عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّﷺ قال:«مَن صلَّى صلاةً لم يَقرَأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ فهي خِدَاجٌ – ثلاثًا - غيرُ تَمامٍ»،فقيلَ لأبي هُرَيْرةَ: إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟ فقال: اقرَأْ بها في نَفْسِكَ؛فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ،فإذا قال العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة: 3]، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]، قال: مجَّدني عبدي،فإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعَبْدي ما سَألَ،فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، قال: هذا لِعَبْدي، ولِعَبْدي ما سَألَ»


عناصر الشرح

غريب الحديث

خِدَاج: ناقصةٌ [1]

المراجع

  1.  قال الأصمعيُّ: الخِدَاجُ: النُّقصان؛ مثل: خداج الناقة، إذا ولَدَت ولدًا ناقص الخَلْق أو لغير تمام. "غريب الحديث" للقاسم بن سلام (1/ 65).

المعنى الإجماليُّ للحديث

يروي أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ  أنه قال: «مَن صلَّى صلاةً لم يَقرَأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ»؛ أي: من صلَّى ركعة لم يقرأ فيها بالفاتحة. «فهي خِدَاجٌ – ثلاثًا - غيرُ تَمامٍ»؛ أي: ناقصة فاسدة لا نَفْعَ فيها.

فقيلَ لأبي هُرَيْرةَ: (إنَّا نكونُ وراءَ الإمامِ؟)، فقال: (اقرَأْ بها في نَفْسِكَ): وهذا دليلٌ على أن قراءة الفاتحة فرضٌ على الإمام والمأموم والمنفرِد على حدٍّ سواءٍ؛

قولُ: «قال اللهُ تعالى: قَسَمْتُ الصلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصفَيْنِ، ولعَبْدي ما سألَ»؛ أي: قسمتُ القراءة؛ فالمقصود بالصلاة هنا القراءة؛ باعتبار القراءة جزءًا من أعظم أجزاء الصلاة. «فإذا قال العبدُ: ﴿ الحمد لله رب العالمين﴾،   قال الله تعالى: حَمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين، قال: مجَّدني عبدي»: الحمد والثناء والتمجيد ألفاظٌ متقاربةٌ في المعنى، يُعبَّر بكلِّ واحدٍ منها عن الآخَر؛ بَيْدَ أن الله تعالى خصَّ كلَّ واحدٍ بما يخصُّه ويَليق به. «فإذا قال: ﴿إياك نعبد»؛ أي: نخضع ونتذلَّل لك وحدَك. ﴿وإياك نستعين؛ أي: نسألك وحدَك العَون. «قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل». كافأه ربُّه وجزاه، وأظهر عَظَمته ببيان قدرته على تحقيق سُؤْلِه. «فإذا قال: ﴿اهدنا»: أَرْشِدْنا وثبِّتنا على الهداية. ﴿الصراط المستقيم» الذي لا اعوجاج فيه. ﴿ صراط الذين انعمت عليهم: وهم الأنبياء وأتباعهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين. ﴿غير المغضوب عليهم»: هم اليهود. ﴿ ولا الضالين: هم النصارى.

«قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»؛ أي: يستجيب الله تعالى له، ويُعطيه سؤاله.

الشرح المفصَّل للحديث

يُرشد هذا الحديثُ إلى فَضل سورة الفاتحة، وإلى عظيم كَرَم الله وتفَضُّله على العبد في قراءتها في الصلاة، كما يُشير إلى وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة.

قوله: «أمِّ القرآن» يُريد الفاتحة، سُمِّيت بذلك؛ لأنها أصلُ القرآن، كما يقال لمكَّة: أمُّ القرى [1]، ولأنها اشتملت على المعاني التي في القرآن مِن الثناء على الله تعالى بما هو أهلُه، والتعبُّد بالأحكام، والترغيب، والترهيب بالوعد والوعيد، وقصة الغابرين من العُصاة والمطيعين [2]

وقوله: «فهي خِداجٌ» يُريد بها النُّقصان المانع من الصحة، لا نُقْصان الكمال؛ فإن إطلاق اسم النقصان عليها يقتضي نقصانَ بعض أجزائها وفَقْده، واسم الصلاة يَنطلِق على المجزِئ وغير المجزِئ، وهي لا تتبعَّض، فلما بطَل بعضُها بطَل جميعُها [3]

