عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي
يروي أبو هُرَيْرَةَ رضى الله عنه عن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنه قال: «لَـمَّا قَضَى اللهُ الخَلْقَ»؛ أَيْ: لَمَّا فرغ الله تعالى من خلق المخلوقات. «كَتَبَ فِي كِتَابِهِ»؛ أي: أَمَرَ الْقَلَمَ أن يَكْتُب في اللَّوح المحفوظ. «فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ»؛ أي: هو عند الله تعالى فوق العرش. «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»: هذا هو المكتوب: إن رحمتي غلبت غضبي.
رحمةُ الله عزوجل واسعةٌ، تَعُمُّ الـمؤمنَ والكافر، والبرَّ والفاجر، رحمةٌ لا تقتصر على العباد في الدّنيا فقط؛ بل أيضًا يرحم الله عباده يوم القيامة رحمةً كبرى.
وفي هذا الحديث يُبَشِّرُ النَّبِيُّ ﷺ المؤمنين بأن رحمةَ الله تسبِقُ غضبَه سبحانه، فيُخبر النبيُّ ﷺ أن اللهَ لَمَّا قَضَى الْخَلقَ - أَيْ: خَلَقَهُمْ وأوجَدَهم
ومنه قوله تعالى:
﴿ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾
[فصلت: 12][1]
«كَتَبَ فِي كِتَابِهِ»؛ أي: أَمَرَ الْقَلَمَ أن يكتب في اللَّوح المحفوظ، ومثلُه حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضى الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: «إن أولَ ما خلَقَ اللهُ القلمُ، فقال له: اكتبْ، قال: ربِّ، وماذا أكتبُ؟ قال: اكتبْ مقاديرَ كلِّ شيء حتى تقومَ الساعةُ» [2]؛ "بمعنى: أنه خلق فيه كتابةً دالَّةً على ما أراده سبحانه"[3].
"شبَّه حُكمَه الجازم الذي لا يَعتَريه نسخٌ، ولا يتطرَّقُ إليه تغييرٌ بحُكم الحاكم، إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامَه، عَقَد عليه سِجلًّا، وحُفِظ عنده ليكون ذلك حُجَّةً باقية، محفوظة من التبديل والتحريف"[4].
وقوله ﷺ: «فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ» قيل معناه: دونَ العَرش، والـحاملُ على هذا التّأويل استبعادُ أن يكون شيءٌ من المخلوقات فوقَ العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأنّ العرش خَلْقٌ من خلق الله، ويُحتمَل أن يكون الـمراد بقوله: «فهو عنده»؛ أي: يختصُّ سبحانه بعلمه؛ فهو مخفيٌّ عن الخَلق، مرفوعٌ عن حيِّز إدراكهم[5].
وقوله ﷺ: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي» فيه إثبات أنّ لله سبحانه و تعالى غضبًا كما أنَّ له رحمةً؛ لكن رحمة الله سبحانه سبقت غضبه؛ فاللهُ أرحم بعباده من الأمِّ بوَلَدها.
ومعنى قوله سبحانه: «غلبت غضبي»؛ أي: غلبت آثارُ رحمتي على آثار غضبي، ومن مظاهر ذلك يوم القيامة من يَدخُل النّار من الـموحِّدين، ثمّ يخرج بالشّفاعة وغيرها. وقيل في سبق رحمته سبحانه على غضبه: إشارة إلى أن نصيب الخلق من رحمته سبحانه أكثرُ من نصيبهم من الغضب، وأن رحمته سبحانه تنالهم من غير استحقاق، وأن الغضب لا ينالهم إلا باستحقاق، فرحمتُه سبحانه تشمل الشخص جَنينًا، ورضيعًا، وفطيمًا، وناشئًا، قبل أن يصدر منه شيء من الطاعة، ولا يلحقه الغضب إلا بعد أن يَصدُر عنه من الذنوب ما يستحقُّ معه ذلك[6].
"وأما قوله: «كتَب عنده: إن رحمتي سبَقَت غضبي»، فهو - واللهُ أعلم - كتابُه في أمِّ الكتاب الذى قضى به وخطَّه القلمُ، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقَه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسَطَ لهم من رحمته في قلوب الأبوينِ على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشَرة أقذارهم، ما إذا تدبَّره متدبِّرٌ، أيقَن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يَرزُق الكفارَ، ويُنعِّمهم، ويَدْفَعُ عنهم الآلامَ، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمةً منه لهم، وقد بلغوا من التمرُّد عليه، والخلع لربوبيته غايات تُغضبه، فتَغلِب رحمتُه ويُدخلهم جنَّته، ومَن لم يتُب عليه حتى توفَّاه، فقد رحمه مدَّةَ عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألَّا يُمهِلَه بالعقوبة ساعةَ كُفره به، ومعصيته له؛ لكنه أمهلَه رحمةً له، ومع هذا فإن رحمةَ الله السابقةَ أكثرُ من أن يُحيط بها الوصفُ"[7].
