»[3].
وتخصيص العدد بسبعين غيرُ مراد؛ وإنما المراد المبالغة في الكثرة وشدَّة الحرِّ، ففي رواية لأحمد في مسنده: «هَذِهِ النَّارُ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ مِنْ جَهَنَّمَ»[4]، "والجمع بين الروايتين بأن المراد المبالغةُ في الكثرةِ، لا العدد الخاصُّ، أو الحكم للزائد"[5].
فقال الصحابة رضى الله عنهم: (وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً، يَا رَسُولَ اللهِ)؛ أي: والله لو أن شدَّة حرارة النار في الآخرة كشدَّتها في الدنيا، لكان ذلك كافيًا في إيلام الكفَّار والمذنِبين وعذابهم؛ فنارُ الدنيا تُحرق الأشجارَ والجماداتِ والحيوانات، وقادرةٌ كذلك على حرق الإنسان، فهَلَّا اكتفى بها ربُّ العباد.
فأجابهم النبيُّ ﷺ بقوله: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا»؛ أي: أن نار الآخرة كما فضِّلت عليها بتسعة وستين جزءًا في العدد، فضِّلت عليها كذلك في شدَّة الحرِّ بتسعة وستين ضعفًا، فالنار التي هي من صُنع الخالق ليست كالنار التي يُشعِلها الخلق. فـ"لا بدَّ من التفضيل لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق؛ ولذلك أُوثر النار على سائر أصناف العذاب، زيادةً في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مَرَدة خلق الله من الجنِّ والإنس"[6].
المراجع
- رواه مسلم (2844).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 187).
- رواه النسائيُّ (5520)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح وضعيف سنن النسائيِّ".
- رواه أحمد (8921)، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (7006).
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر (6/ 334).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3586).
قال القرطبيُّ رحمه الله: "يعني: أنه لو جُمِع كلُّ ما في الوجود من النار التي يوقدها بنو آدم، لكانت جزءًا من أجزاء جهنَّم المذكورة، وبيانُه: أنه لو جُمِع حطب الدنيا، فَوُقِد كلُّه حتى صار نارًا، لكان الجزء الواحد من أجزاء نار جهنم، الذي هو من سبعين جزءًا، أشدَّ من حرِّ نار الدنيا، كما بيَّنه في آخر الحديث"[1].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «فضِّلت عَلَيْهَا»؛ أَي: على نَار الدُّنْيَا، ويُروى: عَلَيْهِنَّ، كَمَا فضِّلت عَلَيْهَا فِي الْمِقْدَار وَالْعدَد بِتِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءًا، فضِّلت عَلَيْهَا فِي الْحرِّ بِتِسْعَة وَسِتِّينَ جُزْءًا. وَقَالَ الطَّيِّبِيُّ: فَإِن قلتَ: كَيفَ طابق لفظ (فضلت وعليهن) جَوَابًا، وَقد عُلم هَذَا التَّفْضِيل من كَلَامه السَّابِق؟ قلتُ: مَعْنَاهُ: الْمَنْع من الْكِفَايَة؛ أَي: لَا بُد من التَّفْضِيل ليتميَّز عَذَاب الله من عَذَاب الْخلق، وروى ابْن الْمُبَارك عَن معمرٍ عَن مُحَمَّدِ بنِ الْمُنْذر قَالَ: لَمَّا خُلقت النَّار، فَزِعت الْمَلَائِكَة وطارت أفئدتهم، وَلَمَّا خُلق آدمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - سَكَن ذَلِك عَنْهُم، وَقَالَ مَيْمُونُ بنُ مهْرَان: لَمَّا خلق الله جَهَنَّم، أمرهَا فزفرت زفرَة، فَلم يبْقَ فِي السَّمَوَات السَّبع ملكٌ إلَّا خَرَّ على وَجهه، فَقَالَ لَهُم الربُّ: ارفعوا رؤوسكم، أما علمْتُم أَنِّي خلقتكم للطاعة، وَهَذِه خلقتها لأهل الْمعْصِيَة؟ قَالُوا: رَبنَا لَا نأمنها حَتَّى نرى أَهلهَا؛ فَذَلِك
قَوْله تَعَالَى:
وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ
[الأنبياء: ٢٨][2].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "لا بدَّ من التفضيل لتمييز عذاب الله من عذاب الخلق؛ ولذلك أُوثر النار على سائر أصناف العذاب؛ زيادةً في تنكيل عقوبة أعداء الله تعالى، وغضبًا شديدًا على مَرَدة خلق الله من الجنِّ والإنس"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "«إِن كَانَت لكَافِيَة»، كلمة (إِن) هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة عِنْد الْبَصرِيين، وَهَذِه اللاَّم هِيَ الْمُفرقة بَين (إِن) النافية، وَ(إن) المخفَّفة من الثَّقِيلَة، وَالْمعْنَى: إِن نَار الدُّنْيَا كَانَت كَافِيَةً لتعذيب الجهنَّميين، وَهِي عِنْد الْكُوفِيّين بِمَعْنى: (مَا)، وَاللَّام بِمَعْنى (إلا)، تَقْدِيرُه عِنْدهم: مَا كَانَت إلَّا كَافِيَة"[4].
قال ابن رجب رحمه الله: "قد تكاثرت الأحاديث في أن البكاء من خشية الله مقتضٍ للنجاة من النار، والبكاء من نار جهنَّم هو البكاء من خشية الله؛ لأنّه بكاءٌ من خشية عقاب الله وسَخَطه، والبُعد عنه وعن رحمته وجواره ودار كرامته"[5].
المراجع
- "المفهم لما أشكل من تلخيص مسلم" للقرطبيِّ (7/ 187).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (11/ 3586).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 165).
- "مجموع رسائل ابن رجب" (4/ 143).
خِدَاج: ناقصةٌ [1]
المراجع
- قال الأصمعيُّ: الخِدَاجُ: النُّقصان؛ مثل: خداج الناقة، إذا ولَدَت ولدًا ناقص الخَلْق أو لغير تمام. "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 65).
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرَأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ»؛ أي: من صلَّى ركعة لم يقرأ فيها بالفاتحة. «فهي خِدَاجٌ – ثلاثًا - غيرُ تَمامٍ»؛ أي: ناقصة فاسدة لا نَفْعَ فيها.
فقيلَ لأبي هُرَيْرةَ: (إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟)، فقال: (اقرَأْ بها في نَفْسِكَ): وهذا دليلٌ على أن قراءة الفاتحة فرضٌ على الإمام والمأموم والمنفرِد على حدٍّ سواءٍ؛
قولُ: «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ»؛ أي: قسمتُ القراءة؛ فالمقصود بالصلاة هنا القراءة؛ باعتبار القراءة جزءًا من أعظم أجزاء الصلاة. «فإذا قال العبدُ: ﴿ الحمد لله رب العالمين﴾، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجَّدني عبدي»: الحمد والثناء والتمجيد ألفاظٌ متقاربةٌ في المعنى، يُعبَّر بكلِّ واحدٍ منها عن الآخَر؛ بَيْدَ أن الله تعالى خصَّ كلَّ واحدٍ بما يخصُّه ويَليق به. «فإذا قال: ﴿إياك نعبد﴾»؛ أي: نخضع ونتذلَّل لك وحدَك. ﴿وإياك نستعين﴾؛ أي: نسألك وحدَك العَون. «قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل». كافأه ربُّه وجزاه، وأظهر عَظَمته ببيان قدرته على تحقيق سُؤْلِه. «فإذا قال: ﴿اهدنا﴾»: أَرْشِدْنا وثبِّتنا على الهداية. ﴿الصراط المستقيم﴾» الذي لا اعوجاج فيه. ﴿ صراط الذين انعمت عليهم﴾: وهم الأنبياء وأتباعهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين. ﴿غير المغضوب عليهم﴾»: هم اليهود. ﴿ ولا الضالين﴾: هم النصارى.
«قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»؛ أي: يستجيب الله تعالى له، ويُعطيه سؤاله.
الشرح المفصَّل للحديثيُرشد هذا الحديثُ إلى فَضل سورة الفاتحة، وإلى عظيم كَرَم الله وتفَضُّله على العبد في قراءتها في الصلاة، كما يُشير إلى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.
قوله: «أمِّ القرآن» يُريد الفاتحة، سُمِّيت بذلك؛ لأنها أصلُ القرآن، كما يقال لمكَّة: أمُّ القرى [1]، ولأنها اشتملت على المعاني التي في القرآن مِن الثناء على الله تعالى بما هو أهلُه، والتعبُّد بالأحكام، والترغيب، والترهيب بالوعد والوعيد، وقصة الغابرين من العُصاة والمطيعين [2]
وقوله: «فهي خِداجٌ» يُريد بها النُّقصان المانع من الصحة، لا نُقْصان الكمال؛ فإن إطلاق اسم النقصان عليها يقتضي نقصانَ بعض أجزائها وفَقْده، واسم الصلاة يَنطلِق على المجزِئ وغير المجزِئ، وهي لا تتبعَّض، فلما بطَل بعضُها بطَل جميعُها [3]
ويدُلُّ على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة وأنها ركنٌ لا تتمُّ الصلاة بدونه الحديثُ المتَّفَق عليه؛ عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأْ بفاتحة الكتاب» [4]
وقوله: «فقيل لأبي هريرة: إنَّا نكون وراءَ الإمام؟ فقال: اقرأْ بها في نفْسِكَ» دليلٌ على أن قراءة الفاتحة فرضٌ على الإمام والمأموم والمنفرد على حدٍّ سواءٍ، وقول أبي هريرة هنا، وإن كان موقوفًا عليه لا مرفوعًا، فإنه في حُكم المرفوع؛ فعن عُبادةَ بنِ الصامت t، قال: كنا خلْفَ رسول الله ﷺ في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ﷺ، فثَقُلَت عليه القراءة، فلما فرَغ قال: «لعلكم تَقْرؤون خلْفَ إمامكم؟» قلنا: نعمْ، هَذًّا يا رسول الله، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها» [5]
ولأن قوله ﷺ: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب» يشمل المنفرد والإمام والمأموم معًا، ولم يَرِد ما يستثني ذلك عنه ﷺ، ولو كانت القراءةُ تَسقُط عن المنفرد لَذَكَرها ﷺ؛ إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة؛ وإنما تسقُط عن المأموم إذا أدرك مع الإمام الركوع فحسْبُ [6]
وقولُه عزَّ وجلَّ: «قسمْتُ الصلاة» يُريد بالصلاة هنا القراءة؛ بدليل تفسيره التقسيم بعد ذلك، وتُطلَق الصلاةُ على القراءة باعتبارها جزءًا منها من أعظم أجزائها؛
كقوله تعالى:
﴿وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا﴾
[الإسراء: 78]،
وقوله تعالى:
﴿وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا ﴾
[الإسراء: 110]
فالمقصود بالقرآن في الآية الأُولى الصلاة؛ سُمِّيت بالقرآن لأنه أعظمُ ما فيها، والمقصودُ بالصلاة في الآية الأُخرى هي القراءة، على قول بعض المفسِّرين [7]
وهذه القِسمة ليست مُنصرِفةً إلى ألفاظ الفاتحة؛ فإن الظاهر أنه لا تَساوي فيها؛ فنِصْفُ الدعاء أكبرُ مِن قِسم الثناء وأكثرُ ألفاظًا، وإنما المرادُ هنا قِسمة المعاني؛ فإن الله - عزَّ وجلَّ - يُقابل اللفظَ بما يَنوبه؛ فإذا قال العبد: ﴿ الحمد لله رب العالمين﴾، يقول الله: حمِدني عبدي، وهكذا [8]
أو لعل المرادَ بالقِسمة هنا قِسمةُ الآيات؛ فإن السورة نِصْفها حمدٌ وثناءٌ وعبادةٌ وتمجيدٌ، وهي من العبد لربِّه، والنصف الثاني دعاءٌ وطلبٌ، وتحقيقه من الله - عزَّ وجلَّ - فصارت السورة مُناصَفةً من هنا، وتمام التنصيف عند
قوله:
﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾
[الفاتحة: 5]؛
فإن ما قبلها إلى قوله: ﴿إياك نعبد﴾ من العبد لربِّه، ومن قوله: ﴿ إياك نستعين﴾ إلى آخر السورة دعاءٌ وطلب [9]
وهذه القسمة مُلاطَفة من اللطيف سبحانه؛ فإنه ليس له شريكٌ ولا نظيرٌ؛ ولكنه بفضله جعل للعبد نصيبًا في فضله، ثم قسمه معه برحمته [10]
وعلى هذا القول؛ يكون تقسيمُ الصلاة مُنصرِفًا إلى الآيات؛ فإنَّ الفاتحة بهذا تكون ثلاثَ آيات في مَدْح الله وتمجيده والثناء عليه، وثلاثًا أُخرى في الدعاء والطلب، وآية في النصف مُشتَرَكة بين الأمرَين [11]
والحمد أعلى مراتب الثناء والشكر؛ لأنه يتضمَّن الثناء على المحمود بما هو في ذاته، بخلاف الشكر؛ فإنه الثناء على المشكور بما هو من أفعاله؛ فالحمد لله مطلقًا، والشكر له على نِعمه، ورحمته، وفضله، ورأفته [12]
وقوله: «فإذا قال العبدُ: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ قال الله تعالى: حمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ ، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجَّدني عبدي»، الحمد والثناء والتمجيد ألفاظٌ متقاربةٌ في المعنى، يُعبَّر بكل واحدٍ منها عن الآخَر، إلا أن الله عزَّ وجلَّ خصَّ كلَّ واحدٍ بما يخصُّه ويَليق به؛ فلما كان الحمدُ لا يتعلق بفعل؛ بل بالذات، ناسب ذلك قوله: (رب العالمين)؛ لأنه يتضمَّن الثناء على الْمُثْنى عليه بما هو في ذاته، ثم لما ذكَر تعالى من صفاته: الرحمن الرحيم، قابلها بالثناء، والثناء ذِكر محاسن أفعال الْمُثْنَى عليه، ثم ناسب ذِكر القيامة وأهوالها، وأن الله له أن يُهلك الخَلْق بأجمعهم، أو أن يُحسن إليهم جميعًا؛ فهو المالك حقًّا، ناسب ذلك أن يُقابله ببيان التمجيد الذي هو الإخبار عن صفات العلوِّ والعظمة [13]
وقوله: «فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» إنما ناسب تلك الآية أن يقول الله - عزَّ وجلَّ - فيها: «هذا بيني وبين عبدي»؛ لِما تضمَّنَته الآيةُ من التذَلُّل لله تعالى، والتودُّد إليه، وطلب الاستعانة به؛ إذ العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وذلك يتضمَّن تعظيم الله - عزَّ وجلَّ - وبيان قدرته على تحقيق سؤله [14]
وقوله: «فإذا قال: ﴿إهدنا الصرط المستقيم صرط الذين أنعمت عليهم ولاالضالين﴾، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»؛ أي: يُجيبه إليها، ويستجيب له، ويُعطيه سؤاله.
المراجع
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 272)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 25).
- "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 286).
- انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 374).
- رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
- رواه أبو داود (823)، والترمذيُّ (311)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (3/547)، وابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (1/ 164).
- انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 389).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 203)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 239).
- انظر: "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
- انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/204)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
- "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (11/ 69).
- انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 239).
- انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 376).
- انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (2/ 376)، "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 27)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).
النقول
قال ابن هُبيرة : «من هذه السورة يمكن أن نستخرجَ علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة» [1]
قال ابن تيمية : "فهذه السُّورَةُ فيها للّه الحمدُ، فله الحمد في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤالُ، وفيها العبادة للّه وحده، وللعبد الاستعانة، فحقُّ الرّبِّ حمدُه وعبادته وحدَه، وهذان حمد الرّبِّ وتوحيده، يدور عليهما جميع الدّين" [2]
قال النوويُّ : "الخِداج بكسر الخاء المعجمة، قال الخليلُ بن أحمد والأصمعيُّ وأبو حاتم السّجستانيّ والهرويُّ وآخرون: الخداج: النُّقصان، يُقال: خَدَجَتِ النّاقة، إذا ألقت ولدها قبل أوان النّتاج، وإن كان تامَّ الخَلْق، وأَخدَجتْه إذا ولدته ناقصًا، وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي اليُدَيَّة: مُخْدَج اليد؛ أي: ناقصُها، قالوا: فقوله ﷺ: خداج؛ أي: ذاتُ خِداج، وقال جماعة من أهل اللّغة: خَدَجت وأَخدَجت إذا وَلَدت لغير تمام، وأمُّ القرآن اسم الفاتحة، وسمِّيت أمَّ القرآن لأنّها فاتحته، كما سمِّيت مكّةُ أمَّ القرى؛ لأنّها أصلها. قوله عزّ وجلّ: «مجّدني عبدي»؛ أي: عظّمني" [3]
قال ابن تيمية : " فالرّبُّ سبحانه له نصف الثّناء والخير، والعبدُ له نصف الدّعاء والطّلب، وهاتان جامعتان ما للرّبِّ سبحانه وما للعبد، فإيّاك نعبد للرّبّ، وإيّاك نستعين للعبد. وفي الصّحيحين:
عن معاذ رضي اللّه عنه قال:
كُنْت رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟»، قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟»، قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ»
[4]،
والعبادةُ هي الغاية التي خَلَق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه؛
كما قال تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}
[الذاريات: 56]
، وبها أَرسَل الرّسل، وأَنزَل الكُتب، وهي اسم يجمع كمال الحبِّ للّه ونهايته، وكمال الذّلِّ للّه ونهايته؛ فالحبُّ الخليُّ عن ذُلٍّ، والذّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادةُ ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها" [5]
قال النوويُّ : " والصّحيحُ الّذي عليه جمهور العلماء من السَّلَف والخَلَف وجوب الفاتحة في كلّ ركعة؛ لقوله ﷺ للأعرابيّ: «ثم افعل ذلك في صلاتك كُلِّهَا»" [6]
قال ابن تيمية : " وهذه السّورةُ هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السَّبْع المثاني والقرآنُ العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. والصّلاةُ أفضل الأعمال، وهي مؤلَّفة من كَلِم طيِّب وعمل صالح؛ أفضلُ كَلِمها الطّيِّب وأوجبُه القرآن، وأفضلُ عملها الصّالح وأوجبُه السُّجود" [7]
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله: «قسمت الصلاة»؛ يعني: أم القرآن، سمَّاها صلاة؛ لأن الصلاة لا تتمُّ - أو لا تصحُّ - إلا بها، ومعنى القسمة هنا: من جهة المعاني؛ لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده، والثناء عليه وتوحيده، والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه، وسؤاله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك، وهذا التقسيم حجة على أن: «بسم الله الرحمن الرحيم» ليست من الفاتحة، خلافًا للشافعيِّ" [8]
قال ابن تيمية : "والعبد يعود عليه نفع النِّصْفَين، واللّه تعالى يحبُّ النّصفين؛ لكن هو سبحانه يحبُّ أن يُعبَد، وما يُعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنّما يحبُّه لكونه طريقًا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أوّلًا؛ وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصّراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام فيما يتعلّق بذلك، وليس هذا موضعَه، وإن كنّا خرجنا عن المراد"[9]
قال النوويُّ: " قوله سبحانه وتعالى: «قسمتُ الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين» الحديث. قال العلماء: المراد بالصّلاة هنا الفاتحة، سمِّيت بذلك لأنّها لا تصحُّ إلّا بها؛ كقوله ﷺ: «الحجُّ عَرَفةُ»، ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصّلاة. قال العلماء: والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأنّ نصفها الأوّل تحميد للّه تعالى وتمجيد، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنّصف الثّاني سؤال وطلب وتضرُّع وافتقار، واحتجَّ القائلون بأنّ البسملة ليست من الفاتحة بهذا الحديث، وهو من أوضح ما احتجُّوا به. قالوا: لأنّها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أوّلها ثناء، أوّلها: (الحمد للّه)، وثلاث دعاء، أولها: (اهدنا الصراط المستقيم)، والسّابعة متوسّطة، وهي: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)، قالوا: ولأنّه سبحانه وتعالى قال: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين»، فإذا قال العبد: (الحمد للّه ربّ العالمين) فلم يذكر البسملة، ولو كانت منها لذكرها، وأجاب أصحابنا وغيرهم ممّن يقول: إنّ البسملة آية من الفاتحة، بأجوبة، أحدها أنّ التّنصيف عائد إلى جملة الصّلاة، لا إلى الفاتحة، هذا حقيقة اللّفظ، والثّاني: أنّ التّنصيف عائد إلى ما يختصّ بالفاتحة من الآيات الكاملة، والثّالث معناه: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى (الحمد للّه رب العالمين)" [10]
قال ابن رجب : "فهذا الحديث يدلُّ على أن الله يستمع لقراءة المصلِّي حيث كان مناجيًا له، ويردُّ عليه جواب ما يناجيه به كلمةً كلمة، فأول الفاتحة حمد، ثم ثناء، وهو تثنية الحمد وتكريره، ثم تمجيد، والثناء على الله بأوصاف المجد والكبرياء والعظمة، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور؛ كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة، فخاطب خطاب الحاضرين، فقال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، وهذه الكلمة قد قيل: إنها تجمع سرَّ الكتب المنزَّلة من السماء كلِّها؛ لأن الخلق إنما خُلقوا ليؤمروا بالعبادة؛
كما قالَ:
(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ )
[الذاريات: ٥٦]،
وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده. وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم، صراط المنعَم عليهم، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين، كما ذكر ذلك في سورة النساء.