ويدُلُّ على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة وأنها ركنٌ لا تتمُّ الصلاة بدونه الحديثُ المتَّفَق عليه؛ عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن رسول الله  قال: «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأْ بفاتحة الكتاب» [4]

وقوله: «فقيل لأبي هريرة: إنَّا نكون وراءَ الإمام؟ فقال: اقرأْ بها في نفْسِكَ» دليلٌ على أن قراءة الفاتحة فرضٌ على الإمام والمأموم والمنفرد على حدٍّ سواءٍ، وقول أبي هريرة هنا، وإن كان موقوفًا عليه لا مرفوعًا، فإنه في حُكم المرفوع؛ فعن عُبادةَ بنِ الصامت t، قال: كنا خلْفَ رسول الله  في صلاة الفجر، فقرأ رسول الله ، فثَقُلَت عليه القراءة، فلما فرَغ قال: «لعلكم تَقْرؤون خلْفَ إمامكم؟» قلنا: نعمْ، هَذًّا يا رسول الله، قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ لِمَن لم يقرأْ بها» [5] 

ولأن قوله : «لا صلاةَ لِمَنْ لم يقرأ بفاتحة الكتاب» يشمل المنفرد والإمام والمأموم معًا، ولم يَرِد ما يستثني ذلك عنه ، ولو كانت القراءةُ تَسقُط عن المنفرد لَذَكَرها ؛ إذ لا يجوزُ تأخيرُ البيان عن وقت الحاجة؛ وإنما تسقُط عن المأموم إذا أدرك مع الإمام الركوع فحسْبُ [6]

وقولُه عزَّ وجلَّ: «قسمْتُ الصلاة» يُريد بالصلاة هنا القراءة؛ بدليل تفسيره التقسيم بعد ذلك، وتُطلَق الصلاةُ على القراءة باعتبارها جزءًا منها من أعظم أجزائها؛

كقوله تعالى:

﴿وَقُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِۖ إِنَّ قُرۡءَانَ ٱلۡفَجۡرِ كَانَ مَشۡهُودٗا﴾ 

[الإسراء: 78]،

وقوله تعالى:

﴿وَلَا تَجۡهَرۡ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتۡ بِهَا ﴾

[الإسراء: 110]

فالمقصود بالقرآن في الآية الأُولى الصلاة؛ سُمِّيت بالقرآن لأنه أعظمُ ما فيها، والمقصودُ بالصلاة في الآية الأُخرى هي القراءة، على قول بعض المفسِّرين [7] 

وهذه القِسمة ليست مُنصرِفةً إلى ألفاظ الفاتحة؛ فإن الظاهر أنه لا تَساوي فيها؛ فنِصْفُ الدعاء أكبرُ مِن قِسم الثناء وأكثرُ ألفاظًا، وإنما المرادُ هنا قِسمة المعاني؛ فإن الله - عزَّ وجلَّ - يُقابل اللفظَ بما يَنوبه؛ فإذا قال العبد: ﴿ الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمِدني عبدي، وهكذا [8]

أو لعل المرادَ بالقِسمة هنا قِسمةُ الآيات؛ فإن السورة نِصْفها حمدٌ وثناءٌ وعبادةٌ وتمجيدٌ، وهي من العبد لربِّه، والنصف الثاني دعاءٌ وطلبٌ، وتحقيقه من الله - عزَّ وجلَّ - فصارت السورة مُناصَفةً من هنا، وتمام التنصيف عند

قوله:

﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾

[الفاتحة: 5]؛

فإن ما قبلها إلى قوله: ﴿إياك نعبد﴾   من العبد لربِّه، ومن قوله: ﴿ إياك نستعين﴾   إلى آخر السورة دعاءٌ وطلب [9]

وهذه القسمة مُلاطَفة من اللطيف سبحانه؛ فإنه ليس له شريكٌ ولا نظيرٌ؛ ولكنه بفضله جعل للعبد نصيبًا في فضله، ثم قسمه معه برحمته [10]

وعلى هذا القول؛ يكون تقسيمُ الصلاة مُنصرِفًا إلى الآيات؛ فإنَّ الفاتحة بهذا تكون ثلاثَ آيات في مَدْح الله وتمجيده والثناء عليه، وثلاثًا أُخرى في الدعاء والطلب، وآية في النصف مُشتَرَكة بين الأمرَين [11]