ووجه الـمناسبة بين قضاء الخَلق وسبق الرّحمة أنّهم مخلوقون للعبادة؛ شكرًا للنِّعَم الفائضة عليهم، ولا يَقدِر أحد على أداء حقِّ الشُّكر، وبعضُهم يقصِّر فيه، فسبقت رحمته في حقِّ الشّاكر بأن وفِّي جزاءه، وزاد عليه ما لا يَدخُل تحت الحصر، وفي حقِّ الـمقصِّر إذا تاب ورجع بالـمغفرة والتّجاوز[8].
قال الطِّيبيُّ رحمه الله: "شبَّه حُكمَه الجازم الذي لا يَعتَريه نسخٌ، ولا يتطرَّقُ إليه تغييرٌ بحُكم الحاكم، إذا قضى أمرًا، وأراد إحكامَه، عَقَد عليه سِجلًّا، وحُفِظ عنده ليكون ذلك حُجَّةً باقية، محفوظة من التبديل والتحريف" [1].
قال ابن بطَّال رحمه الله: "وأما قوله: «كتَب عنده: إن رحمتي سبَقَت غضبي»، فهو - واللهُ أعلم- كتابُه في أمِّ الكتاب الذى قضى به وخطَّه القلمُ، فكان من رحمته تلك أن ابتدأ خلقَه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسَطَ لهم من رحمته في قلوب الأبوينِ على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشَرة أقذارهم ما إذا تدبَّره متدبِّرٌ أيقَن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يَرزُق الكفارَ، ويُنعمهم، ويَدْفَعُ عنهم الآلامَ، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمةً منه لهم، وقد بلغوا من التمرُّد عليه، والخلع لربوبيته غايات تُغضبه، فتَغلِب رحمتُه ويُدخلهم جنَّته، ومَن لم يتُب عليه حتى توفَّاه، فقد رحمه مدَّةَ عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألَّا يُمهلَه بالعقوبة ساعةَ كفُره به، ومعصيته له؛ لكنه أمهلَه رحمةً له، ومع هذا فإن رحمةَ الله السابقةَ أكثرُ من أن يُحيط بها الوصفُ"[2].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «لما قضى الله الْخلق»، قَالَ الْخطَّابِيُّ: يُرِيد لما خلق الله الْخلق
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ
[فصلت: ١٢]
أَي: خَلَقهنَّ، وَقَالَ ابْن عَرَفَة: قَضَاءُ الشيء إحكامه وإمضاؤه والفراغ مِنْهُ، وَبِه سمِّي القَاضِي؛ لِأَنَّهُ إِذا حَكَم فقد فرغ مِمَّا بَين الْخَصْمَيْنِ. قَوْله: «كتب فِي كِتَابه»؛ أَي: أَمر الْقَلَم أَن يكْتب فِي كِتَابه، وَهُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ، والمكتوب هُوَ: أَن رَحْمَتي غلبت غَضَبي. قَوْله: «فَهُوَ عِنْده»؛ أَي: الْكتاب عِنْده، والعندية لَيست مكانية؛ بل هُوَ إِشَارَة إِلَى كَمَال كَونه مكنونًا عَن الْخلق، مَرْفُوعًا عَن حيّز إدراكهم. قَوْله: «فَوق الْعَرْش»، قَالَ الْخطابِيُّ: قَالَ بَعضهم: مَعْنَاهُ: دون الْعَرْش؛ استعظامًا أَن يكون شَيْء من الْخلق فَوق الْعَرْش
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَاﱠ
[البقرة: ٢٦]
أَي: فَمَا دونهَا؛ أَي: أَصْغَر مِنْهَا، وَقَالَ بَعضهم: إِن لفظ الفوق زَائِد
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: َ
إِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنﱠ
[النساء: ١١]