فمن استقام على هذا الصراط، حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سَيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتَّبِعه كاليهود، أو ضالٌّ عن طريق الهدى؛ كالنصارى، ونحوِهم من المشركين.
فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»، وحينئذ تؤمِّن الملائكة على دعاء المصلِّي، فيُشرَع للمصلِّين موافقتهم في التأمين معهم؛ فالتأمين مما يستجاب به الدعاء" [11]
قال ابن عثيمين : "فتأمَّل محاورة ومناجاة بين الإنسان وبين ربِّه، ومع ذلك فالكثير منا في هذه المناجاة مُعرِض بقلبه، تَجِده يتجوَّل يَمينًا وشمالاً، مع أنه يناجي من يَعلَم ما في الصدور - عزَّ وجلَّ - وهذا من جهلنا وغفلتنا؛ فالواجب علينا - ونسأل الله أن يُعيننا عليه - أن تكون قلوبنا حاضرةً في حال الصلاة؛ حتى تبرأ ذِمَّتنا، وحتى ننتفع بها؛ لأن الفوائد المترتِّبة علي الصلاة إنما تكون علي صلاة كاملة؛
ولهذا كلُّنا يقرأ قولَ الله عزَّ وجلَّ:
( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ )
[العنكبوت: ٤٥]،
ومع ذلك يأتي الإنسان ويصلِّي فلا يجد في قلبه إنكارًا لِمُنكَر، أو عُرْفًا لمعروف زائدًا عمَّا سبق حين دخوله في الصلاة؛ يعني: لا يتحرَّك القلب ولا يستفيد؛ لأن الصلاة ناقصة، هذه الصلاة هي أعظمُ أركان الإسلام بعد الشهادتين" [12]
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله تعالى: «حَمِدني عبدي»؛ أي: أثنى عليَّ بصفات كمالي وجلالي. و«مجَّدني»: شرَّفني؛ أي: اعتقد شرفي ونَطَق به، والمجد: نهاية الشرف، وهو الكثيرُ صفاتِ الكمالِ، والمجد: الكثرة. «فوّض إليّ عبدي»؛ أي: يقول هذا، وهو مطابق لقوله: «مالك يوم الدين»؛ لأنه تعالى المتفرِّد في ذلك اليوم بالْمُلك، ولا تبقى دعوى لمدَّعٍ، والدين: الجزاء والحساب والطاعة والعادة والْمُلك" [13]
قال النوويُّ : "وأمّا الأحكام، ففيه وجوب قراءة الفاتحة، وأنّها متعيِّنة لا يُجزي غيرها إلّا لعاجز عنها، وهذا مذهب مالك والشّافعيِّ وجمهور العلماء من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم، وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه وطائفة قليلة: لا تجب الفاتحة؛ بل الواجب آية من القرآن؛ لقوله ﷺ: «اقرأ ما تيسّر»، ودليل الجمهور قوله: «لا صلاة إلّا بأمّ القرآن»، فإن قالوا: المراد: لا صلاة كاملةً، قلنا: هذا خلاف ظاهر اللّفظ [14]
قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله: «نعبد»؛ أي: نخضع ونتذلَّل، و«نستعين»: نسألك العَون، «اهدنا»: أَرْشِدْنا وثبِّتنا على الهداية، و«الصراط المستقيم»: الذي لا اعوجاج فيه"[15]
قال ابن رجب : "قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ تجمَعُ سرَّ الكُتب المنزَّلة من السماء كلها؛ لأن الخَلْق إنما خُلِقوا ليُؤمَروا بالعبادة،
كما قال:
(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ )
[الذاريات: 56]
وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده" [16]
قال النوويُّ : "قال العلماء: وقوله تعالى: «حمدني عبدي، وأثنى عليّ، ومجّدني» إنّما قاله لأنّ التّحميد الثّناءُ بجميل الفِعَال، والتّمجيد الثّناء بصفات الجلال، ويقال: أثنى عليه في ذلك كلّه؛ ولهذا جاء جوابًا للرّحمن الرّحيم؛ لاشتمال اللّفظين على الصّفات الذّاتيّة والفعليّة. وقوله: «وربّما قال: فوّض إليَّ عبدي» وجه مطابقة هذا لقوله: (مالك يوم الدين): أنّ اللّه تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، وبجزاء العباد وحسابهم، والدّين الحساب، وقيل: الجزاء، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم ولا مجاز، وأمّا في الدّنيا، فلبعض العباد ملك مجازيٌّ، ويدَّعي بعضهم دعوى باطلةً، وهذا كلّه ينقطع في ذلك اليوم، هذا معناه، وإلّا فاللّه سبحانه وتعالى هو المالك، والملك على الحقيقة للدّارين وما فيهما ومن فيهما، وكلُّ من سواه مربوب له عبد مسخَّر، ثمّ في هذا الاعتراف من التّعظيم والتّمجيد وتفويض الأمر ما لا يخفى، وقوله تعالى: «فإذا قال العبد: اهدنا الصّراط المستقيم» إلى آخر السّورة، «فهذا لعبدي» هكذا هو في صحيح مسلم، وفي غيره «فهؤلاء لعبدي» وفي هذه الرّواية دليل على أنّ (اهدنا) وما بعده إلى آخر السّورة ثلاث آيات لا آيتان، وفي المسألة خلاف مبنيّ على أنّ البسملة من الفاتحة أم لا، فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنّها من الفاتحة، وأنّها آية، واهدنا وما بعده آيتان، ومذهب مالك وغيره ممّن يقول: إنّها ليست من الفاتحة، يقول: اهدنا وما بعده ثلاث آيات، وللأكثرين أن يقولوا: قوله: هؤلاء، المراد به الكلمات لا الآيات؛ بدليل رواية مسلم: «فهذا لعبدي» وهذا أحسن من الجواب بأنّ الجمع محمول على الاثنين؛ لأنّ هذا مجاز عند الأكثرين، فيحتاج إلى دليل على صرفه عن الحقيقة إلى المجاز" [17]
قال ابن تيمية : "فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكلِّ مصلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلّى الرّجل ما صلّى من الرّكعات قيل له ذلك، وفي تلك السّاعة يصلِّي من يقرأ الفاتحة من لا يحصي عددَه إلّا اللّه، وكلّ واحد منهم يقول اللّه له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك فيقول لكلّ واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة، وكذلك سَمْعُه لكلامهم، يَسمَع كلامهم كلَّه مع اختلاف لغاتهم وتفنُّن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كلَّ ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يَشغَله سمع عن سمع، ولا تغلِّطه المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح الملحِّين، فإنّه سبحانه هو الّذي خلق هذا كلّه، وهو الّذي يرزق هذا كلّه، وهو الّذي يوصِّل الغذاء إلى كلّ جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزّرع. وكرسيُّه قد وسع السّمواتِ والأرضَ ولا يؤوده حفظُهما، فإذا كان لا يؤوده خلقُه ورزقه على هذه التّفاصيل؛ فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سمع كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا" [18]
المراجع
- "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
- "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 101).
- رواه البخاريُّ (7373)، ومسلم (50).
- "مجموع الفتاوى" (10/ 19).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
- "مجموع الفتاوى" (14/5).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 112).
- "مجموع الفتاوى" (1/ 341).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 355).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 112، 113).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 102).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 113).
- "فتح الباري" لابن رجب (7/ 103).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
- "مجموع الفتاوى" (5/ 479، 480).
أَعْدَدْتُ: أي: هيَّأتُ؛ قال اللَّيْثُ: العَتَادُ: الشَّيْءُ الذي تُعِدُّه لأمرٍ ما، وتُهيِّئُه له[1].
خَطَرَ؛ أي: مرَّ، والخَاطِرُ: هو مَا يَخْطُر في القلب من تدبير أو أمر[2].
قُرَّة أَعْيُن: أقرَّ اللّه عينَه؛ أي: أعطاه حتّى تَقَرَّ فلا تطمح إلى من هو فوقَه، ويقال: حتّى تَبرُد ولا تَسخَن؛ فللسُّرور دمعة باردة، وللحزن دمعة حارَّة[3].
المراجع
- تهذيب اللغة" لأبي منصور الأزهريِّ (2/ 115).
- "تاج العروس من جواهر القاموس" للزَّبيديِّ (11/ 194).
- "مختار الصحاح" للرازيِّ (ص: 250).
روى أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه، عن رَسُول اللَّهِ ﷺ أنه روى عن ربِّه تعالى أنه قَالَ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُم
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[السجدة: 17]
في هذا الحديث القُدُسيِّ يَرْوِي النبيُّ ﷺ عن ربِّ العِزَّة - عزَّ وجلَّ – أن الله تعالى بعد أن وَعَد الصالحين من جِنس ما يعرفونه من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس ومَنكَح، وغيرِ ذلك، زادهم من فضله ما لا يعرفونه مما لا عينٌ رأت، ولا أُذن سمعت، ولا يَخطُر على القلب تصوير ما لم يَرَ ولم يسمع.
الشرح المفصَّل للحديثخَلَق اللهُ الخَلْقَ، وأرسل إليهم الرُّسل، وأنزل عليهم الكُتب، وبيَّن لهم طريقَيِ الخَير والشَّرِّ
قال تعالى:
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ
[البلد: 10]
ورتَّب لهم الثواب والعقاب على أعمالهم
فقال تعالى:
مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ
[فصلت: 46]
فيَصيرون إلى النار بعَدْلِه، أو إلى الجنَّة برحمتِه وفضله، وأَعَدَّ الله الجنَّة للصالحين من عباده وأوليائه، جَعَلَنا اللهُ من أهلها
قال تعالى:
وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ
[آل عمران: 133]
وأخفى لهم فيها ثَوَابًا لا يَعلَم مِقدارَه إلا اللهُ تعالى؛ جزاءً على أعمالهم>
قال الحسن رضى الله عنه: "أخفى القَوم أعمالاً في الدنيا، فأخفى الله لهم ما لا عَيْنٌ رأت، ولا أُذن سَمعت"[1]، وجَعَل النَّارَ من نَصيب الكفَّار والْمُذنبين من خلقه، أعاذنا الله منها
قال تعالى:
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ
[آل عمران: 131].
وفي هذا الحديث القُدُسيِّ الذي يَرْوِيه النبيُّ ﷺ عن ربِّ العِزَّة - عزَّ وجلَّ - يُخبرنا فيه عن نعيم أهل الجنة، وما أَعَدَّه الله لعباده الطائعين؛ فيقول ﷺ: قَالَ اللَّهُ: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ»؛ أي: خَلَقْتُ وهيَّأتُ للمؤمنين الطائعين الذين أَدَّوْا ما أَمَرهم الله به، وانتهَوْا عما نهى الله عنه، وعَبَدوني حقَّ العبادة في الجنة نعيمًا ليس بعدَه نعيم، وصِفةُ هذا النعيم: أنه لم تَرَ أيُّ عَيْنٍ من عيون البشر مِثْلَه في الحُسن والجمال، كما لم تسمع أيُّ أُذن من آذانهم مِثْلَه في الطَّرَب والاستمتاع.
"اعْلَمْ أن الله - عزَّ وجلَّ - وَعَد الصالحين من جِنس ما يعرفونه من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس ومَنكَح، وغيرِ ذلك، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه فقال: «ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت» ولا يَخطُر على القلب تصوير ما لم يَرَ ولم يسمع، فقال: «ولا خَطَر على قلب بشر»[2]، وذلك فضل وإكرام من ربِّ العباد لعباده المؤمنين
قال تعالى:
ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
[الحديد: 21]
"معناه: أنه تعالى ادَّخَر في الجنة من النعيم، والخَيرات، واللذَّات ما لم يَطَّلِع عليه أحدٌ من الخَلق، بطريق من الطُّرق، فذكر الرُّؤية، والسمع؛ لأن أكثر المحسوسات تُدرَك بهما، والإدراك ببقيَّة الحواسِّ أقلُّ، ولا يكون غالبًا إلا بعدَ تقدُّم رؤية، أو سماع، ثم زاد أنه لم يجعل لأحد طريقًا إلى توهُّمها بذِكر، وخُطور على قلب، فقد جَلَّت عن أن يُدرِكها فِكرٌ، وخاطر"[3]، فلم يترك فرصةً لأن يتصوَّر الناس أنهم قادرون على تخيُّل هذا النعيم الأبَديِّ في فكرهم مجرَّد تخيُّل، فقال: «وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ»؛ أي: ولا مَرَّ على عقولهم وقلوبهم مجرَّد خاطر عن شيء من هذه النِّعم والْمَلَذَّات التي أَعَدَّها الله للموحِّدين الصادقين في الجنة؛ فكلُّ ما يَدُورُ في ذِهنهم أو خاطرهم أو يتخيَّلونه إنما أَعَدَّ الله ما هو أفضلُ منه بكثير.
قال ﷺ: «فَاقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ:
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
[السجدة: 17]
أي: مِصداقُ هذا الكلام قولُ الله - عزَّ وجلَّ - في سورة السجدة: فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: فلا تَعلَم أيُّ نفسٍ - كائنةً من كانت - ما أخفاه الله تعالى عنهم، وخبَّأه لهم من الخير الكثير، والنَّعيم الوَفير، والسعادة والسُّرور، والراحة والاطمئنان.
"والمعنى: لا تعلم النفوس – كلُّهنَّ، ولا نفس واحدة منهنَّ، لا مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرَسل - أيَّ نوع عظيم من الثواب ادَّخر الله لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه، لا يَعلَمه إلا هو، ممَّا تَقَرُّ به عُيونهم، ولا مَزيد على هذه العِدَة ولا مَطمَح وراءها"[4].
وهذا النعيم الذي أخفاه ربُّ العالمين إنما هو بسبب أعمالهم التي كانوا يتقرَّبون بها إلى الله تعالى في الحياة الدنيا، فنعيمُ الجنة لا يتصوَّره عقل؛ ففي الجنة شجرةٌ يَسير الراكب في ظلِّها مائةَ عامٍ لا يقطعها
قال تعالى:
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ
[الواقعة: 30]
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ:
«إِنَّ فِي الجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لا يَقْطَعُهَا»
[5]،
والنعيمُ القليل فيها أفضل من مَلذَّات الدنيا بأكملها؛
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رضى الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا»
[6].
لذا؛ كان الفوز كلُّه في دخول الجنة، والنجاة من النار
قال تعالى:
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ
[آل عمران: 185].
المراجع
- "تفسير الكشاف" للزمخشريِّ (3/ 513).
- " كشف الْمُشكِل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 433).
- "فَيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي (11/ 3586).
- "تفسير الكشاف" للزمخشري (3/ 512).
- رواه البخاريُّ (3251).
- رواه البخاريُّ (3250).
قال ابن الجَوزيِّ رحمه الله: "اعْلَمْ أن الله - عزَّ وجلَّ - وَعَد الصالحين من جِنس ما يعرفونه من مَطعَم ومَشرَب ومَلبَس ومَنكَح، وغيرِ ذلك، ثم زادهم من فضله ما لا يعرفونه فقال: «ما لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت» ولا يَخطُر على القلب تصوير ما لم يَرَ ولم يسمع، فقال: «ولا خَطَر على قلب بشر»[1].
قال المناويُّ رحمه الله: "معناه: أنه تعالى ادَّخَر في الجنة من النعيم، والخَيرات، واللذَّات ما لم يَطَّلِع عليه أحدٌ من الخَلق، بطريق من الطُّرق، فذكر الرُّؤية، والسمع؛ لأن أكثر المحسوسات تُدرَك بهما، والإدراك ببقيَّة الحواسِّ أقلُّ، ولا يكون غالبًا إلا بعدَ تقدُّم رؤية، أو سماع، ثم زاد أنه لم يجعل لأحد طريقًا إلى توهُّمها بذِكر، وخُطور على قلب، فقد جَلَّت عن أن يُدرِكها فِكرٌ، وخاطر"[2].
قال الزمخشريُّ رحمه الله: "والمعنى: لا تعلم النفوس – كلُّهنَّ، ولا نفس واحدة منهنَّ، لا مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرَسل - أيَّ نوع عظيم من الثواب ادَّخر الله لأولئك، وأخفاه من جميع خلائقه، لا يَعلَمه إلا هو، ممَّا تَقَرُّ به عُيونهم، ولا مَزيد على هذه العِدَة ولا مَطمَح وراءها"[3].
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الأعمال الصالحة من توفيق اللّه وفضله ومَنِّه، وصَدَقته على عبده، أن أعانه عليها ووفَّقه لها، وخَلَق فيه إرادتها والقُدرة عليها، وحبَّبها إليه، وزيَّنها في قلبه، وكرَّه إليه أضدادها، ومع هذا، فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، ولا هي على قدره؛ بل غايتُها إذا بذل العبد فيها نُصْحَه وجُهْدَه، وأوقعها على أكمل الوجوه، أن تقع شكرًا له على بعض نِعَمه عليه، فلو طالبه بحقِّه لبَقِي عليه من الشُّكر على تلك النِّعمة بقيَّة لم يقم بشكرها"[4].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "الحديث يسمَّى عند المحدِّثين قُدسيًّا، والحديث القُدسيُّ: كلُّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه عزَّ وجلَّ. لأنه منسوب إلى النبيِّ ﷺ تبليغًا، وليس من القرآن بالإجماع، وإن كان كلُّ واحد منهما قد بلَّغه النبيُّ ﷺ أمَّته عن الله عزَّ وجلَّ. وقد اختلف العلماء - رحمهم الله - في لفظ الحديث القدسيِّ: هل هو كلام الله تعالى، أو أن الله تعالى أوحى إلى رسوله ﷺ معناه، واللفظُ لفظ رسول الله ﷺ؟ على قولين: القول الأول: أن الحديث القدسيَّ من عند الله لفظُه ومعناه؛ لأن النبيَّ ﷺ أضافه إلى الله تعالى، ومن المعلوم أن الأصل في القول المضاف أن يكون بلفظ قائله لا ناقلِه، لا سيَّما أن النبيَّ ﷺ أقوى الناس أمانةً، وأوثقُهم روايةً.
القول الثاني: أن الحديث القدسيَّ معناه من عند الله، ولفظه لفظ النبيِّ ﷺ، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: لو كان الحديث القدسيُّ من عند الله لفظًا ومعنًى، لكان أعلى سندًا من القرآن؛ لأن النبيَّ ﷺ يرويه عن ربِّه تعالى بدون واسطة، كما هو ظاهر السياق، أما القرآن، فنزل على النبيِّ ﷺ بواسطة جبريل عليه السلام
كما قال تعالى:
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ
[النحل: 102]
وقال:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
[الشعراء: 193-195].
الوجه الثاني: أنه لو كان لفظ الحديث القدسيِّ من عند الله، لم يكن بينه وبين القرآن فرقٌ؛ لأن كِلَيهما على هذا التقدير كلام الله تعالى، والحكمةُ تقتضي تساويهما في الحكم حين اتَّفَقا في الأصل، ومن المعلوم أن بين القرآن والحديث القدسيِّ فروقًا كثيرة، منها: أن الحديث القدسيَّ لا يُتعَّبد بتلاوته؛ بمعنى: أن الإنسان لا يتعبَّد اللهَ تعالى بمجرَّد قراءته؛ فلا يثاب على كلِّ حرف منه عشْرَ حسنات، والقرآن يُتعبَّد بتلاوته بكلِّ حرف منه عشْرُ حسنات. ومنها: أن الله عزَّ وجلَّ تحدَّى أن يأتيَ الناس بمثل القرآن أو آية منه، ولم يَرِد مثلُ ذلك في الأحاديث القدسيَّة.