والحمد أعلى مراتب الثناء والشكر؛ لأنه يتضمَّن الثناء على المحمود بما هو في ذاته، بخلاف الشكر؛ فإنه الثناء على المشكور بما هو من أفعاله؛ فالحمد لله مطلقًا، والشكر له على نِعمه، ورحمته، وفضله، ورأفته [12]

وقوله: «فإذا قال العبدُ: ﴿الحمد لله رب العالمين﴾   قال الله تعالى: حمِدني عبدي، وإذا قال: ﴿الرحمن الرحيم﴾ ، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: ﴿مالك يوم الدين﴾، قال: مجَّدني عبدي»، الحمد والثناء والتمجيد ألفاظٌ متقاربةٌ في المعنى، يُعبَّر بكل واحدٍ منها عن الآخَر، إلا أن الله عزَّ وجلَّ خصَّ كلَّ واحدٍ بما يخصُّه ويَليق به؛ فلما كان الحمدُ لا يتعلق بفعل؛ بل بالذات، ناسب ذلك قوله: (رب العالمين)؛ لأنه يتضمَّن الثناء على الْمُثْنى عليه بما هو في ذاته، ثم لما ذكَر تعالى من صفاته: الرحمن الرحيم، قابلها بالثناء، والثناء ذِكر محاسن أفعال الْمُثْنَى عليه، ثم ناسب ذِكر القيامة وأهوالها، وأن الله له أن يُهلك الخَلْق بأجمعهم، أو أن يُحسن إليهم جميعًا؛ فهو المالك حقًّا، ناسب ذلك أن يُقابله ببيان التمجيد الذي هو الإخبار عن صفات العلوِّ والعظمة [13]

وقوله: «فإذا قال: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل» إنما ناسب تلك الآية أن يقول الله - عزَّ وجلَّ - فيها: «هذا بيني وبين عبدي»؛ لِما تضمَّنَته الآيةُ من التذَلُّل لله تعالى، والتودُّد إليه، وطلب الاستعانة به؛ إذ العبادة اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، وذلك يتضمَّن تعظيم الله - عزَّ وجلَّ - وبيان قدرته على تحقيق سؤله [14]

وقوله: «فإذا قال: ﴿إهدنا الصرط المستقيم صرط الذين أنعمت عليهم ولاالضالين﴾، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل»؛ أي: يُجيبه إليها، ويستجيب له، ويُعطيه سؤاله.

المراجع

  1.  انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (2/ 272)، "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 25).
  2.  "تحفة الأبرار شرح مصابيح السنَّة" للبيضاويِّ (1/ 286).
  3.  انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 374).
  4.  رواه البخاريُّ (756)، ومسلم (394).
  5.  رواه أبو داود (823)، والترمذيُّ (311)، وصحَّحه ابن الملقِّن في "البدر المنير" (3/547)، وابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (1/ 164).
  6.  انظر: "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 389).
  7.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/ 203)، "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتي (1/ 239).
  8.  انظر: "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
  9.  انظر: "معالم السنن" للخطَّابيِّ (1/204)، "المسالك في شرح موطَّأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 375).
  10.  "عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي" لابن العربيِّ (11/ 69).
  11.  انظر: "الميسر في شرح مصابيح السنة" للتوربشتيِّ (1/ 239).
  12.  انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربيِّ (2/ 376).
  13.  انظر: "المسالك في شرح موطأ مالك" لابن العربي (2/ 376)، "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
  14.  انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (2/ 27)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (10/ 149).

النقول

قال ابن هُبيرة : «من هذه السورة يمكن أن نستخرجَ علومَ الدُّنيا والآخرة كلها؛ وذلك أنه يُقال: في هذه السورة عِلم الحمد، وعِلم الألوهية، وعِلم الربوبية، وعِلم العالمين، وعِلم الرحمة، وعِلم الْمُلك، وعِلم الدين، وعِلم العبادة، وعِلم الاستعانة، وعِلم الهداية، وعِلم الصراط، وعِلم الاستقامة، وعِلم النعمة، وعِلم ما يُجتَنَب من الغضب، وعِلم ما يُجتَنب من الضلالة» [1]