إِذِ الثنتان يرثان الثُّلثَيْنِ. قلتُ: فِي كلٍّ مِنْهُمَا نظر، أما الأول فَفِيهِ اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَوْضِعه، وَأما الثَّانِي فَفِيهِ فَسَاد الْمَعْنى؛ لِأَن مَعْنَاهُ يكون حِينَئِذٍ: فَهُوَ عِنْده الْعَرْش، وَهَذَا لَا يَصحُّ، وَالْأَحْسَن أَن يُقَال: معنى قَوْله: فَهُوَ عِنْده فَوق الْعَرْش؛ أَي: عِلْمُ ذَلِك عِنْد الله فَوق الْعَرْش لَا يُنْسَخ وَلَا يُبدَّل، أَو ذكر ذَلِك عِنْد الله فَوق الْعَرْش، وَلَا مَحْذُورَ من إِضْمَار لفظ الْعلم أَو الذّكر، على أَن الْعَرْش مَخْلُوق، وَلَا يَسْتَحِيل أَن يمسَّهُ كتاب مَخْلُوق؛ فَإِن الْمَلَائِكَة حَملَة الْعَرْش حاملونه على كواهلهم، وَفِيه المماسَّة؛ فَلَا مَحْذُور أَن يكون كِتَابُه فَوق الْعَرْش. فَإِن قلتَ: مَا وَجهُ تَخْصِيص هَذَا بِالذكر على مَا قلت، مَعَ أَن الْقَلَم كَتَب كلَّ شَيْء؟ قلت: لِما فِيهِ من الرَّجَاء الْكَامِل، وَإِظْهَار أَن رَحمته وَسِعت كلَّ شَيْء، بِخِلَاف غَيره. قَوْله: «أَن رَحْمَتي»، بِفَتْح أَن على أَنَّهَا بدل من (كتب)، وبكسرها ابْتِدَاء كَلَام يحكي مَضْمُون الْكتاب. قَوْله: «غلبت»: فِي رِوَايَة شُعَيْب عَن أبي الزِّنَاد فِي التَّوْحِيد: «سبقت»، بدل: «غلبت»، وَالْمرَاد من الْغَضَب مَعْنَاهُ الغائيُّ، وَهُوَ لَازمه، وَهُوَ إِرَادَة الانتقام مِمَّن يَقع عَلَيْهِ الْغَضَب والسبق وَالْغَلَبَة بِاعْتِبَار التَّعَلُّق؛ أَي: تعلُّق الرَّحْمَة سَابقٌ غَالب على تَعْلِيق الْغَضَب؛ لِأَن الرَّحْمَة مُقْتَضى ذَاته المقدَّسة، وَأما الْغَضَب فَإِنَّهُ مُتَوَقِّف على سَابِقَة عمل من العَبْد حَادثٍ، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من أورد وُقُوع الْعَذَاب قبل الرَّحْمَة فِي بعض الْمَوَاضِع؛ كمن يَدْخُل النَّار من الْمُوَحِّدين ثمَّ يخرج بالشفاعة أَو غَيرهَا، وَقيل: الرَّحْمَة وَالْغَضَب من صِفَات الْفِعْل لَا من صِفَات الذَّات، فَلَا مَانع من تقدُّم بعض الْأَفْعَال على بعض، وَقَالَ الطيبِيُّ: فِي سبق الرَّحْمَة إِشَارَة إِلَى أَن قسط الْخلق مِنْهَا أَكثر من قسطهم من الْغَضَب، وَأَنَّهَا تنالهم من غير اسْتِحْقَاق، وَأَن الْغَضَب لَا ينالهم إلَّا بِاسْتِحْقَاق، فالرحمة تَشْمَل الشَّخْص جَنِينًا ورضيعًا وفطيمًا وناشئًا، قبل أَن يَصدُر مِنْهُ شَيْء من الطَّاعَة، وَلَا يلْحقهُ الْغَضَب إلَّا بعد أَن يَصدُر عَنهُ من الذُّنُوب مَا يسْتَحقُّ مَعَه ذَلِك، وَالله تَعَالَى أعلم"[3].
قال بدر الدين العينيُّ رحمه الله: "قَوْله: «لما قضى الله الْخلق»؛ أَي: لَمَّا أتمَّه. «كَتَب عِنْده»؛ أَي: أثبت فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قيل: صِفَاته تَعَالَى قديمَة، كَيفَ يُتَصَوَّر السَّبق بَين الرَّحْمَة وَالْغَضَب؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُمَا من صِفَات الْفِعْل لَا من صِفَات الذَّات، فَجَاز سبق أحد الْفِعْلَيْنِ على الآخر، وَذَلِكَ لِأَن إِيصَال الْخَيْر من مقتضيات صفته بِخِلَاف غَيره، فَإِنَّهُ بِسَبَب مَعْصِيّة العَبْد"[4].
قال السعديُّ رحمه الله: "وبالجُملة فالله خلق الخلق برحمته، وأَرسَل إليهم الرسل برحمته، وأمرهم ونهاهم وشَرَع لهم الشرائع برحمته، وأسبغ عليهم النعمة الظاهرة والباطنة برحمته، ودبَّرهم أنواع التدبير، وصرَّفهم بأنواع التصريف برحمته، وملأ الدنيا والآخرة من رحمته، فلا طابت الأمور، ولا تيسَّرت الأشياء، ولا حصلت المقاصد، وأنواع المطالب إلا برحمته، ورحمتُه فوق ذلك، وأجلُّ وأعلى، وللمحسنين المتَّقِين من رحمته النصيبُ الوافر والخير المتكاثِر"[5].