ومنها: أن القرآن محفوظ من عند الله عزَّ وجلَّ
كما قال سبحانه:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
[الحجر: 9]
والأحاديث القدسية بخلاف ذلك؛ ففيها الصحيح والحسن؛ بل أُضيف إليها ما كان ضعيفًا أو موضوعًا، وهذا وإن لم يكن منها؛ لكن نُسِب إليها، وفيها التقديم والتأخير، والزيادةُ والنقص. ومنها: أن القرآن لا تجوز قراءته بالمعنى بإجماع المسلمين، أما الأحاديث القدسية، فعلى الخلاف في جواز نقل الحديث النبويِّ بالمعنى، والأكثرون على جوازه. ومنها: أن القرآن تُشرَع قراءته في الصلاة، ومنه ما لا تصحُّ الصلاة بدون قراءته، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يمسُّه إلا طاهر على الأصحِّ، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن لا يقرؤه الجُنُب حتى يغتسل على القول الراجح، بخلاف الأحاديث القدسية. ومنها: أن القرآن ثبت بالتواتُر القطعيِّ المفيد للعلم اليقينيِّ، فلو أَنكَر منه حرفًا أجمع القرَّاء عليه، لكان كافرًا، بخلاف الأحاديث القدسية؛ فإنه لو أَنكَر شيئًا منها مدَّعيًا أنه لم يثبت، لم يكفر، أما لو أنكره مع علمه أن النبيَّ ﷺ قاله، لكان كافرًا؛ لتكذيبه النبيَّ ﷺ. وأجاب هؤلاء عن كون النبيِّ ﷺ أضافه إلى الله، والأصل في القول المضاف أن يكون لفظ قائله بالتسليم أن هذا هو الأصل؛ لكن قد يُضاف إلى قائله معنًى لا لفظًا؛ كما في القرآن الكريم؛ فإن الله تعالى يُضيف أقوالًا إلى قائليها، ونحن نعلم أنها أضيفت معنًى لا لفظًا، كما في قصص الأنبياء وغيرهم، وكلام الهُدْهُد والنَّمْلَة؛ فإنه بغير هذا اللفظ قطعًا. وبهذا يتبيَّن رجحان هذا القول، وليس الخلاف في هذا كالخلاف بين الأشاعرة وأهل السنَّة في كلام الله تعالى؛ لأن الخلاف بين هؤلاء في أصل كلام الله تعالى؛ فأهل السنَّة يقولون: كلام الله تعالى كلام حقيقيٌّ مسموع يتكلَّم سبحانه بصوت وحرف، والأشاعرة لا يُثبتون ذلك؛ وإنما يقولون: كلام الله تعالى هو المعنى القائم بنفسه، وليس بحرف وصوت؛ ولكن الله تعالى يَخلُق صوتًا يعبِّر به عن المعنى القائم بنفسه، ولا شكَّ في بطلان قولهم، وهو في الحقيقة قول المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقولون: القرآن مخلوق، وهو كلام الله، وهؤلاء يقولون: القرآن مخلوق، وهو عبارة عن كلام الله، فقد اتَّفَق الجميع على أن ما بين دفَّتي المصحف مخلوق. ثم لو قيل في مسألتنا (الكلام في الحديث القدسيِّ): إن الأَولَى ترك الخَوض في هذا؛ خوفًا من أن يكون من التنطُّع الهالك فاعلُه، والاقتصار على القول بأن الحديث القدسيَّ ما رواه النبيُّ ﷺ عن ربِّه وكفى. لكان ذلك كافيًا، ولعلَّه أسلمُ، والله أعلم"[5].
المراجع
- " كشف الْمُشكِل من حديث الصحيحين" لابن الجوزيِّ (3/ 433).
- "فَيض القدير شرح الجامع الصغير" للمناوي (11/ 3586).
- "تفسير الكشاف" للزمخشري (3/ 512).
- "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 115).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 236 - 238).
وَدْعِهِم: الوَدْعُ: مصدرُ وَدَعَ يَدَعُ؛ أي: تَركُ[1]
ليختمَنَّ: الختمُ: الطَّبْعُ، وأصلُه من التغطية[2]
المراجع
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 166)؛ أي: عن تركهم إيَّاها والتخلُّف عنها، يقال: ودَع الشيءَ يَدَعُه وَدْعًا، إذا ترَكه.
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 112): الطَّبْعُ بالسكون: الخَتْمُ، وبالتحريك: الدَّنَسُ. وأصله من الوسخ والدَّنس يغشيانِ السَّيف. يقال: طَبَعَ السيفُ يطْبَعُ طبْعًا. ثم استُعمِل فيما يُشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح.
المعنى الإجماليُّ للحديث
(روى ابن عمرَ وأبو هُريرةَ ﭭ أنهما سَمعا رسولَ الله ﷺ يقولُ على أعوادِ مِنْبَرِه)؛ أي: على درجات مِنبَره، أو مُتَّكِئًا على أعواد مِنْبَرِه في المدينة. «لَيَنْتَهِيَنَّ أقْوامٌ عن وَدْعِهمُ الجُمُعاتِ»؛ أي: فلينتهوا عن تركهم صلاة الجمعة. «أو لَيَخْتِمَنَّ اللهُ على قُلوبِهم، ثم لَيَكونُنَّ منَ الغافِلينَ»؛ أي: وإلا سيختم - الختم بمعنى الطَّبْعُ والتغطية - على قلوبهم، فتُمنَع من الهداية حتى لا تَعرِفَ معروفًا، ولا تُنكر منكرًا، ثم يصيرون في جُملة الغافلين.
الشرح المفصَّل للحديثفي هذا الحديث بيانٌ لوجوب الجُمُعة، والتحذير من تركها، وبيان عقوبة المتهاوِن في حضورها؛ فإن الجُمُعة فرضُ عَين على المسلمين جميعًا، وقد نقَل الإجماعَ على ذلك بعضُ أهل العلم؛ كابن المنذر[1]، وابن القطَّان[2] رحمهما الله، وقد شذَّ بعضُ العلماء، فزعَم أنها فرضٌ على الكفاية، ونُقل عن الشافعيِّ حكايةُ ذلك، ولا يصِحُّ ذلك عنه، وقال أصحابه: لا تحِلُّ حكاية ذلك عنه[3]
ووجهُ الدلالة من الحديث على الوجوب هو الوعيدُ الشديدُ؛ فإن العقاب، والوعيد، والطَّبْعَ، والخَتْمَ، إنما يكون على الكبائر[4]
والأدلَّة على وجوب الجُمُعة غيرَ هذا الحديث، منها:
قوله تعالى:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوۡمِ ٱلۡجُمُعَةِ فَٱسۡعَوۡاْ إِلَىٰ ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلۡبَيۡعَۚ ذَٰلِكُمۡ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ﴾
[الجمعة: 9]،
وقوله: (فاسْعَوْا)، وقوله: (وَذَرُوا): فعل أمر يقتضي الوجوب.
وعن أبي الجَعد الضَّمْريِّ رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال: «مَن ترَك ثَلاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بها، طَبَع اللهُ على قلبه»[5]، وعن حفصةَ زوجِ النبيِّ ﷺ، أن النبيَّ ﷺ قال: «على كل محتلِمٍ رَوَاحٌ إلى الجُمُعة، وعلى كل مَن رَاحَ إلى الجُمُعة الغُسل»[6].
ومعنى الحديث أن أحد الأمرينِ كائنٌ لا محالةَ، إما الانتهاء عن ترك الجُمُعات، أو ختم الله على قلوبهم؛ فإن اعتيادَ تَركِ الجُمُعة يُغلِّب الرَّيْنَ على القلوب، ويُزهِّد النفوسَ في الطاعة، وذلك يؤدِّي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين[7]
والختمُ: الطبعُ، وأصلُه: التغطية، وهو أن يُغطَّى على القلوب فتُمنَع من الهداية حتى لا تعرِف معروفًا، ولا تُنكرَ منكرًا، ومنه
قوله تعالى:
﴿خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ وَعَلَىٰ سَمۡعِهِمۡۖ وَعَلَىٰٓ أَبۡصَٰرِهِمۡ غِشَٰوَةٞۖ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾
[البقرة: 7]،
فالله سبحانه وتعالى يجعل شيئًا على قلوبهم يمنعُها عن اتِّباع الحقِّ، ووصول الخير إليه؛ وذلك بسبب ذنوبهم[8]
وفي الحديث إشارةٌ إلى تحذير مَن ترك الجُمُعة إهمالًا لها مع اعتقاد وجوبها عليه، إلا أن فيه من التحذير لِمَن لا يَعتقد وجوب الجُمُعة ما هو أشدُّ مما هو لِمَن يتركها مع اعتقاد وجوبها؛ كفعل الرافضة الذين يتركونها بتأويل يُعلِّقونه على مُستحيل، وهو أنه لا تصحُّ الجُمُعة إلا خلفَ الإمام المعصوم[9]
المراجع
- قال ابن المنذر في "الإجماع" (ص: 40): وأجمعوا على أن الجمعة واجبةٌ على الأحرار البالغين المقيمين الذين لا عُذْر لهم.
- قال ابن القطَّان الفاسيُّ في "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 158): وأجمعوا أن الجمعة واجبة على الأحرار والبالغين المقيمين الذين لا عُذر لهم إلا المسافر.
- انظر: "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص: 39)، "فتح الباري" لابن رجب (8/ 58).
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 265).
- رواه أبو داود (1052)، والترمذيُّ (500)، والنسائيُّ في السنن الكبرى (1668)، وابن ماجه (1125)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (4/ 583).
- رواه أبو داود (342)، والنسائيُّ (1371)، وصحَّحه السيوطيُّ في "الجامع الصغير" (5462).
- انظر: "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنة" للبيضاويِّ (1/ 386).
- انظر: "ذخيرة العقبى" (16/ 80).
- انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هُبيرة (8/ 201).
النقول
قال الصنعانيُّ : "أي: منبره الّذي من عُود، لا على الّذي كان من الطِّين، ولا على الجِذع الّذي كان يستند إليه، وهذا الْمِنبر عُمِل له ﷺ سنةَ سبع، وقيل سنة ثمانٍ، عَمِله له غلام امرأة من الأنصار كان نجَّارًا، واسمه - على أصحّ الأقوال – ميمون، كان على ثلاث دَرَج، ولم يزل عليه حتّى زاده مروانُ في زمن معاوية ستَّ دَرَج من أسفله... قال: إنّما زدتُ عليه لَمّا كَثُر النّاس، ولم يزل كذلك حتّى احترق المسجد النّبويُّ سنةَ أربع وخمسين وستّمائة، فاحترق"[1]
قال ابن الأثير : "أي: عن تركهم إيَّاها والتخلُّف عنها، يقال: ودَع الشيءَ يَدَعُه وَدْعًا، إذا ترَكه"[2]
قال الملَّا علي القاري : "وقال الطّيبيُّ: والنّحاة يقولون: إنّ العرب أماتوا ماضي (يدع) ومصدره، واستغنَوا عنه بـ(ترك)، والنّبيُّ ﷺ أفصح العرب، وإنّما يُحمَل قولهم على قلَّة استعمالها، فهو شاذٌّ في الاستعمال، صحيح في القياس.اهـ.
وقد جاء في قراءة شاذّة
{ما وَدَعَكَ ربُّك}
[الضحى: 3]
بتخفيف الدّال، وأيضًا يردُّ على الصّرفيّين حيث قالوا: وحذف الواو في (يدع) يدلُّ على أنّ المحذوف واو لا ياء؛ لأنّه لو كان ياءً، لما حُذف، فكأنّهم ما تشرَّفوا بمعرفة القراءة والحديث، ولهذا قال التّوربشتيُّ من أئمّتنا: إنّه لا عبرة بما قال النّحاة؛ فإنّ قول النّبيّ ﷺ هو الحجّة القاضية على كلّ ذي لهجة وفصاحة"[3]
قال ابن الأثير : "الطَّبْعُ بالسكون: الخَتْمُ، وبالتحريك: الدَّنَسُ. وأصله من الوسخ والدَّنس يغشيانِ السَّيف. يقال: طَبَعَ السيفُ يطْبَعُ طبْعًا. ثم استُعمِل فيما يُشبه ذلك من الأوزار والآثام وغيرهما من المقابح" [4]
قال ابن المنذر : "وأجمعوا على أن الجمعة واجبةٌ على الأحرار البالغين المقيمين الذين لا عُذْر لهم"[5]
قال ابن القطَّان الفاسيُّ : "وأجمعوا أن الجمعة واجبة على الأحرار والبالغين المقيمين الذين لا عُذر لهم إلا المسافر" [6]
قال النوويُّ : "فيه استحباب اتّخاذ المنبر، وهو سنَّة مجمَع عليها، وقوله: «وَدْعِهم»؛ أي: تركهم، وفيه أنّ الجمعة فرض عَين، ومعنى الخَتم: الطَّبع والتغطية"[7]
قال ابن رجب : "فتبيَّن بهذا: أن النبيَّ ﷺ أمر بإقامة الجُمُعة بالمدينة، ولم يُقِمْها بمكَّةَ، وهذا يدلُّ على أنه كان قد فُرِضت عليه الجمعة بمكَّةَ. وممن قال: إن الجُمعة فُرضت بمكَّةَ قبل الهجرة: أبو حامد الإسفرايينيِّ من الشافعية، والقاضي أبو يعلى في "خلافه الكبير" من أصحابنا، وابن عقيل في "عمد الأدلة"، وكذلك ذَكَره طائفة من المالكية، منهم: السهيليُّ وغيره. وأما كونه لم يفعله بمكَّةَ، فيُحتمل أنه إنما أمر بها أن يقيمها في دار الهجرة، لا في دار الحرب، وكانت مكَّةُ إذ ذاك دارَ حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكَّنون فيها من إظهار دينهم، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك؛ هاجروا منها إلى المدينة، والجُمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ، منها الخوفُ على النفس والمال" [8]
قال الملَّا علي القاري : "يقول على أعواد مِنبره؛ أي: درجاته، أو متّكئًا على أعواد منبره في المدينة، وذكره للدّلالة على كمال التّذكير، وللإشارة إلى اشتهار هذا الحديث، «لينتهينّ أقوام»، قيل: اللّام للابتداء، وهو جواب القسم، ذكره الطّيبيِّ. «عن ودعهم الجُمعات»؛ أي: عن تركهم إيّاها والتّخلُّف عنها، من: وَدَع الشّيء يَدَعُه وَدْعًا، إذا تركه... «أو ليختمنّ اللّه على قلوبهم»؛ أي: ليمنعنّهم لطفه وفضله، والختم الطّبع، ومثله الرّين، قال عياض: وقد اختلف المتكلّمون في هذا اختلافًا كثيرًا، فقيل: هو إعدام اللّطف وأسباب الخير، وقيل: هو خَلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلّمي أهل السّنَّة. «ثمّ ليكوننّ من الغافلين»؛ أي: معدودين من جملتهم، قال الطِّيبيُّ: (ثمّ) لتراخي الرّتبة؛ فإنّ كونهم من جملة الغافلين المشهود عليهم بالغفلة أدعى لشقائهم، وأنطق لخسرانهم من مُطلَق كونهم مختومًا عليهم، قال القاضي: والمعنى أنّ أحد الأمرين كائن لا محالة، إمّا الانتهاء عن ترك الجمعات، وإمّا ختم اللّه على قلوبهم؛ فإنّ اعتياد ترك الجمعة يغلِّب الرَّين على القلب، ويزهِّد النّفوس في الطّاعة، وذلك يؤدّي بهم إلى أن يكونوا من الغافلين"[9]
قال الصنعانيُّ : "«لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمْ»؛ أَيْ: تَرْكِهِمْ «الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمن اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ» الْخَتْمُ: الاستيثاق من الشّيء بضرب الخاتم عليه؛ كتمًا له وتغطيةً؛ لئلّا يُتوصَّل إليه، ولا يُطَّلع عليه، شُبِّهت القلوب بسبب إعراضهم عن الحقِّ، واستكبارهم عن قبوله، وعدم نفوذ الحقِّ إليها، بالأشياء الّتي استُوثِق عليها بالختم، فلا يَنفُذ إلى باطنها شيء، وهذه عقوبة على عدم الامتثال لأمر اللّه، وعدم إتيان الجمعة من باب تيسير العسرى، «ثمّ ليكوننّ من الغافلين» بعد ختمه تعالى على قلوبهم، فيَغفُلون عن اكتساب ما ينفعهم من الأعمال، وعن ترك ما يضرّهم منها. وهذا الحديث من أعظم الزّواجر عن ترك الجمعة، والتّساهل فيها، وفيه إخبار بأنّ تركها من أعظم أسباب الخِذلان بالكلّيّة، والإجماع قائم على وجوبها على الإطلاق"[10]
قال الشوكانيُّ : "قَوْلُهُ: (وَدْعِهِمْ)؛ أَيْ: تَرْكِهِمْ. قَوْلُهُ: (أَوْ لَيَخْتِمنَّ اللَّهُ تَعَالَى). الْخَتْم: الطّبع والتّغطية. قال القاضي عياض: اختلف المتكلِّمون في هذا اختلافًا كثيرًا، فقيل: هو إعدام اللُّطف وأسباب الخير. وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلِّمي أهل السّنّة، يعني الأشعريّة. وقال غيرهم: هو الشّهادة عليهم. وقيل: هو علامة جعلها اللّه تعالى في قلوبهم ليعرف بها الملائكة من يمدح ومن يذمُّ. قال العراقيُّ: والمراد بالطّبع على قلبه أنّه يصير قلبه قلبَ منافق"[11]
قال ابن القيم : "إن فيه صلاة الجمعة التي خُصَّت من بين سائر الصلوات المفروضات بخصائصَ لا توجد في غيرها، من الاجتماع، والعدد المخصوص، واشتراط الإقامة، والاستيطان، والجهر بالقراءة"[12]
قال ابن العربيِّ : "التركُ للعبادة على ثلاثة أقسام: الأول لعُذر، والثاني لجَحْد، والثالث للإعْراض عنها جهلًا؛ فأما الأول فيُكتَب له أجرُه، وأما الثاني فهو كافرٌ، وأما الثالث فهو المتهاوِنُ، وهي من جملة الكبائر، وسواءٌ صلاها ظُهرًا، أو تركها أصلًا"[13]
قال ابن خُزيمة : "باب الدّليل على أنّ يوم الجمعة يوم عيد، وأنّ النّهيَ عن صيامه إذ هو عيد، والفرق بين الجمعة وبين العيدين: الفطرِ والأضحى، إذ جاء بنهي صومهما مفردًا، ولا موصولًا بصيامٍ قبلُ ولا بعدُ"[14]
المراجع
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 397).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 166).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1023).
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 112).
- "الإجماع" (ص 40).
- "الإقناع في مسائل الإجماع" (1/ 158).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (6/ 152).
- "فتح الباري" لابن رجب (8/66، 67).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1023).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 397).
- "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (3/ 265، 266).
- "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم (1/ 384).
- "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربي (2/ 285).
- "صحيح ابن خزيمة" (3/ 315).
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ»؛ أَيْ: لَمَّا فرغ الله تعالى من خلق المخلوقات. «كَتَبَ فِي كِتَابِهِ»؛ أي: أَمَرَ الْقَلَمَ أن يَكْتُب في اللَّوح المحفوظ. «فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»؛ أي: هو عند الله تعالى فوق العرش. «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»: هذا هو المكتوب: إن رحمتي غلبت غضبي.
رحمةُ الله عزوجل واسعةٌ، تَعُمُّ الـمؤمنَ والكافر، والبرَّ والفاجر، رحمةٌ لا تقتصر على العباد في الدّنيا فقط؛ بل أيضًا يرحم الله عباده يوم القيامة رحمةً كبرى.
وفي هذا الحديث يُبَشِّرُ النَّبِيُّ ﷺ المؤمنين بأن رحمةَ الله تسبِقُ غضبَه سبحانه، فيُخبر النبيُّ ﷺ أن اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلقَ - أَيْ: خَلَقَهُمْ وأوجَدَهم
ومنه قوله تعالى:
﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾
[فصلت: 12][1]
«كَتَبَ فِي كِتَابِهِ»؛ أي: أَمَرَ الْقَلَمَ أن يكتب في اللَّوح المحفوظ، ومثلُه حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضى الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «إن أولَ ما خلَقَ اللهُ القلمُ، فقال له: اكتبْ، قال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ كلِّ شيء حتى تقومَ الساعةُ» [2]؛ "بمعنى: أنه خلق فيه كتابةً دالَّةً على ما أراده سبحانه"[3].
"شبَّه حُكمَه الجازم الذي لا يَعتَريه نسخٌ، ولا يتطرَّقُ إليه تغييرٌ بحُكم الحاكم، إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامَه، عَقَد عليه سِجلًّا، وحُفِظ عنده ليكون ذلك حُجَّةً باقية، محفوظة من التبديل والتحريف"[4].
وقوله ﷺ: «فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» قيل معناه: دونَ العَرش، والـحاملُ على هذا التّأويل استبعادُ أن يكون شيءٌ من المخلوقات فوقَ العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأنّ العرش خَلْقٌ من خلق الله، ويُحتمَل أن يكون الـمراد بقوله: «فهو عنده»؛ أي: يختصُّ سبحانه بعلمه؛ فهو مخفيٌّ عن الخَلق، مرفوعٌ عن حيِّز إدراكهم[5].