قال ابن تيمية : "فهذه السُّورَةُ فيها للّه الحمدُ، فله الحمد في الدّنيا والآخرة، وفيها للعبد السّؤالُ، وفيها العبادة للّه وحده، وللعبد الاستعانة، فحقُّ الرّبِّ حمدُه وعبادته وحدَه، وهذان حمد الرّبِّ وتوحيده، يدور عليهما جميع الدّين" [2]

قال النوويُّ : "الخِداج بكسر الخاء المعجمة، قال الخليلُ بن أحمد والأصمعيُّ وأبو حاتم السّجستانيّ والهرويُّ وآخرون: الخداج: النُّقصان، يُقال: خَدَجَتِ النّاقة، إذا ألقت ولدها قبل أوان النّتاج، وإن كان تامَّ الخَلْق، وأَخدَجتْه إذا ولدته ناقصًا، وإن كان لتمام الولادة، ومنه قيل لذي اليُدَيَّة: مُخْدَج اليد؛ أي: ناقصُها، قالوا: فقوله : خداج؛ أي: ذاتُ خِداج، وقال جماعة من أهل اللّغة: خَدَجت وأَخدَجت إذا وَلَدت لغير تمام، وأمُّ القرآن اسم الفاتحة، وسمِّيت أمَّ القرآن لأنّها فاتحته، كما سمِّيت مكّةُ أمَّ القرى؛ لأنّها أصلها. قوله عزّ وجلّ: «مجّدني عبدي»؛ أي: عظّمني" [3]

قال ابن تيمية : " فالرّبُّ سبحانه له نصف الثّناء والخير، والعبدُ له نصف الدّعاء والطّلب، وهاتان جامعتان ما للرّبِّ سبحانه وما للعبد، فإيّاك نعبد للرّبّ، وإيّاك نستعين للعبد. وفي الصّحيحين:

عن معاذ رضي اللّه عنه قال:

كُنْت رَدِيفًا لِلنَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟»، قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أَتَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟»، قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «حَقُّهُمْ عَلَيْهِ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ»

[4]،

والعبادةُ هي الغاية التي خَلَق اللّه لها العباد من جهة أمر اللّه ومحبَّته ورضاه؛

كما قال تعالى:

{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}

[الذاريات: 56]

، وبها أَرسَل الرّسل، وأَنزَل الكُتب، وهي اسم يجمع كمال الحبِّ للّه ونهايته، وكمال الذّلِّ للّه ونهايته؛ فالحبُّ الخليُّ عن ذُلٍّ، والذّلُّ الخليُّ عن حبٍّ، لا يكون عبادةً؛ وإنّما العبادةُ ما يَجمَع كمال الأمرين؛ ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلّا للّه، وهي وإن كانت منفعتُها للعبد، واللّه غنيٌّ عن العالمين، فهي له من جهة محبَّته لها ورضاه بها" [5]

قال النوويُّ : " والصّحيحُ الّذي عليه جمهور العلماء من السَّلَف والخَلَف وجوب الفاتحة في كلّ ركعة؛ لقوله  للأعرابيّ: «ثم افعل ذلك في صلاتك كُلِّهَا»" [6]

قال ابن تيمية : " وهذه السّورةُ هي أمُّ القرآن، وهي فاتحة الكتاب، وهي السَّبْع المثاني والقرآنُ العظيم، وهي الشّافية، وهي الواجبة في الصّلوات، لا صلاة إلّا بها، وهي الكافية تكفي من غيرها، ولا يكفي غيرها عنها. والصّلاةُ أفضل الأعمال، وهي مؤلَّفة من كَلِم طيِّب وعمل صالح؛ أفضلُ كَلِمها الطّيِّب وأوجبُه القرآن، وأفضلُ عملها الصّالح وأوجبُه السُّجود" [7]

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله: «قسمت الصلاة»؛ يعني: أم القرآن، سمَّاها صلاة؛ لأن الصلاة لا تتمُّ - أو لا تصحُّ - إلا بها، ومعنى القسمة هنا: من جهة المعاني؛ لأن نصفها الأول في حمد الله وتمجيده، والثناء عليه وتوحيده، والنصف الثاني في اعتراف العبد بعجزه وحاجته إليه، وسؤاله في تثبيته لهدايته ومعونته على ذلك، وهذا التقسيم حجة على أن: «بسم الله الرحمن الرحيم» ليست من الفاتحة، خلافًا للشافعيِّ" [8]