قال محمد خليل هرَّاس رحمه الله: "وقد أنكرت الأشاعرة والمعتزلة صفة الرّحمة؛ بدعوى أنّها في المخلوق ضعف وخَوَر وتألُّم للمرحوم، وهذا من أقبح الجهل؛ فإنّ الرّحمة إنّما تكون من الأقوياء للضّعفاء، فلا تستلزم ضعفًا ولا خورًا؛ بل قد تكون مع غاية العِزَّة والقُدرة، فالإنسان القويُّ يرحم ولده الصّغير وأبويه الكبيرين، ومن هو أضعف منه، وأين الضّعف والخور- وهما من أذمِّ الصّفات - من الرّحمة الّتي وصف اللّه نفسه بها، وأثنى على أوليائه المتَّصِفين بها، وأمرهم أن يتواصوا بها؟!
وقوله:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
[غافر: ٧]
من كلام اللّه عزّ وجلّ حكايةً عن حملة العرش والّذين حوله، يتوسّلون إلى اللّه عزّ وجلّ بربوبيّته وسعة علمه ورحمته في دعائهم للمؤمنين، وهو من أحسن التوسّلات الّتي يُرجى معها الإجابة. ونصب قوله:
رَحْمَةً وَعِلْمًا
على التّمييز المحوّل عن الفاعل، والتّقدير: وسعت رحمتك وعلمك كلَّ شيء. فرحمته سبحانه وسعت في الدّنيا المؤمن والكافر والبرّ والفاجر؛ ولكنّها يوم القيامة تكون خاصّةً بالمتّقين
كما قال تعالى:َ
سَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ
[الأعراف: ١٥٦]
وقوله تعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤]
أي: أوجبها على نفسه تفضّلاً وإحسانًا، ولم يوجبها عليه أحد"[6].
قال ابن عثيمين رحمه الله: "وقوله:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
يدلُّ على أن كلَّ شيء وَصَله علمُ الله، وهو واصل لكلِّ شيء، فإنَّ رحمته وصلت إليه؛ لأن الله قرن بينهما في الحكم.
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
وهذه هي الرحمة العامَّة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفَّارَ؛ لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكلُّ ما بلغه علمُ الله - وعلمُ الله بالغٌ لكلِّ شيء - فقد بلغته رحمته، فكما يَعلَم الكافرَ، يَرحَم الكافرَ أيضًا؛ لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يَرزُق الكافر هو الله الذي يَرزُقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخصُّ من هذه وأعظم؛ لأنها رحمة إيمانية دينية دنيوية؛ ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا
لأن الله يقول:
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ ﱠ
[النحل: 97]
والحياة الطيِّبة هذه مفقودة بالنسبة للكفَّار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شَبِع، راث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ، هكذا هؤلاء الكفَّار إن شبعوا، بَطِروا، وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم؛ لكن المؤمن إن أصابته سرَّاءُ، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبُه منشرِح مطمئنٌّ متَّفِق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء؛ بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه... الآية الثالثة:
قوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
[الأحزاب: 43].
(ِبالْمُؤْمِنِين) متعلِّق بـ(رحيمًا)، وتقديم المعمول يدلُّ على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرِهم رحيمًا؛ ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها:
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
[غافر: 7]
نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمةٌ خاصَّة متَّصِلة برحمة الآخرة، لا ينالها الكفَّار، بخلاف الأُولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكلٌّ مرحوم؛ لكنْ فرق بين الرحمة الخاصَّة والرحمة العامَّة"[7].
قال ابن القيم رحمه الله: "إن الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به سبحانه، والرحيم دالٌّ على تعلُّقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دالٌّ أن الرحمة صفته، والثاني دالٌّ على أنه يرحم خلقه برحمته، وإذا أردتَ فَهم هذا، فتأمَّل قوله:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا
[الأحزاب: 43]
إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
[التوبة: 117]
ولم يجئ قطُّ (رحمن بهم)، فعُلم أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، ورحيم هو الراحم برحمته"[8].
قال ابن عثيمين رحمه الله: قوله:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
[الأنعام: ٥٤].
(كَتَبَ)؛ بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عزَّ وجلَّ لكرمه وفضله وجُوده أَوْجَب على نفسه الرحمة، وجَعَل رحمته سابقةً لغضبه
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ
[فاطر: 45]
لكن حِلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمًّى"[9].
قال ابن القيم رحمه الله: "فجعلُ صفة الرحمة واسم الرحمة مجازًا كجعلِ صفة الملك والربوبية مجازًا، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة. وإذا أردت أن تعرف بُطلان هذا القول، فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصَّة والعامَّة"[10].