وقوله ﷺ: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» فيه إثبات أنّ لله سبحانه و تعالى غضبًا كما أنَّ له رحمةً؛ لكن رحمة الله سبحانه سبقت غضبه؛ فاللهُ أرحم بعباده من الأمِّ بوَلَدها.
ومعنى قوله سبحانه: «غلبت غضبي»؛ أي: غلبت آثارُ رحمتي على آثار غضبي، ومن مظاهر ذلك يوم القيامة من يَدخُل النّار من الـموحِّدين، ثمّ يخرج بالشّفاعة وغيرها. وقيل في سبق رحمته سبحانه على غضبه: إشارة إلى أن نصيب الخلق من رحمته سبحانه أكثرُ من نصيبهم من الغضب، وأن رحمته سبحانه تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فرحمتُه سبحانه تشمل الشخص جَنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا، قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يَصدُر عنه من الذنوب ما يستحقُّ معه ذلك[6].
"وأما قوله: «كتَب عنده: إن رحمتي سبَقَت غضبي»، فهو - واللهُ أعلم - كتابُه في أمِّ الكتاب الذى قضى به وخطَّه القلمُ، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقَه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسَطَ لهم من رحمته في قلوب الأبوينِ على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشَرة أقذارهم، ما إذا تدبَّره متدبِّرٌ، أيقَن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يَرزُق الكفارَ، ويُنعِّمهم، ويَدْفَعُ عنهم الآلامَ، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمةً منه لهم، وقد بلغوا من التمرُّد عليه، والخلع لربوبيته غايات تُغضبه، فتَغلِب رحمتُه ويُدخلهم جنَّته، ومَن لم يتُب عليه حتى توفَّاه، فقد رحمه مدَّةَ عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألَّا يُمهِلَه بالعقوبة ساعةَ كُفره به، ومعصيته له؛ لكنه أمهلَه رحمةً له، ومع هذا فإن رحمةَ الله السابقةَ أكثرُ من أن يُحيط بها الوصفُ"[7].
ووجه الـمناسبة بين قضاء الخَلق وسبق الرّحمة أنّهم مخلوقون للعبادة؛ شكرًا للنِّعَم الفائضة عليهم، ولا يَقدِر أحد على أداء حقِّ الشُّكر، وبعضُهم يقصِّر فيه، فسبقت رحمته في حقِّ الشّاكر بأن وفِّي جزاءه، وزاد عليه ما لا يَدخُل تحت الحصر، وفي حقِّ الـمقصِّر إذا تاب ورجع بالـمغفرة والتّجاوز[8].
المراجع
- نظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (1/ 291).
- رواه أبو داود (4700)، والترمذيُّ (3319) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وقال الألبانيُّ في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" (1/ 405): صحيح.
- "مشكل الحديث وبيانه" لابن فورك (ص: 371).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1860)
- انظر: "فتح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلانيِّ (6/ 291).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3601).
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 488- 489).
- انظر: "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (11/ 3601).
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "شبَّه حُكمَه الجازم الذي لا يَعتَريه نسخٌ، ولا يتطرَّقُ إليه تغييرٌ بحُكم الحاكم، إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامَه، عَقَد عليه سِجلًّا، وحُفِظ عنده ليكون ذلك حُجَّةً باقية، محفوظة من التبديل والتحريف" [1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وأما قوله: «كتَب عنده: إن رحمتي سبَقَت غضبي»، فهو - واللهُ أعلم- كتابُه في أمِّ الكتاب الذى قضى به وخطَّه القلمُ، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقَه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسَطَ لهم من رحمته في قلوب الأبوينِ على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشَرة أقذارهم ما إذا تدبَّره متدبِّرٌ أيقَن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يَرزُق الكفارَ، ويُنعمهم، ويَدْفَعُ عنهم الآلامَ، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمةً منه لهم، وقد بلغوا من التمرُّد عليه، والخلع لربوبيته غايات تُغضبه، فتَغلِب رحمتُه ويُدخلهم جنَّته، ومَن لم يتُب عليه حتى توفَّاه، فقد رحمه مدَّةَ عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألَّا يُمهلَه بالعقوبة ساعةَ كفُره به، ومعصيته له؛ لكنه أمهلَه رحمةً له، ومع هذا فإن رحمةَ الله السابقةَ أكثرُ من أن يُحيط بها الوصفُ"[2].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «لما قضى الله الْخلق»، قَالَ الْخطَّابِيُّ: يُرِيد لما خلق الله الْخلق
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
[فصلت: ١٢]
أَي: خَلَقهنَّ، وَقَالَ ابْن عَرَفَة: قَضَاءُ الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ مِنْهُ، وَبِه سمِّي القَاضِي؛ لِأَنَّهُ إِذا حَكَم فقد فرغ مِمَّا بَين الْخَصْمَيْنِ. قَوْله: «كتب فِي كِتَابه»؛ أَي: أَمر الْقَلَم أَن يكْتب فِي كِتَابه، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، والمكتوب هُوَ: أَن رَحْمَتي غلبت غَضَبي. قَوْله: «فَهُوَ عِنْده»؛ أَي: الْكتاب عِنْده، والعندية لَيست مكانية؛ بل هُوَ إِشَارَة إِلَى كَمَال كَونه مكنونًا عَن الْخلق، مَرْفُوعًا عَن حيّز إدراكهم. قَوْله: «فَوق الْعَرْش»، قَالَ الْخطابِيُّ: قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: دون الْعَرْش؛ استعظامًا أَن يكون شَيْء من الْخلق فَوق الْعَرْش
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَاﱠ
[البقرة: ٢٦]
أَي: فَمَا دونهَا؛ أَي: أَصْغَر مِنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: إِن لفظ الفوق زَائِد
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: َ
إِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنﱠ
[النساء: ١١]
إِذِ الثنتان يرثان الثُّلثَيْنِ. قلتُ: فِي كلٍّ مِنْهُمَا نظر، أما الأول فَفِيهِ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَوْضِعه، وَأما الثَّانِي فَفِيهِ فَسَاد الْمَعْنى؛ لِأَن مَعْنَاهُ يكون حِينَئِذٍ: فَهُوَ عِنْده الْعَرْش، وَهَذَا لَا يَصحُّ، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: معنى قَوْله: فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش؛ أَي: عِلْمُ ذَلِك عِنْد الله فَوق الْعَرْش لَا يُنْسَخ وَلَا يُبدَّل، أَو ذكر ذَلِك عِنْد الله فَوق الْعَرْش، وَلَا مَحْذُورَ من إِضْمَار لفظ الْعلم أَو الذّكر، على أَن الْعَرْش مَخْلُوق، وَلَا يَسْتَحِيل أَن يمسَّهُ كتاب مَخْلُوق؛ فَإِن الْمَلَائِكَة حَملَة الْعَرْش حاملونه على كواهلهم، وَفِيه المماسَّة؛ فَلَا مَحْذُور أَن يكون كِتَابُه فَوق الْعَرْش. فَإِن قلتَ: مَا وَجهُ تَخْصِيص هَذَا بِالذكر على مَا قلت، مَعَ أَن الْقَلَم كَتَب كلَّ شَيْء؟ قلت: لِما فِيهِ من الرَّجَاء الْكَامِل، وَإِظْهَار أَن رَحمته وَسِعت كلَّ شَيْء، بِخِلَاف غَيره. قَوْله: «أَن رَحْمَتي»، بِفَتْح أَن على أَنَّهَا بدل من (كتب)، وبكسرها ابْتِدَاء كَلَام يحكي مَضْمُون الْكتاب. قَوْله: «غلبت»: فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد فِي التَّوْحِيد: «سبقت»، بدل: «غلبت»، وَالْمرَاد من الْغَضَب مَعْنَاهُ الغائيُّ، وَهُوَ لَازمه، وَهُوَ إِرَادَة الانتقام مِمَّن يَقع عَلَيْهِ الْغَضَب والسبق وَالْغَلَبَة بِاعْتِبَار التَّعَلُّق؛ أَي: تعلُّق الرَّحْمَة سَابقٌ غَالب على تَعْلِيق الْغَضَب؛ لِأَن الرَّحْمَة مُقْتَضى ذَاته المقدَّسة، وَأما الْغَضَب فَإِنَّهُ مُتَوَقِّف على سَابِقَة عمل من العَبْد حَادثٍ، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من أورد وُقُوع الْعَذَاب قبل الرَّحْمَة فِي بعض الْمَوَاضِع؛ كمن يَدْخُل النَّار من الْمُوَحِّدين ثمَّ يخرج بالشفاعة أَو غَيرهَا، وَقيل: الرَّحْمَة وَالْغَضَب من صِفَات الْفِعْل لَا من صِفَات الذَّات، فَلَا مَانع من تقدُّم بعض الْأَفْعَال على بعض، وَقَالَ الطيبِيُّ: فِي سبق الرَّحْمَة إِشَارَة إِلَى أَن قسط الْخلق مِنْهَا أَكثر من قسطهم من الْغَضَب، وَأَنَّهَا تنالهم من غير اسْتِحْقَاق، وَأَن الْغَضَب لَا ينالهم إلَّا بِاسْتِحْقَاق، فالرحمة تَشْمَل الشَّخْص جَنِينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا، قبل أَن يَصدُر مِنْهُ شَيْء من الطَّاعَة، وَلَا يلْحقهُ الْغَضَب إلَّا بعد أَن يَصدُر عَنهُ من الذُّنُوب مَا يسْتَحقُّ مَعَه ذَلِك، وَالله تَعَالَى أعلم"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «لما قضى الله الْخلق»؛ أَي: لَمَّا أتمَّه. «كَتَب عِنْده»؛ أَي: أثبت فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قيل: صِفَاته تَعَالَى قديمَة، كَيفَ يُتَصَوَّر السَّبق بَين الرَّحْمَة وَالْغَضَب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُمَا من صِفَات الْفِعْل لَا من صِفَات الذَّات، فَجَاز سبق أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر، وَذَلِكَ لِأَن إِيصَال الْخَيْر من مقتضيات صفته بِخِلَاف غَيره، فَإِنَّهُ بِسَبَب مَعْصِيّة العَبْد"[4].
قال السعديُّ رحمه الله: "وبالجُملة فالله خلق الخلق برحمته، وأَرسَل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشَرَع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة والباطنة برحمته، ودبَّرهم أنواع التدبير، وصرَّفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته، فلا طابت الأمور، ولا تيسَّرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمتُه فوق ذلك، وأجلُّ وأعلى، وللمحسنين المتَّقِين من رحمته النصيبُ الوافر والخير المتكاثِر"[5].
قال محمد خليل هرَّاس رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعف وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العِزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصِفين بها، وأمرهم أن يتواصوا بها؟!
وقوله:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
[غافر: ٧]
من كلام اللّه عزّ وجلّ حكايةً عن حملة العرش والّذين حوله، يتوسّلون إلى اللّه عزّ وجلّ بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسّلات الّتي يُرجى معها الإجابة. ونصب قوله:
رَحْمَةً وَعِلْمًا
على التّمييز المحوّل عن الفاعل، والتّقدير: وسعت رحمتك وعلمك كلَّ شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين
كما قال تعالى:َ
سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
[الأعراف: ١٥٦]
وقوله تعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤]
أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد"[6].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا
لأن الله يقول:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ﱠ
[النحل: 97]
والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة:
قوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
[الأحزاب: 43].
(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
[غافر: 7]
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة"[7].
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
[الأحزاب: 43]
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[التوبة: 117]
ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته"[8].
قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤].
(كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ
[فاطر: 45]
لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى"[9].
قال ابن القيم رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة"[10].
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطيبيِّ (6/ 1860)
- "شرح صحيح البخاريِّ" لابن بطَّال (10/ 488- 489).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (15/ 111).
- "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" للعينيِّ (25/ 139).
- "تفسير أسماء الله الحسنى" للسعديِّ (ص: 203).
- "شرح العقيدة الواسطية" لمحمد خليل هرَّاس (ص: 106، 107).
- "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 248 - 251).
- "بدائع الفوائد" لابن القيم (1/ 24).
- "شرح العقيدة الواسطية" للعثيمين (ص: 251).
- "مختصر الصواعق المرسلة" لابن القيم (ص: 481).
قال أنس رضي الله عنه : (قَدِمَ رسولُ الله ﷺ المدينةَ)؛ أَيْ: من مَكَّةَ بعد الهِجرة. (ولهم)؛ أي: لأهل المدينة. (يومانِ يَلعبون فيهما): هما يوما النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، كانا من أعياد الجاهلية. فقال ﷺ: «ما هذانِ اليومانِ؟!»، هذا استفهامٌ إنكاريٌّ، يُنكر ﷺ ما رآه من انهماك المسلمين في الاحتفال واللعب في أيام الجاهلية وأعيادها.
قالوا: كنا نلعَب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله ﷺ: «إن الله قد أبدلَكم بهما خيرًا منهما»؛ أي: إن الله جعل لكم بدلهما خيرًا منهما، وهذا يَقتضي تَرْك الْمُبْدَل منه، فلا خَيْرَ فيهما؛ إذ لا يُجمَع بينهما. «يوم الأضحى، ويوم الفِطر»، هما يوم عيد النحر، ويوم عيد الفطر.
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث بيانُ قاعدة من قواعد الولاء والبَراء، وهي عدم جواز الاحتفال بأعيادِ غير المسلمين، وأن في يومَيِ الفِطر والأضحى غنًى عنها.
فقول أنس رضى الله عنه: (ولهم يومانِ يَلعبون فيهما)، هما يوما النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ، كانا من أعياد الجاهلية[1]
وقوله رضى الله عنه: «ما هذانِ اليومان؟!» استفهامٌ إنكاريٌّ منه ﷺ لما رأى من انهماك المسلمين في الاحتفال واللعب في أيام الجاهلية وأعيادها([2]
وقوله: «أبدلَكم بهما خيرًا» دليلٌ على تحريم الاحتفال بتلك الأعياد؛ فإن الإبدال من الشيء يَقتضي تَرْك الْمُبْدَل منه؛ إذ لا يُجمَع بينهما؛ كما في
قوله تعالى:
﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوۡلًا غَيۡرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمۡ﴾
[البقرة: 59]،
وقوله تعالى:
﴿وَلَا تَتَبَدَّلُواْ ٱلۡخَبِيثَ بِٱلطَّيِّبِۖ﴾
[النساء: 2]،
وقوله تعالى:
﴿أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا﴾
[الكهف: 50]،
وقوله عزَّ وجلَّ:
﴿وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ﴾
[سبأ: 16].
فذِكْر الإبدال يقتضي تَرْك الْمُبدَل منه، خاصَّةً مع قوله ﷺ: «خيرًا منهما»[3]
ويشهَد لهذا التحريم أن هذَين العيدَين قد انْمَحى أثرُهما في الإسلام، فلم يبقَ لهما ذِكْر في عهد النبيِّ ﷺ ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولو لم يكُن قد نهى الناسَ عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بقُوا على العادة؛ إذ العاداتُ لا تُغَيَّر إلا بمُغَيِّر يُزيلها، لا سيَّما أن طباع النساء والصبيان وكثير من الناس مُتشوِّفةٌ إلى اليوم الذي يتَّخِذونه عيدًا للبطالة واللعب[4]
وقوله: «قد أبدلَكم بهما خيرًا منهما؛ يومَ الأضحى ويوم الفطر» دليلٌ على إباحة اللعب في يومَيِ العيد، والمراد به اللعبُ الْمُباحُ في الشريعة، مما يُمدَح به، أو ما لا يكون فيه إثمٌ[5]
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت:
دخل رسول الله ﷺ وعندي جاريتانِ تُغنِّيانِ بغِناء بُعَاث، فاضطجع على الفراش، وحوَّل وجهَه، فدخل أبو بكر فانتهَرَني، وقال: مِزمارُ الشيطان عند رسول الله ﷺ؟! فأقبلَ عليه رسولُ الله ﷺ، فقال: «دَعْهما»، فلما غفَل غمزتهما فخرَجَتا، وكان يوم عيد يلعَب السُّودان بالدَّرَق والحِراب، فإما سألتُ رسول الله ﷺ، وإما قال: «تَشتَهين تَنظُرين؟» فقلتُ: نعمْ، فأقامني وراءَه، خَدِّي على خَدِّه، وهو يقول: «دونَكم يا بَني أَرْفِدةَ» حتى إذا مَلِلتُ، قال: «حسبُكِ؟» قلتُ: نعمْ، قال: «فاذْهَبي»
[6]
وزاد أحمدُ:
قال رسول الله ﷺ يومئذ: «لتعلمَ يهود أن في ديننا فُسحةً؛ إني أُرسِلتُ بحنيفيَّة سَمْحة»
[7]
المراجع
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (2/ 342).
- انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (5/ 665).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 486).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 488).
- انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (5/ 666).
- رواه البخاريُّ (949، 950)، ومسلم (829).
- أخرجه أحمد (25962)، وصحَّحه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها" (4/ 443).
النقول
قال ابن رجب رحمه الله: "والعيد الثاني: عيد النحر، وهو أكبر العيدين، وأفضلهما، وهو مترتِّب على إكمال الحج"[1]
قال ابن تيمية رحمه الله: "فإن ذَيْنِكَ اليومين الجاهليين قد ماتا في الإسلام، فلم يَبْقَ لهما أثر على عهد رسول الله ﷺ، ولا عهد خلفائه، ولو لم يكن قد نهى الناس عن اللعب فيهما ونحوه مما كانوا يفعلونه، لكانوا قد بَقُوا على العادة؛ إذ العاداتُ لا تُغيَّر إلا بمغيِّر يزيلها، لا سيَّما وطباع النساء والصبيان وكثير من الناس متشوِّفة إلى اليوم الذي يتَّخِذونه عيدًا للبطالة واللعب؛ ولهذا قد يَعجِز كثير من الملوك والرؤساء عن نقل الناس عن عاداتهم في أعيادهم؛ لقوَّة مقتضيها من نفوسهم، وتوفُّر هِمم الجماهير على اتِّخاذها، فلولا قوَّةُ المانع من رسول الله ﷺ لكانت باقيةً، ولو على وجه ضعيف، فعُلم أن المانع القويَّ منه كان ثابتًا، وكلُّ ما منع منه الرسول منعًا قويًّا كان محرَّمًا؛ إذ لا يعني بالمحرَّم إلا هذا" [2]
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "وكانت أهل الجاهلية يلعبون في يومين كلَّ سنة، ويعملون ما لا يَرضى به الله تعالى، فلمَّا ظهر الإسلام، أبدل الله منهما هذين اليومين اللذينِ يظهر فيهما تكبيرُ الله تعالى وتحميده وتوحيده، ظهورًا شائعًا يَغِيظ المشركين، وقيل: إنهما يقعان شكرًا على ما أنعم به من أداء العبادات التي وَقتَهَا، فعيدُ الفطر شُكرًا لله تعالى على إتمام صوم رمضان، وعيد الأضحى شكرًا لله تعالى على العبادات الواقعة في العشر، وأعظمُها إقامةُ وظيفة الحجِّ"[3]
قال الْمُلَّا علي القاري رحمه الله: "عن أنس قال: (قدم النّبيُّ ﷺ المدينة)؛ أي: من مكّة بعد الهجرة. (ولهم) قال الطّيبيُّ: أي: لأهل المدينة، ولولا استدعاء الرّاجع من الحال؛ أعني: ولهم، لكانت لنا مندوحة عن التّقدير. اهـ. يعني: ولقلنا: للأنصار أو للأصحاب. (يومان يلعبون فيهما)، وهما: يوم النّيروز، ويوم الْمِهرجان. كذا قاله الشُّرّاح. وفي القاموس: النَّيروز: أوّل يوم السّنة، معرَّب نَوْروز. قدِّم إلى عليٍّ - رضي اللّه عنه - شيء من الحلاوي، فسأل عنه، فقالوا: للنَّيروز. فقال: نيروزنا كلَّ يوم. وفي المهرجان قال: مِهْرجاننا كلَّ يوم. اهـ. والنَّوْروز مشهور، وهو أوّل يوم تتحوّل الشّمس فيه إلى بُرج الحَمَل، وهو أوّل السّنة الشّمسيّة، كما أنّ غُرّة شهر المحرّم أوّل السّنة القمريّة. وأمّا مِهرجان، فالظّاهر بحُكم مقابلته بالنّيروز أن يكون أوّل يوم الميزان، وهما يومان معتدلان في الهواء، لا حرٌّ ولا برد، ويستوي فيهما اللّيل والنّهار، فكأنّ الحكماء المتقدّمين المتعلّقين بالهيئة اختاروهما للعيد في أيّامهم، وقلَّدَهم أهل زمانهم؛ لاعتقادهم بكمال عقول حكمائهم، فجاء الأنبياء، وأبطلوا ما بنى عليه الحكماء"[4]
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا أنزل الله هذه الآية[5] في أعظم أعياد الأمَّة الحنيفية؛ فإنه لا عيد في النوع أعظمُ من العيد الذي يجتمع فيه المكان والزمان، وهو عيد النحر، ولا عين من أعيان هذا النوع أعظم من يوم كان قد أقامه رسولُ الله ﷺ بعامَّة المسلمين"([6]).