قال ابن تيمية : "والعبد يعود عليه نفع النِّصْفَين، واللّه تعالى يحبُّ النّصفين؛ لكن هو سبحانه يحبُّ أن يُعبَد، وما يُعطيه العبد من الإعانة والهداية هو وسيلة إلى ذلك، فإنّما يحبُّه لكونه طريقًا إلى عبادته، والعبد يطلب ما يحتاج إليه أوّلًا؛ وهو محتاج إلى الإعانة على العبادة والهداية إلى الصّراط المستقيم؛ وبذلك يصل إلى العبادة إلى غير ذلك ممّا يطول الكلام فيما يتعلّق بذلك، وليس هذا موضعَه، وإن كنّا خرجنا عن المراد"[9]

قال النوويُّ: " قوله سبحانه وتعالى: «قسمتُ الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين» الحديث. قال العلماء: المراد بالصّلاة هنا الفاتحة، سمِّيت بذلك لأنّها لا تصحُّ إلّا بها؛ كقوله : «الحجُّ عَرَفةُ»، ففيه دليل على وجوبها بعينها في الصّلاة. قال العلماء: والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأنّ نصفها الأوّل تحميد للّه تعالى وتمجيد، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنّصف الثّاني سؤال وطلب وتضرُّع وافتقار، واحتجَّ القائلون بأنّ البسملة ليست من الفاتحة بهذا الحديث، وهو من أوضح ما احتجُّوا به. قالوا: لأنّها سبع آيات بالإجماع، فثلاث في أوّلها ثناء، أوّلها: (الحمد للّه)، وثلاث دعاء، أولها: (اهدنا الصراط المستقيم)، والسّابعة متوسّطة، وهي: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)، قالوا: ولأنّه سبحانه وتعالى قال: «قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين»، فإذا قال العبد: (الحمد للّه ربّ العالمين) فلم يذكر البسملة، ولو كانت منها لذكرها، وأجاب أصحابنا وغيرهم ممّن يقول: إنّ البسملة آية من الفاتحة، بأجوبة، أحدها أنّ التّنصيف عائد إلى جملة الصّلاة، لا إلى الفاتحة، هذا حقيقة اللّفظ، والثّاني: أنّ التّنصيف عائد إلى ما يختصّ بالفاتحة من الآيات الكاملة، والثّالث معناه: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى (الحمد للّه رب العالمين)" [10]

قال ابن رجب : "فهذا الحديث يدلُّ على أن الله يستمع لقراءة المصلِّي حيث كان مناجيًا له، ويردُّ عليه جواب ما يناجيه به كلمةً كلمة، فأول الفاتحة حمد، ثم ثناء، وهو تثنية الحمد وتكريره، ثم تمجيد، والثناء على الله بأوصاف المجد والكبرياء والعظمة، ثم ينتقل العبد من الحمد والثناء والتمجيد إلى خطاب الحضور؛ كأنه صلح حينئذ للتقريب من الحضرة، فخاطب خطاب الحاضرين، فقال: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ»، وهذه الكلمة قد قيل: إنها تجمع سرَّ الكتب المنزَّلة من السماء كلِّها؛ لأن الخلق إنما خُلقوا ليؤمروا بالعبادة؛ 

كما قالَ:

(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ) 

[الذاريات: ٥٦]،

وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرة للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضل من الله على عبده. وبعد ذلك الدعاء بهداية الصراط المستقيم، صراط المنعَم عليهم، وهم الأنبياء وأتباعهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين، كما ذكر ذلك في سورة النساء.

فمن استقام على هذا الصراط، حصل له سعادة الدنيا والآخرة، واستقام سَيره على الصراط يوم القيامة، ومن خرج عنه فهو إما مغضوب عليه، وهو من يعرف طريق الهدى ولا يتَّبِعه كاليهود، أو ضالٌّ عن طريق الهدى؛ كالنصارى، ونحوِهم من المشركين.