قال الْمُلَّا علي القاري رحمه الله: "فقال: «ما هذان اليومان؟!» قالوا: (كنّا نلعب فيهما)؛ أي: في اليومين. (في الجاهليّة)؛ أي: في زمن الجاهليّة قبل أيّام الإسلام. فقال رسول اللّه ﷺ: «قد» للتّحقيق. «أبدلكم اللّه بهما خيرًا»: الباء هنا داخلة على المتروك، وهو الأفصح؛ أي: جعل لكم بدلًا عنهما خيرًا. «منهما»؛ أي: في الدّنيا والأخرى، وخيرًا ليست أفعل تفضيل؛ إذ لا خيريّة في يومَيْهما. «يوم الأضحى ويوم الفطر» وقدَّم الأضحى؛ فإنّه العيد الأكبر، قاله الطّيبيُّ. نُهِيَ عن اللّعب والسُّرور فيهما؛ أي: في النّيروز والْمِهرجان، وفيه نهاية من اللُّطْف، وأمر بالعبادة؛ لأنّ السُّرور الحقيقيَّ فيها.
قال اللّه تعالى:
﴿قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ﴾
[يونس: 58].
قال المظهر: فيه دليل على أنّ تعظيم النّيروز والمهرجان وغيرهما - أي: من أعياد الكفّار - منهيٌّ عنه. قال أبو حفص الكبير الحنفيُّ: من أهدى في النّيروز بيضةً إلى مشرك تعظيمًا لليوم فقد كفر باللّه تعالى، وأحبط أعماله. وقال القاضي أبو المحاسن الحسن بن منصور الحنفيُّ: من اشترى فيه شيئًا لم يكن يشتريه في غيره، أو أهدى فيه هديّةً إلى غيره، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظِّمه الكفرة، فقد كفر، وإن أراد بالشّراء التّنعُّم والتّنزُّه، وبالإهداء التّحابَّ؛ جريًا على العادة، لم يكن كفرًا؛ لكنّه مكروه كراهة التّشبُّه بالكفرة، حينئذ فيُحترز عنه. اهـ"[7]
قال ابن تيمية رحمه الله: "أفضل أيّام الأسبوع يومُ الجمعة باتِّفاق العلماء، وأفضل أيّام العام هو يومُ النّحر، وقد قال بعضهم: يومُ عرفة، والأوّل هو الصّحيح؛ لأنّ في السُّنن عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «أفضل الأيّام عند اللّه يوم النّحر، ثمّ يوم القَرِّ[8]»[9] لأنّه يوم الحجِّ الأكبر في مذهب مالك والشّافعيِّ وأحمدَ؛ كما ثبت في الصّحيح عن النّبيِّ ﷺ أنّه قال: «يومُ النّحر هو يوم الحجِّ الأكبر»[10]. وفيه من الأعمال ما لا يُعمَل في غيره؛ كالوقوف بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة وحدها، والنّحر، والحَلق، وطواف الإفاضة، فإنّ فعل هذه فيه أفضل بالسّنَّة، واتّفاق العلماء، واللّه أعلم"[11]
قال ابنُ بطَّال رحمه الله: "أَجمَع الفقهاء على أنّ العيد لا تصلَّى قبل طُلوع الشّمس، ولا عند طلوعها؛ وإنّما تجوز عند جواز النّافلة"[12]
قال ابن قدامة رحمه الله: "ويُظهرون التّكبير في ليالي العيدين، وهو في الفطر آكَدُ؛
لقول اللّه تعالى:
﴿وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ﴾
[البقرة: 185]،
وجملتُه أنّه يُستحبُّ للنّاس إظهار التّكبير في ليلتَيِ العيدين في مساجدهم ومنازلهم وطُرقهم، مسافرين كانوا أو مقيمين"[13]
قال ابن تيمية رحمه الله: "ولهذا رجَّحنا أنّ صلاة العيد واجبة على الأعيان كقول أبي حنيفة وغيره، وهو أحد أقوال الشّافعيِّ، وأحد القولين في مذهب أحمد. وقول من قال: لا تجب، في غاية البُعد؛ فإنّها من أعظم شعائر الإسلام، والنّاس يجتمعون لها أعظم من الجمعة، وقد شُرع فيها التّكبير. وقول من قال: هي فرض على الكفاية، لا ينضبط؛ فإنّه لو حضرها في الْمِصر العظيم أربعون رجلًا، لم يحصل المقصود؛ وإنّما يحصل بحضور المسلمين كلِّهم كما في الجمعة"[14]
قال البخاريُّ رضى الله عنه: "بابُ مَن خَالَف الطريق إذا رجع يومَ العيد"، ثم ذكر الحديث:
عن جابرِ بنِ عبد اللَّه رضي اللَّه عنهما، قال:
«كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ»
[15]
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعيّة التّوسعة على العيال في أيّام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم بَسْط النّفس، وترويح البدن من كَلَف العبادة، وأنّ الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أنّ إظهار السُّرور في الأعياد من شعار الدّين"[16]
المراجع
- "لطائف المعارف" لابن رجب (ص 276).
- انظر: "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم" لابن تيمية (1/ 488).
- "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (4/ 477).
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1069).
- آية ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3].
- "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية (1/ 542). .
- "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" للملا علي القاري (3/ 1069).
- يوم القرّ: أول أيام التشريق، وهو يوم الحادي عشر من ذي الحجة.
- أخرجه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وابن خزيمة (2866)، وصحّحه الألبانيّ في "صحيح أبي داود" (1549).
- أخرجه البخاريّ (3177)، ومسلم (1347).
- "مجموع الفتاوى" (25/ 288).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 457).
- المغني (3/255).
- "مجموع الفتاوى" (23/ 161، 162).
- صحيح البخاري (2/ 23)، (986).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 443).
الفذُّ: المنفردُ [1]
المراجع
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (3/ 422): "الفَذُّ: الواحد، وقد فذَّ الرجلُ عن أصحابه؛ إذا شذَّ عنهم وبقي فرْدًا".
المعنى الإجماليُّ للحديث
يروي ابنُ عمرَ عن رسول الله ﷺ أنه قال: «صلاةُ الجماعةِ»؛ أي: صلاة المرء في جماعة، وأقلُّ الجماعة الإمام والمأموم. «أفضَلُ من صلاةِ الفَذِّ بسَبعٍ وعشرينَ دَرجةً»؛ أي: إنّ صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرِد، وتَزيد عليها سبعًا وعشرين درجةً، فيكون لمصلّي الجماعة ثوابُ ثمانٍ وعشرين من صلاة المنفرِد.
الشرح المفصَّل للحديثفي هذا الحديث بيانٌ لفضل صلاة الجماعة، وما فيها من الثواب والبركة؛ فإنها تَزيد على ثواب صلاة الرجُل منفردًا سبعًا وعشرين درجةً.
وقد حاول بعضُ العلماء بيانَ بعض تلك الدرجات، والأوجه التي تَفضُل بها الجماعةُ على صلاة الفرد، فذكروا أن منها ما ورد في السُّنَّة؛ كإجابة المؤذِّن، والتبكير إليها في أوَّل الوقت، والمشيِ إلى المسجد بسَكينة، ودخول المسجد داعيًا، وتحيَّة المسجد، وانتظار الجماعة، والدعاء بين الأذان والإقامة، وتسوية الصفوف، والتأمين خلفَ الإمام... [1]
وقد وردت أحاديثُ صحيحةٌ فيها أن صلاة الجماعة تَفضُل صلاةَ الفذِّ بخَمْس وعشرين درجةً، لا بسَبْعٍ وعشرين؛ فمنها ما رواه أبو هريرةرضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «صلاة الرجُل في الجماعة تَضعُف على صلاته في بيته، وفي سوقه، خَمْسًا وعشرين ضِعفًا؛ وذلك أنه إذا توضَّأ فأحسَنَ الوضوء، ثم خرج إلى المسجد، لا يُخرجه إلا الصلاة، لم يَخْطُ خُطوةً، إلا رُفِعَت له بها درجة، وحُطَّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى، لم تَزَل الملائكة تُصلِّي عليه ما دام في مُصلَّاه: اللهمَّ صلِّ عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال أحدُكم في صلاة ما انتظر الصلاةَ» [2]، وعن أبي سعيد الخُدريِّ رضي الله عنه، أنه سمع النبيَّ ﷺ يقول: «صلاة الجماعة تَفضُل صلاةَ الفذِّ بخمس وعشرين درجة» [3]
واختلف العلماء في الجمع بين العدَدَين على أقوال مختلفة؛ فقيل: إنَّ قومًا مُعيَّنين خوطبوا بكونها في حقِّهم تَزيد على الفذِّ خمسًا وعشرين، ولغيرهم سبعًا وعشرين، وقيل: إن الفضلَ الزائدَ للفَضل في الجماعة؛ فإن كانت جماعةً قليلةً كانت الزيادةُ خمسًا وعشرين، وإن كانت كثيرةً فسَبعًا وعشرين، وقيل: إن ذلك راجعٌ لأحوال المصلِّي؛ فإن كان في غاية من التحفُّظ من كمال الطهارة والخشوع ونحو ذلك، كانت تَفضُل صلاةَ الفرد سبعًا وعشرين درجةً، وإلا فخَمْس وعشرين، وقيل: السَّبع مختصٌّ بالعشاء والفجر، والخمس بغيرها، وقيل: السبع للجهرية، والخمس للسرِّية، وقيل: إن الحديث الذي فيه الخمس والعشرون هو السابق زمانًا؛ لأن الزيادة في الفضل ينبغي أن تكون آخرَ الأمرينِ؛ فإن الله سبحانه يَزيد عباده من فضله، ولا يَنقُصهم من الموعود شيئًا، فالنبيُّ ﷺ حثَّ المؤمنين بما ذكَر من الفضيلة على صلاة الجماعة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه على ما تبيَّنَ له من أمر الله، ثم رأى أن الله تعالى مَنَّ عليه وعلى أمَّته بالزيادة على الموعود، وذلك بجزأينِ على ما في حديث ابن عمر رضي الله عنه، فبشَّرهم به، وحثَّهم عليه [4].
على أن النبيَّ ﷺ قد بشَّر مَن عجَز عن الجماعة لعُذرٍ من مرض أو نحوه أنَّ له مثلَ أجْره وهو سليمٌ صحيحٌ؛ فعن أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، قال رسول الله ﷺ: «إذا مرِض العبدُ، أو سافر، كُتب له مِثلُ ما كان يعمَل مُقيمًا صحيحًا» [5]
وقد أفاد الحديثُ أن صلاة الجماعة ليست فرضًا على الأعيان؛ لكونه ﷺ فاضَلَ بينَها وبين صلاة الفذِّ؛ فسمَّى صلاةَ الفذِّ صلاةً، واعتَبَرها، وجعل لها فضلًا، وإن كانت مفضولةً، فإذا جازت صلاة الفَرْد وحدَه، بطَل أن يكون شهود صلاة الجماعة فرضًا [6]
المراجع
- انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطّال (2/ 274)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133).
- رواه البخاريُّ (647)، ومسلم (649).
- رواه البخاريُّ (646).
- انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (3/ 18)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 284)، "فتح الباري" لابن حجر (2/ 132).
- رواه البخاريُّ (2996).
- انظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (2/ 272)، "الاستذكار" لابن عبد البر (2/ 136).
النقول
قال ابن الأثير : "الفَذُّ: الواحد، وقد فذَّ الرجلُ عن أصحابه؛ إذا شذَّ عنهم وبقيَ فرْدًا"([1]
قال ابن حجر : "وظهر لي في الجمع بين العددين أنّ أقلَّ الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمامُ ما سُمِّيَ المأموم مأمومًا، وكذا عكسُه، فإذا تفضَّل اللّه على من صلّى جماعةً بزيادة خمس وعشرين درجةً، حُمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزّائد، والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل"[2]
قال ابن رجب : "والمراد بهذه الأجزاء والأضعاف والدَّرَج معنًى واحدٌ - واللهُ أعلم - وَهُوَ: أن صلاة الفذِّ لها ثوابٌ مقدَّر معلوم عِنْدَ الله، تزيد صلاة الجماعة عَلَى ثواب صلاة الفذِّ خمسة وعشرين أو سبعة وعشرين"[3]
قال الصنعانيُّ : "قال التّرمذيُّ: عامَّة من رواه قالوا: خمسًا وعشرين، إلّا ابنَ عمر، فقال: سبعةً وعشرين، وله رواية فيها (خمسًا وعشرين)، ولا منافاة؛ فإنّ مفهوم العدد غير مراد؛ فرواية الخمس والعشرين داخلة تحت رواية السّبع والعشرين، أو أنّه أخبر ﷺ بالأقلِّ عددًا أوّلًا، ثمّ أخبر بالأكثر، وأنّه زيادة تفضَّل اللّه بها، وقد زعم قوم أنّ السّبع محمولة على من صلّى في المسجد، والخمس لمن صلّى في غيره، وقيل: السّبع لبعيد المسجد، والخمس لقريبه، ومنهم من أبدى مناسباتٍ وتعليلات استوفاها المصنِّف في "فتح الباري"، وهي أقوال تخمينيّة ليس عليها نصٌّ، والجزء والدّرجة بمعنًى واحد هنا؛ لأنّه عبّر بكلِّ واحد منهما عن الآخر، وقد ورد تفسيرهما بالصّلاة، وأنّ صلاة الجماعة بسبع وعشرين صلاةً فُرادى، والحديث حثَّ على الجماعة"[4]
قال ابن حجر : "وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة، قال ابن الجوزيِّ: وما جاؤوا بطائل، وقال المحبُّ الطّبريُّ: ذكر بعضهم أنّ في حديث أبي هريرة إشارةً إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وقد فصَّلها ابن بطّال، وتبعه جماعة من الشّارحين، وتعقَّب الزَّيْن بنُ الْمُنير بعض ما ذكره، واختار تفصيلًا آخَرَ أورده، وقد نقَّحتُ ما وقفت عليه من ذلك، وحذفت ما لا يختصُّ بصلاة الجماعة، فأوّلها: إجابة المؤذِّن بنيّة الصّلاة في الجماعة، والتّبكيرُ إليها في أوّل الوقت، والمشيُ إلى المسجد بالسّكينة، ودخول المسجد داعيًا، وصلاة التّحيّة عند دخوله، كلُّ ذلك بنيّة الصّلاة في الجماعة، سادسُها: انتظار الجماعة، سابعها: صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها: شهادتهم له، تاسعها: إجابة الإقامة، عاشرها: السّلامة من الشّيطان حين يَفِرُّ عند الإقامة، حاديَ عَشَرَها: الوقوف منتظرًا إحرام الإمام أو الدّخول معه في أيّ هيئة وجده عليها، ثانيَ عَشَرَها: إدراك تكبيرة الإحرام، كذلك ثالثَ عَشَرَها: تسوية الصّفوف وسدّ فرجها، رابعَ عَشَرَها: جواب الإمام عند قوله: سمع اللّه لمن حمده، خامسَ عَشَرَها: الأمن من السّهو غالبًا، وتنبيه الإمام إذا سها بالتّسبيح أو الفتح عليه، سادسَ عَشَرَها: حصول الخشوع والسّلامة عمّا يلهي غالبًا: سابعَ عَشَرَها: تحسين الهيئة غالبًا، ثامنَ عَشَرَها: احتفاف الملائكة به، تاسعَ عَشَرَها: التّدرُّب على تجويد القراءة وتعلُّم الأركان والأبعاض، العشرون: إظهار شعائر الإسلام، الحادي والعشرون: إرغام الشّيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثّاني والعشرون: السّلامة من صفة النّفاق ومن إساءة غيره الظّنّ بأنّه ترك الصّلاة رأسًا، الثّالث والعشرون: ردّ السّلام على الإمام، الرّابع والعشرون: الانتفاع باجتماعهم على الدّعاء والذّكر وعود بركة الكامل على النّاقص، الخامس والعشرون: قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصّلوات؛ فهذه خمس وعشرون خصلةً ورد في كلّ منها أمر أو ترغيب يخصُّه، وبَقِي منها أمران يختصَّان بالجهريّة، وهما الإنصات عند قراءة الإمام، والاستماع لها، والتّأمين عند تأمينه؛ ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجَّح أنّ السّبع تختصُّ بالجهريّة واللّه أعلم"[5]
قال المناويُّ : "قال القاضي: والحديث دليل على أن الجماعة غير شرط للصلاة، وإلا لم تكن صلاة الفذِّ ذات درجة حتى تفضل عليها صلاة الجماعة بدرجات، والتمسُّك به على عدم وجوبها ضعيفٌ؛ إذ لا يلزم من عدم اشتراطها عدم وجوبها، ولا من جعلها سببًا لإحراز الفضل الوجوب؛ فإن غير الواجب أيضًا يوجب الفضل"[6]
قال أبو العباس القرطبيُّ : "وقيل: إن هذا بحسب أحوال المصلين؛ فمن حافظ على آداب الجماعة، واشتدَّت عنايته بذلك، كان ثوابه سبعًا وعشرين، ومن نقص عن ذلك، كان ثوابه خمسًا وعشرين. وقيل: إنه راجع إلى أعيان الصلوات؛ كالصبح والعصر، أو ما شاء الله منها، فيكون على بعضها سبعًا وعشرين، وعلى بعضها خمسًا وعشرين، والله أعلم.
وهذا الحديث ردٌّ على داودَ في قوله: إن من صلَّى فذًّا، وترك الجماعة، لا تُجزئه صلاته. ووجهُ الردِّ عليه: أنه ﷺقال: «صلاة الجماعة أفضلُ من صلاة الفذِّ»، فشرَّك بينهما في الفضيلة، وذلك لا يكون إلا بعد الحُكم بصحة كلِّ صلاة منهما"[7]
قال ابن حجر : "يريد أنّ صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد، وتَزيد عليها العدد المذكور، فيكون لمصلِّي الجماعة ثواب ستٍّ أو ثمانٍ وعشرين من صلاة المنفرد"[8]
قال ابن علان الصديقيُّ : "وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: «صلاة الجماعة» الإضافة فيه بمعنى (في)، والظرفية مجازية، أو بمعنى اللام «أفضل»؛ أي: أكثر ثوابًا، «من صلاة الفَذِّ»، قال في "المصباح": هو الواحد، وجمعه: فُذُوذ، «بسبع وعشرين درجة» لا ينافي هذا ما يأتي في الحديث بعدَه من أنها تضعف على غيرها خمسًا وعشرين؛ إما لأن العدد القليل لا ينفي الكثير، أو أنه أُعلِم بالقليل أولاً، فأَعلَم به، ثم أُعلِم بالكثير فأَخبَر به، أو أن ذلك يختلف بحسب كمال الصلاة، ومحافظة هيئتها، وخشوعها، وكثرة جماعتها، وشرف البُقعة، ونحو ذلك"[9]
قال أبو العباس القرطبيُّ : "وقد اختلف العلماء في هذا الفضل المضاف للجماعة: هل هو لأجل الجماعة فقط حيث كانت، أو إنما يكون ذلك الفضل للجماعة التي تكون في المسجد؟ لما يلازم ذلك من أفعال تختصُّ بالمساجد؛ كإكثار الخُطا إلى المساجد، وكتب الحسنات، ومحو السيئات بكل خُطوة، وانتظار الصلاة، ودعاء الملائكة، ومراعاة آداب دخول المسجد، إلى غير ذلك؟ والظاهر الأول؛ لأن الجماعة هو الوصف الذي عُلِّق عليه الحكم، ثم إذا قلنا: ذلك لأجل الجماعة، فهل تَفضُل جماعةٌ جماعةً بالكثرة؟ المشهور عن مالك أنه لا فضلَ لجماعة على جماعة، وقال ابن حبيب: بل تَفضُل جماعةٌ جماعة بالكثرة، وفضيلةِ الإمام. وعلى المشهور: فمن صلَّى في جماعة، فلا يُعيد في أكثرَ منها، وعليه عامَّة العلماء؛ إلا ما رُوي عن مالك وغيره من إعادتها في المساجد الثلاثة في الجماعة"[10]
قال المناوي : "لا أعرِف لترك السُّنَّة وَجْهًا إلا كفْرٌ خَفِيٌّ أو حُمْقٌ جَلِيٌّ؛ فإن العبدَ إذا عَلم أن النبيَّ ﷺقال ذلك في شأن الجماعة، فكيف تَسمَح نفْسُه بتركها بلا عُذر؟! فسببُ الترك إما حُمْقٌ أو غفلةٌ بألَّا يتفكَّر في هذا التفاوُت العظيم، وأما الكفر فهو أن يخطُر بباله أنه ليس كذلك؛ وإنما ذُكر للترغيب في الجماعة"[11]
قال ابن سراقة : "مِن خصائصنا: الجماعةُ والجُمُعة، وصلاةُ الليل، والعيدين، والكُسوفين، والاستسقاء، والوِتر، وصلاة الضُّحى"[12]
المراجع
- "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (3/ 422).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133).
- "فتح الباري" لابن رجب (6/ 15).
- "سبل السلام" للصنعانيِّ (1/ 358).
- "فتح الباري" لابن حجر (2/ 133، 134).
- "فيض القدير" للمناويِّ (4/ 217).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 60).
- أخرجه أحمد (5468)، وأبو داود (567)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الجامع (7458).
- "دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين" لابن علان الصديقيِّ (6/ 548).
- "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (6/ 61).
- "التيسير بشرح الجامع الصغير" للمُناوي (2/ 97).
- "فيض القدير" للمُناوي (4/ 217).
يروي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ أي: إن أحبَّ الأماكن وأفضلَها عند الله تعالى هي المساجدُ؛ لِمَا فيها من إقامة الصلوات، وذِكْر الله تعالى، وحَلق العِلم؛ فإن المساجدَ بُيوتُ الطَّاعات، وبُقَعٌ أُسِّست للتقوى والعمل الصالح.
وقوله ﷺ: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ أي: إن أبغض الأماكن وأشدَّها كراهيةً عند الله تعالى هي الأسواق؛ لما فيها من اللَّغَط، واللَّغْو، وكثرة الحَلِف، والغِشِّ، والكَذِب، والغَفْلة عن ذكر الله تعالى.
الشرح المفصَّل للحديث:إن المساجد ليست مجرَّد أماكنَ تقام فيه الصلاة، أو أنها بيوت الله وأشرفُ البِقاع على ظهر الأرض فحسبُ؛ بل إن المسجد هو مِحور حياة الأمَّة الإسلامية، وسرُّ قوتها، ومصنع أبطالها، والمدرسة التي تتخرَّج فيها الأجيال الصالحة، وتعلِّم المسلمين كلَّ أمور حياتهم، وهو مكان التقاء المسلمين وتجمُّعهم الدائم، وتقوية الأواصر بينهم.
وفي هذا الحديث يُخبر النبيُّ ﷺ أن المساجدَ هي أحبُّ البقاع إلى الله تعالى؛ فيقول النبيُّ ﷺ: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنّها بُيوتُ الطَّاعات، وأساسُها على التَّقوى، وهي بُيوتٌ خُصَّت بالذِّكر، وبُقَع أُسِّست للتقوى والعمل الصالح.
ومما يبيِّن قيمةَ المسجد في الإسلام: أن أوَّل عمل قام به الرسولُ ﷺ بعد هجرته إلى المدينة، كان بناءَ المسجد، فكان المسجد أوَّلَ لَبِنةٍ، وأساسَ بناء الدولة الإسلامية؛ فأمَّةُ الإسلام قِوامُها المساجد، وقد ضَعُفت الأمَّة حين ضَعُف دور المسجد في حياتها، ولا سبيل لنهضة الأمَّة وعودتها لمجدها التَّليد، وقيادة العالم إلى حضارة القيم والروح والأخلاق، إلَّا بعودة تفعيل دور المسجد في حياة الأمَّة.
لقد كان المسجدُ على عهدِ رسول الله ﷺ موطنَ الدعوة، ودارًا للفتوى، وبه يَلْقى الوفودَ والسُّفراء، ومنه كانت تنطلق الغزواتُ للجهاد في سبيل الله، وإليه تعودُ بعد أداء مَهمَّتها، وهَلُمَّ جرًّا.
وإن أعداء الأمَّة قد حاربوا المساجد، حتى قَصَروا دورها على أن تكون مكانًا للصلاة فقط، حتى الصلاةُ والعبادة يضيِّقون عليها بإغلاق المساجد بعد أداء الصلوات المفروضة مباشرةً في سائر البلاد العربية والإسلامية، فيجعلون دور المسجد مجرَّد مكان تُقام فيه الصلوات الخمس فقط، دون أيِّ دور للمساجد في إصلاح المجتمع والأمَّة؛ ما أثَّر على المجتمعات والأمة بالإفساد والضعف، وقد توعَّد الله تعالى من يضيِّق على المساجد
بقوله تعالى:
(وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآۚ أُوْلَـٰٓئِكَ مَا كَانَ لَهُمۡ أَن يَدۡخُلُوهَآ إِلَّا خَآئِفِينَۚ لَهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا خِزۡيٞ وَلَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٞ)
[البقرة: 114].
إن المسجد مؤسَّسة إسلامية عظيمة، لا يدانيها أيُّ مؤسَّسة إسلامية أخرى، ولا يمكِن إصلاح المجتمع والأمَّة إلا بتفعيل دوره.
"قوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ» لعلَّ تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميحٌ إلى
قوله تعالى:
( وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ )
[الأعراف: ٥٨].
فالمؤمن سَمِع كتاب الله بعقلِه، فوَعَاه وانتفع به؛ كالأرض الطيِّبة أصابها الغَيث فأَنبَتت، والكافرُ بخلافه؛ وذلك لأن زوَّار المسجد؛
(رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ)
[النور: ٣٧]"[1]
إن المساجد بيوت الله تعالى؛
كما قال الله تعالى:
( وَأَنَّ ٱلۡمَسَٰجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدۡعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَدٗا )
[الجن: 18]،
وقال ﷺ: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله»[2]
"فالمساجدُ مساجدُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه،
فقال:
( وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُ )
[البقرة: ١١٤]،
وقال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
[النور: 36، ٣٧]،
فالمساجدُ أحبُّ البقاع إلى الله؛ لأنها مَحَلُّ ذِكره وعبادته، وقراءة شَرْعِه، وغير ذلك من مصالح الدنيا والدِّين؛ ولهذا كان بَذْلُ المال فيها من أفضل أنواع البذل، والبذلُ فيها من الصَّدقة الجارية، وهي أفضل من أن يَجعَل الإنسانُ مالَه في أُضْحِية أو عَشاء أو ما أَشبَه ذلك، فإذا جَعَل مالَه في بناء المساجد وعمارتها، كان ذلك أفضلَ؛ لأن المساجد صدقةٌ جارية باقية عامَّةٌ، كلُّ المسلمين ينتفعون بها، المصلُّون والدارسون والمتعلِّمون والمعلِّمون، والذين آواهم البَرْد أو الحَرُّ إلى المساجد، إلى غير ذلك"[3]
ولَمَّا كان للمساجد هذه المنزلة العظيمة، كان من الواجب عمارتها، وتعظيمها، والعناية بها، وقد حثَّ النبيُّ على بنائها، وبيَّن فضله؛
قال ﷺ:
«من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة»
[4]
وقال تعالى:
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ}
[التوبة: 18]،
ويَدخُل في الآية عمارتها المادية، وعمارتها المعنوية بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، ونحو ذلك من الطاعات.
ولعظم المساجد شَرَع الإسلام آدابًا لها؛ منها: استحبابُ لُبس الثياب الحسنة عند الذهاب إلى المسجد،
قال تعالى:
( يَٰبَنِيٓ ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشۡرَبُواْ وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ)
[الأعراف: 31]
وعدم حضور المساجد لمن أكل الثُّوم أو البصل ونحوهما، وهي ليست محرَّمة؛ ولكن نُهي عنها لرائحتها التي تؤذي المصلِّين والملائكة؛
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبيَّ ﷺ قال:
«مَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ، وَالثُّومَ، وَالْكُرَّاثَ، فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ»
[5]
ويُستحبُّ عند دخول المسجد ذكر الأدعية الواردة في ذلك، ويدخل برجله اليُمنى؛
قال رسول الله ﷺ:
«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»
[6]
وإذا دخل المسجد صلَّى ركعتين؛ تحيَّةً للمسجد؛
قال رسول الله ﷺ قال:
«إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ»
[7]
أما الأسواق، فيقول النبيُّ ﷺ: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ أي: إن أبغض الأماكن وأشدَّها كراهيةً عند الله تعالى هي الأسواق؛ لما فيها من اللَّغَط، واللَّغْو، والغِشِّ، والخداع، والكَذِب، والرِّبا، والأَيْمان الكاذبة، وكثرة الحَلِف، وإخلاف الوعد، والغَفْلة عن ذكر الله تعالى،
وغير ذلك ممَّا في معناه.
"أما الأسواقُ، فإنها مأوى الشياطين، فيها باضَ الشيطانُ وفرَّخ، والعياذ بالله، ونَصَب رايتَه وخَيْمَته؛ لأن أسواق البيع والشراء، الغالبُ فيها - إلَّا ما شاء الله - الكذب والغشُّ والخيانة والحَلِف، وما أَشبَه ذلك؛ فلهذا كانت أبغضَ البلاد إلى الله - عزَّ وجلَّ"[8]
إن الأسواق مخصوصة بطلب الدنيا، "وقُصَّاد الأسواق شياطينُ الجنِّ والإنس من الغَفَلة الذين غَلَبهم الحرِص والشِّدَّة، وهذا لا يورث إلا دُنُوًّا من الشيطان وحزبه، اللهمَّ إلَّا مَن يَعمِد إلى طلب الحلال الذي يَصُون به دينه وعرضه؛
(فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ)
[البقرة: ١٧٣]"[9]
وينبغي لمن يدخل السوق التحلِّي بآداب الإسلام، وأخلاقه، ومكارمه، ويتَّقي الله، ويذكره؛
عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:
«مَنْ قَالَ حِينَ يَدْخُلُ السُّوقَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَبَنَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة»
[10]
المراجع
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
- رواه مسلم (2699).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
- رواه البخاريُّ (439)، ومسلم (533).
- رواه البخاريُّ (855)، ومسلم (564).
- رواه مسلم (713).
- رواه البخاريُّ (444)، ومسلم (714).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
- ) رواه أحمد (327)، وابن ماجهْ (2235)، والترمذيُّ (3428)، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1694).
النقول
قال النوويُّ : "قولُه: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنّها بُيوتُ الطَّاعات، وأساسُها على التَّقوى. قوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ لأنّها مَحَلُّ الغِشِّ والخداع والرِّبا والأَيْمان الكاذبة، وإخلافِ الوعد، والإعراضِ عن ذكر اللّه، وغير ذلك ممَّا في معناه... والمساجد مَحَلُّ نزول الرَّحمة، والأسواق ضِدُّها"[1]
قال القاضي عياض : "وقوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا»؛ لأنها بُيوتٌ خُصَّت بالذِّكر، وبُقَع أُسِّست للتقوى والعمل الصالح. وقوله: «وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا»؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا، ومخادعة العباد، والإعراض عن ذكر الله، ومظانِّ الأَيمان الفاجرة"[2]
قال الطِّيبيُّ: "قوله: «أَحَبُّ الْبِلَادِ» لعلَّ تسمية المساجد والأسواق بالبلاد خصوصًا تلميحٌ إلى
قوله تعالى :
(وَٱلۡبَلَدُ ٱلطَّيِّبُ يَخۡرُجُ نَبَاتُهُۥ بِإِذۡنِ رَبِّهِۦۖ وَٱلَّذِي خَبُثَ لَا يَخۡرُجُ إِلَّا نَكِدٗاۚ)
[الأعراف: ٥٨].
قال قتادةُ: المؤمن سَمِع كتاب الله بعقلِه، فوَعَاه وانتفع به؛ كالأرض الطيِّبة أصابها الغَيث فأَنبَتت، والكافرُ بخلافه؛ وذلك لأن زوَّار
المسجد؛
(رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ)
[النور: ٣٧]،
وقُصَّاد الأسواق شياطينُ الجنِّ والإنس من الغَفَلة الذين غَلَبهم الحرِص والشِّدَّة، وذلك لا يَزيد إلا قربًا من الله تعالى، ومن أوليائه، وهذا لا يورث إلا دُنُوًّا من الشيطان وحزبه، اللهمَّ إلَّا مَن يَعمِد إلى طلب الحلال الذي يَصُون به دينه وعرضه؛
( فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ )
[البقرة: ١٧٣]
ويجوز أن يقدَّر مُضافٌ، فيَرجِع الضمير في (مساجدها) و(أسواقها) إليه؛ أي: أحبُّ بِقاع البلاد مساجِدُها، والله أعلم"[3]
قال ابن عثيمين : "فالمساجدُ مساجدُ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ ولهذا أضافها الله إلى نفسه،
فقال:
( وَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُ )
[البقرة: ١١٤]
وقال تعالى:
{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ}
[النور: 36، ٣٧]،
فالمساجدُ أحبُّ البقاع إلى الله؛ لأنها مَحَلُّ ذِكره وعبادته، وقراءة شَرْعِه، وغير ذلك من مصالح الدنيا والدِّين؛ ولهذا كان بَذْلُ المال فيها من أفضل أنواع البذل، والبذلُ فيها من الصَّدقة الجارية، وهي أفضل من أن يَجعَل الإنسانُ مالَه في أُضْحِية أو عَشاء أو ما أَشبَه ذلك، فإذا جَعَل مالَه في بناء المساجد وعمارتها، كان ذلك أفضلَ؛ لأن المساجد صدقةٌ جارية باقية عامَّةٌ، كلُّ المسلمين ينتفعون بها، المصلُّون والدارسون والمتعلِّمون والمعلِّمون، والذين آواهم البَرْد أو الحَرُّ إلى المساجد، إلى غير ذلك. أما الأسواقُ، فإنها مأوى الشياطين، فيها باضَ الشيطانُ وفرَّخ، والعياذ بالله، ونَصَب رايتَه وخَيْمَته؛ لأن أسواق البيع والشراء، الغالبُ فيها - إلَّا ما شاء الله - الكذب والغشُّ والخيانة والحَلِف، وما أَشبَه ذلك؛ فلهذا كانت أبغضَ البلاد إلى الله - عزَّ وجلَّ - وفي هذا الحديث إثباتُ الحبِّ والبُغض للهِ - عزَّ وجلَّ – أي: أن الله يحبُّ ويُبغض، ومن أصول أهل السنَّة والجماعة أننا نؤمن بذلك، ونقول: إن الله تعالى يحبُّ ويُبغض، وهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وأنه لا يحبُّ إلا ما فيه الخيرُ والصلاح، ولا يُبغض إلا الشرَّ والخبائث، وينبغي أيضًا - كما جاء في حديث سلمان - ألَّا يكون أوَّلَ من يَدخُلها، ولا آخر من يَخرُج منها؛ لأنها أبغض البلاد إلى الله، ويَحصُل فيها اختلاط بين الرجال والنساء، والنَّظَرات المحرَّمة، والكلام المحرَّم، وما أَشبَه ذلك"[4]
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (5/ 171).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 647).
- "الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (3/ 930، 931).
- "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (6/ 656، 657).
رافدة عليه: من الرَّفْد، وهو الإعانة، ومنه الرِّفْد: العطاء. والمراد: تُعينه نفْسه على أدائها[1]
الهَرِمة: أي: الكبيرة في السِّنِّ الضعيفة [2]
الدَّرِنة: أي الجَرْباء [3]
الشَّرَط: رُذالة المال وأَسْوَؤُه [4]
المراجع
- قال الخطَّابيُّ في "غريب الحديث" (1/508): رافدة عليه: من الرَّفْد، وهو الإعانة، يقال: رفدْتُ الرجلَ أرْفِده رِفدًا، والرِّفْد: العطاء. وقال أبو عبيد الهروي في "الغريبين في القرآن والحديث" (3/ 760): أي تُعينه نفْسه على أدائها.
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (5/ 261): الهَرَم: الكِبَر. وقد هَرِم يهْرَم فهو هَرِم. جُعِل الهرَمُ داءً تشبيهًا به؛ لأن الموت يتعقَّبه كالأدواء.
- قال ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (2/ 115): أي: الجرْباء. وأصله مِن الدَّرن، وهو الوسخ.
- قال الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 509): الشَّرَطُ: رُذالَةُ المال، كالصَّغِيرة والمُسِنَّة والأعْجَف والدَّبِر ونحْوها.
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي عبد الله بنُ مُعاويةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ أنه قال: «ثلاثٌ مَن فعَلهنَّ»؛ أي: ثلاثُ طاعات أو خصال من اكتسبهن. «فقد طَعِمَ طَعْمَ الإيمانِ»: فالإيمان له طعمٌ وحلاوةٌ روحية نفسية قلبية، بانشراح الصدر، وطُمأنينة القلب، والأُنس بالله تعالى. «مَن عبَدَ اللهَ وحدَه»: بالتوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى، ولا يكون إسلامُ المرْءِ إلا به. «وأنه لا إلهَ إلا اللهُ»؛ أي: وشَهِد أنه لا معبود بحقٍّ إلا الله تعالى. «وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفْسُهُ»: فإعطاء الزكاة بطِيب نفس، لا يفعله إلا مؤمنٌ؛ لأن المال تُحبُّه النفوسُ وتَبخَل به. «رافدةً عليه كلَّ عام»؛ أي: تُعِينه نفْسُه على بذل المال، ولا تمنعُه عنه، ولا تُحدِّثه بالمنع. «ولا يُعطي الهَرِمة»؛ أي: الكبيرة في السِّنِّ الضعيفة. «ولا الدَّرِنةَ»؛ أي: الجَرْباء. «ولا المريضةَ، ولا الشَّرَطَ اللئيمةَ»؛ أي: أردأ المال وأرذله. «ولكن مِن وسَطِ أموالكم»؛ أي: أن الذي يخرج من وسَط المال، لا من الخيار ولا من الشرار. «فإنَّ اللهَ لم يَسألْكم خيرَه»؛ أي: فإن الله تعالى لم يطلب منكم أن تُخرجوا خيار أموالكم للزكاة. «ولم يأمُرْكم بشرِّه»، ولم يأمركم بإخراج شِرار المال؛ إنما طلب الوسط.
الشرح المفصَّل للحديث:في هذا الحديث بيانٌ لأمور عظيمة من أمور الإسلام، لا يتحقَّق إيمانُ العبد، ولن يتذوَّق حلاوةَ الإيمان حتى تتحقَّق فيه تلك الأمور.
قوله: «ثلاث من فعَلهن؛ فقد طَعِم طعْمَ الإيمان»: إجمالٌ لتلك الأمور قبل تفصيلها، وهذا للتشويق والحثِّ على الاهتمام والعناية، كما ذكر العدد؛ لأنه أبعثُ في النفوس على استحضار الذِّهن؛ فإن الإنسان يضبط العددَ، ولا بدَّ أن يُطابق العددُ المعدود، فإذا ذُكِر العددُ أولًا، استحضر الإنسانُ ذهنَه حتى يُطابق المعدود بالعدد [1].
وقد استخدم النبيُّ ﷺ الطَّعْم مع أمر قلبيٍّ، وإن كان إنما يدخُل مع المأكول والمشروب من باب المجاز؛ فاستُعمل بمعنى الإصابة؛ كقوله تعالى:
﴿وَمَن لَّمْيَطْعَمْهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّىٓ﴾
[البقرة: 249]،
وقوله تعالى:
﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَٰنِكُمْ فَذُوقُوا ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾
[آل عمران: 106]،
وقوله:
﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا بِـَٔايَٰتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا ٱلْعَذَابَ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾
[النساء: 56]،
وقوله تعالى:
﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْكَرِيمُ﴾
[الدخان: 49]،
وقوله تعالى:
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَٰقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا﴾
[الطلاق: 9]؛
مبالغةً في إيصال المعنى [2] .
فشبَّه النبيُّ ﷺ الإيمانَ بالعسل وحُلْوِ الطَّعام؛ للجهة الجامعة بينهما، وهو الالتذاذُ، ومَيل القلب إليه [3].
وطَعْم الإيمان الذي يَذوقه مَن هذه صفتُه: استلذاذُ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رِضَا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله ﷺ، وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبَّة العبد ربَّه - سبحانه وتعالى - بفعل طاعته، وتَرْك مخالفته، وما يلقاه من انشراح صدره، وتَنْويره بمعرفة الله تعالى ومعرفة رسوله، ومعرفة مِنَّة الله تعالى عليه في أن أنعمَ عليه بالإسلام، ونَظَمَهُ في سِلك أُمَّة محمَّدٍ خيرِ الأنام، وحبَّب إليه الإيمان والمؤمنين، وبغَّض إليه الكفر والكافرين، وأنجاه من قبيح أفعالهم وركاكة أحوالهم [4].