فإذا ختم القارئ في الصلاة قراءة الفاتحة، أجاب الله دعاءه فقال: «هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»، وحينئذ تؤمِّن الملائكة على دعاء المصلِّي، فيُشرَع للمصلِّين موافقتهم في التأمين معهم؛ فالتأمين مما يستجاب به الدعاء" [11]

قال ابن عثيمين : "فتأمَّل محاورة ومناجاة بين الإنسان وبين ربِّه، ومع ذلك فالكثير منا في هذه المناجاة مُعرِض بقلبه، تَجِده يتجوَّل يَمينًا وشمالاً، مع أنه يناجي من يَعلَم ما في الصدور - عزَّ وجلَّ - وهذا من جهلنا وغفلتنا؛ فالواجب علينا - ونسأل الله أن يُعيننا عليه - أن تكون قلوبنا حاضرةً في حال الصلاة؛ حتى تبرأ ذِمَّتنا، وحتى ننتفع بها؛ لأن الفوائد المترتِّبة علي الصلاة إنما تكون علي صلاة كاملة؛

ولهذا كلُّنا يقرأ قولَ الله عزَّ وجلَّ:

( إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِۗ )

[العنكبوت: ٤٥]،

ومع ذلك يأتي الإنسان ويصلِّي فلا يجد في قلبه إنكارًا لِمُنكَر، أو عُرْفًا لمعروف زائدًا عمَّا سبق حين دخوله في الصلاة؛ يعني: لا يتحرَّك القلب ولا يستفيد؛ لأن الصلاة ناقصة، هذه الصلاة هي أعظمُ أركان الإسلام بعد الشهادتين" [12]

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله تعالى: «حَمِدني عبدي»؛ أي: أثنى عليَّ بصفات كمالي وجلالي. و«مجَّدني»: شرَّفني؛ أي: اعتقد شرفي ونَطَق به، والمجد: نهاية الشرف، وهو الكثيرُ صفاتِ الكمالِ، والمجد: الكثرة. «فوّض إليّ عبدي»؛ أي: يقول هذا، وهو مطابق لقوله: «مالك يوم الدين»؛ لأنه تعالى المتفرِّد في ذلك اليوم بالْمُلك، ولا تبقى دعوى لمدَّعٍ، والدين: الجزاء والحساب والطاعة والعادة والْمُلك" [13]

قال النوويُّ : "وأمّا الأحكام، ففيه وجوب قراءة الفاتحة، وأنّها متعيِّنة لا يُجزي غيرها إلّا لعاجز عنها، وهذا مذهب مالك والشّافعيِّ وجمهور العلماء من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم، وقال أبو حنيفة رضي اللّه عنه وطائفة قليلة: لا تجب الفاتحة؛ بل الواجب آية من القرآن؛ لقوله : «اقرأ ما تيسّر»، ودليل الجمهور قوله: «لا صلاة إلّا بأمّ القرآن»، فإن قالوا: المراد: لا صلاة كاملةً، قلنا: هذا خلاف ظاهر اللّفظ [14]

قال أبو العبَّاس القرطبيُّ : "وقوله: «نعبد»؛ أي: نخضع ونتذلَّل، و«نستعين»: نسألك العَون، «اهدنا»: أَرْشِدْنا وثبِّتنا على الهداية، و«الصراط المستقيم»: الذي لا اعوجاج فيه"[15]

قال ابن رجب : "قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾ تجمَعُ سرَّ الكُتب المنزَّلة من السماء كلها؛ لأن الخَلْق إنما خُلِقوا ليُؤمَروا بالعبادة، 

كما قال:

(وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ )

[الذاريات: 56]

وإنما أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب لذلك، فالعبادة حقُّ الله على عباده، ولا قدرةَ للعباد عليها بدون إعانة الله لهم، فلذلك كانت هذه الكلمة بين الله وبين عبده؛ لأن العبادة حقُّ الله على عبده، والإعانة من الله فضلٌ من الله على عبده" [16]