قوله: «مَن عبَدَ الله وحدَه» هذه الخصلة الأُولى من الحديث، وهي التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى، وهي التي لا يكون إسلامُ المرْءِ إلا بها؛
قال تعالى:
﴿قُلْ يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍۢ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِۦ شَيْـًٔا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ ٱللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا ٱشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾
[آل عمران: 64]،
وقال تعالى:
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلْإِسْلَٰمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ٱلْءَاخِرَةِ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ ﴿٨٥﴾ كَيْفَ يَهْدِى ٱللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَٰنِهِمْ وَشَهِدُوٓا أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ ۚ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ﴾
[آل عمران: 85، 86]،
وقال تعالى:
﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِۦ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًۢا بَعِيدًا﴾
[النساء: 116]،
وقال تعالى:
﴿إِنَّهُۥ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَٰهُ ٱلنَّارُ ۖ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍۢ﴾
[المائدة: 72]،
وقال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أُوحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ٱلْخَٰسِرِينَ﴾
[الزمر: 65].
والعبادة: غايةُ الخضوع والتذلُّل والانقياد، وهي عامَّةٌ لكلِّ ما يُتذلَّل به لله تعالى فيما أَمَر به، فيَشمَل كلَّ عبادة أَمَر الله بها [5].
وقوله: «وأنه لا إله إلا الله»: هذا العطفُ حقُّه أن يكون مقدَّمًا وجودًا ورُتبةً؛ إذ لا يَعبُد الله وحدَه إلا مَن علِم أنه لا إله إلا هو؛ لكنَّ هذا العطف سِيق لبيان المعطوف؛
كقوله تعالى:
﴿ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ﴾
[البقرة: 232]،
وربما كان من عطف الخاصِّ على العامِّ؛ فإن العِلْم بأنه لا إله إلا هو فرعٌ عن التوحيد الذي يَشمَل القول والاعتقاد والفعل [6].
وقوله: «وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُهُ»: هذه الخصلة الثانية التي ينال بها العبد، ويتذوَّق حلاوةَ الإيمان، وهي إعطاء الزكاة. وإنما ذكر هنا إعطاء الزكاة دون غيرها من الفرائض كالصلاة مثلًا أو الصيام؛ لأن المال تُحبُّه النفوسُ وتَبخَل به؛
كما قال تعالى:
﴿وَءَاتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ﴾
[البقرة: 177]،
وقال تعالى:
﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾
[العاديات: 8]؛
أي: المال، فإذا سمحت النفْسُ بإخراجه لله - عزَّ وجلَّ - دلَّ على صحَّة إيمانها بالله ووعده ووعيده؛ ولهذا لما منعت العربُ الزكاةَ بعد النبيِّ ﷺ، قاتَلَهم الصدِّيق رضي الله عنه على مَنْعها [7]
واشترط في الإعطاء أن تكون نفْسه طيبةً بها، فلا يُعطيها مجبَرًا أو راغمًا؛ كحال المنافقين الذين ذكرهم الله عزَّ وجلَّ:
﴿وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَٰتُهُمْ إِلَّآ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِٱللَّهِ وَبِرَسُولِهِۦ وَلَا يَأْتُونَ ٱلصَّلَوٰةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَٰرِهُونَ﴾
[التوبة: 54].
فإذا عرَف العبد ربَّه، ذاق حلاوة عبادته، وطابت نفْسه بتحمُّل المشاقِّ، والإعراض عن الدنيا بإخراج الزَّكَوات منشرحًا بها صدرُه، وكثرة الصَّدَقات، وأفعال الخير؛ طلبًا لِما هو عند الله باقٍ [8].
وقوله: «رافدة عليه كل عام»؛ أي: تُعِينه نفْسه على بذل المال، ولا تمنعُه عنه، ولا تُحدِّثه بالمنع، فهي تَرفِده، من الرِّفد وهو المعاونة، أو من الرِّفْد بمعنى العطاء. والضمير في "عليه" يعود على الإعطاء، الذي يدلُّ عليه قوله: "أعطى" [9].
وقوله: «ولا يعطي الهَرِمةَ، ولا الدَّرِنةَ، ولا المريضةَ، ولا الشَّرَطَ اللئيمةَ» هذا هو الشرط الثالث والخصلة الثالثة؛ ليتحقَّق بها طعمُ الإيمان في قلب العبد وروحه، وهو أن يُخرج الطيِّب مما عنده، ولا يختار أخبثَ ما عنده ليدفعه إلى الفقراء، وهو كقوله تعالى:
﴿يٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ ۚ وَٱعْلَمُوٓا أَنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ﴾
[البقرة: 267]،
وقوله تعالى:
﴿لَن تَنَالُوا ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍۢ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦعَلِيمٌ﴾
[آل عمران: 92].
وهذا الحديث خرج مخرجَ الغالب؛ فإن المرض في الحيوانات نادرٌ، ومُراد النبيِّ ﷺ تحذيرُ مَن ينتخبون أراذل أموالهم للصدقة، فأما مَن كان كلُّ ما عنده مريضٌ، فإنه يُجزئه أن يُخرجَ عنها المريض كذلك [10].
وقوله: «ولكن مِن وسَطِ أموالكم» الوسطُ يأتي في اللغة بمعانٍ مختلفة؛ منها الأفضلُ؛
كقوله تعالى:
﴿قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ﴾
[القلم: 28]؛
أي: أفضلُهم وأخيرُهم، ويأتي بمعنى المنتصَف بين نقيضين؛
كقوله تعالى:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
[البقرة: 143]؛
أي: بين طرَفَيْ نَقيض، بين الإفراط والتفريط، وهذا المقصود هنا؛ بدليل قوله: «فإنَّ اللهَ لم يَسألْكم خيرَه، ولم يأمُرْكم بشرِّه»، وبدليل حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له الصَّدقة التي أمر اللهُ رسوله ﷺ: «ولا يُخْرَجُ في الصدقة هَرِمةٌ، ولا ذاتُ عَوار، ولا تَيْسٌ، إلا ما شاء الْمُصَدِّق» [11]؛ فإن قوله: «ولا تَيْس» دليلٌ على ذلك؛ فإن التيس: هو الفَحل من الماعز أو الغنم عامَّةً؛ فلا يأخذ الساعي المريضَ، ولا أفضلَ المال، وفي الحديث الذي رواه عن ابن عبَّاس ﭭ، أن النبيَّ ﷺ لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك تَقْدَمُ على قوم أهل كتاب، فليكنْ أولَ ما تدعوهم إليه عبادةُ الله، فإذا عرَفوا الله، فأخبرهم أن الله قد فرَض عليهم خمسَ صلَوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا، فأخبرهم أن الله فرَض عليهم زكاةً من أموالهم، وتُرَدُّ على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها، فخُذْ منهم، وتَوَقَّ كرائمَ أموال الناس» [12].
المراجع
1. انظر: "شرح سنن أبي داود" للعباد (الدرس رقم 191).
2. انظر: "شرح المشكاة الكاشف عن حقائق السنن" للطِّيبيِّ (2/ 446).
3. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 516).
4. انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبيِّ (1/ 210)، "شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 13).
5. "التحبير لإيضاح معاني التيسير" للصنعانيِّ (1/ 167).
6. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 516)، "التحبير لإيضاح معاني التيسير" للصنعانيِّ (1/ 167).
7. انظر: "شرح ابن رجب للأربعين النووية" (ص: 184).
8. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 517)، "التحبير لإيضاح معاني التيسير" للصنعانيِّ (1/ 167).
9. انظر: "شرح أبي داود" للعينيِّ (6/ 273).
10. انظر: "شرح سنن أبي داود" لابن رسلان (7/ 517).
11. رواه البخاريُّ (1455). والْمُصَدِّقُ: آخِذُ الصدقات الذي هو وكيل الفقراء في قبض الزكوات بأن يؤدِّيَ اجتهاده إلى أن ذلك خير لهم وحينئذٍ. "شرح القسطلاني" (3/ 47).
12. رواه البخاريُّ (1458)، ومسلم (19).
النقول
قال النوويُّ رحمه الله: "معنى (حلاوة الإيمان): استلذاذ الطاعات، وتحمُّل المشقَّات في رضا الله - عزَّ وجلَّ – ورسوله ﷺ وإيثار ذلك على عَرَض الدنيا، ومحبَّة العبدِ ربَّه - سبحانه وتعالى - بفعل طاعته، وترك مخالفته، وكذلك محبَّة رسول الله ﷺ"([1]).
قال الخطَّابيُّ رحمه الله: "رافدة عليه: من الرَّفْد، وهو الإعانة، يقال: رفدْتُ الرجلَ أرْفِده رِفدًا، والرِّفْد: العطاء... والدَّرِنَةُ الدُّونُ، وأصل الدَّرَن الوَسَخُ. وَالشَّرَطُ رُذَالَةُ المال؛ كالصَّغِيرة والْمُسِنَّة والأعْجَف والدَّبِر ونحْوها. قال أبو عُبيدة: أشراط المال صِغارُ الغَنَم وشِرارهُ"([2]).
قال ابن الأثير رحمه الله: "الهَرَم: الكِبَر. وقد هَرِم يهْرَم فهو هَرِم. جُعِل الهرَمُ داءً تشبيهًا به؛ لأن الموت يتعقَّبه كالأدواء".
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قوله: «طعم طعم الإيمان» طعم: فعل مُعجميٌّ بكسر العين، بمعنى ذاق، ومنه قوله تعالى:
﴿وَمَن لمْ يَطعَمْهُ فَإِنهُ مِنِّي﴾
والطعم بالفتح ما يؤدِّيه الذَّوق. قوله: «من عبدَ الله وحده»؛ أي: أُولى الخصال الثلاثة: مَن عبد الله وحده. قوله: «وأنه لا إله إلا الله» عطف على قوله: «وحده»، فيكون في محلِّ النصب؛ لأن "وحده" حال؛ بمعنى: ينفرد وحدَه، كما قرَّرناه مرةً. قوله: «وأعطى زكاة ماله» هي الخصلة الثانية. قوله: «طيبة بها نفسه»؛ أي: حال كونه طيِّبةً بالزكاة نفسُه، وإنما أتت طيِّبة لاستنادها إلى النفس، يُقال: طابت نفسُه بالشيء، إذا سَمِحت به من غير كراهة ولا غضب. قوله: «رافدة عليه»؛ أي: مُعينة، وأصل الرَّفد الإعانة، يُقال: رفدتُه أَرفِده إذا أَعَنْتُه، وانتصابها على أنها حال من "نفسه"، والضمير الذي في "عليه" يرجع إلى الإعطاء، الذي يدلُّ عليه قوله: "وأعطى"، والمعنى: مُعينة على إعطائها؛ أي: أداء الزكاة. قوله: «ولم يعط الهرِمَة» هي الخصلة الثالثة، و"الهرمة" الكبيرة في السنِّ. قوله: "ولا الدَّرِنة" بفتح الدال المهملة، وكسر الراء، وبعدها نون مفتوحة، وتاء تأنيث؛ أي: ولا يعطي الدَّرِنة، وهي الجَرْباءُ، وأصل الدَّرَن الوَسَخ. قوله: «ولا الشرَطَ» بفتح الشين المعجمة، والراء، وبطاء مهملة. قال الخطابيُّ: الشَّرَطُ: رذالة المال. وقال ابن الأثير: وقيل: صغار المال وشِراره. قوله: «اللئيمة»: نُصِب على أنها صفة "للشَّرَط" ومعناها الدنيئة. قوله: «من وسَط أموالكم» بفتح السين. قوله: «لم يسألكم خيره»؛ أي: خير ما لكم، و «لم يأمركم بشرِّه»؛ أي: برذالته"([3]).
قال الشوكانيُّ رحمه الله: "قوله: «رافدةً» الرّافدة: الْمُعِينة والْمُعطية، والمراد هنا المعنى الأوّل؛ أي: مُعينة له على أداء الزّكاة. قوله: «ولا الدَّرِنة» بفتح الدّال المهملة مشدَّدةً، بعدها راء مكسورة، ثمّ نون، وهي الجَرباء، قاله الخطّابيُّ، وأصل الدَّرَن: الوَسَخ كما في القاموس وغيره.
قوله: «ولا الشَّرَطَ اللّئيمة»: الشّرَط بفتح الشّين المعجمة والرّاء، قال أبو عُبيد: هي صغار المال وشراره، واللّئيمة: البخيلة باللّبن. قوله: «ولكن من وسط أموالكم... إلخ» فيه دليل على أنّه ينبغي أن يخرج الزّكاة من أوساط المال، لا من شِراره، ولا من خياره"([4]).
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد ذكرنا قريبًا حديث أبي الدّرداء فيمن أدَّى زكاة ماله طيِّبةً بها نفسُه، قال: وكان يقول: لا يفعل ذلك إلّا مؤمن. وسببُ هذا أنّ المال تحبُّه النّفوس وتَبخَل به، فإذا سمحت بإخراجه للّه - عزّ وجلّ - دلَّ ذلك على صحّة إيمانها باللّه، ووعده، ووعيده؛ ولهذا منعت العرب الزّكاة بعد النّبيِّ r، وقاتلهم الصّدِّيق رضي اللّه عنه على منعها"([5]).
قال العظيم أبادي رحمه الله: "«رافدة عليه»: الرّافدة فاعلة من الرَّفد، وهو الإعانة، يقال: رَفَدْتُه أَرْفِدُه إذا أَعَنْتُه؛ أي: تُعينه نفسُه على أداء الزّكاة، «ولا الدَّرِنة»: بفتح الدّال المهملة بعدها راء مكسورة ثمّ نون، وهي الجرباء، قاله الخطّابيُّ. وأصل الدّرن الوسخ كما في القاموس. «ولا الشَّرَط»: بفتح الشّين المعجمة والرّاء. قال أبو عُبيد: هي صغار المال وشراره. وقال الخطّابيُّ: والشَّرَط رذَالة المال. «اللّئيمة»: البخيلة باللّبن، ويقال: لئيم، للشّحيح والدّنيِّ النّفس والْمَهين. «ولكن من وسط أموالكم»: فيه دليل على أنّه ينبغي أن يُخرج الزّكاة من أوساط المال، لا من شراره، ولا من خياره"([6]).
قال عبدالمحسن العباد رحمه الله: "قوله: «ثلاث من فعلهن، فقد طعم طعم الإيمان»: هذا إجمالٌ من أجل الاهتمام والعناية والتشويق لما سيذكر بعد ذلك؛ مثل قوله: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان»، ثم يأتي التفسير، وهنا قال: «ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان» ثم يأتي التفسير، وهذا فيه حثٌّ على الاهتمام بما سيأتي، وأيضًا ذِكْرُ العدد يجعل الإنسان يضبط العدد، ولو نَسِي شيئًا، فإنه سيعلم أنه حصل نقصٌ؛ لأنه لابدَّ أن يطابق العددُ المعدود، فإذا ذُكر العدد أولاً، فإنه يجعل الإنسان يطالب نفسه بالمعدود حتى يطابق العدد، فهذا من فوائد تقديم العدد. قوله: «من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله» هذه الخصلة الأولى من الثلاث، وهي إخلاص العبادة لله - عزَّ وجلَّ - وهذا هو الأساس؛ لأن إفراد الله بالعبادة أساس كلِّ عمل، وكل عمل من الأعمال لا يُقبَل إلا إذا كان خالصًا لوجه الله - عزَّ وجلَّ - وحدَه لا شريك له. و(لا إله إلا الله) هي كلمة الإخلاص والتوحيد، ومعناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، فهي مشتملة على نفي وإثبات، نفيٍ عامٍّ في أوَّلها، وإثبات خاصٍّ في آخرها، النفيُ العامُّ الذي في أولها هو نفيُ العبادة عن كلِّ ما سوى الله، والإثبات الخاصُّ الذي في آخرها هو إثبات العبادة لله وحده لا شريك له. قوله: «وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه»: هذه الخصلة الثانية، وهي محلُّ الشاهد من إيراد الحديث في الترجمة؛ أي: أنه يُخرِج الزكاة عن طِيب نفس، فلا يُخرجها عن كراهية وعدم رضا وعدم ارتياح؛ لأن هذا حُكم الله، وهذا حقٌّ أوجبه الله - عزَّ وجلَّ - في أموال الأغنياء للفقراء؛ شكرًا لله - عزَّ وجلَّ - على هذه النعمة، والزكاةُ من أسباب نماء المال، وأسباب كثرته. قوله: «رافدة عليه كل عام»: الرِّفد هو الزيادة؛ فالمعنى أنها زيادة ونماء في ماله. قوله: «ولا يعطي الهَرِمة ولا الدَّرِنة»: يُحتمَل أن يكون قوله: «من عبد الله وحده، وأنه لا إله إلا هو» اثنتين، ثم الثالثة ما يتعلَّق بالزكاة، ويُحتمَل أن يكون خصلةً واحدة، وإعطاء الزكاة طيبة بها نفسه هي الخصلة الثانية، وكونه لا يَعمِد إلى شيء فيه عَيْبٌ، وفيه نقص، فيُخرجه الخصلة الثالثة. والهَرِمة هي الكبيرة التي طَعَنت في السنِّ، وبلغت سنَّ الهَرَم، والدَّرِنة هي التي فيها الجرب، وتسمَّى الجرباء. قوله: «ولا المريضة ولا الشَّرَط اللئيمة»: المرض نقصٌ فيها، وقد يؤدِّي إلى هلاكها، أو يكون النقص الذي يَحصُل لها بسبب المرض شديدًا، والشَّرَط اللئيمة هي أرذلُ المال ورَدِيئُه. قوله: «ولكن من وسط أموالكم» يعني: أن الذي يخرج من الوسط، لا من الخيار ولا من الشرار؛ وإنما من وسط المال... قوله: «فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرِّه»: خيره هو خيارُ المال، وشرُّه هو شِرار المال، والشارع إنما طلب الوسط"([7]).
المراجع
1. شرح النوويِّ على مسلم" (2/ 13).
2. "غريب الحديث" للخطَّابيِّ (1/508، 509).
3. "شرح سنن أبي داود" لبدر الدين العينيِّ (6/ 273، 274).
4. "نيل الأوطار" للشوكانيِّ (4/ 160).
5. "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (2/ 24).
أشعث: أي: متفرِّق الشَّعر، والمقصود: غير مُهتمٍّ بمَظْهَره[1]
أغبَر: يُخالط لونُه لونَ الغُبَار[2]
المراجع
- قال الأصمعيُّ: الشَّعث: تفرُّق الشَّعر، فلا يكون ملبَّدًا. انظر: "غريب الحديث" لإبراهيم الحربي (2/ 589)، "النهاية في غريب الحديث والأثر" لابن الأثير (2/ 478).
- قال أبو موسى الأصبهانيُّ المدينيُّ في "المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث" (2/ 536): الأَغبَر: الذي يخالِطُ لَونَه غُبْرةٌ.
المعنى الإجماليُّ للحديث:
يروي أبو هريرة ر ضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أيها الناس، إن اللهَ طيِّبٌ»؛ أي: إنه تعالى طاهرٌ منزَّه عن النقائص. «لا يَقبَل إلا طَيِّبًا»؛ أي: حلالًا. «وإن الله أمَر المؤمنين بما أمر به المرسلين؛
فقال:
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}
[المؤمنون: 51]،
وقال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
[البقرة: 172]
أي: إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين، ورُسُلَه بعمل الصالحات، وأَكْلِ الطيِّبات من الرزق.
«ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ»؛ أي: ضَرَب النبيُّ ﷺ مَثَلاً لهذا الرجل: «يُطِيْلُ السَّفَرَ»: والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيَّما إذا أطاله. «أَشْعَثَ أَغْبَرَ»؛ أي: أنه لا يهتمُّ بنفسه، فهو ثائر الشعر، أغبرُ من التراب؛ فكلُّ همِّه الدعاء. «يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السماء»: يرفعهما داعيًا متضرِّعًا لربِّه: «يَا رَبِّ يَا رَبِّ»: مؤمِّلاً إجابةَ الدعاء. «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ»؛ أي: طعامه الذي يأكله حرام. «وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ»؛ أي: شُربه الذي يشربه حرام. «وغُذِيَ بالحَرَامِ»؛ أي: أنه تغذَّى بالحرام الحاصل من فعل غيره. «فأنَّى يُستجاب لذلك؟!»؛ أي: فكيف يستجاب؟! يعني: يبعد أن يُستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة.
الشرح المفصَّل للحديث:هذا الحديث يُشير فيه النبيُّ ﷺ إلى مانعٍ من موانع استجابة الدعاء.