قال النوويُّ : "قال العلماء: وقوله تعالى: «حمدني عبدي، وأثنى عليّ، ومجّدني» إنّما قاله لأنّ التّحميد الثّناءُ بجميل الفِعَال، والتّمجيد الثّناء بصفات الجلال، ويقال: أثنى عليه في ذلك كلّه؛ ولهذا جاء جوابًا للرّحمن الرّحيم؛ لاشتمال اللّفظين على الصّفات الذّاتيّة والفعليّة. وقوله: «وربّما قال: فوّض إليَّ عبدي» وجه مطابقة هذا لقوله: (مالك يوم الدين): أنّ اللّه تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، وبجزاء العباد وحسابهم، والدّين الحساب، وقيل: الجزاء، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم ولا مجاز، وأمّا في الدّنيا، فلبعض العباد ملك مجازيٌّ، ويدَّعي بعضهم دعوى باطلةً، وهذا كلّه ينقطع في ذلك اليوم، هذا معناه، وإلّا فاللّه سبحانه وتعالى هو المالك، والملك على الحقيقة للدّارين وما فيهما ومن فيهما، وكلُّ من سواه مربوب له عبد مسخَّر، ثمّ في هذا الاعتراف من التّعظيم والتّمجيد وتفويض الأمر ما لا يخفى، وقوله تعالى: «فإذا قال العبد: اهدنا الصّراط المستقيم» إلى آخر السّورة، «فهذا لعبدي» هكذا هو في صحيح مسلم، وفي غيره «فهؤلاء لعبدي» وفي هذه الرّواية دليل على أنّ (اهدنا) وما بعده إلى آخر السّورة ثلاث آيات لا آيتان، وفي المسألة خلاف مبنيّ على أنّ البسملة من الفاتحة أم لا، فمذهبنا ومذهب الأكثرين أنّها من الفاتحة، وأنّها آية، واهدنا وما بعده آيتان، ومذهب مالك وغيره ممّن يقول: إنّها ليست من الفاتحة، يقول: اهدنا وما بعده ثلاث آيات، وللأكثرين أن يقولوا: قوله: هؤلاء، المراد به الكلمات لا الآيات؛ بدليل رواية مسلم: «فهذا لعبدي» وهذا أحسن من الجواب بأنّ الجمع محمول على الاثنين؛ لأنّ هذا مجاز عند الأكثرين، فيحتاج إلى دليل على صرفه عن الحقيقة إلى المجاز" [17]

قال ابن تيمية : "فهذا يقوله سبحانه وتعالى لكلِّ مصلٍّ قرأ الفاتحة، فلو صلّى الرّجل ما صلّى من الرّكعات قيل له ذلك، وفي تلك السّاعة يصلِّي من يقرأ الفاتحة من لا يحصي عددَه إلّا اللّه، وكلّ واحد منهم يقول اللّه له كما يقول لهذا، كما يحاسبهم كذلك فيقول لكلّ واحد ما يقول له من القول في ساعة واحدة، وكذلك سَمْعُه لكلامهم، يَسمَع كلامهم كلَّه مع اختلاف لغاتهم وتفنُّن حاجاتهم، يسمع دعاءهم سمع إجابة، ويسمع كلَّ ما يقولونه سمع علم وإحاطة، لا يَشغَله سمع عن سمع، ولا تغلِّطه المسائل، ولا يتبرَّم بإلحاح الملحِّين، فإنّه سبحانه هو الّذي خلق هذا كلّه، وهو الّذي يرزق هذا كلّه، وهو الّذي يوصِّل الغذاء إلى كلّ جزء من البدن على مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزّرع. وكرسيُّه قد وسع السّمواتِ والأرضَ ولا يؤوده حفظُهما، فإذا كان لا يؤوده خلقُه ورزقه على هذه التّفاصيل؛ فكيف يؤوده العلم بذلك، أو سمع كلامهم، أو رؤية أفعالهم، أو إجابة دعائهم، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا" [18]

المراجع

  1. "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن هبيرة (8/ 157).
  2.  "مجموع الفتاوى" (6/ 259).
  3.  "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 101).
  4. رواه البخاريُّ (7373)، ومسلم (50).
  5.  "مجموع الفتاوى" (10/ 19).
  6. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
  7.  "مجموع الفتاوى" (14/5).
  8.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 112).
  9.  "مجموع الفتاوى" (1/ 341).
  10. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 103).
  11.  "فتح الباري" لابن رجب (7/ 102، 103).
  12.  "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين (1/ 355).
  13.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/ 112، 113).
  14. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 102).
  15.  "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" لأبي العباس القرطبيِّ (4/  113).
  16.  "فتح الباري" لابن رجب (7/ 103).
  17. "شرح النوويِّ على مسلم" (4/ 104).
  18.  "مجموع الفتاوى" (5/ 479، 480).

مشاريع الأحاديث الكلية