وفي قوله ﷺ: «إن الله طيِّب» تسميةُ الله بالطيِّب، وهو بمعنى: القُدُّوس المنزَّه عن النقائص، والرذائل، وقبائح الأفعال والصفات، وأصل الطِّيب: الزكاءُ والطهارةُ والسلامة من الخُبث، ومنه سُمِّيت المدينة طابة وطَيْبة؛ لطهارتها من الشرك، وإذا أُطلِق الطيِّب في حقِّ العبد، كان المراد منه المتعرِّيَ عن الجهل والفِسق، المتحلِّيَ بالعلم والصلاح[1]
فالله عزَّ وجلَّ طيِّب، وأفعاله طيبةٌ، وصفاته أطيبُ شيء، وأسماؤه أطيبُ الأسماء، واسمه الطيِّبُ، لا يصدُر عنه إلا طيبٌ، ولا يصعَدُ إليه إلا طيبٌ، ولا يقرب منه إلا طيِّب، فكله طيب، وإليه يصعَدُ الكَلِم الطيبُ[2]
وتسميةُ الله بهذا الاسم دليلٌ على أنَّ أسماء الله ليست كلُّها المحصورةَ في حديث الترمذيِّ: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا، مائةً غير واحدٍ، مَن أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن، المهيمن العزيز، الجبار المتكبر...»[3]؛ فإن "الطيِّب" ليس في تلك الأسماء[4]
وقوله: «لا يَقبَل إلا طيِّبًا»؛ أي: لا يَقبَل إلا الكَسبَ الطيِّبَ؛ فإنه كونه طيِّبًا منزَّهًا عن الظلم يقتضي ألَّا يَقبل صدقةً من مال مغصوب، أو مسروق، أو أُخذ على غير وجه حقٍّ[5]
(يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا كَسَبۡتُمۡ وَمِمَّآ أَخۡرَجۡنَا لَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِۖ وَلَا تَيَمَّمُواْ ٱلۡخَبِيثَ مِنۡهُ تُنفِقُونَ وَلَسۡتُم بِـَٔاخِذِيهِ إِلَّآ أَن تُغۡمِضُواْ فِيهِۚ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد )
[البقرة: 267]،
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله ﷺ: «ما تصدَّق أحدٌ بصدقة من طيِّب - ولا يَقبَل اللهُ إلا الطيبَ - إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظمَ من الجبل، كما يُربِّي أحدكم فَلُوَّه أو فَصِيله»
[6]،
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال:
سَمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «لا تُقبل صلاةٌ بغير طُهُور، ولا صَدقةٌ مِن غُلُولٍ»
[7]
بل المراد أعمُّ من ذلك؛ فإنه سبحانه لا يَقبل من الأعمال إلا الطيِّب الخالص من الرياء والشرك والعُجْب، ولا يَقبل من الأموال إلا الطيِّب الحلال، كذلك في الاعتقاد، فلا يَقبَل الله تعالى شركًا به
ولا كفرًا، ويَغفِر ما دونَ ذلك، ويدخل ذلك كله في عموم
قوله:
﴿ قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ ﴾
[المائدة: 100][8]
قوله: «وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسَلين»؛ أي: لا فَرْق بين الرسل وبين الأمم، فكلٌّ مأمورٌ بطلب الحلال واجتناب الحرام[9]. وفيه تعليةٌ لشأن المؤمنين؛ حيث وجَّه لهم ما أمر به المرسَلين، فهم أهلٌ لذلك لإيمانهم ورفعة درجتهم[10]
قوله: «ثم ذكر الرجُل يُطيل السفر» المقصود من هذا الرجُل هو الذي يُطيل السفر في الجهاد والحجِّ وغيرها من أسفار الطاعات؛ إذ الشَّعَث دليلٌ على الإحرام، فإنه لا يَجبُره شعثُه وغبارُه من إثم مَطعمِه ومَشرَبه. وإنما ذكَر ذلك لأن الحاجَّ قد أثَّر به السفر، وأخذ منه الجهد والبلاء، وأصابه الشعثُ، وعلاه الغبارُ، فهو يدعو حينئذٍ وهو ظانٌّ ظنَّ اليقين أنه مُستَجابٌ له؛ فكلُّ ما فيه من التعب والنَّصَب إنما هو لله وفي سبيل الله؛ لكنَّه لا يُستجاب له؛ لأنه متلبِّس بالحرام، وقوته التي رفَع بها يدَه إلى ربه نشأت من الحرام[11]
وقوله: «أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيه إلى السماء، يا ربِّ، يا ربِّ» فيه بيانٌ لبعض أسباب استجابة الدعاء، وإن كانت لم تُجْدِ نفعًا، وهي:
1- إطالة السفر، وإن كان السفر وحدَه يقتضي إجابةَ الدعاء؛ "لأنه مَظِنَّة حصول انكسار النفْس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاقِّ، والانكسار من أعظم أسباب إجابة الدعاء"[12]، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه،
أن النبيَّ ﷺ قال:
«ثلاثُ دَعَوات مُستَجابات لا شكَّ فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم»
[13]
2- حصول التذَلُّل والتبذُّل في اللباس والهيئة؛ ولذلك كان النبيُّ ﷺ يخرج إلى الاستسقاء مُتبذِّلًا متواضعًا؛ فعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه: «أن النبيَّ ﷺ استسقى فقلَبَ رداءَه»[14]، ومدُّ اليدَين إلى السماء؛ فقد روى سلمان الفارسيُّ رضي الله عنه، أن النبيَّ ﷺ قال: «إن ربَّكم تبارَك وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ، يَستَحيي من عبده إذا رفَع يدَيْه إليه أن يردَّهما صِفْرًا»[15]
3- الإلحاح على الله، وتكرير ذِكْر ربوبيته، وهو من أعظم ما يُطلَب به إجابةُ الدعاء[16]
4- أكلُ الحلال، في قوله: «ومطعمُه حرامٌ، ومشرَبُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام، فأنى يُستَجاب لذلك؟!» دليلٌ على أن الأكلَ من الحلال شرطٌ في استجابة الدعاء.
وقوله: «فأنَّى يُستَجاب لذلك» معناه: كيف يُستَجاب له؟! فهو استفهامٌ وقَع على وجه التعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة ومَنْعها بالكلية؛ إذ يجوز أن يَستَجيب اللهُ تَفضُّلًا وكرمًا منه سبحانه، ويجوز أن يَستَجيب ليكون ذلك إمْهالًا له، وقَطعًا لحُجَّته أمام الله. فيؤخَذ من هذا أن التوسُّعَ في الحرام، والتغذِّيَ به، من جملة موانع الإجابة[17]
ولهذا قال وَهْب بن مُنبِّه $: "مَن سرَّه أن يَستَجيب الله دعوتَه، فلْيُطِبْ مطعمَه"، وقال يوسف بن أسباط: "بلغنا أن دعاءَ العبد يُحبَس عن السموات بسوء المطعَم"[18]
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكُل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلامُ: أتَدْري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهَّنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أُحسِن الكِهانة، إلا أني خدَعْتُه، فلَقِيَني فأعْطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه، فأدخل أبو بكر يدَه، فقاء كلَّ شيء في بطنه"[19]
المراجع
- انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
- "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص 151).
- رواه الترمذيُّ (3507)، وقال: حديث غريب... ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث، وضعَّفه الألبانيُّ في "ضعيف الجامع الصغير" (1945). وأصل الحديث متَّفَق عليه، رواه البخاريُّ (2736)، ومسلم (2677)، وليس فيه ذكر الأسماء.
- انظر: "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 382).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهريِّ (3/ 385).
- رواه البخاريُّ (1410)، ومسلم (1014).
- رواه مسلم (224).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 259).
- انظر: "المفاتيح في شرح المصابيح" للمظهري (3/ 385).
- انظر: "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص: 142).
- انظر: "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 128)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (2/ 655).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
- رواه أبو داود (1536)، والترمذيُّ (1905)، وابن ماجه (3862)، وقال الترمذيُّ: حديث حسن، وحسَّنه الألبانيُّ في "صحيح سنن أبي داود" (5/262).
- رواه البخاريُّ (1011)، ومسلم (894).
- رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وقال الترمذيُّ: حسن غريب، وصحَّحه الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (5/ 226).
- انظر: "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 269).
- انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (3/ 60)، "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 275).
- رواه البخاريُّ (3842).
النقول
قال النوويُّ رحمه الله: "وهذا الحديث أحد الأحاديث الّتي هي قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وقد جمعتُ منها أربعين حديثًا في جزء، وفيه الحثُّ على الإنفاق من الحلال، والنّهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أنّ المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك، ينبغي أن يكون حلالًا خالصًا لا شبهة فيه، وأنّ من أراد الدّعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره"[1]
قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعدُ الإسلام، ومباني الأحكام، وفيه الحثُّ على الإنفاق من الحلال، والنهيُ عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوَها ينبغي أن يكون حلالاً خالصًا لا شُبهةَ فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالاعتناء بذلك من غيره، وفيه أن العبد إذا أنفق نفقة طيبة، فهي التي تزكو وتنمو، وأن الطعام اللذيذ غير المباح يكون وَبالاً على آكِله، ولا يَقبَل اللهُ عَمَله"[2]
قال ابن رجب رحمه الله: "وقد قيل: إنّ المراد بقوله: «لا يقبل اللّه إلّا طيّبًا» أعمُّ من ذلك، وهو أنّه لا يَقبَل من الأعمال إلّا ما كان طيِّبًا طاهرًا من المفسدات كلِّها؛ كالرّياء والعُجب، ولا من الأموال إلّا ما كان طيّبًا حلالًا، فإنّ الطّيّب يوصف به الأعمال والأقوال والاعتقادات؛ فكلُّ هذه تنقسم إلى طيّب وخبيث"[3]
قال القاضي عياض رحمه الله: "ومعنى تَسْمِيَة الله بالطيِّب هنا، ولم يأتِ في حديث الأسماء؛ أي: الْمُنزَّه عن النقائص؛ بمعنى القدُّوس، وأصل الطَّيِّب: الزَّكَاء والطهارة والسلامة من الخُبث، والاستطابة: التنظيف من القَذَر، والطهارة منه، وقيل: سُمِّيت المدينة (طابة وطَيْبة)، من الطِّيب، وهو تطهيرها من الشرك، وظهور الإسلام بها، وقيل غيره"[4]
قال ابن القيم رحمه الله: "والأسماء لله وحدَه، فهو طيِّب، وأفعالُه طيبةٌ، وصفاته أطيبُ شيء، وأسماؤه أطيبُ الأسماء، واسمه الطيِّبُ، ولا يَصدُر عنه إلا طيبٌ، ولا يصعَدُ إليه إلا طيبٌ، ولا يَقرُب منه إلا طيِّب، وإليه يصعَدُ الكَلِم الطيبُ، وفِعلُه طيِّب، والعمل الطيِّب يَعرُج إليه؛ فالطيِّبات كلُّها له، ومضافةٌ إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه"[5]
قال ابن رجب رحمه الله: "فالمؤمن كلُّه طيِّبٌ، قلبُه ولسانُه وجسدُه، بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذِّكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة، التي هي ثمرة الإيمان، وداخلةٌ في اسمه؛ فهذه الطيباتُ كلُّها يقبلها الله عَزَّ وَجَلَّ. ومن أَعظَم ما يَحصُل به طِيبة الأعمال للمؤمن طِيب مَطعَمه، وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله. وفي هذا الحديث إشارة إلى أنّه لا يقبل العمل ولا يزكو إلّا بأكل الحلال، وإنّ أكل الحرام، يُفسد العمل، ويمنع قَبوله"[6]
قال ابن عثيمين رحمه الله: "«إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ»: كلمة (طيب) بمعنى طاهر منزَّه عن النقائص، لا يعتريه الخُبث بأيِّ حال من الأحوال؛ لأن ضدَّ الطيِّب هو الخبيث؛
كما قال الله عزَّ وجلَّ:
( قُل لَّا يَسۡتَوِي ٱلۡخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ )
[المائدة: 100]،
وقال:
( ٱلۡخَبِيثَٰتُ لِلۡخَبِيثِينَ وَٱلۡخَبِيثُونَ لِلۡخَبِيثَٰتِۖ وَٱلطَّيِّبَٰتُ لِلطَّيِّبِينَ وَٱلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَٰتِۚ )
[النور: 26]
ومعنى هذا أنه لا يلحقه - جلَّ وعلا - شيءٌ من العَيب والنقص؛ فهو - عزَّ وجلَّ - طيِّب في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أحكامه، وفي أفعاله، وفي كلِّ ما يَصدُر منه، وليس فيها رديءٌ بأيِّ وجه. «لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا»، فهو - سبحانه وتعالى - لا يقبل إلا الطيِّب من الأقوال، والأعمال، وغيرها، وكلُّ رديء فهو مردودٌ عند الله - عزَّ وجلَّ - فلا يقبل الله إلا الطيِّب، ومن ذلك: الصَّدَقة بالمال الخبيث لا يقبلها الله - عزَّ وجلَّ - لأنه لا يقبل إلا طيِّبًا؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ طَيِّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهَ إِلاَّ الطَّيِّبَ، فَإنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ، يُرَبِّيها كما يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى تَكُوْنَ مِثْلَ الجَبَلِ»[7]. فالطيِّب من الأعمال: ما كان خالصًا لله، موافقًا للشريعة، والطيب من الأموال: ما اكتُسِب عن طريق حلال، وأما ما اكتُسب عن طريق محرَّم، فإنه خبيث"[8]
قال ابن رجب : "والمراد بهذا أنّ الرّسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطّيِّبات الّتي هي الحلال، وبالعمل الصّالح، فما دام الأكلُ حلالًا، فالعمل الصّالح مقبول، فإذا كان الأكل غيرَ حلال، فكيف يكون العمل مقبولًا؟! وما ذكره بعد ذلك من الدّعاء، وأنّه كيف يُتقبَّل مع الحرام، فهو مثال لاستبعاد قبول الأعمال مع التّغذية بالحرام"[9]
قال ابن دقيق العيد : "وقوله: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر...» إلى آخره: معناه - والله أعلم -: يُطيل السفر في وجوه الطاعات لحجٍّ وجهاد، وغير ذلك من وجوه البِرِّ، ومع هذا فلا يُستجاب له؛ لكون مَطعَمِه ومَشربِه ومَلبَسِه حرامًا؛ فكيف هو بمن هو مُنهمِكٌ في الدنيا أو في مظالم العباد، أو من الغافلين عن أنواع العبادات والخير؟!"[10]
قال النوويُّ : "قَوْلُهُ: «ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ...» إلى آخره؛ معناه - واللّه أعلم -: أنّه يطيل السّفر في وجوه الطّاعات؛ كحجٍّ وزيارة مستحبَّة، وصلة رحم، وغير ذلك"[11]
قال ابن عثيمين: "«وَإَنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤمِنِينَ بمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِيْنَ»؛ تَعْلَيةً لشأن المؤمنين، وأنهم أهلٌ أن يوجَّه إليهم ما أَمَر به الرسل؛
فقال - عزَّ وجلَّ - في أمر المرسَلين:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ ﴾
[المؤمنون: 51]،
فأمر الرسلَ أن يأكلوا من الطيِّبات، وهي التي أحلَّها الله - عزَّ وجلَّ - واكتُسِبت عن طريق شرعيٍّ، فإن لم يُحِلَّها الله؛ كالخمر، فإنه لا يؤكل، وإن أحلَّه الله؛ ولكن اكتُسِب عن طريق محرَّم، فإنه لا يؤكل، وأضرب لذلك مثَلين: الأول: رجل أَكَلَ من شاة مَيْتَة، فهذا لم يأكل من الطيِّبات؛ لأن الله تعالى حرَّم أكل الْمَيْتَة، وهذا محرَّم لذاته. الثاني: رجل غصب شاةً وذبحها وأكل منها، فحُكمها أنها ليست بطيِّبة، وهي محرَّمة لكسبها.
﴿واعملوا صلحا﴾؛ أي: اعملوا عملاً صالحًا، فأمرهم بالأكل الذي به قِوامُ البَدَن، ثم أمرهم بالعمل الذي يكون نتيجةً للأكل؛ لكنه قال: ﴿واعملوا صلحا﴾، وصالح العمل هو ما جمع بين الإخلاص والمتابعة؛ ولهذا رُوِي عن بعض السلف أنه قال: العمل الصالح ما كان خالصًا صوابًا؛ أي: خالصًا لله، صوابًا على شريعة الله.
وقال تعالى في أمر المؤمنين:
﴿ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ﴾
[البقرة: 172]،
كما قال للرسل: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)، فأمر المؤمنين بما أَمَر به المرسَلين.
إذًا؛ نقول: المؤمنون مأمورون بالأكل من الطيِّبات، والمرسَلون كذلك مأمورون بالأكل من الطيبات"[12]
قال ابن دقيق العيد : "وقوله: «يَمُدُّ يَدَيْهِ»؛ أي: يَرفَعُهما بالدعاء لله مع مخالفته وعِصيانه. قوله: «وغُذِيَ بالحرام» هو بضمِّ الغَين المعجَمة، وتخفيف الذال المكسورة. وقوله: «فأنى يستجاب له؟!»، وفي رواية: «فأنى يستجاب لذلك؟!»؛ يعني: من أين يستجاب لمن هذه صِفَتُه؟! فإنه ليس أهلاً للإجابة؛ لكن يجوز أن يستجيب الله تعالى له تفضُّلاً ولُطفًا وكَرَمًا، والله أعلم"[13]
قال النوويُّ : "قَوْلُهُ ﷺ: «وَغُذِيَ بِالْحِرَامِ» هو بضمِّ الغين، وتخفيف الذّال المكسورة، قوله ﷺ: «فأنّى يستجاب لذلك؟!»؛ أي: من أين يُستجاب لمن هذه صفته؟! وكيف يُستجاب له؟!"([14]).
قال ابن عثيمين : "«ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ...»؛ يعني: ضَرَب النبيُّ ﷺ مَثَلاً لهذا الرجل: «يُطِيْلُ السَّفَرَ»، والسفر من أسباب إجابة الدعاء، ولاسيَّما إذا أطاله. «أَشْعَث أَغْبَرَ»؛ يعني: أشعث في شعره، أغبر من التراب؛ أي: أنه لا يهتمُّ بنفسه؛ بل أهمُّ شيء عنده الدعاء. «يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء» ومَدُّ اليدين إلى السماء من أسباب إجابة الدعاء؛ كما جاء في الحديث: «إنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيْمٌ، يَسْتَحِيي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفعَ يَديْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا»[15]. «يَا رَبِّ يَا رَبِّ»: نداء بوصف الربوبية؛ لأن ذلك وسيلة لإجابة الدعاء؛ إذ إن إجابة الدعاء من مقتضيات الربوبية. «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ»؛ يعني: طعامه الذي يأكله حرام؛ أي: حرام لذاته أو لكَسْبِه. «وَمَشرَبُهُ حَرَامٌ»؛ يعني: شُربه الذي يشربه حرام، إما لذاته أو لكسبه. «وغُذِيَ بالحَرَامِ»؛ يعني: أنه تغذَّى بالحرام الحاصل من فعل غيره. «فَأَنَّى» اسم استفهام، والمراد به الاستبعاد، يعني: يَبعُد أن يُستجاب لهذا، مع أن أسباب الإجابة موجودة. وهذا للتحذير من أكل الحرام، وشربه، ولُبسه، والتغذّي به"[16]
قال ابن تيمية : "بل من أَنفَق من الحرام، فإنّ اللّه تعالى يذمُّه، ويستحقُّ بذلك العقاب في الدّنيا والآخرة"[17]
قَالَ وَهْبُ بْنُ الْوَرْدِ: "لو قمتَ مَقامَ هذه السّارية، لم ينفعْكَ شيء حتّى تَنظُر ما يَدخُل بطنَك حلال أو حرام"[18]
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النِّبَاجِيُّ الزَّاهِدُ : "خمسُ خصال بها تمام العمل: الإيمانُ بمعرفة اللّه عزّ وجلّ، ومعرفةُ الحقِّ، وإخلاص العمل للّه، والعمل على السّنّة، وأكل الحلال، فإن فقدتَ واحدةً، لم يرتفع العمل؛ وذلك أنّك إذا عرفتَ اللّه عزّ وجلّ، ولم تعرف الحقَّ، لم تنتفع، وإذا عرفتَ الحقَّ، ولم تعرف اللّه، لم تنتفع، وإن عرفت اللّه، وعرفت الحقَّ، ولم تُخلص العمل، لم تنتفع، وإن عرفت اللّه، وعرفت الحقَّ، وأخلصت العمل، ولم يكن على السّنَّة، لم تنتفع، وإن تمَّت الأربع، ولم يكن الأكل من حلال، لم تنتفع"[19]
المراجع
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 259).
- "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (3/ 535).
- "الصلاة وأحكام تاركها" لابن القيم (ص 151).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
- أخرجه البخاريُّ (1410)، ومسلم (63).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 141، 142).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 260).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 142، 143).
- "شرح الأربعين النووية" لابن دقيق العيد (ص 41، 42).
- "شرح النوويِّ على مسلم" (7/ 100).
- رواه أبو داود (1488)، والترمذيُّ (3556)، وابن ماجه (3865)، وصحَّحه الألبانيُّ في "صحيح الترغيب والترهيب" (1635).
- "شرح الأربعين النووية" للعثيمين (ص 143، 144).
- "مجموع الفتاوى" (8/ 542).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 263).
- "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 262، 263).